يخافون الملأ والأشراف من بني إسرائيل ، فإن الأشراف في بني إسرائيل ربما كانوا يمنعونهم لعدم إيمانهم أنفسهم ، أو تظاهروا بذلك ليرضوا به فرعون وقومه (1) ، وخلاصة ما نريد أن نقوله : إن الضعفاء كانوا يخافون من الداخل ومن الخارج ، ففي الداخل يوجد أصحاب المصالح الذين يضحون بأي شئ في سبيلها ، وفي الخارج فرعون وهامان وجنودها ، أما فرعون فهو عال في الأرض لا يعدل فيما يحكم ويتفنن في التعذيب والقتل ، وأما هامان فبقاؤه في بقاء فرعون وأما الجنود فغوغاء أتباع لكل ناعق ، لقد كان الضعفاء يخافون على دينهم الذي يدفعون من أجله أبناءهم ، من الذين يخافون على دنياهم ولا يتحرجون في فعل أي شئ من أجل الحفاظ إما على المصلحة وإما على الكرسي ، إن عالم الخوف هذا الذي وضع قيوده وأسواره حول الفطرة ، يعود إلى النظام الذي أقامه فرعون ، فنظام فرعون هو أخطر النظم على الفطرة ، لأنه محمل بالذهب وغني بالمصالح ومسلح بالبطش ويسهر عليه فقهاء فرق وشيع كل منهم يقدم هوى ، وجميع الأهواء تصب في النهاية عند ابن آمون وفي عالم الخوف هذا يقول تعالى : ( قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) (2) قال المفسرون : لقد استنهضهم للاستعانة بالله والصبر على ، الشدائد ، لأن الأرض يورثها من يشاء ، وفرعون لا يملك الأرض حتى يمنحها من يشاء ، ويمنع من التمتع بها من يشاء ، وقد جرت السنة الإلهية أن يخص الله من يتقيه من عباده بحسن العاقبة ، والله تعالى نظم الكون نظما يؤدي كل نوع إلى غاية وجوده وسعادته التي خلق لأجلها ، فإن جرى على صراطه الذي ركب عليه ، ولم يخرج عن خط سيره الذي خط له ، بلغ سعادته لا محالة ، والإنسان الذي هو أحد هذه الأنواع أيضا حاله هذا الحال ، إن جرى على صراطه الذي رسمته له الفطرة ، واتقى الخروج عنه والتعدي منه إلى غير سبيل الله ، هداه الله إلى عاقبته الحسنة ، وأحياه الحياة الطيبة، وأرشده إلى كل خير يبتغيه ، إن فرعون لا يملك الأرض، وإنما يمتلك أجسادا في سجون أهوائه ،

-------------------------------
(1) الميزان : 113 / 10 .
(2) سورة الأعراف ، الآية : 128 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 227 _
  والأرض لله ، والعاقبة مطلقا للمتقين ، وعلى المتقين يجري الاختبار ، قد يكون اختبارهم تحت مظلة فرعون ، وقد يكون تحت مظلة عاد أو ثمود أو أصحاب الأيكة ، وفي جميع الأحوال ، فإن أصحاب مظلات الصد عن سبيل الله، يتربعون على عروش هي أنسب شئ لشقاء لا ينتهي ، فالأرض عليها تقي وشقي ، فالمتقي لا يعنيه إن كان في القمة أو في القاع لأنه يأخذ بالأسباب ويسير في حياته وفقا لفقه الحلال والحرام ، والشقي هو تحت الزخرف والزينة شقي ، لأنه يقيم حياته على مقاييس تتصادم مع الكون وفطرة الوجود ، ولذلك فزواله حتمي ، لأن زواله سنة من سنن الوجود .
  لقد كان الضعفاء يخافون من جبابرة الداخل والخارج ، وكان موسى ( عليه السلام ) يبث فيهم الاستعانة بالله والصبر على الشدائد ، وعندما قالوا له : ( أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ) (1) قال لهم قولا بليغا ينسف قواعد تجار الأهواء والمصالح من بني إسرائيل ، الذين حرفوا التوراة بعد ذلك ، معتبرين أن العاقبة لبني إسرائيل ، ولا تحتمل شرطا ولا قيدا : ( قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ) (2) قال المفسرون :
  كأنه قال : ما أمرتكم به ، أن اتقوا الله في سبيل مقصدكم ، هذه كلمة حية ثابتة، فإن عملتم بها كان من المرجو أن يهلك الله عدوكم ويستخلفكم في الأرض.
  بإيمانكم إياها ، والله لا يصطفيكم بالاستخلاف اصطفاء جزافا ، ولا يكرمكم إكراما مطلقا من غير شرط ولا قيد ، بل ليمتحنكم بهذا الملك، ويبتليكم بهذا الاستخلاف ، فينظر كيف تعملون ، قال تعالى : ( وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء ) (3) والقرآن بهذا يبين خطأ ما يعتقده اليهود من كرامتهم على الله كرامة لا تقبل عزلا ، ولا تحتمل شرطا ولا قيدا ، والتوراة تعد شعب إسرائيل شعب الله الذين لهم الأرض المقدسة ، كأنهم ملكوها من الله سبحانه ملكا لا تقبل نقلا ولا إقالة (4) وقد بينا زيف ذلك الادعاء

-------------------------------
(1) سورة الأعراف ، الآية : 129 .
(2) سورة الأعراف ، الآية : 129 .
(3) سورة آل عمران ، الآية : 140 .
(4) الميزان : 225 / 8 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 228 _
  في سلسلة بحوثنا عن المسيح الدجال الذي مقدر له الخروج آخر الزمان ، لقد واجه الذين آمنوا الخوف الذي غرس فرعون رموزه وأوتاده وقضبانه في كل مكان ، وأمام سيل الخوف الجارف بث موسى (عليه السلام) بين أتباعه الصبر ، كان فرعون يقتل الأطفال ، فيروي الذين آمنوا الدماء بالدموع ، ويقدمون الحزن والآهات والدموع إلى موسى كي يشهد عليها ويرفعها في دعائه إلى الله .

2 ـ الاستكبار :
  لم يستطع فرعون أن يواجه حجة موسى ( عليه السلام ) التي دمر بها عقيدة الشمس وفروعها ، تلك العقيدة التي قالت بأن الآلهة قد زاولوا مهمة الحكم على الأرض يوما ! ثم غادروها ليأتي بعد ذلك أبناؤهم من البشر ليحكموا أهلها ، لقد دمر الأصنام التي شيدتها الأساطير أصنام ( رع ) ( أوزير ) ( آمون ) ( حور ) ( بتاح ) ( آتوم ) ( حتحور ) ( أبيس ) ( تحوت ) ذلك الطابور الذي تعد أوثانه بالآلاف ، وعندما لم يستطع فرعون وفقهاؤه أن يواجهوا حجج موسى ومعجزاته القاهرة مارسوا عمليات قتل الأطفال والرجال والنساء ، ولأن عمليات القتل لم يتدخل فيها من يقهر فرعون ويجبره على الكف عنها ، تطاول فرعون في هذا الميدان الخالي، واستغل هذا الموقف أمام شعبه ، فطلب منهم أن يتركوه ليقتل موسى ، وليدع موسى ربه ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ) (1) .
  قال المفسرون : ( ذروني ) أي اتركوني ، خطاب يخاطب به ملأه ، وفيه دلالة على أن هناك مانعا يمنعه ، مانعا شخصيا وهو أنه عاجز عن ذلك ، يقول الله تعالى لموسى : ( وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا ) (2) ومانعا داخليا أنه كان هناك من يشير عليه أن لا يقتل موسى ويكف عنه ، وهؤلاء جاء ذكرهم في كتاب الله كما يشير إليه قوله تعالى : ( قالوا أرجه وأخاه ) (3) فقوله : ( ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى ) كان فرعون يريد به أهدافا سياسية ، اتخذ موسى مدخلا لها ، وهو وإن كان لم يظهر عجزه أمام شعبه إلا أنه تاجر بهامش

-------------------------------
(1) سورة غافر ، الآية : 26 .
(2) سورة القصص ، الآية : 35 .
(3) سورة الشعراء ، الآية : 36 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 229 _
  ( الديمقراطية ) التي يعطيها لهم لتصب في أهدافه في نهاية الأمر . . . فسياسة ( ذروني ) تفيد أن هناك اعتراضا على قتل موسى ، وهذا الاعتراض يستقيم مع الخوف الداخلي للفرعون ، وخوف فرعون الداخلي هذا ، لا يتعارض مع خروجه وراء موسى بعد ذلك إلى البحر الذي لاقى فرعون فيه حتفه ، لأن هذا الخروج كان يخضع لسنة الاستئصال ، فالله تعالى أخرجه من دائرة الغيظ التي كانت تشتعل بداخله لعدم مقدرته قتل موسى الذي يهدد ملكه ، كما أخرجه وأخرج قومه من جنات وعيون وكنوز ، كان فرعون يعطيهم فيها مسحة من الحرية التي تصب في أهدافه يقول تعالى : ( فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ) (1) .
  ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ) ، قال المفسرون :
  وقوله : ( وليدع ربه ) أي فليدع ربه أن ينجيه من يدي وليخلصه من القتل إن قدر ... وقوله هذا مكمل لما سبق للوصول إلى أهدافه السياسية ، فكأنه يقول لقومه : اتركوني أقتل موسى الذي يقول لكم : إنه رسول رب العالمين ، وليدع ربه أن يخلصه من القتل ، فأنتم شاهدتم وتشاهدون أنني أقتل أتباع موسى ولم يخلصهم إله موسى من يدي ، وهذا يثبت ألوهيتي ... وبعد هذه المقدمة طرح فرعون أهدافه ( إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ) (2) فعدم مقدرته على قتل موسى ، جعله يفكر في فرض حصار على دعوة موسى حتى لا تنتشر بين المصريين ، قال المفسرون : ذكر لهم أنه يخاف موسى عليهم من جهة دينهم ومن جهة دنياهم ، أما من جهة دينهم والذي هو عبادة الأوثان ، فأن يقوم موسى بتبديله ويضع موضعه عبادة الله وحده ، وأما من جهة دنياهم ، فإنه إذا عظم أمر موسى وتقوى جانبه وكثر متبعوه فيترتب على هذا تمرد ، وينتهي الأمر إلى ضياع الأمن في البلاد (3) .
  لقد كانت أطروحات فرعون تنطلق من دائرة التكبر والجحود والعناد ، فهو يقتل ولكن دماء القتيل ستطوق عنقه يوم القيامة ، وهو يدافع عن دين الأوثان ودنيا

-------------------------------
(1) سورة الشعراء ، الآيتان : 57 ـ 58 .
(2) سورة غافر ، الآية : 26 .
(3) الميزان : 328 / 17 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 230 _
  الأوثان لأن في هذا مصلحته ، ويوم القيامة سيقف هو وأتباعه يلعن بعضهم بعضا ، وبعد خطاب فرعون الذي أراد به أن يحاصر الدعوة قال موسى ( عليه السلام ) : ( إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ) (1) قال المفسرون : قوله : ( عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم ) فيه مقابلة منه لفرعون في قوله :
  ( وليدع ربه ) حيث خص فرعون ربوبية الله بموسى ، فأشار موسى بقوله :
  ( عذت بربي وربكم ) أي أنه تعالى ربهم كما هو ربه ، نافذ حكمه فيهم كما هو نافذ فيه ، ومن هنا يظهر أن الخطاب في قوله : ( وربكم ) لفرعون ومن معه دون قومه من بني إسرائيل ، وقوله : ( مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ) يشير إلى فرعون وكل من يشاركه في صفتي التكبر وعدم الإيمان بيوم الحساب ولا يؤمن من اجتمعت فيه الصفتان أصلا (2) .
  ولم يذهب التهديد بقتل موسى ( عليه السلام ) سدى ، فلقد انتفض الإيمان ممثلا في مؤمن آل فرعون ، الذي قام وواجه الجبابرة بأبلغ الكلام وأقوى الحجج ، لقد قام مؤمن آل فرعون بعد خطاب فرعون ، وألزم نفسه أن ينطق بالعدل في عالم يحرمه الأجساد ولا يعدل في حق الله أو حق الناس ... يقول تعالى : ( وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ * يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ) (3) قال المفسرون : كان الرجل من القبط من خاصة فرعون ، وهم لا يعلمون بإيمانه لكتمانه إياهم ذلك تقية ، ولقد أنكر قتلهم لموسى ، وأخبرهم بأن موسى جاءهم بالبينات من ربهم ، وعلى هذا فقتله هو قتل رجل جاء بالحق من ربهم ، ثم قال لهم إن يك موسى صادقا ، يصبكم ما وعدكم من أنواع العذاب ، وإن يك كاذبا ، كفاه كذبه ، ثم قال : يا قوم لكم الملك اليوم غالبين عالين في أرض مصر ، على من دونكم من بني إسرائيل ، فمن ينصرنا من أخذ الله وعذابه كما يعدنا به موسى إن جاءنا ، وقد

-------------------------------
(1) سورة غافر ، الآية : 27 .
(2) الميزان : 328 / 17 .
(3) سورة غافر ، الآيتان : 28 ـ 29 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 231 _
  أدخل المؤمن نفسه فيهم على تقدير مجئ البأس ، ليكون أبلغ في النصح وأوقع في قلوبهم ، إنه يريد لهم من العافية ما يريده لنفسه ، وكان رد فرعون على ما أشار به المؤمن : ( مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى ) أي ما أقول لكم وأشير عليكم إلا ما أراه لنفسي ، وأنه على يقين مما يهدي إليه قومه ، وأمام هذا الاستكبار الفرعوني قال المؤمن : ( يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ ) (1) قال المفسرون : لقد حذر قومه بأس الله تعالى في الدنيا والآخرة ، وذكرهم بالذين كذبوا رسل الله في القديم كقوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم من الأمم المكذبة ، كيف حل بهم بأس الله، وما رده عنهم راد ولا صده عنهم صاد ، وما أهلكهم الله إلا بذنوبهم وتكذيبهم رسله ومخالفتهم أمره ، وما الله يريد ظلما للعباد (2) .
  وبعد أن ذكرهم بالأمم الماضية ، ذكرهم بيوسف ( عليه السلام ) فقال :
  ( وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ ) (3) قال المفسرون : أقسم لقد جاءكم يوسف من قبل بالآيات البينات التي لا تدع ريبا في رسالته من الله ، فما زلتم في شك مما جاءكم به ما دام حيا ، حتى إذا هلك ومات قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا ، فناقضتم أنفسكم ولم تبالوا ، ثم أكده بقوله : ( كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ ) (4) وكان الله تعالى قد بعث في مصر رسولا من قبل موسى وهو يوسف ( عليه السلام ) كان عزيز أهل مصر ، وكان رسولا يدعو إلى الله أمته بالقسط ، فما أطاعوه تلك الطاعة إلا بمجرد الوزارة والجاه الدنيوي ، وعندما مات قالوا طامعين لن يبعث الله من بعده رسولا! وذلك لكفرهم وتكذيبهم ، ومن كان حاله هذا يضله الله لإسرافه في أفعاله وارتياب قلبه (5) .

-------------------------------
(1) سورة غافر ، الآيتان : 30 ـ 31 .
(2) ابن كثير : 79 / 4 ، الميزان : 330 / 17 .
(3) سورة غافر ، الآية : 34 .
(4) الميزان : 330 / 17 .
(5) ابن كثير : 79 / 4 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 232 _
  وبعد أن قام المؤمن بتشخيص حالة القوم ، قام بوصف المسرف المرتاب فقال : ( الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ) (1) قال المفسرون : وصف لكل مسرف مرتاب ، فإن من تعدى طوره بالإعراض عن الحق واتباع الهوى ، واستقر في نفسه الارتياب، فكان لا يستقر على علم ولا يطمئن إلى حجة تهديه إلى الحق ، جادل في آيات الله بغير برهان إذا خالفت مقتضى هواه ، وقوله : ( كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ) يفيد أن قلوبهم مطبوع عليها فلا يفقهون حجة ولا يركنون إلى برهان (2) ومن كانت هذه صفته لا يعرف بعد ذلك معروفا ولا ينكر منكرا (3) .
  كان الرد الفرعوني ، على هذا العلم الواسع ، هو رد المسرف الكذاب والمسرف المرتاب والمتكبر الجبار، لقد أشار إلى مجموعة عمله ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ ) (4) قال المفسرون : أمر منه لوزيره هامان أن يبني له بناء يتوصل به إلى الإطلاع إلى إله موسى ! ولعله أصدر هذا الأمر أثناء محاجة الذي آمن ، ولذلك وقع ذكره بين مواعظ الذي آمن واحتجاجاته ، والمعنى : آمرك يا هامان ببنائه ، لأني أرجو أن أبلغ بالصعود عليه الأسباب ، ثم فسر الأسباب بقوله : ( أسباب السماوات ) وفرع عليه قوله : ( فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى ) كأنه يقول : أن الإله الذي يدعوه ويدعو إليه موسى ليس في الأرض إذ لا إله فيها غيري ، فلعله في السماء ، فابن لي صرحا لعلي أبلغ بالصعود عليه الأسباب السماوية الكاشفة عن خبايا السماء ، فأطلع من جهتها إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا ، وقيل : إن مراده أن يبني له رصدا يرصد فيه الأوضاع السماوية لعله يعثر فيها على ما يستدل به على وجود إله موسى ، بعد اليأس من الظفر عليه بالوسائل

-------------------------------
(1) سورة غافر ، الآية : 35 .
(2) الميزان .
(3) ابن كثير : 79 / 4 .
(4) سورة غافر ، الآيتان : 36 ـ 37 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 233 _
  الأرضية ، وهذا لا يستقيم على شئ من مذاهب الوثنية ، ولعل فرعون قال ذلك تمويها على الناس أو جهلا منه ، وما هو من الظالمين ببعيد ، ولقد زين الشيطان له قبيح عمله فرآه حسنا ، وصده عن سبيل الرشاد ، فرأى انصداده عنها ركوبا عليها ، فجادل في آيات الله بالباطل ، وأتى بمثل هذه الأعمال القبيحة والمكائد السفهية لإدحاض الحق ولذلك ختمت الآية ( وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ ) أي هلاك وانقطاع (1) .
  وبعد صدور الأوامر ببناء الصرح من الذي يقول لقومه : ( مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ) هرول الجميع من أجل تنفيذ التعليمات الفرعونية ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ ) (2) إنها ثقافة عقيدة الشمس ، فالقوم يعتقدون أن الآلهة في الفضاء أجسام تحل أرواحها على الأرض في أصنام من حجارة وأصنام من بشر ، لقد كان فرعون الذي يهدي قومه سبيل الرشاد يرى أن الله تعالى جسم ساكن في بعض طبقات الجو أو في الأفلاك ! فكان يرجو إذا نظر من الصرح أن يطلع إليه، وهو يعلم أنه لن يستطيع أن يقدم لقومه دليلا واحدا على أنه الآلهة ( آمون ) و ( رع ) وغيرهما لهم وجود في الفضاء أو في الأرض، لأن أوثانه لا توجد إلا داخل الأساطير الخرافية التي زينها الشيطان ثم احتوتها مدارس الفراعنة ! إن الأمر ببناء الصرح كان له أهداف سياسية يريد بها التعمية على الناس وإضلالهم ، إنها سياسة ما أريكم إلا ما أرى ، التي تصب في إناء ابن آمون ، ولأنها سياسة خالية من الرشد والرشاد ، خاطب المؤمن قوم فرعون كما يقول تعالى : ( وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ) (3) ، قال المفسرون : دعاهم إلى اتباعه ليهديهم ، واتباعه اتباع لموسى ، وفي

-------------------------------
(1) الميزان : 332 / 17 .
(2) سورة القصص ، الآيتان : 38 ـ 39 .
(3) سورة غافر ، الآيتان : 38 ـ 39 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 234 _
  قوله : ( أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ) تعريض لفرعون حيث قال : ( مَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ) ثم بين لهم أن الذي يستند إليه سلوك سبيل الرشاد ، ولا يستغني عنه الدين الحق هو الإعتقاد بأن للإنسان حياة خالدة مؤبدة ... هي الحياة الآخرة ، وأن هذه الحياة الدنيا متاع في الآخرة ، ومقدمة مقصودة لأجلها ، ولذلك بدء به في بيان سبيل الرشاد ، ثم ذكر السيئة والعمل الصالح ( مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (1) فقد أجمع الدين الحق، وهو سبيل الرشاد في أوجز بيان ، وهو أن للإنسان دار قرار ، يجزى فيها بما عمل في الدنيا من عمل سئ أو صالح ، فليعمل صالحا ولا يعمل سيئا ، وزاد بيانا ، إذ أفاد أنه إن عمل صالحا يرزق بغير حساب (2) .
  ثم ختم المؤمن الذي يعيش في ديار الاستكبار بيانه بدعوة لا يرفضها إلا مسرف مرتاب ومتكبر جبار قال : ( وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ * لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ * فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ) (3) قال المفسرون : قال : يا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة ، أي النجاة من النار ، وتدعونني إلى النار ، وقد كان يدعوهم إلى سبب النجاة ، ويدعونه إلى سبب دخول النار ، ثم فسر ما دعوه إليه وما دعاهم إليه ، فقال : تدعونني لأكفر ، أي إلى أن أكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم ، أي أشرك به شيئا لا حجة لي على كونه شريكا ، فأفتري على الله بغير علم ، وأنا أدعوكم إلى العزيز الذي يغلب ولا يغلب ، الغفار لمن تاب إليه وآمن به ، أي أدعوكم إلى الإيمان به والإسلام له ... لقد ثبت ثبوتا أن ما تدعونني إليه ، مما تسمونه شريكا له سبحانه ، ليس له دعوة في الدنيا ، إذ لم يعهد نبي أرسل إلى الناس من ناحية ليدعوهم إلى عبادته ، ولا في الآخرة إذ لا رجوع إليه فيها من

-------------------------------
(1) سورة غافر ، الآية : 40 .
(2) الميزان : 333 / 17 .
(3) سورة غافر ، الآيات : 41 ـ 44 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 235 _
  أحد ، وأما الذي أدعوكم إليه ، وهو الله سبحانه ، فإن له دعوة في الدنيا ، وهي التي تصداها أنبياؤه ورسله المبعوثون من عنده ، المؤيدون بالحجج والبينات ، وفي الآخرة وهي التي يتبعها رجوع الخلق إليه لفصل القضاء بينهم ... ومن المعلوم أن الربوبية لا تتم بدون دعوة في الدنيا ونظيرتها الدعوة في الآخرة ، وإذا كان الذي يدعوهم إليه ذا دعوة في الدنيا والآخرة ، دون ما يدعونه إليه ، فهو الإله دون ما يدعون إليه .
  وقوله : ( وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ) معطوف على قوله : ( أنما تدعونني ) أي لا جرم أن مردنا إلى الله ، فيجب الإسلام له واتباع سبيله ورعاية حدود العبودية ، ولا جرم أن المسرفين وهم المتعدون طور العبودية ـ وهم أنتم ـ أصحاب النار، فالذي أدعوكم إليه فيه النجاة دون ما تدعونني إليه ، ( فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ) صدر الآية موعظة وتخويف لهم ، وهو تفريع على قوله : ( وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ ) أي إذا كان لا بد من الرجوع إلى الله ، وحلول العذاب بالمسرفين ، وأنتم منهم ولم تسمعوا اليوم ما أقول لكم ، فستذكرون ما أقول لكم حين عاينتم العذاب ، وتعلمون عند ذاك أني كنت ناصحا لكم (1) .
  ( فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ).

  * 7 ـ أيام من العذاب :
  لم يستمع القوم إلى ما قاله المؤمن لهم ، ورموه بالتهم الباطلة حتى تضيع كلماته ويجلب فرعون لنفسه المنفعة ، لقد صبوا عليه الاتهامات لأنه ألقى بحججه على حياة الباطل وسمعته ، وعرى أفعالهم المرعبة النكراء التي رسمتها الشياطين المخيفة في مجالسهم ومعايدهم ، صبوا عليه الاتهامات بعد أن أخبرهم أنه عند ساعة الموت سيكتشفون الحقيقة، والحقيقة لن تكون أبدا فيما نقلوه لهم عن أوزير ورع وآمون ، فهذا الطابور هراء وهباء ضائع في خلاء وليس له دعوة ، ولا يحمل إلا بصمات الشياطين ، وإذا كانوا يظنون أن الموت يضع حدا لشقائهم بعد أن أضاعوا حياتهم في حمل الأحجار ونقشها خدمة للفرعون ، فإن الحقيقة أنه

-------------------------------
(1) الميزان : 334 / 17 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 236 _
  من عند الموت ستبدأ مأساتهم إلى ما لا نهاية ، فهناك في أسفل ، لن يروا أوزير إله الرحمة ، وسيروا مقاما من العذاب في ميزان لا نهائية ، عندما قال لهم المؤمن هذا صبوا عليه الاتهامات لأنه لم يدخل السرور والمتعة على عمر الخلود ...
  الخلود الذي يقف على بابه الفرعون ابن آمون رع ، وابن حور بن أوزير إله الخصب والموتى (1) .
  لم يستمعوا إلى صوت المؤمن ، ولم ينصتوا لموسى ( عليه السلام ) ، فأخذهم الله بالقحوط المتعددة لعلهم يذكرون يقول تعالى : ( وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) (2) قال المفسرون :
  أي اختبرناهم وامتحناهم وابتليناهم بالسنين وهي سني الجوع بسبب قلة الزروع (3) لقد ضربهم الله بالجدب كي يتبينوا أن النيل والشمس لا يملكان لهم من الله شيئا ، والنيل والشمس كانا من أهم أرباب الفراعنة ، وعندما ضربهم القحط لم يتذكر القوم ولم يتدبروا في آيات الله ، ومقابل هذا الجمود ضربهم الله تعالى بما هو أشد كي يفكروا ويتوبوا ويؤمنوا بالله ورسوله يقول تعالى :
  ( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ ) (4) لقد أرسل سبحانه عليهم ما يدعوهم للخضوع لله ، ولكنهم استكبروا وكانوا قوما مجرمين ، يقول المفسرون : قوله تعالى : ( آيات مفصلات ) يدل على أنها أرسلت متفرقة لا مجتمعة ، منفصلة بعضها عن بعض ، وكل آية من هذه الآيات كانت تأتيهم عن أخبار موسى وإنذاره ، لقد أرسل الله عليهم آياته ، أرسل الطوفان فصب عليهم الماء ، وعندما خافوا فقالوا لموسى ادع لنا ربك يكشف عنا المطر فنؤمن لك ، ونرسل معك بني إسرائيل ، فدعا ربه فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل وهكذا فعلوا مع كل آية ، يخافون فيذهبون إلى موسى ، ويعطوه العهد ... فلما يكشف عنهم العذاب يضحكون وينكثون وينقضون عهدهم ، يقول تعالى : ( فَلَمَّا جَاءهُم بِآيَاتِنَا إِذَا

-------------------------------
(1) تاريخ الجوع والخوف / للمؤلف تحت الطبع .
(2) سورة الأعراف ، الآية : 130 .
(3) ابن كثير : 239 / 2 .
(4) سورة الأعراف ، الآية : 133 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 237 _
  هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ * وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ ) (1) والعذاب عندما ضرب ، ضرب الجميع في المنازل والقصور ، وفي الشوارع وفي الحقول ، ولكن القوم في كل مكان لم يكن لديهم أي استعداد فطري للخروج على ما يراه فرعون لهم ، كانوا يتعذبون بالجوع والطوفان والجراد والقمل وغير ذلك ، وعيونهم على فرعون ليضعوا في عقولهم ما سينطق به ، لقد تعذبوا من أجل فرعون ، وساروا في طريق العذاب كي ينعموا بما وعدهم الفراعنة وكهان الفراعنة بالخلود الدائم بعد الموت ، ذلك الخلود الذي لا يكتمل إلا بطاعة فرعون .
  وبعد أن كشف الله العذاب عنهم ، ذلك العذاب الذي كان دعوة للتوبة ، بدأ فرعون في ممارسة سياسة التشكيك في الآيات التي ضربتهم كما بدأ في ممارسة سياسة التحقير من موسى ( عليه السلام ) ، ويخبر الله تعالى عن رد فرعون بعد أن جاءه موسى ( عليه السلام ) بآيات الله التسع بأنه قال : ( إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا * قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا ) (2) قال المفسرون : ذكر ههنا التسع آيات التي شاهدها فرعون وقومه من أهل مصر ، فكانت حجة عليهم فخالفوها وعاندوها كفرا وجحودا (3) وفرعون بعد هذه الآيات ازداد عنادا وكفرا واتهم موسى ( عليه السلام ) بأنه مسحور أي اختل عقله ، فقال له موسى : لقد علمت يا فرعون ما أنزل هؤلاء الآيات البينات إلا رب السماوات والأرض، أنزلها بصائر تبصر بها لتمييز الحق من الباطل ، وإني لأظنك يا فرعون هالكا بالآخرة لعنادك وجحودك ، وإنما أخذ موسى الظن دون اليقين لأن الحكم لله (4) .
  إنها سياسة التشكيك في الآيات سياسة تصف موسى مرة بأنه ساحر ، ومرة بأنه مسحور ، ومرة بأنه مجنون ومع سياسة التشكيك هذه سارت سياسة التحقير

-------------------------------
(1) سورة الزخرف ، الآيات : 47 ـ 50 .
(2) سورة الإسراء ، الآيتان : ( 101 ـ 102 ) .
(3) ابن كثير : 67 / 3 .
(4) الميزان : 219 / 13 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 238 _
  معها جنبا بجنب ، فكان فرعون ينادي في قومه : انظروا أنا من طبقة أعلى من طبقة البشر، أعلى بكثير من طبقة موسى ، وها هي الأنهار وها هم الجنود والكهنة الجميع على أرض مصر مسخر لخدمتي ، كما سخروا لخدمة آبائي من قبل الذين تشهد متون الأهرامات بأنهم كانوا آلهة أبناء آلهة (1) فكيف يأتي موسى وهو الذي لا يمتلك شيئا ولا يرجى منه شئ ، وليس له أن يكون حمالا عندنا كيف يأتي ويفرض نفسه دليلا علينا ، يقول تعالى عن الفقه الفرعوني في سياسة التشهير بعد جحود القوم بآيات الله: ( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ * فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ) (2) قال المفسرون : جمع قومه ونادى فيهم متبجحا مفتخرا بملك مصر وتصرفه فيها ـ قائلا : أفلا ترون ما أنا فيه من العظمة والملك ، وموسى وأتباعه فقراء ضعفاء لا ملك لهم ولا سلطان ، كما أن موسى الذي يريد أن يكون عليكم ( لا يكاد يبين ) أي أن لسانه فيه ثقل وفرعون في هذا كاذب ، لأن الله تعالى رفع عن موسى هذا الثقل لقوله تعالى : ( قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى ) (3) بعد قوله ( عليه السلام ) : ( وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي ) (4) وفرعون عندما يطرح على قومه ما هو ليس بموجود دليل على أنه كان يعلم أن عقول قومه في سلة مهملاته ، ثم قال فرعون ما قاله قبله كفار قوم نوح وكفار عاد وثمود ، ولكن على طريقة فرعون ، فقال : لو كان موسى رسولا .
  لألقي إليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة يخدمونه ويشهدون بتصديقه ، وكانت المعابد الفرعونية تعج حينئذ بالعديد من الكهان السحرة ، الذين يوهمون الناس بأن داخل المعابد ملائكة تعمل في خدمة الفرعون ، وعلى هذا شب القوم ... وعندما قال فرعون هذا لقومه وافقوه ( فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ) أي استخف عقولهم وأحلامهم ، ودعاهم إلى الضلالة فاستجابوا له (5) والمقولة

-------------------------------
(1) تاريخ الجوع والخوف / للمؤلف / تحت الطبع .
(2) سورة الزخرف ، الآيات : 51 ـ 54 .
(3) سورة طه ، الآية : 36 .
(4) سورة طه ، الآيتان : 27 ـ 28 .
(5) الميزان : 111 / 18 ، ابن كثير : 130 / 4 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 239 _
  الفرعونية التي تطالب بالملائكة لتكون في خدمة الرسول ، رفعها من بعده كفار قريش فقالوا : ( لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا )(1) وكم كان في قريش من فرعون ، وبعد أن شقت سياسة التشكيك والتحقير طريقها ، وبعد أن توغل فرعون في عقول قومه ، بدأ فرعون يلوح بسياسة الإرهاب ، وبدأ القوم يعلنون أن الرجم بالحجر سيكون مصير موسى ، وعندما علم موسى ( عليه السلام ) بذلك قال : ( وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ * وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ ) (2) قال المفسرون : معناه : أني التجأت إلى الله تعالى من رجمكم إياي فلا تقدرون على ذلك ، فالظاهر أنه أشار إلى ما أمنه ربه من قبل المجئ إلى القوم كما في قوله تعالى : ( قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى * قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ) (3) وبعد أن التجأ موسى إلى حصن الله الحصين ، قال لهم : إن لم تؤمنوا لي فكونوا بمعزل مني ، لا لي ولا علي ، ولا تتعرضوا إلي بخير أو شر (4) .
  وأمام سياسة التشكيك والتحقير والإرهاب توجه موسى بالدعاء : ( فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ ) (5) قال المفسرون : دعاه بأن هؤلاء قوم مجرمون ، وقد ذكر من دعائه السبب الداعي له إلى الدعاء ، وهو إجرامهم إلى حد يستحقون معه الهلاك، ويعلم ما سأله مما أجاب به ربه تعالى إذ قال بعد ذلك : ( فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا ) وهو الهلاك (6) وتفصيل دعاء موسى ( عليه السلام ) جاء في موضع آخر من كتاب الله ، عندما أمر الله تعالى موسى وهارون أن يجعلوا بيوت بني إسرائيل في مصر متقابلة يقابل بعضها بعضا وفي وجهة واحدة ، كي يتمكنا من القوم بالتبليغ ويتمكنوا من إقامة الصلاة ، فبعد هذا دعا موسى ربه

-------------------------------
(1) سورة الفرقان ، الآية : 7 .
(2) سورة الدخان، الآيتان : 20 ـ 21 .
(3) سورة طه ، الآيتان : 45 ـ 46 .
(4) الميزان : 139 / 18 .
(5) سورة الدخان ، الآية : 22 .
(6) الميزان : 140 / 18 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 240 _
  الدعاء القاصم لفرعون وقومه ، يقول تعالى : ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ) (1) قال المفسرون : وهذه الدعوة كانت من موسى غضبا لله ولدينه على فرعون وملئه الذين تبين له أنهم لا خير فيهم ولا يجئ منهم شئ ، كما دعا نوح ( عليه السلام ) فقال : ( رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ) (2) واستجاب الله تعالى لموسى ( عليه السلام ) فيهم هذه الدعوة (3) ، وذكر المفسرون أن موسى ( عليه السلام ) كان يدعو ، وكان هارون يؤمن له ، فقد كانا معا يدعوان وإن كان متن الدعاء لموسى ( عليه السلام ) وحده ، وأمرهما الله تعالى بعد أن أجاب دعوتهما أن يستقيما أي أن يثبتا على ما أمرهم الله به وإحياء كلمة الحق ولا يتبعان سبيل الذين لا يعلمون بإجابة ما يقترحونه عليهما عن أهواء أنفسهم ودواعي شهواتهم وفي هذا تلويح إلى أن فرعون وملائه سيسألون أمورا فيها إحياء سنتهم القومية وسيرتهم الجاهلية (4) وتحت مظلة الدعاء وقف موسى وقومه في محراب الإيمان ، ووقف فرعون وقومه على طريق الانحراف والشذوذ والصد عن سبيل الله لم يفكروا ما الذي ينتظرهم هناك في نهاية الطريق ؟ وهم لم يفكروا لأنهم صادروا العقل وصادروا البصيرة من قديم ، والتفوا حول كهنة المعابد ليأخذ القوم نصيبهم من الدخان ويأخذ فرعون نصيبه من الأمتعة التي تحيط به في الدنيا وترتفع به إلى عالم الاستكبار ، وعند موته تربط الأمتعة ربطا متينا وتوضع معه في قبره ، فلا يستفيد الأحياء منها ولا الأموات ، إن عقيدة الشمس تقف بأصحابها عند السراب في نهاية الطريق ، ولكن القوم رضوا بها لأن عليها بصمات الآباء ، تلك البصمات التي حجبت نفوسهم فلم يتدبروا حقيقة النور الذي جعله الله تعالى في يد موسى عليه

-------------------------------
(1) سورة يونس ، الآيات : 87 ـ 89 .
(2) سورة نوح ، الآيتان : 26 ـ 27 .
(3) ابن كثير : 429 / 2 .
(4) الميزان : 117 / 10 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 241 _
  السلام ، وهم لم يتدبروا إلا لأنهم صادروا أسماعهم وأبصارهم وعقولهم وقلوبهم ، صادروها لصالح فرعون وحده ، فرعون الذي أوهمتهم عقيدة الشمس بأنه باب الخلود الدائم والنعيم المقيم، لقد وقف فرعون وملأه تحت مظلة الدعاء الذي دعا به موسى ، وقف يتباهى بالأنهار والحقول والذهب والجنود ، وفي محراب الإيمان جلس موسى ( عليه السلام ) يبشر المؤمنين ، وهو على أرضية اليقين بأن الله تعالى استجاب الدعوة المتضمنة لعذاب فرعون وملئه وعدم توفيقهم للإيمان حتى يروا العذاب الأليم .

  * 8 ـ يوم الغضب :
  بعد أن أوحى الله تعالى لموسى وهارون أن يتخذا لقومهما مساكن من البيوت في مصر ، وكانوا قبل ذلك يعيش معظمهم عيشة البدو في أماكن مختلفة ، وأمرهم سبحانه أن يجعلوا بيوتهم متقابلة وفي وجهة واحدة ليسهل اتصال بعضهم ببعض ويتمشى أمر التبليغ والمشاورة والاجتماع والصلوات ، بعد أن أمر سبحانه بذلك ، قام موسى وهارون عليهما السلام بتنفيذ ما أمر به الله وكان فرعون يظن أن اجتماع القوم على رقعة واحدة من الأرض في صالحه ، لأنه يسهل عليه مراقبة المداخل والمخارج ويستطيع الإغارة عليهم في وقت واحد ومن جهة واحدة فيقضي عليهم جميعا ، لهذا تركهم فرعون يجتمعون ويشيدون مساكنهم ، وبعد أن ظن فرعون أن بني إسرائيل يشيدون لأنفسهم المصيدة التي فيها يهلكون ، جاء الوحي الإلهي الذي فيه هلاك فرعون وملئه ، يقول تعالى : ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ ) (1) قال المفسرون : أمرهم سبحانه بالسير ليلا ، وقوله : ( إنكم متبعون ) تعليل للأمر ، أي سر بهم ليلا ليتبعكم آل فرعون ، وفيه دلالة على أن لله في اتباعهم أمرا (2) ، وكان موسى ( عليه السلام ) يعلم بوحي من الله الاتجاه الذي يسير فيه بقومه والطرق التي يسلكها وكان لاقتراب البيوت بعضها من بعض فائدة كبيرة ، حيث تم تنفيذ الأوامر

-------------------------------
(1) سورة الشعراء ، الآية : 52 .
(2) الميزان : 276 / 15 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 242 _
  بدقة وفي وقت قصير ، وما إن تحرك ركب بني إسرائيل خارج المنطقة حتى علم فرعون بهذا التحرك، يقول تعالى : ( فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ) (1) قال المفسرون : لما علم فرعون بذلك أرسل في ( المدائن ) التي تحت سلطانه رجالا ( حاشرين ) يحشرون الناس ويجمعون الجموع ، قائلين للناس : إن ( هؤلاء ) بني إسرائيل لشرذمة قليلون ( وإنهم لنا لغائظون ) يأتون من الأعمال ما يغيظوننا به (وإنا لجميع) مجموع متفق فيما نعزم عليه ( حاذرون ) نحذر العدو أن يغتالنا أو يمكر بنا وإن كان ضعيفا قليلا .
  وبعد أن قال فرعون هذا ونقلت أبواق دعايته بلاغه هرولت الجموع الفرعونية ووقفت صفوفا وراء فرعون ، وانطلق الجميع وراء موسى وقومه يقول تعالى : ( فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ) (2) قال المفسرون: لما كان خروجهم عن مكر إلهي ، بسبب داعية الاستعلاء والاستكبار التي فيهم ، نسب سبحانه إلى نفسه أنه أخرجهم من قصورهم المشيدة وبيوتهم الرفيعة (3) وبدأ جيش الاستكبار يشق الظلام ليدخل في ظلام ، وموسى ( عليه السلام ) ينطلق بقومه في اتجاه البحر ، يقول تعالى : ( فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ) (4) قال المفسرون : تقدمت جحافل فرعون التي فيها أهل الحل والعقد والأمراء والوزراء والكبراء والرؤساء والجنود ولحقوا ببني إسرائيل ( مشرقين ) أي داخلين في وقت شروق الشمس وطلوعها ( فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ ) أي دنا بعضهم من بعض ، فرأى كل من الجمعين الآخر ( قال أصحاب موسى ) من بني إسرائيل خائفين فزعين ( نا لمدركون ) سيدركنا جنود فرعون ، قال موسى كلا لن يدركونا ( إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ) والمراد بهذه المعية ، معية الحفظ والنصرة ، وهي التي وعدها له ربه أول ما بعثه وأخاه إلى

-------------------------------
(1) سورة الشعراء ، الآيات : 53 ـ 56 .
(2) سورة الشعراء ، الآيتان : 57 ـ 58 .
(3) الميزان : 277 / 15 .
(4) سورة الشعراء ، الآيات : 60 ـ 62 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 243 _
  فرعون ( إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ) أما قوله : ( سيهدين ) أي سيدلني على طريق لا يدركني فرعون معها (1) ، وانتهى موسى ( عليه السلام ) بقومه إلى البحر، ومن خلفهم تجري عربات وخيول فرعون يقودها الصفوة في الدولة ، وكل واحد فيهم يريد أن يكون له شرف قتل موسى ليزداد قربا من فرعون ، وعند مسافة قدرها الله بين الطرفين ، جاء وقت المفاصلة ، يقول تعالى : ( فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ) (2) قال المفسرون : أي كل قطعة منفصلة من الماء ( كالطود ) وهو القطعة من الجبل العظيم ، وفي موضع آخر يقول تعالى :
  ( فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى ) (3) قال المفسرون : عندما ضرب موسى البحر بعصاه فانفلق كل فرق كالطود العظيم ، أرسل الله تعالى الريح على أرض البحر ، فلفحته حتى صار يابسا كوجه الأرض.
  وقوله : ( لا تخاف دركا ) أي من فرعون ( ولا تخشى ) أي من البحر (4) .
  وحفظ الله تعالى البحر على حاله وهيئته حتى قطعه موسى ومن معه وخرجوا منه ، وأوحى الله تعالى إلى موسى : ( وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ ) (5) ، قال المفسرون : أي اتركه ساكنا أو مفتوحا على حاله فيدخلونه طمعا في إدراككم فهم جند مغرقون (6) ، وجاء فرعون وجنوده ، وشاهدوا الطريق اليابس ، واندفعوا فيه ، لم يسجل القرآن أن فرعون تدبر في الأمر، وأيقن كعسكري أن الذي أمامه مانع طبيعي وليس صناعيا ووجود الطريق اليابس في المانع الطبيعي في لحظة يعني أن هناك معجزة ، وهذا في حد ذاته يدعوه كرجل عسكري أن يعيد تقدير الموقف على أساس جديد ، لم يسجل القرآن ذلك ليسقط فرعون أمام التاريخ كعسكري وكفرعون وكإنسان ، وانطلق فرعون بغيا وراء موسى

-------------------------------
(1) الميزان : 277 / 15 .
(2) سورة الشعراء ، الآية : 63 .
(3) سورة طه ، الآية : 77 .
(4) ابن كثير : 160 / 3 .
(5) سورة الدخان ، الآية : 24 .
(6) الميزان : 140 / 18 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 244 _
  وقومه يقول تعالى : ( فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ )(1) فعندما دخل آخرهم الطريق اليابس في البحر ، انطبق البحر عليهم يقول تعالى : ( فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا ) (2) ( انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ) (3) لم ينج أحد لقد غرق الكهنة صناع الآلهة التي من ذهب والتي من طين! وغرق الأمراء الذين أفنوا حياتهم في الارتعاش أمام كل فرعون ، لينالوا بارتعاشهم كل شئ ترجوه من متاع رخيص ، وغرق الجنود الذين أفنوا حياتهم في الارتعاش والصياح ، لقد أصبح الجميع فريسة للأمواج وسقط فرعون معهم ، والذي كان يتباهى منهم بالتصور أصبح أرخص من أي شئ في الوجود ، يقول تعالى :
  ( فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ) (4) قال المفسرون : أي أغرقناهم في البحر في صبيحة واحدة فلم يبق منهم أحد (5) ، وفي الآية من الاستهزاء بأمرهم وتهويل العذاب الواقع بهم (6) وفي موضع آخر يقول تعالى عن فرعون : ( فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ ) (7) قال المفسرون : النبذ : الطرح للشئ من غير أن يعتد به ، والمعنى : فأخذناه وجنوده ، وهم ركنه ، وطرحناهم في البحر ، والحال أنه أتى من الكفر والجحود والطغيان بما يلام عليه ، وإنما خص فرعون بالملامة مع أن الجميع يشاركونه فيها ، لأنه إمامهم الذي قادهم إلى الهلاك ، وفي الآية من الإيماء إلى عظمة القدرة وهول الأخذ ، وهوان أمر فرعون وجنوده ما لا يخفى (8) ، لقد غرقوا ، ولم يكونوا في حاجة إلى قبر وشاهد يدل عليهم ، لقد غرقوا ولم يغن عنهم أوزير الذي نسجه الخيال وقال لهم إنه ينتظر الموتى ليضعهم بين الأبرار ، لقد غرقوا وقت شروق الشمس التي طالما سبحوا بحمدها ! ودخل الطين

-------------------------------
(1) سورة طه ، الآية : 78 .
(2) سورة الإسراء ، الآية : 103 .
(3) سورة الزخرف ، الآية : 55 .
(4) سورة القصص ، الآية : 40 .
(5) ابن كثير : 390 / 3 .
(6) الميزان : 38 / 16 .
(7) سورة الذاريات ، الآية : 40 .
(8) الميزان : 380 / 18 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 245 _
  في أفواههم القذرة ، يقول تعالى في نهايتهم : ( فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ ) (1) قال المفسرون: بكاء السماء والأرض على شئ فائت ، كناية تخيلية عن تأثرهما عن قوته وفقده ، فعدم بكائهما عليهم بعد إهلاكهم ، كناية عن هوان أمرهم على الله ، وعدم تأثير هلاكهم في شئ من أجزاء الكون (2) وقيل : لم تكن لهم أعمال صالحة تصعد في أبواب السماء فتبكي على فقدهم ولا لهم في الأرض بقاع عبدوا الله تعالى فيها (3) .

  * 9 ـ مقتل الفرعون :
  لقد كان لكل مستكبر قصة وهو يصارع الغرق ، ولكن القرآن تخطى الفراعنة الصغار فلم يصف حالهم مع الموج ، لأنهم صغار أتباع لكل ناعق ! أما فرعون فلقد وقف عنده القرآن ليصف موقفه مع الغرق في مشهد وحركة ، ففرعون هو صاحب التاج الأكبر والجوزة الأعظم ! وهو مؤسس فقه الإستحواز ومؤصل عقدة الامتلاك ، وهو سيد كل طريق مسدود يبصر فيه بالجنود ويبصر بالعبيد ولا يدخل إليه إلا كل محني الظهر ، يقول تعالى في مشهد فرعون وهو يصارع الأمواج : ( وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) (4) يقول المفسرون : أي آمنت بأنه ـ وقد وصف الله ـ بالذي آمنت به بنو إسرائيل ، ليظفر بما ظفروا به بإيمانهم ، وهو مجاوزة البحر والأمان من الغرق، ولذلك أيضا جمع بين الإيمان والإسلام ، ليزيل بذلك أثر ما كان يصر عليه من المعصية ، فالإيمان كان من أجل مصلحة ، وهذا النوع من الإيمان لا ينفع صاحبه حين البأس ، قال تعالى : ( فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ) (5) إنها سنة الله في عباده أن لا تقبل

-------------------------------
(1) سورة الدخان ، الآية : 29 .
(2) الميزان : 141 / 18 .
(3) ابن كثير : 142 / 4 .
(4) الميزان : 117 / 10 .
(5) سورة غافر ، الآيتان : 84 ـ 85 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 246 _
  توبة بعد رؤية البأس (1) لهذا قال الله تعالى في جواب فرعون حين قال ما قال :
  ( آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) (2) قال المفسرون : آلآن : أي أتؤمن بالله الآن وهو حين أدركك العذاب ولا إيمان وتوبة حين غشيان العذاب ومجئ الموت من كل مكان ، وقد عصيت قبل هذا وكنت من المفسدين ، وأفنيت أيامك في معصيته ، ولم تقدم التوبة لوقتها ، فماذا ينفعك الإيمان بعد فوت وقته ، وهذا هو الذي كان موسى وهارون سألاه ربهما ، أن يأخذه بعذاب أليم ويسد سبيله إلى الإيمان، إلا حين يغشاه العذاب فلا ينفعه الإيمان ولا تغني عنه التوبة شيئا (3).
  إن التجارة لها ميدانها ، وحساب الربح والخسارة له موائده ، أما التجارة في العقيدة والبيع والشراء في آيات الله فكل هذه جرائم لا يفلت مرتكبها من تحت السماء ! ولقد تاجر فرعون في حياته بكل شئ ، وعندما ضربه الموج لم يجد في جعبته إلا أوراق الإيمان والإسلام ، ولكن هيهات هيهات ، لقد امتلأت بزته الحربية بالماء وغاصت به في الأوحال، وبعد حين دفعه الموج إلى الضفة التي بلغها يوما وهو مزهو بالنصر ، بعد أن راوده الأمل في اللحوق بموسى ، لقد قذف به البحر إلى الشاطئ ليكون عبرة لنهاية طريق ، وهو الذي التقط يوما صندوقا قذف به البحر إلى الشاطئ ليكون الذي بداخله آية لجميع الظالمين : ( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ) (4) لقد قذف اليم في أول الرحلة صندوقا به موسى ، وقذف اليم في آخر الرحلة الفرعون ! قذفه لهدف ومن وراء هذا الهدف حكمة ، فبعد مصرع الفرعون قال تعالى : ( فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ) (5) قال المفسرون : لم يقل سبحانه : ( ننجيك ) وإنما قال : ( ننجيك ببدنك ) ومعناه ننجي بدنك ، وتنجيته ببدنه تدل على أن له أمرا آخر وراء البدن ، فقده بدنه بغشيان العذاب وهو النفس التي تسمى أيضا

-------------------------------
(1) الميزان : 357 / 17 ، ابن كثير : 430 / 2 .
(2) سورة يونس ، الآية : 91 .
(3) الميزان : 118 / 10 .
(4) سورة القصص ، الآية : 8 .
(5) سورة يونس ، الآية : 92 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 247 _
  روحا ، وهذه النفس المأخوذة هي التي يتوفاها الله ويأخذها حين موتها كما قال تعالى : ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) (1) وهذه النفس هي التي يخبر عنها الإنسان بقوله : ( أنا ) وهي التي بها تتحقق للإنسان إنسانيته ، وهي التي تدرك وتريد وتفعل الأفعال الإنسانية بواسطة البدن ، بما له من القوى والأعضاء المادية .
  وليس للبدن إلا أنه آلة وأداة تعمل بها النفس أعمالها المادية ، ولمكان الاتحاد الذي بينها وبين البدن، يسمى باسمها البدن ، وإلا فأسماء الأشخاص في الحقيقة لنفوسهم لا لأبدانهم ، وناهيك في ذلك التغير المستمر الذي يعرض البدن مدى الحياة ، والتبدل الطبيعي، الذي يطرأ عليه حينا بعد حين ، حتى ربما تبدل البدن بجميع أجزائه إلى أجزاء أخر تتركب بدنا آخر ، فلو كان زيد مثلا هو البدن الذي ولدته أمه يوم ولدته ، والاسم له ، لكان غيره وهو ذو سبعين وثمانين قطعا والاسم لغيره حتما ، فهذه وأمثالها شواهد قطعية على أن إنسانية الإنسان بنفسه دون بدنه ، والأسماء للنفوس لا للأبدان ، يدركها الإنسان ويعرفها إجمالا، وإن كان ربما أنكرها في مقام التفصيل ، وبالجملة فالآية ( الْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ ) كالصريح أو هو صريح في أن النفوس وراء الأبدان، وأن الأسماء للنفوس دون الأبدان ، إلا ما يطلق على الأبدان بعناية الاتحاد، فمعنى ( ننجيك ببدنك ) نخرج بدنك من اليم وننجيه ، وهو نوع من تنجيتك ، لما بين النفس والبدن من الاتحاد القاضي بكون العمل الواقع على أحدهما واقعا بنحو على الآخر ... وهذا بوجه نظير قوله تعالى : ( مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ ) (2) فإن الذي يعاد إلى الأرض هو جسد الإنسان دون الإنسان التام فليست نسبة الإعادة إلى الإنسان إلا لما بين نفسه وبدنه من الاتحاد، وقد ذكر بعضهم أن مفاد قوله : ( ننجيك ) أن يكون فرعون خارجا من اليم حيا ، وقال البعض الآخر، إن المراد بالبدن الدرع وكان لفرعون درع من ذهب يعرف به فأخرجه الله فوق الماء بدرعه ، والحق أن هذا كله تكلف لا حاجة إليه ، فلم يقل : ( ننجيك ) وإنما قال ( ننجيك ببدنك ) ومعناه ننجي بدنك والباء للآلية أو السببية ، والعناية هي الاتحاد الذي بين النفس والبدن ، وقال البعض :

-------------------------------
(1) سورة الزمر ، الآية : 42 .
(2) سورة طه ، الآية : 55 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 248 _
  ( ننجيك ببدنك ) بمعنى نجعلك على نجوة من الأرض وهذا لا يفي بدفع الإشكال من أصله ، فإن الذي جعل على نجوة هو بدن فرعون على قولهم ، وهو غير فرعون قطعا وإلا كان حيا سالما ، ولا مناص إلا أن يقال : إن ذلك بعناية الاتحاد الذي بين الإنسان وبدنه ، ولو صححت هذه العناية إطلاق اسم الإنسان على بدنه من غير نفس ، لكان لها أن تصحح نسبة التنجية إلى الإنسان من جهة وقوع التنجية ببدنه ، وخاصة مع وجود القرينة الدالة على أن المراد بالتنجية هي التي للبدن ، دون التي للإنسان المستتبع لحفظ حياته وسلامته نفسا وبدنا والقرينة هي قوله : ( ببدنك ) (1) .

  * 10 ـ مشهد من حياة النار :
  دفعت الأمواج بالبدن ليكون للأجيال عبرة وليعلموا أن الله تعالى هو القادر الذي ناصية كل دابة بيده ، وأنه لا يقوم لغضبه شئ ( وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ) أي لا يتعظون بها ولا يعتبرون (2) لقد ذهب فرعون وقومه ، بعد أن خطوا على جبين الرحلة البشرية خطوطا عديدة للانحراف ، كانوا هم أئمتها وفقهاؤها ، ولقد حذر الله تعالى عباده من هذه الخطوط ومن هؤلاء الأدلة ، قال تعالى : ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ) (3) قال المفسرون الدعوة إلى النار، هي الدعوة إلى ما يستوجب النار من الكفر والمعاصي ، ومعنى جعلهم أئمة يدعون إلى النار ، تصييرهم سابقين يقتدي بهم اللاحقون وقال تعالى :
  ( وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً ) (4) قال المفسرون : فهم لكونهم أئمة يقتدي بهم من خلفهم في الكفر والمعاصي ، لا يزال يتبعهم ضلال الكفر والمعاصي من مقتديهم ومتبعيهم وعليهم من الأوزار مثل ما للمتبعين فيتبعهم لعن مستمر باستمرار الكفر والمعاصي بعدهم ، فالآية في معنى قوله تعالى : ( وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ) (5) .

-------------------------------
(1) الميزان : 190 / 10 .
(2) ابن كثير : 431 / 2 .
(3) سورة القصص ، الآية : 41 .
(4) سورة القصص ، الآية : 42 .
(5) سورة العنكبوت ، الآية : 13 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 249 _
  وفرعون دليل القوم في الدنيا ... هو نفسه سيكون دليل أتباعه يوم القيامة يقول تعالى : ( يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ * وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ) (1) قال المفسرون:
  يقدم قومه : فإنهم اتبعوا أمره، فكان إماما لهم من أئمة الضلال، ( فأوردهم النار ) أي يقدمهم فيوردهم النار ( وبئس الورد المورود ) والورد هو الماء الذي يرده العطاش من الحيوان والإنسان للشرب ، والورود أصله قصد الماء، وقد يستعمل في غيره ، وفي هذا استعارة لطيفة ، بتشبيه الغاية التي يقصدها الإنسان في الحياة لمساعيه المبذولة ، بالماء الذي يقصده العطشان ، وسعادة الإنسان الأخيرة هي رضوان الله والجنة ، لكن قوم فرعون لما غووا باتباع أمر فرعون ، وأخطأوا سبيل السعادة الحقيقية ، تبدلت غايتهم إلى النار ، فكانت النار هي الورد الذي يردونه ، وبئس الورد المورود، لأن الورد هو الذي يجمد لهيب الصدر ويروي العطشان، فإذا تبدل إلى عذاب النار ، فبئس الورد المورود ( وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ) أي هم اتبعوا أمر فرعون ، فأتبعتهم لعنة من الله في هذه الدنيا، وإبعاد من رحمته وطرد من ساحة قربه ، وبئس الرفد رفدهم يوم القيامة ، وهو النار التي يسجرون فيها (2) .
  والنار التي وعد الله بها فرعون ومن اتبعه يوم القيامة ، لن تكون بعيدة عنهم قبل يوم القيامة، فهم يعرضون عليها في عالم البرزخ جزاء لهم لما قدمته أيديهم وخطته على جبين الرحلة البشرية ، يقول تعالى : ( وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ * وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ ) (3) قال المفسرون: الآية صريحة أولا في أن هناك عرضا على النار ، ثم إدخالا فيها ، والإدخال أشد من العرض، وثانيا في أن العرض على النار قبل قيام الساعة التي فيها الإدخال وهو عذاب البرزخ ـ عالم متوسط بين

-------------------------------
(1) سورة هود ، الآيتان : 98 ـ 99 .
(2) الميزان : 382 / 10 .
(3) سورة غافر ، الآيات : 45 ـ 48 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 250 _
  الموت والبعث ـ وثالثا أن التعذيب في البرزخ ويوم تقوم الساعة بشئ واحد ، وهو نار الآخرة ، لكن البرزخيين يعذبون بها من بعيد وأهل الآخرة بدخولها .
  والمعنى : وحاق بآل فرعون سوء العذاب إذ يتحاجون في النار ، أو ... واذكر من سوء عذابهم إذ يتحاجون في النار ، فيقول الضعفاء منهم ، للذين استكبروا ، إنا كنا في الدنيا لكم تبعا ، وكان لازم ذلك أن تكفونا في الحوائج وتنصرونا في الشدائد ولا شدة أشد مما نحن فيه ، فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار ، وإن لم يكن جميع عذابها فقد قنعنا بالبعض ، وهذا ظهور مما رسخ في نفوسهم في الدنيا من الالتجاء بكبريائهم ومتبوعيهم من دون الله، يظهر منهم ذلك يوم القيامة ، وهم يعلمون أنهم في يوم لا تغني فيه نفس عن نفس شيئا ، والأمر يومئذ لله ، فيقول مستكبروهم : إن اليوم يوم جزاء لا يوم عمل ، فالأسباب ساقطة عن التأثير ، وقد طاحت منا ما كنا نتوهمه لأنفسنا في الدنيا من القوة والقدرة ، فحالنا وحالكم ونحن جميعا في النار واحدة ، ولسنا نختص دونكم بقوة حتى نغني عنكم شيئا من العذاب ومما قيل في الآية : إن الضمير في قوله : ( يتحاجون ) لمطلق الكفار من أهل النار ، بعيد ، والقول بأن الضمير لقريش أبعد (1).
  لقد انتهت الرحلة بالنار ، نار في عالم البرزخ ونار يوم القيامة ، كما انتهت بلعن في الدنيا ، وفي الآخرة هم من المقبوحين ، لقد انتهت الرحلة في الدنيا بالغرق وتدمير ما يعرشون ويوم القيامة بئس الرفد المرفود ، إن فرعون وقومه إنتاج حقيقي لعالم الانحراف بجميع رموزه وأعلامه ، لقد حملت الدولة الفرعونية شذوذ وانحراف قوم نوح وقوم عاد وقوم ثمود وأهل مدين ففرعون إمام دولة له مجموعة عمل قادرة على التأثير ، ولديه الإمكانيات الهائلة التي يمكن أن ينفذ بها سياسته التي دق الكفر أوتادها على امتداد زمن طويل ، ولأن فرعون مدخل للصد عن سبيل الله ومدخل إلى النار أفاض القرآن في قصته وحذر تعالى الإنسانية كلها من طرق وخطوط فرعون فقال تعالى : ( فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى )(2) قال المفسرون : إن في حديث موسى وقصته لعبرة لمن كان له خشية ، وكان من غريزته أن يخشى الشقاء والعذاب والإنسان من

-------------------------------
(1) الميزان : 336 / 17 .
(2) سورة النازعات ، الآية : 26 .