ينطبق على كل واحد من الثلاثة ، وهذا لازم قولهم أن الأب إله ، ولابن إله والروح إله ، وهو ثلاثة ! وهو وحد ! يضاهئون بذلك نظير قولنا : إن زيد بن عمرو إنسان ، فهناك أمور ثلاثة هي : زيد وابن عمرو والإنسان ، هناك أمر واحد هو المنعوت بهذه النعوت ، وقد غفلوا عن هذه الكثرة إن كانت حقيقة غير اعتبارية ، أوجبت الكثرة في المنعوت حقيقة ، وأن المنعوت إن كان واحدا حقيقة أوجب ذلك أن تكون الكثرة اعتبارية غير حقيقة ، فالجمع بين هذه الكثرة العددية والوحدة العددية ، في زيد المنعوت بحسب الحقيقة ، مما يستنكف العقل عن تعقله ، ولذا ربما ذكر بعض الدعاة من النصارى أن مسألة التثليث من المسائل المأثورة ، من مذاهب الأسلاف ، التي لا تقبل الحل بحسب الموازين العلمية .
  ولم يتنبه أن عليه أن يطالب الدليل على كل دعوى يقرع سمعه ، سواء كان من دعاوي الأسلاف أو من دعاوي الأخلاف ، وقوله : ( وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ ) فالمعنى : ليس في الوجود شئ من جنس الإله أصلا إلا إله واحد نوعا من الوحدة لا يقبل التعدد أصلا ، لا تعدد الذات ولا تعدد الصفات لا خارجا ولا فرضا ، إن الله سبحانه لا يقبل بذاته المتعالية الكثرة بوجه من الوجوه ، فهو تعالى في ذاته واحد ، وإذا اتصف بصفاته الكريمة وأسمائه الحسنى ، لم يزد ذلك على ذاته الواحدة شيئا ، ولا الصفة إذا أضيفت إلى الصفة، أورث ذلك كثرة وتعددا فهو تعالى إحدى الذات لا ينقسم لا في الخارج ولا في وهم ولا في عقل ، فليس الله سبحانه ، بحيث يتجزأ في ذاته إلى شئ وشئ قط ، ولا أن ذاته بحيث يجوز أن يضاف إليه شئ فيصير اثنين أو أكثر ، كيف ؟ وهو تعالى مع هذا الشئ الذي تراد إضافته إليه تعالى في وهم أو فرض أو خارج ، فهو تعالى واحد في ذاته لكن لا بالواحدة العددية ، التي لسائر كيف ؟ وهذه الواحدة العددية والكثرة المتألفة منها كلتاهما من آثار صنعه وإيجاده ، فكيف يتصف بما هو من صنعه ؟ (1) ، وقوله : ( وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ

-------------------------------
(1) الميزان : 71 / 6 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 302 _
  أَلِيمٌ ) فالمعنى : ولما كان القول بالتثليث ليس في وسع عقول العامة أن تتعقله ، فأغلب النصارى ، يتلقونه قولا مذهبيا مسلما بلفظه من غير أن يعقلوا معناه ، ولا أن يطمعوا في تعلقه ، وبما أنه ليس في وسع العقل السليم أن يعقله عقلا صحيحا .
  كان هناك من النصارى من لا يقول بالتثليث ، ولا يعتقد في المسيح إلا أنه عبد الله ورسوله ، كما كانت على ذلك مسيحيوا الحبشة وغيرها وعلى ما يضبطه التاريخ فقوله : ( لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ ) أي لئن لم ينته النصارى عما يقولون ـ نسبه قول بعض الجماعة إلى جميعهم ـ ليمسن الذين كفروا منهم ـ وهم القائلون بالتثليث منهم ـ عذاب أليم ، ( أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) تخصيص على التوبة والاستغفار ، وتذكير بمغفرة الله ورحمته ، أو إنكار ، أو توبيخ .
  لقد توجهت آيات القرآن إلى الكتاب تدعوهم إلى الإيمان قبل أن يطمس الله وجوههم ويسيروا وقد ختم الله على قلوبهم نحو الدجال ، لا ينفعهم إيمان إذا جاء بأس الله ، ولا يأذن الله لناصر ينصرهم بالهداية ، قال تعالى : ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ) (1) قال المفسرون : وأنتم تشهدون ، الشهادة هي الحضور والعلم عن حس ، دلالة على أن المراد بكفرهم بآيات الله : إنكارهم كون النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هو النبي الموعود الذي بشربه في التوراة والإنجيل ، مع مشاهدتهم انطباق الآيات والعلائم المذكورة فيهما عليه (2) ، وقال تعالى : ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (3) قال المفسرون : كانوا يخفون آيات النبوة وبشارتها ، وكانوا يخفون حكم الرجم ، وأما عفوه عن كثير ، فهو تركه كثيرا مما كانوا يخفونه من الكتاب ، ويشهد بذلك الاختلاف الموجود في

-------------------------------
(1) سورة آل عمران ، الآية : 70 .
(2) الميزان : 256 / 3 .
(3) سورة المائدة ، الآيتان : 15 ـ 16 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 303 _
  الكتابين ، كاشتمال التوراة على أمور في التوحيد والنبوة ، لا يصح استنادها إليه تعالى ، كالتجسم والحلول في المكان ونحو ذلك ، وما لا يجوز العقل نسبة إلى الأنبياء الكرام من أنواع الكفر والفجور والزلات ، وكفقدان التوراة ذكر المعاد من رأس ، ولا يقوم دين على ساق إلا بمعاد ، وكاشتمال ما عندهم من الأناجيل ولا سيما إنجيل يوحنا على عقائد وثنية وقوله : ( قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ) المراد بالنور والكتاب المبين القرآن ، وقد سمى الله تعالى القرآن نورا في موارد من كتابه ، ومن المحتمل أن يكون المراد بالنور النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وقد عده الله تعالى نورا في قوله : ( وسراجا منيرا ) (1) .
  وقوله : ( يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ ) قيد فيه تعالى قوله : ( يهدي به الله ) بقوله : ( مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ ) ويؤول إلى اشتراط فعلية الهداية الإلهية باتباع رضوانه ، ومعنى الآية والله أعلم: يهدي الله سبحانه ويورد بسبب كتابه أو بسبب نبيه ، من اتبع رضاه سبلا من شأنها أنه يسلم من سار فيها من شقاء الحياة الدنيا والآخرة ، وكل ما تتكدر به العيشة السعيدة ، فأمر الهداية إلى السلام والسعادة يدور مدار اتباع رضوان الله ، وقد قال تعالى : ( وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ) (2) وقال : ( فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ) (3) ويتوقف بالآخرة على اجتناب سبيل الظلم والإنخراط في سلك الظالمين ، وقد نفى الله سبحانه عنهم هدايته ، وآيسهم من نيل هذه الكرامة الإلهية بقوله : ( وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (4) فالآية أعني قوله : ( يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ ) تجري مجري قوله : ( الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ) (5) .
  وقوله : ( وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ ) معنى إخراجهم بإذنه : إخراجهم بعلمه ... لقد دعاهم الرسول الأكرم إلى النور والمغفرة قال

-------------------------------
(1) سورة الأحزاب ، الآية : 46 .
(2) سورة الزمر ، الآية : 7 .
(3) سورة التوبة ، الآية : 96 .
(4) سورة الجمعة ، الآية 5 .
(5) الأنعام ، الآية : 82 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 304 _
  تعالى ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ) (1) قال المفسرون : المراد بالتقوى بعد الإيمان ، التورع عن محارم الله واتقاء الذنوب التي تحتم السخط الإلهي وعذاب النار ، وهي الشرك بالله وسائر الكبائر الموبقة التي أوعد الله عليها النار وقوله :
  ( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ ) المراد بالتوراة والإنجيل الكتابان السماويان اللذان يذكر القرآن أن الله أنزلهما على موسى وعيسى عليهما السلام ، دون ما بأيدي القوم من الكتب التي يذكر أنه لعبت بها يد التحريف والظاهر أن المراد بما أنزل إليهم من ربهم سائر الكتب المنسوبة إلى الأنبياء الموجودة عندهم كمزامير داوود وغيره وقوله : ( لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ) المراد بالأكل التنعم مطلقا ، والمراد من فوقهم هو السماء ومن تحت أرجلهم هو الأرض، والآية من الدليل على أن الإيمان والعمل الصالح له تأثير في صلاح النظام الكوني، من حيث ارتباطه بالنوع الإنساني، فلو صلح النوع الإنساني، صلح نظام الدنيا ، من حيث إيفائه باللازم لحياة الإنسان السعيدة من اندفاع النقم ووفور النعم ، لقد عرض عليهم القرآن الإيمان بالرسول صلى عليه وآله وسلم ، كي يركبوا طريق الهداية ، ثم عرض عليهم أن يقيموا التوراة والإنجيل اللذان يذكر القرآن أن الله أنزلهما على موسى وعيسى عليهما السلام، ففي حالة ظهورهما سيقطعون أقرب الطرق للإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيؤمنون به عن طريق كتبهم ، لأنه موصوف فيها ، وكان اليهود والنصارى ينشرون بينهم وفي العالم خبر نبوته كما قال تعالى : ( كَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ ) (2) قال المفسرون : أي قبل مجئ النبي بالقرآن كانوا بمجيئه على أعدائهم من المشركين إذا قاتلوهم ويقولون أنه سيبعث نبي أخر الزمان ، نقتلكم معه قتل عاد وإرم (3)

-------------------------------
(1) سورة المائدة ، الآيتان : 65 ـ 66 .
(2) سورة البقرة ، الآية : 89 .
(3) ابن كثير : 124 / 1 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 305 _
  فلما جاءهم عرفوا أنه هو انطباق ما كان عندهم من أوصاف عليه كفروا (1)، وقد روي أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : ( لو آمن بي عشرة من أحبار اليهود لآمن بي كل يهودي على وجه الأرض ) (2) أي لو صدق برسالتي وما جئت به عشرة من علماء اليهود ورؤسائهم الذين يقتدى بهم ، لقادوا سائرهم إلى الدخول في الإسلام.
  لقد كان النبي يريد أن يؤمن قادة اليهود ، ولكن قادة اليهود انطلقوا في عالم الطمس يتبعهم الظالمون من النصارى ، ولن يغني عنهم إيمانهم بأنبياء بني إسرائيل ، لأنهم فرقوا بين الله ورسله ، فقالت اليهود آمنا بموسى ، ثم كفروا بعيسى ومحمد ، والتوراة التي بأيديهم لا تحمل إلا ملامح باهتة عن موسى .
  وقالت النصارى آمنا بموسى وعيسى وكفروا بمحمد ، والأناجيل التي بأيديهم منسوبة إلى تلاميذ يؤرخون لحياة المسيح وما وقع بينه وبين اليهود، وهي أولا لا تتفق فيما بينها في كثير من المعاني، وثانيا فإنها تقول بالتثليث بينا التوراة لا تقول به ، وهكذا فرقوا بين الله ورسله وكتبه ، وحكم الله حكمه الحق بأنهم كافرون بالله ورسله جميعا ، قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا * وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ) (3) فالكفر بالبعض والإيمان بالبعض ، ليس إلا تفرقة بين الله ورسله ، ولا سبيل إلى الله إلا الإيمان به وبرسله جميعا ، فإن الرسول ليس له من نفسه شئ ، ولا له من الأمر من شئ ، فالإيمان به إيمان بالله ، والكفر به كفر بالله ، لقد كانت الرسالة المحمدية هي الباب الأخير الذي بدخوله ينجوا بني إسرائيل من العذاب الذي دق أوتاده سلفهم حول العجل يوما ما ، كان الإسلام الذي جاء به محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هو طوق النجاة الذي ينشلهم من

-------------------------------
(1) الميزان : 222 / 1 .
(2) رواه محمد وأبو داود ـ الفتح الرباني : 102 / 1 .
(3) سورة النساء ، الآيات : 150 ـ 152 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 306 _
  بحار الفتن التي أدلى فيها سلفهم كل واحد منهم بدلوه المحمل بالشذوذ والانحراف ، ولكن أصحاب الأيدي الخفية أولئك الذين يعملون من قديم من أجل تأصيل الشذوذ عملوا بكل جهد من أجل أن تسير مسيرة الفساد في اتجاه الدجال ، ولأن الإسلام لا يكره أحد على اتباعه ، تركهم الله في طريقهم ، وختم على قلوبهم بعد أن مهدوا لأنفسهم ودخلوا بأقدامهم تحت عذاب الطمس.

  ( رابعا ) : عذاب الطمس :
  إن الإنسان سيد أعماله ، وبداية الضلال من الإنسان نفسه ، فليس للشيطان أية سلطة على الناس ، ولا يتمكن من إكراه الناس على المعصية ، إن الشيطان يزن الأعمال فقط ، ويدعوا الناس إلى الضلال فقط ، وعندما يلبي الإنسان الدعوة ، يضله الله عقابا لسوء اختياره ، ومعنى إضلال الله للعبد ، أن الله يقطع رحمته منه فينحرف باختياره ، بني إسرائيل شهدوا أكثر من آية مع أنبيائهم ، ووضعهم الله تحت ضربات الغزاة كي يتوبوا ويستغفروا ، لكنهم وهم في سبي الغزاة حرفوا التوراة وشكلوا جهازا دينيا يسهر على مصالح المسيح الدجال ، وواصلوا الانحراف حتى إنهم أحكموا القبضة على الأنبياء فقتلوهم .
  وأحكموا القبضة على دعوة عيسى بعد أن رفعه الله، فربطوها بالتوراة والتوراة لا تعلم عنها شيئا ، وظلت القافة تسارع بالفساد في الأرض باختيارها حتى جاءهم الإنذار الإلهي القاصم ، قال تعالى :
  ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً ) (1) قال المفسرون : روي أن هناك من أسلم عندما سمع هذه الآية .
  وقال : ( يا رب أسلمت ) مخافة أن تصيبه هذه الآية ، وقيل في طمس الوجوه الكثير ، فمن قائل : طمسها أن تعمى ، ومن قائل : جعل وجوههم من قبل أقفيتهم فيمشون القهقرى ، وقيل : ترد على أدبارها أي تمنع عن الحق (2) وقال صاحب الميزان : تعرضت الآية لليهود أو طائفة منهم ، فإنهم بإزاء ما خانوا الله

-------------------------------
(1) سورة النساء ، الآية : 47 .
(2) ابن كثير : 505 / 1 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 307 _
  ورسوله وأفسدوا صالح دينهم ، ابتلوا بلعن من الله لحق جمعهم وسلبهم التوفيق الإيمان إلا قليلا ، فعم الخطاب لجميع أهل الكتاب على ما يفيد قوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ) ودعاهم الله إلى الإيمان بالكتاب الذي نزله مصدقا لما معهم ، وأوعدهم بالسخط الذي يلحقهم ، لو تمردوا واستكبروا ، من طمس أو لعن يتبعانهم اتباعا لا ريب فيه ، وطمس الوجوه ، محو هذه الوجوه التي يتوجه بها البشر نحو مقاصدهم الحيوية ، مما فيه سعادة الإنسان المرتقبة والمرجوة ، وهذا المحو ليس هو الذي يوجب فناء الوجوه وزوالها ، بل محو يوجب ارتداد تلك الوجوه على أدبارها ، فإذا كانت الوجوه تقتصد مقاصدها على الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، فإن كانت الوجوه المطموسة لا تقصد إلا خلفته وراءها ولا تمشي إليه إلا القهقرى ، وهذا الإنسان الذي يسير في غير اتجاه الفطرة ، كلما توجه إلى ما يراه خيرا لنفسه وصلاحا لدينه أو لدنياه ، لم ينل إلا شرا وفسادا ، وكلما بالغ في التقدم زاد في التأخر وليس يفلح أبدا (1).
  أما قوله تعالى : ( أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ ) فآيات أصحاب السبت هي التي تخبر عن مسخهم قردة وقد ألقينا عليهم بعض الضوء عند حديثنا عن القرية التي أصبحت أمام أمر الله ثلاث فرق ، وقال المفسرون: ( أو ) في قوله ( أو نلعنهم ) على ظاهرها من إفادة الترديد ، والفرق بين عيدين : أن الأول الذي هو الطمس، يوجب تغيير مقاصد المغضوب عليهم من غير تغيير الخلقة إلا في بعض كيفياتها ، والثاني الذي هو اللعن كلعن أصحاب السبت، يوجب تغيير المقصد ، بغيير الخلقة الإنسانية إلى خلقة حيوانية كالقردة ، فهؤلاء إن تمردوا عن امتثال ولم يؤمنوا برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، كان لهم إحدى سخطتين : إما طمس الوجوه ، وإما اللعن ، ولكن الآية تدل على أن السخطة لا تعمهم جميعا حيث قال تعالى : ( وجوها ) فأتى بالجمع المنكر ، ولو كان المراد الجميع لم ينكر ، ولتنكير الوجوه وعدم تعيينها نكتة هي أن المقام لما كان مقام الإبعاد والتهديد ، وهو إبعاد للجماعة بشر ، لا يلحق إلا ببعضهم ، كان إبهام الأفراد الذين يقع عليهم السخط الإلهي أوقع في الإنذار والتخويف ،

-------------------------------
(1) الميزان : 367 / 4 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 308 _
  لأن وصفهم على إبهامه ، يقبل الانطباق على كل واحد من القوم ، فلا يأمن أحدهم أن يمسه هذا العذاب ، وفي قوله تعالى : ( أو نلعنهم ) حيث أرجع فيه ضمير ( هم ) الموضوع الأولي العقل إلى قوله : ( وجوها ) كما هو الظاهر تلويحا أو تصريحا ، بأن المراد بالوجوه ، الأشخاص من حيث استقبالهم مقاصدهم وبذلك يضعف احتمال أن يكون المراد بطمس الوجوه وودها على أدبار تحويل وجوه الأبدان إلى الأقفية كما قال به البعض ويقوي ذلك احتمال أن المراد من تحويل الوجوه إلى الأدبار تحويل النفوس من حال استقامة الفكر وإدراك الواقعيات على واقعيتها إلى حال الاعوجاج والانحطاط الفكري ، بحيث لا يشاهد حقا إلا أعراض عنه واشمأز منه ولا باطلا إلا مال إليه وتولع به ، هذا نوع من التصرف الإلهي ، مقتا ونقمة ، نظير ما يدل عليه قوله تعالى : ( وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) (1) .
  فتبين مما مر أن المراد بطمس الوجوه في الآية نوع تصرف إلهي في النفوس ، يوجب تغيير طباعها من مطاوعة الحق وتجنب الباطل ، إلى اتباع الباطل والاحتراز عن الحق في باب الإيمان بالله وآياته كما يؤيده صدر الآية : ( آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم ... ) ومن الممكن أن يقال : إن المراد به تقليب أفئدتهم وطمس وجوه باطنهم من الحق إلى نحو الباطل فلا يفلحون بالإيمان بالله وآياته ، ثم إن الدين الحق ، لما كان هو الصراط المستقيم ، الذي لا ينجح إنسان في سعادة حياته الدنيا إلا بركوبه والاستواء عليه ، وليس للناكب عنه إلا الوقوع في كانون الفساد ، والسقوط في مهابط الهلاك ، كما قال تعالى : ( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا ) (2) وقال تعالى : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم ) (3) ولازم هذه الحقيقة ، أن طمس الوجوه

-------------------------------
(1) سورة الأنعام ، الآية : 110 .
(2) سورة الروم ، الآية : 41 .
(3) سورة الأعراف ، الآية : 9 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 309 _
  عن المعارف الحقة الدينية ، طمس لها عن حقائق سعادة الحياة الدنيا بجميع أقسامها ، فالمحروم من سعادة الدين ، محروم من سعادة الدنيا ، من استقرار الحال وتمهد الأمن وكل ما يطيب به العيش ، وآية الطمس ختمها الله بقوله : ( وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ) أي أن الأمر لا محالة واقع (1) فأمره سبحانه لا يخالف ولا يمانع (2) .
  باختصار عالم الطمس هو سير القطار بلا رجعة والله غني عن العالمين ، وفي عالم الطمس لن يفلحوا أبدا حتى ولو رفعوا أعلامهم على القمر وعلى جميع صناديق النقد الدولية ، عالم الطمس كلما ازداد أصحابه تقدما تأخروا لأنهم يسيرون عكس اتجاه الفطرة ونحو المسيح الدجال ، وتحت أقدامه يقفون يشكون الفقر والحاجة فيغذي أهواءهم ، إن مربع الشمس يعيش داخل مربع الضلالة .
  فالضلالة هي التي تغذي قافلة الطمس ، ومن كان غذاؤه من الضلالة فلا أمل في شفائه ( قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا ) (3) قال المفسرون :
  من كان في الضلالة ، تدل على استمرارهم في الضلالة ، لا مجرد تحقيق ضلالة ما بذلك يتم التهديد بمجازاتهم بالإمداد بما منه ضلالته ، كالزخارف الدنيوية .
  فينصرف عن الحق حتى يأتيه أمر الله من عذاب أو ساعة فيظهر له الحق عند ذلك ، ولن ينتفع به ، قال تعالى : ( حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا ) (4) وهذا دليل على أن هذا المد خذلان في صورة إكرام ، والمراد به أن ينصرف عن الحق بالاشتغال بزهرة الحياة ، فلا يظهر له الحق إلا في وقت لا ينتفع به ، كما قال تعالى : ( فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ) (5) وقال : ( يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ
-------------------------------
(1) الميزان : 370 / 4 .
(2) ابن كثير : 208 / 1 .
(3) سورة مريم ، الآية : 75 .
(4) سورة مريم ، الآية : 75 .
(5) سورة غافر ، الآية : 85 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 310 _
  فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ) (1) .

  ( خامسا ) : الخلاصة :
  إن الذين يعبدون أصناما من دون الله ويسيرون وراء أهوائهم في الحقيقة يدعون الشيطان العاري من كل خير ، ويسيرون في اتجاه طاعة ، لأن الشيطان أخذ على عاتقه أن يظلهم بالاشتغال بعبادة غير الله ، واقتراف المعاصي وأن يغرينهم بالاشتغال بالآمال والأماني التي تصرفهم عن الاشتغال بواجب شأنهم .
  وما يهمهم من أمرهم ، وأن يأمرهم بتحريم ما أحل الله وتغيير خلقه مثل الإخصاء واللواط والسحاق والخروج عن حكم الفطرة وترك الدين الحنيف ، والظالمين من أهل الكتاب اشتغلوا بهذا كله ، لقد اشتغلوا بآمال وأماني أرض المعاد ، وجعلوا هذه الآمال عامودا فقريا لحركتهم ، ولأنهم بظلمهم اتبعوا الأهواء وأعرضوا عن التعقل الصيح أضلهم الله، ولم يأذن سبحانه لناصر ينصرهم بالهداية ولا منقذ ينقذهم من الضلال ، فأي خسران أبين من خسران من يبدل السعادة الحقيقة وكمال الخلقة بالمواعيد الكاذبة والأماني الموهومة ( وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا ) (2) ، إن قافلة بني إسرائيل التي بدأت مع موسى (عليه السلام ) على أرض مصر ، اضطهدت في سبيل الله ( قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ) ، (3) قال المفسرون : كأنه يقول : ما أمرتكم به أن اتقوا الله في سبيل مقصدكم ، كلمة حية ثابتة ، فإن عملتم بها ، كان المرجو أن يهلك الله عدوكم ويستخلفكم في الأرض بإيراثكم إياها ، ولا يصطفيكم بالاستخلاف اصطفاء جزافا ، ولا يكرمكم إكراما مطلقا من غير شرط ولا قيد بل ليمتحنكم بهذا الملك، ويبتليكم بهذا التسليط والاستخلاف ، فينظر كيف تعملون (4).

-------------------------------
(1) سورة الأنعام ، الآية : 158 .
(2) سورة النساء ، الآية : 119 .
(3) سورة الأعراف ، الآيتان : 128 ـ 129 .
(4) الميزان : 225 / 8 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 311 _
  وانطلقت المسيرة الإسرائيلية تحمل الهدى للعالمين ، وبينما هي تسير ظهر أصحاب العجل والبقرة ، وأصحب الكنوز وصاحب النبأ، وطابور النفاق الطويل وصناع الأهواء والأصنام ، ولم يكن في ذاكرة هؤلاء قول موسى : ( فينظر كيف تعملون ) وتطورت مسيرة الانحراف لتنتج في النهاية كتبا وإن كانت لا تخلو من حق إلا أنها في خطوطها العرضية لا تحمل إلا ملامح سماوية باهتة وهذه الكتب وقف وراءها فقهاء السوء يدعون الناس لطريق الطمس ، حيث علوم فقه التحقير الذي وضعه قوم نوح وعلى طريقه استؤصلوا، وعلوم فقه الغطرسة الذي وضعته عاد وعلى طريقه جاءتهم الرياح ، وعلوم فقه الجحود الذي وضعته ثمود وعلى سبيله جاءتهم الصيحة، وعلوم فقه اللواط الذي وضعه قوم لوط وعلى طريقه ضربتهم حجارة من سجيل منضود ، وعلوم فقه اللصوصية الذي دونه أهل مدين وأصحاب الأيكة وعلى طريقه ضربتهم الصيحة ، وجاءتهم الظلة ، لقد عمل فقهاء الانحراف داخل الحي الإسرائيلي من أجل تغليب الشذوذ ورفع رايات الأهواء على امتداد طريق الانحراف، وتم توفير القنابل الذرية لحماية هذا الطريق .
  ولكن نهاية الطريق قد أخبرنا الله عنها ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) (1) ( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ )(2) .

-------------------------------
(1) سورة النور ، الآية : 39 .
(2) سورة العنكبوت ، الآيات : 41 ـ 43 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 313 _
  النبي الخاتم ( صلى الله عليه وآله وسلم )
  ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) سورة الأعراف ، الآية : 158

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 315 _
  النبي الخاتم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والقافلة البشرية
الحجة البالغة

  مقدمة :
  قبل البعثة المحمدية ، كانت القافلة البشرية تعيش أحط أدوارها ، فالقرن السادس الميلادي كان قد طفح بعرق الإنحراف ووصف بأنه كان من أشد القرون ظلاما ، حيث ادعى الجبابرة في رقع كثيرة من العالم الحق الإلهي وعلى هذا ملأوا العالم ظلماء وخرجوا يبحثون بمخالبهم وأنيابهم عن فريسة من نبي الإنسان ليقتلوه أو يسبوه خلال حروبهم ، التي أشعلوها من أجل مزيد من الشهوات والأهواء ، قبل البعثة خرج أصحاب بيوت العنكبوت التي ليس لها من آثار البيت إلا اسمه بعد أن وجدوا أن البيت لا يدفع حرا ولا بردا ولا يقي من مكروه !
  خرجوا ليبحثوا عن بيوت أخرى وكلما انتهوا إلى بيت وجروه كبيوتهم ! وهكذا دارت جحافل الظلام في حلقة مفرغة ، من بيت سوء ! ومن أولياء ليس لهم من الولاية إلا الاسم فقط لا ينفعون ولا يضرون ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا ، إلى أولياء لم يتخصصوا إلا في بناء بيوت كبيوت العنكبوت ! كانت الوثنية قد رفعت أعلامها على بلاد الروم واليونان والهند والفرس ومصر وسوريا وغير ذلك من البلاد ، وتحت ظل الوثنية أطيح بسنة العدل الإجتماعي ، وأنت الفطرة تحت أحمال غليظة ، وقام فقهاء الانحراف بتقديم ثقافة تفقد الإنسان رشده وقوة تمييزه بين الخير والشر ، فلم يعرف في عالمهم

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 316 _
  الحسن من القبيح ، وكيف يعرف من ألقى مقياس المعرفة الفطرية وراء ظهره وانطلق مسرعا إلى عالم الضلال الذي لا يفلج من سار على طريقه أبدا ، فتحت رايات الوثنية في الإمبراطورية الرومانية الشرقية ، كان الإنسان أرخص شيئا على أرضها ، كانوا يدفعون بالرقيق إلى حلبات المصارعة كي يصارع إنسان مثله حتى الموت أو يصارع السباع ! وكل هذا من أجل أن يدخلوا السرور على شريف من أشرف القوم بع عناء يوم عمل ، كانت حياة سادتهم وكبرائهم عبارة عن المجون والترف ، والمؤامرات والمجاملات الزائدة والقبائح والعادات السيئة ، كان هم الجميع هو اكتساب المال من أي وجه ، فهناك من احترف قطع الطرق لسرقة الأفراد وهناك من احترف قطع الطرق لسرقة الشعوب ، أما أوروبا فكانت تعيش في ظلام الجهل والأمية والحروب الدامية وكانت بعيدة عن قافلة الحضارة التي شيدها الناس من حولهم ، كان لا شأن للعالم بها ولا شأن لها بالعلم ، وكانت أجسامهم قذرة ورؤوسهم مملوءة بالأوهام ، وكان الرهبان هناك يبحثون في أن المرأة حيوان أم إنسان ؟ ولها روح خالدة أم ليس لها روح خالدة ، وأن لها حق الملكية والبيع والشراء أم ليس لها شئ من ذلك ، ويقول روبرت برفلوت : لقد أطبق على أوروبا ليل حالك من القرن الخامس إلى القرن العاشر ، وكان هذا الليل يزداد ظلاما وسوادا ، وكانت همجية ذلك العهد أشد هولا وأفظع من همجية العهد القديم ، لأنها كانت أشبه بجثة حضارة كبيرة قد تعفنت ... وقد كانت الأقطار الكبيرة التي ازدهرت فيها الحضارة وبلغت أوجها في الماضي كإيطاليا وفرنسا ، فريسة الدمار والفوضى والخراب (1) أما الهند فكانت قبل عصر البعثة المحمدية قد احترفت صنع الآلهة وذكر صاحب كتاب الهندوكية السائدة ، بأنهم ألحقوا بالديانة الهندوكية عددا من الآلهة قد بلغ ( 330 مليون ) إله !! وفي ظل هذه الآلهة رتعت عقائد التثليث والتجسد والحلول وجميع معالم الانحراف ، وفي بلاد فارس أقيمت للناس المعابد العديدة ! وفي بلاد العراق أقيمت المعابد للكواكب والأوثان ! أما العرب فقد انغمسوا في الوثنية بأبشبع أشكالها ، فكان لكل قبيلة أو ناحية أو مدينة صنم خاص ، بل لكل بيت صنم خاص ، وكان في جوف

-------------------------------
(1) السيرة النبوية / الندوى : ص 9 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 317 _
  الكعبة وفنائها ثلاثمائة وستون صنما ، وتدرجوا من عبادة الأصنام والأوثان إلى عبادة الحجر من أي جنس مان ، وكانت لهم آلهة من الملائكة والجن والكواكب ، وكانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله ! وأن الجن شركاء الله ! واعتقدوا أن هؤلاء لهم مشاركة في تدبير الكون ! وقدرة ذاتية على النفع والضرر والإيجاد والإفناء ! فآمنوا بقدرتهم وتأثيرهم وعبدوهم (1) وعلى أرض العرب وبالتحديد في مكة كان العديد من علماء أهل الكتاب يقيمون فيها أو حولها انتظارا لظهور النبي الموصوف عندهم في كتبهم والذي يعرفونه كما يعرفون أبناءهم نظرا لدقة الوصف الذي وصفه لهم الأحبار والرهبان الذين أؤتمنوا على ما أخفاه من الكتاب ، وبالجملة كانت القافلة البشرية في حاجة إلى مشعل هداية بعد أن سقطت أطروحات الأصنام في الأوحال العميقة، مشعل هداية يهدي إلى صراط الله المستقيم ، وجاء النبي الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد أن جفت الحكمة وجف العلم من آنية أهل الكتاب .

   أولاً : وجاء النور الهادي :
  1 ـ من صفاته عند أهل الكتاب :

  كان (عليه السلام ) أميا ، والأمي هو الذي لا يقرأ ولا يكتب ، قال القرطبي في تفسيره : ( جاء في التوراة أن الله قال لموسى بن عمران ) ( إني أقيم لبني إسرائيل من إخوتهم نبي مثلك ، اجعل كلامي على فيه ، فمن عصاه انتقمت منه ) فمن إخوة بني إسرائيل ؟ فلا محالة أنهم العرب أو الروم ، فأما الروم فلم يكن منهم نبي سوى أيوب وكان قبل موسى بزمان ، فلا يجوز أن يكون هو الذي بشرت به التوراة ، فلم يبق إلا العرب ، فهو إذن محمد (عليه السلام ) ، وقد قال في التوراة حين ذكر إسماعيل جد العرب ( إنه يضع فسطاطه في وسط بلاد إخوته ) فكني عن بني إسرائيل بأخوة إسماعيل ، كما كني عن العرب بأخوة بني إسرائيل في قوله : ( إني أقيم لبني إسرائيل من إخوتهم نبي مثلك ) ويدل ذلك أيضا قوله :

-------------------------------
(1) السيرة النبوية / الندوى : ص 11 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 318 _
  ( اجعل كلامي على فيه ) وتلقيناه من فلق فيه (1) واليهود يطلقون على أي أمة غير أمتهم لقب ( الأمة الأمية ) وفي ذلك يقول تعالى : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا ) (2) ، فالنبي الأمي ليس من الحي الإسرائيلي ، وإما هو من بني إسماعيل ، ووصفه بالأمي لا ينطبق إلا عليه ، لأن المسيح ابن مريم (عليه السلام ) كان قارئا وكاتبا ، ففي إنجيل لوقا ( وجاء إلى الناصرة حيث كان قد تربى ودخل المجمع حسب عادته يوم السبت وقام ليقرأ ) ( لوقا 4 / 16 ) وفي إنجيل ( وأما يسوع فانحنى إلى أسفل وكان يكتب ) ( يوحنا 8 / 6 ) وكان (عليه السلام ) رسولا إلى بني إسرائيل ، البشارات بنبي الإسلام في التوراة والإنجيل صنف فيها كتب كثيرة .

  2 ـ من خصائصه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) :
  اختصه الله بعموم الدعوة للناس كافة قال تعالى : ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) (3) وقال تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) (4) ، قال المفسرون : إن في مدلول الآية حجة على التوحيد ، وذلك أن الرسالة من لوازم الربوبية ، التي شأنها تدبير الناس في طريق سعادتهم وسيرهم إلى غايات وجودهم ، فعموم رسالته (صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وهو رسول الله تعالى لا رسول غيره ، دليل على أن الربوبية منحصرة في الله تعالى ، فلو كان هناك رب غيره ولجاءهم رسوله ، ولم يعم رسالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) أو عمتهم ، واحتاجوا معه إلى غيره ، ويؤيده ما في ذيل الآية من قوله : ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) فإن دالة انحصار الرسالة في رسل الله على انحصار الربوبية في الله عز اسمه ، أمس بجهل الناس من كونه (صلى الله عليه وآله وسلم ) رسولا كافا لهم عن المعاصي بشيرا ونذيرا ، فمفاد الآية : لا يمكنهم أن يروك شريكا له ، والحال أنا لم نرسلك إلا كافة لجميع الناس بشيرا ونذيرا ، ولو كان لهم إله غيرنا ، لم يسع لنا أن نرسلك إليهم وهم

-------------------------------
(1) البشارة نبي الإسلام / أحمد حجازي السقا : ص 226 / 1 ط دار البيان .
(2) سورة آل عمران ، الآية : 75 .
(3) سورة الأعراف ، الآية : 158 .
(4) سورة سبأ ، الآية : 28 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 319 _
  عباد لإله آخر ، والله أعلم (1)، ونزول القرآن الكريم على رسول الله بلسان عربي ، لا ينافي عموم دعوته لعامة البشر ، لأن دعوته كانت مرتبة على مراحل ، فأول ما دعى دعى الناس بالموسم فقوبل بإنكار شديد منهم ، ثم كان يدعو بعد ذلك سرا مدة ، ثم أمر بدعوة عشيرته الأقربين كما يشير إليه قوله تعالى : ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) (2) ، ثم أمر بدعوة قومه كما يشير إليه قوله تعالى : ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) (3) ثم أمر بدعوة الناس عامة كما يشير إليه قوله تعالى : ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) (4) وقوله : ( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ) (5) والدليل على عموم الدعوة، إنه كان من المؤمنين به سلمان وكان فارسيا ، وبلال وكان حبشيا ، وصهيب وكان روميا ، وفي الحديث قال (صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( أنا سابق العرب ، وصهيب سابق الروم، وسلمان سابق الفرس، وبلال سابق الحبشة ) (6) وبعد استقرار الدعوة أخذ صلى الله عليه وآله وسلم يدعو اليهود والنصارى والمجوس وكاتب العظماء والملوك في إيران ومصر والحبشة والروم ، وروي أنه (صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : ( بعثت إلى الأحمر والأسود ) (7) وقال : ( أنا رسول من أدركت حيا ومن يولد بعد ) (8) وقال : ( ما من أحد يسمع بي من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني فلا يؤمن بي إلا دخل النار ) (9) وقال : ( أنا النبي الأمي الصادق الزكي، الويل كل الويل لمن كذبني وتولى عني وقاتلني ... ) (10) وقال : ( إن الله بعثني بتمام

-------------------------------
(1) الميزان : 377 / 16 .
(2) سورة الشعراء ، الآية : 214 .
(3) سورة الحجر ، الآية : 94 .
(4) سورة الأعراف ، الآية : 158 .
(5) سورة الأنعام ، الآية : 19 .
(6) رواه الحاكم ( كنز العمال 644 / 11 ) .
(7) رواه ابن سعد ( كنز العمال 445 / 11 ) .
(8) رواه ابن سعد .
(كنز العمال 404 / 11 ) .
(9) رواه الحاكم ( كنز العمال 453 / 11 ) .
(10) رواه ابن سعد ( كنز العمال 403 / 11 ) .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 320 _
  مكارم الأخلاق وكمال محاسن الأعمال ) (1) وقال : ( إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق ) (2) وقال : ( أنا رحمة مهداة ) (3) وقال : ( إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ودينكم واحد ونبيكم واحد ، ولا فضل لعربي على عجمي ، ولا عجمي على عربي ، ولا أخمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى ) (4) .
ومن خصائصه أن الله تعالى فرض طاعته على العالم فرضا مطلقا لا شرط فيه ولا استثناء قال تعالى : ( وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ) (5) وآيات القرآن في هذا المقام عديدة ، كما جعل الله أتباع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) شرط في حب الله سبحانه وتعالى ، قال تعالى : ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ) (6) قال المفسرون : إن حب الشئ يقتضي حب جميع ما يتعلق به .
  ويوجب الخضوع والتسلم لكل ما هو في جانبه ، والله سبحانه هو الله الواحد الأحد ، الذي يعتمد عليه كل ما شئ في جميع شؤون وجوده ويبغي إليه الوسيلة ويصير إليه كل ما دق وجل ، فمن الواجب أن يكون حبه والإخلاص له بالتدين بدين التوحيد وطريق الإسلام ، وهذا هو الذين الذي ينسب إليه سفرائه ، ويدعو إليه أنبيائه ورسله ، وخاصة دين الإسلام الذي فيه من الإخلاص ما لا إخلاص فوقه .
  وهو الدين الفطري الذي يختم به الشرائع وطرق النبوة ، كما يختم بصادعه صلى الله عليه وآله وسلم الأنبياء عليهم السلام ، وقد عرف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) سبيله الذي سلكه بسبيل التوحيد ، طريقة الإخلاص على ما أمره الله تعالى حيث قال : ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ

-------------------------------
(1) رواه الطبراني في الأوسط ( كنز 425 / 11 ) .
(2) رواه ابن سعد والحاكم ( كنز 425 / 11 ) .
(3) رواه ابن سعد الحاكم ( كنز 425 / 11 ) .
(4) رواه ابن النجار ( كنز 484 / 11 ) .
(5) سورة النساء ، الآيتان : 13 ـ 14 .
(6) سورة آل عمران ، الآية : 31

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 321 _
  وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (1) فذكر أن سبيله الدعوة إلى الله على بصيرة والإخلاص لله من غير شرك ، فسبيله دعوة وإخلاص ، واتباعه واقتفاء أثره ، إنما في ذلك صفة من اتبعه ، ثم ذكر الله سبحانه أن الشريعة التي شرعها له (صلى الله عليه وآله وسلم ) هي الممثلة لهذا السبيل سبيل الدعوة والإخلاص فقال : ( ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعا ) (2) وذكر أيضا أنه إسلام لله حيث قال : ( فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ) (3) ثم نسبه إلى نفسه وبين أنه صراط المستقيم فقال : ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ) (4) فتبين بذلك كله أن الإسلام ـ وهو الشريعة المشرعة للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، الذي هو مجموع المعارف الأصلية والخلقية والعملية وسيرته في الحياة ـ هو سبيل الإخلاص عند الله سبحانه الذي يعتمد ويبتني على الحب ، فهو دين الإخلاص ، وهو دين الحب ، ومن جميع ما تقدم يظهر معنى الآية ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) فالمراد والله أعلم : إن كنتم تريدون أن تخلصوا لله في عبوديتكم بالبناء على الحب حقيقة ، فاتبعوا هذه الشريعة التي هي مبنية على الحب ، الذي ممثله الإخلاص والإسلام وهو صراط الله المستقيم الذي يسلك بسالكه إليه تعالى ، فإن اتبعتموني في سبيلي وشأنه هذا الشأن ، أحبكم الله وهو أعظم البشارة للمحب ، وعند ذلك تجدون ما تريدون ، وهذه هو الحب الذي يبتغيه محب بحبه (5) ، ومن خصائصه (صلى الله عليه وآله وسلم ) وصحبه وسلم أن من تقدمه من الأنبياء كانوا يدافعون عن أنفسهم ويردون على أعدائهم كقول نوح (عليه السلام ) : ( يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ) (6) وقول هود عليه

-------------------------------
(1) سورة يوسف ، الآية : 108 .
(2) سورة الجاثية ، الآية : 18 .
(3) سورة آل عمران ، الآية : 20 .
(4) سورة الأنعام ، الآية : 153 .
(5) الميزان : 159 / 3 .
(6) سورة الأعراف ، الآية : 61 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 322 _
  السلام : ( يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ) (1) وغير ذلك ، أما محمد (صلى الله عليه وآله وسلم ) فقد تولى تعالى تنزيهه عما نسبه إليه أعداؤه والرد عليهم فقال تعالى : ( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ ) (2) وقال تعالى : ( مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ) (3) وقال : ( مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ) (4) ، ومن خصائصه أن كتابه معجز ، ومحفوظ ، يسره الله تعالى للذكر ليفهمه العامي والخاصي والأفهام البسيطة والمتعمقة كل على مقدار فهمه قال تعالى : ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ) (5) قال المفسرون : والمعنى لقد سهلنا القرآن لأن يتذكر به ، فهل من متذكر فيؤمن بالله ويدين بما يدعو إليه الدين الحق ، والقرآن لا انحراف فيه في جميع الأحوال، ولا يقبل النسخ والإبطال والتهذيب والتغيير ، ووصف القرآن بالحكيم دليل على عدم وجود نقطة ضعف أو لهو الحديث فيه ، جميع المعارف الإلهية والحقائق الموجودة فيه تستند إلى حقيقة واحدة هي التوحيد ، قال تعالى :
  ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) (6) قال المفسرون : أي للملة التي هي أقوم كما قال تعالى : ( قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ) (7) وقد وصف الله سبحانه هذه الملة الحنيفة بالقيام كما قال : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) (8) وقال : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ ) (9) وذلك لكون هذا الدين مهيمنا على ما فيه خير دنيا هم وآخرتهم قيما على إصلاح حالهم في معاشهم ومعادهم وليس إلا لكونه موافقا لما

-------------------------------
(1) سورة الأعراف ، الآية : 67 .
(2) سورة يس ، الآية : 69 .
(3) سورة القلم ، الآية : 2 .
(4) سورة النجم ، الآيتان : 2 ـ 3 .
(5) سورة القمر ، الآية : 22 .
(6) سورة الإسراء ، الآية : 9 .
(7) سورة الأنعام ، الآية : 161 .
(8) سورة الروم ، الآية : 30 .
(9) سورة الروم ، الآية : 43 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 323 _
  تقتضيه الفطرة الإنسانية (1) ، والقرآن الكريم لا يجد الباطل طريقا إليه قال تعالى : ( وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ) (2) قال المفسرون : لا ينبغي لهم أن يتنزلوا به ، إنهم خلق شرير لا هم لهم إلا الشر والفساد والأخذ بالباطل وتصويره في صورة الحق ليضلوا به عن سبيل الله ، والقرآن حق لا سبيل للباطل إليه ، فلا يناسب جبلتهم الشيطانية أن يلقوه إلى أحد (ما يستطيعون ) أي وما يقدرون على التنزل به ، لأنه كتاب سماوي تتلقاه الملائكة من رب العزة فينزلونه بأمره في حفظ وحراسة منه تعالى : ( إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ) أي أن الشياطين عن سمع الأخبار السماوية والاطلاع على ما يجري في الملأ الأعلى معزولون ، حيث يقذفون بالشهب الثاقبة لو تسمعوا (3) والله تعالى تحدى بالقرآن الإنس والجن أن يأتوا بمثله فقال : ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) (4) وعندما عجزوا أن يأتوا بمثله تحدى أن يأتوا بعشر سور من مثله قال تعالى : ( قل فأتوا بعشر سور مثله ( مفتريات ) (5) وعندما عجزوا تحدى أن يأتوا بسورة واحدة قال تعالى : ( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ) (6) قال المفسرون : في الآيات ظاهرة في دوام التحدي، وقد انقرضت العرب العرباء أعلام الفصاحة والبلاغة اليوم ، فلا ترى أثرا منهم ، والقرآن باق على إعجازة متحد بنفسه كما كان (7)، ومن خصائصه (صلى الله عليه وآله وسلم ) أن الله جعل أهل بيته عليهم السلام طرفا أصيلا مع القرآن وأنهم والقرآن لن يفترقا حتى يرد عليه الحوض ففي

-------------------------------
(1) الميزان : 47 / 13 .
(2) سورة الشعراء ، الآيات 210 ـ 212 .
(3) الميزان : 328 / 15 .
(4) سورة الإسراء ، الآية : 88 .
(5) سورة هود ، الآية : 13 .
(6) سورة البقرة ، الآية : 23 .
(7) الميزان : 201 / 13 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 324 _
  الحديث : ( أذ إني تارك فيكم الثقلين أحداهما أكبر من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض ) (1) وأن الله تعالى طهر أهله بيته الذين ارتبطوا بالقرآن تطهيرا قال تعالى : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا )(2) كما أجب الله تعالى مودة قرابة رسول الله في قوله تعالى : ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (3) وسيأتي الحديث عن أهل البيت فيما بعد مفصلا ، وخصائص النبي الأعظم عديدة نكتفي بما أوردناه منها .

  3 ـ من صفاته (عليه الصلاة والسلام ) :
  قال الحسين بن على عليهما السلام قال : سألت خالي هند بن أبي هالة وكان وصافا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وأنا أشتهي أن يصف لي منه شيئا لعلي أتعلق به فقال : ( كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فخما مفخما يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر أطول من المربوع (4) وأقصر من المشذب (5) ، عظيم الهامة ) ، إلى أن قال : ( أزهر اللون واسع الجبين ، أزج الحواجب سوابغ في غير قرن وبينهما عرق يدره القضب له نور يعلوه يحسبه من يتأمله أشم ) إلى أن قال : ( إذا مشى كأنما ينحط من صبب ، وإذا التفت التفت جمعيا ، خافض الطرف ، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء ، جل نظره الملاحظة ، يبدأ من لقيه بالسلام ) وما أوردناه من الصفات يوجد بتمامه في تفاسير أهل الكتاب ، ثم قال الحسن فقلت له : صف لي منطقه ، فقال : كان ( صلى الله عليه وآله وسلم ) متواصل الأحزان ، دائم الفكر ، ليس له راحة ، طويل الصمت لا يتكلم في غير حاجة ... يتكلم بجوامع الكلم فصلا فصلا لا فضول فيه ولا تقصير ، دمثا ليس بالجافي ولا بالمهين ... وعن الحسين (عليه السلام ) قال سألت أبي عن مجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال : ( كان يجلس

-------------------------------
(1) رواه الإمام أحمد ( الفتح الرباني 186 / 1 ) .
(2) سورة الأحزاب ، الآية : 33 .
(3) سورة الشورى ، الآية : 23 .
(4) المربوع : الذين بين الطويل والقصير .
(5) المشذب : الذي لا كثير لحم على بدنه .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 325 _
  ولا يقوم إلا على ذكر ، لا يوطن الأماكن وينهى عن إبطانها (1) إذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ويأمر بذلك ، ويعطي كل جلسائه نصيبه ، ولا يحسب أحد من جلسائه أن أجدا أكرم عليه منه ، من جالسه صابره حتى يكون هو المنصرف ، من سأله حاجة لم يرجع إلا بها أو بميسور من القول ، قد وسع الناس منه خلقه فصار لهم أبا ، وكانوا عنده في الحق سواء ، مجلسه مجلس حلم وحياء وصدق وأمانة ، لا ترفع فيه الأصوات ، ولا يؤمن فيه الحرم (2) ، ولا تثنى فلتاته (3) متعادلين ، متواصلين فيه بالتقوى ، متواضعين ، يوقرون الكبير ، ويرحمون الصغير ، ويؤثرون ذا الحاجة ، ويحفظون الغريب ، قال الحسين (عليه السلام ) فقلت : كيف كانت سيرته ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في جلسائه ؟ فقال :
  كان (صلى الله عليه وآله وسلم ) دائم البشر (4) ، سهل الحلق ، لين الجانب ، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب (5) ولا فحاش ولا عياب ، ولا مداح ، يتغافل عمالا يشتهي فلا يؤيس منه ولا يخيب منه مؤمنيه ، قد ترك نفسه من ثلاث : المراء والإكثار وما لا يعنيه ، وترك الناس من ثلاث : كان لا يذم أحدا ولا يعيره ، ولا يطلب عثراته ولا عوراته ، ولا يتكلم إلا فيما رجى ثوابه ، وإذا تكلم أطرق جلساؤه كان على رؤوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا ، ولا يتنازعون عنده الحديث ، من تكلم انصتوا له حتى يفرغ حديثهم عنده حديث أوليتهم (6) ، يضحك مما يضحكون منه ، ويتعجب مما يتعجبون منه ، ويصبر للغريب على الجفوة في مسألته ومنطقه ، حتى إن كان أصحابه يستجلبونهم (7) ، ويقول : إذا رأيتم طالب الحاجة يطلبها فارفدوه ، ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ (8) ، ولا يقطع على أحد (،)

-------------------------------
(1) أي لا يعين لنفسه مجلسا خاصا بين الجلساء حذرا من القصور .
(2) أي لا تعاب عنده حرمات الناس .
(3) أي إذا وقعت فيه عثرة من أحد جلسائه بينها لهم ليحذروا من الوقوع فيها ثانيا .
(4) البشر : بشاشة الوجه .
(5) الصخاب : الشديد الصياح .
(6) أي كانوا يتكلمون عنده الواحد بعد الآخر بالتناوب من غير أن يداخل أحدهم كلام الآخر .
(7) أي يريدون جلبهم عنه وتخليصه منهم .
(8) أي في مقابل نعمة أنعمها على أحدهم وهو الشكر الممدوح .