|
ينطبق على كل واحد من الثلاثة ، وهذا لازم قولهم أن الأب إله ، ولابن إله والروح إله ، وهو ثلاثة ! وهو وحد ! يضاهئون بذلك نظير قولنا : إن زيد بن عمرو إنسان ، فهناك أمور ثلاثة هي : زيد وابن عمرو والإنسان ، هناك أمر واحد هو المنعوت بهذه النعوت ، وقد غفلوا عن هذه الكثرة إن كانت حقيقة غير اعتبارية ، أوجبت الكثرة في المنعوت حقيقة ، وأن المنعوت إن كان واحدا حقيقة أوجب ذلك أن تكون الكثرة اعتبارية غير حقيقة ، فالجمع بين هذه الكثرة العددية والوحدة العددية ، في زيد المنعوت بحسب الحقيقة ، مما يستنكف العقل عن تعقله ، ولذا ربما ذكر بعض الدعاة من النصارى أن مسألة التثليث من المسائل المأثورة ، من مذاهب الأسلاف ، التي لا تقبل الحل بحسب الموازين العلمية .
ولم يتنبه أن عليه أن يطالب الدليل على كل دعوى يقرع سمعه ، سواء كان من دعاوي الأسلاف أو من دعاوي الأخلاف ،
وقوله : ( وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ ) فالمعنى : ليس في الوجود شئ من جنس الإله أصلا إلا إله واحد نوعا من الوحدة لا يقبل التعدد أصلا ، لا تعدد الذات ولا تعدد الصفات لا خارجا ولا فرضا ، إن الله سبحانه لا يقبل بذاته المتعالية الكثرة بوجه من الوجوه ، فهو تعالى في ذاته واحد ، وإذا اتصف بصفاته الكريمة وأسمائه الحسنى ، لم يزد ذلك على ذاته الواحدة شيئا ، ولا الصفة إذا أضيفت إلى الصفة، أورث ذلك كثرة وتعددا فهو تعالى إحدى الذات لا ينقسم لا في الخارج ولا في وهم ولا في عقل ، فليس الله سبحانه ، بحيث يتجزأ في ذاته إلى شئ وشئ قط ، ولا أن ذاته بحيث يجوز أن يضاف إليه شئ فيصير اثنين أو أكثر ، كيف ؟ وهو تعالى مع هذا الشئ الذي تراد إضافته إليه تعالى في وهم أو فرض أو خارج ، فهو تعالى واحد في ذاته لكن لا بالواحدة العددية ، التي لسائر كيف ؟ وهذه الواحدة العددية والكثرة المتألفة منها كلتاهما من آثار صنعه وإيجاده ، فكيف يتصف بما هو من صنعه ؟ (1) ، وقوله : ( وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ
-------------------------------
(1) الميزان : 71 / 6 .
الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 302 _
أَلِيمٌ ) فالمعنى : ولما كان القول بالتثليث ليس في وسع عقول العامة أن تتعقله ، فأغلب النصارى ، يتلقونه قولا مذهبيا مسلما بلفظه من غير أن يعقلوا معناه ، ولا أن يطمعوا في تعلقه ، وبما أنه ليس في وسع العقل السليم أن يعقله عقلا صحيحا .
كان هناك من النصارى من لا يقول بالتثليث ، ولا يعتقد في المسيح إلا أنه عبد الله ورسوله ، كما كانت على ذلك مسيحيوا الحبشة وغيرها وعلى ما يضبطه التاريخ فقوله : ( لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ ) أي لئن لم ينته النصارى عما يقولون ـ نسبه قول بعض الجماعة إلى جميعهم ـ ليمسن الذين كفروا منهم ـ وهم القائلون بالتثليث منهم ـ عذاب أليم ، ( أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) تخصيص على التوبة والاستغفار ، وتذكير بمغفرة الله ورحمته ، أو إنكار ، أو توبيخ .
لقد توجهت آيات القرآن إلى الكتاب تدعوهم إلى الإيمان قبل أن يطمس الله وجوههم ويسيروا وقد ختم الله على قلوبهم نحو الدجال ، لا ينفعهم إيمان إذا جاء بأس الله ، ولا يأذن الله لناصر ينصرهم بالهداية ، قال تعالى : ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ) (1) قال المفسرون : وأنتم تشهدون ، الشهادة هي الحضور والعلم عن حس ، دلالة على أن المراد بكفرهم بآيات الله : إنكارهم كون النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هو النبي الموعود الذي بشربه في التوراة والإنجيل ، مع مشاهدتهم انطباق الآيات والعلائم المذكورة فيهما عليه (2) ، وقال تعالى : ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (3) قال المفسرون : كانوا يخفون آيات النبوة وبشارتها ، وكانوا يخفون حكم الرجم ، وأما عفوه عن كثير ، فهو تركه كثيرا مما كانوا يخفونه من الكتاب ، ويشهد بذلك الاختلاف الموجود في
-------------------------------
(1) سورة آل عمران ، الآية : 70 .
(2) الميزان : 256 / 3 .
(3) سورة المائدة ، الآيتان : 15 ـ 16 .
الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 303 _
الكتابين ، كاشتمال التوراة على أمور في التوحيد والنبوة ، لا يصح استنادها إليه تعالى ، كالتجسم والحلول في المكان ونحو ذلك ، وما لا يجوز العقل نسبة إلى الأنبياء الكرام من أنواع الكفر والفجور والزلات ، وكفقدان التوراة ذكر المعاد من رأس ، ولا يقوم دين على ساق إلا بمعاد ، وكاشتمال ما عندهم من الأناجيل ولا سيما إنجيل يوحنا على عقائد وثنية وقوله : ( قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ) المراد بالنور والكتاب المبين القرآن ، وقد سمى الله تعالى القرآن نورا في موارد من كتابه ، ومن المحتمل أن يكون المراد بالنور النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وقد عده الله تعالى نورا في قوله : ( وسراجا منيرا ) (1) .
وقوله : ( يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ ) قيد فيه تعالى قوله : ( يهدي به الله ) بقوله : ( مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ ) ويؤول إلى اشتراط فعلية الهداية الإلهية باتباع رضوانه ، ومعنى الآية والله أعلم: يهدي الله سبحانه ويورد بسبب كتابه أو بسبب نبيه ، من اتبع رضاه سبلا من شأنها أنه يسلم من سار فيها من شقاء الحياة الدنيا والآخرة ، وكل ما تتكدر به العيشة السعيدة ، فأمر الهداية إلى السلام والسعادة يدور مدار اتباع رضوان الله ، وقد قال تعالى : ( وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ) (2) وقال : ( فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ) (3) ويتوقف بالآخرة على اجتناب سبيل الظلم والإنخراط في سلك الظالمين ، وقد نفى الله سبحانه عنهم هدايته ، وآيسهم من نيل هذه الكرامة الإلهية بقوله : ( وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (4) فالآية أعني قوله : ( يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ ) تجري مجري قوله : ( الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ) (5) .
وقوله : ( وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ ) معنى إخراجهم بإذنه : إخراجهم بعلمه ... لقد دعاهم الرسول الأكرم إلى النور والمغفرة قال
-------------------------------
(1) سورة الأحزاب ، الآية : 46 .
(2) سورة الزمر ، الآية : 7 .
(3) سورة التوبة ، الآية : 96 .
(4) سورة الجمعة ، الآية 5 .
(5) الأنعام ، الآية : 82 .
الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 304 _
تعالى ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ) (1) قال المفسرون : المراد بالتقوى بعد الإيمان ، التورع عن محارم الله واتقاء الذنوب التي تحتم السخط الإلهي وعذاب النار ، وهي الشرك بالله وسائر الكبائر الموبقة التي أوعد الله عليها النار وقوله :
( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ ) المراد بالتوراة والإنجيل الكتابان السماويان اللذان يذكر القرآن أن الله أنزلهما على موسى وعيسى عليهما السلام ، دون ما بأيدي القوم من الكتب التي يذكر أنه لعبت بها يد التحريف والظاهر أن المراد بما أنزل إليهم من ربهم سائر الكتب المنسوبة إلى الأنبياء الموجودة عندهم كمزامير داوود وغيره وقوله : ( لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ) المراد بالأكل التنعم مطلقا ، والمراد من فوقهم هو السماء ومن تحت أرجلهم هو الأرض،
والآية من الدليل على أن الإيمان والعمل الصالح له تأثير في صلاح النظام الكوني،
من حيث ارتباطه بالنوع الإنساني، فلو صلح النوع الإنساني، صلح نظام الدنيا ، من حيث إيفائه باللازم لحياة الإنسان السعيدة من اندفاع النقم ووفور النعم ، لقد عرض عليهم القرآن الإيمان بالرسول صلى عليه وآله وسلم ، كي يركبوا طريق الهداية ، ثم عرض عليهم أن يقيموا التوراة والإنجيل اللذان يذكر القرآن أن الله أنزلهما على موسى وعيسى عليهما السلام، ففي حالة ظهورهما سيقطعون أقرب الطرق للإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيؤمنون به عن طريق كتبهم ، لأنه موصوف فيها ، وكان اليهود والنصارى ينشرون بينهم وفي العالم خبر نبوته كما قال تعالى : ( كَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ ) (2) قال المفسرون : أي قبل مجئ النبي بالقرآن كانوا بمجيئه على أعدائهم من المشركين إذا قاتلوهم ويقولون أنه سيبعث نبي أخر الزمان ، نقتلكم معه قتل عاد وإرم (3)
-------------------------------
(1) سورة المائدة ، الآيتان : 65 ـ 66 .
(2) سورة البقرة ، الآية : 89 .
(3) ابن كثير : 124 / 1 .
الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 305 _
فلما جاءهم عرفوا أنه هو انطباق ما كان عندهم من أوصاف عليه كفروا (1)، وقد روي أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : ( لو آمن بي عشرة من أحبار اليهود لآمن بي كل يهودي على وجه الأرض ) (2) أي لو صدق برسالتي وما جئت به عشرة من علماء اليهود ورؤسائهم الذين يقتدى بهم ، لقادوا سائرهم إلى الدخول في الإسلام.
لقد كان النبي يريد أن يؤمن قادة اليهود ، ولكن قادة اليهود انطلقوا في عالم الطمس يتبعهم الظالمون من النصارى ، ولن يغني عنهم إيمانهم بأنبياء بني إسرائيل ، لأنهم فرقوا بين الله ورسله ، فقالت اليهود آمنا بموسى ، ثم كفروا بعيسى ومحمد ، والتوراة التي بأيديهم لا تحمل إلا ملامح باهتة عن موسى .
وقالت النصارى آمنا بموسى وعيسى وكفروا بمحمد ، والأناجيل التي بأيديهم منسوبة إلى تلاميذ يؤرخون لحياة المسيح وما وقع بينه وبين اليهود، وهي أولا لا تتفق فيما بينها في كثير من المعاني، وثانيا فإنها تقول بالتثليث بينا التوراة لا تقول به ، وهكذا فرقوا بين الله ورسله وكتبه ، وحكم الله حكمه الحق بأنهم كافرون بالله ورسله جميعا ، قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا * وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ) (3) فالكفر بالبعض والإيمان بالبعض ، ليس إلا تفرقة بين الله ورسله ، ولا سبيل إلى الله إلا الإيمان به وبرسله جميعا ، فإن الرسول ليس له من نفسه شئ ، ولا له من الأمر من شئ ، فالإيمان به إيمان بالله ، والكفر به كفر بالله ، لقد كانت الرسالة المحمدية هي الباب الأخير الذي بدخوله ينجوا بني إسرائيل من العذاب الذي دق أوتاده سلفهم حول العجل يوما ما ، كان الإسلام الذي جاء به محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هو طوق النجاة الذي ينشلهم من
-------------------------------
(1) الميزان : 222 / 1 .
(2) رواه محمد وأبو داود ـ الفتح الرباني : 102 / 1 .
(3) سورة النساء ، الآيات : 150 ـ 152 .
الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 306 _
بحار الفتن التي أدلى فيها سلفهم كل واحد منهم بدلوه المحمل بالشذوذ والانحراف ، ولكن أصحاب الأيدي الخفية أولئك الذين يعملون من قديم من أجل تأصيل الشذوذ عملوا بكل جهد من أجل أن تسير مسيرة الفساد في اتجاه الدجال ، ولأن الإسلام لا يكره أحد على اتباعه ، تركهم الله في طريقهم ، وختم على قلوبهم بعد أن مهدوا لأنفسهم ودخلوا بأقدامهم تحت عذاب الطمس.
( رابعا ) : عذاب الطمس :
إن الإنسان سيد أعماله ، وبداية الضلال من الإنسان نفسه ، فليس للشيطان أية سلطة على الناس ، ولا يتمكن من إكراه الناس على المعصية ، إن الشيطان يزن الأعمال فقط ، ويدعوا الناس إلى الضلال فقط ، وعندما يلبي الإنسان الدعوة ، يضله الله عقابا لسوء اختياره ، ومعنى إضلال الله للعبد ، أن الله يقطع رحمته منه فينحرف باختياره ، بني إسرائيل شهدوا أكثر من آية مع أنبيائهم ، ووضعهم الله تحت ضربات الغزاة كي يتوبوا ويستغفروا ، لكنهم وهم في سبي الغزاة حرفوا التوراة وشكلوا جهازا دينيا يسهر على مصالح المسيح الدجال ، وواصلوا الانحراف حتى إنهم أحكموا القبضة على الأنبياء فقتلوهم .
وأحكموا القبضة على دعوة عيسى بعد أن رفعه الله، فربطوها بالتوراة والتوراة لا تعلم عنها شيئا ، وظلت القافة تسارع بالفساد في الأرض باختيارها حتى جاءهم الإنذار الإلهي القاصم ، قال تعالى :
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً ) (1) قال المفسرون : روي أن هناك من أسلم عندما سمع هذه الآية .
وقال : ( يا رب أسلمت ) مخافة أن تصيبه هذه الآية ، وقيل في طمس الوجوه الكثير ، فمن قائل : طمسها أن تعمى ، ومن قائل : جعل وجوههم من قبل أقفيتهم فيمشون القهقرى ، وقيل : ترد على أدبارها أي تمنع عن الحق (2) وقال صاحب الميزان : تعرضت الآية لليهود أو طائفة منهم ، فإنهم بإزاء ما خانوا الله
-------------------------------
(1) سورة النساء ، الآية : 47 .
(2) ابن كثير : 505 / 1 .
الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 307 _
ورسوله وأفسدوا صالح دينهم ، ابتلوا بلعن من الله لحق جمعهم وسلبهم التوفيق الإيمان إلا قليلا ، فعم الخطاب لجميع أهل الكتاب على ما يفيد قوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ) ودعاهم الله إلى الإيمان بالكتاب الذي نزله مصدقا لما معهم ، وأوعدهم بالسخط الذي يلحقهم ، لو تمردوا واستكبروا ، من طمس أو لعن يتبعانهم اتباعا لا ريب فيه ، وطمس الوجوه ، محو هذه الوجوه التي يتوجه بها البشر نحو مقاصدهم الحيوية ، مما فيه سعادة الإنسان المرتقبة والمرجوة ، وهذا المحو ليس هو الذي يوجب فناء الوجوه وزوالها ، بل محو يوجب ارتداد تلك الوجوه على أدبارها ، فإذا كانت الوجوه تقتصد مقاصدها على الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، فإن كانت الوجوه المطموسة لا تقصد إلا خلفته وراءها ولا تمشي إليه إلا القهقرى ، وهذا الإنسان الذي يسير في غير اتجاه الفطرة ، كلما توجه إلى ما يراه خيرا لنفسه وصلاحا لدينه أو لدنياه ، لم ينل إلا شرا وفسادا ، وكلما بالغ في التقدم زاد في التأخر وليس يفلح أبدا (1).
أما قوله تعالى : ( أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ ) فآيات أصحاب السبت هي التي تخبر عن مسخهم قردة وقد ألقينا عليهم بعض الضوء عند حديثنا عن القرية التي أصبحت أمام أمر الله ثلاث فرق ، وقال المفسرون: ( أو ) في قوله ( أو نلعنهم ) على ظاهرها من إفادة الترديد ، والفرق بين عيدين :
أن الأول الذي هو الطمس، يوجب تغيير مقاصد المغضوب عليهم من غير تغيير الخلقة إلا في بعض كيفياتها ، والثاني الذي هو اللعن كلعن أصحاب السبت،
يوجب تغيير المقصد ، بغيير الخلقة الإنسانية إلى خلقة حيوانية كالقردة ، فهؤلاء إن تمردوا عن امتثال ولم يؤمنوا برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، كان لهم إحدى سخطتين : إما طمس الوجوه ، وإما اللعن ، ولكن الآية تدل على أن السخطة لا تعمهم جميعا حيث قال تعالى : ( وجوها ) فأتى بالجمع المنكر ،
ولو كان المراد الجميع لم ينكر ، ولتنكير الوجوه وعدم تعيينها نكتة هي أن المقام لما كان مقام الإبعاد والتهديد ، وهو إبعاد للجماعة بشر ، لا يلحق إلا ببعضهم ،
كان إبهام الأفراد الذين يقع عليهم السخط الإلهي أوقع في الإنذار والتخويف ،
-------------------------------
(1) الميزان : 367 / 4 .
الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 308 _
لأن وصفهم على إبهامه ، يقبل الانطباق على كل واحد من القوم ، فلا يأمن أحدهم أن يمسه هذا العذاب ، وفي قوله تعالى : ( أو نلعنهم ) حيث أرجع فيه ضمير ( هم ) الموضوع الأولي العقل إلى قوله : ( وجوها ) كما هو الظاهر تلويحا أو تصريحا ، بأن المراد بالوجوه ، الأشخاص من حيث استقبالهم مقاصدهم وبذلك يضعف احتمال أن يكون المراد بطمس الوجوه وودها على أدبار تحويل وجوه الأبدان إلى الأقفية كما قال به البعض ويقوي ذلك احتمال أن المراد من تحويل الوجوه إلى الأدبار تحويل النفوس من حال استقامة الفكر وإدراك الواقعيات على واقعيتها إلى حال الاعوجاج والانحطاط الفكري ، بحيث لا يشاهد حقا إلا أعراض عنه واشمأز منه ولا باطلا إلا مال إليه وتولع به ، هذا نوع من التصرف الإلهي ، مقتا ونقمة ، نظير ما يدل عليه قوله تعالى : ( وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) (1) .
فتبين مما مر أن المراد بطمس الوجوه في الآية نوع تصرف إلهي في النفوس ، يوجب تغيير طباعها من مطاوعة الحق وتجنب الباطل ، إلى اتباع الباطل والاحتراز عن الحق في باب الإيمان بالله وآياته كما يؤيده صدر الآية : ( آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم ... ) ومن الممكن أن يقال : إن المراد به تقليب أفئدتهم وطمس وجوه باطنهم من الحق إلى نحو الباطل فلا يفلحون بالإيمان بالله وآياته ، ثم إن الدين الحق ، لما كان هو الصراط المستقيم ، الذي لا ينجح إنسان في سعادة حياته الدنيا إلا بركوبه والاستواء عليه ، وليس للناكب عنه إلا الوقوع في كانون الفساد ، والسقوط في مهابط الهلاك ، كما قال تعالى : ( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا ) (2) وقال تعالى : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم ) (3) ولازم هذه الحقيقة ، أن طمس الوجوه
-------------------------------
(1) سورة الأنعام ، الآية : 110 .
(2) سورة الروم ، الآية : 41 .
(3) سورة الأعراف ، الآية : 9 .
الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 309 _
عن المعارف الحقة الدينية ، طمس لها عن حقائق سعادة الحياة الدنيا بجميع أقسامها ، فالمحروم من سعادة الدين ، محروم من سعادة الدنيا ، من استقرار الحال وتمهد الأمن وكل ما يطيب به العيش ، وآية الطمس ختمها الله بقوله : ( وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ) أي أن الأمر لا محالة واقع (1) فأمره سبحانه لا يخالف ولا يمانع (2) .
باختصار عالم الطمس هو سير القطار بلا رجعة والله غني عن العالمين ، وفي عالم الطمس لن يفلحوا أبدا حتى ولو رفعوا أعلامهم على القمر وعلى جميع صناديق النقد الدولية ، عالم الطمس كلما ازداد أصحابه تقدما تأخروا لأنهم يسيرون عكس اتجاه الفطرة ونحو المسيح الدجال ، وتحت أقدامه يقفون يشكون الفقر والحاجة فيغذي أهواءهم ، إن مربع الشمس يعيش داخل مربع الضلالة .
فالضلالة هي التي تغذي قافلة الطمس ، ومن كان غذاؤه من الضلالة فلا أمل في شفائه ( قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا ) (3) قال المفسرون :
من كان في الضلالة ، تدل على استمرارهم في الضلالة ، لا مجرد تحقيق ضلالة ما بذلك يتم التهديد بمجازاتهم بالإمداد بما منه ضلالته ، كالزخارف الدنيوية .
فينصرف عن الحق حتى يأتيه أمر الله من عذاب أو ساعة فيظهر له الحق عند ذلك ، ولن ينتفع به ، قال تعالى : ( حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا ) (4) وهذا دليل على أن هذا المد خذلان في صورة إكرام ، والمراد به أن ينصرف عن الحق بالاشتغال بزهرة الحياة ، فلا يظهر له الحق إلا في وقت لا ينتفع به ، كما قال تعالى : ( فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ) (5) وقال : ( يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ
-------------------------------
(1) الميزان : 370 / 4 .
(2) ابن كثير : 208 / 1 .
(3) سورة مريم ، الآية : 75 .
(4) سورة مريم ، الآية : 75 .
(5) سورة غافر ، الآية : 85 .
الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 310 _
فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ) (1) .
( خامسا ) : الخلاصة :
إن الذين يعبدون أصناما من دون الله ويسيرون وراء أهوائهم في الحقيقة يدعون الشيطان العاري من كل خير ، ويسيرون في اتجاه طاعة ، لأن الشيطان أخذ على عاتقه أن يظلهم بالاشتغال بعبادة غير الله ، واقتراف المعاصي وأن يغرينهم بالاشتغال بالآمال والأماني التي تصرفهم عن الاشتغال بواجب شأنهم .
وما يهمهم من أمرهم ، وأن يأمرهم بتحريم ما أحل الله وتغيير خلقه مثل الإخصاء واللواط والسحاق والخروج عن حكم الفطرة وترك الدين الحنيف ، والظالمين من أهل الكتاب اشتغلوا بهذا كله ، لقد اشتغلوا بآمال وأماني أرض المعاد ،
وجعلوا هذه الآمال عامودا فقريا لحركتهم ، ولأنهم بظلمهم اتبعوا الأهواء وأعرضوا عن التعقل الصيح أضلهم الله، ولم يأذن سبحانه لناصر ينصرهم بالهداية ولا منقذ ينقذهم من الضلال ، فأي خسران أبين من خسران من يبدل السعادة الحقيقة وكمال الخلقة بالمواعيد الكاذبة والأماني الموهومة ( وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا ) (2) ، إن قافلة بني إسرائيل التي بدأت مع موسى (عليه السلام ) على أرض مصر ،
اضطهدت في سبيل الله ( قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ) ، (3) قال المفسرون : كأنه يقول : ما أمرتكم به أن اتقوا الله في سبيل مقصدكم ، كلمة حية ثابتة ، فإن عملتم بها ، كان المرجو أن يهلك الله عدوكم ويستخلفكم في الأرض بإيراثكم إياها ، ولا يصطفيكم بالاستخلاف اصطفاء جزافا ، ولا يكرمكم إكراما مطلقا من غير شرط ولا قيد
بل ليمتحنكم بهذا الملك، ويبتليكم بهذا التسليط والاستخلاف ، فينظر كيف تعملون (4).
-------------------------------
(1) سورة الأنعام ، الآية : 158 .
(2) سورة النساء ، الآية : 119 .
(3) سورة الأعراف ، الآيتان : 128 ـ 129 .
(4) الميزان : 225 / 8 .
الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 311 _
وانطلقت المسيرة الإسرائيلية تحمل الهدى للعالمين ، وبينما هي تسير ظهر أصحاب العجل والبقرة ، وأصحب الكنوز وصاحب النبأ، وطابور النفاق الطويل وصناع الأهواء والأصنام ، ولم يكن في ذاكرة هؤلاء قول موسى : ( فينظر كيف تعملون ) وتطورت مسيرة الانحراف لتنتج في النهاية كتبا وإن كانت لا تخلو من حق إلا أنها في خطوطها العرضية لا تحمل إلا ملامح سماوية باهتة وهذه الكتب وقف وراءها فقهاء السوء يدعون الناس لطريق الطمس ، حيث علوم فقه التحقير الذي وضعه قوم نوح وعلى طريقه استؤصلوا، وعلوم فقه الغطرسة الذي وضعته عاد وعلى طريقه جاءتهم الرياح ، وعلوم فقه الجحود الذي وضعته ثمود وعلى سبيله جاءتهم الصيحة، وعلوم فقه اللواط الذي وضعه قوم لوط وعلى طريقه ضربتهم حجارة من سجيل منضود ، وعلوم فقه اللصوصية الذي دونه أهل مدين وأصحاب الأيكة وعلى طريقه ضربتهم الصيحة ، وجاءتهم الظلة ، لقد عمل فقهاء الانحراف داخل الحي الإسرائيلي من أجل تغليب الشذوذ ورفع رايات الأهواء على امتداد طريق الانحراف، وتم توفير القنابل الذرية لحماية هذا الطريق .
ولكن نهاية الطريق قد أخبرنا الله عنها ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) (1) ( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ )(2) .
-------------------------------
(1) سورة النور ، الآية : 39 .
(2) سورة العنكبوت ، الآيات : 41 ـ 43 .
الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 313 _
| |