إرم، ومنهم العماليق، تفرقوا في البلاد ونزل أخوهم أميم بن لاوز أرض فارس ، ونزل ماش بن إرم بن سام بابل على شاطئ الفرات فولد نمرود بن ماش وهو الذي بنى الصرح ببابل ، وملك خمسمائة سنة ، وهو ملك النبط، وفي زمانه فرق الله الألسن، فجعل في ولد سام تسعة عشر لسانا ، وفي ولد حام سبعة عشر لسانا ، وفي ولد يافث ستة وثلاثين لسانا ، وتشعبت بعد ذلك اللغات وتفرقت الألسن، وتفرق الناس في البلاد، وولد أرفخشد بن سام بن نوح شالخ ، فولد شالخ فالخ بن شالخ ( الذي قسم الأرض وهو جد إبراهيم عليه السلام) وعابر بن شالخ وابنه قحطان بن عابر وابنه يعرب بن قحطان ، وقحطان أبو اليمن كلها وهو أول من تكلم بالعربية لإعرابه عن المعاني وإبانته عنها ، ويقطن بن عابر بن شالخ هو أبو جرهم ، وجرهم بنو عم يعرب ، وكانت جرهم ممن سكن اليمن وتكلموا بالعربية ، ثم نزلوا بمكة فكانوا بها (1).
  لقد تفرقت القبائل وتعددت الألسن ، وتعددت دوائر الشذوذ وخطوط الانحراف عن الصراط المستقيم ، فكان إبراهيم (عليه السلام ) رحمة من الله للبشرية جمعاء ، بعثه الله في هذا الاتساع الذي يموج بالفتن ، ليكون أبا للمسلمين وليواجه الانحراف ويبطل عقائد التعدد وربوبية النجوم والنار ويدعو إلى عبادة الله الواحد ، وإذا كان نوح (عليه السلام ) يعتبر أبا للبشرية بعد الطوفان ، فإن إبراهيم (عليه السلام ) هو أبو الأنبياء وإليه تنتهي أنسابهم ، وإذا كان نوح قد نجاه الله من الغرق لتبدأ البشرية صفحة جديدة ، فإن الله سبحانه نجا إبراهيم من الحريق إيذانا بمنطلق جديد للدعوة إلى الله في عالم البشر الفسيح ـ لقد كان نوح (عليه السلام ) بداية وكان إبراهيم (عليه السلام ) بداية ـ والبداية هنا لا تختلف عن البداية هناك ، لأن كلا منهما من الصراط المستقيم وعليه يقول تعالى : ( ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة ) (2) إنها البداية ... النبوة والكتاب ، فالله تعالى يخبر أنه منذ بعث نوحا (عليه السلام ) لم يرسل بعده رسولا ولا نبيا إلا من ذريته ، وكذلك إبراهيم (عليه السلام ) لم ينزل من السماء كتابا ولا أرسل رسولا ولا أوحى إلى بشر من بعده إلا وهو من سلالته (3) كما قال تعالى : ( وَجَعَلْنَا فِي

-------------------------------
(1) مروج الذهب : 37 ، 38 / 1 .
(2) سورة الحديد ، الآية : 26 .
(3) ابن كثير : 5 ( 4 / 3 ) .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 127 _
  ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ) والبداية عند إبراهيم (عليه السلام ) لا تخرج إلا من البداية عند نوح (عليه السلام ) يقول تعالى : ( سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ * وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ ) (1) والشيعة هم القوم المشايعون لغيرهم الذاهبون على أثرهم .
  وبالجملة كل من وافق غيره في طريقته فهو من شيعته تقدم أو تأخر (2) ( وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ ) أي من أهل دينه ، وقيل : على منهاجه وسنته (3).
  فنوح (عليه السلام ) وذريته من أنبياء الله تصدوا للإستكبار الذي نقب الحجارة وقال من أشد منا قوة ؟ وتصدوا للإستكبار الذي تصدى لآيات الله وعقر الناقة فلم تغن عنهم بيوت الحجارة من الله شيئا ، وإبراهيم (عليه السلام ) وذريته من أنبياء الله تصدوا للإستكبار الذي انطلق من قلوب أشد قسوة من الحجارة ، وتصدوا للإستكبار الذي عقر كل فضيلة من وراء جدر النفس التي استولى الشيطان على ملكاتها ، وتصدوا للفتات الآدمي الذي اتخذ إلهه هواه ، وإذا كان هنالك وفي عصر نوح وذريته من أنبياء الله فتات رفض بشرية الرسول فإن في عصر إبراهيم وذريته من أنبياء الله، يوجد أيضا هذا الفتات، وهذا الرفض انتهى آخر الأمر إلى اتخاذ الأهواء آلهة ، فألوهية الهوى ابن طبيعي لعقيدة رفض الرسول البشر، فالذين رفضوا الرسول البشر لأنهم يماثلونه في البشرية ويملكون من زخرف الحياة ما لا يملكه ، ساقهم الشيطان إلى دائرة الأنانية والطمع ثم إلى دائرة حب الذات فدائرة عبادة الذات والهوى ، لقد أمسكوا بذيل الدنس الذي رفض السجود لآدم بحجة أفضليته لأن الله خلقه من نار وخلق آدم من طين ، والفتات الآدمي بدأ بمقدمة تقول بأنه أفضل من الأنبياء وانتهى بنتيجة من جنس العمل هي عبادة الذات والهوى ، فإبراهيم (عليه السلام ) وذريته من أنبياء الله جاؤوا ليحطموا هذه الأوثان الآدمية آخر الزمان بعد أن حطموا حجارتها أول الزمان .
  وإبراهيم (عليه السلام ) هو الثاني من أولي العزم وأصحاب الشرائع العامة، ويقول فيه تعالى : ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ

-------------------------------
(1) سورة الصافات ، الآيات : 79 ـ 83 .
(2) الميزان : 147 / 17 .
(3) ابن كثير 12 / 4 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 128 _
  الْمُشْرِكِينَ ) (1) كان (عليه السلام ) على دين لم يكن عليه أحد غيره ، كان أمة وحده ، عاش في طفولته في معزل عن مجتمع قومه ، ثم خرج إليهم فوجدهم يعبدون الأصنام، فلم يرض منهم ذلك ، وبدأ (عليه السلام ) يحاج أباه في عبادته الأصنام، ويدعوه إلى رفضها وتوحيد الله سبحانه ، ولم يزل يحاجه ويلح عليه حتى طرده وأوعده أن يرجحه إن لم ينته عن ذكر آلهته بسوء ، ولم يكتف برفض الأصنام في حدود البيت ، وإنما كان يحاج القوم في أمر الأصنام كما جاء في سورة الأنبياء والشعراء والصافات ، ويحاج أقواما آخرين منهم ، يعبدون الشمس والقمر والكواكب ، وشاع خبر إبراهيم في الانحراف عن الأصنام والآلهة ، حتى خرج القوم ذات يوم إلى عبادة جامعة خارج البلد، واعتل هو بالسقم فلم يخرج معهم وتخلف عنهم ، فدخل بيت الأصنام، وانطلق على آلهتهم ضربا باليمين ، حتى جعلهم جذاذا ، إلا كبير لهم لعلهم يرجعون إليه ، فلما عاد القوم وعلموا بما حدث بآلهتهم وفتشوا عمن ارتكب ذلك ، قال بعضهم : سمعنا فتى يذكر الناس يقال له إبراهيم ، فأحضروه إلى مجمعهم ، وأتوا به على مشهد من الناس وبدأوا يسألوه ... فقالوا : أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم ؟ قال : بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون ، وقد كان أبقى كبير الأصنام ولم يجذه ووضع الفأس على عاتقه أو ما يقرب من ذلك ليشهد الحال على أنه هو الذي كسر سائر الأصنام ، وهو (عليه السلام ) قال ذلك وهو يعلم أنهم لا يصدقونه على ذلك ، لأنهم يعلمون أنه جماد ، لكنه قال ما قال حتى يعترفوا بصريح القول بأن آلهتهم جمادات لا حياة لهم ولا شعور ، ولذلك لما سمعوا قوله ، رجعوا إلى أنفسهم فقالوا : إنكم أنتم الظالمون ، ثم نكسوا على ، رؤوسهم ، لقد علمت ما هؤلاء ينطقون ، قال : أفتعبدون من دون الله ما لا يضركم ولا ينفعكم ، أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون ؟ أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون ؟
  وأقام الحجة الدامغة انطلق أصحاب الأدمغة الفارغة، فقالوا : حرقوه وانصروا آلهتكم ! فبنوا له بنيانا ، وأسعروا فيه النار ، ثم ألقوه فيها ، فجعلها الله بردا عليه وسلاما ، وأبطل كيدهم ، كما جاء في سورة الأنبياء والصافات ، وقد تصدى (عليه السلام ) خلال هذه الأيام لملك البلاد وكان يعبده القوم ويتخذونه ربا ! فحاج

-------------------------------
(1) سورة النحل ، الآية : 12 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 129 _
  الملك إبراهيم في ربه ، فقال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت ، فغالطه الملك وقال : أنا أحي وأميت ! أحضر من يستحق القتل وأطلق سراحه ، فحاجه إبراهيم بأصرح ما يقطع مغالطته فقال : إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، فبهت الذي كفر كما جاء في سورة البقرة ، ولما أنجاه الله من النار أخذ (عليه السلام ) يدعو إلى الدين الحنيف دين التوحيد، فآمن له فئة قليلة ، وقد سمى الله تعالى منهم لوطا ، ومنهم زوجته التي هاجر بها ، ثم تبرأ (عليه السلام ) هو ومن معه من المؤمنين من قومهم ، وتبرأ هو من آزر الذي كان يدعوه أبا ، ولم يكن بوالده الحقيقي، بل كان عمه (1) ، وهاجر (عليه السلام ) ومن معه وعلى رأسهم لوط إلى الأرض المقدسة، ليدعو الله سبحانه من غير معارض يعارضه من قومه الجفاة الظالمين (2) يقول تعالى : ( وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ) (3).
  وأثنى الله تعالى على إبراهيم في كتابه أجمل ثناء ، وكرر ذكر اسمه في نيف وستين موضعا من كتابه ، وإبراهيم اتخذه الله خليلا ( سورة النساء ، الآية : 125 ) وكان صديقا نبيا ( سورة مريم ، الآية : 41 ) وجعله الله للناس إماما ( سورة البقرة ، الآية : 124 ) وآتاه الله العلم والحكمة والكتاب والملك والهداية وجعلها كلمة باقية في عقبه ( سورة النساء ، الآية : 54 ، سورة الأنعام ، الآيات : 74 ـ 90 ، سورة الزخرف ، الآية : 28 ) وجعل له لسان صدق في الآخرين ( سورة الشعراء ، الآية : 84 سورة مريم ، الآية : 50 ) فهذه بعض من المنح التي منحها الله تعالى لإبراهيم عليه السلام ، الذي رفع لواء الفطرة في عالم أقام دوائر للشذوذ في كل مكان ووضع حول هذه الدوائر عساكره وخيوله للصد عن

-------------------------------
(1) الدليل على أن آزر لم يكن والده أن إبراهيم (عليه السلام ) تبرأ من آزر في أوائل دعوته كما جاء في سورة التوبة ، الآية : 114 ، ثم استغفر (عليه السلام ) لوالديه وهو على كبر في آخر عهده فقال : ( رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ) سورة إبراهيم ، الآية : 4 ، وآذر كان عم إبراهيم وليس والده ، والعم يطلق عليه لفظ الأب كما في قوله تعالى : ( نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ ) ومعلوم أن إسماعيل كان عما ليعقوب وقد أطلق عليه لفظ الأب.
(2) الميزان : 215 / 7 .
(3) سورة الأنبياء ، الآية : 71 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 130 _
  سبيل الله ، وبينما كان إبراهيم والذين معه يرفعون راية الفطرة كان هناك في مكان آخر قوم يعملون من أجل هدم الفطرة بتعطيلهم للنسل ، وذلك عندما ارتكبوا جريمة لم يسبقهم فيها أحد من العالمين ! .

  * 1 ـ النبي والانحراف :
  1 ـ لوط (عليه السلام ) :

  كان لوط (عليه السلام ) من كلدان في أرض بابل ، ومن السابقين الأولين ممن آمن بإبراهيم (عليه السلام ) ، آمن به وقال : إني مهاجر إلى ربي ( سورة العنكبوت ، الآية : 21 ) فنجاه الله مع إبراهيم إلى الأرض المقدسة أرض فلسطين ( سورة الأنبياء، الآية: 71 ) يقول المسعودي : ( وأرسل لوطا إلى المدائن الخمس ، وهي : سدوم ، دعمورا ، وادمونا ، وصاعورا ، وصابورا ) (1) ومدينة سدوم وما والاها من المدائن سماها الله في كتابه بالمؤتفكات ( سورة التوبة ، الآية : 70 ) وكانوا يعبدون الأصنام ، ويأتون بالفاحشة : اللواط وهم أول من شاع فيهم ذلك ( سورة الأعراف ، الآية : 80 ) فأرسل الله لوطا إليهم ، فدعاهم إلى تقوى الله وترك الفحشاء والرجوع إلى طريق الفطرة ، وأنذرهم وخوفهم فلم يزدهم إلا عتوا .
  ولوط (عليه السلام ) هو ابن هاران بن تارح بن أخي إبراهيم الخليل (عليه السلام ) ، كما ذكر أنه ابن خالته أيضا ، وقد ذكر لوط في ثلاث عشر سورة من القرآن الكريم ، هي : الأنعام، الأعراف، هود ، الحجر ، الأنبياء ، الحج ، الشعراء ، النمل ، العنكبوت ، الصافات ، ق ، القمر ، التحريم ، والقرآن في ذكره تارة يفصل وأخرى يوجز في بيان الأحوال ، ولقد أثنى تعالى على نبيه لوط ثناء جميلا فقال تعالى : ( وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) (2) .

-------------------------------
(1) مروج الذهب : 42 / 1 .
(2) سورة الأنبياء ، الآيتان : 74 ـ 75 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 131 _
  2 ـ الدعوة :
  كان قوم لوط أهل لهو ولغو وفساد ودجل وباطل ، فلقد خلعوا جلباب الحياء فكانوا لا يخجلون من فعل القبيح الذي تأباه البهائم وتنفر منه جميع النفوس البشرية من سابق ولاحق ، وكانوا لا يستحي بعضهم من بعض أن يأتي بأفظع المنكرات ، فيجتمع كبيرهم وصغيرهم والأب والابن والسيد والعبد منهم على نكاح الرجل الغريب واللواط به ، ولو في محضر نسائهم وبناتهم ، ويتعاقبون الآخر بعد من سبقه ... ولقد بعث فيهم لوط (عليه السلام ) بعد أن اهتدى بهدى إبراهيم وتبعه في هجرته ثم افترقا ليعملا بما فرضه الله تعالى عليهما من نشر الفضائل ونصح الناس وإرشادهم وتبليغهم التكاليف، وكان لوط (عليه السلام ) غاية في الكرم واستمساك بالزمام ورعاية بالجار والنزيل ، فقد بالغ في جهاد الملحدين ودفع أذاهم ، وكان قومه إذا وفد إليهم أحد من الناس وثبوا إليه ليفضحوه ويسلبوا ماله ، فكان (عليه السلام ) يحجز بينهم ويدافعهم ويمنعهم عنه ، ويحذر الوافد سوء معاملتهم حتى لقي منهم ما لقي من التهديد والأذى ولم يكن له فيهم من ناصر ، وكان من أشد الناس إليه أذى : زوجته ، فكانت هي عينا لقومها على زوجها ، فكانت كافرة ، ولم تؤمن بالله ولا برسوله ، فلذلك أهلكها الله تعالى معهم وأصابها ما أصابهم (1) .
  وفي هذا الانحراف الساقط ووسط هذا الشذوذ الذي يحيط به الدنس والعار من كل اتجاه ، أطلق لوط (عليه السلام ) صيحاته محذرا ، ولكن بجاحة الشهوة لا سمع لها ولا بصر ولا فؤاد ، لقد دار القوم ضد حركة الكون وخرجوا على كل ما فيه ، لقد خلق الله الذكر والأنثى ، وجهز كل صنف من الصنفين بأعضاء وأدوات ومن يتأمل في صنع الله ، وإلقائه تعالى غريزة الشهوة في كل منهما والجمع بينهما بالنكاح ، يعلم أن الحكمة من وراء ذلك هي التناسل الحافظ لبقاء النوع حتى حين ، فالرجل مخلوق للمرأة لا لرجل مثله ، والمرأة مخلوقة للرجل لا لامرأة مثلها ، والنظرة الإنسانية تهدي إلى ازدواج الرجال بالنساء دون الرجال ، وازدواج النساء بالرجال دون النساء، ولكن القوم أقاموا جدرا داخل نفوسهم فلم يتدبروا ، وأقاموا أسوارا عالية من السحب الداكنة السوداء حول الفطرة فلم يسمحوا لشعاع

-------------------------------
(1) كتاب الأنبياء : 158 ، 174 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 132 _
  من نور يخرج منها ليهديهم ، لقد أقاموا الأصنام بداخلهم وطغت أهواؤهم تحت جلودهم في مستنقع من أبوال الشياطين ، وفي هذا المستنقع أصبحت الفاحشة سنة قومية ، الخارج عنها خارج عن القانون! وبدأ لوط (عليه السلام ) دعوته بالطريقة التي يبدأ بها رسل الله يقول تعالى : ( كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ ) (1) لقد كذبوا جميع المرسلين، لأن الذي يكذب واحدا منهم يكون في الحقيقة قد كذبهم جميعا .
  ولوط (عليه السلام ) عندما دعاهم ، دعاهم أولا إلى تقوى الله، وأخبرهم بأنه أمين لا يغشهم ، وأن طاعته من طاعة الله، ولأنه الأمين على ما يحمله إليهم من دعوة ، فهو لم يسألهم على ما يدعوهم أجرا وجزاء ، حتى لا يتهموه بأنه يطلب نفعا يعود إليه ، وهو أيضا لا يدعوهم من غير جزاء مطلوب ، فدعوته ليست عبثا ، ولكنه إنما يطلب الجزاء من الله رب العالمين ، ثم بدأ (عليه السلام ) يبث نداء الفطرة لعل النداء يقرع مسامعهم. فقال : ( أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ) (2) والمعنى : أتأتون أنتم من بين العالمين هذا العمل الشنيع (3) ، فيكون في معنى قوله في موضع آخر : ( مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ ) (4) ، ( أتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ ) الاستفهام للإنكار والتوبيخ ، والذكران جمع ذكر مقابل الأنثى، وإتيانهم كناية عن اللواط ، والعالمين جمع عالم وهو الجماعة من الناس ، أتأتون الذكران وتتركون ما خلق الله لكم من أزواجكم ؟ إنكم بهذا تكونون خارجين عن الحد الذي خطته لكم الفطرة ، عندما قال لهم لوط ذلك ، لم يقولوا له ما أنت إلا بشر مثلنا ، ولم يسألوه أن يأتيهم بمعجزة تثبت أنه رسول من الله ، لم يسألوا شيئا من هذا ، لأن عقولهم هناك في مباول الشيطان وأفعالهم ضد البشرية لأنها تؤدي إلى إهمال طريق التناسل ، إن القوم يعبدون الأوثان ويأتون الذكران ولا رد عند من هذا شأنه لذا كان ردهم الوحيد على لوط (عليه السلام ) عندما أراد أن يردهم إلى رحاب

-------------------------------
(1) سورة الشعراء ، الآيات : 160 ـ 164 .
(2) سورة الشعراء ، الآيتان : 165 ـ 166 .
(3) الميزان : 109 / 15 .
(4) سورة الأعراف ، الآية : 80 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 133 _
  الفطرة: ( لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ * قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُم مِّنَ الْقَالِينَ * رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ ) (1) .
  لقد لوح أهل الدنس بالقبضة الحديدية في وجه رسول الله، أخبروه بأنه إذا لم ينته ويكف عن مواعظه ودعوته لهم بترك ما هم عليه ، فسيكون من المنفيين من قريتهم. فكان رده (عليه السلام ) : إني لا أخاف الخروج من قريتكم ولا أكترث به ، بل مبغض لعملكم (2) راغب في النجاة من وباله النازل بكم لا محالة ، ثم دعا (عليه السلام ) ربه أن ينجيه من أصل عملهم الذي يأتون به بمرأى ومسمع منه .
  فهو منزجر منه ، أو من وبال عملهم والعذاب الذي سيتبعه لا محالة ، ولم يذكر (عليه السلام ) إلا نفسه وأهله إذ لم يكن آمن به من أهل القرية أحد (3) !

  * 2 ـ استعجال العذاب :
  لبث لوط في قومه ثلاثين سنة ، يدعوهم إلى الله عز وجل ، وكانوا لا يتنظفون من الغائط ولا يتطهرون من الجنابة (4) ولم ييأس لوط (عليه السلام ) من دعوتهم ، وكانوا قد حذروه من قبل أنه إذا لم ينته فسيطرد من القرية ! لقد أراد أصحاب الدنس أن يقطعوا شعاع الرحمة النازل من السماء ، وليس في الوجود أشد حمقا من مثل هؤلاء ، إنهم ينامون في الدنس والعار ، ولا يريدون أن يستيقظوا على صوت يدعوهم إلى التفكير في أحوالهم من منطلق فطري ، حتى ولو كان هذا صوت الوحي ! إن هذا النوع من الناس ضيق الأفق لا يرى الأمور إلا من وجهة نظر واحدة هي وجهة نظر الشيطان ، ويكفيهم عارا أن الشيطان زين لهم أدبار الذكران وغواهم في هذه الجزئية، فاعتبروها دستورا لحياتهم ، لقد طالبوا لوطا (عليه السلام ) بالصمت لكن لوطا نبي ليس له إلا أن يبلغ رسالة ربه ، وعندما قام لوط بالبلاغ أصدروا عليه قرار الطرد ! يقول تعالى : ( وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ

-------------------------------
(1) سورة الشعراء ، الآيات : 167 ـ 169 .
(2) البغوي 235 / 6 ، ابن كثير : 345 / 3 .
(3) الميزان : 310 / 15 .
(4) كتاب الأنبياء : 162 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 134 _
  إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ) (1) ، لقد خاطب الإحساس فيهم ، فقال : ( أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ ) أي وأنتم في حال يرى بعضكم بعضا وينظر بعضكم إلى بعض حين الفحشاء ! ! (2) ( أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ) أي بل أنتم قوم مستمرون على الجهل ولا فائدة في توبيخكم والإنكار عليكم (3) فماذا كان جواب القوم ؟ أعلنوا إعلانهم بإخراج آل لوط من القرية .
  وسبب قرار الطرد : أن آل لوط يتنزهون عن هذا بالعمل (4) أو يتحرجون من فعل ما تفعلونه ومن إقرارهم على صنيعهم ، فإخراجهم من بين أظهرهم فإنهم لا يصلحون لمجاورتهم في بلادهم (5) ! ! وقرار الإخراج ورد أيضا في سورة الأعراف ( وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ * وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ) (6) .
  أخبرهم أن ما يفعلوه لم يفعله أحد من الأمم والجماعات من قبل ، وأنهم بهذا العمل تعدوا على سبيل الفطرة ، فترك سبيل النساء والاكتفاء بالرجال إسراف وجهل لأنه وضع للشئ في غير محله ، ولم يكن يجد القوم جوابا على خطاب لوط ، لقد كان خطاب لوط فيهم ( إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء ) فجاءت إجابتهم عليه : ( أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ ) لقد وضعوا ما ليس بجواب موضع الجواب وفي هذا دلالة على سفههم ، وعندما أصدروا قرار الطرد أنذرهم لوط (عليه السلام ) بالعذاب يقول تعالى : ( وَلَقَدْ أَنذَرَهُم بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ ) (7) أي خوفهم أخذنا الشديد فجادلوا في إنذاره وتخويفه (8) ولم يلتفتوا

-------------------------------
(1) سورة النمل ، الآيات : 54 ـ 56 .
(2) الميزان : 376 / 5 ، البغوي : 594 / 6 ، ابن كثير : 694 / 6 .
(3) الميزان : 376 / 15 .
(4) الميزان : 376 / 5 .
(5) البغوي : 294 / 6 ، ابن كثير : 368 / 3 .
(6) سورة الأعراف ، الآيات : 80 ـ 82 .
(7) سورة القمر ، الآية : 36 .
(8) الميزان : 81 / 19 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 135 _
  إلى ذلك ولا أصغوا إليه بل شكوا فيه (1) .
  وفي عالم الجدل العقيم اتسعت دائرة الشذوذ أكثر فأكثر وبدأ القوم يعملون من أجل تصدير فاحشتهم ، فقطعوا الطرق وعندما ابتعد المارة عن طرقهم حين شاع أمرهم صاروا يطلبون الرجال من البلاد ، ويدفعون على ذلك المال (2) ، وعند هذا الحد أنذرهم لوط (عليه السلام ) العذاب الأليم ، لأن القوم بدأوا يحاربون الفطرة في أرض الله الواسعة، لكنهم كعهدهم لم يسمعوا ولم ينصتوا إلى صوت الحق ، وروي أن إبراهيم (عليه السلام ) كان يأتي قوم لوط فيقول لهم : أنهاكم الله أن تعرضوا لعقوبته ، فلم يطيعوه (3) وأنذرهم لوط (عليه السلام ) الإنذار الأخير.
  وكان جوابهم عليه هو أيضا الجواب الأخير ( وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ ) (4).
  لقد كشف لوط (عليه السلام ) عن الأهداف التي ستنتهي إليها أقدام هذا الفتات الآدمي المهلهل، الذي شق فيه الشيطان شقوقه وقدم له حلول قضاياه ، فأخبرهم أن فعلهم هذا سيؤدي إلى إهمال طريق التناسل، وهذه جريمة لا تعادلها جريمة ، كما أن فعلهم هذا سيؤدي إلى ثقافة تكون وصمة عار في جبين البشرية ، قال المفسرون : قوله : ( أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ ) هذا السياق يشهد أن المراد بإتيان الرجل اللواط وبقطع السبيل إهمال طريق التناسل وإلغاؤها وهي إتيان النساء ، فقطع السبيل كناية عن الإعراض عن النساء وترك نكاحهن (5) فقطع النسل دوران في عكس اتجاه حركة الوجود ، وعدم الاستقامة مع حركة الكون يؤدي إلى الضرب وعذاب الاستئصال ، أما الورقة الثقافية التي ستنتج عن جريمة قوم لوط ، يقول المفسرون : قوله : ( وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ

-------------------------------
(1) البغوي : 137 / 8 .
(2) كتاب الأنبياء : 162 .
(3) ابن كثير : 454 / 3 .
(4) سورة العنكبوت ، الآيات : 28 ـ 30 .
(5) الميزان : 123 / 15 ، ابن كثير : 389 / 6 ، البغوي : 389 / 6 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 136 _
  الْمُنكَرَ ) النادي هو المجلس الذي يجتمعون فيه ، ولا يسمى ناديا إلا إذا كان فيه أهله. فوسط الأهل يأتون بالفحشاء أو بمقوماتها الشنيعة على مرأى ومسمع من الجميع (1) إنها ورقة ثقافية قابلة للتصدير في عالم يعج بالأوثان والشهوات والرقيق والأهواء ، وقيل إن المراد بقطع السبيل : قطع سبيل المارة بديارهم ، فإنهم كانوا يفعلون هذا الفعل بالمجتازين من ديارهم ، وكانوا يرفعون ابن السبيل بالخذف ، فأيهم أصابه كان أولى به ، فيأخذون ماله وينكحونه ويغرمونه ثلاثة دراهم وكان لهم قاض يقضي بذلك (2) ! ولكن السياق يقضي بخلاف ذلك .
  وقد يكون قد فعلوا ذلك ، ولكن قطع السبيل بإهمال طريق التناسل وإلغاؤها هو الذي تدل عليه آيات القرآن في أكثر من موضع كما سيأتي وقيل إن إتيان المنكر في النادي هو أن مجالسهم كانت تشتمل على أنواع المنكرات والقبائح مثل الشتم والسخف والقمار وخذف الأحجار على من مر بهم وضرب المعازف والمزامير وكشف العورات واللواط (3) .
  لقد بين لهم لوط (عليه السلام ) أن عملهم يقطع النسل ويشوه الوجه البشري خزيا وعارا ، لكن القوم لم يروا أن في هذا إخلالا بالشرف لأنهم لا يعرفون ما هو الشرف، وأصروا على أن يكتبوا أسماءهم في قائمة الاستئصال وهم مختارون ( فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) لقد استهزء أهل اللواط وسخروا ، كما استهزء من قبلهم الأكثر منهم فحولة وذكورة ، وأمام طلبهم لم يملك لوط (عليه السلام ) إلا أن يقول : ( رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ ) دعاء منه عليهم ، وقد عدهم مفسدين لعملهم الذي يفسد الأرض ويقطع النسل ويهدد الإنسانية بالفناء (4)،

* 3 ـ ملائكة البشرى والعذاب :
  كان إبراهيم (عليه السلام ) في مكان قريب من مكان القوم الذين أرسل إليهم لوط (عليه السلام ) ، فبعد ارتحالهم من العراق إلى بلاد الشامات وفلسطين ، استقر

-------------------------------
(1) الميزان : 123 / 15 .
(2) ابن كثير : 389 / 6 .
(3) البغوي : 389 / 6 .
(4) الميزان : 124 / 15 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 137 _
  لوط (عليه السلام ) في بلاد الأردن على الأظهر، وكانت قريته التي حل بها وسكنها اسمها ( سدوم ) ويجاورها قراها الخمس، وذكر المسعودي: ( أن هذه بلاد بين تخوم الشام والحجاز مما يلي الأردن وبلاد فلسطين إلا أن ذلك من خير الشام ) (1) فهذا مكان لوط (عليه السلام ) ، أما مكان إبراهيم (عليه السلام ) فكان في قلب الأرض التي بارك الله حولها في فلسطين ، فالمسافة كانت تسمح بالتزاور بينهما ، والذي نقصده من قرب المسافة أن نضع مكان إبراهيم ومكان لوط على لوحة واحدة ، وننظر فيها بإمعان فإبراهيم (عليه السلام ) هناك كان قد مسه الكبر، وكانت زوجته عجوزا عقيما ، وقضية أن يكون لهما ولد قضية بمقاييس البشر مستحيلة ، فالولد من رجل مسه الكبر وامرأة عجوز عقيم لا يأتي إلا بمعجزة خارقة للعادة وبأمر ( كن ) هذا هو الحال في فلسطين ، أما في سدوم فالأمر مختلف ، فهناك اتفاق شيطاني للقضاء على النسل ، فالغلام والشاب والرجل والكهل ، ردوا على رسالة لوط إليهم بطريقة عملية تستقيم مع طريقة الذين رفضوا البشر الرسول من قوم نوح وعاد وثمود ، فالأوائل رفضوا بشرية الرسول لأنهم يمتلكون ما لا يمتلكه الرسول ، أما قوم لوط فرفضوا البشرية جمعاء بقطعهم السبيل، وهذا الرفض صورة معدلة من الرفض الشيطاني حين أمر بالسجود لآدم فقال : أنا خير منه ! فالصورة الشيطانية لفقه أنا أخير منه ارتدى أكثر من رداء على امتداد المسيرة البشرية وجميع الأردية تصب في هدف واحد هو الصد عن سبيل الله.
  إذ إبراهيم (عليه السلام ) يقف على أرضية جدباء لا ولد فيها وهو ممتلئ بالرضا ، وقوم لوط هناك يقفون على أرضية يمكن أن يكون عليها الخصب والولد ولكنهم أسرفوا وأفسدوا وقالوا لنبيهم ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين، لقد وقفوا في خندق المحاربة لله ، ومن حارب الله قصمه الله وقطع دابره ، إن الله تعالى لم يخلق شيئا إلا لهدف ومن وراء هذا الهدف حكمة ، وما تسقط من ورقة في هذا الكون الفسيح إلا يعلمها ، لقد انطلق إبراهيم ولوط من العراق إلى الأرض الجديدة رافعين راية التوحيد والفطرة وعلى رقعة واحدة بدأ كل منهما في تنفيذ ما أمره الله تعالى به ، إبراهيم في أعلى الشامات يرفع راية التوحيد والفطرة ولوط في أدنى الشامات يرفع نفس الراية وسط فتات آدمي مهلهل زين له الشيطان

-------------------------------
(1) مروج الذهب : 42 / 1 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 138 _
  وغواه واحتنكه وأذله ، وبين الرايات جاء حكم الله أن الشيخ الفاني والعجوز العاقر ينجبان الولد ، ويبشران بعد الولد بولد ، وأن الفتات الآدمي مقطوع دابره والله غني عن العالمين ، لا وجود الشباب يغنيه ولا وجود الشيوخ يفقره ، فسبحان الذي لا يحتاج إلى حمد الحامدين وشكر الشاكرين ، وعندما قضى الله بالولد في أعلى الشامات وبالعذاب في أدناها حملت الملائكة خبر البشرى والعقاب .

  1 ـ خبر البشرى :
  أنذر لوط (عليه السلام ) قومه من بطش الله ، فقالوا ائتنا بعذاب الله ، ونزلت الملائكة ومعهم ما طلبه القوم ، لكنهم قبل أن يصبوه على أهل الفحشاء والمنكر والدنس نزلوا أعلى الشامات بالبشرى على إبراهيم خليل الله ، يقول تعالى :
  ( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ ) (1) قال المفسرون : عندما دخلوا على إبراهيم جاء بطعام من حيث لا يشعرون بسرعة .
  ولم يمنن عليهم أولا فيقول نأتيكم بطعام ؟ بل جاء به بسرعة وخفاء ، وأتى بأفضل ما وجد من ماله وهو عجل فتى سمين فقربه إليهم ، لم يضعه وقال اقتربوا ، بل وضعه بين أيديهم ، ولم يأمرهم أمرا يشق على سامعه بصيغة الجزم بل قال ( ألا تأكلون ) على سبيل العرض والتلطف (2)، وإبراهيم (عليه السلام ) فعل ما فعل عندما رأى هيئتهم الحسنة عندما مروا عليه وسلموا عليه وهم معتمون ، عندئذ قال إبراهيم : لا يخدم هؤلاء إلا أنا نفسي وكان (عليه السلام ) صاحب ضيافة ، وعندما شوى العجل وقربه إليهم ، رأى أيديهم لا تصل إليه ، فنكرهم وأوجس منهم خيفة ، فلما رأى جبرائيل (عليه السلام ) ذلك ، حسر العمامة عن وجهه ، فعرفه إبراهيم : فقال : أنت هو ؟ قال : نعم (3) ثم قالوا له : لا تخف وبشروه بغلام عليم فبدلوا خوفه أمنا وسرورا (4) .

-------------------------------
(1) سورة الذاريات ، الآيات : 24 ـ 28 .
(2) ابن كثير : 235 / 4 .
(3) الميزان : 328 / 10 .
(4) الميزان : 378 / 15 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 139 _
  فماذا كان موقع البشرى على الشيخ الذي مسه الكبر وزوجته العجوز العقيم ؟ فأما إبراهيم (عليه السلام ) فقد قال : ( أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ ) (1) قال المفسرون: تلقى إبراهيم (عليه السلام ) البشرى وهو شيخ كبير هرم ، لا عقب له من زوجه ولذا تعجب من قولهم ، واستفهمهم .
  كيف يبشرونه بالولد وحاله هذه الحال وزوجه عجوز عقيم ، والمعنى : إني لأتعجب من بشارتكم إياي ، والحال أني شيخ هرم فنى شبابي وفقدت قوى بدني ، والعادة تستدعي أن لا يولد لمن هذا شأنه (2) وأمام تعجب إبراهيم قالوا ( بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ )أي أن بشارتنا ملازمة للحق غير منفكة منه ، فلا تدفعها بالاستبعاد فتكون من القانطين من رحمة الله ، فقال إبراهيم : ( وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ ) أي أن القنوط من رحمة الله ما يختص بالضالين ، ولست أنا بضال فليس سؤالي سؤال قانط مستبعد (3) .
  أما موقع البشرى على زوجة الخليل ، فإنها عندما سمعت ( قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ ) (4) لقد وجدت نفسها أمام مفاجأة ، فما لبثت أن قالت بكلمات ( يَا وَيْلَتَى ) ( أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ ) ( َهَذَا بَعْلِي شَيْخًا ) ثم أجملت ( إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ) ومورد التعجب أنها لما سمعت بشارة الملائكة ، تمثل لها الحال ، كيف يولد ولد من عجوز عقيم وشيخ هرم بالغين في الكبر ولا يعهد من مثلهما الاستيلاد فهو أمر عجيب ، ولقد أنكرت الملائكة تعجبها وقالوا : ( أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ ) أضافوا الأمر إلى الله لينقطع بذلك كل استعجاب واستغراب لأن ساحة الألوهية لا يشق شئ عليها فهو سبحانه الخالق لكل شئ ، ثم نبهوها بقولهم : ( رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ) وذلك لأن الله أنزل رحمته وبركاته عليهم أهل البيت ، فليس من البعيد أن يكون من ذلك

-------------------------------
(1) سورة الحجر ، الآيات : 54 ـ 56 س .
(2) الميزان : 181 / 12 ، ابن كثير : 554 / 2 .
(3) الميزان : 181 / 12 ، البغوي : 22 / 5 .
(4) سورة هود ، الآيات : 72 ـ 73 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 140 _
  تولد مولود من والدين في غير سنهما العادي المألوف لذلك ( إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ ) فهو تعالى مصدر كل فعل محمود ومنشأ كل كرم وجود ، يفيض من رحمته وبركاته على من يشاء من عباده (1) .
  إن مولودا في أعلى الشامات أفضل عند الله من ملايين الملايين في أماكن أخرى ، فالحق لا يغلب بالكثرة ولا يغلب لقلة ، وطاهر واحد من صلب خليل الله خير من الدنيا وما فيها ، وإنجاب الولد من والدين بالغين في الكبر صفعة على وجوه الأغبياء الذين لا يتدبرون في آيات الله ويدورون عكس دوران الوجود الذي لا يدور إلا على محور الفطرة .

2 ـ خبر العذاب :
  لما ذهب عن إبراهيم (عليه السلام ) ما اعتراه من الخيفة بعد أن تبين أن النازلين به لا يريدون به سوءا ولا يضمرون له شرا ، وبعد أن جاءته البشرى بأن الله سيرزقه وزوجه إسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ، وبعد أن بدل الملائكة خوف إبراهيم أمنا وسرورا قال إبراهيم للملائكة : ( فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُواْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ ) ( لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ ) (2) ، قال المفسرون : والمعنى ( قال ) إبراهيم (عليه السلام ) ( مَا خَطْبُكُمْ ) والشأن الخطير الذي لكم ( أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ) من الملائكة ( قالوا ) أي الملائكة لإبراهيم ( إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ ) نكروهم ولم يسموهم صونا للسان عن التصريح باسمهم تنفرا منه ، ومستقبل الكلام يعينهم من هم ، وذلك عندما استثنوا في موضع آخر وقالوا : ( إلا آل لوط ) أي لوط وخاصته فظهر بذلك أن القوم قومه ، وإذا كان الملائكة هنا لم يسموا القوم ، فإنهم في موضع آخر لم يسموا القرية التي يسكنها القوم صونا للسان عن التصريح باسمها تنفرا منه ، فقالوا لإبراهيم (عليه السلام ) : ( إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ ) (3) قال المفسرون : والإتيان بلفظ الإشارة القريبة ـ هذه القرية ـ فيه

-------------------------------
(1) الميزان : 325 / 10 .
(2) سورة الذاريات ، الآيات : 31 ـ 34 .
(3) سورة العنكبوت ، الآية : 31 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 141 _
  دلالة على قربها من الأرض التي كان إبراهيم (عليه السلام ) نازلا بها ، وهي الأرض المقدسة ، وبعد أن أخبر الملائكة إبراهيم (عليه السلام ) بأنهم أرسلوا إلى قوم مجرمين وأنهم مهلكوا أهل هذه القرية لأن أهلها كانوا ظالمين ، أخبروه بالقوة التدميرية التي سيصبونها على رؤوس الظالمين فقالوا : ( لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ ) طينا متحجرا سماه الله سجيلا ( مسومة ) معلمة ( عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ ) تختص بهم لإهلاكهم (1).
  عندما سمع إبراهيم هذا الهول كان يعلم أن الله تعالى لا يعذب لوطا وهو نبي مرسل ، وإن شمل العذاب جميع من سواه من أهل قريته ، فالله سبحانه ينجي عباده المخلصين عند ضربات الكون للظالمين من كل اتجاه، كما كان يعلم أن الظالم المفسد في الأرض يعرض نفسه لعقوبة الله ، فإذا جاءته فلا يلومن إلا نفسه ، لكنه (عليه السلام ) عندما سمع من الملائكة ما سمع قال : ( إن فيها لوطا ) (2) قال المفسرون: كان يريد بقوله : ( إن فيها لوطا ) أن يصرف الله العذاب عن أهل القرية كرامة للوط ، نظرا لأن فيها القاصر والعاجز والطفل الصغير الذي لا جناية له ، ولا جناح عليه ، وكان قوله هذا نتيجة لرقة قلبه وصفاء طوياته عليه السلام، فلم يملك نفسه أن بادر بالاستشفاع والجدال ، فأجابته الملائكة : ( قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين ) (3) ولقد ذهب العديد إلى أن قوله : ( إن فيها لوطا ) يعني أن يصرف الله العذاب عنهم لأن فيهم لوطا وإهلاك أهل القرية يشمله ، وقول مثل هذا لا يستقيم مع أحداث أيام الغضب الإلهي ، فالله تعالى بعث الريح على عاد فمزقت أجسادهم وأفئدتهم في الوقت الذي كان فيه هود (عليه السلام ) وأتباعه تصل إليهم الريح بما يشيع فيهم الأمن ، والدليل على أن إبراهيم (عليه السلام ) كان يجادل في قوم لوط وليس من أجل خوفه على لوط نظرا لأن إهلاك القوم يشمله قوله تعالى في سورة هود في هذا الموضع من القصة ( فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ * يَا إِبْرَاهِيمُ

-------------------------------
(1) الميزان : 183 / 12 ، 378 / 18 ، البغوي : 69 / 8 .
(2) سورة العنكبوت ، الآية : 32 .
(3) سورة العنكبوت ، الآية : 32 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 142 _
  أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ) (1) فالآيات أظهر ما يكون في أن إبراهيم (عليه السلام ) كان يدافع عن قوم لوط لا عن لوط نفسه (2) ويقول المفسرون : قوله تعالى : ( يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ) فيه مدح بالغ لإبراهيم (عليه السلام ) ، وبيان أنه إنما كان يجادل فيهم لأنه كان حليما لا يعاجل نزول العذاب على الظالمين رجاء أن يأخذهم التوفيق فيصلحوا ويستقيموا ، وكان كثير التأثر من ضلال الناس وحلول الهلاك بهم مراجعا إلى الله في نجاتهم لا أنه (عليه السلام ) كان يكره عذاب الظالمين وينتصر لهم بما هم ظالمون وحاشاه عن ذلك ، وفي قوله تعالى : ( يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ) قطع للجدال ، حيث علم أن الإلحاح في صرف العذاب، عنهم لن يثمر ، فإن القضاء حتم ، والعذاب واقع لا محالة ، فقولهم :
  ( يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا ) أي انصرف عن هذا الجدال ولا تطمع في نجاتهم فإنه طمع فيما لا مطمع فيه ( إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ ) أي بلغ أمره مبلغا لا يدفع بدافع ولا يتبدل بمبدل ( وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ) أي غير مدفوع عنهم بدافع فلله الحكم ولا معقب لحكمه (3) .
  ومن عند المكان الذي تلقى فيه إبراهيم البشرى وسمع خبر العقاب انطلق الملائكة في اتجاه القرية الظالمة التي أرادت أن تسن سنة يعطل بها النسل وتحط ردائها تشيع الفواحش وثقافة الانحطاط، انطلق الملائكة بعد أن وضعوا في ذاكرة المؤمنين معجزة المولود، والمعجزة لم توضع في الذاكرة الإيمانية بمفردها وإنما وضع بجانبها خبر العقاب ، ليكون المشهد مولود هنا واستئصال هناك ، مولود هنا يحمل رسالة واستئصال هناك لجموع خفيرة بلا رسالة وبلا هدف يجلدون فطرتهم ويلاحقون الضمير في كل مكان ، لقد وضعوا في الذاكرة الإيمانية أن الذين يقطعون السبيل لا يملكون شيئا لأن الذي يجري الماء قادر على أن يجريه في أي مكان وزمان ، وإن قاطع السبيل لا يمكن أن يفر من تحت السماء .

-------------------------------
(1) سورة هود ، الآيات : 74 ـ 76 .
(2) الميزان : 125 / 16 .
(3) الميزان : 327 / 10 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 143 _
  * 4 ـ الطريق إلى قوم لوط :
  يقول تعالى : ( وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ) (1) قال المفسرون : والمعنى : لما جاءت رسلنا لوطا وهم الملائكة الذين نزلوا عند إبراهيم ، ساء مجيئهم لوطا ، وعجز عن الاحتيال لنجاتهم من شر القوم ، فالملائكة دخلوا عليه في صورة غلمان صبيحي المنظر ، وكان قومه ذوي حرص شديد على إتيان الفحشاء وما كان من المترقب أن يعرضوا عنهم ويتركوهم على حالهم ، ولذلك لم يملك لوط نفسه دون أن قال : ( هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ) أي شديد ملتف بعض شره ببعض (2) وروي أن الملائكة أتوا لوطا وهو في زراعة قرب القرية ، فسلموا عليه وهم معتمون ، فلما رأى هيئتهم حسنة ، عليهم ثياب بيض وعمائم بيض ، قال لهم : المنزل ، فقالوا : نعم .
  فتقدموا هم ومشوا خلفه ، فندم على عرضه المنزل عليهم ، فقال : أي شئ صنعت ؟ آتي بهم قومي وأنا أعرفهم ؟ ثم قال لهم : إنكم لتأتون شرارا من خلق الله ، قال جبرائيل : لا نعجل عليهم حتى يشهد عليهم ثلاث مرات ، هذه واحدة ، فمشى لوط ساعة ثم التفت إليهم فقال : إنكم لتأتون شرارا من خلق الله ، فقال جبرائيل : هذه اثنتان ، ثم مشى فلما بلغ باب المدينة التفت إليهم ثم قال : إنكم لتأتون شرارا من خلق الله ، فقال جبرائيل : هذه الثالثة ، ثم دخل ودخلوا معه حتى دخل منزله ، فلما رأتهم امرأته ، رأت هيئة حسنة ، فصعدت فوق السطح فصفقت فلم يسمعوا ، فدخنت فلما رأوا الدخان أقبلوا إلى الباب يهرعون ! حتى جاؤوا على الباب فنزلت إليهم فقالت ، عندنا قوم ما رأيت قط قوما أحسن منهم هيئة ، فجاؤوا إلى الباب ليدخلوا (3) يقول تعالى : ( وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ * قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ) (4).

-------------------------------
(1) سورة هود ، الآية : 77 .
(2) الميزان : 338 / 10 .
(3) الميزان : 348 / 10 .
(4) سورة هود ، الآيتان : 78 ـ 79 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 144 _
  قال المفسرون : كان قومه قد نهوه أن يضيف رجلا ، وعندما علموا بمن عنده ، أسرعوا إليه فرحين بذلك (1) ومن قبل ذلك كانوا يقترفون المعاصي ويأتون بالمنكرات ، فكانوا مجترئين على إيقاع الفحشاء ، معتادين بذلك لا ينصرفون عنه بصارف ، ولا يحجبهم من ذلك استحياء أو استشناع ، ولا ينزجرون بموعظة أو ملامة أو مذمة ، لأن العادة تسهل كل صعب وتزين كل قبيح ووقيح (2) ولما رآهم تجمعوا على الشر لا يصرفهم عن ذلك مجرد القول بعظة أو إغلاظ في الكلام، أراد أن يصرفهم عنه بتبديل ما يريدون من الفحشاء مما لا معصية فيه من الحلال فعرض بناته عليهم ... وقيل إن المراد بقوله ( هؤلاء بناتي ) الإشارة إلى نساء القوم لأن النبي أبو أمته فنساؤه بناته كما أن رجالهم بنوه (3) وكان (عليه السلام ) يريد أن قصد الإناث وهو سبيل فطري ، خير لهم وأطهر من قصد الذكور من طريق الفحشاء (4) وبعد أن ردهم إلى الطريق الفطري قال لهم : ( اتقوا الله ولا تخزون في ضيفي ) قال المفسرون : أضاف الضيف إلى نفسه (5) ، وذكر الخزي الوارد عليه من التعرض لهم ، كل ذلك رجاء أن يهيج صفة الفتوة والكرامة فيهم ، ولذلك عقب ذلك بالاستغاثة والاستنصار بقوله : ( أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ ) لعله يجد فيهم ذا رشد إنساني فينتصر له وينجيه وضيوفه من أيدي أولئك الظالمين، لكن القوم لم يؤثر ذلك فيهم أي أثر وأجابوه بما آيسوه به (6) : ( قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ) هذا جواب القوم عما دعاهم إليه لوط من النكاح المباح، أخبروه أن ما يدعوهم إليه ليس حقا لهم ، وهو يعلم ذلك ويعلم ما هو بغيتهم في هذا الهجوم وماذا يردون ، فلوط يعرف ما يريدون لأنه كان ينهاهم عن سنتهم القومية الجارية بينهم ويقول لهم : ( إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء ) (7) ( أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ

-------------------------------
(1) ابن كثير : 453 / 3 .
(2) الميزان : 338 / 10 .
(3) ابن كثير : 453 / 2 .
(4) الميزان : 339 / 10 .
(5) الميزان : 340 / 10 .
(6) الميزان : 340 / 10 .
(7) سورة الأعراف ، الآية : 81 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 145 _
   لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُم ) (1) وبما أن الشذوذ في سنتهم القومية قاعدة الخارج عنها خارج على القانون! فلقد قاموا بنفي أي حق لا يتفق مع الحق الذي تجري عليه السنة القومية التي أصلتها أهواؤهم ، ولا شك أن السنة القومية الجارية على فعل شئ يثبت حقا فيه ، والجارية على تركه ينفي الحق، وقد قيل في معنى نفيهم الحق الكثير، وبالجملة فهم يلفتون نظره (عليه السلام ) إلى ما يعلم من انتفاء حقهم عن بناته بما هن نساء ، بحسب السنة القومية، وما يعلم من إرادتهم في الهجوم على داره (2).
  أفسدوا كل شئ وسخروا من كل فضيلة وطاردوا كل طاهر ، وكل هذا باسم الحق والقانون لا يستطيع طاهر أن يبث شكواه لأحد ما دامت شكواك ضد السنة القومية الجارية ، المواطن الصالح هناك هو نهاز الفرص ، الذي يتربص ويفعل الشئ المناسب في الوقت المناسب دون أن يتعرض للخطر! والفقيه الفذ في عالم عدالتهم هو الذي بعد ساعة من التأمل يستطيع أن يقدم عرضا فريدا لجمهور الأشراف والأمراء داخل نواديهم ! والمثقف البارع هناك هو الذي يقدم كوميديا الشذوذ للسوقة والرعاع ، كي يوصل فيهم القومية ليؤدي كل منهم دوره في الحياة بلغة غير معروفة ، لغة يجهلها الكون من حولهم ومن الصعب أن يفهمها غيرهم !
  فهذا هو الحق في عالم الشذوذ ، لقد طفحت الأهواء بالدنس فغزلوا من الدنس قانونا قدم فيه الشيطان حلول مشاكلهم !
  ( قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ * قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ) (3) بعد أن أخبروا لوطا (عليه السلام ) ، بأنه يعلم أنهم لا حق لهم في النساء لأنهم لا إرب لهم فيهن ولا يشتهونهن وأنه ليس لهم غرض إلا في الذكور وهو يعلم ذلك (4) قال لوط (عليه السلام ) : ( لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً ) قال المفسرون : أي ليت لي قدرة بانضمام رجل منكم رشيد يقوم بنصرتي فأدفعكم به ـ وقيل إن المعنى : أتمنى أن يكون لي منعة وقدرة وجماعة

-------------------------------
(1) سورة الشعراء ، الآيتان : 516 ـ 166 .
(2) الميزان : 341 / 10 .
(3) سورة هود ، الآيتان : 79 ـ 80 .
(4) تفسير ابن كثير : 453 / 3 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 146 _
  أتقوى بها عليكم فأدفعكم عن أضيافي (1) وقيل إن المعنى : لكنت نكلت بكم وفعلت بكم الأفاعيل بنفسي وعشيرتي (2) .
  لم يكن لوط (عليه السلام ) يعلم أن معه في الحجرة ركن من أقوى الأركان، وأي ركن أشد من جبرائيل (عليه السلام ) ؟ وكان مع لوط تحت سقف واحد ! !

  1 ـ الخروج ليلا :
  بعد أن طالبهم لوط (عليه السلام ) بالناصر الرشيد، أقاموا على أنفسهم الحجة بأنه لا يوجد بينهم رجل رشيد ، وتدافعوا على الباب وكسروه ثم توجهوا إلى باب لوط ، وعندما كان لوط مع الملائكة في الحجرة بدأ الملائكة بمقدمات يعرفون بها لوطا بحقيقة أمرهم وكما أن إبراهيم (عليه السلام ) أنكرهم عندما رأى أيديهم لا تصل إلى الطعام، أنكرهم لوط (عليه السلام ) أيضا عندما شاهد منهم ما شاهد ( قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ ) (3) فلما قال ذلك عندما شاهد منهم فعلا غير معهود ( قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ * وَأَتَيْنَاكَ بَالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ) (4) والمراد بما كانوا فيه يمترون ، العذاب الذي كان ينذرهم به لوط وهم يشكونه فيه والمراد بإتيانهم بالحق ، إتيانهم بقضاء حق في أمر القوم لا معدل عنه وقيل المراد : وآتيناك بالعذاب الذي لا شك فيه (5) وإظهار الضيوف حقيقتهم في يوم الهجوم على بيت لوط ورد في موضع آخر في سورة هود ( قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ )(6) وأشاعوا الطمأنينة في نفسه كما في سورة العنكبوت ( قَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ ) (7).
  وبالجملة لما بلغ الأمر المبلغ ، قالت الملائكة مخاطبين لوطا إنا رسل ربك ، وأظهروا له أنهم ملائكة ، وعرفوه أنهم مرسلون من عند الله ، وطيبوا نفسه

-------------------------------
(1) الميزان : 341 / 10 .
(2) تفسير ابن كثير : 353 / 4 .
(3) سورة الحجر ، الآية : 62 .
(4) سورة الحجر ، الآيتان : 63 ـ 64 .
(5) الميزان : 182 / 12 .
(6) سورة هود ، الآية : 81 .
(7) سورة العنكبوت ، الآية : 33 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 147 _
  أن القوم لن يصلوا إليه ، ولن يقدروا أن يصيبوا منه ما يريدون ، وأنهم جاؤوا للقوم بالعذاب الذي لا شك فيه ، وروي أن جبرائيل قال يا لوط دعهم يدخلون ، فلما دخلوا أهوى جبرائيل بإصبعه نحوهم فذهبت أعينهم (1) وفي رواية أن جبرائيل أخذ كفا من بطحاء فضرب بها وجوههم وقال : شاهت الوجوه، فعمي أهل المدينة كلهم (2) وقال تعالى : ( وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ ) (3) وروي أنه بعد أن طمست عيونهم رجعوا على أدبارهم يتحسسون بالحيطان ويتوعدون لوطا (عليه السلام ) بالصباح (4) ولم يكن يعلمون أن الصباح عليهم عذاب لا محيص لهم عنه ولا انفكاك لهم منه .
  وبينما كان القوم يتخبطون في الظلام يسيرون بجانب الجدران يتصايحون مطالبين بالانتقام ، كان لوط (عليه السلام ) يأخذ تعليمات النجاة من الملائكة ( فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ) (5) فالقول دستور من الملائكة للوط عليه السلام ، إرشادا له إلى النجاة من العذاب النازل بالقوم صبيحة ليلتهم هذه ، وفيه معنى الاستعجال كما يشعر به قوله ، ( إن موعدهم الصبح ) والمعنى : انج بنفسك وأهلك وسيروا أنت وأهلك بقطع من هذا الليل واخرجوا من ديارهم فإنهم هالكون بعذاب الصبيحة ليلتهم هذه ، ولا كثير وقت بينك وبين الصبح ولا ينظر أحدكم إلى الوراء وقوله : ( إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ ) ظاهر السياق أنه استثناء من قوله : ( أهلك ) لا من قوله ( أحد ) وفي قوله : ( إنه مصيبها ما أصابهم ) بيان السبب لاستثنائها (6) وقال تعالى في غير موضع : ( إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ ) (7) وبدأ لوط (عليه السلام ) يستعد للخروج من القرية الظالمة التي قدر الله ضربها وموعد هلاكها الصبح ،

-------------------------------
(1) الميزان : 82 / 19 .
(2) الميزان : 346 / 10 .
(3) سورة القمر ، الآية : 37 .
(4) البغوي : 138 / 8 .
(5) سورة هود ، الآية : 81 .
(6) الميزان : 343 / 10 .
(7) سورة الحجر ، الآية : 60 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 148 _
  والصبح هو صدر النهار بعد طلوع الفجر حين الشروق كما قال تعالى في موضع آخر : ( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ) (1) وقال المفسرون في قوله : ( إن موعدهم الصبح ... ) ومن الجائز أن يكون لوط (عليه السلام ) يستعجلهم في عذاب القوم فيجيبوه بقولهم : ( إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ) أي أن المقدر أن يهلكوا بالصبح وليس موعدا بعيدا ، أو يكون الجملة الأولى: ( إن موعدهم الصبح ) استعجالا من الملائكة ، والثانية : ( أليس الصبح بقريب ) تسلية منهم للوط في استعجاله (2) ، وبالجملة ، بدأ لوط (عليه السلام ) يستعد للخروج ليلا قبل أن يهل الصبح، وبدأت الملائكة تقدم للوط إرشادات السير والمحل الذي يتوجهون إليه ، ( فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ ) (3) قال المفسرون: والمعنى ، وإذا جئناك بعذاب غير مردود وأمر من الله ماض يجب عليك أن تسير بأهلك ليلا .
  وتأخذ أنت وراءهم لئلا يتخلفوا عن السير، ولا يلتفت أحد منكم إلى ورائه ، وامضوا حيث تؤمرون ، وفيه دلالة على أنه كانت أمامهم هداية إلهية تهديهم وقائد يقودهم (4) ، وبدأت قافلة الهداية تخرج من القرية الظالمة، ولم تكن قافلة الهداية جموعا غفيرة، لقد كان عددها قليلا قليلا ، لكنها كانت تحمل الإيمان بالله ، يقول تعالى : ( فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ ) (5) قال المفسرون : البيت هو بيت آل لوط (6) بيت واحد في مدن عامرة ، وقد روي كما جاء في الدر المنثور أن عدد أهل هذه القرى كان أربعة آلاف ألف (7) وإن كان العدد فيه أقوال كثيرة للمفسرين إلا أن كثرة الباطل ثابتة ونسبته عالية ، حيث لم يخرج من القرى الخمس إلا لوطا وأهل بيته ، والمعنى

-------------------------------
(1) سورة الحجر ، الآية : 73 .
(2) الميزان : 343 / 10 .
(3) سورة الحجر ، الآية : 65 .
(4) الميزان : 183 / 12 ، البغوي : 23 / 5 .
(5) سورة الذاريات ، الآيتان : 35 ـ 36 .
(6) الميزان : 379 / 18 ، البغوي : 69 / 8 ، ابن كثير : 69 / 8 .
(7) الميزان : 350 / 10 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 149 _
  الذي وراء هذا ، أن قوم لوط لم يتقدموا قدما في اتجاه التوبة ، لم يكن في بيوتهم وأنديتهم من يفكر في الطهارة : كان الجميع تحت عقيدة واحدة ويشربون من إناء ثقافة واحدة ، لذلك عندما استشفع إبراهيم (عليه السلام ) لهم كانت الإجابة :
  ( قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) (1) ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ * يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ) (2) .
  لقد طمست عيون القرية التي كان يسكنها لوط (عليه السلام ) بإشارة من إصبع جبرائيل (عليه السلام ) وطمست عيون القرى بحفنة من تراب ألقاها وقال شاهت الوجوه ، وقضى الله أن يتخبطوا في الظلام كي يذوقوا مرارة الفزع قبل أن يأتيهم العذاب الأليم حيث لا ينفعهم قانون ولا ينفعهم قاضي الغلمان ، لقد عاش قوم لوط ككتل آدمية تربت في الظلام، تنفخ فيها ثقافة فتجعلها تكبر سريعا ، وكلما اشتد عودها كلما اعوجت وبدأت فظة مغمورة بالدنس ، لقد اشتغلوا في حياتهم قطاع طرق ، ليس من أجل سرقة الأمتعة فقط ، وإنما من أجل سلب نور الفطرة بوضع أغطية الشذوذ عليها ليصبح الإنسان في مرتبة أدنى من مرتبة البهيمة ، وفي الوقت الذي كانوا يقطعون نور الفطرة ببث ثقافتهم هنا وهناك ، كانوا يحاربون الإنسان في كل مكان تحت عنوان قطع سبيل التناسل، وأمام سلبهم لنور الفطرة طمس الله على عيونهم وتركهم في ظلمات يتخبطون ، حتى يأتي الصباح ، فعند الصباح سيدفعون ثمن الجريمة كاملا ، وفي الآخرة عذاب أليم .

  2 ـ عندما جاء الصباح :
  يقول تعالى لرسوله الخاتم محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( للَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ * فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ ) (3) قال المفسرون : يقول الله تعالى لنبيه محمد ، أقسم بحياتك وبقائك يا محمد ، إنهم لفي سكرتهم ، وهي غفلتهم

-------------------------------
(1) سورة العنكبوت ، الآية : 32 .
(2) سورة هود ، الآيتان : 75 ـ 76 .
(3) سورة الحجر ، الآيات : 72 ـ 74 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 150 _
  بانغمارهم في الفحشاء والمنكر ، يترددون متحيرين ، ( فأخذتهم الصيحة ) وهي الصوت الهائل ( مشرقين ) أي حال كونهم داخلين في إشراق الصبح .
  فجعلنا عالي بلادهم سافلها ، وفوقها تحتها ، وأمطرنا وأنزلنا من السماء عليهم حجارة من سجيل (1) لقد أقسم الجبار سبحانه بحياة نبيه محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهذا تشريف عظيم ومقام رفيع وجاه عريض ، وعن ابن عباس : ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفسا أكرم عليه من محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره ، قال له الله: ( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) يقول له وحياتك وعمرك وبقائك في الدنيا : ( إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) رواه ابن جرير (2) .
  لقد كانوا في الضلالة يلعبون ... ركبوا طريق قطع النسل، بعد أن زين لهم الشيطان أعمالهم ، وأغواهم حتى ساروا في طريق كراهية البشر ، ذلك الطريق الذي لون الشيطان لافتاته ، فتارة يحشر جمعه تحت لافتة رفض البشر الرسول وتارة تحت لافتة قطع نسل البشر ، وكل ذلك لأن الله خلقه من نار وخلق آدم من طين ، وها هم قوم لوط يضربون بحجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين ، وخسر الشيطان جولته كاملة على أرض قوم لوط ، لقد سقطت ورقة تحقير البشر في صورتها الأخيرة ، وتمت إبادة الدنس ( وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ ) (3) قال المفسرون : والمعنى : وقضينا أمرنا العظيم في عذابهم موحيا ذلك إلى لوط ، وهو أن دابر هؤلاء وأثرهم الذي من شأنه أن يبقى بعدهم من نسل وبناء وعمل مقطوع حال كونهم مصبحين (4) لقد سقطت ورقة الشيطان التي أقام قوم لوط عليها ثقافتهم ، وعلى مكان ليس ببعيد من أرض لوط ، بشر الله تعالى إبراهيم بالولد ، وبهذا الولد ستنهزم أوراق الشيطان ولافتاته ، لأن المولود هو إسحاق ومن بعد إسحاق يعقوب ثم بقية أنبياء بني إسرائيل ، والأنبياء من عباد الله المخلصين الذين لا يستطيع الشيطان غوايتهم ، والخلاصة : لم تكن الضربات موجهة إلى قوم لوط وحدهم ، وإنما كانت

-------------------------------
(1) الميزان : 185 / 12 .
(2) البغوي : 24 / 5 ، تفسير ابن كثير : 24 / 5 ، تفسير ابن كثير : 555 / 2 .
(3) سورة الحجر ، الآية : 66 .
(4) الميزان : 184 / 12 .