كلامه حتى يجوز فيقطعه بنهي أو قيام (1) ، قال الحسين : فسألت أبي عن سكوت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فقال : كان سكوته على أربع : على الحلم والحذر والتقدير والتفكير .
  فأما التقدير ، ففي تسوية النظر والاستماع بين الناس ، وأما تفكره ففيما يبقى ويفنى وجمع له الحلم والصبر ، فكان لا يغضبه شئ ولا يستفزه ، وجمع له الحذر في أربع : أخذه بالحسن ليقتدى به ، وتركه القبيح لينتهى عنه ، واجتهاده الرأي في صلاح أمته ، القيام فيما جمع له خير الدنيا والآخرة (2) وما أوردناه ما هو إلا بعض من صفات النبي الأعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذي وصفه الله بأنه على خلق عظيم ، وصاحب هذه الخلق العظيم هو الذي قدر الله تعالى أن تكون هداية البشرية على يديه بما أنه خاتم الأنبياء والرسل ، فهو ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذي يشير إلى قوافل الضلال والإنحراف بمصباح الهدى كي يخرجهم من الظلمات إلى النور ، فمن استجاب فقد فاز ، ومن أمسك بذيول آباء الضلال والانحراف فقد هلك والله غني عن العالمين .

  ثانيا : الدعوة إلى الهدى :
  1 ـ معسكرات الانحراف :

  لم يكن طريق الدعوة بالطريق السهل ، فالانحراف كان شاسعا وعميقا ، وعلى امتداد ليلة ظهرت له مخالب وأنياب تدافع عن الأهواء والشذوذ ، فأهل مكة كانوا قد أقسموا قبل إرسال الرسول إليهم ، لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من تلك الأمم التي كذبوا رسلهم ، وعندما جاءهم الرسول النبي الأمي الذي لم يعهدوا فيه إلا كل خلصة كريمة ، نسوا ما كانوا قد أقسموا به من قبل وغاصوا في مستنقعات الأوحال على دروب الانحراف ، ومن داخل الأوحال قذفوا أتباع الهدى بجميع ما يستقيم مع ثقافة الانحراف ، يقول تعالى عن خط الصد في مكة : ( وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا

-------------------------------
(1) حتى يجوز : أي يتعدى عن الحق فيقطعه حينئذ بنهي أو قيام .
(2) الميزان : 306 / 6 وما بعدها .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 327 _
  زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا ) (1) قال المفسرون : حلفوا واجتهدوا في الحلف أن يكونوا أهدى من إحدى الأمم التي جاءهم نذير ، فلما جاءهم تباعدوا عنه وهربوا ! فهذا الخط من خطوط الصد وضع في طريق الدعوة العديد من العراقيل دفاعا عن أهوائه وطريق آبائه ، نفورهم واستكبارهم لا يقودهم إلا إلى السنة الجارية في الأمم الماضية ، وهي العذاب الإلهي ، ولن تجد لسنة الله تبديلا ، والله تعالى يبعث الرسل لإقامة الحجة ، ولكن لا يكون للناس على الله حجة ، وحط الصد في مكة لبس الحجة كاملة وهو يقف على خنادق الإنحراف والشذوذ ، يقول تعالى :
  ( وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا ) (2) .
  فالذي يسمك بحجر ويقف على خندق من خنادق الصد أقيمت عليه الحجة بالدعوة ، ولا يبالي الله به في أي واد هلك ، ولم يكن حال أهل الكتاب بأحسن من حال كفار قريش ، فلقد شاركوهم خطوط الصد ولكن كل حسب طريقته ، وأهل الكتاب كانوا يستفتحون ويستنصرون بخروج محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فلما بعثه الله كفروا به وحسدوه قال تعالى : ( وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ ) (3) وأهل الكتاب تصدروا خطوط الصد بعد هجرة الرسول إلى المدينة ولذا كانت آيات القرآن التي نزلت على رسول الله في المدينة لتكشف كيدهم أكثر مما نزل عليه في مكة ، وباختصار لقد وقف في وجه الدعوة جميع أبناء الشذوذ والإنحراف الذين استقامت أهواؤهم مع أهواء الظالمين في الأمم الماضية من عهد نوح (عليه السلام ) ، ولقد قدمت الدعوة الإسلامية إلى هؤلاء الدواء الشافي من كل داء لنخرجهم من الظلمات إلى النور فمنهم من آمن ومنهم من كفر .

-------------------------------
(1) سورة فاطر ، آية : 42 .
(2) سورة الأنعام ، الآيات : 155 ـ 157 .
(3) سورة البقرة ، الآية : 89 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 328 _
   2 ـ الداعي إلى الله :
  أمام معسكرات الشذوذ وخيام الإنحراف تلى رسول الله صلى عليه وآله وسلم آيات القرآن الكريم في مكة ومن هذه الآيات قوله تعالى : ( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) (1) قال المفسرون : أنا كأحدكم مأمور بعبادته مخلصا له الدين ، ولا ذاك فحسب ، بل مأمور بأن أكون أول المسلمين لما ينزل إلي من الوحي ، فأسلم له أولا ثم أبلغه لغيري ، فأنا أخاف ربي وأعبده بإخلاص آمنتم به أو كفرتم (2) ، عقب ذلك قال : ( فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم ) وهذا أمر تهديدي ، بمعنى أن عبادتهم لن تنفعهم ، لأنهم مصيبهم وبال إعراضهم عن عبادة الله ، حيث يخسرون أنفسهم بإيرادها بالكفر مورد الهلكة، كما يخسرون أهلم بحملهم على الكفر والشرك ، وهذا هو الخسران الحقيقي لأنه لا زوال له ولا انقطاع، وأمام معسكرات الشذوذ وخيام الانحراف تلى الرسول الأعظم : ( إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ ) (3) قال المفسرون : الدعوة تبشير وإنذار ، ولا يرجع إليه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من أمرها شيئا ، وإنما الأمر إلى الله ، ومعنى الآيات قل : ( إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ ) ـ مكة المشرفة ـ التي حرمها الله ولم يشكر أهلها هذه النعمة ، نعمد تحريم بلدهم ، بل عبدوا الأصنام ! ولكي لا يتوهم كفار مكة أن الله يملك مكة ... فيكون حاله حال سائر الأصنام ، جعلوا لكل منها جزء من أجزاء العالم كالسماء والأرض وبلدة كذا وقوم كذا وأسرة كذا قال : ( وله كل شئ ) إشارة إلى سعة ملكه تعالى وقوله :
  ( وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) أي من الذين أسلموا له فيما أراد ولا يريد إلا ما يهدى إليه الخلقة وتهتف به الفطرة وهو الدين الحنيف الفطري الذي هو ملة إبراهيم .

-------------------------------
(1) سورة الزمر ، الآيات : 11 ـ 13 .
(2) الميزان : 237 / 11 .
(3) سورة النمل ، الآيات : 90 ـ 92 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 329 _
  وقوله : ( وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ) أي أمرت أن أقرأ القرآن عليكم ، فمن اهتدى بهذا القرآن فالذي ينتفع به هو نفسه ، ولا يعود نفعه إلي، ومن لم يهتد به بالإعراض عن ذكر ربه ، وهو الضلال ، فعليه ضلاله ووبال كفره لا علي ، لأني لست إلا نذرا مأمورا بذلك ولست عليه بوكيل والله هو الوكيل عليه (1)، وأمام معسكر الإنحراف تلى الرسول الأعظم قول الله تعالى :
  ( وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) (2) قال المفسرون ، أي آمنت بالكتب السماوية التي نزلها الله على رسله ، وأمرت أن أعدل بينكم أي أسوي بينكم ، فلا أقدم قويا على ضعيف ولا غني على فقير ولا كبير على صغير ولا أفضل أبيض على أسود ولا عربي على عجمي ولا هاشميا أو قرشيا على غيره ، فالدعوة متوجهة إلى الجميع والناس قبال الشرع الإلهي سواء ، فقوله : ( آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ ) تسوية بين الكتب المنزلة من حيث الإيمان بها وقوله : ( وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ) تسوية بين الناس من حيث الدعوة وما جاء به الشرع وقوله : ( اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ) يشير إلى أن رب الكل هو الله الواحد تعالى وفليس لهم أرباب كثيرون حتى يلحق كل بربه ويتفاضلوا بالأرباب ، بل الله هو رب الجميع، وهم جميعا عباده المملوكون له المدبرون بأمره وقوله : ( لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ) يشير إلى أن الأعمال وإن اختلفت من حيث كونها حسنة أو سيئة ومن حيث الجزاء ، ثوابا أو عقابا إلا أنها لا تتعدى عاملها ، فلكل امرئ ما عمل ، فلا ينتفع أحد بعمل آخر ، ولا يتضرر بعمل غيره وقوله : ( لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ) أي لا خصومة بيننا وبينكم بتفاوت الدرجات ، لأن ربنا واحد ، ونحن لأننا جميعا عباده ولكل نفس ما عملت ، فلا حجة في البين ، أي لا خصومة حتى نتخذ لها حجة (3)، هذا هو شرع النبي الأعظم الذي أذاع معسكر الإنحراف على الغوغاء والرعاع على امتداد الزمان أنه بدأ بالسيف وكان القهر عنوانه ، هذا هو محمد

-------------------------------
(1) الميزان : 404 / 15 .
(2) سورة الشورى ، الآية : 15 .
(3) الميزان : 34 / 18 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 330 _
  ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذي صد عن سبيله رموز الانحراف والشذوذ الذين توغلوا في عالم الطمس والقردية واستمع إليهم القردة والخنازير في كل مكان ، لقد جاء ليقول : ( أمرت ) ولم يرفع سيفا إلا بأمر وذلك بعد أن خرج عليه أصحاب المخالب والأنياب يريدون إطفاء نور الله ، ولكن أبي الله إلا أن يتم نوره ، لقد أعلن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) سبيله في مكة في قوله تعالى :
  ( قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ) (1) قال المفسرون : أمره الله أن يخبرهم بأن ربه الذي يدعو إليه ، هداه بهداية إلهية إلى صراط مستقيم وسبيل واضح قيم ، لا تخلف فيه ولا اختلاف.
  دينا قائما على مصالح الدنيا والآخرة أحسن القيام ، لكونه مبنيا على الفطرة ملة إبراهيم حنيفا ، مائلا عن التطرف بالشرك إلى اعتدال التوحيد وما كان من المشركين ، وأمره تعالى أن يخبرهم بأنه عامل بما هداه الله إليه ، كما أنه مأمور بذلك ، ليكون أبعد من التهمة عندهم وأقرب إلى تلقيهم بالقبول ، فإن من أمارة الصدق أن يعمل الإنسان بما يندب إليه ويطابق فعله قوله ، فقال له سبحانه قل :
  إنني جعلت صلاتي ومطلق عبادتي ومحياي بجميع ما له من الشؤون الراجعة إلي من أعمال وأوصاف وأفعال وتروك ، ومماتي بجميع ما يعود إلي من أموره وهي الجهات التي ترجع منه الحياة ، جعلتها كلها لله رب العالمين ، من غير أن أشرك به فيها أحدا ، فأنا عبد في جميع شؤوني : في حياتي ومماتي لله وحده وجهت وجهي إليه ، لا أقصد شيئا ولا أتركه إلا له ، ولا أسير في مسير حياتي ولا أرد مماتي إلا له ، فإنه رب العالمين ، يملك لكل ويدبر أمرهم ، وقد أمرت بهذا النحو من العبودية ، وأنا أول المسلمين به فيما أراده من العبودية التامة في كل باب وجهة (2) ، فهل في سبيل رسول الله إكراه كما أشاعت جماهير الطمس على طريق القهقري ؟ ( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ

-------------------------------
(1) سورة الأنعام ، الآيات : 161 ـ 164 .
(2) الميزان : 394 / 7 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 331 _
  فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ ) (1) ( أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ) (2) .

  3 ـ هدم انحراف بلادة الفكر والوجدان :
  طالب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) معسكر الانحراف بالنظر في الكون ، ليعلموا أن النظام القائم في الكون يدل على توحيد الله تعالى ، فالتدبير السائد على جميع أنحائه متواصل ، وجميع أجزائه مسخرة لنظام واحد ، تلى عليه الصلاة والسلام عليهم في مكة قوله تعالى : ( قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ * كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَََلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (3) قال المفسرون : قل لهم يا محمد من يرزقكم من السماء بالأمطار والثلوج ونحوه ، ومن الأرض بإنباتها نباتا وتربيتها الحيوان ومنها يرتزق الإنسان، وبركة هذه النعم الإلهية يبقى النوع الإنساني ، أمن يملك السمع والأبصار منكم فتتم بهما فائدة رزقكم حيث ترزقون بتشخيصهما من طيبات الرزق، فهو تعالى متصرفا في الحواس الإنسانية التي بها ينتظم للإنسان أنواع التمتع من الأرزاق المختلفة التي أذن الله تعالى أن يتمتع بها ، فالإنسان إنما يشخص ويميز ما يريده ، مما لا يريده بأعمال السمع والبصر واللمس والذوق والشم فيتحرك نحو ما يريده ، ويتوقف أو يفر مما يكرهه بها ، فالحواس هي التي تتم بها فائدة الرزق الإلهي ، وإنما خص الله السمع والبصر من بينها بالذكر لظهور آثارهما في الأعمال الحيوية أكثر من غيرها ، والله تعالى هو الذي يملكهما ويتصرف فيهما

-------------------------------
(1) سورة الأنفال ، الآيتان : 22 ـ 23 .
(2) سورة الفرقان ، الآية : 44 .
(3) سورة يونس ، الآيات : 31 ـ 35 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 332 _
  بالإعطاء والمنع والزيادة والنقيصة ، ولولا نعم الله هذه ما وفقتم وفنيتم عن آخركم، ( وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ ) من يخرج من الأمور غير المفيدة في باب ، أمور مفيدة في ذلك الباب بالكينونة والتوالد ، كخلق الإنسان الحي والحيوان الحي والنبات الحي من التراب الميت وبالعكس ، وكخروج الإنسان العاق الصالح من الإنسان الذي لا عقل له ولا صلاح وبالعكس وخروج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن، ومن يدبر الأمر في جميع خلقه ؟ ( فسيقولون الله) اعترافا بأنه الذي ينتهي إليه جميع هذه التدبيرات في الإنسان وغيره ولأن الوثنيين يعتقدون ذلك ، أمر الله نبيه أن يوبخهم أولا على ترك تقوى الله بعبادة غيره مع ظهور الحجة ، ثم يستنتج لهم من الحجة وجوب توحيده تعالى فقال : ( فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ) ثم قال : ( فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ ) وقد وصف الله بالحق ليكون توضيحا لمفاد الحجة وتوطئة وتمهيدا لقوله بعده : ( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ ) لأنه إذا كانت ربوبيته تعالى حقه ، فإن الهدى في اتباعه وعبادته ، لأن الهدى مع الحق لا غير ، وعلى هذا فلا يبقى عند غيره ، الذي هو الباطل إلا الضلال ، ثم تمم الآية بقوله : ( فأنى تصرفون ) أي إلى متى تصرفون عن الحق الذي معه الهدى إلى الضلال الذي مع الباطل .
  وقوله بعد ذلك : ( كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ) الإشارة بقوله : ( كذلك ) إلى ما تحصل من الآية السابقة ، أن المشركين صرفوا عن الحق ، وفسقوا عنه فوقعوا في الضلال ، إذ ليس بعد الحق إلا الضلال ، ومعنى قوله : ( كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ ) أن الكلمة الإلهية والقضاء الحتمي الذي قضى به في الفاسقين ـ وهو أنهم لا يؤمنون ـ هكذا حقت وثبتت في الخارج وأخذت مصداقها وهو أنهم صرفوا عن الحق فوقعوا في الضلال ، أي إنا لم نقض عدم هدى الفاسقين وعدم إيمانهم ظلما ولا جزافا ، وإنما قضينا ذلك ، لأنهم صرفوا عن الحق وفسقوا فوقعوا في الضلال ولا واسطة بينهما ، ثم أمر الله تعالى نبيه أن يقول : ( قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَََلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) لأن الذي بيده كل شئ ثم يعيده يستحق أن يعبده الناس، اتقاء من يوم لقائه ، ليأمن من أليم عذابه ، وينال عظيم ثوابه يوم القيامة ، والله تعالى له ذلك

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 333 _
  ( فأنى تؤفكون ) أي إلى متى تصرفون عن الحق ( قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ) وتوضيح ذلك ، أن من المرتكز في الفطرة الإنسانية، وبه يحكم عقله ، إن من الواجب على الإنسان أن يتبع الحق ، والهادي إلى الحق واجب اتباعه لما عنده من الحق ، ومن الحق ، ومن الواجب ترجيحه على من لا يهدي إليه ، أو يهدي إلى غيره ، لأن اتباع الهادي إلى الحق اتباع لنفس الحق الذي معه وجوب اتباعه ضروري ، وقد اعتمد في الحجة على هذه المقدمة الضرورية ، فافتتح بسؤالهم عن شركائكم ، هل فيهم شركاءهم ، هل فيهم من يهدي إلى الحق ؟ ومن الواضح أن لا جواب للمشركين في ذلك ، لأن شركاءهم سواء أكانوا جمادا غير ذي حياة كالأوثان والأصنام ، أم كانوا من الأحياء كالملائكة وأرباب الأنواع والجن والطواغيت من فرعون ونمرود وغيرهما ، لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، وإذا لم يكن للمشركين جواب في ذلك ، أمر الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيب بإثباتها لله فقال : ( قل الله يهدي للحق ) فإن الله سبحانه هو الذي يهدي كل شئ إلى مقاصده التكوينية والأمور التي يحتاج إليها في بقائه كما في قوله : ( رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) (1) وقوله : ( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ) (2) وهو الذي يهدي الإنسان إلى سعادة الحياة ويدعوه إلى الجنة والمغفرة بإذنه ، بإرسال الرسل وإنزال الكتب وتشريع الشرائع ، وأمرهم ببث الدعوة الحقة الدينية بين الناس ... وإذ تحقق أنه ليس من شركائهم من يهدي إلى الحق ، وأن الله سبحانه يهدي إلى سألهم بقوله : ( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى ) أن يقضوا في الترجيح بين أتباعه تعالى وأتباع شركائهم ، وهو تعالى يهدي إلى الحق وهم لا يهدون ولا يهتدون إلا بغيرهم ، ومن المعلوم أن الرجحان لمن يهدي على من لا يهدى أي لا تباعه تعالى على أتباعهم، والمشركون يحكمون بالعكس ، ولذلك لامهم ووبخهم بقوله : ( فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (3).

-------------------------------
(1) سورة طه ، الآية : 50 .
(2) سورة الأعلى ، الآيتان : 2 ـ 3 .
(3) الميزان : 57 / 10 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 334 _
  إن هذا من مواجهات الإسلام مع أعدائه ، فالدعوة الإسلامية تشق طريقها على أساس التوحيد الخالص ، ومنذ أن بعث الله نبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والإسلام لا يرى غير الله من يملك أي شئ ، فالله وحده له ملك السماوات والأرض وما بينهما ، وهو سبحانه المدبر لجميع خلقه ، وهو الغني بذاته وعلى الإطلاق وغيره فقير ، وهو الواحد القهار الذي لا يماثله شئ في وجوده وهو العزيز الذي لا يغلبه شئ وغير ذليل ، النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تلى على أسماع بني الإنسان في مكة آيات الله التي تدعو إلى النظر في الكون كي تضاء منطقة الفكر والوجدان لديهم ويفروا من حياة الظلام ولا يتمسكوا بقيود الضلال لأن تمسكهم يدرجهم في القوم الفاسقين الذين حقت عليهم كلمة الله، فهل دعوة الإسلام لإيقاظ الفكر ونجاة بني الإنسان جريمة ؟ إن جماهير الطمس والقهقري اعتبروها جريمة ، وويل للظالمين من عذاب يوم عظيم .

  4 ـ هدم الانحراف السلفي :
  لقد وضع معسكر الانحراف قاعدة اتباع الآباء ( قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا ) (1) وعلى هذه القاعدة شقوا طريقهم وقالوا : ( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ ) (2) وعندما جاءتهم رسل الله قالوا : ( تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا ) (3) وباختصار كان طريق السلف الضال من أخطر الطرق على الفطرة ، فتحت راياته تهود الفطرة أو تنصرها أو يتم توثينها بصورة من الصور ، ومعسكر الانحراف استغل هذه القاعدة حتى في ارتكابه للفواحش يقول تعالى : ( وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) (4) وعلى أرضية آباء الضلال أقام معسكر الانحراف خيامه وقام فقهاء كل خيمة بالالتفاف حول عجل من العجول لا يعرفون لهم طريقا إلا به ، إذا قلت قال الله ، قالوا وماذا عن العجل وإذا قلت هذا سبيل رسول الله قالوا : وأين موضع العجل في هذا السبيل ؟

-------------------------------
(1) سورة لقمان ، الآية : 21 .
(2) سورة الزخرف ، الآية : 22 .
(3) سورة إبراهيم ، الآية : 10 .
(4) سورة الأعراف ، الآية : 28 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 335 _
  والرسالة الخاتمة قامت بتحطيم العجول بالحجة التي توقظ الفطرة وتغذي الفكر ، لقد أخبرهم القرآن في أكثر من موضع بأنهم كانوا وآباؤهم في ضلال مبين ، وأخبرهم أن آباء هم وأبناءهم لا يدرون أيهم أقرب لهم نفعا (1)، وأن الإيمان الصادق بالله واليوم الآخر لا يجامع موادة أهل المحادة والمعاندة من الكفار ولو قارن أي سبب من أسباب المودة كالأبوة والبنوة والأخوة وسائر أقسام القرابة ـ فبين الإيمان وموادة أهل المحاداة تضاد لا يجتمعان لذلك (2)، ولكن الحلف السلفي ظل متمسكا بمنطق آبائه الذي لا يخدم إلا مخططات الشيطان من أجل هدم الإنسان، وكما أن تمسكهم بأعلام الآباء يخدم الشيطان ، إلا أنه في الوقت ذاته يحقق لهم السير في الحياة وفقا لأهوائهم التي تستقيم مع معطيات كل عصر ، فهم يعربدون لتغذية أهواءهم الحاضرة تحت مظلة سنة الآباء الماضية ، وفي صدر الرسالة المحمدية حاول الإنحراف السلفي أن يحاصر الرسالة بأدوات حاضرهم لحساب ماضيهم ، فبدأوا بالتشكيك في الرسالة تارة والدخول من باب القضاء والقدر تارة أخرى.
  ويخبر الله تعالى بأن فصائل الإنحراف قد قالوا : ( وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبد من دونه من شئ نحن ، لا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شئ ) ثم صرف الله الخطاب عنهم لسقوط فهمهم وقال لنبيه : ( كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ * وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) (3) قال المفسرون : فكأنهم يقولون : لو كانت الرسالة حقة ، وكان كما جاء به الرسل من النهي عن عبادة الأصنام والأوثان والنهي عن تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة وغيرها ، نواهي لله سبحانه ، كان الله سبحانه شاء أن لا نعبد شيئا غيره ، وأن لا نحرم من دونه شيئا ، ولو شاء الله سبحانه أن لا نعبد غيره ولا نحرم شيئا ، لم نعبد ولم نحرم ، لاستحالة

-------------------------------
(1) سورة النساء ، الآية : 11 .
(2) سورة المجادلة ، الآية : 22 .
(3) سورة النحل ، الآيتان : 35 ـ 36 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 336 _
  تخلف مراده عن إرادته ، لكنا نعبد غيره ونحرم أشياء فليس يشاء شيئا من ذلك فلا نهي ولا أمر منه تعالى ، ولا شريعة ولا رسالة من قبله ، هذا تقرير حجتهم على ما يعطيه السياق ومغزى مرادهم ، أن عبادتهم لغير الله وتحريمهم لما حرموه ، وبالجملة عامة أعمالهم ، لم تتعلق بها مشيئة من الله بنهي ولو تعلقت لم يعملوها ضرورة ، وقوله تعالى : ( كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، يأمره أن يبلغ رسالته بلاغا مبينا ، ولا يعتني بما لفقوه من الحجة فإنها داحضة والحجة التامة عليهم بالبلاغ ، فقوله : ( كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ) أي على هذا الطريق الذي سلكه هؤلاء ، سلك الذين من قبلهم ، فعبدوا غير الله وحرموا ما لم يحرم الله ، ثم إذا جاءتهم رسلهم ينهونهم عن ذلك قالوا : ( لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا ... ) وقوله : ( فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) أي بلغهم الرسالة بلاغا مبينا تتم به الحجة عليهم ، فإنما وظيفة الرسل البلاغ المبين ، وليس من وظيفتهم أن يلجئوا الناس إلى ما يدعونهم إليه وينهونهم عنه ، ولا أن يحملوا معهم إرادة الله الموجبة التي لا تتخلف عن المراد ، ولا أمره الذي إذا أراد شيئا قال له كن فيكون ، حتى يحولوا بذلك الكفر إلى الإيمان ، ويضطروا العاصي على الطاعة .
  فإنما الرسول بشر مثلهم ، الرسالة التي بعث بها إنذار وتبشير ، وهي مجموعة قوانين اجتماعية ، أوحاها إليه الله، فيها صلاح الناس في دنيا هم وآخرتهم ، صورتها صورة الأوامر والنواهي المولوية ، وحقيقتها الإنذار والتبشير قال تعالى : ( قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَك ) (1) فهذا ما أمر به نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبلغهم ، وقد أمر به نوحا ومن بعده من الرسل عليهم السلام أن يبلغوه أممهم (2) ولقد بعث الله تعالى في كل أمة رسل ، وما كانت حقيقة بعث الرسول إلا أن يدعوهم إلى عبادة الله واجتناب الطاغوت ومن الدليل على ذلك آثار الأمم الماضية الظالمة التي

-------------------------------
(1) سورة الأنعام ، الآية : 50 .
(2) الميزان : 241 / 12 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 337 _
  تحكي عن نزول العذاب عليهم وفسروا في الأرض فانظروا كيف عاقبة المكذبين حتى يتبين لكم أن الدعوة النبوية التي هي إنذار حق إن الرسالة ليست كما تزعمون (1) ، إن أصحاب العقول الفارغة يستمعون إلى نداء النبي وهو يبلغ عن ربه ومطالبته لهم بأن يجتنبوا عبادة العجول مع أشكالها فيقولون لو كان النهي صحيحا ما شاء الله أن نعبد غيرها ، فإن قلت لقد شاء الله وأرسل لكم رسولا ليزيل من عقولكم بصمات سلفكم الضال ومعه المعجزة التي تثبت رسالته إليكم ، هرولوا إلى مظلات السلف وقالوا كما قال الذين من قبلهم إن هذا إلا خلق الأولين وما سمعنا بهذا من قبل يكفينا ما دونه فقهاء الآباء وإنا على آثارهم مقتدون ، هكذا لا يسمع الصم الدعاء، وإذا كان هذا الفريق قد حاول الالتفات حول الرسالة ، فإن الفريق الأقذر منه هو الذي حاول الدخول من باب القضاء والقدر يقول تعالى : ( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ) (2) إنه فريق فقهاء الجدل الذي ينام في حاضره تحت مظلة سلفه الضال ، ولكي يخدم سنة آبائه القومية ، يفتح لأهوائه العنان ، قال ببساطة : هب أننا مشركون ، ألم يشأ الله لنا ذلك لماذا نلام على الشرك، قال المفسرون : وهي حجة داحضة باطلة ، فالذين من قبلهم قالوا بهذا ولو كان قولهم صحيحا ما أذاقهم الله بأسه ودمر عليهم ، ( قل هل عند كم من علم) أي بأن ما تفعلوه هو بأمر الله ( فتخرجوه لنا ) أي فتظهره لنا ( إِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ ) والخيال ، والمراد بالظن هنا ، الإعتقاد الفاسد ، ( إِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ ) تكذبون على الله فيما ادعيتموه (3) وقال صاحب الميزان : الآية تذكر احتجاجهم بهذه الحجة ، ثم ترد عليهم بأنهم جاهلون بها ، وإنما يركنون فيها إلى الظن

-------------------------------
(1) الميزان : 245 / 12 .
(2) سورة الأنعام ، الآيتان : 148 ـ 149 .
(3) ابن كثير : 186 / .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 338 _
  والتخمين ، فإنهم احتجوا بها لإثبات أن شركهم وتحريمهم ما رزقهم الله ، بإمضاء من الله سبحانه ، لا بأس في ذلك ، فحجتهم : أن الله لو شاء منا خلاف ما نحن عليه من الشرك والتحريم ، لكنا مضطرين على ترك الشرك والتحريم ، فإذا لم يشأ كان ذلك إذنا في الشرك والتحريم فلا بأس بهذا الشرك والتحريم ، كانت هذه حجتهم ، وهذه الحجة لا تنتج هذه النتيجة ، إنما تنتج أن الله سبحانه إذ لم يشأ منهم ذلك ، لم يوقعهم موقع الاضطرار والإجبار وفهم مختارون في الشرك والكف عنه ، والتحريم وتركه ، فله تعالى أن يدعوهم إلى الإيمان به ورفض الافتراض ، فلله الحجة البالغة ولا حجة لهم في ذلك ، إلا اتباع الظن والتخمين ، وقوله تعالى : ( قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ) كأن الفاء الأولى لتفريع مضمون الجملة على ما تقدم من قولهم : ( لو شاء الله ما أشركنا ) إلخ والفاء الثانية للتعليل ، فيكون الكلام من قبيل قلب الحجة على الخصم بعد بيان مقتضاها ، والمعنى : أن نتيجة الحجة قد التبست عليكم بجهلكم واتباعكم الظن وخرصكم في المعارف الإلهية فحجتكم تدل على أن لا حجة لكم في دعوته إياكم إلى رفض الشرك ، وترك الافتراء عليه ، وأن الحجة إنما هي لله عليكم ، فإنه لو شاء لهداكم أجمعين، أجبركم على الإيمان وترك الشرك والتحريم ، وإذا لم يجبركم على ذلك ، وأبقاكم على الاختيار ، فله أن يدعوكم إلى ترك الشرك والتحريم ، وبعبارة أخرى : يتفرغ على حجتكم ، أن الحجة عليكم ، لأنه لو شاء لأجبر على الإيمان ، فهداكم أجمعين ، ولم يفعل بل جعلكم مختارين ، يجوز بذلك دعوتكم إلى ما دعاكم إليه (1) .
  وهكذا أخرج فقهاء الإنحراف كل ما في جعبتهم لمواجهة الدعوة الإسلامية في مكة ، أرادوا أن يحاصروا الدعوة فزجوا باسم الله في عمليات الصد عن سبيل الله، ولكن حجج الله كانت لهم بالمرصاد ، وقلد دخل من باب القضاء والقدر العديد من حملة المعاول التي تهدم الفطرة ، وكم مارس فقهاء الانحراف من عمليات التمييع التي نسجت في النهاية شباك التغييب حول الفطرة الأمر الذي أدى

-------------------------------
(1) الميزان : 317 / 7 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 339 _
  بمعظم القافلة البشرية أن تسير بلا هدف ، يقترفون كل منكر تحت لافتة لقد أمر الله بهذا ويحرفون كل نص ويقولون لقد شاء الله ذلك ولو شاء غير ذلك ما حرفنا وما تأولنا وما سرنا وراء من ترفضون ، إن القول بالجبر لم يقل الإسلام به ، لأنه لو قال به لما أقام حجته على العقلاء الذين يقولون أن الخير يجب أن يؤثر والحسن يجب أن يفعل والقبيح يجب أن يجتنب عنه ، ويقولون بأنه لا بد من جزاء ومجازاة الإحسان بالإحسان والإساءة ، ومن أحكامهم أن الأمر والنهي وكل حكم تشريعي لا يتوجه إلا إلى المختار دون المضطر والمجبر على الفعل ، فلو أنه سبحانه أجبر على الطاعات أو المعاصي ، لم يكن جزاء المطيع بالجنة والعاصي بالنار إلا جزافا في مورد المطيع ، وظلما في مورد العاصي والجزاف والظلم قبيحان عند العقلاء ، ولا حجة في قبيح .
  ولكن الإسلام جاء بما تستقيم عليه الفطرة لتغمر الحجة جميع العقلاء والأغبياء وقد قال تعالى : ( لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) (1) ويقول : ( لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ) (2) يقول صاحب الميزان (3) : إن التشريع ليس مبنيا على أساس الجبر في الأفعال ، فالتكاليف مجعولة على وفق مصالح العباد في معاشهم أولا، وهي متوجهة إلى العباد من حيث أنهم مختارون في الفعل والترك ثانيا ، والمكلفون إنما يثابون أو يعاقبون بما كسبت أيديهم من خير وشر اختيارا، كما أن ما ينسبه القرآن إلى الله تعالى من الإضلال والخدعة والمكر والإمداد في الطغيان وتسليط الشيطان وتوليته على الإنسان وتقييض القرين ونظائر ذلك جميعها منسوب إليه تعالى على ما يلائم ساحة قدسه ونزاهته تعالى عن ألوان النقص والقبح والمنكر ، فإن جميع هذه المعاني راجعة في النهاية إلى الاضلال وشعبه وأنواعه ، ليس كل إضلال حتى إضلال البدوي وعلى سبيل الإغفال المنسوب إليه ولا لائق بجنابه تعالى ، بل الثابت له الإضلال مجازاة وخذلانا لمن يستقبل بسوء اختياره ذلك كما قال

-------------------------------
(1) سورة النساء ، الآية : 165 .
(2) سورة الأنفال ، الآية : 42 .
(3) الميزان : 95 / 1 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 340 _
  تعالى : ( يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ) (1) : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) (2) وقال : ( كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ ) (3) ، إن معسكر الانحراف دخل من الباب الذي ترفضه الفطرة متاجرين بخلق أفعال العباد كي يحافظوا على شذوذ القديم ويعبرون به إلى المستقبل كي يزدحم طريق الطمس ، وقيما سئل أبو الحسن (عليه السلام ) عن أفعال العباد ، أهي مخلوقة لله تعالى ؟ فقال : لو كان خالقا لها لما تبرأ منها ، وقد قال سبحانه : ( أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ) ولم يرد البراءة من خلق ذواتهم ، وإنما تبرأ من شركهم وقبائحهم (4) وقيل لأبي عبد الله هل فوض الله الأمر إلى العباد ؟ قال : الله أكرم من أن يفوض إليهم ، قيل : أأجبر الله العباد على أفعالهم ؟ قال : الله أعدل من أن يجبر عبدا على فعل ثم يعذبه عليه (5) وروي عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنه قال : ( من زعم أن الله يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله ، ومن زعم أن أخير والشر بغير مشيئة الله فقد أخرج الله من سلطانه ) (6) وروي عن الرضا (ع) أنه قال : ( إن الله عز وجل لم يطع بإكراه ، ولم يعص بغلبة ، ولم يهمل العباد في ملكه ، هو المالك لما ملكهم ، والقادر على ما أقدرهم عليه ، فإن أمر العباد بطاعته ، لم يكن الله منها صادا ، ولا منها مانعا ، وإن ائتمروا بمعصية فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل ، وإن لم يحل فعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه ثم قال (عليه السلام ) : من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه ) (7)، وكما تاجر فقهاء الانحراف بقضية الإجبار تاجروا أيضا بلافتة الحسنة والسيئة ، وحاولوا وضع رداء التمييع عليها كي تواصل القافلة مسيرها في ظلمة

-------------------------------
(1) سورة البقرة ، الآية : 26 .
(2) سورة الصف ،الآية : 5 .
(3) سورة غافر ، الآية : 34 .
(4) الميزان : 101 / 1 .
(5) الميزان : 103 / 1 .
(6) الميزان : 103 / 1 .
(7) الميزان : 99 / 1 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 341 _
  الليل إلى الدجال ، وهم يظنون أن الحسنات والسيئات تلقى عليهم من السماء ليصيب الله بها من يشاء ولا دخل لهم فيما يقترفوه من سيئات ، لقد جاء الإسلام ليصحح هذه المفاهيم ليهلك من هلك عن بينة ، مبينا أن لكل شئ غاية فمثلا الحياة النباتية لشجرة ما تؤدي إلى إثمارها ثمرة كذا ، فهذه الثمرة هي غاية وجودها ـ فإذا كان هذا هو حال النبات ، فما بالك بالإنسان ، إن الإنسان له هدف وغاية وعلى امتداد طريقه يصيب الحسنات والسيئات ، والحسنات هي الأمور التي يستحسنها الإنسان بالطبع ، كالعافية والنعمة والأمن ، وكل ذلك من الله.
  والسيئات هي الأمور التي تسوء الإنسان كالمرض والذلة والمسكنة والفتنة ، وكل ذلك يعود إلى الإنسان إليه سبحانه ، يقول تعالى : ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (1) لا ينافي ذلك رجوع جميع الحسنات والسيئات بنظر كلي آخر إليه تعالى ، كما قال سبحانه : ( وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا * مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ) (2) وقال في الميزان: وإياك أن تظن أن الله سبحانه حين أوحى هذه الآية إلى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) نسي الحقيقة الباهرة التي أبانها بقوله : ( الله خالق كل شئ ) (3) وقوله : ( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ) (4) فعد سبحانه كل شئ مخلوقا حسنا في نفسه ، وقد قال جل شأنه : ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ) (5) وقال : ( لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى ) (6) فمعنى قوله ( مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ ) ( الآية ) أن ما أصابك من حسنة ـ وكل ما أصابك حسنة ـ فمن الله ، وما أصابك من سيئة فهي سيئة بالنسبة إليك حيث لا يلائم ما تقصده وتشتهيه وإن كانت في نفسها حسنة فإنما جرتها إليك نفسك باختيار ها السيئ ، واستدعتها كذلك من

-------------------------------
(1) سورة الأنفال ، الآية : 53 .
(2) سورة النساء ، الآيتان : 78 ـ 79 .
(3) سورة الزمر ، الآية : 62 .
(4) سورة السجدة ، الآية : 7 .
(5) سورة مريم ، الآية : 64 .
(6) سورة طه ، الآية : 52 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 342 _
  الله ، فالله أجل من أن يبدأك بشر وضر ، والآية وإن كانت خصت النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالخطاب ، لكن المعنى عام للجميع ، وبعبارة أخرى ، هذه الآية والآيتين الأخريين ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا ) ( الآية ) ( وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ ) ( الآية ) متكفلة الخطاب الإجتماعي لتلفها للخطاب الفردي .
  فإن للمجتمع الإنساني كينونة إنسانية وإرادة واختيارا غير ما للفرد من ذلك، فالمجتمع ذو كينونة يستهلك فيها الماضون والغابرون من أفراده ، ويؤاخذ متأخر وهم بسيئات المتقدمين ، وليس يصح ذلك في الفرد بحسب حكمه في نفسه أبدا ، فهذا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أصيب في غزوة أحد في وجهه وثناياه ، وأصيب المسلمون بما أصيبوا ، هو (صلى الله عليه وآله وسلم) نبي معصوم إن أسند ما أصيب به إلى مجتمعه وقد خالفوا أمر الله ورسوله ، كان ذلك مصيبة سيئة صابته بما كسبت أيدي مجتمعه وهو فيهم كموسى (عليه السلام ) فقد أصاب بني إسرائيل عذاب التيه في الصحراء بما كسبت أيديهم كان موسى (عليه السلام ) فيهم ـ وإن أسند إلى شخصه الشريف كان ذلك محنة إلهية أصابته في سبيل الله، وفي طريق دعوته الطاهرة إلى الله على بصيرة ، فإنما هي نعمة رافعة الدرجات ، وكذا كل ما ما أصاب قوما من السيئات إنما تستند إلى أعمالهم على ما يراه القرآن ولا يرى إلا الحق ، وأن ما أصابهم من الحسنات فمن الله سبحانه ...
  والله تعالى يذكر في آياته ، أن شيئا من خلقه لا يقدر على شئ مما يقصده من الغاية ، ولا يهتدي إلى خير إلا بإقدار الله وهدايته قال تعالى : ( الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) (1) وقال تعالى :( وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا ) (2) ويتبين بهاتين الآيتين وما تقدم من معنى آخر .
  لكون الحسنات لله عز اسمه ، وهو أن الإنسان لا يملك حسنة إلا بتمليك من الله وإيصال منه ، فالحسنات كلها لله والسيئات للإنسان ، وبه يظهر معنى قوله تعالى : ( مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ) فلله سبحانه الحسنات بما أن كل حسن مخلوق له ، والخلق والحسن لا ينفكان ، وله

-------------------------------
(1) سورة طه ، الآية : 50 .
(2) سورة النور ، الآية : 21 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 343 _
  الحسنات بما أنها خيرات ، بيده الخير لا يملكه غيره إلا بتمليكه ، ولا ينسب إليه شئ من السيئات من حيث إنها سيئة غير مخلوقة وشأنه الخلق ، وإنما السيئة فقدان الإنسان مثلا رحمة من لدنه تعالى أمسك عنها بما قدمت أيدي الناس (1) وهكذا أطاح الإسلام بالحجة الشيطانية التي أراد بها فقهاء الشيطان أن يتخذوا منها سندا شرعيا لإضلال أكثر الناس والسير بهم في طريق القهقري الذي يحمل أعلام الغايات الشيطانية.

  5 ـ هدم الأهواء الشيطانية :
  بعد أن طرح فقهاء الشيطان فكر اللافكر وعلم اللاعلم من داخل باب القضاء والقدر والحسنة والسيئة ، حاصروا الفطرة بعلوم الأهواء التي تتميز بأنها لا غاية لها ولا هدف إلا الصب في نهاية المطاف داخل الوعاء الشيطاني ، والإسلام في مكة بعد أن قام بتصحيح النظر في الكون ودل الإنسان على الطريق المستقيم مبينا له أنه ليس حصاة ملقاة على قارعة الطريق تحركها الأقدام والرياح حيث تريد ، خاطب رسوله الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) الإنسان في أعماقه، كي يأخذ الإنسان بأسباب النجاة ويحطم الأصنام الراسخة في نفسه ، لقد أخبرهم بأن اتباع الأهواء فيه تحقير منهم للكون وإذا كان الأقدمون قد حقروا وانتقصوا من الإنسان، فإن أبناءهم قاموا بتوسيع رقعة التحقير لتشمل الكون كله وذلك لأن اتباعهم للهوى يقتضي بأن يأتيهم الله بتشريع يلائم الأهواء وفي هذا مفسدة للتدبير السائد في الكون قال تعالى لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ( وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ ) (2) قال المفسرون : إن الإنسان حقيقة كونية مرتبطة في وجودها بالكون العام، وله في نوعيته غاية هي سعادته ، وقد خط له طريق إلى سعادته وكماله ينالها بطي الطريق المنصوب إليها نطير غيره من الأنواع الموجودة .
  وقد جهزه الكون العام وخلقته الخاصة به من القوي والآلات بما يناسب سعادته والطريق المنصوب إليها ، وهي الإعتقاد والعمل اللذان ينتهيان به إلى سعادته

-------------------------------
(1) الميزان : 15 / 5 .
(2) سورة المؤمنون ، الآية : 71 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 344 _
  فالطريق التي تنتهي بالإنسان إلى سعادته ، أعني الإعتقادات والأعمال الخاصة المتوسطة بينه وبين سعادته ، وهي التي تسمي بالدين وسنة الحياة، فتعينه حسب اقتضاء النظام العام الكوني والنظام الخاص الإنساني الذي نسميه الفطرة وتابعه لذلك ، وهذا هو الذي يشير إليه تعالى بقوله : ( فأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) (1) فسنة الحياة التي تنتهي بسالكها إلى السعادة الإنسانية طريقة متعينة يقتضيها النظام بالحق ، وتكشف عنها تجهيزات وجوده بالحق ، وهذا الحق هو القوانين الثابتة غير المتغيرة التي تحكم في النظام الكوني الذي أحد أجزائه النظام الإنساني ، وتدبره وتسوقه إلى غاياته وهو الذي قضى به الله سبحانه فكان حتما مقضيا. فلو اتبع الحق أهواءهم، فاقتضى لهم من الشرع ما تجازف به أهواؤهم ، لم يكن ذلك إلا بتغير أجزاء الكون عما هي عليه وتبدل العلل والأسباب غيرها ، وتغير الروابط المنتظمة إلى روابط جزافية مختلة متدافعة توافق مقتضياتها ومجازفات أهوائهم ، وفي ذلك فساد السماوات والأرض ومن فيهن في أنفسها والتدبير الجاري فيها ، لأن كينونتها وتدبيرها مختلطان غير متمايزين ، والخلق والأمر متصلان غير منفصلين (2) بين لهم أن أهل الأهواء يطالبون بتشريع ينسجم مع ما يهوونه من الإعتقاد والعمل وما يريدوه من الفحشاء والمنكر والفساد ، وبما أن الهوى لا يقف عند حد ولا يستقر على قرار ، فإنهم يريدون مع كل جيل كونا جديدا ينسجم مع حركتهم ، وهذا خبر فطرة الوجود.
  ولكن طابور الأهواء في معسكر الانحراف وقف على حطام حججه التي حطمها الإسلام له ، أمسك بذيول آبائه ليكمل مسيرة الانحراف حتى نهايتها ، وبعد قيام الحجة عليه أوصى تعالى إلى رسوله : ( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئًا وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ) (3) قال المفسرون : أمر الله تعالى رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) باتباع ما يوحي إليه من الدين وأن لا يتبع أهواء الجاهلين المخالفة للدين الحق، ويظهر من الآية ، أن كل حكم عملي لم يستند

-------------------------------
(1) سورة الروم ، الآية : 3 .
(2) الميزان : 47 / 15 .
(3) سورة الجاثية ، الآيتان : 18 ـ 19 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 345 _
  إلى الوحي الإلهي ولم ينته إليه فهو هوى من أهواء الجاهلين غير منتسب إلى العلم ، قوله : ( إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئًا ) أي أن لك إلى الله سبحانه حوائج ضرورية لا يرفعها إلا هو ، والذريعة إلى ذلك اتباع دينه لا غير ، فلا يغني عنك هؤلاء الذين اتبعت أهواءهم شيئا من الأشياء إليها الحاجة أو لا يغني شيئا من الإغناء ، قوله : ( إِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ) المراد بالظالمين المتبعون لأهوائهم المبتدعة وبالمتقين المتبعين لدين الله، والمعنى :
  إن الله ولي الذين يتبعون دينه لأنهم متقون والله وليهم ، والذين يتبعون أهواء الجهلة ، ليس هو تعالى وليا لهم ، بل بعضهم أولياء بعض لأنهم ظالمون ، حتى يكونوا أولياء لك لا يغنون عنك من الله شيئا ، وتسمية المتبعين لغير دين الله بالظالمين هو الموافق (1) لما يستفاد من قوله تعالى ، ( أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ )(2)، فأهل الأهواء بجميع أنواعها وألوانها يربطهم جميعا رباط واحد ، ويسرون في اتجاه واحد يحدده طريق الطمس الذي يسير القردة عليه أدلة لمن خلفهم ، وهم ما سلكوا هذا الطريق إلا بعد أن رفضوا الطريق الحق، قال تعالى لرسوله : ( أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ) (3) قال المفسرون : المراد باتخاذ الهوى إلها : طاعته واتباعه من دون الله ، وقد أكثر الله سبحانه في كتابه ذم اتباع الهوى ، وعد طاعة الشئ عبادة له في قوله : ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنْ اعْبُدُونِي ) (4) وقوله : ( أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ) أي لست أنت وكيلا عليه قائما على نفسه وبأموره حتى تهديه إلى سبيل الرشد ، فليس في مقدرتك ذلك ، وقد أضله

-------------------------------
(1) الميزان : 167 / 18 .
(2) سورة الأعراف ، الآيتان : 44 ـ 45 .
(3) سورة الفرقان، الآيتان : 43 ـ 44 .
(4) سورة يس ، الآيتان : 60 ـ 61 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 346 _
  الله وقطع عنه أسباب الهداية وفي معناه قوله تعالى : ( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ) (1) وقوله : ( وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ ) (2) والآية كالإكمال للتفصيل الذي في قوله : ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ) (3) .
   ثم يقول الله تعالى لرسوله : بل أتظن أن أكثرهم لهم استعداد لسماع الحق ليتبعه ، أو استعداد عقل الحق ليتبعه فترجوا اهتداءهم فتبالغ في دعوتهم ( إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ) أي أن أكثرهم لا يسمعون ولا يعقلون ، أي أنهم ليسوا إلا كالأنعام والبهائم في أنها لا تعقل ولا تسمع إلا اللفظ دون المعنى ( بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ) أي من الأنعام ، وذلك أن الأنعام لا تقتحم على ما يضر ها ، وهؤلاء يرجحون ما يضرهم على ما ينفعهم ، وأيضا الأنعام إن ضلت عن سبيل الحق ، فإنها لم تجهز في خلقتها بما يهديها إليه ، وهؤلاء مجهزون وقد ضلوا (4).
  إن طابور الأهواء لم يبنوا شركهم على التعقل ، بل اتبعوا في ذلك أهواءهم بغير علم ، لقد ظلموا أنفسهم أولا فأدى بهم هذا الظلم إلى ركوب طريق الضلال ، يقول تعالى : ( بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ ) (5) قال المفسرون : كان مقتضى الظاهر أن يقال : بل اتبع الذين أشركوا ، ولكنه قال : ( بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ) فوصفهم بالظلم ليتعلل به ما سيصفهم بالضلال بعد ذلك في قوله : ( فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ ) فالظلم يستتبع الإضلال الإلهي ، قال تعالى : ( يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء ) ، (6) .
  إن الرسالة الخاتمة كانت رحمة من الله للعالمين ، لقد قامت بتعرية طريق السلف الذي التقط المنهج الشيطاني، في أول الطريق، وقام بتعرية حججهم

-------------------------------
(1) سورة القصص ، الآية : 56 .
(2) سورة فاطر ، الآية : 22 .
(3) سورة الجاثية ، الآية : 23 .
(4) الميزان : 224 / 15 .
(5) سورة الروم ، الآية : 29 .
(6) الميزان : 177 / 16 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 347 _
  الواهية التي صاغوا لتحفظ لهم سنتهم القومية وترتع فيها أهواؤهم ، وتعرية الإسلام لطريق الانحراف الهدف منه إقامة حجة الصراط المستقيم ، ولم يكن الهدف في يوم من الأيام إكراه الناس على الإيمان ، كما ادعى طابور الانحراف ، الشذوذ على امتداد تاريخه ، قال تعالى لرسوله : ( وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ) (1) قال المفسرون : والمعنى في الآيات : لا تأسف عليهم ، واتل ما يوحى إليك واصبر نفسك مع المؤمنين الفقراء وقل للكفار : الحق من ربكم ، ولا تزد على ذلك ، فمن شاء منهم أن يؤمن فليؤمن ومن شاء منهم أن يكفر فليكفر ، فليس ينفعنا إيمانهم ولا يضرنا كفرهم ، بل ما في ذلك من نفع أو ضرب وثواب أو تبعه عذاب عائد إليهم أنفسهم فليختاروا ما شاؤوا فقد اعتدنا للظالمين النار وللصالحين جنات تجري من تحتها الأنهار (2) وقال تعالى : ( إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ) (3) قال المفسرون : أي إن تكفروا بالله فلم توحدوه ، فإنه غني عنكم لذاته لا ينتفع بإيمانكم وطاعتكم ولا يتضرر بكفركم ومعصيتكم ، فالنفع والضرر إنما يتحققان في مجال الإمكان والحاجة ، وأما الواجب الغني بذاته فلا يتصور في حقه انتفاع ولا تضرر وقوله : ( وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ) دفع لما ربما يمكن أن يتوهم من قوله : ( فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ ) إنه إذا لم يتضرر بكفر ولم ينتفع بإيمان ، فلا موجب له أن يريد منا الإيمان والشكر فدفعه بأن تعلق العناية الإلهية بكم يقتضي أن لا يرضى بكفركم وأنتم عباده ، والمراد بالكفر كفر النعمة الذي هو ترك الشكر بقرينة مقابلة قوله : ( وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ) والمحصل : أنكم عباد مملوكون لله سبحانه منغمرون في نعمه ورابطة المولوية والعبودية ، وهي نسبة المالكية والمملوكية ، لا تلائمه أن يكفر العبد بنعمة سيده فينسى ولاية مولاه ويتخذ لنفسه أولياء من دونه ويعصي المولى ويطيع عدوه وهو عبد عليه طابع العبودية لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا (4).

-------------------------------
(1) سورة الكهف ، الآية : 29 .
(2) الميزان : 304 / 13 .
(3) سورة الزمر ، الآية : 7 .
(4) الميزان: 239 / 17.

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 348 _
  إن الإسلام عندما قام بتحطيم السلف الوثني وحججه كان يفسح الطريق أمام الإنسانية كي تتبين خطاها وتأخذ بأسباب الهدى ، بعد أن أوحى الشيطان إلى أوليائه كي يفتحوا أبواب الفتن ويدخلوا من باب رافعين رايات القضاء والقدر والحسنة والسيئة تارة وحرية الإنسان الشخصية تارة أخرى ، وأولياء الشيطان اعتبروا أن هذه أقرب الطريق للدخول بأكثر الناس تحت ظلال الظلام الشيطانية من أجل تتفيذ المخطط الشيطاني الذي حمله الشيطان على عاتقه منذ أن رفض السجود لآدم، وبينما كان فقهاء الشيطان وتلاميذه يسيرون نحو غاياتهم ، كانت سهامهم توجه إلى صدر الإسلام فيتهمونه تارة بأنه دين جامد لم يقدم دليلا على أنه من عند الله وتارة أخرى على أنه دين يصادر الحرية ولا هم له إلا السلب والنهب !
  وإذا كنا هنا لم نقدم سوى بعض من الآيات المكية فقط ، فإننا نقول لمعسكر الانحراف، هل في حجج الإسلام سلب ونهب وإكراه ؟ هل وجدتم جمود ؟ هل علم معسكر الانحراف نظام أعطى خصومه الحرية الكاملة الإبداء آرائهم وصححها بما يخدم إنسانيتهم أكثر من الإسلام ؟ إن الإسلام جاء ليتكلم هو لن يتكلم إلا إذا تكلم الطرف الآخر، وبعد أن يقول الإسلام كلمته يذر الظالمين يخوضوا ويلعبوا حتى يأتيهم اليوم الذي يوعدون ، فهل في هذا إكراه وإجبار ؟ فإذا كانت الإجابة بلا ... فلماذا قلتم وتقولون وستقولون عن الإسلام بأنه دين للجمود والدماء ؟ إن القول الذي تقولون به من ثقافة طريق الطمس والإسلام أسمي من أن ينظر في ثقافة قردية الطمس فهؤلاء لهم يوم حدده الله، وفيه يكون عذاب الاستئصال ، ونحن وإياكم في انتظاره ، إن الزيت السلفي بدأ في الجفاف على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، والذين تاجروا بالأديان أصبحت تجارتهم راكدة ، إن الجفاف الأكبر قادم ، معه ستقطع حبال الأهواء التي يتدلى فيها أبناء الانحراف ، وسيسقطون بينما تكون قوافل الهدى التي على الصراط المستقيم ترتل كتاب ربها بآياته التي قرأها رسولهم أول مرة ، والله ولي المتقين.

  6 ـ لبنات المجتمع الصالح :
  لقد أيقظ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الفكر عند من أراد العودة إلى الله ، وجعل قلوبهم عامرة بذكر الله ولم الدعوة مقتصرة على ضرب الانحراف

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 349 _
  والشذوذ بالحجج البالغة فقط ، وإنما قدمت الدعوة البديل لا قامة المجتمع الصالح ، الذي يحيا فيه الإنسان الحياة اللاشريفة وينال سعادته الحقيقة، والأساس الذي أقامه الإسلام لبناء هذا المجتمع يقوم على التوحيد ، ولبنات هذا الصرح العظيم تتكون من الأخلاق الفاضلة ، وذلك لأن المعارف الحقيقة والعلوم المفيدة لا تكون في متناول البشر إلا عندما يصلح أخلاقه ، فالشريعة الإسلامية التي جاء بها النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) تنطلق بالأخلاق وبوقود التوحيد بصائر للناس يميزون بها أي الطرق يسلكونها لتؤدي بهم إلى الحياة الكريمة في الدنيا والآخرة ، وفي مكة وفي الوقت الذي كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ينادي على معسكرات الانحراف بخلع ثياب الأهواء وإلقاء أعلام سلف الضلال ، كان عليه الصلاة والسلام يتلو آيات البناء ومن هذه الآيات قوله تعالى :
  ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ) إلى قوله تعالى : ( وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (1) قال المفسرون : قوله تعالى :
  ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ) بهذه الأحكام الثلاثة التي هي بالترتيب ، أهم ما يقوم به صلب المجتمع الإنساني ، لما أن صلاح المجتمع العام ، أهم ما يبتغيه الإسلام في تعاليمه ، ولأن سعادة الفرد مبنية على صلاح الظرف الاجتماعي الذي يعيش هو فيه ، وما أصعب أن يفلح فرد في مجتمع فاسد ، أحاط به الشقاء من كل جانب ، أهتم الإسلام في إصلاح المجتمع اهتماما لا يعادله فيه غيره ، وبذل الجهد البالغ في جعل الدساتير والتعاليم الدينية حتى العبادات من الصلاة والحج والصوم اجتماعية ما أمكن فيها ذلك ، كل ذلك ليستصلح الإنسان في نفسه ومن جهة ظرف حياته .
  فقوله : ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ ) العدل هو المساواة في المكافأة، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، والإحسان أن يقابل الخير بأكثر منه

-------------------------------
(1) سورة النحل ، الآيتان : 90 ـ 91 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 350 _
  والشر بأقل منه ، وظاهر السياق أن المراد بالعدل في الآية هو العدل الاجتماعي ، وهو أن يعامل كل أفراد المجتمع بما يستحقه ، ويوضع في موضعه الذي ينبغي أن يوضع فيه ، وهذا أمر من الله بخصلة اجتماعية متوجه إلى الأفراد المكلفين ، بمعنى أن الله سبحانه يأمر كل واحد من أفراد المجتمع أن يأتي بالعدل ، ولازم ذلك ، أن يتعلق الأمر بالمجموع أيضا ، فيكلف المجتمع إقامة هذا الحكم وتتقلده الحكومة بما أنها تتولى أمر المجتمع وتدبره ، والإحسان من حيث السياق كسابق ، فالمراد به الإحسان إلى الغير ، والإحسان على ما فيه من صلاح حال من أذلته الفاقة وما فيه من نشر الرحمة وإيجاد المحبة ، يعود محمود أثره إلى نفس المحسن ، بدوران الثروة في المجتمع وجلب الأمن ، وقوله : ( وإيتاء ذي القربى ) أي إعطاء المال لذوي القرابة ، وهو من أفراد الإحسان ، خص بالذكر ، ليدل على مزيد العناية بإصلاح هذا المجتمع الصغير ، الذي هو السبب بالحقيقة لانعقاد المجتمع المدني الكبير ، ومن المعلوم أن المجتمعات المدينة الكبيرة، إنما ابتدأت من مجتمع بيتي ، عقده الزواج ثم بسطة التوالد والتناسل.
  ووسعه حتى صار قبيلة وعشيرة ، ولم يزل يتزايد ويتكاثر ، حتى عادت أمة عظيمة (1)، وقوله : ( وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ) الفحشاء ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال ، والمنكر ما لا يعرفه الناس في مجتمعهم من الأعمال التي تكون متروكة عندهم لقبحها أو إثمها ، كالمواقعة أو كشف العورة في مشهد من الناس في المجتمعات الإسلامية، والبغي المراد به في الآية التعدي على الغير ظلما ، وهذه الثلاثة : الفحشاء ، المنكر ، البغي ، إذا أصابت مجتمع من المجتمعات ظهر الفعل الفاحش بين الأعمال المجتمعة فيه الصادرة من أهله.
  فينقطع بعضها من بعض ، ويبطل الالتئام بينها ، وتفسد بذلك النظم. ويخل المجتمع في الحقيقة، وإن كان على ساقه ، وفي ذلك هلاك سعادة الأفراد، فالنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي ، أمر بحسب المعنى، باتحاد مجتمع تتعارف أجزاؤه ، وتتلاءم أعماله ، لا يستعلي بعضهم على بعض بغيا ، ولا يشاهد بعضهم من بعض إلا الجميل الذي يعرفونه ، لا فحشاء ولا منكرا ، وعند

-------------------------------
(1) الميزان : 330 / 12 .