موجهة للشيطان أيضا فعلاوة على هزيمة ورقة تزيينه التي أراد منها إبادة النسل، فإن الله أباد أتباع الشيطان في مكان ، ورزق الولد الذي لا يقدر عليه الشيطان في مكان آخر ، إن الشيطان زين ورقة لقوم لوط فصارت الزينة ليل دائم ( فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ ) (1) ( فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ * مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ) (2) يقول المفسرون : والمعنى ، لما جاء أمرنا بالعذاب وهو أمره تعالى الملائكة بعذابهم وهو كلمة ( كن ) التي أشار إليها سبحانه في قوله : ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ ) (3) جعلنا عالي أرضهم وبلادهم سافلها بتقليبها عليهم ، وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود معلمة عند ربك ، وفي علمه ليس لها أن تخطئ هدفها الذي رميت لأجل إصابته، وذكر البعض : أن القلب وقع على بلادهم والأمطار بالسجيل عذب به الغائبون منهم ، وقيل : إن القرية هي التي أمطرت حين رفعها جبرائيل ليخسفها ، وقيل : إنما أمطرت عليهم الحجارة بعد ما قلبت قريتهم تغليظا في العقوبة (4) .
  لقد كان هناك قلب ، وصيحة ، وإمطار بالحجارة ، ( وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ ) (5) ( وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ) (6) والمطر كان من حجارة من سجيل منضود ، والحجارة مسومة قال المفسرون : منضود : قال بعضهم منضود في السماء أي معدة لذلك ، وقال آخرون : منضود : أي يتبع بعضها بعضا في نزولها عليهم ، ومسومة : أي معلمة مختومة عليها أسماء أصحابها، كل حجر عليه اسم الذي ينزل عليه ، وقيل مسومة : مطوقة بحمرة ، وذكروا أنها نزلت على أهل البلد وعلى المتفرقين في القرى مما حولها ، فبينما أحدهم يكون عند الناس يتحدث ، إذ جاءه حجر من

-------------------------------
(1) سورة الحجر ، الآية : 74 .
(2) سورة هود ، الآية : 82 .
(3) سورة يس ، الآية : 82 .
(4) الميزان : 344 / 10 .
(5) سورة الشعراء ، الآية : 173 .
(6) سورة الأعراف ، الآية : 84 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 152 _
  السماء فيسقط عليه من بين الناس فدمره ، فتتبعتهم الحجارة في سائر البلاد حتى أهلكتهم عن آخرهم ولم يتبق منهم أحد (1) ، لقد تتبعت الحجارة الذين يعملون من أجل تصدير وتسويق بضاعة الدنس، وتتبعت أتباع الدنس والعار في كل مكان يشترون فيه ويبيعون ، لأن للكون نظاما ، وكل حركة فيه من أجل هدف ومن وراء هذا الهدف حكمة ، والذين خرجوا يستوردون ويصدرون لأهداف لهم لا تستقيم مع الفطرة، ولأنهم ضد حركة الوجود، قلبوا ، بين الصيحة والإمطار ، والله غني عن العالمين ، وروي في عذابهم ، أنه لما انتصف الليل ، سار لوط ببناته ، وولت امرأته مدبرة إلى قومها ، تخبرهم أن لوطا قد سار ببناته وخرج عن ديارهم ، فقال جبرائيل (عليه السلام ) : وإني نوديت من تلقاء العرش لما طلع الفجر يا جبرائيل : حق القول من الله محتما بعذاب قوم لوط ، فاقلع قريتهم من تحت سبع أرضين ، ثم أعرج بها إلى السماء ، فأوقفها ، حتى يأتيك أمر الجبار في قلبها ، ودع منها آية من منزل لوط عبرة للسيارة ، فهبطت على أهل القرية، فضربت بجناحي الأيمن على ما حوى عليه شرقيها ، وضربت بجناحي الأيسر على ما حوى عليها غربيها فاقتلعتها من تحت سبع أرضين، إلا منزل آل لوط ... ثم عرجت بها في خوافي جناحي .
  فأوقفتها حيث يسمع أهل السماء صياح ديوكها ونباح كلابها ، فلما طلعت الشمس، نوديت من تلقاء العرش ، يا جبرائيل أقلب القرية على القوم، فقلبتها عليهم ، حتى صار أسفلها أعلاها، وأمطر الله عليهم حجارة من سجيل (2) ولا خلاف بين الأمم وأهل الأديان في قلب مدائن لوط ، ولكن يوجد اختلاف في كيفية خسف بلادهم وقلبها .

  3 ـ عبرة وتذكرة :
  لقد ذهبت أصول الدنس وقطع الله دابر قوم لوط ولم يبق منهم أحد ولكن ثقافتهم تسللت ، تماما كما تسللت ثقافة كفار قوم نوح الذين قطع الله دابرهم بالطوفان ، فمن الذي حمل الشذوذ من عالم السكون وألقاه في عالم الضجيج .

-------------------------------
(1) ابن كثير : 455 / 3 .
(2) كتاب الأنبياء : 163 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 153 _
  من الذي له مصلحة في ذلك ؟ إنه الشيطان، فالشيطان يجيد عملية تزيين الأوراق وإعادة ترتيبها وطرحها على أصحاب النفوس الأمارة بالسوء وعلى أصحاب النفوس الضعيفة التي تترك الإيمان عند أول حاجة لها ، وإذا كان الشيطان يجيد عمليات التزيين والإغواء ، فإن كيده يكون ضعيفا أمام كل متمسك بهدى الصراط المستقيم، فالله تعالى يرسل رحمته على الإنسانية، ويقوم أنبياؤه على امتداد المسيرة بإرشاد العباد إلى الصراط المستقيم ، فمن دخل في عقيدة الصراط وثقافته ، كان كيد الشيطان أمامه ضعيفا ، ومن ابتعد عن الصراط المستقيم.
  اقترب في الوقت نفسه من عالم الزينة والإغواء الذي ينادي على كل ضال كي يأتي ويستريح تحت شجرته ، وتحت الشجر تدون القوانين التي تضبط الأهواء كما يريد الشيطان ، ثم تخرج القوانين لتحمل أسماء براقة : حرية ، ديمقراطية ، وهل يوجد من يكره الحرية ؟ ولكن أي حرية ؟ إن للأهواء حرية ، وهذه الحرية ينتظرها حجر ما زال في السماء ، وما الله بغافل عما يعمل الظالمون، إن أوراق الشيطان التي تحمل بصمات قوم لوط ألقيت في عالم الضجيج، وتلقفها الذين على هوى قوم لوط ، وأضافوا على زينة الشيطان ملايين الزينات ، وفي عالم الزينة ظهر الهبوط في كل شئ ، كما ظهر مرض الإيدز، وهو مرض يضرب الشاذين جنسيا ، وهذا المرض يسري سريان النار في الهشيم، لم يعلم أصحاب قوم لوط في العصر الحديث ، أن المرض الذي يضر بهم اليوم، هو من حجر ضرب أشياعهم بالأمس ، فلقد روي من طرق عديدة ، في قوله تعالى :
  ( وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ ) عن أبي عبد الله (ع) قال : ( ما من عبد يخرج من الدنيا يستحل عمل قوم لوط ، إلا رماه الله بجند له من تلك الحجارة تكون منيته فيه ، ولكن الخلق لا يرونه ) ، وروي أيضا عنه أنه قال : ( من بات مصرا على اللواط لم يمت حتى يرميه الله بحجارة تكون فيه منيته ولا يراه أحد ) (1) إن الإيدز يفتك وعجز الطب عن مقاومته ، وإذا كان حجر الأمس قد أخذ اسما علميا اليوم فهو غدا سيأخذ اسما علميا آخر ، ولا بقاء لشئ يطارده الله ، ( وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ * مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ

-------------------------------
(1) الميزان : 347 / 10 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 154 _
  الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ) (1) تهديد مطلق فوق رؤوس الظالمين ، ( وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤمِنِينَ ) (2) قال المفسرون : إن في ذلك ، أي فيما جرى من الأمر على قوم لوط وفي بلادهم لعلامات من بقايا الآثار للمتفرسين ، وإن تلك العلامات لسبيل للعابرين مقيم لم تنمح بالكلية بعد (3) إن التهديد فوق الرؤوس والآثار على الأرض، ( وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ) (4) ( وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) (5) قال المسعودي عن ديار قوم لوط :
  " وهذه بلاد بين تخوم الشام والحجاز بما يلي الأردن وبلاد فلسطين ، إلا أن ذلك في حيز الشام، وهي مبقاة إلى وقتنا هذا ، وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة ، خرابا لا أحد فيها ، والحجارة المسومة موجودة فيها يراها الناس السفار سوداء براقة (6) وذكر بعض المؤرخين أنه قد جاءت الأخبار في الآونة الأخيرة أنهم اكتشفوا آثارا هي من آثار مدن قوم لوط وذلك على حافة البحر الميت (7) .
  إن آثار قوم لوط باقية رآها الناس أو لم يروها ، وعقاب قوم لوط باق رآه الناس أو لم يروه ، والخلاصة : أن قوم لوط قطعوا السبيل بمنعهم جريان الماء في مجراه الطبيعي، وهذا ضد حركة الكون لأن الكون حي ، وكل شئ فيه خلقه الله بقدر ، وقوم لوط أشاعوا الفساد في الأرض، والأرض جعلها الله قرارا ، وإشاعة الفساد فيها لا يجعل للمفسدين على ظهرها ثباتا ، لقد دار قوم لوط في عكس اتجاه دوران الفطرة فأصابهم ما أصابهم ، وذهبوا ، وبقيت أعلام الفطرة ترفرف على الكون ، وفي سورة النمل بعد أن قص الله تعالى قصة قوم لوط بين سبحانه نعمه العديدة فقال جل شأنه : ( وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ ) ،( قُلِ
-------------------------------
(1) سورة هود ، الآيتان : 82 ـ 83 .
(2) سورة الحجر ، الآيات : 74 ـ 76 .
(3) الميزان : 185 / 12 ، البغوي : 25 / 5 .
(4) سورة الذاريات ، الآية : 37 .
(5) سورة العنكبوت ، الآية : 35 .
(6) مروج الذهب : 42 / 1 .
(7) كتاب الأنباء : 160 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 155 _
  الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ... ) (1) .
  سبحان الله الذي لا إله إلا هو ، سبحان الذي يكشف السوء ويجري الماء فينبت به كل شئ ، سبحان الذي جعل الإنسان في الأرض خليفة ، وجعل له الأرض قرارا وفيها رواسي حتى لا تميد بمن عليها ... لقد ذهب قوم لوط بعد أن جعلهم الله عبرة لكل من يطلق لشهواته العنان ويصدم الفطرة بهواه ويسخر كل إعلان وإعلام لخدمة أهدافه الدنيئة لقد ذهب قوم لوط أصحاب نوادي المنكر، وهواهم ما زال يواصل المسير في الوحل بلا كلل ، بعد أن ارتدى ثيابا زاهية اقتحم بها أماكن كثيرة تحت عناوين جديدة ، ولقد طور أصحاب الوحل مفهوم اللواط فلم يعد يقتصر على الذكران وإنما ضربوا به الفكر حتى جف وضربوا به الإرادة حتى تهاوت ، لقد قطع الجدد أكثر من سبيل ، ويا ترى إذا مروا على مكانهم القديم وشاهدوا آثارهم على الرمال، سينزجرون ؟ أم سينقبون بين الصخور كي يعثروا على دستورهم القديم ليعيدون طبعه من جديد ؟

-------------------------------
(1) سورة النمل ، الآيات : 58 ـ 62 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 157 _
انحرافات قوم شعيب (عليه السلام) :
  ( قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء ... ) سورة هود ، الآية : 87

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 159 _
الأيكة ولهيب تحت الظلال
  [ إنحراف الكيل والميزان ]
  مقدمة :
  تقع قرية مدين في طريق الشام من الجزيرة (1) ورأس قبيلة مدين هو مدين بن إبراهيم خليل الله (عليه السلام ) (2) ، وكان أهل القرية وما حولها منعمين بالخصب ورخص الأسعار والرفاهية ، فشاع الفساد بينهم برفع الأسعار والتطفيف بنقص المكيال والميزان ، وكان القوم يعبدون الأصنام، فبعث الله تعالى إليهم شعيبا (عليه السلام ) وأمره أن ينهاهم عن عبادة الأصنام وعن الفساد في الأرض ونقص المكيال والميزان ، وشعيب تأتي قصته مع قومه في كتاب الله بعد قصة لوط ، وكان لسانه ولسان قومه عربيا ، والله تعالى لم يبعث من العرب إلا خمسة أنبياء هم : هود ، وصالح ، وإسماعيل ، وشعيب ومحمد صلى الله عليهم أجمعين ولبث شعيب في قومه مائتين واثنين وأربعين سنة ، اشتهر فيها بينهم بالعلم والحكمة والصدق والأمانة ، وعندما دعاهم إلى ما أمر الله به وذكرهم بما أصاب قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط ، لم يزدهم ذلك إلا طغيانا وكفرا وفسوقا ولم يؤمن به إلا فئة قليلة ، ورماه قومه بالسحر وبالكذب ، وأخافوه

-------------------------------
(1) الميزان : 377 / 10 .
(2) مروج الذهب : 161 / 2 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 160 _
   بالرجم ، وهددوه بالإخراج من قريتهم !
  وروي ( أن الله تعالى ما بعث نبيا مرتين إلا شعيبا ، مرة إلى مدين فأخذهم الله بالصيحة ، ومرة إلى أصحاب الأيكة فأخذهم الله بعذاب يوم الظلة ) (1) وروى ابن عساكر أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : ( إن قوم مدين وأصحاب الأيكة أمتان بعث الله إليهما شعيبا النبي (عليه السلام ) ) (2) وروى البغوي أن شعيبا أرسل مرتين (3) وروي في جوامع الجامع ( أن شعيبا أخا مدين أرسل إليهم وإلى أصحاب الأيكة )(4) ، وقال بعضهم إن مدين والأيكة أمة واحدة ، وأن شعيبا لم يرسله الله إلا مرة واحدة ، ولم يقدموا حديثا واحدا يثبت ما يقولون ، وإنما اعتمدوا على أن شعيبا وعظ هؤلاء وهؤلاء بوفاء المكيال والميزان فدل ذلك على أنهما أمة واحدة ، وما ذهب إليه أصحاب هذا القول لا يلازم الحقيقة، لأن الأيكة كانت بالقرب من مدين وكانت مشهورة بترفها الزائد نظرا لأنها كثيرة المياه والأهوار والأشجار والحدائق الملتفة، والأيكة هي على ما قيل شجر ملتف كالغيضة ، وكان يسكنها طائفة من كبار التجار ، أما مدين فكانت تمتاز بكثافة سكانية ، وكان لأصحابها حظ من الترف ولكنه لا يقاس بترف أصحاب الأيكة ... ويمكن القول بأن الأيكة كانت قمة للترف ينساب الترف عبر قنواتها ليغذي مدين ، وأصحاب الأيكة أهلكوا بعذاب الظلة أما أهل مدين فأهلكوا بالرجفة وهناك فرق بين الذين يهلكون تحت سحاب ظلة يحمل حرا ونارا ، وبين الذين يأتي عليهم الصباح وقد ضربتهم الرجفة فأصبحوا في ديارهم جاثمين ، كما أصبح أهل ثمود في ديارهم جاثمين من قبل ، إن شعيبا (عليه السلام ) بعد أن دمر الله مدين توجه إلى أصحاب الأيكة فوعظهم بمثل ما وعظ به أهل مدين لأن الجميع كانوا على رقعة تجارية واحدة عامودها الفقري : الجشع والطمع والإفساد في الأرض، وشعيب عندما بعثه الله إلى مدين قال سبحانه : ( وإلى مدين أخاهم شعيبا ) أما عندما بعثه الله إلى أصحاب الأيكة الغيضة الملتف شجرها ، كان أجنبيا عنهم ، ولذلك قال

-------------------------------
(1) تفسير ابن كثير وقال فيه إسحاق بن بشر وهو ضعيف : 345 / 3 .
(2) المصدر السابق وقال غريب وفي رفعه نظر : 345 / 3 .
(3) الميزان : 313 / 15 .
(4) الميزان : 371 / 10 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 161 _
  تعالى : ( إذ قال لهم شعيب) ولم يقل : أخوهم شعيب بخلاف هود وصالح فقد كانا نسيبين إلى قومهما ، وكذا لوط فقد كان نسيبا إلى قومه بالمصاهرة ولذا عبر عنهم سبحانه بقوله : ( أخوهم هود ) ( أخوهم صالح ) ( أخوهم لوط ).
  وتضارب الأقوال في أن شعيبا كان له قوم به أو قوم واحد ، لا يغير النتيجة عند التأمل ، فالنتيجة واحدة هنا وهناك وتحمل قولا واحدا هو أن الله تعالى أهلك الذين بعث فيهم شعيب ودمرهم بسبب تمردهم على الله وعلى رسوله وتكذيبهم له ، وشعيب (عليه السلام ) واجه تجار الجشع والطمع على أرض مدين والأيكة بمعارف وعلوم وأدب رفيع وأقام عليهم الحجة في أتم ما يكون، وكان (عليه السلام ) في زمرة الرسل المكرمين، وقد أشركه الله فيمن أثناهم به من الثناء الجميل في كتابه ، وقصص شعيب ، ذكر الله تعالى طرفا منها في كتابه الكريم في سور : الأعراف ، هود ، الشعراء، القصص، العنكبوت وكان شعيب (عليه السلام ) معاصرا لموسى عليه السلام، وقد زوجه إحدى ابنتيه على أن يأجره موسى ثمان حجج وإن أتم عشرا فمن عنده ، فخدمه موسى عشر سنين ، ثم ودعه ، وسار بأهله إلى مصر .

  * 1 ـ من خيام الانحراف :
  فطر الله تعالى الإنسان على فطرة تهديه إلى الحق، ولأن الله تعالى خلق الإنسان ليكون خليفة في الأرض فإنه تعالى فطره على الاجتماع ، فطره على أن تكون حياته في مجتمع ، لهذا قام الإنسان في البداية بتأسيس المجتمع المنزلي أولا ثم اتسع عالم الاجتماع الإنساني شيئا فشيئا حتى صار مجتمعا مدنيا تقوم عليه حضارات واسعة ، والإنسان في خطوته الأولى زوده الله تعالى بالحرية ، فله أن يختار جانب الفعل وله أن يختار جانب الترك ، فأي فعل يقف عليه له مطلق العنان في أن يختار جانب الفعل ، وله أن يختار جانب الترك ، وإلى جانب هذه الحرية، فإن للإنسان أن يختار لنفسه ما شاء من طرق الحياة ويعمل بما شاء من العمل ، وليس لأحد من بني نوعه أن يستعلي عليه فيستعبده ويمتلك إرادته وعمله ويحمله على ما يكرهه فهذه الحرية ضمن عجينة الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، كي يقيم الإنسان المجتمع على الأرض، والإنسان على الأرض أحاطه

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 162 _
  الله سبحانه بعلل وأسباب كونية تحيط به من جميع الجهات ، لا حرية له أمامها، والإنسان أمام هذه العلل والأسباب الكونية لا يأخذ إلا ما أذنت فيه هذه العلل والأسباب ، وليس كل ما أحبه الإنسان وأراده بواقع ، ولا هو في كل ما اختاره لنفسه بموفق له ، ولكي يستقر المجتمع الذي شيده الإنسان على الأرض، لا بد وأن يستقيم مع خط هذه العلل والأسباب حتى لا يحدث التصادم ، والاستقامة مع خط العلل لا يكون إلا بالخضوع التام لخالق العلل والأسباب وخالق الإنسان والأرض، وخالق العلل والأسباب التي تحيط بالإنسان من جميع الجهات ولا حرية له أمامها لأنها تملكه وتحيط به ، هو الله تعالى ، فهو سبحانه الحاكم على الإطلاق والمطاع من غير قيد وشرط ، والله تعالى كما ذكرنا فطر الإنسان على الاجتماع، فالإنسان مدني بطبعه ، وما دام هناك مجتمع فلا بد أن يكون هناك قانون ، لأن المجتمع لا يقوم له صلب دون أن يجري فيه سنن وقوانين يتسلمها الأفراد ، فأفراد بلا قانون لا يقيمون مجتمعا ، وعدم إقامة المجتمع يكون خروجا عن الفطرة، لأن الفطرة تدعو لإقامة مجتمع إنساني يكون الإنسان فيه خليفة في الأرض، وإذا حدث وأقيم مجتمع ما على قانون يستند على أهواء أفراده ، فإن هذا أيضا يكون خروجا عن الفطرة، لأن الأفراد الذين يضعون القانون لا حرية لهم أمام العلل والأسباب الكونية التي تحيط بهم من جميع الجهات ، فكيف يضع العاجز قانونا يحمي به الأفراد في حين أنه لا يملك حماية نفسه إن الاجتماع لا يتم إلا بقانون من أخذ به نزلت عليه بركات من السماء ومن خرج عليه أحاطت به النكبات والمعيشة الضنك من كل الاتجاهات ، والاجتماع لا يتم من الفرد إلا بإعطائه للأفراد المتعاونين له حقوقا متقابلة محترمة عنده ، ليعطوه بإزائها حقوقا يحترمونها ، وذلك بأن يعمل للناس كما يعملون له ، وينفعهم بمقدار ما ينتفع بهم، والاجتماع لا يتم إلا بوضع حدود وعلامات ، فليس للإنسان أن ينطلق ويسترسل في العمل على حساب الآخرين ، وليس له أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، بل هو حر فيما لا يزاحم حرية الآخرين (1) بهذا وبغيره يقوم المجتمع ، ولا يوجد قانون ينظم العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان وبين الإنسان والطبيعة من جهة أخرى إلا قانون خالق الإنسان والطبيعة سبحانه وتعالى .

-------------------------------
(1) المصدر السابق : 365 / 10 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 163 _
  وشعيب (عليه السلام ) بعث في قوم يعملون كأحرار ، كان منهم من يعمل بالزراعة ، فيتعامل مع الحبوب معاملة اللص، يبذرها في أرض الله، ليس من أجل أن يفيض الخير ويعم الناس الرخاء، ولكن من أجل أن يسرع الخطى إلى مزيد من المال ليشيد بها أصنام الهوى داخل نفسه ، وكان منهم من يعمل بالتجارة فيتعاملوا مع الثمار معاملة قطاع الطرق الذين لا يخشون من اللصوص في أي موقع كانوا ، فهم يسرقون وفي نفس الوقت في جيوبهم دليل براءتهم ، ومجتمع مثل هذا لا يتاجر إلا في القوت، ومتاجرته هذه لا تشيع إلا الفساد ... لا يمكن بحال أن يكون مجتمعا مستقيما مع فطرة الكون ، ولكن يعود هذا المجتمع إلى رحاب الفطرة التي تدعو لإقامة مجتمع لا يفعل فيه الإنسان ما يشاء ويحكم ما يريد ، بث شعيب (عليه السلام ) دعوته في عالم عبد الأصنام ونقص الكيل والميزان فأفسد في الأرض، يقول صاحب الميزان : إن الاجتماع المدني الدائر بين أفراد النوع الإنساني مبني على المبادلة حقيقة ، فما من مواصلة ومرابطة بين فردين من أفراد النوع، إلا وفيه إعطاء وأخذ ، فلا يزال المجتمعون يتعاونون في شؤون حياتهم ، يفيد فيه الواحد غيره ليستفيد منه ما يماثله أو يزيد عليه ، ويدفع إليه نفعا ليجذب منه إلى نفسه نفعا ، وهو المعاملة والمبادلة ، ومن أظهر مصاديق هذه المبادلة : المعاملات المالية، وخاصة في الأمتعة التي لها حجم أو وزن مما يكتال به أو يوزن ، فإن ذلك من أقدم ما تنبه الإنسان لوجوب إجراء سنة المبادلة فيه .
  فالمعاملات المالية وخاصة البيع والشراء من أركان حياة الإنسان الاجتماعية، فالإنسان يقدر ما يحتاج إليه في حياته الضرورية بالكيل أو الوزن، وما يجب عليه أن يبذله في مقابلة من الثمن، ثم يسير في حياته بانيا لها على هذا التقدير والتدبير ، فإذا خانه الذي يعامله ونقص المكيال والميزان من حيث لا يشعر هو ، يكون بذلك قد أفسد تدبيره وأبطل تقديره ، ويختل بذلك نظام معيشته من الجهتين معا ، من جهة ما يقتنيه من لوازم الحياة بالاشتراء ، ومن جهة ما يبذله من الثمن الزائد الذي يتعب نفسه في تحصيله بالاكتساب ، فيسلب بهذا إصابة النظر وحسن التدبير في حياته ، ويتخبط في حياته خبط العشواء وهو الفساد، وإذا شاع ذلك في مجتمع ، فقد شاع الفساد فيما بينهم ، ولم يلبثوا دون أن يسلبوا الوثوق والاطمئنان واعتماد بعضهم على بعض ، ويرتحل بذلك الأمن العام من بينهم وهو

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 164 _
  النكبة الشاملة التي تحيط بالصالح والطالح والمطفف والذي يوفي المكيال والميزان على حد سواء ، ويصبح بذلك اجتماعهم اجتماعا على المكر وإفساد الحياة، لا اجتماعا على التعاون لسعادتها قال تعالى : ( وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) (1).
  فشعيب (عليه السلام ) جاء لقوم احترفوا الفساد، وركبوا التجارة وساروا بها في اتجاه النكبة الشاملة التي تحيط بالصالح والطالح ، وذلك لأن جشعهم امتد إلى غد الإنسان، فهم سرقوه في يومه ، والذي سرق منه جزء يقيم صلبه ، ولكي يسترده لا بد له من أن يضاعف من عمله كي يأتي بالثمن ، وعندما يذهب ليشتري ما يقيم صلبه ، يدفعه أهل الطمع والجشع والاحتكار إلى يوم آخر يتعب فيه ليس من أجل نفسه ولكن من أجلهم، ومع اللهب يأتي الفساد ويسود الاضطراب وترفع أعلام العسف والطغيان ، وتفقد الإنسانية إنسانيتها ، وشعيب (عليه السلام ) جاء إليهم بمشعل الهدى الذي به يقيمون المجتمع الصالح الذي يعرف الإنسان فيه ما له وما عليه ، وبين لهم أن القضية لم تكن يوما من أجل أن يمتلك هذا أو ذاك المال الوفير ، لأن العلل والأسباب في كون الله لا تسمح لأحد من إنقاذ ثروته إذا جاء أمر الله .

* 2 ـ مواجهة الانحراف :
  يقول تعالى : ( وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ ) (2) .
  قال المفسرون : يقول تعالى ولقد أرسلنا إلى مدين ، وهم قبيلة من العرب كانوا يسكنون بين الحجاز والشام ، قريبا من معان ، بلاد تعرف بهم يقال لها

-------------------------------
(1) سورة الإسراء ، الآية : 35 .
(2) سورة هود ، الآيات : 84 ـ 86 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 165 _
  مدين ، فأرسل الله إليهم شعيبا وكان من أشرفهم نسبا ولهذا قال (أخاهم شعيبا ) (1) فأمرهم شعيب (عليه السلام ) بعبادة الله وحده لا شريك له ناهيا لهم عن الأوثان التي افتروها واختلقوا لها أسماء الآلهة ، ثم خصص نقص المكيال والميزان من بين معاصيهم بالذكر ، دلالة على شيوعه بينهم وإقبالهم عليه ، وإفراطهم فيه ، بحيث ظهر فساده وبان سئ أثره ، فأوجب ذلك شدة اهتمام به من داعي الحق ، فدعاهم إلى تركه بتخصيصه بالذكر من بين المعاصي، ثم قال لهم : ( إني أراكم بخير ) أي أشاهدكم في خير ، وهو ما أنعم الله تعالى عليكم من المال ، وسعة الرزق والرخص والخصب ، فلا حاجة لكم إلى نقص المكيال والميزان ، واختلاس القليل اليسير من أشياء الناس ، طمعا في ذلك من غير سبيله المشروع وظلما وعتوا ، وعلى هذا فقوله : ( إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ ) تعليل لقوله ( وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ) .
  ويمكن تعميم الخير، بأن يراد به ، أنكم مشمولون لعناية الله، معنيون بنعمه ، آتاكم عقلا ورشدا ورزقكم رزقا ، فلا مسوغ لأن تعبدوا الآلهة من دونه وتشركوا به غيره ، وأن تفسدوا في الأرض بنقص المكيال والميزان ، وعلى هذا يكون تعليلا لما تقدمه من قوله : ( اعبدوا الله ) إلخ وقوله : ( ولا تنقصوا ) إلخ، فمحصل قوله : ( إني أراكم ) إلى آخر الآية : أن هناك رادعين يجب أن يردعاكم عن معصية الله: أحدهما : أنكم في خير ولا حاجة لكم إلى بخس أموال الناس من غير سبيل حلها .
  وثانيهما : أن وراء مخالفة أمر الله يوما محيطا يخاف عذابه ، ومعنى كون اليوم ـ وهو يوم العذاب ـ محيطا ... أنه لا مخرج منه ولا مفر ولا ملاذ من دون الله، فلا يدفع فيه ناصر ولا معين ، ولا ينفع فيه توبة (2)، وبعد أن أنار (عليه السلام ) لهم الطريق بمشعل الهداية ، قال : ( وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ ) لقد دعاهم أولا في صدر حديثه إلى الصلاح بالنهي عن

-------------------------------
(1) تفسير ابن كثير : 455 / 2 .
(2) الميزان : 362 / 10 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 166 _
  نقص المكيال والميزان ، ثم عاد ثانيا فأمر بإيفاء المكيال والميزان ونهى عن بخس الناس أشياءهم ، إشارة إلى أن مجرد التحرز عن نقص المكيال والميزان لا يكفي في إعطاء هذا الأمر حقه ( وإنما نهى عنه أولا: لتكون معرفة إجمالية ، هي كالمقدمة لمعرفة التكليف تفصيلا ) بل يجب أن يوفي الكائل والوازن مكياله وميزانه ، ويعطياهما حقهما ولا يبخسا ولا ينقصا الأشياء المنسوبة إلى الناس بالمعاملة ، حتى يعلما أنهما أديا إلى الناس أشياءهم، وردا إليهم مالهم على ما هو عليه (1) ، ثم نهاهم (عليه السلام ) عن الفساد في الأرض، ثم قال : ( بقية الله خير لكم إن كشم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ ) والبقية بمعنى الباقي ، والمراد به الربح الحاصل للبائع ، وهو الذي يبقى له بعد تمام المعاملة والمعنى : أن الربح الذي هو بقية ، هداكم الله إليه من طريق فطرتكم ، هو خير لكم من المال الذي تقتنونه من طريق التطفيف ، ونقص المكيال والميزان إن كنتم مؤمنين ، فإن المؤمن إنما ينتفع من المال المشروع الذي ساقه الله إليه من طريق حله ، وأما غير ذلك مما لا يرتضيه الله ولا يرتضيه الناس، بحسب فطرتهم ، فلا خير له فيه ولا حاجة له إليه ، وبعد أن قال لهم إن كنتم مؤمنين علمتم صحة قولي ، إن بقية الله خير لكم ، قال : ( وما أنا عليكم بحفيظ ) أي : وما يرجع إلى قدرتي شئ مما عندكم من نفس أو عمل أو طاعة أو رزق أو نعمة ، فإنما أنا رسول ليس عليه إلا البلاغ ، لكم أن تختاروا ما فيه رشدكم وخيركم ، أو تسقطوا في مهبط الهلكة من غير أن أقدر على جلب خير لكم ، أو دفع شر منكم (2) فهو كقوله تعالى : ( فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ ) (3).
  هكذا تحدث نبي الله شعيب (عليه السلام ) ، هكذا دعا قومه إلى طريق الصواب، وبين لهم العديد من حقائق المعارف التي غفلوا عنها ، فماذا كان رد قومه ؟ لقد كان ردهم هو رد اللصوص في كل زمان ومكان ، رد الذين تخصصوا في سلب كل فرع وكل غصن وكل زهرة وكل ورقة وكل عشب في أرض الله

-------------------------------
(1) الميزان : 362 / 10 .
(2) الميزان : 306 / 10 .
(3) سورة الأنعام ، الآية : 104 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 167 _
  الواسعة ، ليبيعوها إلى الناس ليسلبوا منهم كل قرش وكل حبة عرق وكل نفس ، ليحل الشقاء بأي إنسان ولتظل جيوبهم منتفخة وبطونهم منتفخة وعقولهم أيضا ( قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ) (1) قال في الميزان : مغزى مرادهم : إنا في حرية فيما نختاره لأنفسنا من دين ، أو نتصرف به في أموالنا ، ولست تأمرنا بكل ما أحببت ، أو تنهانا عن كل ما كرهت ، فإن ساءك شئ مما تشاهد منا بما تصلي وتتقرب إلى ربك ، وأردت أن تأمر وتنهى ، فلا تتعد نفسك ، لأنك لا تملك إلا إياها ... وقد أدوا مرادهم هذا في صورة مشوبة بالتهكم واللوم معا ، ومسبوكة في قالب الاستفهام الإنكاري وهو : إن الذي تريده منا من ترك عبادة الأصنام ، وترك ما شئنا من التصرف في أموالنا ، هو الذي بعثتك إليه صلاتك ، ولست تملكنا أنت ولا صلاتك ، لأننا أحرار في شعورنا لإرادتنا ، لنا أن نختار أي دين شئنا ، ونتصرف في أموالنا أي تصرف أردنا من غير حجر ولا منع ، ولم ننتحل إلا ديننا ، الذي هو دين آبائنا ، ولم نتصرف إلا في أموالنا ، ولا حجر على ذي مال في ماله ، فما معنى أن تأمرك إياك صلاتك بشئ ، ونكون نحن الممتثلون لما أمرتك به ؟ وبعبارة أخرى : ما معنى أن تأمرك صلاتك بفعلنا القائم بنا دونك ؟ فهل هذا إلا سفها في الرأي ؟ وإنك لأنت الرشيد والحليم ، لا يعجل في زجر من يراه مسيئا ، وانتقام من يراه مجرما ، حتى ينجلي له وجه الصواب ، والرشيد لا يقدم على أمر فيه غي وضلال فكيف أقدمت على مثل هذا الأمر السفهي ، الذي لا صورة له إلا الجهالة والغي ؟
  وقد ظهر بهذا البيان :
  أولا: أنهم إنما نسبوا الأمر إلى الصلاة، لما فيها من البعث والدعوة إلى معارضة القوم في عبادتهم الأصنام ونقصهم المكيال والميزان ، وهذا هو السر في تعبيرهم عن ذلك بقولهم : ( أصلاتك تأمرك أن نترك ... ) دون أن يقولوا :
  أصلاتك تنهاك أن نعبد ما يعبد آباؤنا ؟ مع أن التعبير عن المنع بالنهي عن الفعل أقرب إلى الطبع من التعبير بالأمر بالترك ، ولذلك عبر عنه شعيب بالنهي فيما بعد

-------------------------------
(1) سورة هود ، الآية : 87 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 168 _
  في جوابه عن قولهم إذ قال : ( وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ) ولم يقل : إلى ما آمركم بتركه ، والمراد على أي حال : منعه إياهم عن عبادة الأصنام والتطفيف ، فافهم ذلك .
  ثانيا : أنهم إنما قالوا : ( أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ) دون أن يقولوا : أن نترك آلهتنا ، أو أن نترك الأوثان ، ليشيروا بذلك إلى الحجة في ذلك ، وهي أن هذه الأصنام، دام على عبادتها آباؤنا ، فهي سنة قومية لنا ، ولا خير في الجري على سنة قومية ، ورثها الخلف من السلف، ونشأ عليها الجيل بعد الجيل، فإنا نعبد آلهتنا وندوم على ديننا ، وهو دين آبائنا ، ونحفظ رسما مليا عن الضيعة.
  ثالثا : أنهم إنما قالوا : ( أن نفعل في أموالنا ) فذكروا الأموال مضافة إلى أنفسهم، ليكون في ذلك إيماء إلى الحجة، فإن الشئ إذا صار مالا لأحد ، لم يشك ذو ريب في أن له أن يتصرف فيه ، وليس لغيره ممن يعترف بماليته له ، أن يعارضه في ذلك ، وللمرء أن يسير في مسير الحياة، ويتدبر في أمر المعيشة، بما يستطيعه من الحذق والاحتيال ويهديه إليه الذكاء والكياسة.
  رابعا : إن قولهم : ( أصلاتك تأمرك ـ إلى قوله ـ إنك لأنت الحليم الرشيد ) مبني على التهكم والاستهزاء ، إلا أن التهكم في تعليقهم أمر الصلاة شعيبا على تركهم ما يعبد آباؤهم. وكذا في نسبة الأمر إلى الصلاة لا غير ، وأما نسبة الحلم والرشد إليه ، فليس فيه تهكم ، ولذلك أكد قوله : ( إنك لأنت الحليم الرشيد ) بإن واللام وإتيان الخبر جملة اسمية ، ليكون أقوى في إثبات الحلم والرشد له ، فيصير أبلغ في ملامته والإنكار عليه ، وأن الذي لا شك في حلمه ورشده ، قبيح عليه أن يقدم على مثل هذا الأمر السفهي، وينتهض على سلب حرية الناس واستقلالهم في الشعور والإرادة (1) .
  كان هذا بيان التجار وأعوانهم والمستكبرين وأشياعهم : بيان رفض الصلاة ، وتمسك بعبادة الآباء ونسب الأموال إلى أنفسهم باعتبارهم أحرارا لهم الحق المطلق في اختيار الدين الذي يرون وفي تدبير أمور معيشتهم كما يريدون ، فماذا كان رد شعيب (عليه السلام ) على هذا البيان ؟ لقد دفع إليهم في حاضرهم

-------------------------------
(1) الميزان : 366 / 10 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 169 _
  ببينة ربه التي تثبت صدق رسالته ، ثم دفع ذاكرتهم إلى الوراء حيث قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط ، لقد وضعهم بين البينة وبين العقاب لعلهم يعيدوا التفكير على أسس صحيحة ، ( قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ * وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ * وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ) (1) قال المفسرون : المراد بكونه على بينة من ربه ، كونه على آية بينة ، وهي آية النبوة والمعجزة الدالة على صدق النبي في دعوى النبوة، والمراد بكونه رزق من الله رزقا حسنا : أن الله آتاه من لدنه وحي النبوة، المشتمل على أصول المعارف والشرائع، والمعنى : أخبروني إن كنت رسولا من الله إليكم ، وخصني بوحي المعارف والشرائع وأيدني بآية بينة تدل على صدق دعواي ، فهل أنا سفيه في رأيي ؟ وهل ما أدعوكم إليه دعوة سفهية ؟ وهل في ذلك تحكم مني عليكم أو سلب مني لحريتكم ؟ فإنما هو الله المالك لكل شئ ، ولستم بأحرار بالنسبة إليه ، بل أنتم عباده ، يأمركم بما شاء وله الحكم وإليه ترجعون (2) .
  لقد رفض بيانهم ما سمعوه من شعيب ، عندما دعاهم إلى ترك عبادة الأصنام والتطفيف ، بحجة أن الدعوة مخالفة لما هم عليه من الحرية التي تسوغ لهم أن يعبدوا من شاؤوا ويفعلوا في أموالهم ما شاؤوا ، فبين لهم شعيب أنهم ليسوا بأحرار بالنسبة إلى الله هم عبيد ، وأخبرهم : بأن الذي يدعوهم إليه ليس من قبل نفسه ، حتى ينافي مسألتهم ذلك حريتهم ، ويبطل به استقلالهم في الشعور والإرادة، بل هو رسول من ربهم إليهم ، وله على ذلك آية بينة ، والذي آتاهم به من عند الله الذي يملكهم ويملك كل شئ ، وهم عباده لا حرية لهم قباله ، ولا خيرة لهم فيما يريده منهم ، ثم ذكر لهم أنه يريد إصلاح مجتمعهم بالعلم النافع والعمل الصالح على مقدار ما له من الاستطاعة التي يوفقه الله تعالى

-------------------------------
(1) سورة هود ، الآيات : 88 ـ 90 .
(2) الميزان : 367 / 10 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 170 _
  إليها ، ثم أخبرهم محذرا : احذروا أن يترتب على مخالفتكم ومعاداتكم لي عذاب مثل عذاب قوم نوح وهو الغرق ، أو قوم هود وهو الريح العقيم ، أو قوم صالح وهو الصيحة والرجفة ( وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ ) أي لا فصل كثير بين زمانهم وزمانكم ، وكانت الفاصلة الزمانية بين القومين أقل من ثلاثة قرون ، وقد كان لوط معاصرا لإبراهيم عليهما السلام ، وشعيب معاصرا لموسى عليهما السلام (1) وقيل المراد نفي البعد المكاني، والإشارة إلى بلادهم الخربة ، قريبة منكم لقرب مدين من سدوم ، بالمعنى : وما مكان قوم لوط منكم ببعيد ، تشاهدون مدائنهم المخسوفة وآثارهم الباقية الظاهرة .
  وبعد أن أخبرهم بما أخبرهم، وحذرهم بما حذرهم ، أمرهم أن يستغفروا الله من ذنوبهم وأن يرجعوا إليه بالإيمان به وبرسوله ، إن الله ذو رحمة ومودة يرحم المستغفرين التائبين ويحبهم ، فماذا كان ردهم على البينة التي تحتوي على صدق الرسالة وتشتمل على أصول المعارف ؟ ماذا كان ردهم عندما طالبهم بأن يرجعوا بذاكرتهم إلى الماضي حيث الطوفان والريح والصيحة والحجارة ؟ ماذا كان ردهم عندما طالبهم بالاستغفار والتوبة ؟ لقد كان ردهم عجيبا : ( قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ) (2) يقول صاحب في ظلال القرآن : فهم ضيقوا الصدور بالحق الواضح لا يريدون أن يدركوه ، وهم يقيسون القيم في الحياة بمقياس القوة المادية الظاهرة ، فلا وزن عندهم للحقيقة ، القوية التي يحملها شعيب ويواجههم بها ، وفي حسابهم عصبية العشيرة ، لا عصبية الإعتقاد ، وصلة الدم لا صلة القلب ، ثم هم يغفلون عن غيرة الله على أوليائه فلا يضعونها في الحساب ...
  وحين تفرغ النفوس من العقيدة القومية والقيم الرفيعة والمثل العالية ، فإنها تقبع على الأرض ومصالحها القريبة وقيمها الدنيا ، فلا ترى حرمة يومئذ لدعوة كريمة ، ولا لحقيقة كبيرة ، ولا تتحرج عن البطش بالداعية ، إلا أن تكون له عصبة تؤويه ، وإلا أن تكون معه قوة مادية تحميه أما حرمة العقيدة والحق والدعوة ، فلا وزن لها ، ولا ظل في تلك النفوس الفارغة الخاوية (3) .

-------------------------------
(1) الميزان : 373 / 10 .
(2) سورة هود ، الآية : 91 .
(3) في ظلال القرآن : 1922 / 4 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 171 _
  ( قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ) قال صاحب الميزان : لما حاجهم شعيب عليه السلام، وأعياهم بحجته لم يجدوا سبيلا دون أن يقطعوا عليه كلامه من غير طريق الحجة فذكروا له أولا: أن كثيرا مما يقوله غير مفهوم لهم ، فيذهب كلامه لغي لا أثر له ، وهذا كناية عن أنه يتكلم بما لا فائدة فيه ، ثم عقبوه بقولهم : ( وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا ) أي لا نفهم ما تقول ، ولست قويا فينا حتى تضطرنا قوتك على الاجتهاد في فهم كلامك والاهتمام بأخذه ، والسمع والقبول له ، فإنا لا نراك فينا إلا ضعيفا لا يعبأ بأمره ولا يلتفت إلى قوله ، ثم هددوه بقولهم : ( وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ) أي ولولا هذا النفر القليل، الذين هم عشيرتك لرجمناك ، لكنا نراعي جانبهم فيك ، وفي تقليل العشيرة إيماء إلى أنهم لو أرادوا قتله يوما قتلوه من غير أن يبالوا بعشيرته ، وإنما كفهم عن قتله نوع احترام وتكريم منهم لعشيرته ، ثم عقبوه بقولهم : ( وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ) تأكيدا لقولهم : ( وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ) أي لست بقوي منيع جانبا علينا ، حتى يمنعنا ذلك من قتلك بشر القتل، فإنما يمنعنا رعاية جانب رهطك ، فمحصل قولهم إهانة شعيب ، وأنهم لا يعبأون به ولا بما قال ، وإنما يراعون في ترك التعرض له جانب رهطه (1).
  لقد قال لهم إنه على بينة من ربه ، وإنه يريد إصلاحهم كي ينالوا السعادة في الدنيا والآخرة ، ثم ذكرهم بالأمم السابقة الذين كذبوا رسل الله وما حل بهم من عذاب ، ثم دعاهم إلى الاستغفار والتوبة ، فكان الرد عليه بلادة في الفهم وحجر في اليد، رفعوا الحجر أمام الكلمة، ولماذا لا يرفعون الحجر ؟ إن الساحة من حولهم تعج باللصوص ، والأشرار يحومون في كل مكان ، والجميع على استعداد لحمل الحجارة ويلقون بها على كل من حاول أن يهدي إلى الحق، لأن الحق الذي يعرفونه هو الذي مسمره الشيطان على جسر الانحراف الذي عبروا عليه إلى عالم الصم البكم العمي الذين لا يفقهون ، وعندما واجهوا شعيبا (عليه السلام ) هذه المواجهة، رد عليه السلام : ( قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * وَيَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُواْ

-------------------------------
(1) الميزان : 375 / 10 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 172 _
  إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ) (1) .
  قال المفسرون : أي كيف تعززون رهطي وتحترمون جانبهم ، ولا تعززون الله ولا تحترمون جانبه ؟ وإني أنا الذي أدعوكم إليه من جانبه ؟ فهل رهطي أعز عليكم من الله ؟ وقد جعلتموه نسيا منسيا ، وليس لكم ذلك ، وما كان لكم أن تفعلوه ، إن ربي بما تعملون محيط ، بما له من الإحاطة بكل شئ ، وجودا وعلما وقدرة ثم هددهم أشد التهديد : فأخبرهم بأنه على وثوق مما يقول ، لا يأخذه قلق ولا اضطراب من كفرهم به وتمردهم على دعوته ، فليعملوا على ما لهم من القوة والتمكن، فلهم عملهم وله عمله ، فسوف يفاجئهم عذاب مخز ، يعلمون عند ذلك من هو الذي يأخذه العذاب، هم أو هو ؟ ويعلمون من هو كاذب ؟ فليرتقبوا وهو معهم رقيب لا يفارقهم (2) .

* 3 ـ الصد عن سبيل الله:
  على أرض مدين دار الصراع بين الباطل الذي أقام جدرانه على أعمدة الظلم والجشع وبين الحق الذي ينصر الفطرة ويهدي إلى الصراط المستقيم ، وقمة هذا الصراع ترى أطرافه في سورة الأعراف ، فشعيب (عليه السلام ) بعد أن بث دعوته في قومه آمن به فئة قليلة ، ولكن الذين يفسدون في الأرض، ركبوا كل طريق من أجل أن يفتنوا الذين آمنوا ويصدوهم عن سبيل الله المستقيم وعندما نهاهم شعيب (عليه السلام ) عما يفعلونه بالذين آمنوا خيروهم إما أن يعودوا في ملتهم وإما الطرد من الديار !

1 ـ بيان شعيب (عليه السلام) :
  في سورة الأعراف ضوء ساطع ، كشف كيف يفكر الذين يبغونها عوجا ، فالتفكير عند هؤلاء لا يستند إلا على التهديد والحجر ، وقد ظهرت معالم هذا التفكير عندما واجههم شعيب (عليه السلام ) بحجج دامغة يقول تعالى : ( وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن

-------------------------------
(1) سورة هود ، الآيتان : 92 ـ 93 .
(2) الميزان : 375 / 10 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 173 _
  رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ * وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ) (1) .
  قال المفسرون: دعاهم ،
  ( أولا ) :
  بعد التوحيد الذي هو أصل الدين ، إلى إيفاء الكيل والميزان وأن لا يبخسوا الناس أشياءهم ، لأن الإفساد في المعاملات كان رائجا فيهم شائعا بينهم ، ثم دعاهم ،
  (ثانيا ) :
  إلى الكف عن الفساد في الأرض بعدما أصلحها الله كي ينتظم أمر الحياة السعيدة، ثم علل دعوته إلى الأمرين بقوله : ( ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) أما كونه إيفاء الكيل والميزان ، وعدم بخس الناس أشياءهم خير ، فلأن حياة الإنسان الاجتماعية في استقامتها، مبنية على المبادلة بين الأفراد، بإعطاء كل منهم ما يفضل من حاجته ، وأخذ ما يعادله مما يتم به نقصه في ضروريات الحياة وما يتبعها ، وهذا يحتاج إلى أمن عام في المعاملات ، تحفظ به أوصاف الأشياء ومقاديرها على ما هي عليه ، فمن يجوز لنفسه البخس في أشياء الناس ، فهو يجوز ذلك لكل من هو مثله ، وهو شيوعه ، وإذا شاع البخس والغش كان فيه هلاك الأموال والنفوس جميعا ، وأما كون الكف عن إفساد الأرض خيرا لهم ، فلأن سلب الأمن العام، يوقف رحى المجتمع الإنساني عن حركتها من جميع الجهات، وفي ذلك هلاك الحرث والنسل وفناء الإنسانية فالمعنى : إيفاء الكيل والميزان وعدم البخس والكف عن الفساد في الأرض خير لكم ، يظهر لكم خير نية إن كنتم مصدقين لقولي مؤمنين بي ، أو المعنى : ذلكم خير لكم تعلمون أنه خير إن كنتم ذوي إيمان بالحق ... ثم دعاهم ،
  ( ثالثا ) :
  إلى ترك التعرض لصراط الله المستقيم ، الذي هو الدين ، فإن في الكلام تلويحا إلى أنهم كانوا يقعدون على طريق المؤمنين بشعيب عليه السلام، ويوعدونهم على إيمانهم به ، والحضور عنده ، والاستماع منه ، وإجراء العبارات الدينية معه ، ويصرفونهم عن التدين بدين الحق والسلوك في طريق التوحيد ... وبالجملة كانوا يقطعون الطريق على

-------------------------------
(1) سورة الأعراف ، الآيات : 85 ـ 87 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 174 _
  الإيمان ، بكل ما يستطيعون من قوة واحتيال ، فنهاهم عن ذلك ، ووصاهم أن يذكروا نعمة الله عليهم ، ويعتبروا بالنظر إلى ما يعلمونه من تاريخ الأمم الغابرة، وما آل إليه أمر المفسدين من عاقبة أمرهم، ثم دعاهم ،
  (رابعا) :
  إلى الصبر على تقدير وقوع الاختلاف بينهم بالإيمان والكفر ، فإنه كان يوصيهم جميعا قبل هذه الوصية، بالاجتماع على الإيمان بالله والعمل الصالح، وكأنه أحس منهم أن ذلك مما لا يكون البتة، وأن الاختلاف كائن لا محالة ، وأن الملأ المستكبرين من قومه ، وهم الذين كانوا يوعدون ويصدون عن سبيل الله ، سيأخذون في إفساد الأرض وإيذاء المؤمنين ويوجب ذلك في المؤمنين وهن عزيمتهم ، وتسلط الناس على قلوبهم ، فأمرهم جميعا بالصبر ، وانتظار أمر الله فيهم ليحكم بينهم وهو خير الحاكمين، فإن في ذلك صلاح المجتمع، أما المؤمنون فلا يقعون في اليأس من الحياة الآمنة، والاضطراب والحيرة من جهة دينهم ، وأما الكفار فلا يقعون في ندامة الإقدام من غير رؤية ، ومفسدة المظلمة على جهالة ، فحكم الله خير فاصل بين الطائفتين ، فهو خير الحاكمين لا يساهل في حكم إذا حان حينه ، ولا يجور في حكم إذا ما حكم (1) .

  2 ـ أنياب طابور الانحراف :
  دعاهم شعيب (عليه السلام ) إلى التوحيد ، ثم دعاهم ثانيا إلى الكف عن الإفساد في الأرض ( وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ) ثم دعاهم ثالثا إلى ترك التعرض لصراط الله المستقيم ( وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ ) ودعاهم رابعا إلى الصبر حتى يحكم الله بين معسكر الإيمان ومعسكر الكفر ( فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ) فماذا كان رد القوم عليه ؟ يقول تعالى : ( قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ * قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ * وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن

-------------------------------
(1) الميزان : 189 / 8 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 175 _
  قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ ) (1) ، قال المفسرون : لم يسترشد الملأ المستكبرون من قومه ، بما أرشدهم إليه من الصبر وانتظار الحكم الفصل في ذلك من الله سبحانه ، بل بادروا بتهديده وتهديد المؤمنين بإخراجهم من أرضهم ، إلا أن يرجعوا إلى ملتهم بالارتداد عن دين التوحيد ، وفي تأكيدهم القول ( لنخرجنك ) بالقسم ونون التأكيد، دلالة على قطعهم العزم على ذلك ، ولذا بادر (عليه السلام ) بعد استماع هذا القول منهم إلى الاستفتاح من الله سبحانه ... فعندما بلغ الكلام هذا المبلغ ، وأخبر الذين كفروا طائفة الحق بعزمهم على أحد أمرين : الإخراج ، أو العودة إلى ملتهم ...
  أخبرهم شعيب (عليه السلام ) بالعزم القاطع على عدم العودة إلى ملتهم والتجأ إلى ربه واستفتح بقوله عن نفسه وعن المؤمنين: ( رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ) سأل ربه أن يفتح بين شعيب والمؤمنين به ، وبين المشركين من قومه ، وهو الحكم الفاصل ، فإن الفتح بين شيئين ، يستلزم إبعاد كل منهما عن صاحبه ، حتى لا يماس هذا ذاك ، ولا ذاك هذا (2) .
  وبعد أن استفتح شعيب من الله تعالى ، تمادى الذين كفروا من قومه ، فتوجهوا بأشد التهديد إلى الذين آمنوا، وقالوا لهم : ( لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ ) فهذا تهديد منهم لمن آمن بشعيب ، أو أراد أن يؤمن به وفقا لخطة الصد عن سبيل الله التي نهاهم شعيب عنها من قبل ، وقال المفسرون : ويحتمل أن يكون قولهم : ( لئن اتبعتم ) الاتباع بمعناه الظاهر، وهو اقتفاء أثر الماشي على الطريق، والسالك السبيل، بأن يكون الملأ المستكبرون لما اضطروه ومن معه إلى أحد الأمرين : الخروج من أرضهم أو العودة في ملتهم ، ثم سمعوه يرد عليهم العودة إلى ملتهم ردا قاطعا ، ثم يدعو بمثل قوله : ( ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ... ) لم يشكوا أنه سيتركهم ويهاجر إلى أرض غير أرضهم ، ويتبعه في هذه المهاجرة المؤمنون به من القوم ، خاطبوا عند ذلك طائفة المؤمنين بقولهم : ( لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ ) فهددوهم وخوفوهم بالخسران

-------------------------------
(1) سورة الأعراف ، الآيات : 88 ـ 90 .
(2) الميزان : 192 / 8 .