مراده تعجيزهم وتعجيز آلهتهم جميعا ، وبهذا التعجيز الشامل يكون قد قدم أتم دلالة على كونه على الحق وكونهم على الباطل (1)، لقد قال للعتاة الذين يبطشون بطش الجبارين : ( فَكِيدُونِي جَمِيعًا ) ليشاهدوا وليعلموا أنهم بمضارتهم وثقافتهم وقوتهم لن يقدروا عليه بقتل أو بتنكيل ، على الرغم من أنهم ذوي شدة وقوة لا يعادلهم فيها غيرهم من أهل الشدة والبطش ، فليفعلوا ولن يستطيعوا أن يضروه ، وعندما يضربهم العجز، فيجب عليهم أن يصدقوه .
  ويؤمنوا به وبرسالته التي من عند الله ، لأنه لولا أنه نبي من عند الله، صادق فيما يقوله ، مصون من عند ربه ... لقدروا عليه بكل ما أرادوا من عذاب أو دفع ، وأخبرهم بأن معجزة التحدي للقوة لا تعود إلى كونه أشد منهم قوة ولا إلى أنه ينتمي إلى جنس غير جنس البشر ، فهو بشر يخاف ويكره ، ولكنه لن يخاف من قوتهم الطاغية، ليس لأنه يحمل معجزة التحدي للقوة ، وإنما لأنه توكل على الله ربه وربهم ، فهو سبحانه الحاكم العادل الذي لا يجور في حكمه ، وهو سبحانه المحيط بهم جميعا والقاهر لهم ، وهو سبحانه الذي ينصر الحق ويظهره على الباطل إذا تقابلا .
  وأمام معجزة هود (عليه السلام ) ارتدت عاد ثوب المذلة، فآلهتهم لم تفعل لهود (عليه السلام ) شيئا رغم سهر فقهاء الجبابرة أمامها وطلبهم تدخلها ، والجبابرة والعتاة لم يستطيعوا أن يضروا هودا وهم أصحاب شعار ( من أشد منا قوة ؟ ) إن دولة تحمل شعارا لا تستطيع العمل بمضمونه هو ـ وفقا لمقاييس أصحاب القمة ـ مذلة وهو ـ وفقا لمقاييس أصحاب القاع ـ مهانة ، ( فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ) (2) .
  وعندما كانت عاد في ثوب المذلة، كان هود (عليه السلام ) بين أتباعه في عافية وسلامة لا يستطيع أحد أن يمسه بسوء أو يناله بشر ، وعندما ذاق جبابرة عاد مرارة العجز، انسحبوا من المواجهة، انسحبت الدولة كلها بأوثانها وفقهائها وجبابرتها وجنودها من أمام هود (عليه السلام ) ، ووقفوا جميعا في خندق من خنادق الصد عن سبيل الله لا يملكون فيه إلا بذاءة اللسان .

-------------------------------
(1) الميزان 302 / 10 .
(2) سورة فصلت ، الآية: 15 .

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 77 _
  ثالثا : استعجال العذاب :
  ظل هود (عليه السلام ) يدعو قومه ، لكن الاستكبار كان يجري في دمائهم .
  رغم ما يعانون من ذل نتيجة لعدم مقدرتهم على الكيد لهود ، ولما يعانونه من القحط لإمساك المطر عنهم ، والمستكبر المحتاج أكثر خطرا من غيره ، لأنه يستعمل جميع أدوات البطش التي لا يستعملها غيره ، وإن كان غيره يمكن أن يدمر من حوله من أجل نفسه فإن المستكبر المحتاج يمكن أن يدمر كل من حوله حتى نفسه ولا يتنازل عن هواه وجميع الذين استكبروا قبل أن يضربهم عذاب الاستئصال أوقفهم الله في دائرة الحاجة كي يستغفروا ، لكنهم خرجوا من الدائرة وهم يشهرون مخالبهم في وجه كل طاهر ، ويغرسون أنيابهم في جسم كل عفيف ، طمعا في أن يخنقوا الأرض أو يصيبوها بالوباء ، إن الاستكبار بجميع فصائله ينطلق من مملكة الظلم ، التي يديرها أصحاب الرؤوس الفارغة والقلوب القاسية ، وهؤلاء لا يتنازلون عن هوى من أهوائهم فيه حاجة لهم ، وإن ترتب على ذلك الهلاك للجميع ، لأنهم ببساطة ألد أعداء الجنس البشري وإن كانوا ينتمون إليه، هم ألد أعداء الإنسانية لأنهم يتصورون أن في عروقهم تجري الدماء النقية، ووفقا لهذا التصور أو الاعتقاد رفضوا قديما النبي البشر ، وتطور الرفض فيما بعد إلى كل حامل علم لا يستقيم مع أهوائهم وإن كان حامل العلم معه سلطان وبرهان .
  لقد خرجت عاد من دائرة الاحتياج رافضة للتوبة والاستغفار ، وأمام العناد كان هود (عليه السلام ) يبلغ رسالات ربه إليهم ( يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ) (1) لم يحدثهم عن قلاعهم وحصونهم ، إنما دعاهم فقط إلى عبادة الله، ولم يضف على ذلك شيئا ، فماذا كان ردهم ؟ ( قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ) (2) لقد كان جوابهم له فيه احتقار ومهانة ، واجهوه أولا بأن فيه سفاهة ، وواجهوه ثانيا بأنهم يظنون أنه من الكاذبين ... لتد واجهوه بهذه التهم لأنهم سمعوا منه دعوته أكثر من

-------------------------------
(1) سورة الأعراف ، الآية : 65 .
(2) سورة الأعراف ، الآية : 66 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 78 _
  مرة ، وفي كل مرة كان يعترض على آلهتهم ، فأخرجوا من جعبتهم تهمة السفاهة ورموه بها ، والسفاهة : خفة العقل التي تؤدي إلى الخطأ في الآراء، ولقد زادت عاد وقاحة على قوم نوح ، فقوم نوح رموا نوحا بالضلال في الرأي ، أما عاد فقد رموا هودا بالسفاهة ، إنها الغطرسة التي تلقي بالتهم هكذا جزافا بلا تدبر ولا دليل ، ثم اتهموه بالكذب في غير تحرج ولا حياء ، أنظر إلى قولهم له : ( إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ) ثم انظر إلى جوابه عليه السلام: ( يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ) (1) لقد رد عليهم ردود الأنبياء، رموه بالسفاهة ، فلم يخرجه ذلك عن وقار النبوة ، ولم ينس ما هو الواجب من أدب الدعوة الإلهية، وأخبرهم أنه ليس به سفاهة ، ولكنه رسول من رب العالمين، لا شأن له بما أنه رسول من الله، إلا تبليغ رسالات الله، وإن كانوا يظنون أنه كاذبا ، فهو ليس بغاش لهم فيما يريد أن يحملهم عليه ، ولا خائن لما عنده من الحق، وكل ما يريده منهم هو التدين بدين التوحيد الذي يراه حقا ، لأن هذا الدين هو الذي فيه نفعهم وخيرهم ، وقد وصف (عليه السلام ) نفسه بالأمين محاذاة لقولهم ( وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ) (2) .
  لم يقابل هود (عليه السلام ) الشر بمثله ، ولم يفارقه العطف واللطف والحنان واستعمال اللين والإخلاص في أقواله مع قومه ، لقد رموه بالسفاهة ، فقال : ليس بي سفاهة ، ورموه بالكذب فقال : أنا لكم ناصح أمين ، إنه منطق النبوة في الوعظ والإرشاد وهود (عليه السلام ) كان واسع الصدر في دولة ترفع شعار ( من أشد منا قوة ؟ ) وكان ذا شعور قوي وزاهدا عابدا عفيفا أبيا غيورا صلب الإيمان في دولة إذا بطشت بطشت بطش الجبارين، وبعد أن نفى عن نفسه ما ألقوه عليه من تهم قال لهم : ( أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (3)، لقد أراد أن يجذبهم من خيمة الأهواء والغطرسة إلى رحاب

-------------------------------
(1) سورة الأعراف ، الآيتان : 67 ـ 68 .
(2) الميزان : 178 / 10 .
(3) سورة الأعراف ، الآية : 69 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 79 _
  الشكر والحمد ، فقال لهم : لا تعجبوا أن بعث الله إليكم رسولا من أنفسكم لينذركم أيام الله ولقاءه ، بل احمدوا الله على ذلك ، واذكروا نعمة الله عليكم في جعلكم من ذرية نوح الذي أهلك الله أهل الأرض بدعوته لما خالفوه وكذبوه ، واشكروا الله الذي جعلكم أطول من أبناء جنسكم ، واذكروا نعم الله ومنته عليكم لعلكم تفلحون (1) ، لقد طالبهم بالشكر في أربعة مواضع :
  (أولا) : أنه سبحانه بعث فيهم رسولا منهم وهذه نعمة تستحق الشكر .
  (ثانيا) : أنه سبحانه جعلهم خلفاء من بعد قوم نوح دون غيرهم من الأمم .
  (ثالثا) : أنه سبحانه زادهم في الخلق بصطة ، وزيادة الخلق تزيد القوة ويترتب على ذلك إقامة المدينة والحضارة .
  (رابعا) : أنه سبحانه أعطاهم من النعم ما لا تحصى ولا تعد وكل نعمة من نعم الله يجب شكرها ، وشكرها أن توضع في موضعها ، فماذا كان رد الجبابرة عندما طالبهم هود (عليه السلام ) بأن يذكروا الله ويشكروه ؟ ( قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) (2) لقد رفضوا الذكر والشكر ، وذلك لرفضهم عبادة الله وحده ، كما حافظوا في ردهم على عبادة ما وجدوا عليه آباءهم ، وفي خاتمة ردهم طالبوا بالعذاب ، وهكذا طالب هود بمطالب تنسجم مع الفطرة، فردوا بردود تنسجم مع العذاب العظيم لقد استكبرت عاد! قالوا لهود عليه السلام: ( أجئتنا لنعبد الله وحده ) لقد وجدوا في التوحيد قيد ، وجدوا فيه افعل ولا تفعل ، أما ما كان يعبد الآباء فلا قيد فيه ، لأن الأصنام لا تأمر ولا تنهى ، وعلى هذا تكون أهواء الجبابرة طليقة في عالم الاغواء والتزيين ، والقوي فيهم يكون سيدا للغابة ، ولا قانون إلا قانونه ، وفي عالم الغابة هذا ، إذا قدمت ماءا صافيا لإنسان ، برزت أنيابه كذئب يعوي !
  وإذا حملت طعاما نقيا للجائعين ، لا ينظرون إليه ... بل إليك ! ويقتفون أثرك

-------------------------------
(1) ابن كثير : 224 / 2 .
(2) سورة الأعراف، الآية: 70 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 80 _
  كاللصوص ليسرقوك ، أو كقطاع طرق ليقتلوك وفي عالم الغابة إذا قدمت فكرة !
  كلمة ! ليتأملها عقل ، فستدفع ثمن إنسانيتك غاليا ، لأن الفكرة رحمة ، والذئاب تعتبر الرحمة شذوذا ، لقد رفض الجبابرة أن يعبدوا الله وحده ، وأرادوا أصنام الآباء وما كان يراه الآباء، فالجماجم تحت التراب تراث ، ورفض التراث في قانونهم جريمة ، والجماجم تحت التراب على هداها يسير الأحياء والشيطان لهم دليل ، إنه عالم الصم البكم العمي، رفضوا الشكر في المقدمة ورفعوا ما كان يعبد آباؤهم في الخاتمة ثم قالوا لهود (عليه السلام ) : ( فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) وعندما قالوا ذلك سمعوا الرد الأخير على أقوالهم ، الرد الذي ستأتيهم من بعده الخاتمة ليكونوا بعد ذلك أحاديث وعبرة لمن أراد الاعتبار.
  فعندما سألوا هودا (عليه السلام ) أن يأتيهم بالعذاب : ( قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ ) (1).
  أجابهم (عليه السلام ) : بأنه قد وقع عليهم من ربهم رجس وغضب ، لأنهم يحاجونه في هذه الأصنام التي سموها هم وآباؤهم آلهة ، وهي لا تضر ولا تنفع ، ولا جعل الله لهم على عبادتها حجة ولا دليل (2) وبأن إصرارهم على عبادة الأوثان بتقليد آبائهم ، أوجب أن يحق عليهم البعد عن الله بالرجس والغضب ثم هددهم بما يستعجلون من العذاب ، وأخبرهم بنزوله عليهم لا محالة ، وأمرهم بالإنتظار ، وأخبرهم بأنه مثلهم في انتظار العذاب (3) ، وعلى هذا انتهى الجدل، وانتظر الجميع القول الفصل الذي يحمل العذاب الشامل على فريق الجبابرة وأتباعهم ، ويكون رحمة شاملة على طائفة المؤمنين مع هود (عليه السلام ) ، وجبابرة عاد عندما طلبوا العذاب، ظنوا أن في هذا الطلب تعجيز لهود (عليه السلام ) مقابل تعجيزه لهم في الكيد له ، فأمام معجزته التي طرحها عليهم ( فَكِيدُونِي جَمِيعًا ) قالوا له : ( فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) فقولهم : ( إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) يحمل ظنهم في عدم مقدرته

-------------------------------
(1) سورة الأعراف ، الآية : 71 .
(2) ابن كثير : 225 / 2 .
(3) الميزان .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 81 _
  الإتيان بالعذاب ، لأنهم ابتداء يكذبونه في رسالته ، وهود (عليه السلام ) عندما حذرهم من عذاب اليوم العظيم ، كان في الحقيقة يحذرهم من عذاب الاستئصال ، لأن سنة الاستئصال كانت هي الجارية في صدر البشرية، وذلك لأن ظهور المجتمع الشاذ عن سبيل الفطرة في مرحلة تكوين المجتمعات الإنسانية .
  قد يؤدي إلى انتشار الشذوذ والانحراف في المجتمعات الأخرى، لهذا كان بتر العضو المريض الذي لم يتقبل الدواء، رحمة وعبرة وشفاء للإنسانية في كل مكان ، رحمة لأن الداء قد بتر ودفن في مكانه ولم يجتحهم ، وعبرة كي يعيد المنحرف ترتيب أوراقه على أساس صحيح ، وشفاء لقوم مؤمنين وتثبيت وإبلاغ لهم بأن السماء لا يفر من تحتها الظالمون.
  لقد دخلت عاد بأقدامها إلى دائرة الاستئصال، وعندما قالوا لهود (عليه السلام ) : ( فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) (1) لم يزد (عليه السلام ) في رده عن قوله : ( إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ) (2) لقد قصر (عليه السلام ) العلم بنزول العذاب في الله تعالى : ( إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ ) لأن العذاب من الغيب الذي لا يعلم حقيقته إلا الله عز وجل ، أما هود فلا علم له ما هو العذاب ؟ ولا كيف هو ؟ ولا متى هو ؟ ولذلك عقب (عليه السلام ) بقوله : ( وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ ) أي أن الذي حملته وأرسلت به إليكم هو الذي أبلغته إليكم ، ولا علم لي بالعذاب الذي أمرت بإنذاركم به ما هو ؟
  وكيف هو ؟ ومتى هو ؟ ولا قدرة لي عليه ، وإني أراكم قوما تجهلون ، فلا تميزون ما ينفعكم مما يضركم وخيركم من شركم ، حين تردون دعوة الله وتكذبون بآياته وتستهزؤون بما يوعدكم به من العذاب (3) ، لقد ظنت عاد أن طلبها للعذاب تعجيز لهود (عليه السلام ) ، في الوقت الذي كانوا فيه يسيرون بأقدامهم على طريق العذاب الذي يصل بهم إلى اليوم العظيم ، لقد كانت أقدامهم تدب على أرض جدباء أخذ أهلها حذرهم من الطوفان فأذلهم العطش.

-------------------------------
(1) سورة الأحقاف ، الآية : 22 .
(2) سورة الأحقاف ، الآية : 23 .
(3) الميزان : 211 / 18 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 82 _
   * ـ وجاءت الرياح :
  جلس قضاة الطاغوت في ديار الجبابرة ومن حولهم جنود عاد الذين شربوا من إناء الأخلاق الحديدية في ثقافة ( من أشد منا قوة ؟ ) جلسوا تحت السماء التي تمسك عنهم المطر، ومن حولهم نخالة الحبوب الناشفة، وأوراق الأشجار الميتة ، لم يرفعوا أكفهم إلى السماء حتى يرفع الله عنهم العقاب، وإنما انطلقوا في يوم عيدهم إلى أكبر أصنامهم وتجمعوا حوله يسألونه الماء أساس حضارة عاد ، ففي هذا العيد وكان يوافق دائما يوم الأربعاء ، خرج الجبابرة وخدامهم من الفقهاء والجنود ومن حولهم الغوغاء والرعاع أصحاب العيون التي انطفأ منها كل بريق يحمل معنى من معاني الرحمة، وأمام الصنم الأكبر وقفوا يبتهلون ويتضرعون بالآباء تحت لهيب الشمس المحرقة، ولم تكن هناك رياح تسري في الحدائق سريانها البديع، ولم يكن للنسيم الرقيق وجود بينهم يوم زحامهم على أصنامهم، كان الحر شديدا وقطرة الماء أمل للإنسان وللحضارة العريضة التي تتربع عليها عاد ، وبينما هم ينظرون في الأفق شاهدوا سحابا ثقيلا يستقبل أوديتهم، يقول تعالى : ( فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا ) (1) لقد حكموا على العارض بما يعلمون ، ولكن الحقيقة لا يعلمها إلا الله فما كل سحاب يأتي بالماء ، وما كل رياح تحمل الخير، فعاد وفقا لحضارتها وعقيدتها وثقافتها تحكم على الأشياء بما جرت به العادة، فالأب الأول في قافلة الانحراف ترك صنما ، وهذا الصنم عبدته القافلة كلها ، فإذا جاءت عاد ووجدته يكون الخروج عن العادة والتقاليد شذوذا ، وأمام العادة والتقاليد فليسقط السمع والبصر والفؤاد ، ووفقا لهذا المقياس شاهدوا العارض فقالوا بأنه ممطر ، لأن علمهم وقف عند الحد الذي يقول بأن السحاب لا يحمل إلا الماء ، أما الذين يؤمنون بالله فيعلمون أن العناصر كلها خاضعة لخالقها ، وقد تحمل هذه العناصر النعم لقوم بينما تحمل النقم لقوم آخرين ، وقد تمطر السماء هنا ماء بينما تمطر في مكان آخر حجارة من سجيل منضود ، لهذا كان الإيمان بالله هو روح النظر إلى الأشياء عند الذين آمنوا ، وكانت تقوى الله هي المقياس الذي تتحطم عليه العادات والتقاليد ، وكان الخوف من مكر الله يجعلهم في ارتعاد دائم ، لأنهم بشر

-------------------------------
(1) سورة الأحقاف، الآية : 24 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 83 _
  يعيشون على الأرض، والأرض يجري عليها الاختبار ويجري عليها الاستدراج والاستئصال ، ويأتي العذاب للظالمين من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون .
  وعندما شاهدت عاد العارض وهي تحت مظلة عقيدة الأصنام وثقافة الاستكبار ( قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا ) لكن الحقيقة كانت على خلاف ذلك يقول تعالى : ( بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ) (1) فبين سبحانه أولا أنه العذاب الذي استعجلوه حين قالوا لهود : ( فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) وزاد سبحانه في البيان ثانيا بقوله : ( رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) تهلك كل ما مرت عليه من إنسان ودواب وأموال ، وفي موضع آخر يقول سبحانه : ( أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ) (2) والريح العقيم هي المفسدة التي لا تنتج شيئا (3) والتي عقمت أن تأتي بفائدة مطلوبة من فوائد الرياح، كتنشئة سحاب أو تلقيح أشجار أو نفع حيوان أو تطيب هواء (4) وفي موضع آخر يقول تعالى : ( إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ * تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ ) (5) وفسر الصرصر بالريح الشديدة السموم، والشديدة البرودة، والشديدة الصوت، والشديدة الهبوب (6) ، وقوله تعالى : ( فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ ) المراد باليوم هنا قطعة من الزمن، لا اليوم الذي يساوي سبع الأسبوع ، لقوله تعالى في موضع آخر :( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ ) (7) وقوله تعالى :
  ( سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا ) (8) ، فتبارك الذي يضرب في كل زمان وكل مكان ويرحم في كل زمان ، وكل مكان .

-------------------------------
(1) سورة الأحقاف، الآيتان : 24 ـ 25 .
(2) سورة الذاريات، الآيتان : 41 ـ 42 .
(3) ابن كثير : 236 / 4 ، البغوي : 71 / 8 .
(4) الميزان .
(5) سورة القمر ، الآيتان : 19 ـ 20 .
(6) ابن كثير : 364 / 4 ، الميزان / ، البغوي : 134 / 8 .
(7) سورة فصلت ، الآية : 16 .
(8) سورة الحاقة ، الآية : 7 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 84 _
  لقد جاءت الريح لتضرب المرتفعات والأعمدة وتضرب المنخفضات والحصون ، جاءت الريح العقيم التي عقمت أن تأتي بفائدة مطلوبة في عالم حضارة عاد ، جاءت لتدمر كل شئ ( بأمر ربها ) فضاع الجبابرة وخدام الجبابرة أصحاب البطش والأخلاق الحديدية، روي أن الريح كانت تأتي أحدهم فترفعه حتى تغيبه عن الأبصار، ثم تنكسه على أم رأسه ، فيسقط على الأرض فتثلغ رأسه ، فيبقى جثة بلا رأس (1) ولهذا قال تعالى : ( كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ) (2) وعلى امتداد أيام العذاب كان الجبابرة والمستكبرين يهرولون في كل مكان هربا من قسوة الرياح حتى إنهم كانوا يتحصنون الجبال والكهوف والمغارات ، وحفروا لهم في الأرض إلى أنصافهم فلم يغن عنهم ذلك من الله شيئا (3) لقد أقاموا الأعمدة إلى أعلى وفقا لحسابات الطوفان، وأسرفوا في هذا العبث إسرافا كبيرا ، وعندما جاءتهم الريح جعلوا من أنفسهم أعمدة في بطن الأرض، ولكن هيهات هيهات !
  لقد طحنت الريح قصورهم وحصونهم ومدائنهم ، عصفت عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما ( فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ) وكانت ترفع الرجال والنساء إلى الجو ثم ترمي بهم فيقعون على رؤوسهم منكسين .
  وكانت الريح تقلع الرجال والنساء من تحت أرجلهم ثم ترفعهم إلى السماء ثم تحطمهم حطما ، كانت الريح تمر بأهل البادية فحملهم هم ومواشيهم وأموالهم حتى يكونوا بين السماء والأرض وتلقى بأهل البادية ومواشيهم على أهل الحاضرة (4) لقد قهرت الريح الذين فشوا في الأرض وقهروا أهلها تحت شعار ( من أشد منا قوة ؟ ) أما هود (عليه السلام ) وأتباعه فروي أنه (عليه السلام ) اعتزل ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبه ومن معه إلا ما تلين عليه الجلود وتلذ الأنفس (5) ( وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ

-------------------------------
(1) البغوي : 135 / 8 ، ابن كثير : 265 / 4 .
(2) سورة القمر ، الآيات: 20 ـ 22 .
(3) ابن كثير : 342 / 3 ، البغوي: 231 / 6 .
(4) ابن كثير : 412 / 4 .
(5) ابن كثير : 226 / 2 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 85 _
  عَذَابٍ غَلِيظٍ )(1) ( فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ ) (2) .
  لقد جاءتهم الريح في يوم نحس كانوا يحتفلون فيه بمجد آبائهم الأوائل.
  ففي اليوم النحس جاءتهم الريح لتكون عليهم في أيام نحسات ذات غبار وتراب لا يرى فيها أحد أحدا، جاءتهم مسخرة من الله عليهم ، تضربهم مرة بعد مرة كي يستوعب الجميع الهلاك وذكر المسعودي : أن الريح أتتهم يوم الأربعاء، فما جاءت الأربعاء الثانية وفيهم أحد حي (3) ، وذهبت عاد وأصبحوا عبرة لمن أراد الاعتبار، وبقيت الريح ، نعم بقيت ، فهي على كل مكان من الأرض، وهي في جوف كل إنسان وهي في مخازن الله، وكما ذكرنا أن للمؤمن مقاييس ينظر بها إلى الأحداث من حوله وما يمكن أن يترتب عليها ، فليس كل ريح تأتي بخير وليس كل سحاب يأتي بماء. ولقد روي أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان إذا رأى غيما أو ريحا عرف ذلك في وجهه ، فلما سئل : يا رسول الله إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وإذا رأيته أنت عرفنا في وجهك الكراهية، قال عليه وآله الصلاة والسلام ( ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب ، قد عذب قوم بالريح وقد رأى قوم العذاب وقالوا هذا عارض ممطرنا )(4) وذهبت عاد ، وقطع دابر الذين كفروا ، فلا ترى لهم باقية ، ليسر في عصرنا أحد ينتسب إلى عاد بدمائه لأن دابرهم قد قطع ، ولكن في عصرنا من هواه على هوى عاد ، في عصرنا يوجد من يقول : ( من أشد منا قوة ؟ ) وفي عصرنا أعلام ورايات تمارس سياسات التجويع والتخويف ، وفي عصرنا فتحت للغطرسة معاهد ، وراجت الأخلاق الحديدية التي لا تقيم للفضيلة وزنا ، بل ذبحتها تحت المقاصل تحت شعار روح العصر الحديث، وفي عالم الأخلاق الحديدية، زخرف الشيطان كل شئ بما يستقيم مع روح العصر، وفي عالم الزخرف اعتنق الناس فضائل الأهواء وكل فضيلة من حديد ، كل فضيلة ظاهرها الرحمة وباطنها يقبع فيه

-------------------------------
(1) سورة هود ، الآية : 58 .
(2) سورة الأعراف ، الآية : 72 .
(3) مروج الذهب : 159 / 2 .
(4) ابن كثير : 161 / 4 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 86 _
  عمود من أعمدة عاد ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ) (1) .
  وذهبت عاد ، ولما كانت عاد في صدر القافلة البشرية من بعد قوم نوح ، وأمة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في خاتمة القافلة الإنسانية فإن الله تعالى ربط بين البلاء والختام في مواضع من القرآن الكريم ، وبين سبحانه أن عادا كانوا من التمكن على درجة عالية لم تكن لكفار مكة ، وكان لهم من أدوات الادراك والتمييز ما يستطيع به الإنسان الاحتيال لدفع المكاره والاتقاء من الحوادث المهلكة المبيدة، لكن كل هذا لم يغن عنهم ، ولم تنفعهم هذه المشاعر والأفئدة شيئا عندما جحدوا آيات الله، فما الذي يؤمن كفار خاتمة القافلة من عذاب الله وهم جاحدون لآيات الله يقول تعالى بعد أن أخبر عن هلاك عاد ( وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون * وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) (2) وفي الربط بين البدء والختام أيضا يقول تعالى لرسوله الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ) (3) إنها تذكرة إنذارية، ليكون البدء هناك عبرة للخاتمة هنا ( وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ) (4) .

   * ـ مشهد وحركة :
  لقد جحدت عاد بآيات الله من الحكمة والموعظة والمعجزة التي أظهرت لهم طريق الرشد وميزت لهم الحق من الباطل ، جحدوا بها بعد ما جاءهم من العلم ، وعصوا رسول ربهم هودا عليه السلام، ومن قبله من الرسل، لأن عصيان الواحد منهم هو عصيان للجميع ، فكلهم يدعون إلى دين واحد ، وعلى ذلك فهم عندما يعصون هودا يكونون قد عصوا بعصيانه سائر رسل الله، وسلسلة الأنبياء

-------------------------------
(1) سورة إبراهيم ، الآية : 42 .
(2) سورة الأحقاف، الآيتان : 26 ـ 27 .
(3) سورة فصلت ، الآية : 13 .
(4) سورة هود ، الآيتان : 59 ـ 60 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 87 _
  تنتهي بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فمن سمع به ولم يؤمن بما أنزل معه يكون بعصيانه محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم ) قد عصى سائر رسل الله، والذين عصوا هودا (عليه السلام ) إلى أين ذهبوا ؟ لقد ذهبوا إلى كل جبار يقهر الناس بإرادته ويكرههم على ما أراد واتبعوه ، ولم يتبعوا كل جبار فقط ولكنهم اختاروا من بين الجبابرة كل جبار عنيد ، والجبار العنيد علاوة على أنه يقهر الناس إلا أنه فوق هذا كثير العناد فلا يقبل الحق، ( وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ) وهذا الاختيار الذي رفضوا فيه هودا (عليه السلام ) واتبعوا فيه كل جبار عنيد ألقى بهم في دائرة اللعن في الدنيا ويوم القيامة حيث العذاب الخالد، يوم يقف التابع والمتبوع من الذين استكبروا وهم ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ( وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ ) (1) في الدنيا كان الجبابرة وخدامهم يضعون الذين آمنوا في مربع المجرمين ، أما في الآخرة فسيقولها الجبابرة لحملة أقلامهم وسياطهم وغوغائهم ، يا لعدل الله... تأمل قول الخدام لأئمة الكفر : ( لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ) يتهمونهم بإجبارهم على الكفر ، وأنهم حالوا بينهم وبين الإيمان.
  بالرغيف والشهوة والجاه والمال ، بالتخويف والتجويع والترغيب والترهيب ، ثم تأمل رد أئمة الكفر في عاد وكل عاد مهما اختلفت الأسماء والأعلام ، تأمل ردهم على الخدام الخلان ( أنحن صددناكم ؟ ) أنحن صرفناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم ؟ ! إن بلوغه إليكم بواسطة الرسول أقوى دليل على أننا لم نحل بينه وبينكم لقد سمعتم الدعوة ، وكنتم مختارين بين الإيمان وبين الكفر ، لكنكم كنتم متلبسين بالإجرام مستمرين عليه ، فأجرمتم بالكفر بالإيمان لما جاءكم من غير أن يخبركم عليه ، فكفركم منكم ونحن برءاء منه (2) إنه العتاب الذي لا يجدي .
  ويؤدي في النهاية إلى ضعف من العذاب لكل من الأئمة والخدام ، إن عادا بداية وعبرة للمجرمين ( وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا

-------------------------------
(1) سورة سبأ ، الآيتان : 31 ـ 32 .
(2) الميزان .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 88 _
  وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ) (1) أنظر إلى المشهد والحركة في النص القرآني ( نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ ) لقط أحاط بهم الخزي والذل فنكسوا رؤوسهم واعترفوا بما كانوا ينكرونه في الدنيا ، وسألوا ربهم العودة إلى الدنيا عندما تبين لهم أن النجاة في الإيمان والعمل الصالح، لقد سألوا العودة ولن يعودوا .
  لقد اتبع الجبابرة الصغار الجبابرة الكبار في الحياة الدنيا، التف الصغار حول كل جبار عنيد واتخذوه قدوة من يوم نوح (عليه السلام ) وحتى يوم محمد صلى الله عليه وسلم وحتى يرث الله الأرض ومن عليها ، ليصدوا عن سبيل الله، ولكن مدارس الصد على امتداد الزمان هي التي تسقط وهي التي تحترق ، إن سقوط الباطل في كل زمان يعني انتصار الحق في كل زمان والباطل باطل وإن رفع شعار ( من أشد منا قوة ؟ ) وكان معه أكثر الناس ، والحق حق وإن قل أتباعه والحق حق وإن وقف في حظيرة على الأرض، والباطل باطل وإن رفع أبنيته على الأعمدة ألم تر أن عادا استأصلهم الله وأن هود أنجاه الله برحمة منه ، ألم تر أننا نقص هنا أخبار المجرمين ليرى الحاضر سقوط الباطل المهين في الدنيا والآخرة .

-------------------------------
(1) سورة السجدة ، الآية : 12 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 89 _
  انحراف ثمود قوم صالح (عليه السلام)
  ( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ) سورة فصلت ، الآية : 17

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 91 _
   * ـ ثمود ! قبور في الصخور
أعلام الجحود

  مقدمة :
  بعد هلاك عاد بنحو مائة عام ، ظهرت حضارة ومدينة أخرى تقودها ثمود .
  وثمود من العرب العاربة، جاءت قافلتهم من حول جبل الجودي الذي استقرت عليه سفينة نوح عليه السلام، شأنها كشأن العديد مق القوافل التي تركت المنطقة الأولى وانتشرت في الأرض، وكان على رأس قافلة ثمود : ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح ، وانتهى مسيرها إلى موقع بين الشام والحجاز ، وكانت أهم حاضرة لهم مدينة الحجر ... وذكر المسعودي : أن حجر ثمود في الجنوب الشرقي من أرض مدين وهي مصاقبة لخليج العقبة ... وما زالت آثار ثمود باقية إلى يومنا هذا والمكان الذي فيه ديارهم يعرف اليوم ب (فج الناقة) ، والنبي الذي بعثه الله تعالى إلى ثمود ، هو صالح عليه السلام ، وكان بينه وبين هود (عليه السلام ) ـ كما ذكر المسعودي ـ نحو مائة عام (1) ، وصالح (عليه السلام ) ثالث الأنبياء المذكورين في القرآن الكريم بالقيام بأمر الله والنهضة للتوحيد ضد الوثنية ، ويذكره الله تعالى بعد نوح وهود عليهما السلام، ولقد أثنى الله عليه بما أثنى به على أنبيائه ورسله ، وذكر صالح (عليه السلام ) في القرآن تسع مرات في سور : الأعراف، هود ، الشعراء، وذكرت ثمود في القرآن في أحد عشرة سورة :

-------------------------------
(1) مروج الذهب : 47 / 2 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 92 _
  الأعراف، هود ، الحجر ، الشعراء ، النمل ، فصلت ، الذاريات، النجم، القمر، الحاقة، الشمس .

  1 ـ في خيام الانحراف :
  قال تعالى : ( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ) (1) ويقول عز وجل : ( وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ) (2) لقد كانت البداية هدى ، وهذا الهدى غزته ثقافة الجودي ، ثقافة ما بعد الطوفان التي قامت على أعمدة التوحيد، وعندما انطلقوا لإقامة مجتمعاتهم الجديدة، كانت الفطرة في أعماقهم تدلهم على طريق الصواب، وبالجملة ، عرفهم الله الحق وما يؤدي إليه والباطل وماذا يترتب عليه، فمن هنا كانت دائرة الاستبصار، ولكن دائرة الاستبصار هذه انطفأت في صدور الذين كفروا ، وذلك بعد أن زين لهم الشيطان أعمالهم واتبعوا أهواءهم ، وعلى هذا كانت دائرة العمى، وعندما جاءهم رسول من ربهم كي يعيدهم إلى دائرة الاستبصار ، صدوا عن سبيل الله، وإلى هنا شق القوم طريقهم في اتجاه الاستئصال والله غني عن العالمين ، وطريق ثمود نحو الاستئصال هو نفسه طريق عادن ، بكل شعاراته وأعلامه ، لقد رفضت ثمود ما رفضته عاد ، فمن خيمة الشذوذ والانحراف رفضوا الرسول البشر ... يقول تعالى : ( إِذْ جَاءتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ) (3) وفي احتجاجهم على نبيهم صالح (عليه السلام ) قالوا له : ( مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا ) (4)، لقد أمسكوا بذيل الآباء في رفض البشر الذين يدعونهم إلى عبادة الله وحده ، رغم أنهم يحملون المعجزات التي تؤيد دعواهم ، وذلك لأنهم يشاركونهم في البشرية ، هذا في الظاهر ، أما الحقيقة فلأنهم يروا أنفسهم أفضل من الأنبياء ، من حيث أنهم يمتلكون الأموال والأولاد والأنعام وزينة الحياة الدنيا ، ولديهم العتاد والجموع وهذا ما لم يتوفر للأنبياء ،

-------------------------------
(1) سورة فصلت ، الآية : 17 .
(2) سورة العنكبوت ، الآية : 38 .
(3) سورة فصلت ، الآية : 14 .
(4) سورة الشعراء ، الآية : 159 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 93 _
  لقد كانوا يرون أنفسهم أفضل بني آدم، فأمسكوا بذيل الشيطان الذي قاس أفضليته على آدم بأن الله خلقه من نار بينما خلق آدم من طين ، إن فقه الغباء لم يفطن في البداية أن الله هو الخالق ولم يفطن في النهاية إلى أن الله هو الرزاق وأن له في خلقه شؤون وما خلق سبحانه شيئا إلا بهدف ومن وراء هذا الهدف حكمة .
  وإذا كانت ثمود قد أمسكت بذيل عاد في رفض البشر الرسول، فإنهم سقطوا معهم في قاع اتباع الهوى وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فأورثهم الصد عن الحق، وأما طول الأمل فأورثهم نسيان الآخرة، ومع ثقافة الصد والنسيان لم تتدبر ثمود فهلك عاد وقوم نوح من قبل ، فأقاموا بيوتهم في بطون الصخر وجعلوا لها أبوابا ضيقة يتحكمون فيها عند هبوب الرياح، حتى لا يهلكوا كما هلكت عاد ، وكانت عاد من قبل قد شيدت لها أبنية على قمم المرتفعات حتى لا يهلكهم الطوفان الذي أهلك قوم نوح من قبل ، وعن ثمود يقول تعالى : ( وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ ) (1) أي يسكنون الكهوف المنحوتة من الحجارة ظنا منهم أن هذا يجعلهم آمنين من الحوادث الأرضية والسماوية ، إنها ثقافة النسيان ، التي انطلقت إلى غابة طول الأمل الشيطانية ، وهناك في كل جرف صخري داخل واديهم السحيق، أقاموا مساكنهم التي ظنوا أنها تدفع عنهم الموت، ولم يكن يدري أهل ثقافة الانحراف ، أن كفران النعمة أورثهم الجوع والخوف ، والجائع لا يشبع من طعام ولا من حياة ، ولأنه يريد مزيد من الحياة، خاف من المستقبل، وفي عالم الخوف يقف الخائف وراء الجدر ، فلا يقاتل إلا من ورائها ولا يكيد إلا من ورائها ، وثمود لم تكتف بالوقوف وراء الجدر بل دخلت فيها ، يقول تعالى :
  ( وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ) (2) أي الذين ينحتون الصخر ويخرقونه ليتخذون منه بيوتا (3)، لقد ظنوا أن ما يصنعوه يؤمن سعادتهم في الدنيا ، ولم يدر أهل كفران النعمة ونسيان العهد، أن بطون الجبال ستكون عذابا لهم في يوم أليم وأن حضارتهم لن تحمل للمستقبل إلا دخانا ، يدل على أن في هذا المكان يوما ما اضطرمت نار الغضب، كي يعتبر بهم من أراد الاعتبار .

-------------------------------
(1) سورة الحجر ، الآية : 82 .
(2) سورة الفجر ، الآية : 9 .
(3) ابن كثير : 508 / 4 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 94 _
  2 ـ الرسول و الدعوة :
  * ـ الرسول :

  بعث صالح (عليه السلام ) وكان يومئذ غلام حدث (1) وروي أنه بعث وهو ابن ست عشرة سنة ، فلبث فيهم حتى بلغ مائة وعشرين سنة (2) وذكر ابن الأثير في الكامل أنه بعث وهو ابن ثلاثين سنة ، ومات وهو ابن ثمان وخمسون سنة (3) ورواية بعثه وهو غلام رواها غير واحد ، وهناك روايات ذكرت أن دعوة صالح (عليه السلام ) كانت عشرين سنة ، وهذه مدة غير كافية لنسيان ثقافة خروج الناقة من الصخرة ، ومن المعروف أن معجزة الناقة أدت إلى إيمان العديد وعلى رأسهم رئيس القوم (4)، أما الرواية التي نصت على أن صالحا (عليه السلام ) بعث وهو غلام أو ابن ست عشرة سنة وأنه لبث فيهم حتى بلغ مائة وعشرين سنة ، فهي تستقيم مع الأحداث لأن المدة كافية لظهور أجيال ترى في الناقة عادة مألوفة ، ولا تراها كمعجزة كما رآها الجيل السابق، ومع هذه الأجيال تدور معارك العقيدة، بين معسكر الحق ومعسكر الشذوذ الذي يسهر عليه آباء الانحراف الذين لم يؤمنوا برسالة صالح وتمسكوا بذيول الآباء ، فالناقة كانت في الحقيقة حجة على جيلين ، جيل طلب الآية، وجيل لم يطلب الآية ولكنه رآها وهو يشب بين القوم.
  الجيل الأول آمن منه من آمن وعاش في ثقافة المعجزة، أما الجيل الثاني فجاء يسمع ثقافة المعجزة وثقافة الصد عن السبيل، وهو مخير بين هذا وذاك ، إما أن يكون مع الناجين ، وإما أن يكون امتدادا لأجيال لن تلد إلا فاجرا كفارا وحينئذ يكون عذاب الاستئصال، بعث صالح (عليه السلام ) وهو غلام ، وبعث الله تعالى صالحا في هذا السن معجزة في حد ذاتها ، ليرى فيه القوم رجاحة العقل في زمن عز فيه أن يرى عاقل تنجبه ثقافة الجوع والخوف والصخور ، وصالح (عليه السلام ) كان من بيت شرف

-------------------------------
(1) مروج الذهب / المسعودي : 47 / 2 .
(2) الأنبياء / العاملي : 104 .
(3) الفتح الرباني : 46 / 20 .
(4) مروج الذهب : 47 / 2 ، ابن كثير : 228 / 2 ، تفسير الميزان : 315 / 10 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 95 _
  ومشهود له بالأمانة ، وعندما تتوج الأمانة والشرف إنسانا صادقا في عالم يتخذ من خناجره معاول لتمزيق أحشاء الصخور بحثا عن الأمن، يكون هذا الإنسان في حد ذاته دعوة للسمع وللبصر ، فلعل السمع منه يدل القوم إلى الأمن الذي يقود إلى السعادة الحقيقية، لأنهم عندما يسمعون سيسمعون من عاقل ، وعندما ينظرون فسينظرون إلى أمين لا يسألهم أجرا، لقد كان بعثه (عليه السلام ) وهو غلام معجزة لم يتدبرها الأوائل، لأنهم انطلقوا في ليل الانحراف الذي يغشى بأجنحته السوداء دروب الضياء والمعرفة، وكان (عليه السلام ) يراهم وهم يهرولون في اتجاه الصخور ويخبرهم أن الطريق إلى الأمن لا يحتاج إلى هذه المشاق، وأنه يبدأ من توحيد الله وعبادته والسير داخل المجتمع بالعدل والإحسان ، وأن لا يسرفوا ولا يطغوا ولا يعلوا في الأرض، كان يدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة، ولكن القوم تجنبوه في بداية الأمر ، ولم يجبه من قومه إلا نفر يسير من الضعفاء، الذين لا ينظرون إلى الصورة، ولكن يتعمقون في القول وبلاغته ومضمونه وأهدافه ، ولا ينظرون إلى طول الجسم وما عليه ، وإنما ينظرون إلى أعماق الإنسان، حيث الأمانة والعفة والطهر والنقاء والصدق ، كان هذا هو حال الضعفاء الذين اتبعوا صالحا (عليه السلام ) ، أما الجبابرة فتجنبوه لعدم استطاعتهم دفع حججه ، وأوهموا أتباعهم أنهم إنما تركوه لصغر سنه .
  وشب صالح (عليه السلام ) في ثمود ، وكان كل يوم يمر يشعر معه الجبابرة بالخطر الذي يحمله صالح عليه السلام، لقد وجدوه يحمل عقيدة تعمل من أجل الإطاحة بما كان عليه آباؤهم ، وهذه العقيدة تلازمه من يوم أن شاهدوه في أول أمره كنبت أخضر ذي أصل ثابت ، يتسلق فرعه في اتجاه السماء، إلى اليوم الذي أصبح فيه كشجرة تشب مع الأجيال وتحمل لهم الثمار، كان الجبابرة يشعرون بالخطر ، ولأنهم لا يتنفسون إلا من خيمة الانحراف، كان كل يوم يمر لا يزدهم من الإيمان إلا بعدا ، لم يتدبروا يوما في أحوال صالح الذي حمل الرشد والكمال في شخصه وبيته ، ولا يأتي منه إلا الخير، ولا يترقب منه إلا النفع.

  * ـ الدعوة :
  يقول تعالى : ( كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 96 _
  أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ) (1) .
  لقد هدم (عليه السلام ) عقائدهم وثقافاتهم التي تقوم عليها ، فدعاهم لأن يتدبروا وأن يتقوا الله، وأمرهم بطاعته لأن طاعته هي طاعة الله، ثم نفى عن نفسه أي طمع دنيوي ، والدليل أنه لم يسألهم الأجر كما يسألهم كهان الأوثان الأجر عندما يفتونهم، وليس معنى أنه لا يسألهم الأجر أن ما يقوم به لا وزن له ، وإنما له ثواب وأجر عند الله رب العالمين وهو يطمع في هذا الأجر وهذا الثواب، وبعد أن قرع (عليه السلام ) آذانهم بالتوحيد ، رد عقولهم إلى الحقيقة التي تعاموا عنها فقال : (أتتركون في ما ها هنا آمنين ) ؟ أي أنكم لن تتركوا في أرضكم وما أحاط بكم في أرضكم هذه ، وأنتم مطلقوا العنان لا تسألون عما تفعلون وآمنون من أي مؤاخذة إلهية (2) لقد وعظهم وحذرهم نقم الله أن تحل بهم ... وذكرهم بأنعم الله حيث أنبت الله لهم الجنات وفجر لهم من العيون الجاريات وأخرج لهم من الزروع والثمرات (3) لكنهم لم يشكروا النعمة ويضعوها في محلها ، وإنما اتخذوا تلك البيوت المنحوتة في الجبال أشرا وبطرا وعبثا من غير حاجة إلى سكناها ، وأنهم كانوا حانقين متقنين لنحتها ونقشها (4) ولأن ما يفعلوه لا ينفعهم في الدنيا ولا في الآخرة، أمرهم أن يقبلوا على الله بطاعته ، لأن طاعته من طاعة الله، وأن لا يطيعوا أمر المسرفين ... فلا يقلدوهم ولا يتبعوهم في أعمالهم وسلوكهم ، وخطابه (عليه السلام ) كان للعامة التابعين للمسرفين ، وكان للمسرفين الذين يقلدون آباءهم ويطيعون أمرهم ولقد ـ أمر بعدم طاعتهم لأنهم يفسدون في الأرض غير مصلحين ، والإفساد لا ومن معه العذاب الإلهي والله عزيز ذو انتقام.

-------------------------------
(1) سورة الشعراء ، الآيات : 141 ـ 152 .
(2) الميزان .
(3) تفسير البغوي : 232 / 6 .
(4) ابن كثير : 343 / 3 ، البغوي : 233 / 6 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 97 _
  ولقد حذرهم (عليه السلام ) من الامساك بذيل المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون ، لأن الكون يسير بالنظام الجاري فيه إلى غايات صالحة ، والكون ترتبط أجزاءه ارتباطا محكما ، وأي انحراف أو تفريط فإن الميل والانحراف يكون إفسادا للنظام المرسوم ، ويتبعه إفساد غاياته ، الإنسان الذي هو أحد أجزاء الكون غير مستثنى من هذه الكلية الجارية ، فإن جرى على ما تهديه إليه الفطرة فاز بالسعادة المقدرة له ، وإن تعدى حدود فطرته وأفسد في الأرض، أخذه الله بالسنين وأنواع النكال والنقمة لعله يرجع إلى الصلاح والسداد ، وإن أقاموا على ذلك الفساد لرسوخه في نفوسهم ، أخذهم الله بعذاب الاستئصال، وطهر الأرض من قذارة فسادهم (1) فماذا قال الجبابرة والمترفون والمسرفون لصالح (عليه السلام ) عندما دعاهم إلى عبادة الله وحذرهم من نقمه ، وعندما بين لهم أن الطريق الصحيح لن يكون في ذيل الذين يفسدون في الأرض ؟ يقول تعالى : ( قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) (2) لقد واجهوا النصح بحشد من الاتهامات فاتهموه ـ بأنه ممن سحر مرة بعد مرة حتى غلب السحر على عقله (3) وضعوا على كل مرحلة من مراحل حياته علامة تقول إنه مسحور ، صادروا الحكمة والبلاغة والمضمون ودقوا وتد السحر، وعندما خاطبهم جمعوا له كل العلامات التي وضعوها على امتداد حياته وقالوا : ( إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ) ولم ينس طابور الانحراف أن يلقي بأثقال الآباء التي ألقي بها من قبل أمام نوح وهود عليهما السلام فقالوا لصالح (عليه السلام ) : ( مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا ) ثم اقترحوا عليه أن يأتيهم بآية تثبت صدقه في دعواه فقالوا : ( فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) .
  لقد دعاهم (عليه السلام ) لكي يدخلوا في رحاب الأمن الحق الذي يربط أجزاء الكون بالعدل ، ولكن العدل عند خيمة الانحراف ، أن تتركهم وما يفعلون ، وأن تتركهم وما يقولون ، وأن لا تحول بينهم وبين ما يحبون ! العدالة عندهم أن تتركهم حتى لو أدت أعمالهم إلى احتراق الأخضر واليابس في مشهد واحد .

-------------------------------
(1) الميزان .
(2) سورة الشعراء، الآيتان : 153 ـ 154 .
(3) الميزان .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 98 _
  * ـ انحراف جديد :
  كانت ثمود أمة من أمم الانحراف ، والانحراف لا بد وأن يترك تحت رماده بذور يصلح زرعها على أرض معسكر الانحراف ، الذي يستلم الراية فيما بعد .
  وهذه البذور تظل تحت الأرض لفترة حتى يأتي من يتعهدها حتى تكبر وتصبح شجرة من الدنس في نهاية الطريق، وإذا كانت ثمود قد تعهدت شجرة ( مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا ) التي قام كفار قوم نوح بتسليمها لكفار قوم هود ، فإن ثمود كان لها السبق في إضافة معنى آخر يقبل بشرية الرسول بشروط ، ولقد اتسعت هذه الشروط فيما بعد وكان في اتساعها كارثة .
  فعندما حاصر صالح (عليه السلام ) ثمود بحججه الدامغة، ولم تجد ثمود فيه إلا كل الخصال الحميدة، هرول إليه الضعاف واعتنقوا دعوته ، وأمام هذا المد ـ وإن كان ضعيفا ـ اهتز الذين يحرصون على الحياة ، وأصبحت أوراق فقه التحقير والانتقاص من البشر الذين يحملون رسالات الله لا تجدي ، بعد أن أحرزت الدعوة تقدما لها في ديار الضعاف ، لهذا قام كفار ثمود لتطوير فقه التحقير والانتقاص بما يسحب البساط من تحت أقدام النبوة فقالوا كما أخبر سبحانه :
  ( أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ * أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِر ) (1) لقد نصبوا شباك الصد عن سبيل الله، شباك صنعت من خيوط الحسد، وقالوا : ( لقد خبنا وخسرنا إن سلمنا قيادتنا لواحد منا ) (2) فلو كان الوحي حقا ، وجاز أن ينزل على البشر لنزل على البشر جميعا (3) باختصار بثت أبواق ثمود ثقافة جديدة تقول للعامة والخاصة أن إثبات الرسالة لصالح وحده فيه انتقاص لكم ، لأنكم تماثلونه في البشرية، فإذا جاز أن يدعي الرسالة ، فمن حقكم أن تدعوا الانتفاخ بالروح القدس ، وهذا البيان لن يصب في النهاية إلا في سلة الجبابرة ، لأن الضعاف لن يجرؤ واحد منهم أن يدعي الانتفاخ أو يدعي الرسالة ، لأنه لا يملك أن يقدم البينة عليها ، فالبيان بالنسبة للضعفاء تحصين لهم في مواجهة صالح عليه السلام ، أما بالنسبة للجبابرة ، فإنهم إذا ادعوا الرسالة

-------------------------------
(1) سورة القم ، الآيتان : 24 ـ 25 .
(2) ابن كثير : 264 / 4 ، البغوي : 135 / 8 .
(3) الميزان .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 99 _
  يمكن أن يلوحوا بما لديهم من عدة وما معهم من جموع ، فالعدة والجموع قمم في عالم الانحراف والشذوذ ، وعلى امتداد دعوات الأنبياء والرسل كانت معسكرات الانحراف ترفض الرسل لأنهم لا عدة لهم ولا جموع معهم ، وأمام النبي الخاتم محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، دفعوا بما ورثوه عن ثمود ( وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) (1) لقد بدأوا في صدر البشرية بأهداف خفية حملتها الجماهير ، أما عند الرسالة الخاتمة ظهر ما كان مخبوء ، ظهر أن أهل العناد والعتو والتمرد صعب عليهم أن يكونوا مروا سنين كسائر الناس يعمهم حكم محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذي لا مال له ولا قوة من رجال وسلاح ، كان الجبابرة في عهد الرسالة الخاتمة هم العنوان ، ومن وراء الجبابرة وقفت الجماهير أتباع الناعق في كل زمان ومكان .
  فإذا كانت ثمود قد دقت أوتاد العدة والجموع في أول الزمان، فإن القرآن الكريم مزق هذه العدة وهذه الجموع في معسكر الباطل، في رده على الذين قالوا : ( لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) فقال تعالى :
  ( أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ) (2) .
  قال المفسرون : إن قولهم هذا ينبغي أن يتعجب منه ! فإنهم يحكمون فيما لا يملكون ، فهذه معيشتهم في الحياة الدنيا يعيشون بها ويرزقون ، وهي رحمة منا ، لا قدر لها ولا منزلة عندنا ، وليست إلا متاعا زائلا ، نحن نقسمها بينهم وهي خارجة عن مقدرتهم ومشيئتهم ، فكيف يقسمون النبوة التي هي الرحمة الكبرى.
  وهي مفتاح سعادة البشر الدائمة والفلاح الخالد ، فيعطونها من شاؤوا ويمنعونها عمن شاؤوا ، إن متاع الدنيا من مال وزينة ، لا قدر لها عند الله سبحانه ولا منزلة ، ولولا أن يجتمع الناس على الكفر لو شاهدوا تنعم الكافرين، لجعلنا لمن يكفر

-------------------------------
(1) سورة الزخرف ، الآية : 31 .
(2) سورة الزخرف ، الآيات : 32 ـ 35 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 100 _
  بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ، ودرجات عليها يظهرون بغيرهم ، وكل هذا لا قيمة له في الآخرة التي جعلها الله للمتقين سعادة دائمة وفلاح خالد (1) ، إن معيار الذهب والفضة والسلاح والجموع ، لا يصلح إلا في خيام ومعسكرات الانحراف، فهذه المكاييل إذا كان يمتلكها كافر فلا يحق ولا يجوز له أن يحدد النبوة على أساسها، لأنه يستعمل مكيال لا قدر له ولا منزلة في تحديد مصدر سعادة دائمة وفلاح خالد ، إن الذي تكون مقدمته لا قدر لها ولا منزلة تكون نتائجه أيضا لا قدر لها ولا منزلة ، ولقد دقت ثمود أوتادا لا قدر لها ولا منزلة ، ومن خيمتهم اختنقت الأرض من الظلم ، وبعد أن اتسع الشذوذ ظهر الذين ادعوا الحكم الإلهي ، وظهر الأنبياء الكذبة، والهداة الكذبة، والفقهاء الكذبة، والأمراء الكذبة، ظهروا بعد أن أصبح المال يعسوبا ودليلا في عالم المجاعات والأهواء ومع ثقافة المال وهدايته ، أصبح الحب مقتا ، والنهار ليلا ، والأمل يأسا ، والسلم حربا ، والفرح ألما ، والسعادة شقاء ( أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ ) (2) ولما كانت مقدمة ثمود لا تنام ولا تكل شاء الله لها أن تجثوا تحت أقدام المسيح الدجال الذي يتاجر بالمال والأهواء ، والمسيح الدجال حذر منه جميع رسل الله وأنبيائه وهو خارج آخر الزمان لا محالة (3) ليتلقط أبناء الشذوذ والانحراف الذين أخلصوا لخيام معسكرات الانحراف ابتداء من يوم نوح (عليه السلام ) ومرورا بعاد وثمود وقوم لوط ، وانتهاء بأتباع عجل بني إسرائيل والتثليث والمسجد الضرار، إن الدجال سيلتقط كل من يمثل رقعة من رقعات الشذوذ ليذيقه الله عذاب الذل والخزي في الدنيا ، وفي الآخرة عذاب أليم.

* ـ المعجزة :
  اتهمت ثمود صالح (عليه السلام ) بأنه من المسحرين ! وطالبوه بآية إن كان من الصادقين ، وكان بعثه فيهم وهو غلام آية ولكنهم لم يتدبروها ، ولقد طالبوه بإظهار العلامات كما ذكر المسعودي : ليمنعوه من دعائم ، وليعجزوه عن

-------------------------------
(1) الميزان .
(2) سورة هود ، الآية : 68 .
(3) راجع سلسلة بحوثنا عن المسيح الدجال .