إن تبعوه في الخروج من أرضهم ، ليخرج شعيب وحده (1) ، وهذا التفسير الأخير بما يكون الأقرب لفهم بعث شعيب (عليه السلام ) إلى أصحاب الأيكة ، بمعنى أنه (عليه السلام ) كانت له مقدمة بأي صورة من الصور إلى مكان خارج مدين ، وبما أن خطابه كان فيما بعد للأيكة ، فإن الأيكة هي المرشحة لأن تكون هذا المكان، وقد توجه إليها بالدعوة بعد أن فصل الله بينه وبين مدين والله تعالى أعلم ، وخلاصة القول : أن الاستكبار وضع قافلة الإيمان بين ( فكي كماشة ) كما يقولون ، إما الخروج وإما العودة إلى ملتهم ، أما قافلة الأيمان فقد وضعت الاستكبار تحت قانون الاستفتاح ( عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ) لقد وضعوا الاستكبار تحت قوة لا طاقة لهم بها ، فشعيب (عليه السلام ) يعرف مصدر القوة ، وملجأ الأمان ، ويعلم أن ربه تعالى هو الذي يفصل بالحق بين الإيمان والطغيان ، ولقد قال لهم وهو يقيم عليهم الحجة في أول الطريق : ( وَيَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُواْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ) (2) ثم قال لهم في وسط الطريق : ( فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحكمين ) (3) ثم دعا ربه في نهاية الطريق : ( رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ) (4) لقد كان شعيب (عليه السلام ) يتوكل على ربه وحده في خوض المعركة المفروضة عليه وعلى المؤمنين معه ، والتي ليس منها مضر ، إلا بفتح من ربه ونصر .

  * 4 ـ وجاء الفتح :
  لقد دار أهل مدين في اتجاه عكسي لدوران الكون ! خالفوا الفطرة ، ونصروا الهوى وأشاعوا الفساد في الأرض، إن نقص المكيال والميزان سرقة للأرزاق ، وسرقة الأقوات مقدمة يستغلها الشيطان من أجل التشكيك في الرزاق ، وبالتشكيك يربط بين ضعاف الإيمان وبين المستكبرين الذين في سعة من زخرف

-------------------------------
(1) الميزان : 193 / 8 .
(2) سورة هود ، الآية : 93 .
(3) سورة الأعراف ، الآية : 87 .
(4) سورة الأعراف ، الآية : 89 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 177 _
  الحياة الدنيا ، فيستعبد القوي الضعيف في مرحلة ، ويعبد الضعيف القوي في مرحلة أخرى ، إن سرقة الأقوات بكل صورها هي التي ساعدت على قيام الأوثان على الأرض وفقا لسرقات كل عصر ، فهناك عصر سرق الإنسان بأي صورة من الصور وباعه في أسواق العبيد ! فأدى هذا إلى شرخ في الجدار الإنساني، ترتب عليه سخرة في مكان واستكبار واستعلاء في مكان آخر ، وفي عصر آخر قام الاستكبار بوضع أصنامه ومن حولها جيوش عالم السخرة للدفاع عنها ، وفي عصر ثالث قام لصوص الأقوات بنقص الكيل والميزان ، كي يتسع عالم السخرة ، وبدلا من وضع قيود الحديد في رقاب العبيد قديما ، وضعوا بدلا منها قيود الديون وبقيود الديون يقف الجميع أمام الصنم الجديد الذي فرضه اللصوص الجدد ، إن نقص المكيال والميزان يخضع لفقه الأهواء ولا يشيع إلا الجوع ، جوع في القمة يتفنن كل يوم في نقص جديد ، وجوع في القاع اضطربت معيشته ، وفي عالم المعيشة الضنك يتحول الجميع إلى ذئاب آدمية ، الكل ضد الكل ، ومدين قامت بوضع وتد من أوتاد الشذوذ ، وقامت بنصب خيمة ، تحتها وضع قانون لا يقل خطورة عن قانون رفض بشرية الرسول ، الذي اعتنى به آباؤهم الأوائل في عاد وثمود ، فرفض البشرية تحقير للإنسان وابتعاد به عن منارات الهدى ، ونقص المكيال والميزان تحقير للإنسان وإلقاء به في عالم المادة والأوثان ، ولأن مدين دارت في عكس دوران الفطرة جاءها العقاب يقول تعالى : ( فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ) (1) وقال تعالى : ( وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ) (2)، وهم في دارهم أخذتهم الرجفة فوقعوا على وجوههم ، وهم في ديارهم أخذتهم الصيحة فوقعوا على وجوههم ، والرجفة : الاضطراب الشديد، والجثوم في المكان : القعود فيه أو البروك على الأرض ، وهو كناية عن الموت ، والمعنى : أخذهم الاضطراب الشديد أو الزلزلة الشديدة فأصبحوا في دارهم ميتين لا حراك بهم ، لقد ضربتهم الرجفة

-------------------------------
(1) سورة العنكبوت ، الآية : 37 .
(2) سورة هود ، الآيتان : 94 ـ 95 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 178 _
  داخل دورهم ، وضربتهم الصيحة خارج الجدران وهم في الحقول وعلى قمم الجبال ، فمن لم يمت بالرجفة مات بالصيحة ، والصيحة صوت هائل ترتعد له القلوب والأركان ، لقد جاءتهم الرجفة عندما دخلوا في وقت الصباح، وقت خروجهم من أجل امتصاص الأرزاق، وعندما جاء الصباح لم يجدهم ، لأن الرجفة قد أخذتهم في أيسر زمان ، يقول تعالى : ( فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ ) (1) ، قال المفسرون : كان حالهم كحال الذين لم يطيلوا الإقامة في أرضهم ، فإن أمثال هؤلاء يسهل زوالهم لعدم تعلقهم بها في عشيرة أو أهل أو دار أو ضياع وعقار ، وأما من تمكن في أرض واستوطنها وأطال المقام بها ، وتعلق بها بكل ما يقع به التعلق في الحياة المادية ، فإن تركها له متعسر كالمتعذر ، وخاصة ترك الأمة القاطنة في أرض أرضها ، وما اقتنته فيها طول مقامها ، وقد ترك هؤلاء وهم أمة عريقة في الأرض دارهم وما فيها في أيسر زمان أخذتهم الرجفة فأصبحوا في ديارهم جاثمين ، وقد كانوا يزعمون أن شعيبا ، ومن تبعه سيخسرون ، فخاب ظنهم ، وانقلبت الدائرة عليهم، فكانوا هم الخاسرين، فمكروا ومكر الله والله خير الماكرين (2) ، لقد تصرفوا كأحرار والكون يحيط بهم من كل مكان ولا حرية لهم أمام علله وأسبابه وقد حذرهم شعيب (عليه السلام ) من عذاب محيط ( وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ ) (3) ، لكنهم لم يفكروا فيما حولهم فجاءهم العذاب الذي يحيط بدارهم وبديارهم ، عذاب فيه رجفة تهتز لها الجدران والقلوب وفيه صيحة تقرع أسماع الذين خارج الجدران ويعملون في الحبوب والحقول ، وبعدت مدين كما بعدت ثمود .

  * 5 ـ حدائق الأيكة :
  روي أن الأيكة كانت قريبة من مدين ، وكانت تمتاز بحدائقها الملتفة
-------------------------------
(1) سورة الأعراف ، الآيتان : 91 ـ 92 .
(2) الميزان : 193 / 8 .
(3) سورة هود ، الآية : 84 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 179 _
  الغناء ، وتوابعها الكثيرة : المياه والأهوار والأشجار ، ولقد ذكر بعضهم أن الأيكة هي مدين ، ولكن خالف العديد أصحاب هذا الرأي، ومنهم قتادة وغيره من الذين ذهبوا إلى أن أصحاب الأيكة أمة أخرى غير أهل مدين (1) ، والذين قالوا بأن الأيكة غير مدين أصابوا ...
  أولا: لأنهم استندوا إلى أحاديث أما غيرهم فلم يستند إلا على رأيه .
  وثانيا : أنهم استندوا على عذاب الأيكة الذي خالف عذاب مدين من حيث نوعه ، فمدين ضربت بالرجفة والصيحة ، والأيكة ضربت بعذاب الظلة ، واستندوا على كتاب الله ، فالله تعالى نسب شعيبا إلى مدين ولم ينسبه إلى الأيكة، ثم إن هناك ملامح طرد وهجرة لأتباع شعيب من مدين في كتاب الله، فربما أن تكون مقدمة شعيب قد وصلت الأيكة ثم تحرك ركب الإيمان إليهم بعد أن عم التدمير مدين كلها ، وأخيرا لقد فجر أصحاب الأيكة قضية رفض البشر الرسول وهو الذي لم يحدث في مدين ، وليس معنى هذا أن مدين كانت تعترف ببشرية الرسول ، فمدين عبدوا الأصنام وتصرفوا وفقا لأهوائهم ، ولكنهم لم يفجروا هذه القضية لأنهم لم يملكوا مؤهلاتها فالقضية لا تفجر إلا في مجتمع مترف ، وأصحاب الأيكة امتلكوا الأيكة ، وكان من عندهم يتدفق النهر الذي تحمل أمواجه الزخرف، ومدين ما هي إلا موجة من أمواجهم ، أراد شعيب (عليه السلام ) أن يطهرهم وبهم يطهر ما حولهم ، لكنهم أبوا إلا العذاب ، فأصبحوا في ديارهم جاثمين ، ودخل شعيب والذين آمنوا معه الأيكة ليبدأوا معها الطريق الذي بدأوه مع مدين. يقول تعالى :
  ( كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ ) (2) .

-------------------------------
(1) البداية والنهاية : 189 / 1 .
(2) سورة الشعراء ، الآيات ، 176 ـ 184 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 180 _
  قال المفسرون : الأيكة الغيضة الملتف شجرها ، قيل : إنها كانت غيضة بقرب مدين يسكنها طائفة وكانوا ممن بعث إليهم شعيب عليه السلام، وكان أجنبيا منهم ، ولقد أمرهم بتقوى الله ، وبين أنه رسول من عند الله ، أمين على ما حملته من الرسالة، لا أبلغكم إلا ما أمرني ربي وأراده منكم ، ولذا فرع عليه قوله : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ) فأمرهم بطاعته لأن طاعته طاعة لله ، ثم نفى سؤال الأجر لنفي الطمع الدنيوي ، وأثبت أن أجره على الله رب العالمين ، ثم أمرهم بالعدل في الأخذ والإعطاء بالكيل والوزن ، وأن لا يبخسوا الناس سلعهم وأمتعتهم ، وأن لا يفسدوا إفسادا في الأرض، ثم أمرهم أن يتقوا الله الذي خلقهم وآباءهم الأولين، الذين فطرهم وقرر في جبلتهم تقبيح الفساد والاعتراف بشؤمه ، لقد خاطبهم في صدر خطابه لهم ، كما خاطب هود وصالح عليهما السلام الجبابرة في قومهما ، أمرهم بالتقوى ونفي الأجر حتى لا يتهموه ثم أمرهم بما يستقيم مع الفطرة ... فماذا كان ردهم ؟ يقول تعالى : ( قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * وَمَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السَّمَاء إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ) (1) .
  قال المفسرون : يخبر تعالى عن جوابهم له بمثل ما أجابت به ثمود لرسولها ، تشابهت قلوبهم حيث قالوا : ( إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ) (2) وبعد ذلك فجروا قضيتهم التي وضع الشيطان بذورها ، وقال بها كل مترف مستكبر متكبر عال في الأرض، لقد خاطبوه بعيونهم ، حيث شاهدوا من حولهم حدائقهم وعبيدهم وتجارتهم التي تجوب الجزيرة والشام وتأتي إليهم بالمال الوفير، في الوقت الذي لا يمتلك هو وأتباعه ما يعلوهم ويقهرهم ، لقد خاطبوه وفقا لفقه الأعمى الذي لا ينظر إلى الوجود بعيون الفطرة ، وإنما ينظر إليها وفقا لأعمدة فقه الزينة والإغواء ، ولقد اختصر أصحاب الأيكة الطريق، فبعد أن اتهموه بالكذب ، طالبوه بالعذاب إن كان من الصادقين ، وحددوا العذاب الذي يريدون ( فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السَّمَاء ) أي أسقط علينا قطعا من السماء، وقيل :

-------------------------------
(1) سورة الشعراء ، الآيات : 185 ـ 188 .
(2) ابن كثير : 346 / 3 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 181 _
  عذاب من السماء وما طلبوه مبني على التعجيز والاستهزاء ، وما طلبوه أول الزمان طلبه كفار قريش من النبي الخاتم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وسلم فيما بعد ( وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا ـ إلى أن قالوا ـ أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء ـ كَمَا زَعَمْتَ ـ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً ) (1) لقد اختصر أصحاب الأيكة الطريق ، وذهبوا ليأكلوا الأموال ، ويشيعوا في الأرض الفساد ، وعندما طالبوا شعيبا (عليه السلام ) بالعذاب ( قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ) وهو كناية عن أنه ليس له من الأمر شئ وإنما الأمر إلى الله ، لأنه أعلم بما يعملون ، وأن عملهم هل يستوجب عذابا ؟ وما هو العذاب الذي يستوجبه إذا استوجب ؟ فهو كقول هود لقومه : ( إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ ) (2) .

  * 6 ـ لهيب تحت الظلال :
  داخل الأعشاش كان أصحاب الأيكة يتمتعون بالظل والظلال ، كانت خيامهم أشجارا مورقة، والطريق إلى منازلهم مفروشة بالزهور المتفتحة ، إذا وقف أحدهم على مرتفع وقف تحت الظلال، وإذا نظر من حوله رأى ممتلكاته التي تبشره بجني ثمر جديد ، يدر عليه ربحا جديدا ، ولم يكن يدور بخلد أحدهم أن الأخطار تترصده ، لأن هذا النوع من الناس ضيق الأفق محدود التفكير ولا يرى الأمور إلا من وجهة نظر واحدة ختمها هواه ، لقد انتقل أصحاب الأيكة بين الأزهار والثمار والأشجار والأنهار ، وكان كل شئ حولهم يوحي لهم بالاطمئنان .
  فالمنطقة تفيض بالخير لينعموا هم بالرخاء ، وكل منهم يعتقد بأنه يسلك الطريق الصحيح لامتصاص الأقوات والأرزاق وحبات العرق، ويوم الظلة جاءهم العذاب من حيث لا يشعرون يقول تعالى : ( فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) (3).
  قال المفسرون : يوم الظلة ... يوم عذبوا فيه بظلة من الغمام، وروي أنه يوم حر وسمائم ، وهذا من جنس ما سألوه من إسقاط الكسف عليهم ، فإن الله

-------------------------------
(1) سورة الإسراء ، الآيات : 90 ـ 92 .
(2) سورة الأحقاف ، الآية : 23 .
(3) سورة الشعراء ، الآية : 189 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 182 _
  سبحانه وتعالى ، جعل عقوبتهم أن أصابهم حر عظيم مدة سبعة أيام لا يكنهم منه شئ ، ثم أقبلت سحابة أظلتهم فجعلوا ينطلقون إليها يستظلون بظلها من الحر، فلما اجتمعوا كلهم تحتها أرسل الله تعالى عليهم منها شررا من نار ولهبا ووهجا عظيما (1) .
  وروي أن الله تعالى أسقط عليهم الحر الشديد سبعة أيام ، حتى علت مياههم وفارت ثم ساق إليهم غمامة فاجتمعوا تحتها للاستظلال بها من وهج الشمس وحرها ، فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا وهلكوا بأجمعهم ، وروي أن الله تعالى أرسل عليهم حرا شديدا فأخذ بأنفاسهم فدخلوا أجواف البيوت فدخل عليهم ، فلم ينفعهم الظل ولا الماء ، ثم بعث الله عليهم ريحا طيبة ، فنادى بعضهم بعضا عليكم بها ، فخرجوا إلى البرية، فلما اجتمعوا تحت السحابة ألهبها الله عليهم نارا فاحترقوا كما يحترق الجراد المقلي وصاروا رمادا وهو عذاب يوم الظلة (2) لقد ضربهم الحر وهم تحت الظلال، وهم الذين اختاروا هذا العذاب، لم يطلبوا الهداية وإنما طلبوا أن يسقط الله عليهم كسفا من السماء فجاءهم ... ويقول عنه تعالى : ( إنه كان عذاب يوم عظيم ) ، لقد ضرب الله أصحاب نقص الكيل والميزان مرتين وبين ذلك في كتابه ، إشارة إلى أن هذه الجريمة تدفع بالمجتمع الإنساني إلى عالم الذئاب، وعلى المجتمع الإنساني أن يقاومها إذا كان يؤمن بالله وباليوم الآخر، وروي أن الله تعالى أوحى إلى شعيب أني معذب من قومك مائة ألف ، أربعين ألفا من شرارهم وستين ألفا من خيارهم ، فقال (عليه السلام ) : يا رب هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار ؟ فأوحى الله عز وجل إليه : لمداهنتهم أهل المعاصي ولم يغضبوا لغضبي (3) إن الشيطان يقف وراء البراويز المزخرفة ، براويز شهوات البطن والفرج ، وعالم المكيال والميزان : أرضية خصبة ، يدخل الشيطان من خلالها إلى شهوات البطن والفرج والاستعلاء على عباد الله ، ولقد فتحت مدين وأصحاب الأيكة أبوابهم ، وتاجروا بالأخضر واليابس وفقا لأهوائهم ، بعد أن تعاموا عن أن الإنسان تحيط به علل وأسباب في كون الله الواسع ، وهذه العلل والأسباب تتحكم فيه ولا حرية له قبالها ، فإذا

-------------------------------
(1) الميزان : 312 / 15 ، ابن كثير : 346 / 3 .
(2) كتاب الأنباء : 253 ، تفسير ابن كثير : 346 / 3 .
(3) كتاب الأنباء : 253 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 183 _
  استقام على طريق الفطرة أفاض خالق العلل والأسباب عليه البركات، وإن انحرف عن سبيل الله ضربته العلل والأسباب ( بكن ) فيهلك كل منهم بذنبه ، يقول تعالى في استئصال الأمم الماضية : ( فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (1).

  * 7 ـ العودة :
  روي أن الله بعد أن أهلك أصحاب الأيكة ، رجع شعيب (عليه السلام ) إلى مقره الأول وموطن قبيلته وهي مدين ومعه أصحابه والمؤمنون ، وهناك رواية معتبرة صحيحة أن شعيبا صار أخيرا إلى مدين هو والمؤمنون به وأقام بها (2)، وأصبحت مدين مقصودة يأتيها الناس من كل مكان للتجارة ، وعندما هرب موسى (عليه السلام ) من مصر ، توجه إلى مدين ، وقد ألهمه الله تعالى ذلك ، لحكمة اقتضاها سبحانه ، وروي أن موسى (عليه السلام ) قطع رحلته من مصر إلى مدين في ثمان ليال ، فلما بلغ مدين رأى بئرا يستقي منها الناس لأغنامهم وإذا جاريتان ضعيفتان ، وإذا معهما غنيمة لهما ... قال ما خطبكما ؟ قالتا : أبونا شيخ كبير ونحن جاريتان ضعيفتان لا نقدر أن نزاحم الرجال، فإذا سقى الناس سقينا ، فرحمهما ، فأخذ دلوهما فقال لهما : قدما غنمكما فسقى لهما ثم رجعتا بكرة قبل الناس ، ثم تولى موسى إلى الشجرة التي بجانب البئر وجلس تحتها وقال : ( رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) وروي أنه قال ذلك ، وهو محتاج إلى شق تمرة ، فلما رجعتا إلى أبيهما قال : ما أعجلكما في هذه الساعة ؟ قالتا : وجدنا رجلا صالحا رحمنا فسقى لنا ، فقال لإحداهما اذهبي فادعيه لي ، فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت : إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فروي أن موسى (عليه السلام ) قال لها : وجهيني إلى الطريق وامشي خلفي ، فإنا بني يعقوب لا ننظر في أعجاز النساء ، فلما جاءه وقص عليه القصص قال : لا تخف نجوت من القوم الظالمين ، ثم قال له شعيب : إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن

-------------------------------
(1) سورة العنكبوت ، الآية : 40 .
(2) كتاب الأنباء : 253 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 184 _
  تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك ، وروي أنه قضى أتمهما لأن الأنبياء عليهم السلام لا تأخذ إلا بالفضل والتمام (1)، وأصبح موسى (عليه السلام ) صهرا لشعيب (عليه السلام ) ، وراعيا لغنمه ، ومن عند شعيب خرج موسى متوجها إلى مصر وكانت بيده عصا روي أن شعيبا كان يحتفظ بها ضمن عصي الأنبياء التي كان يضعها في بيت خاص بها ، وفي طريقه إلى مصر ناداه ربه سبحانه وتعالى كما سنبين في حينه .
  لقد طويت مدين وطوي أصحاب الأيكة، لقد ذهب أصحاب اللحوم التي من معدن ، الذين أعجبوا بحياتهم وعاشوا وسط الأجولة المكدسة بالبضائع والأدوات لامتصاص دماء الإنسان الذي يقترب منهم ، لقد احترقت أكواخهم في لمح البصر ... أخذوا على غرة ، وتعذبوا ليالي طويلة في يوم عذاب عظيم ، وبعد ذهابهم جاء الذين ساروا على أهواء مدين والأيكة ، فوقف وراء كل غصن لص ، وانقلبت جميع الموازين وجميع المكاييل، انقلبت في الوقت الذي خضعت حياة الإنسان كلها للتجارة ، وفي عالم كله تجارة لا ميزان ولا مكيال فيها ، أصبح السعداء يصيبهم الشقاء بسبب الأشقياء ، وأصبح الأشقياء يصيبهم الشقاء بسبب السعداء ، وأصبح العبيد للمادة لا حصر لهم ، ترى ألا يشعر هؤلاء يوما بالحر ؟ ربما تكون الرياح تسري عندهم داخل غرفهم وعلى شواطئهم وفي أيكاتهم ، وربما يكون الظلال من حولهم في كل مكان ، ولكن ألا يعلموا أن في كون الله ظلالا أخرى ، لا مخبأ منها والحياة تحتها لا تدوم طويلا ؟

-------------------------------
(1) الميزان : 29 / 16 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 185 _
  انحرافات فرعون موسى (عليه السلام) :
  ( وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ) سورة يونس ، الآية : 83

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 187 _
  آل فرعون ! جيش بلا قبور :
  
إنحراف الدولة

  مقدمة :
  كان فرعون قمة إنتاج فقه الانحراف ، بمعنى أن كفار قوم نوح الذين دونوا فقه النظر القاصر الذي صنف عباد الله إلى أشراف وأراذل ، والذين تعهدوا الغرس الشيطاني الذي يقوم على رفض بشرية الرسول هؤلاء توجد بصمات شذوذهم وانحرافهم على الوجه الفرعوني ، ففرعون موسى رفض النبي البشر وصنف عباد الله ( فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ) (1) وإذا كانت عاد قوم هود هم الذين دونوا فقه الغطرسة واستكبروا وقالوا من أشد منا قوة ؟ فإن بصماتهم حملها الوجه الفرعوني ، ففرعون وملئه استكبروا وكانوا قوما عالين (2) ، وإذا كانت ثمود قوم صالح قد جحدوا بآيات الله وسخروا من رسوله ، فإن بصمات الجحود والسخرية ترى بوضوح على الوجه الفرعوني ، ففرعون تولى بركنه ووصف نبي الله موسى (عليه السلام ) بأنه ساحر أو مجنون (3) ، وعندما جاءهم موسى بآيات الله كانوا منها يضحكون (4) ! وإذا كان النمرود قد قال لإبراهيم عليه

-------------------------------
(1) سورة المؤمنون ، الآية : 47 .
(2) يقول تعالى في سورة المؤمنون : ( إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ ) .
(3) قال تعالى : ( فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ) سورة الذاريات ، الآية : 39 .
(4) يقول تعالى : ( فَلَمَّا جَاءهُم بِآيَاتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ ) سورة الزخرف، الآية: 47.

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 188 _
  السلام : أنا أحي وأميت ، فإن بصمات الدولة النمرودية توجد على صفحات الدولة الفرعونية ! ففرعون هو القائل : ( أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ) (1) وهو القائل لقومه : ( مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي ) (2) وإذا كان قوم لوط قد تآمروا على إبادة النسل بطريقتهم الخاصة ، فإن لفرعون طريقته للتآمر على النسل وتبدو صورتها واضحة في خطة فرعون من أجل إبادة نسل بني إسرائيل ، وإبادة نسل كل من آمن بالله الواحد ( قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاء الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءهُمْ ) (3) فلقد تتبع مواليد بني إسرائيل وتتبع السحرة الذين آمنوا بموسى حتى يعم في الأرض الفساد ، وإذا كانت مدين قد دونت فقه نقص الكيل والميزان فإن فرعون نقص الميزان بطريقته الخاصة، فلقد غش قومه واستخفه ولم يطرح عليهم حقيقة كاملة فدولته كانت كل شئ فيها بميزان ، ولكن هذا الميزان كان في قصر فرعون والعامل عليه لا يرى إلا بعيون فرعون ( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ ) (4) لقد كان الميزان كله عند فرعون ، فرعون الذي استكبر وجنوده في الأرض بغير الحق ، وظنوا أنهم إلى الله لا يرجعون ! لقد حمل فرعون على أكتافه جميع الانحرافات والشذوذ ، بعد أن طورها لتلائم المسيرة البشرية ، وشاء الله أن يتصدى له موسى وهارون عليهما السلام، وموسى أحد الخمسة أولي العزم الذين هم سادة الأنبياء ، وقد خصهم الله بالذكر في قوله : ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا ) (5) وقال : ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ) (6) وموسى (عليه السلام ) أكثر الأنبياء ذكرا في القرآن فقد ذكر اسمه في مائة وستة وثلاثين موضعا ، وذكر البعض أن الله تعالى أشار إليه في ثلاثين موضعا آخر،

-------------------------------
(1) سورة النازعات ، الآية : 24 .
(2) سورة القصص ، الآية : 38 .
(3) سورة غافر ، الآية : 25 .
(4) سورة الزخرف ، الآية : 51 .
(5) سورة الأحزاب ، الآية : 7 .
(6) سورة الشورى ، الآية : 13 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 189 _
  وأشير إلى قصته إجمالا أو تفصيلا في أربع وثلاثين سورة من سور القرآن، وقد اختص من بين الأنبياء بكثرة المعجزات والآيات التي أيد الله بها دعوته وقد ذكر القرآن منها معجزة العصا ، واليد البيضاء ، والطوفان ، الجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، وفلق البحر، وإنزال المن والسلوى ، وانبجاس العيون من الحجر بضرب العصا ، وإحياء الموتى، ورفع الطور فوق القوم وغير ذلك ، ولقد أثنى الله تعالى على موسى (عليه السلام ) بأجمل الثناء في قوله :
  ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا * وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ) (1) وقال سبحانه : ( وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا ) (2) وقال : ( وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ) (3) وذكره في جملة من ذكرهم من الأنبياء في سورة الأنعام ، فأخبر سبحانه أنهم كانوا محسنين صالحين ، وأنه فضلهم على العالمين ، واجتباهم وهداهم إلى صراط مستقيم ... فاجتمع بذلك له (عليه السلام ) معنى الإخلاص والتقريب والوجاهة والإحسان والصلاح والتفضيل والاجتباء والهداية ، أما أخوه هارون (عليه السلام ) ، فلقد أشركه الله تعالى مع موسى (عليه السلام ) في سورة الصافات في المن وإيتاء الكتاب والهداية إلى الصراط المستقيم ، وفي التسليم وأنه من المحسنين ومن عباده المؤمنين (4) وعده سبحانه من المرسلين كما في سورة ص (5) ومن النبيين كما في سورة مريم (6) وأنه ممن أنعم الله عليهم (7) وأشركه سبحانه مع من عدهم من الأنبياء في سورة الأنعام في صفاتهم الجميلة من الإحسان والصلاح والفضل والاجتباء والهداية (8) .

-------------------------------
(1) سورة مريم ، الآيتان : 51 ـ 52 .
(2) سورة الأحزاب ، الآية : 69 .
(3) سورة النساء ، الآية : 164 .
(4) سورة الصافات ، الآيات : 114 ـ 122 .
(5) سورة طه ، الآية : 47 .
(6) سورة مريم ، الآية : 53 .
(7) سورة مريم ، الآية : 58 .
(8) سورة الأنعام ، الآية : 84 ـ 88 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 190 _
  * 1 ـ أضواء على الفرعونية :
  في الظاهر أن الباطل هو الذي يطارد الحق ، ولكن الحقيقة تخالف ذلك ، والدليل يكمن في نتيجة المطاردة ، من انتصر على من ؟ إن الباطل مهما طالت أيامه وكثر جنده واشتد ساعده ، مطارد والذي يطارده هو الله ، ولا بقاء لشئ يطارده الله ( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ) (1) إن الباطل طارئ لا أصالة فيه ، أما الحق فهو أصيل في الوجود ، والحق لا يخفى بأي وجه وعلى أي تقدير وهو من أبده البديهيات ، وليس في الوجود أي محبوب أو مطلوب أعز وأشرف وأغلى من الحق، لهذا فالحق هو الذي يطارد الباطل، ودائما وأبدا تكون نهاية هذه المطاردة أن الحق هو المنتصر في الدنيا ظاهرا وباطنا ، لقد كان كفار قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط وقوم شعيب وفرعون وقومه ، في خندق الباطل، فماذا كانت عاقبة المفسدين الذين ملأوا القلوب رعبا ، والنفوس دهشة، وخربوا الديار ، ونهبوا الأموال ، وسفكوا الدماء ، وأفنوا الجموع .
  واستعبدوا العباد وأذلوا الرقاب ، لقد مهلهم الله في عتوهم واعتدائهم ، حتى إذا بلغوا أوج قدرتهم ، واستووا على أريكة شوكتهم وغرتهم الدنيا بزينتها ، واجتذبتهم الشهوات إلى خلاعتها ، واشتغلوا بملاهي الحياة والعيش ، واتخذوا إلههم هواهم ، جاءتهم الضربة القاصمة ، فلم يبق منهم إلا أسماء إن لم تنس ، ولم يتبق من هيمنتهم إلا أحاديث !
  وفرعون قصة من قصص الجبابرة ، جاءت قصته بعد أن قص الله قصة شعيب مع قومه ، ولقد توفر للدولة الفرعونية كل أسباب القوة ، من نيل يفيض بالماء على أرض خصبة ، إلى سواعد فتية ترفع الأحجار وتحفر في الصخور ، لقد توفر للدولة المناخ والطبيعة والإنسان ، وهذه نعم من الله يجب الشكر عليها ، ولكن الفرعونية أمسكت بسمع وبصر القوم ، فتلاشى القوم ولم يظهر إلا فرعون !

  1 ـ الفرعونية :
  بعث الله تعالى إدريس (عليه السلام ) إلى مصر بعد الطوفان ـ فيما ذكره البعض ـ وأقام في مدينة منف ، وبعد أن أقام الحجة على القوم في بداية الطريق

-------------------------------
(1) سورة الأنبياء ، الآية : 18 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 191 _
  وتوفاه الله ، اتجه القوم نحو رفض بشرية الرسول ، وظهرت ثقافة دونها الكهنة عامودها الفقري ، أن الآلهة حكموا الأرض من قديم الزمان ، الآلهة لم يكن يراهم أحد ، إلا أن أرواحهم وقوتهم تحيط بالأرض ، ووفقا لهذا التصور أقاموا التماثيل لهؤلاء الآلهة الذين في تخيلاتهم ، وتقربوا إليها وأقاموا لها المعابد ، وبعد مدة من الزمان ادعى الفراعنة أمام قومهم بأنهم أبناء لهؤلاء الآلهة ، وأنهم يجلسون فوق عروشهم بأمر منهم ، وكان الفرعون خفرع هو أول من ادعى بنوته للإله ( رع ) (1) ! وعلى سنته سار جميع الفراعنة وبمقتضى هذه البنوة كان للفراعنة الحق في امتلاك حل شئ على أرض مصر ، لقد رفضوا النبوة في بداية الطريق ، لأن النبي بشر ولا ينبغي أن يكون كذلك ! وفي نهاية الطريق أصبح الذين رفضوا النبي بالأمس ، أبناء آلهة ! لتكون هذه البنوة فيما بعد مقدمة للجلوس في دائرة الآلهة ، إن ثقافة رفض النبي البشر ، قام الشيطان بتغذيتها حتى هضمتها الشعوب ، وفي النهاية جاء بمن يجلس على الرقاب ، ويقول بأن دماء الآلهة تجري في عروقه ، وعلى هذا فهو نصف إنسان ونصف إله ! وعلى الجميع السمع له والطاعة !   والفرعون خفرع لم يدع بنوته للإله رع بدون مقدمات ، فمن قديم وأسطورة ( أوزير ) الذي أطلق عليه الإغريق فيما بعد ( أوزوريس ) تنخر في عقول المصريين ، وكانت هذه الأسطورة هي الأساس الشرعي الذي استند عليه الفرعون خفرع في بنوته للإله ، وخلاصة هذه الأسطورة أن أوزير كان إلها يحكم على الأرض، ولكن غريمه إله الشر ( ست ) قتله واستولى على ملكه ، فقامت ( أوزوريس ) معشوقة أوزير بإعادة الإله المقتول إلى الحياة، وعندما عاد ضاجعها فحملت منه بالإله ( حور ) الذي أطلق عليه الإغريق اسم ( حورس ) وبدأ حور يقاتل ست من أجل استرداد حقوق أبيه ، وفي نهاية المطاف استردها. وتنازل له الإله ( أوزير ) عن الحكم فوق الأرض، وذهب ليحكم تحت الأرض في عالم الأموات فهذه المقدمة شيدت في ذهن القوم إمكانية إنجاب الولد من الإله ، ولقد بدأت ثقافة ( أوزير ) تنخر في العقول منذ بداية العصور التاريخية التي بدأت من القرن 32 قبل الميلاد حتى جاء الفرعون ( خفرع ) في عصر الدولة القديمة الذي

-------------------------------
(1) تاريخ الجوع والخوف / للمؤلف ـ تحت الطبع ـ .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 192 _
  بدأ بعصر الأسرة الثالثة وامتد حتى نهاية عصر الأسرة السادسة ( 2778 ـ 2423 ق ، م تقريبا ) وقام بدق وتد الشذوذ وادعى بنوته للإله ( رع ) ، وهذا الادعاء الذي سهرت عليه ثقافة الدولة، كان حجر عثرة في وجه كل رسول يأتي من قبل الله تعالى ، فكيف يستمع الناس لبشر رسول ، وعلى رأسهم نصف إله يحكم ويملك يضرب ويقتل؟ وبعد أن سن خفرع سنته ، تلقفها كل من حكم مصر من الغرباء ، لمعرفتهم مدى تغلغل هذه الثقافة في أعماق الشعب ، فالفراعنة ذوو الأصل الأثيوبي أو الليبي الذين حكموا مصر ادعوا أنهم أبناء آلهة (1) ، وحكام البطالمة ومن قبلهم الإسكندر ادعوا أنهم أبناء آلهة ، حتى كليوباترا عندما أنجبت ولدها قيصر الذي سماه أهل الإسكندرية قيصرون من عشيقها يوليوس قيصر ، أعلنت على الملأ بأن الإله آمون جاءها في صورة يوليوس قيصر وضاجعها فأنجبت قيصر الصغير (2) ، ومن هذا الباب ركب قيصر عرش الفراعنة، لأن القوم لا يعنيهم سوى أن تكون في عروقه يجري دماء الآلهة.
  إن لافتة الحق الإلهي التي رفعها الجبابرة ، ابن شرعي لفقه الرفض الذي بدأه الشيطان يوم رفض السجود لآدم (عليه السلام ) ، ثم رعاه بعد طرده إلى الأرض، ببث ثقافة التحقير والانتقاص لكل بشر اختاره الله لحمل رسالته إلى الناس، ففقه الرفض الذي بدأ يوما بمقولة ( خلقتني من نار وخلقته من طين ) ، تطور فيما بعد وقام بتصنيف الناس فمنهم الأشراف ومنهم الأراذل، والأشراف هم أصحاب الفضل ، وشرط اعترافهم بالرسول أن يكون من الملائكة ويمتلك ما لا يمتلكون ، ثم تطور فقه الرفض فاعترف ببشرية الرسول على أيام صالح (عليه السلام ) بشرط أن يكونوا جميعا رسلا ، فبما أنهم يماثلون الرسول في بشريته فلا مانع من أن يدعوا ما يدعيه ، ثم تطور هذا الفقه في عهد الفراعنة ، فرفع فرد مهدت له ثقافة ، ليتحدث باسم آلهة الجوع والخوف والدجل والأهواء ، ثم تطور فيما بعد ليصبح داخل كل فرد فرعون صغير ! إنه عالم الأهواء ، وما الله بغافل عما يعمل الظالمون .

-------------------------------
(1) المصدر السابق .
(2) تاريخ مصر في عهد البطالمة / وإبراهيم نصحي : 26 / 2 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 193 _
  2 ـ الفرعون :
  في عصر فرعون موسى كان بناء الشذوذ والانحراف قد اكتمل ، ففرعون علا في الأرض يقول تعالى : ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ ) (1) يقول المفسرون : العلو في الأرض كناية عن التجبر والاستكبار ، ومحصل المعنى : أن فرعون علا في الأرض، وتفوق فيها ببسط السلطة على الناس ، وإنفاذ القدرة فيهم ، وجعل أهلها شيعا وفرقا مختلفة لا تجتمع كلمتهم على شئ وبذلك ضعف عامة قوتهم على المقاومة دون قوته والامتناع من نفوذ إرادته ، وهو يستضعف طائفة منهم وهم بنو إسرائيل، وهم أولاد يعقوب (عليه السلام ) وقد قطنوا بمصر منذ أحضر يوسف (عليه السلام ) أباه وإخوته فسكنوها وتناسلوا بها (2) .
  فالذي رفع لافتة الحق الإلهي ، فرق الناس حتى لا يجتمعون على كلمة ، وفي عالم الاختلاف أسرف فرعون وتجاوز الحد في الظلم والتعذيب ، ولقد وصفه القرآن بأنه : ( كَانَ عَالِيًا مِّنَ الْمُسْرِفِينَ ) (3) وأنه طغى (4) وأنه أضل قومه وما هدى (5) وأنه ذو الأوتاد (6) الذي كان يتفنن في قتل ضحاياه ، وفرعون هذا الذي استكبر في الأرض، كان هو المصدر الوحيد للتشريع ، فلقد أعلن على قومه إعلانه الهام ( أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ) (7) ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي ) (8) ووفقا لهذا الإعلان ( قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ) (9) وقومه الذين اختلفوا فيما بينهم بعد أن

-------------------------------
(1) سورة القصص ، الآية : 4 .
(2) الميزان : 8 / 16 .
(3) سورة الدخان ، الآية : 31 .
(4) سورة طه ، الآية : 24 .
(5) سورة طه ، الآية : 79 .
(6) سورة الفجر ، الآية : 10 .
(7) سورة النازعات ، الآية : 24 .
(8) سورة القصص ، الآية : 38 .
(9) سورة غافر ، الآية : 29 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 194 _
  فرقهم فرعون شيعا وفرقا مختلفة ، لم يجتمعوا على شئ إلا على فرعون ، لأنه ابن الإله الذي سينعمون معه في عالم الخلود تحت الأرض بعد أن تنتهي حياتهم ، فهم حسب عقيدتهم ما كانوا يؤمنون بالبعث والحساب وما يترتب عليه من ثواب وعقاب بجنة أو نار ، لهذا قال فيهم يوسف (عليه السلام ) : ( إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ) (1) فالقوم كانت لهم تصوراتهم الخاصة ، وعندما بعث الله تعالى موسى (عليه السلام ) إليهم أثبت للقوم كفرهم بالساعة وما يترتب عليها فقال تعالى : ( إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى ) (2) فأخبر سبحانه أن الساعة آتية والجزاء واقع ، وأمر سبحانه موسى (عليه السلام ) أن لا يصرفه عن الإيمان بها وذكرها الذين اتبعوا أهواءهم ، فصاروا يكفرون بها ويعرضون عن عبادة ربهم ، وهؤلاء هم الذين أرسل إليهم موسى (عليه السلام ) .
  لقد كان القوم يؤمنون بأنهم بعد الموت سيعيشون في عالم الخلود في رحاب ( أوزير ) الذي يحكم تحت الأرض ، وعيشتهم الراخية هذه تتوقف على مدى طاعتهم للفرعون ابن الإله ، ففرعون هو باب المعيشة الهنيئة بعد الموت .
  وأوزير ورع وآمون وطابورهما الطويل عندهم المستقر ، لهذا كانت القبور علامة مميزة لما يرتع داخل نفوسهم ، فالقبر حياة في عقيدتهم وثقافتهم ... فرعون على بابه كابن للإله ، وبداخله يبدأ عالم الأموات فينال كل منهم نصيبه وفقا لما أداه من خدمة للابن القابع على رقبة الأحياء (3) ، لهذا كله كان لا معنى للعقيدة المصرية القديمة بدون فرعون على رأسها ، فعدم وجود فرعون يعني ضياع العقيدة، لهذا حرص المصريون القدماء على وجود فرعون حتى في ظل الغزاة الأجانب عن مصر ، ( قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ) (4) فما

-------------------------------
(1) سورة يوسف ، الآية : 37 .
(2) سورة طه ، الآيات : 14 - 16 .
(3) تاريخ الجوع والخوف / للمؤلف ، تحتب الطبع .
(4) سورة غافر ، الآية : 29 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 195 _
  كان من قومه إلا أن ينظروا بعيونه ويسمعوا بآذانه ويحبون ويكرهون بقلبه ، وعنهم يقول تعالى : ( فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ * يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ) (1) ووصف قوم فرعون في كتاب الله بأوصاف عديدة ، يقول تعالى : ( إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ) (2) وقال : ( أَنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ ) (3) وقال : ( فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ ) (4) وسماهم : ( الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) (5) والقوم الظالمين (6) .
  ولأن فرعون تجري في عروقه دماء الآلهة ! والقوم من حوله يصنعون ويشيدون له ما يريد طمعا في الخلد الدائم تحت الأرض، فما فقه التحقير والانتقاص تحت المظلة الفرعونية، فعندما جاءهم موسى وهارون عليهما السلام بالرسالة ، ما وجد فرعون أي حرج في قومه وهو يعلن لهم ( إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ) (7) ولم يجد حرجا وهو على أريكة ملكه بين صفوة دولته بأن يتهم موسى (عليه السلام ) ويقول ( سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ) (8) بل الأكثر من ذلك أن يسخر هو وقومه من معجزات موسى التي أيده الله بها ، يقول تعالى : ( فَلَمَّا جَاءهُم بِآيَاتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ ) (9) والخلاصة أن الفرعونية خرجت من تحت عباءة فقه التحقير والانتقاص من عباد الله، وما أراد الشيطان من هذه العقيدة وغيرها من العقائد الوثنية إلا الابتعاد بالسواد الأعظم من الناس عن منابع الهدى ليحقق بذلك هدفه الأكبر ألا وهو : غواية الناس أجمعين إلا من رحم الله ، وعباده المخلصين ، والفرعونية لها أشكالها ، فلقد بدأت بصورة في بداية العصور

-------------------------------
(1) سورة هود ، الآيتان : 97 ـ 98 .
(2) سورة النمل ، الآية : 12 ، سورة الزخرف، الآية : 54 ، سورة القصص ، الآية : 32 .
(3) سورة الدخان ، الآية : 22 .
(4) سورة يونس ، الآية : 75 .
(5) سورة يونس ، الآية : 86 .
(6) سورة يونس ، الآية : 85 ، سورة التحريم ، الآية : 11 .
(7) سورة الشعراء ، الآية : 27 .
(8) سورة الذاريات ، الآية : 39 .
(9) سورة الزخرف ، الآية : 47 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 196 _
  التاريخية ( 32 ق ، م ـ 2780 ق ، م ) وأضافت إلى الصورة، صورة أخرى في عصر الدولة القديمة ( 2780 ـ 23 24 ق ، م ) وعبرت عصور الاضمحلال إلى الدولة الوسطى ( 216 ـ 1778 ق ، م ) بوجوه احتفظت جميعها بالأصل ، حتى جاء عصر الدولة الحديثة ( 1575 ـ 945 ق ، م ) وظهر فرعون موسى الذي هضم التجربة كلها وامتص كل ما هو أسوء ولم يلتفت إلى رياح يوسف (عليه السلام ) ومن بعده رياح أخناتون ، ثم عبرت الفرعونية بعد عصر فرعون موسى إلى العصور الفرعونية المتأخرة ( 945 ـ 343 ق ، م ) بوجه جديد ، استلمه الإسكندر وقذف به إلى عالم الفلاسفة ليصبح فرعون الحجر قديما بيده قلم وقرطاس في عهد الإغريق (1) .
  ولما كانت للفرعونية وجوه تعود إلى أصل واحد ، وبما أن فرعون موسى هو التجسيد الحي للشذوذ الذي دونه آباؤه في عالم الانحراف ، وهو المقدمة للذين جاؤوا من بعده وجلسوا على أريكة الظلم والإسراف والاستكبار ، فإن الله تعالى جعله وقومه أئمة يدعون إلى النار يقول تعالى : ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ ) (2) قال المفسرون : الدعوة إلى النار ، هي الدعوة إلى ما يستوجب النار من الكفر والمعاصي ، ومعنى جعلهم أئمة يدعون إلى النار : تصييرهم سابقين في الضلال يقتدي بهم اللاحقون ، وقوله تعالى : ( وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ ) فهم لكونهم أئمة يقتدي بهم من خلفهم في الكفر والمعاصي ، لا يزال يتبعهم ضلال الكفر والمعاصي من مقتديهم ومتبعيهم ، وعليهم من الأوزار مثل ما للمتبعين ، فيتبعهم لعن مستمر باستمرار الكفر والمعاصي بعدهم ، فالآية في معنى قوله تعالى : ( وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ) (3) وقوله : ( وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ) (4) وتنكير اللعنة للدلالة على تفخيمها واستمرارها (5) .

-------------------------------
(1) تاريخ الجوع والخوف / للمؤلف تحت الطبع .
(2) سورة القصص ، الآيتان : 41 ـ 42 .
(3) سورة العنكبوت ، الآية : 13 .
(4) سورة يس ، الآية : 12 .
(5) الميزان : 39 / 16 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 197 _
  إن الإمام لم يكن رشيدا ، ولكنهم اتبعوه لأن هواه يوافق أهواءهم : ( وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ * يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ * وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ) (1) قال المفسرون :
  ( فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ ) الظاهر أن المراد بالأمر ، ما هو أعم من القول والفعل ، كما قال سبحانه عن فرعون في قوله : ( قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ) (2) فينطبق على السنة والطريقة التي كان يتخذها ويأمر بها وكأن الآية محاذاة لقول فرعون هذا ، فكذبه الله تعالى بقوله : ( وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ) والرشيد : فعيل من الرشد خلاف الغي ، أي : وما أمر فرعون بذي رشد حتى يهدي إلى الحق، بل كان ذا غي وجهالة (3) .
  لقد كان فرعون إمام ضلال : ( يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) وكان فرعون وقومه :
  ( أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ) فعلى القمة وعلى القاعدة أئمة يدعون إلى النار ، إن الآمر جريمة والمنفذ جريمة ، ولما كانت الفرعونية خطرا على الجنس البشري ، ضرب الله تعالى رأسها ليكون في ضرب الرأس عبرة لمن خلفه سواء أكان في القمة أو في القاع ، تماما كما ضرب سبحانه عادا وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة ، فكل قوم من هؤلاء نسج خيامه من الشذوذ وأقامها في معسكر الانحراف ليصد عن سبيل الله ، فجعلهم الله عبرة، لأنه تعالى الرحمن الرحيم بعباده الذين في بطن الغيب، فاستئصال الذين ظلموا ... يكون أمام أبناء المستقبل دليل ليحذروا من الوقوع فيما وقع فيه أبناء الماضي ، واستئصال الذين ظلموا في الماضي وفي الحاضر وفي المستقبل هو لأتباع الصراط المستقيم ، في كل زمان ومكان دعوة للتمسك بالهدى لأن النجاة والفوز في رحابه ،

  * 2 ـ مولود على أرض الفراعنة :
  إن الله تعالى رحيم مع كل جيل ، وهو سبحانه يعلم ماذا يضمر الشيطان وأتباعه للصد عن سبيل الله، لهذا يقذف الله بالحق في كل مكان وزمان ، ويقذف

-------------------------------
(1) سورة هود ، الآيات : 97 ـ 99 .
(2) سورة غافر ، الآية : 29 .
(3) الميزان : 380 / 10 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 198 _
  به في الماضي لتسري ذكراه مع كل حاضر ، وعندما يأتي الزمان المقدر له ، يواجه أتباع الشيطان، الذين قذفوا بأوراق الشذوذ وثقافة الانحراف على امتداد الأيام، من أجل إيجاد أجيال لهم في المستقبل تعتنق الشذوذ وتدافع عن الانحراف، ففي الوقت الذي كان أتباع الشيطان يمهدون بثقافة ابن الإله التي ركب عليها فرعون موسى ، كان يوسف (عليه السلام ) يبشر بموسى الذي سيواجه قمة الإنتاج الفرعوني، فعن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : ( لما حضرت يوسف الوفاة جمع شيعته وأهل بيته ، فحمد الله تعالى وأثنى عليه ، ثم أخذ يحدثهم بشدة تنالهم ، يقتل فيها الرجال وتشق فيها بطون الحبالى وتذبح الأطفال ، حتى يظهر الله الحق في القائم من ولد لاوي بن يعقوب ، وهو رجل أسمر طويل ، ثم وصفه لهم بنعته ... ) (1) .
  وظل بنو إسرائيل يتعاهدون هذه الوصية، وعندما طال الأمد ... استطالوا على الناس وعملوا بالمعاصي ، ووافق خيارهم شرارهم فسلط الله عليهم القبط يعذبونهم (2)، وفي زمان فرعون موسى تفنن في تعذيبهم وكان يستعبدهم وصنفهم في أعماله : فصنف يبنون ، وصنف يحرثون ويزرعون ويغرسون ، وصنف يتولون الأعمال القذرة (3) وليس معنى ذلك أن وصية يوسف بموسى قد ذهبت أدراج الرياح ، فمن بين بني إسرائيل من كان يحفظها عن ظهر قلب ، ويورثها لأبنائه جيلا بعد جيل ، وقد أثبتنا في كتابنا تاريخ الجوع والخوف في مصر ، أن انطلاقة أخناتون كان فيها أثر من تعاليم يوسف ومن قبله إبراهيم عليهما السلام، فأخناتون كان باحثا عن الحقيقة وكانت لا تربطه أي علاقة بأي وجه من وجوه الفرعونية المستكبرة المفسدة فبنو إسرائيل كانوا يحتفظون بالوصية ، وكان من بين المصريين من عشقها حتى اختلطت بلحمه ودمه كأخناتون وامرأة فرعون ومؤمن آل فرعون ، وعندما شاع أمر هذه الوصية في عهد فرعون موسى ، تاجر بها كهان الدجل، فنصبوا أنفسهم في مقام العالمين بأخبار الغيب، وهم لا يرون أبعد من آنافهم، وعندما رأى فرعون في منامه أن نارا قد أقبلت من بيت المقدس حتى دخلت بيوت مصر فأحرقتها وأحرقت القبط ولم تمس بني إسرائيل ، قال له

-------------------------------
(1) كتاب الأنباء : 264 .
(2) كتاب الأنباء : 265 .
(3) كتاب الأنباء : 266 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 199 _
  الكهنة : إنه يولد في بني إسرائيل غلام يسلبك ملكك ويخرجك وقومك من أرضك ويبدل ، وقد أظلك زمانه الذي يولد فيه ، ووفقا لأطروحة الكهنة التي دثروها بخوفهم على فرعون ، ووفقا لما كان يذكره بنو إسرائيل عن موسى الذي بشر به يوسف ، أمر فرعون بقتل كل غلام يولد في بني إسرائيل ! وفي حديث الثعلبي : كان فرعون يقتل الغلمان الذين كانوا في وقته من بني إسرائيل ، ومن يولد منهم بعد ذلك ، ويعذب الحبالى حتى يضعن ما في بطونهم ... وعندما اعترى الناس الخوف والرعب ، دخل رؤساء القبط على فرعون وقالوا له : إن الموت وقع في بني إسرائيل وأنت تذبح صغارهم ويموت كبارهم ، فيوشك أن يقع العمل علينا ، فأمر فرعون أن يقتل أطفالهم سنة ويتركهم سنة ، فولد هارون في السنة التي لا يقتل فيها ، وولد موسى في السنة التي يقتلون فيها (1) .
  وعندما وضعت أم موسى ولدها موسى ، ونظرت إليه اغتمت كثيرا ، وتيقنت بأنه لا يبقى لها ، بل يقتلونه ، ثم جاء الفرج يقول تعالى : ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ) (2) قال المفسرون : ( إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ) أي فيما كانوا يفعلونه في أبناء بني إسرائيل .
  تحذرا من انهدام ملكهم وذهاب سلطانهم ، فقتلوا الجم الغفير من الأبناء ولا شأن لهم في ذلك ، وتركوا موسى حيث التقطوه وربوه في حجورهم ، وكان هو الذي بيده انقراض دولتهم وزوال ملكهم .
  لقد فتح فرعون الصندوق وعندما وجد فيه صبيا قال : هذا من بني إسرائيل ! وهم بقتله وعزم على إعدامه ولكن لما نظر إليه ، ألقى الله تعالى في قلبه محبته محبة شديدة ، وكذلك أحبته آسية زوج فرعون ومع ذلك فقلب فرعون أحس بالشر وأراد قتله ، فقالت له زوجته : لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا ، وهم لا يشعرون أنه موسى ، وعندما التقطه آل فرعون ، حرم الله عليه

-------------------------------
(1) كتاب الأنباء : 267 .
(2) سورة القصص ، الآيتان : 7 ـ 8 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 200 _
  المراضع ، فجعله لا يقبل ثدي مرضع ، فكلما أتوا له بمرضع لترضعه لم يقبل ثديها ، حتى جاءت أخته ورأت الحال ـ وكانت أمه قد قالت لأخته حين ألقت به في النيل أن تتبع أثره ـ قالت لآل فرعون : هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لنفعكم وهم له ناصحون ؟ فاستمعوا لها بالقبول ، فدلتهم على أمه فسلموه إليها .
  كي تقر عينها ، ثم إن موسى شب حتى أصبح رجلا في بيت فرعون ، وكان بارعا باسلا قوي البأس ، وافر القوة ذا عقل ورشد وكياسة حسن التصرف ، كبير النفس، عالي الهمة ، بعيد النظر ، بطلا شجاعا مهيبا ، غريبا في آرائه واختياره ، عجيبا في مسلكه ومدخله ومخرجه ، وجميلا في سياسته ومعاملة الناس ، ففيه نبوغ ظاهر وعلم باهر وخلق حسن ومرؤة ولطف ودهاء ، إلى ما لا يوصف ولا مثيل له ، وقد جاء في الطبري : أنه من حينما شب موسى وقوي ، كف المصريون عن بني إسرائيل ، ومن الأمور البديهية أن يعرف فيه بنو إسرائيل الظهير والنصير لهم ، وأن يلجأ إليه المضطهد والمظلوم منهم ، ومع ذلك كله لم يخف عليه ، من أنه دخيل في بيت فرعون ، وأنه لو كشف أمره لظهر أنه من ذاك الشعب الذي يضطهده فرعون (1).

  * 3 ـ الفرار إلى مدين :
  ذكر البيضاوي أن موسى مكث في آل فرعون ثلاثين سنة ، وأنه خرج يوما حينما كان في بيت فرعون على حين غفلة من أهل المدينة فوجد مصريا يأخذ عبرانيا ليسخره في بعض عمله بغير رضى منه ، وهو يمتنع منه ، فلما رأى العبراني موسى استغاث به فجاء موسى إلى المصري ووكزه فقتله ، ولم يعلم بذلك الأمر سوى الرجل العبراني الذي نصره موسى ، وذكر الطبري أن المصريين لما عثروا على القتيل، قالوا لفرعون : إن بني إسرائيل قد قتلوا رجلا من آل فرعون ، فخذ لنا بحقنا ! فقال لهم : أروني قاتله ومن يشهد عليه ، فحينئذ أخذ آل فرعون في الفحص عن خصمهم ، وبينما هم يطوفون في سكك المدينة مستمرين في التجسس والتفتيش ، إذ مر موسى فوجد ذلك العبراني الذي كان سببا في قتل

-------------------------------
(1) كتاب الأنباء : 262 .