الانحراف فلم يشكرا النعمة والمنعم ، فأخذ هما الله أخذ عزيز مقتدر ، فلم يغن عن الأول كنوزه ، ولم يقو الثاني على حماية نفسه ، لقد كانت آيات الله في المال والعلم زاجرا لبني إسرائيل ، لكن الذئاب منهم شقوا مسيرهم نحو الكنوز ونجو دروب التحريف وأكل أموال الناس بالباطل !

  1 ـ عبرة قارون :
  كان قارون من بني إسرائيل ، وآتاه الله من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة القوة ، فظن أنه هو الذي جمعه بعلمه وجودة فكره وحسن تدبيره !
  وأمن العذاب الإلهي ، وآثر الحياة الدنيا على الآخرة ، وبغى الفساد في الأرض، يقول تعالى : ( إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ) (1) قال المفسرون :
  وعظوه أن لا يبطر بما هو فيه من مال ، وأن يشكر الله على ما أعطاه وأن يطلب فيما أعطاه الله من مال الدنيا تعمير الدار الآخرة بإنفاقه في سبيل الله، ووضعه فيما فيه مرضاته تعالى ، وقالوا له : لا تنس أن نصيبك من الدنيا ـ وقد أقبلت عليك ـ شئ قليل مما أوتيت ، وهوما تأكله وتشربه وتلبسه مثلا ، والباقي فضل ستتركه لغيرك .
  فخذ منها ما يكفيك ( وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ) أي أنفقه لغيرك إحسانا ، كما آتاكه الله إحسانا ، ولا تطلب الفساد في الأرض بالاستعانة بما آتاك الله من مال وما اكتسبت به من جاه وحشمة ، إن الله لا يحب المفسدين لبناء الخلقة على الصلاح والإصلاح (2) فماذا كان رد قارون على العظة ؟ قال تعالى : ( قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي ) (3) قال المفسرون : أجاب بنفي كونه إنما أوتيه إحسانا من غير استحقاق ... لقد ادعى إنما أوتيه على استحقاق بما عنده من العلم بطرق اقتناء المال وتدبيره ، وبما أن هذا باستحقاق فقد استقل بما عنده وله أن يفعل فيما اقتناه من المال بما شاء ويستدره في أنواع التنعم وبسط السلطة والعلو والبلوغ إلى الآمال والأماني .

-------------------------------
(1) سورة القص ، الآيتان : 76 ـ 77 .
(2) الميزان : 76 / 16 ، ابن كثير : 399 / 3 .
(3) سورة القصص ، الآية : 78 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 277 _
  وهذا الزعم الذي ابتلى به كقارون أهلكه ، إن قوله : ( إِنَّمَا أُوتِيتُهُ ) من غير إسناد الإتياء إلى الله سبحانه كما في قول الناصحين له : ( فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ ) نوع إعراض عن ذكر الله ، ولقد رد سبحانه مقولته فقال : ( أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمين ) (1) قال المفسرون : استفهام توبيخي وجواب عن قوله : ( إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي ) أي إذا كان يرى أن الذي اقتنى به المال ويبقيه له هو علمه ، فهو يعلم أنه كان فيمن قبله من القرون من هم أشد منه قوة وأكثر جمعا ، فلو كانت قوتهم وجمعهم عن علم عند هم ، فقد أهلكهم الله بجرمهم ، فلو كان العلم هو الجامع للمال والحافظ لهم لنجاهم من الهلاك ... وجاء يوم الغب الذي يحمل عذابا غير مردود يقول تعالى ، ( فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ) (2) قال المفسرون: ( الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا ) أي يجعلونها الغاية المطلوبة في مساعيهم ، ليس لهم وراءها غاية ، فهم على جهل من الآخرة وما أعد الله لعباده فيها من الثواب قال تعالى : ( فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ ) (3) ولذلك عدوا ما أوتيه قارون من المال سعادة عظيمة له من دون قيد وشرط .
  ( وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ... ) أي المؤمنون أهل العلم بالله يخاطبون به أولئك الجهلة الذين تمنوا أن يؤتوا مثل ما أوتي قارون وعدوه سعادة عظيمة على الإطلاق ، قالوا : إن ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا مما أوتي قارون فإذا كانوا مؤمنين صالحين فليتمنوا ثواب الله ، ( وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ) أي وما يفهم هذا القول وهو قولهم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا إلا الصابرون ...
  وعلى مشهد من الجميع من أصحاب الدنيا وأصحاب العلم ابتلعت الأرض الطاغية المستكبر ... يقول تعالى : ( فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن

-------------------------------
(1) سورة القصص ، الآية : 78 .
(2) سورة القصص ، الآيتان : 79 ـ 80 .
(3) سورة النجم ، الآيتان : 29 ـ 30 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 278 _
  فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ) (1) .
  قال المفسرون: خسف به وبداره الأرض... فما كان له جماعة يمنعونه العذاب ، وما كان من الممتنعين على خلاف ما كان يظن أن الذي يجلب إليه الخير ، ويدفع عنه الشر هو قوته وجمعه اللذان اكتسبهما بعلمه ، فلم يقه جمعه وتقه قوته من دون الله، وبأن الله سبحانه هو الذي آتاه ما آتاه ، فالفاء في قوله :
  ( فما كان ) لتفريع الجملة على قوله : ( فخسفنا به ) أي فظهر بخسفنا به وبداره الأرض بطلان ما كان يدعيه لنفسه من الاستحقاق والاستغناء عن الله ، وأن الذي يجلب إليه الخير ، ويدفع عنه الشر هو قوته وجمعه وقد اكتسبهما بنبوغه العلمي (2) ، واعترف الذين تمنوا مكانه ببطلان ما كان يزعمه قارون وهم يصدقونه بأن القوة والجمع في الدنيا بنبوغ الإنسان وعلمه وجودة تدبيره لا بفضل من الله سبحانه ... لقد عرفوا الحقيقة بعد مشهد وحركة ، وعلموا أن سعة الرزق وضيقه بمشيئة من الله ، وكان قارون علامة بارزة أمام بني إسرائيل لكن الكثرة عبروا عليها ولم يتبينوها ، لأن في قلوبهم حب العجل !

  2 ـ عبرة صاحب النبأ :
  أبهم الله تعالى اسم صاحب النبأ ، واختلف المفسرون في تعيين من هو في الآية الكريمة ، وأقوى الروايات أنه يدعى ( بلعم بن باعوراء ) ، وأن الله تعالى أعطاه الاسم الأعظم وكان يدعو به فيستجاب له (3) وروي أن موسى (عليه السلام ) بعثه إلى ملك مدين يد عوه إلى الله فأعطاه الملك الأرض والمال فتبع بلعم بن باعوراء دينه (4) ، وروي غير ذلك ، والخلاصة أنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه

-------------------------------
(1) سورة القصص ، الآيتان : 81 ـ 82 .
(2) الميزان : 76 / 16 .
(3) الميزان : 337 / 8 ، ابن كثير : 265 / 2 .
(4) ابن كثير : 264 / 2 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 279 _
  يقول تعالى لنبيه محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) (1) قال المفسرون : أمر الله نبيه أن يتلو على بني إسرائيل أو على الناس خبرا عن أمر عظيم ، وهو نبأ الرجل الذي آتاه الله آياته ، وكشف لباطنه عن علائم وآثار إلهية عظام ، يرى بها حقيقة الأمور ، فانسلخ منها ورفضها ( فاتبعه الشيطان ) استحوذ عليه وعلى أمره فمهما أمره امتثل وأطاعه ، فكان من الهالكين الحائرين البائرين ، ولو شاء الله لرفعه من قاذورات الدنيا بالآيات العظيمة التي آتاه إياها .
  ولكنه أخذ بأسباب التدنس ومال إلى زينة الحياة الدنيا وأقبل على لذاتها ونعيمها .
  واتبع هواه وكان ذلك موردا الإضلال الله له ، لا لهدايته ، وهذا الرجل مثله كمثل الكلب ، إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ، فهو ذو هذه السجية لا يتركها سواء زجرته ومنعته أو تركته ( ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا ) فالتكذيب منهم سجية وهيئة نفسانية خبيثة لازمة ، فلا تزال آيات الله تتكرر على حواسهم ، ويتكرر التكذيب بها منهم ( فاقصص القصص ) أي قص القصة ( لعلهم يتفكرون ) فينقادوا للحق وينزعوا عن الباطل ، لقد كان صاحب النبأ معه آيات باهرات ، لكنه أخذ بأسباب الزينة التي تشبع الأهواء ، فكان مصيره النار ، لقد كان يحمل آيات باهرات ، لكنه لم يستعمل قلبه وبصره وأذنه فيما ينفعه ويحقق له السعادة الدائمة الحقيقية والله تعالى أمر رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يقص القصة لعل بني إسرائيل العالمين بحال صاحب النبأ وما جرى له بسبب استعماله نعمة الله في غير طاعة الله، لعلهم عندما يذكرهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) بالقصة يتفكرون ليحذروا أن يكونوا مثله ، وهم بما أنهم أهل كتاب ، قد أعطاهم الله علما ميزهم به على من عداهم من الأعراب ، وبصرف النظر عن تحريفهم لكتابهم ، إلا أن هذا الكتاب كان يحتوي بين دفتيه على آية عظيمة ، إذا كفروا بها كان شأنهم كشأن صاحب النبأ الذي ترك الآيات وجلس بجوار الذهب والفضة ، وهذه الآية التي في كتابهم خاصة بنبي الله

-------------------------------
(1) سورة الأعراف ، الآيتان : 175 ـ 176 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 280 _
  محمد (صلى الله عليه وآله وسلم ) الذي يعرفونه من كتبهم كما يعرفون أبناءهم ، فهذه الآية دعوة لهم كي يتبعوه كما أخبرتهم أنبياؤهم بذلك ، فإن كتموا أو صدوا أو قالوا كما قال فرعون هذا سحر مبين ، كان الذل امتدادا لهم ... ذل في الدنيا موصول بذل الآخرة ، يقول تعالى : ( ... عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (1) .
  فذكره (صلى الله عليه وآله وسلم ) بهذه الأوصاف الثلاثة ( الرسول النبي الأمي ) تدل على أنه كان مذكورا في التوراة والإنجيل بهذه الأوصاف الثلاثة ، فماذا فعل أتباع صاحب النبأ بهذه الأوصاف ؟ لقد حرفوها ، ولكن التحريف لم يجهز على الحقيقة أمام البحث والتدقيق (2) ، إن الحقيقة باقية لتكون حجة على أجيالهم في كل زمان ، إن اتباع صاحب النبأ لم يحترموا العلم فجعلهم الله كمثل الحمار كما جعل صاحبهم من قبل كمثل الكلب ، يقول تعالى : ( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (3) قال المفسرون : المراد بالذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها اليهود الذين أنزل الله التوراة على رسولهم موسى (عليه السلام ) .
  فعلمهم ما فيها من المعارف والشرائع ، فتركوها ولم يعملوا بها ، فحملوها ولم يحملوها ، فضرب الله لهم مثل الحمار يحمل أسفارا وهؤلاء يعرف ما فيها من المعارف والحقائق ، فلا يبقى له من حملها إلا التعب بحمل ثقلها !

  * 3 ـ البعوث الدائمة والطمس الدائم :
  لم يضرب عذاب الاستئصال شعب إسرائيل ضربة واحدة ، كما ضرب من

-------------------------------
(1) سورة الأعراف ، الآيتان : 156 ـ 157 .
(2) راجع بحوثنا عن المسيح الدجال .
(3) سورة الجمعة ، الآية : 5 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 281 _
  قبل عاد وثمود وغير هما ، والحكمة من وراء هذا ، أن لشعب إسرائيل قيادة من أنبياء بني إسرائيل ، فالشعب باق ما دام لهم في علم الله قيادة منهم ، ومقدمات عذاب الاستئصال تأتي مع رفضهم لآخر نبي في الشجرة الإسرائيلية ، والله تعالى لا يستأصل قوما إلا بعد إنذار ، وعلى هذا لا يأتي الاستئصال إلا بعد إنذارهم من الله على لسان الرسول الذي يأتي بعد آخر رسول من شجرة إسرائيل ، ولما كان نبي الإسلام محمد (صلى الله عليه وآله وسلم ) وسلم ، هو أول رسول يأتي من خارج الشجرة الإسرائيلية وخاتم النبيين ، فقد جاءهم بالرحمة والإنذار ، فلما رفضوا الرحمة شقوا طريقهم نحو عذاب الاستئصال ، وقبل أن يشقوا هذا الطريق ، تعرضوا لضربات عدة فرادى وجماعات ، لعلهم يتذكرون ويلتفون حول رسلهم والصالحين منهم ولكنهم أبوا إلا الأخذ بذيول الانحراف !

  1 ـ البعوث الدائمة :
  كتب الله على شعب إسرائيل القتل والأسر والاضطهاد على أيدي الجيوش الجرارة التي جاءت إليهم من جهات عديدة ، بعد أن ظلموا أنفسهم وسهروا من أجل الحفاظ على الانحراف والشذوذ ! وبعد أن تقلصت دائرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واتسعت دوائر السلبية والظلم والبغي بينهم ، وعلى امتداد مسيرة بني إسرائيل كان فيهم الصالحين وغير ذلك ، ولكن غير الصالحين كانوا دائما إلى الافساد في الأرض أسرع ! وذلك لأن رقعة الانحراف كانت رقعة واحدة بينما كانت رقعة الصالحين تنقسم إلى قسمين : قسم ضعيف قليل العدد يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، والقسم الآخر يحتوي على كثرة لم ترتكب المعاصي ولكنها تركت الساحة للمفسدين كي يعربدوا فيها وينشروا ضلالتهم .
  ونظرا لهذا التقسيم انتشر الفساد لسهر أعوانه عليه ، وفي سنة الله تعالى إذا عمل قوم بالمعاصي ولم يغيره الناس أوشك الله أن يعمهم بعقاب ، لأن ارتكاب المعاصي مد خل رئيسي لهدم أركان الدين ، ومن عدل الله سبحانه أنه قبل أن يعم بني إسرائيل بالعذاب الشامل ، وضع في بداية طريقهم حدثا كان يجب عليهم أن يحفروه في ذاكرتهم ، ليعلموا أن الذي حدث في قرية صغيرة يمكن أن يضرب الأمة الكبيرة، يقول تعالى ، ( واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 282 _
  كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) (1) .
  قال المفسرون : ( انقسم أهل القرية في أمر الله ثلاث فرق ، فرقة ارتكبت ما نهى الله عنه ، وفرقة نهت عن ذلك واعتزلت ، وفرقة سكتت فلم تفعل ولم تنه ، وقالت للفرقة التي نهت واعتزلت : لم تنهون هؤلاء وقد علمتم أنهم قد هلكوا واستحقوا العقوبة من ذلك ، فلا فائدة في نهيكم إياهم ، فقالوا ، ( معذرة إلى ربكم ) أي فيما أخذ علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لعلهم بهذا الانكار يتقون ) (2) ، وفي قولهم : ( إلى ربكم ) حيث أضافوا الرب إلى الفريق الذي يلومهم ولم يقولوا : إلى ربنا ... إشارة إلى أن التكليف بالعظة ليس مختصا بنا بل أنتم أيضا مثلنا يجب عليكم أن تعظوهم ، لأن ربكم لمكان ربوبيته يجب أن يعتذر إليه ، ويبذل الجهد في فراغ الذمة من تكاليفه والوظائف التي أحالها إلى عباده ، وأنتم عباد له كما نحن عباده ، فعليكم من التكاليف ما هو علينا ( فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء ) وفيه دلالة على أن اللائمين كانوا مشاركين للعادين أي للفرقة التي ارتكبت ما نهى الله عنه ، في ظلمهم وفسقهم حيث تركوا عظتهم ولم يهجروهم ، وفي الآية دلالة على سنة إلهية عامة ، وهي أن عدم ردع الظالمين عن ظلمهم بمنع وعظة ، مشاركة معهم في ظلمهم ، وأن الأخذ الإلهي الشديد، كما يترصد الظالمين كذلك يرصد مشاركيهم في ظلمهم (3).
  لقد ضرب العذاب الظالم المعتدي والظالم الذي سكت ، وفي الحديث كانوا أثلاثا : ثلث نهوا ، وثلث قالوا : ( لم تعظون ) وثلث أصحاب الخطيئة ، فما نجا إلا الذين نهوا وهلك سائرهم (4) وقال تعالى للذين عتوا عن أمره :

-------------------------------
(1) سورة الأعراف ، الآيات : 163 ـ 166 .
(2) ابن كثير : 257 / 2 .
(3) الميزان : 296 / 8 .
(4) رواه ابن عباس وقال ابن كثير إسناده جيد : 259 / 2 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 283 _
  ( كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) أي ذليلين حقيرين مهانين ، لقد كانت أحداث هذه القرية إشارة للمسيرة الإسرائيلية بأن العذاب الشامل على الأبواب إذا لم يأخذوا بأسباب النجاة ، وأنهم إذا ركبوا المعاصي ولم تنههم الأحبار وغيرهم أخذتهم العقوبات، ولكن القوم توسعوا في الظلم، الظلم الذي يهدم ، والظلم الذي يرى معالم الهدم ويعين على الهدم بصمته ، وأمام هذا الاسراع الذي يسير في عكس اتجاه حركة الفطرة أصابهم العذاب الشامل، وكان رداء ملازما لهم على امتداد مسيرتهم ، يقول تعالى : ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (1) قال المفسرون ، ( تأذن ) بمعنى اعلم ، والمعنى : واذكر إذ أعلم ربك أنه قد أقسم، ليبعثن على هؤلاء الظالمين بعثا يدوم عليهم ما دامت الدنيا من يذيقهم ويوليهم سوء العذاب، وأنه تعالى غفور للذنوب رحيم بعباده ... لكنه إذا قضى لبعض عباده بالعقاب ، لاستيجابهم ذلك بطغيان وعتو ونحو ذلك ، فسرعان ما يتبعهم إذ لا مانع يمنع عنه ، ولا عائق يعوقه .
  وقد نزل ببني إسرائيل نوازل كثيرة ، منها ما جرى عليهم بيد ( نبوخذ ناصر ) عام 588 ق ، م وكان من ملوك بابل وكان يحمي بني إسرائيل فعصوه وتمردوا عليه فسار إليهم بجيوش لا قبل لهم بها وحاصر بلا دهم ثم فتحها عنوة وخرب البلاد وهدم الهيكل وأحرق التوراة وأباد النفوس بالقتل العام ، ولم يبق منهم إلا شرذمة قليلة فأسرهم وسيرهم معه إلى بابل ، وبعد رحيل ( نبوخذ ناصر ) دخلوا تحت حماية ملك الفرس ( كورش ) الذي أذن لهم في الرجوع إلى الأرض المقدسة ، وأعانهم على تعمير الهيكل .
  وظل اليهود خاضعين لحكم الفرس حتى جاء الإسكندر الأكبر 323 ق ، م واجتاح المنطقة ، وبعد وفاة الإسكندر خضعت أورشاليم لبطليموس وكان واحدا من قواد الإسكندر الأكبر وكان يتولى حكم مصر ، ثم اجتاح الرومان البلاد عام 63 ق ، م بعد أن ضعفت أيدي الإغريق ، وحدث نزاع شديد بين اليهود والرومان انتهى بخراب أورشاليم وهدم الهيكل عام 70 ميلادية على يد ( تيطوس ) الروماني ، ثم حدثت مشادات بين اليهود والرومان ، انتهت باستقلال

-------------------------------
(1) سورة الأعراف ، الآية 167 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 284 _
  اليهود عن الرومان ثلاث سنوات وأصبحت أورشاليم عاصمة لهم وذلك عام 132 م ، وبعد ثلاث سنوات أي في عام 135 م نكل الرومان باليهود وهدموا أورشاليم وبنوا على أنقاضها مدينة لهم وأقاموا بها معبد لإله ( جوبتر ) إله الرومان على أنقاض المعبد القديم، ولم يسمح الرومان لأي يهودي بدخول المدينة أو الاقتراب منها ، وفي عام 313 م أصبحت الديانة النصرانية دين الدولة الرومانية الرسمي ، وهدم معبد جوبتر ، وفي سنة 326 م جاءت الملكة هبلانة أم الإمبراطور قسطنطين وقامت ببناء كنيسة القيامة في أورشاليم ، وفي عام 614 م غزا الفرس بلاد الشام ، وانتصروا على الرومان وهدموا كنيسة القيامة ، ثم غلب الرومان الفرس ، ثم جاء الفتح الإسلامي عام 636 م ولم يكن لليهود قائمة .
  وفي عام 1948 اعترفت الأمم المتحدة بدولة إسرائيل ، وكان هذا الاعتراف ثمرة لجهد طويل قامت به الأيدي الخفية التي زينت كل قبيح في عالم الطمس الطويل الذي يسير في عكس اتجاه الفطرة ، وفي بطن الغيب ما زالت البعوث قائمة ، وانتظروا ونحن معكم منتظرون .

  2 ـ الطمس والمسخ :

  ( أولا ) أخذ اليهود بأسباب الضلال :
  ظلت البعوث تطارد بني إسرائيل على ظلمهم ، ولم يكن هذا يعني عدم وجود صالحين بينهم ، فلقد عاش معهم في كل منازلهم التي نزلوا بها من يد عوهم إلى تقوى الله ، ولكن دعوته كانت تذهب أدراج الرياح ، وفي كل جيل بعد ذلك كانت تقل نسبة الصالحين وتتسع نسبة الذين يهرولون إلى السيئات ، حتى جاءت الأجيال التي لا خير فيها ، أجيال ورثت الكتاب وتحملوا ما فيه من المعارف والأحكام والمواعظ والبشارات ، وكان لازم هذا ، أن يتقوا ويختاروا الدار الآخرة ، ويتركوا أعراض الدنيا الفانية الصارفة عما عند الله من ، الثواب الدائم .
  لكنهم أخذوا ينكبون على اللذائذ الفانية ولم يبالوا بالمعصية وإن كثرت ، ووضعوا في طريق الانحراف وتدا هو من أشد الأوتاد خطورة بعد وتد رفض بشرية الرسول ، وكان هذا الوتد قولهم : ( سيغفر الله لنا ) لقد هرولوا إلى المعاصي تحت لافتة مغفرة الله لهم ، وهذا قول بغير حق ، شربوه في قلوبهم وسقوه للذين

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 285 _
  من بعدهم ، يقول تعالى : ( فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مُّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) (1) .
  قال المفسرون، لقد أخذ الله عليهم الميثاق عند حملهم الكتاب ( أن لا يقولوا على الله إلا الحق ) والحال أنهم درسوا ما فيه ، وعلموا بذلك أن قولهم :
  ( سيغفر لنا ) قول بغير الحق ، ليس لهم أن يتفوهوا به ، لأنه يجرئهم على معاصي الله وهدم أركان دينه ( و ) الحال أن ( الدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ) لدوام ثوابها وأمنها من كل مكروه ( أفلا يتقون ) ، ثم بين سبحانه أن التمسك بالكتاب هو الاصلاح الذي يقابل الافساد في الأرض أو إفساد المجتمع البشري فيها ، وخص سبحانه الصلاة بالذكر من بين سائر أجزاء الدين لشرفها وكونها ركنا من الدين يحفظ بها ذكر الله والخضوع إلى مقامه ...
  وبدأ الذين ورثوا الكتاب يتعاملون مع التوراة بأهوائهم تحت لافتة أنهم مغفور لهم ولأنهم وضعوا كتاب الله وراء ظهورهم سلط الله عليهم من جعلهم يتجرعون الذل، وخلال سبي شعب إسرائيل إلى بابل وكانوا وقتئذ يعرفون باسم العبرانيون (2) ، كان العبرانيون الذين ساروا على خطى الآباء تحت لافتة سيغفر الله لهم ، قد نسوا أيضا هذه اللافتة عندما بدأوا في إعادة كتابة التوراة في بابل .
  وذلك لأن التوراة التي أنتجها العبرانيون في بابل أنتجت الدين اليهودي ، الذي سار فيما بعد بوقود الصهيونية التي تهدف إلى جمع اليهود ولم شملهم وتهجيرهم إلى فلسطين لتأسيس دولة يهودية فيها تدين بالدين اليهودي وتتميز بالعنصر اليهودي ربا لثقافة اليهودية وبإرادة بعث مملكة داود ، والتوراة التي تم إنتاجها في بابل كتبت على يد ( عزرا ) شيخ العنصرية والتعصب الأعمى الأكبر (3) حوالي

-------------------------------
(1) سورة الأعراف ، الآيتان : 169 ـ 170 .
(2) أصول الصهيونية / إسماعيل الناروقي ، ط وهبه ص 8 .
(3) أصول الصهيونية / إسماعيل الناروقي ، ط وهبه ص 460 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 286 _
  سنة 457 ق ، م (1) فعزرا وتلاميذه كانوا بمثابة العجلات التي سارت عليها التوراة حتى استقرت في نهاية الأمر لتقول .
  ( أولا ) : إن المملكة العبرية هي عنوان وركيزة تخليص يهوه لشعبه ، فهي وعاء العهد الإبراهيمي المقطوع وتجسيمه !
  ( ثانيا ) : إن أورشاليم اختارها يهوه بنفسه لتكون مسكنا له ، فهي ليست عاصمة المملكة السياسية فحسب ، بل العاصمة الدينية التي لا يمكن للإله أن يستقر أو يسكن أو يعبد إلا فيها !
  ( ثالثا ) : إن المملكة العبرية كلها أزلية ، فمهما فعل الملوك ومهما تألبت الدول ، لن يتخلى يهوه عنها !
  ( رابعا ) : ليس للأمم والملوك أن لا يقووا على هذه المملكة فحسب ، بل عليهم جميعا أن يخضعوا لسلطانها !
  ( خامسا ) : إن المملكة رغم اجتياحها من قبل الأجانب وسبي أهلها ، إلا أن الله قد تعهد بإرسال بطل يعيد لهم هذه المملكة فعزرا بكل حق هو مؤسس الدين اليهودي كما نعرفه الآن ، ولا عجب إن اعتبرته اليهود ( ابنا لله ) لأنه بعمله هذا بعث الهوية اليهودية التي رأت النور ساطعا في مملكة داود وسليمان بعد أن قضت أجيالا طويلة في الظلام ، ثم تقلصت وكادت تنقرض تماما من وجه الأرض لولا أن أنتجت عزرا (2) ولا شك أن التوراة كانت في يوم ما كتابا إلهيا عزيزا ، إلا أن طابور الذين أورثوا الكتاب أنجبوا في النهاية الجيل الذي جلس عزرا على قمته ، فحرفوها وزاغوا بها عن أهدافها الإلهية ومراميها الأخلاقية وجعلوا منها كتابا تعصبيا عنصريا ، ومن العجيب أن توراة عزرا التي بين أيدينا صورها الآن ، لم تذكر اسم الشيطان مرة واحدة ، أن كاتب التوراة في بابل استبعد اسم الشيطان من توراة موسى ليس في إخراجه آدم وزوجته من الجنة فحسب ، بل في كل إصحاحات الأسفار الخمسة ووضع بدله ( الحية ) في التوراة العبرانية

-------------------------------
(1) الميزان : 243 / 9 وقيل 423 ق ، م .
(2) الميزان : 92 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 287 _
  و ( الثعبان ) في التوراة السامرية (1) ، والأعجب ، أن كاتب التوراة استبعد سجود الملائكة لآدم (عليه السلام ) ( !! ) (2) .
لماذا استبعد الشيطان من كتاب يدعي أتباعه أنه من عند الله ؟ لا بد أن يكون هذا الاستبعاد لغرض معين أو ربما يكون استبعاده من الأسفار الخمسة كلها من أجل أن تتصرف أجيال المستقبل بجسارة ولا يهمها شئ ، ثم لماذا استبعد سجود الملائكة لآدم ؟ يقول صاحب نقد التوراة : استبعد سجود الملائكة لآدم ، لأن السجود معناه أن الجنس البشري كله مكرم ومحترم ، وهم لا يقولون بذلك .
  بل يقولون إن بني إسرائيل وحدهم من سائر الأمم هم المصطفين الأخيار (3) ولم يكن هذا فقط العجيب والأعجب عند كاتب التوراة ، أن اسم الإله بدل ، فبدل أن يدعى باسم الحق وهو إله العالمين ورب البشر، جعله كاتب التوراة ( إله إبراهيم ويعقوب وإسرائيل ) فحسب ، وإن كان له أي علاقة بالعالمين في نظرهم ، فهو فقط ليقهر العالمين لصالح شعبه المختار (4) كما أن الحق الذي لا مراء فيه ، هو أن إله اليهود كما تخيله كاتب التوراة لم يكن إلها توحيديا ، لقد كان وثنا أو أوثانا، وضعتها زوجة يعقوب تحت فستانها كما في سفر التكوين ( إصحاح 31 / 19 ، 34 ،35 ) وأصبح جنيا تصارع مع يعقوب طيلة الليل حتى تغلب عليه يعقوب فسمي إسرائيل والمنتصر كما في سفر التكوين ( إصحاح 32 / 24 إلى 32 ) وأصبح في عهد موسى وداود إلها ناريا قبليا يسكن في قمة الجبل سواء في حوريب أو صهيون ، وتحول من بعد ذلك إلى الإله الذي لا يعمل إلا لليهود ، خيرا لهم وشر الشعوب الأرض فكان الإله المستعبد ، نعم ، لقد أصبح مجردا وكان دائما أحدا ، إلا أنه لم يكن في أي يوم إلها توحيديا عند كاتب التوراة (5) ومن السخف بمكان أن نقر ادعاء اليهود أنفسهم والنصارى أن اليهود موحدون (6) ، إن الإله

-------------------------------
(1) نقد التوراة / حجازي السقا ، ط الكليات الأزهرية ص 176 .
(2) نقد التوراة ح / حجازي السقا ، ط الكليات الأزهرية ص 176 .
(3) نقد التوراة / حجازي السقا ، ط الكليات الأزهرية ص 176 .
(4) أصول الصهيونية : 95 .
(5) أصول الصهيونية : 97 .
(6) أصول الصهيونية : 96 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 288 _
  الذي تحدثت عنه التوراة ليس إلها توحيديا ولقد تطور هذا الإله على امتداد التوراة، والصهيونية هي حركة هذا الإله في التاريخ : (1) .
  وعزرا ادعى العلم بعد أن أطلق شائعة مفادها : أنه عندما كان يبكي على قتل علماء بني إسرائيل وسبي كبارهم وذهاب العلم منهم حتى سقطت جفون عينيه ، قالت له امرأة كانت تبكي هي الأخرى عند جبانة ، اذهب إلى نهر كذا فاغتسل منه وصلي ، فإنك ستلقى هناك شيخا ، فما أطعمك فكله ، فذهب وفعل ما أمر به ، فإذا الشيخ فقال له : افتح فمك ، ففتح فمه ، فألقى فيها شيئا كهيئة الجمرة العظيمة ، فرجع عزرا وهو أعلم الناس بالتوراة (2) ، ولما رجع اليهود من بابل بالتوراة المحرفة ، سكن السامريون في مد فهم ومعهم نسخة من التوراة التي كتبها عزرا في بابل ، وسكن العبرانيون في مد نهم ومعهم صورة من نفس التوراة ، ورغم أن التوراة واحدة ، إلا ) نهم اختلفوا على تعيين جهة القبلة المقدسة التي يترتب على تعيين المدينة التي تكون عاصمة لمملكة بني إسرائيل ، ودب الشقاق والنزاع بين السامريين والعبرانيين وكره بعضهم بعضا ، وقام العبرانيون بتغيير كلمات في توراة عزرا ، وتام السامريون بتغيير كلمات في توراة عزرا ، واستقر السامريون على أن تكون قبلتهم في اتجاه جبل ( عيبال ) واستقر العبرانيون على أن تكون القبلة في اتجاه ( جرزيم ) وهذه الكلمات هي التي ميزت بين التوراتين ، وزاد العبرانيون على أسفار موسى الخمسة التي كتبها عزرا أسفار لأنبياء كانوا في بني إسرائيل من بعد موسى (3).
  لقد جاء عزرا بتوراة ادعى أنها توراة موسى ، في الوقت الذي ذكرت فيه توراة عزرا خبر موت موسى ودفنه في أرض مؤاب ، فهل كان في توراة موسى خبر موت موسى ودفنه في أرض مؤاب وأنه ؟ إلى هذا اليوم لا يعرف أحد مكان ـ قبره (4) ، لقد جاء عزرا بتوراة لا يعر ف موسى عنها شيئا ، والمسيح عيسى ابن مريم عليه السلام ، كان يعلم أن التوراة محرفة ، بدليل أن في عصره كان

-------------------------------
(1) أصول الصهيونية : 97 .
(2) نقد التوراة : ص 144 .
(3) نقد التوراة : 146 .
(4) نث

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 289 _
  السامريون والعبرانيون يتعبد كل منهم في اتجاه قبلته الخاصة، وعندما سألت امرأة سامرية المسيح عن الصواب أجاب، بأنه سيأتي اليوم الذي لا يقدس فيه هذا الجبل ولا ذاك الجبل، ففي إنجيل يوحنا 4 / 19 ـ 24 ( قالت له المرأة : يا سيد ، أرى أنك نبي آباؤنا سجدوا في هذا الجبل، وأنتم تقولون إن في أورشاليم الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه ، فقال لها يسوع : يا امرأة صدقيني إنه تأتي ساعة ، لا في هذا الجبل ولا في أورشاليم تسجدون للرب ، أنتم تسجدون لما لستم تعلمون ، أما نحن فنسجد لما نعلم ) ، لقد كان المسيح يعلم بالتحريف ، وأخبرهم بالصواب وبأن يعملوا أعمال إبراهيم إن كانوا هم أبناء إبراهيم كما يدعون ، لكنهم اعتمدوا ما عند هم وطالبوا عيسى بأن يأتي لهم بالأرض والميراث ، الذي غرسه عزرا وتلاميذه ، وقاد القوم فيما بعد إلى المسيح الدجال كما سنبين في حينه ، والقرآن الكريم أثبت تحريف اليهود للتوراة قال تعالى : ( مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ ) (1) قال المفسرون : وذلك إما بتغيير مواضع الألفاظ بالتقديم والتأخير والإسقاط والزيادة ، كما ينسب إلى التوراة الموجودة ، وإما بتفسير ما ورد عن الأنبياء بغير ما قصد منه من المعنى الحق كما أولوا ما ورد في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) وسلم من بشارات التوراة ، ومن قبل أولوا ما ورد في المسيح ابن مريم (عليه السلام ) من البشارة وقالوا : إن الموعود لم يجئ بعد وهم ينتظرون قدومه إلى اليوم ، ومن الممكن أن يكون المراد بتحريف الكلم عن مواضعه استعمال القول بوضعه في غير المحل الذي ينبغي أن يوضع فيه (2) ، والتحريف جاء بعد أن شق شعب إسرائيل طريقه في الضلال، لقد بد أوا بنبذ كتاب الله وراء ظهورهم ، عندئذ فتحت عليهم أبواب الأهواء ، فد خلوا منها ، وبالدخول أبعدوا من رحمة الله ، ولكي يسيروا في دروب الأهواء تحت لافتة دينية ، حرفوا الكلم عن مواضعه وفسروها بغير ما أريد بها ، فأوجب ذلك أن نسوا حظا من الدين وهذا الحظ يرتحل بارتحاله عنهم كل خير وسعادة ، وأفسد ذلك ما بقي بأيديهم من الدين ، لأن الدين مجموع من معارف وأحكام مرتبط بعضها

-------------------------------
(1) سورة النساء ، الآية : 46 .
(2) الميزان : 364 / 4 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 290 _
  ببعض ، يفسد بعضه بفساد بعض آخر ، سيما الأركان والأصول ، وذلك كمن يصلي لكن لا لوجه الله ، أو ينفق لا لمرضاة الله ، أو يقاتل لا لإعلاء كلمة الحق ، فلا ما بقي في أيديهم نفعهم ، إذ كان محرفا فاسدا ، ولا ما نسوه من الدين أمكنهم أن يستغنوا عنه ، ولا غنى عن الدين ولا سيما أصوله وأركانه .
  لقد تاهوا في عالم الأهواء ، وفي هذا التيه استقرت أقدامهم عند المسيح الدجال، والمسيح الدجال حذر منه جميع الأنبياء أقوامهم، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ، " إنه لم تكن فتنة في الأرض منذ ذرأ الله ذرية آدم أعظم من فتنة الدجال وإن الله لم يبعث نبيا إلا حذر أمته الدجال ، وأنا آخر الأنبياء ، وأنتم آخر الأمم وهو خارج فيكم لا محالة ) (1) ، لقد حذرت أنبياء بني إسرائيل من المسيح الدجال ، ووصفوه لشعب إسرائيل ، ومن صفاته عندهم أنه يملك من البحر إلى البحر ومن النهر إلى أقاصي الأرض (2) وعندما مارس عزرا والذين من بعده عمليات العبث في التوراة وجدوا أن الأنبياء قد بشروا بمسيح يأتي في المستقبل ، وأيضا حذروا من مسيح يأتي في المستقبل فأي مسيح يختاره الذين يعبثون في كتاب الله ؟ لقد اختاروا صاحب الأرض بعد أن زاولوا عملية تحريف الكلم عن مواضعه ، وضعوا على المسيح الذي معه الأرض والماء والخبز علامات التبشير ، وعندما جاءهم المسيح ابن مريم الذي بشر به أنبياء بني إسرائيل ، صدوا عن سبيل الله وقالوا إن الموعود لم يجئ بعد ، واتهموا نبي الله عيسى بأنه كذاب في ادعائه للنبوة وذلك لأنهم اعتبروا أنه الذي حذرت منه رسلهم ! ومارسوا هذا العمل وهذا الصد عن سبيل الله عندما بعث الله رسوله الخاتم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم ) وسلم ، وقد ورد هذا في أثر عن ابن عباس قال : ( يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل ) أي لم تخلطون الباطل مع الحق في كتابكم ، صفة الدجال بصفة محمد ( وتكتمون الحق ) ولم تكتمون صفة محمد ونعته ( وأنتم تعلمون ) أي تعلمون ذلك في كتابكم (3) ، إن القرآن يشهد بأن التوراة محرفة عمدا ، والذي يحرف كتاب الله عمدا

-------------------------------
(1) رواه ابن ماجة والحاكم وصححه وأقره الذهبي وغير وهما .
(2) راجع كتابنا عقيدة الدجال .
(3) هامش الدر المنثور 183 / 1 تفسير سورة البقرة .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 291 _
  فهو ملعون ومن سار تحت رايته فهو ملعون يستظل بلعنة ويتجه نحو لعنة ! وعزرا هو الذي فتح الباب ، وعزرا هذا ، هو عزير المذكور في القرآن في قوله تعالى :
( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ ) (1) وعزير ليس بنبي كما حكى الشيخ الآلوسي في تفسيره روح المعاني ، فعزرا الذي لم يذكر اسم الشيطان مرة واحدة في توراة موسى ، ولم يذكر سجود الملائكة لآدم ، ولم ينزه الله تعالى فيما كتب ، وطمس صفات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، بعد أن علم أن الله قد استجاب دعاء إبراهيم في أن يكون نسل إسماعيل هداة الأمم ، وأن الله وعد بمباركة الأمم في آل إسماعيل بنبي يظهر فيهم في قول لإبراهيم ( وأما إسماعيل ، فقد سمعت لك فيه ، ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرا جدا ، اثني عثر رئيسا يلد وأجعله أمة كبيرة ) (2) عزرا هذا كان بمثابة نهاية طريق وبداية طريق آخر في التاريخ الإسرائيلي ، هو نهاية طريق لأنه اكتفى بفقهاء الانحراف، وكان القوم من قبل فيهم من يدعو إلى الصلاح ، وهو بداية طريق ، لأن انحرافات البشرية من قبل قد تم تزيينها على طريق عزرا نحو أرض المعاد التي هي في حقيقة أمرها أطروحة المسيح الدجال ، وعزرا حمل أعلام وقراطيس الشذوذ في قومه ، فهو بلا جدال حامل أعلام الذين عبدوا العجل ، والذين سيسيرون على طريقه من أي دين آخر ، هم في الحقيقة إخوان للذين عبدوا العجل من بني إسرائيل ، قال تعالى :
  ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ) (3) ، أخرج عبد الرازق وابن المنذر وابن أبي حاتم قال أبو قلابة : هو جزاء لكل مفتر إلى يوم القيامة أن يذله الله، وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان : كذلك نجزي المفترين قال : كل صاحب بدعة ذليل ، وقيل لسفيان هل هي لأصحاب العجل خاصة قال : كلا اقرأوا ما بعد ها ، وكذلك نجزي المفترين ، فهي لكل مفتر ومبتدع إلى يوم القيامة (4) ولقد حمل أتباع العجل مشاعلهم وساروا في اتجاه الدجال، وفي الطريق كانوا يلوحون لغيرهم للركوب

-------------------------------
(1) سورة التوبة ، الآية : 30 .
(2) التكوين 17 / 20 .
(3) سورة الأعراف ، الآية : 152 .
(4) الدر المنثور : 128 / 3 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 292 _
  في قطارهم ، وللأسف الشديد ركبت معهم أجناس عديدة من أديان شتى بعد أن اتبعوهم شبرا بشبر وذراعا بذراع ، وناموا معهم في كل جحر ضيق خرب ، إن الطريق العجل المفروش بالذهب اللاحقيقي والذي ينتهي إلى دجال لا يمثل أي حقيقة سيركبه كل من حمل في قلبه انحراف، وكل من اكتسب دينارا من فتنة عليها من الله تحذير .

  ( ثانيا ) : اختراق النصارى :
  لقد ذكرنا في كتابنا عقيدة المسيح الدجال عن اختراق اليهود للنصرانية الكثير ، وسنذكر هنا ما تقتضيه الحاجة، لقد كان المسيح عيسى ابن مريم (عليه السلام ) هو آخر أنبياء الشجرة الإسرائيلية، ولكن فقهاء الانحراف من شعب إسرائيل لم يؤمنوا به وطالبوه إن كان هو المسيح حقا فليأت إليهم بميراث إبراهيم، ولقد أخبرهم (عليه السلام ) بأنه مصدقا لما بين يديه من التوراة ، وتصديقه للتوراة التي بين يديه ، إنما هو تصديق لما علمه الله من التوراة الأصل النازلة على موسى (عليه السلام ) وهذا التعليم جاء في قول الله تعالى لمريم :
  ( وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ) (1) وفي هذا دليل على أنه لم يكن مصدقا للتوراة التي في زمانه لكونها محرفة ، وما جرى على عيسى (عليه السلام ) جرى لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم ) وسلم ، لقد كان مصدقا لما بين يديه من التوراة ، ولم يكن مصدقا لما بين يدي عزرا ، لأن الذي بين يدي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم ) وسلم من الله ، ولأن عيسى عليه لم يكن مصدقا بما بين يدي عزرا ، بدأ اليهود يغزلون له على مغازل الكيد ، ولما أيقن عيسى (عليه السلام ) أن دعوته غير ناجحة بين بني إسرائيل كلهم أو جلهم ، وأنهم كافرون به لا محالة ، وأنهم لو أخمدوا أنفاسه بطلت الدعوة واشتدت المحنة ، مهد لبقاء دعوته ( قال من أنصاري إلى الله ) (2) لقد أراد بهذا الاستفهام أن يتميز عدة من رجال قومه ، فيتمحضوا للحق ، فتستقر فيهم عدة الدين، وتتمركز فيهم قوته ، ثم تنتشر من عند هم دعوته ، وعندما استفهم عيسى منهم ( قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا

-------------------------------
(1) سورة آل عمران ، الآية : 48 .
(2) سورة آل عمران ، الآية : 52 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 293 _
  بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) (1) وكان تعالى قد أوحى إليهم أن يؤمنوا بالمسيح يقول تعالى : ( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ) (2) قال المفسرون : المراد بهذا الوحي وحي إلها م (3) ، لقد كان وحي الله للحواريين إشارة إلى أن أتباع توراة عزرا لا فائدة فيهم ، وأن الدعوة سيوضع في طريقها جميع أحجار شعب إسرائيل حتى لا تعبر إليهم ، ومن أجل ذلك أوحى الله إلى صدر القافلة التي قدر لها أن تواجه أحجار الجموع كي يؤمنوا برسوله ، وبدأ المسيح (عليه السلام ) يقيم الحجة على شعب إسرائيل ، فلما وجد اليهود أن المسيح يزاحمهم في مدنهم وفي هيكلهم ويتحدث من توراة غير توراتهم التي لا تحمل إلا معالم سماوية باهتة ، بد أوا يمارسون سلطانهم الظاهر والخفي من أجل الايقاع به ، ومكروا مكرا ، وعند الله مكرهم ، فأخبر سبحانه عيسى (عليه السلام ) بما يمكر اليهود، قال تعالى : ( إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) (4) قال المفسرون : المراد بالوفاة هنا النوم كما قال تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ ) (5) وقوله : ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ) (6) وكان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم ) وسلم يقول إذا قام من النوم : ( الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا ) (7) فالتوفي لم يستعمل في القرآن بمعنى الموت فقط ، بل بعناية الأخذ والحفظ ، والمعنى أن الله رفعه في منامه وأبعده من الكفار وصانه عن مخالطتهم والوقوع في مجتمعهم المتقذر بقذارة الكفر والجحود وأن متبعيه من النصارى والمسلمين ستفوق حجتهم

-------------------------------
(1) سورة آل عمران ، الآية : 52 .
(2) سورة المائدة ، الآية : 111 .
(3) ابن كثير : 115 / 2 .
(4) سورة آل عمران ، الآية : 55 .
(5) سورة الأنعام ، الآية : 60 .
(6) سورة الزمر ، الآية : 42 .
(7) ابن كثر : 366 / 1 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 294 _
  على حجة الكافرين به إلى يوم القيامة ، وبدأ اليهود يعدون العدة للفتك بالمسيح (عليه السلام ) كما فتكوا من قبل بزكريا ويحيى عليهما السلام ولكن الله تعالى نجا المسيح ابن مريم من أيديهم، وما وجدوا في بيت المسيح إلا شبيه المسيح ، الذي ألقى الله عليه الشبه بعد رفع المسيح إليه ، وخرج اليهود يهللون لانتصارهم الكبير يقول تعالى : ( وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ) (1) قال المفسرون : ينص على أنه (عليه السلام ) لم يتوف بأيديهم لا صلبا ولا غير مصلوب ، بل شبه لهم أمره .
  فأخذوا غير المسيح (عليه السلام ) مكان المسيح فقتلوه أو صلبوه ، وقد وردت به روايات أن الله تعالى ألقى شبهه على غيره فأخذ وقتل مكانه ... وقوله : ( وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ ) أي اختلفوا في عيسى أو في قتله ( لفي شك منه ) أي في جهل بالنسبة إلى أمره ( مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ ) أي التخمين أو رجحان ما أخذه بعضهم من أفواه بعض ، وقوله : ( وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ) أي ما قتلوه قتل يقين ، أو ما قتلوه أخبرك خبر يقين وقوله ، ( بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ ) وهذه الآية بحسب السياق ، تنفي وقوع ما ادعوه من القتل والصلب عليه ، فقد سلم من قتلهم وصلبهم ، وظاهر الآية أيضا ، أن الذي ادعوا إصابته بالقتل والصلب ، وهو عيسى عليه السلام، رفعه الله بشخصه البدني، وحفظه من كيدهم ، فعيسى رفع بجسمه وروحه ، لا أنه توفي ثم رفع روحه إليه تعالى ، فهذا مما لا يحتمله ظاهر الآية بمقتضى السياق ، فإن الإضراب الواقع في قوله : ( بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ ) وهذه الآية يتم بمجرد رفع الروح بعد الموت الذي يصح أن يجامع القتل والموت حتف الأنف ... وبعد ذلك كله فالآيات التي جاءت بعد ذلك في سورة النساء ، لا تخلوا عن إشعار أو دلالة على حياته عليه السلام وعدم توفيه بعد (2) ، لم يتوف المسيح (عليه السلام ) بقتل أو صلب ولا بالموت حتف الأنف.

-------------------------------
(1) سورة النساء ، الآيتان : 157 ـ 158 .
(2) الميزان : 133 / 5 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 295 _
  وسيظهر آخر الزمان ليدافع عن اسمه أمام مسيح دجال وقف دليلا لأصحاب جميع الانحرافات والشذوذ ، ولن يكون أتباع المسيح ابن مريم أولئك الذين قالوا بأن المسيح ابن الله ! أو الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة! فجميع هؤلاء سيجدون كراسيهم وطعامهم عند مسيح آخر دجال ، إذا ادعى النبوة صدقوه وإذا ادعى الألوهية صدقوه ، لأنهم تربوا على ثقافة تقول بأن لله ولد أو بأن لله جسد على هيئة الإنسان، فهؤلاء لن يشعروا بالغربة وهم مع المسيح لأنه امتدادا لانحرافهم .
  والدجال سيدعي كل هذا ، سيطالب بميراث بني إسرائيل ، فيصطف خلفه بني إسرائيل وخدام وكلاب بني إسرائيل ، ثم يجري الله على يديه بعض الفتن ، فيشفي الأكمه والأبرص فيتذكر النصارى معجزات المسيح ويهرولون إليه، ثم يدعي الألوهية ، ليذوق الذين رفضوا البشر الرسول والذين جحدوا بآيات الله الذل على أيدي الدجال أذل خلق الله، وبعد رفع المسيح ، وبعد أن ظن اليهود أنهم قتلوه ، بدأوا يتفرغون لأتباعه ، الذين كانوا قد تفرقوا على رؤوس الجبال انتظارا لعودة المسيح (عليه السلام ) ، وكان (عليه السلام ) قد أخبر أتباعه بأن اليهود لن يصلوا إليه ، وأنه سيعود إليهم عندما يشاء الله، على هذا كانوا يحسبون أن العودة قريبا ، فتفرقوا في الجبال انتظارا لهذه العودة (1) .
  لم يكن اليهود يشعرون بالراحة وبينهم أتباع المسيح، ومن أجل هذا بد أوا يعدون العدة لإخراجهم ، ولكن ليس من القدس وما حولها فحسب وإنما من الدين أيضا، وهذه المهمة قام بها واحد من اليهود المتعصبين لفكرة أرض الميعاد (2) وكان يدعي ( شاؤول ) ويعرف في المسيحية باسم ( بولس ) فبولس قام بتفصيل دين لا يكون خطرا على اليهود في أي منزل من منازل البشرية نزل .
  وبعد فترة من رفع المسيح ، تقدم بولس مخترقا جدار المسيحية وقدم نفسه على أنه قد قابل المسيح، وأنه تلميذه الأمين ، وفي بداية الأمر كان أتباع المسيح

-------------------------------
(1) راجع بحوثنا في المسيح الدجال .
(2) كان فريسيا ، أي تابعا للمذهب الأكثر تشددا في اليهودية ( أعمال الرسل : 7 / 26 ) .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 296 _
  يخافونه غير مصدقين أنه تلميذ أما في نهاية الأمر فقد وضع بو لس الدين الجديد الذي قال عنه الدكتور جوستاف لوبون ( إن بولس أسس باسم يسوع دينا ، لا يفقهه يسوع لو كان حيا ، ولو قيل للحواريين الإثني عشر أن الله تجسد في يسوع ، ما أدركوا هذه الفضيحة ولرفعوا أصواتهم محتجين (1)، لقد وضع بولس إنحراف التثليث الذي عكف عليه فقهاء عجل أبيس في مصر القديمة ، وفقا لأسطورة إيزيس وأوزير ، وضعه داخل جدار المسيحية ولم يكتف بهذا ، بل صاغ الدين الجديد على أساس أن يكون تابعا لليهود وساهرا على مصالحهم بصورة من الصور، وعلى أن لا ينال النصارى مقابل اتباعهم لليهود شرف الانتساب إليهم في الدم أو الميراث الموعود، وفي هذا يقول توينبي : النجاح الذي يدعو للدهشة أن بولس انتزع مسيحية لا يهودية من الدين اليهودي ، بحيث كان باستطاعة غير اليهودي أن يتقبلها بحرية من غير أن يلتزم بالشريعة اليهودية ، ومما يدعو للإعجاب بشكل مساو للدهشة أن المسيحية ذات الصبغة اليهودية السابقة الذكر، نجحت في النهاية في أن تضم إليها سكان الإمبراطورية الرومانية باستثناء اليهود ) (2) .
  والخلاصة ، وضع بولس اللبنة التي عليها يقوم صرح الدفاع عن شعب الله المختار، وفي هذا يقول الكردنال دانيلوا : ( إن المسيحيين المخلصين ، يعتبرون بولس خائنا ، وتصفه وثائق مسيحية بالعدو ، وتتهمه بالتواطؤ التكتيكي (3) ويقول موريس بوكاي ) إن بولس كان أكثر وجوه المسيحية موضعا للنقاش ، وإذا كان قد اعتبر خائنا لفكر المسيح فذلك لأنه كون مسيحية على حساب هؤلاء الذين جمعهم المسيح من حوله لنشر تعاليمه ، ولم يكن بولس قد عرف المسيح في حياته (4) وباختصار شديد ، إذا كان عزرا قد قاد القافلة في اتجاه الانحراف المظلم ، فإن بولس لمد لحق به ، لأن عزرا جدا من أجداده ، وأرض المعاد هدفا من أهدافه ، ويخطئ من يظن أن بولس قد أضاف للإنسانية

-------------------------------
(1) حياة الحقائق / جوستاف لوبون : ص 187 .
(2) تاريخ الجنس البشري / توينبي : 377 / 1 .
(3) حقيقة التبشير / أحمد عبد الوهاب : 59 .
(4) دراسات في الكتب المقدسة / بوكاي ، ص 101 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 297 _
  بعدا كريما ، بل صنع أوثانا جديدة وزين أوثانا قديمة وفي هذا يقول وول ديورانت : ( إن المسيحية لم تقض على الوثنية بل تبنتها (1) بعد أن هضمت تقاليد العقل الوثني فكرة المسيح الإله (2) وقصارى القول : إن المسيحية كانت آخر شئ عظيم ابتدعه العالم الوثني القديم ) (3).
  وهكذا شق الذين كفروا من أهل الكتاب طريقهم الذي بدأه عزرا وأنهاه بولس الذي لم ير المسيح ولم يسمع منه ، وعلى الرغم من هذا كان يقول : ( أنا أيضا عندي روح الله الروح يفحص كل شئ وحتى أعماق الله ) (4) وكان يقول : ( المسيح افتدانا من لعنة الناموس ، إذ صار لعنة لأجلنا ، لأنه مكتوب ملعون كل من علق على خشبة ) (5) هذا ما قاله بولس في حق نفسه وهذا ما قاله في حق المسيح ، فأما هو فعنده روح الله وأما المسيح فلقد صار لعنة !! ، وظل الحي اليهودي يموج في بعضه ، حتى جاء يوم النجاة ، ذلك اليوم الذي إذا رفضوه ضربهم عذاب الطمس .

  ( ثالثا ) : ما قيل عذاب الطمس :
  في الحي اليهودي ذاق اليهود العذاب على أيدي الغزاة الأجانب، وذاق النصارى العذاب على أيدي بعضهم بعضا ، وفي هذا الظلام جاءهم الهدى يحمل رايته محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فبين لهم ما التبس عليهم وما اختلفوا فيه ، وقص على بني إسرائيل قصصهم التي لا يعرفها غيرهم ، وقص على النصارى أحداث ليلة رفع الله تعالى فيها المسيح وكان أتباع المسيح يعرفونها ولكن عندما طال الأمد قام اليهود بوضع رداء الفتنة على الأحداث ووجهوها في صالحهم ، لقد قص القرآن على الأسماع ، الحقيقة التي يفوز من آمن بها ورد قولهم الذي يقول أن لله ولد ، فقال تعالى : ( اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ

-------------------------------
(1) قصة الحضارة / ديورانت مجلد 11 باب 27 ف 2 ص 276 .
(2) قصة الحضارة / ديورانت مجلد 11 باب 28 ف هـ مر 320 .
(3) قصة الحضارة / ديورانت مجلد 11 باب 27 فصل 5 ص 276 .
(4) كور : 7 / 40 .
(5) غلاطية : 3 / 13 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 298 _
  إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ) (1) قال المفسرون : في الآية حجة على نفي التعدد، فمعنى ربوبية الإله ، في شطر من الكون ونوع من أنواعه ، هو تفويض التدبير فيه إليه ، بحيث يستقل في أمره ، من غير أن يحتاج فيه إلى شئ غير نفسه ، فإذا كان هناك أرباب فلازم ذلك ، أن يستقل كل إله بما يرجع إليه من نوع التدبير ، وتنقطع رابطة الاتحاد والاتصال بين أنواع التدابير الجارية في العالم، كالنظام الجاري في العالم الإنساني عن الأنظمة الجارية في أنواع الحيوانات والنبات والبر والبحر والسهل والجبل والأرض والسماء وغيرها ، وكل منها عن كل منها ، وفيه ساد السماوات والأرض وما فيهن ، وبما أن النظام الجاري في العالم يسير على صراط واحد فإن ذلك يعني أن المدبر واحد قوله : ( وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) بيانه .
  أن التدابير الجارية في الكون مختلفة ، منها التدابير العرضية، كالتدبيرين الجاريين في البر والبحر ، والتدبيرين الجاريين في الماء والنار ، ومنها التدابير الطولية، التي تنقسم إلى تدبير عام كلي ، وتدبير خاص جزئي محكوم ، كتدبير العالم الأرضي وتدبير النبات الذي فيه ، وكتدبير العالم السماوي وتدبير كوكب من الكواكب التي في السماء. وكتدبير العالم المادي برمته ، وتدبير نوع من الأنواع المادية، فبعض التدبير، وهو التدبير العام الكلي يعلو بعضا، بمعنى أنه بحيث لو انقطع عنه ما دونه بطل ما دونه لتقومه بما فوقه ، كما أنه لو لم يكن هناك عالم أرضي أو التدبير الذي يجري فيه بالعموم ، لم يكن عالم إنساني ولا التدبير الذي يجري فيه بالخصوص ، ولازم ذلك أن يكون ، الإله الذي يرجع إليه نوع عال من التدبير ، عاليا بالنسبة إلى الإله الذي فوض إليه من التدبير ما هو ، دونه ، واستعلاء الآلهة يؤدي إلى فساد الكون ، وبما أن النظام الكوني يسير على صراط مستقيم ملتئم الأجزاء متصل التدبير، فإن هذا يعني أن المدبر واحد لا إله إلا هو ، لقد تحدث الرسول الأعظم وتلى آيات ربه وأخبرهم بأنه لو قدر تعدد الآلهة لا نفرد كل منهم بما خلق ، ونتيجة ذلك عدم انتظام الوجود ، والوجود من أمامهم يرى منتظم

-------------------------------
(1) الميزان : 62 / 15 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 299 _
  :متسق مرتبط بعضه ببعض في غاية الكمال ، وأخبرهم أن تعدد الآلهة يكون من نتيجته أن يقوم كل منهم بقهر الآخر ويعلو بعضهم على بعض ، أخبرهم بهذا وبأكثر من هذا كما في كتاب الله ، ولكن رياح السلف كانت تعصف داخل الجماجم الفارغة التي لم تقدم حقيقة واحدة تثبت صدق ادعائها، واكتفوا بركوب دواب الأهواء التي يأكلون بها أموال الناس بالباطل واتجهوا بدوابهم وراء سلف ضل وأضل ، ولله عليهم الحجة البالغة ، وكما نهاهم القرآن أن يقولوا بأن لله ولد ، نهاهم بأن لا يقولوا أن الله ثالث ثلاثة ، وأن لا يقولوا على الله إلا الحق ، قال تعالى :
  ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً ) (1) قال المفسرون : إنه خطاب للنصارى ، وإنما خوطبوا بأهل الكتاب ، وهو وصف مشترك إشعارا بأن تسميتهم بأهل الكتاب يقتضي أن لا يتجاوزوا حدود ما أنزله الله وبينه في كتبه ، ومما بينه أن لا يقولوا عليه إلا الحق ، وقوله : ( إنما المسيح ) أي المبارك ( عيسى ابن مريم ) تصريح بالاسم واسم الأم، ليكون أبعد من التفسير والتأويل بأي معنى مغاير ، وليكون دليلا على كونه إنسانا مخلوقا كأي إنسان ذي أم، ( وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ ) تفسير لمعنى الكلمة، فإنه كلمة ( كن ) التي ألقيت إلى مريم البتول، لم يعمل في تكونه الأسباب العادية كالنكاح والأب، قال تعالى : ( إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (2) فكل شئ كلمة له تعالى ، غير أن سائر الأشياء مختلطة بالأسباب العادية، والذي اختص لأجله عيسى (عليه السلام ) بوقوع اسم الكلمة ، هو فقدانه بعض الأسباب العادية في تولده ( وروح منه ) والروح من الأمر ، قال تعالى : ( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) (3) ولما كان عيسى عليه السلام ، كلمة ( كن ) التكوينية وهي أمر فهو روح.

-------------------------------
(1) سورة النساء ، الآية : 171 .
(2) سورة آل عمران ، الآية : 47 .
(3) سورة الإسراء ، الآية : 85 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 300 _
  فإذا كان كذلك وجب عليكم الإيمان بالله ، ولا تقولوا ثلاثة ، انتهوا ، حال كون الانتهاء ، أو حال كون الإيمان بالله ورسله ، ونفي الثلاثة خيرا لكم ، ( سبحانه أن يكون له ولد وله ما في السماوات وما في الأرض ) فإن الولد كيفما فرض ، هو الذي يماثل المولد في سنخ ذاته فتكونا منه ، وإذا كان كل ما في السماوات والأرض مملوكا في أصل ذاته وآثاره لله تعالى ، وهو القيوم لكل شئ وحده ، فلا يماثله شئ من هذه الأشياء فلا ولد له (1) ، لقد جاءهم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم ) وسلم بالهدى وتلى عليهم قول ربه :
  ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ * لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (2) قال المفسرون : هذا كالبيان ، لكون النصارى لم تنفعهم النصرانية والانتساب إلى المسيح (عليه السلام ) ، عن تعلق الكفر بهم ، إذ أشركوا بالله ، ولم يؤمنوا به حق إيمانه حيث قالوا ، إن الله هو المسيح ابن مريم ... ( وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ) احتجاج على كفرهم وبطلان قولهم بقول المسيح (عليه السلام ) نفسه ، فإن قوله (عليه السلام ) : ( اعبدوا الله ري وربكم ) يدل على أنه عبد مربوب مثلهم .
  وقوله : ( إنه من يشرك فقد حرم الله عليه الجنة ) يدل على أن من يجعل لله شريكا في ألوهيته، فهو مشرك كافر محرم عليه الجنة ، وفي قوله (عليه السلام ) : ( فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ) عناية بإبطال ما ينسبونه إلى المسيح من حديث الفداء ، وأنه (عليه السلام ) باختياره الصلب، فدى بنفسه عنهم ، فهم مغفور لهم ! مرفوع عنهم التكاليف الإلهية ! ومصيرهم إلى الجنة ولا يمسون نارا ! وقوله : ( لقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ ) أي أحد الثلاثة : الأب والإبن والروح ، أي هو

-------------------------------
(1) الميزان : 150 / 5 .
(2) سورة المائدة ، الآيات : 72 ـ 74 .