بالاستغفار ، لكنهم عصوه ، وعلى امتداد الدعوة رموا نوحا (عليه السلام ) بالضلال وبالجنون وهددوه بالرجم ، فلم يخرجه ذلك عن حلمه ، ولم يرد عليهم إلا بما تمليه أخلاق النبوة، ونوح (عليه السلام ) لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما .
  وعلى امتداد هذه المدة كان يدعوهم إلى الله، وفي النهاية لم يركب معه في السفينة كما في رواية صحيحة سوى ثمانون رجلا معهم أهلوهم، وفي هذا إشارة إلى أنه (عليه السلام ) قاسى من قومه الكثير، فالذين كان يدعوهم وهم شباب كانوا يقودون حركة الضد عن سبيل الله وهم شيوخ ، وذلك لأن ثقافة التوثين كان يسهر عليها الأقوياء وهذه الثقافة حاصرت بقوتها وزينتها وزخرفها الأهواء المتعددة، فهرول كل صاحب هوى إلى هواه ، مصادرا كل نداء للفطرة ، وكل دعوة تدعوه للنظر والتدبر في الكون.
  ونوح (عليه السلام ) دعا على قومه ولكنه لم يدع عليهم إلا بعد أن تبين أنهم ركبوا طريق الكفر الذي لا عودة فيه ، فعندما تبين هذا ( قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (1) قال المفسرون : هذا استفتاح منه عليه السلام، وقدم له قوله : ( رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ ) أي تحقق منهم التكذيب المطلق، الذي لا مطمع في تصديقهم بعده .
  وقوله : ( فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا ) كأنه وأتباعه والكفار من قومه قد اختلطوا في مكان واحد ، فسأل ربه أن يفتح بينهم بإيجاد فسحة بينه وبين قومه ، يبتعد بذلك أحد القبيلين عن الآخر وذلك كناية عن نزول العذاب ، ولا يهلك إلا الفاسق الفاجر الكفار، وعندما طلب (عليه السلام ) من ربه أن ينصره ويفرق بينه وبين القوم الظالمين ؟ أوحى إليه ربه : ( وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ) (2) وعندما أوحى الله تعالى بهذا إلى نوح .
  دعا (عليه السلام ) على قومه الدعاء القاصم ، قال المفسرون : يستفاد من قوله تعالى : ( أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ ... ) أن عذاب الاستئصال لا يضرب الكفار ما كان الإيمان مرجوا منهم ، فإذا ثبتت فيهم ملكة الكفر ورجس الشرك، حق عليهم كلمة العذاب ، كما يستفاد أن دعاء نوح (عليه السلام ) :

-------------------------------
(1) سورة الشعراء ، الآيتان 17 ـ 18 .
(2) سورة هود ، الآية : 36 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 52 _
  ( رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ) (1) كان واقعا بعد وحي الله له ( أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ ) وذلك لأنه لا سبيل إلى العلم بعدم إيمان الكفار في المستقبل إلا عن طريق الوحي، فهو (عليه السلام ) علم أولا من وحيه تعالى إليه أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن، وأن أحدا منهم لا يؤمن بعد ذلك ولا في نسلهم من سيؤمن بالله ، ثم دعا عليهم بالعذاب ، وذكر في دعائه ما أوحي إليه (2) .
  دعا نوح (عليه السلام ) ربه بعد أن أصبح القوم لا فائدة في بقائهم ، لأنهم أولا يضلون المؤمنين ولأنهم ثانيا لا فائدة فيهم لمن يلدونه من الأولاد، فهم لا يلدون إلا فاجرا كفارا ، والفجور هو الفسق الشديد، والكفار هو الذي يبالغ في الكفر ، واستجاب تعالى دعوته ، وأمره سبحانه بصنع السفينة وأخبره أنهم مغرقون .

  3 ـ أوامر النجاة :
  أوحى الله تعالى إلى نوح (عليه السلام ) : ( وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ ) (3) قال المفسرون والمعنى ، واصنع السفينة تحت مراقبتنا الكاملة وتعليمنا إياك ، ولا تسألني صرف العذاب عن هؤلاء الذين ظلموا ، فإنهم مقضي عليهم الغرق، قضاء حتم لا مرد له (4) ، وأوحى الله تعالى إليه: ( فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ ) (5) قال المفسرون: السياق يشهد على كون فوران التنور بالماء ، أمارة نزول العذاب عليهم ، وفوران الماء من التنور وهو محل النار من عجيب الأمر ، ثم أمره تعالى بأن يدخل في الفلك زوجين اثنين : ذكر وأنثى من كل نوع من الحيوان، وأهله والظاهر أنهم أهل بيته والمؤمنون به ، والمراد بمن سبق عليه القول فمنهم امرأته

-------------------------------
(1) سورة نوح ، الآيتان : 26 ـ 27 .
(2) الميزان : 222 / 10 .
(3) سورة هود ، الآية : 37 .
(4) الميزان : 224 / 10 .
(5) سورة المؤمنون ، الآية : 27 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 53 _
  الكافرة على ما فهم نوح (عليه السلام ) ، وابنه الذي أبى ركوب السفينة وقوله تعالى : ( وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ ) فكأنه قيل : أنهاك عن أصل تكليمي فيهم ، فضلا عن أن تشفع لهم ، فقد شملهم غضبي شمولا لا يدفعه دافع (1) .
  وبعد أن أوحى الله إليه بصنع السفينة وعلامة العذاب وهي فوران التنور ، وبعد أن نهاه عن الشفاعة في الذين ظلموا قال تعالى : ( فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلًا مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ ) (2) قال المفسرون : علمه أن يحمد الله بعد الاستواء على الفلك، على تنجيته تعالى من القوم الظالمين ، وهذا بيان بعد بيان لكونهم هالكين مغرقين حتما ، وأن يسأله أن ينجيه من الطوفان وينزله على الأرض إنزالا مباركا ، ذا خير كثير ثابت ، فإنه خير المنزلين (3).

  4 ـ يوم الغضب :
  وبدأ نوح (عليه السلام ) في صناعة السفينة يقول تعالى : ( وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ )(4) قال المفسرون : لم يقل (عليه السلام ) إن تسخروا مني فإني أسخر منكم ، وفي هذا إشارة إلى أن أهله وأتباعه كانوا يشاركونه في صنع السفينة ، وكانت السخرية تتناولهم جميعا ، وإن كانوا لم يذكروا في هزئهم إلا نوحا فقط ، والطبع والعادة يقضيان أن يكونوا يسخرون من أتباعه أيضا ، كما كانوا يسخرون منه ، فهم أهل مجتمع واحد ، تربط المعاشرة بعضهم ببعض ، وإن كانت سخريتهم سخرية منه في الحقيقة، لأنه هو الأصل الذي تقوم به الدعوة ولذا قيل : ( سَخِرُواْ مِنْهُ ) ولم يقل : ( سخروا منه ومن المؤمنين ) وعندما سخر القوم من نوح وأتباعه قال لهم (عليه السلام ): إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم فنقول لكم : سوف تعلمون من

-------------------------------
(1) الميزان : 30 / 15 .
(2) سورة المؤمنون ، الآيتان : 28 ـ 29 .
(3) ا لميزان : 30 / 15 .
(4) سورة هود ، الآيتان: 38 ـ 39 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 54 _
  يأتيه عذاب يخزيه ؟ نحن أو أنتم ؟ ـ والمراد به عذاب الاستئصال في الدنيا ـ ويحل عليه عذاب مقيم ـ أي ينزل عليه عذاب ثابت لازم لا يفارق ، وهو عذاب النار في الآخرة (1) .
  لقد قذفهم بعذابين الأول موصوف بالخزي والثاني موصوف بالإقامة (2) قذفهم بالعذاب القادم لا محالة بعد أن تتابعوا عليه جماعة بعد جماعة ، يسخرون منه لأنه يصنع الفلك على وجه الأرض من غير ماء ، وكان (عليه السلام ) يصنع الفلك على مرأى منهم وفي ممر عام ، لقد كان الصنع بوحي من الله وكان في الصنع معجزة ، ولكن القوم لم يجدوا في عالمهم وثقافتهم سوى السخرية والتحقير والانتقاص ، وظلوا على هذا الحال ، حتى جاء اليوم الأليم ، وفار التنور ، وبدأ نوح (عليه السلام ) يحمل في السفينة من آمن به ، وما آمن بالله مع نوح إلا قليل ، وحمل (عليه السلام ) معه من كل جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين، وكان القوم يشاهدون حركة نوح والذين آمنوا معه في اتجاه السفينة ، فلا تزيدهم الحركة إلا سخرية ، فلم يكن الذين كفروا يعلمون ماذا يعني بالنسبة لهم فوران التنور، وما إن استقر الذين آمنوا مع نوح (عليه السلام ) على ظهر السفينة.
  حتى لاحت بوادر غضب الله على الذين كفروا ، فالسماء بدأت تزمجر إعلانا ليوم الغضب، وانهمر الماء من كل مكان ، يقول تعالى :
  ( فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ) (3) قال المفسرون : صبت السماء الماء صبا بلا قطر ، صبا متواليا كأنه مدخر وراء باب مسدود ثم فتح هذا الباب، فانصب أشد ما يكون أما الأرض فجعلها عيونا متفجرة عن الماء، تجري جريانا متوافقا متتابعا ، فالتقى ماء السماء مع ماء الأرض على أهداف محددة ، تنفيذا لأمر قدره الله تعالى ، من غير نقص ولا زيادة ولا عجل ولا مهل ، وفي هذا الهول قال نوح (عليه السلام ) :
  ( بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (4) قال المفسرون : قوله

-------------------------------
(1) الميزان : 225 / 10 .
(2) ابن كثير : 445 / 2 .
(3) سورة القمر ، الآيتان : 11 ـ 12 .
(4) سورة هود ، الأية : 41 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 55 _
  هذا تسمية منه (عليه السلام ) ، يجلب به الخير والبركة لجري السفينة وإرسائها ، فإن في تعليق فعل من الأفعال ، أو أمر من الأمور، على اسم الله تعالى وربطه به ، صيانة له من الهلاك والفساد ، واتقاء من الضلال والخسران ، فالله تعالى رفيع الدرجات ومن تعلق به مصون لا محالة من تطرق عارض السوء، وروي أنه كان إذا أراد أن تجري قال : بسم الله ، فجرت ، وإذا أراد أن ترسو قال : بسم الله فرست .
  وعندما كانت السفينة تجري بهم على وجه الماء الذي جرى في كل مكان ، كان الكفار يهرولون إلى كل مرتفع من الأرض طمعا في أن لا يصل الماء إليهم .
  صعدوا فوق سقوف بيوتهم وفوق جذوع النخل وعلى قمم الجبال ، ولكن قممهم لم تغن عنهم من الله شيئا ، فالأمواج طالت مرتفعاتهم ، وصفعت وجوه الظالمين وألقت بهم في أحضان العذاب الأليم ، كانوا يشاهدون السفينة التي صنعت من ألواح ودسر وهي تجري في موج كالجبال وعلى متنها الذين وصفهم الأشراف يوما بالأراذل ، لقد شاهدوا ما كانوا يسخرون منه ، فوجدوا نوحا وأتباعه في رحاب الأمن ، بينما هم في أحضان العذاب الأليم يتجرعون عذاب الخزي وهم في طريقهم إلى العذاب المقيم ، وبينما كانت السفينة تجري على وجه الماء طلت الأحداث الأليمة في اليوم الأليم يقول تعالى : ( وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ) (1) قال المفسرون : قيل إن هذا الابن الرابع لنوح (عليه السلام )(2) وكان هذا الابن قد عزل نفسه عن أبيه والمؤمنين في مكان لا يقرب منهم ، ولذلك قال : ( وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ ) ولم يقل : وقال نوح لابنه ، والمعنى : ونادى نوح ابنه، وكان ابنه في مكان منعزل بعيد منهم ، وقال في ندائه ، يا بني ـ بالتصغير والإضافة دلالة على الاشفاق والرحمة ـ اركب معنا ولا تكن مع الكافرين فتشاركهم في البلاء كما شاركتهم في الصحبة وعدم ركوب السفينة ، ولم يقل عليه السلام: ولا تكن من الكافرين، لأنه لم يكن يعلم نفاقه

-------------------------------
(1) سورة هود ، الآيتان: 42 ـ 43 .
(2) ابن كثير : 246 / 4 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 56 _
  وأنه غير مؤمن إلا باللفظ ولذلك دعاه إلى الركوب : ( قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء ... ) أي سأنضم إلى جبل يعصمني ويقيني من الماء فلا أغرق ( قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ ) أي قال نوح : لا عاصم اليوم ـ وهو يوم اشتد غضب الله وقضى بالغرق لأهل الأرض، إلا من التجأ منهم إلى الله ـ من الله لا جبل ولا غيره ، وبعد أن قال نوح ذلك لابنه ، حال بينهما الموج فكان ابنه من المغرقين ، ولو لم يحل الموج بينهما ولم ينقطع الكلام بذلك ، لعرف كفره وتبرأ منه (1) .
  إن نوحا عليه السلام، لو كان يعلم إبطان ابنه للكفر ما كان يحزنه أمره لأنه القائل : ( فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (2) وهو القائل: ( رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ) (3) لم يكن نوح (عليه السلام ) يعلم حقيقة ابنه، وعندما حال بينهما الموج توجه (عليه السلام ) بوجدانه وشعوره إلى ربه جل وعلا : ( وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) (4) قال المفسرون: رفع صوته بالدعاء .
  كما يدل عليه قوله تعالى : ( وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ ) ولم يقل : سأل أو قال أو دعا ، ورفع الصوت بالاستغاثة من المضطر الذي اشتد به الضر وهاج به الوجد أمر طبيعي ، وفي نداء نوح (عليه السلام ) لم يجترئ أن يسأل نجاة ابنه بالتضرع ، بل أورد القول كالمستفسر عن حقيقة الأمر، وابتدر بذكر ما وعده الله من نجاة أهله حين أمره أن يجمع الناجين معه في السفينة فقال له : ( احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ ) ولذلك قال (عليه السلام ) : ( رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ ) ... فذكر وعد ربه وضم إليه أن ابنه من أهله ... فابنه كان مؤمنا به ظاهرا ولم يكن نوح يعلم ما يضمره ابنه في قلبه ، فقوله : ( إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي ) و ( َإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ ) ينتجان بانضمام بعضهما إلى بعض الحكم بلزوم نجاة ابنه.
  ومعنى الآية : ( رب إن ابني من أهلي ، وإن وعدك حق كل الحق ، وإن

-------------------------------
(1) الميزان : 230 / 10 .
(2) سورة الشعراء، الآية: 118 .
(3) سورة نوح ، الآية : 26 .
(4) سورة هود ، الآية : 45 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 57 _
  ذلك يدل على أن لا تأخذه سبحانك بعذاب القوم بالغرق ، ومع ذلك فالحكم الحق إليك فأنت سبحانك أحكم الحاكمين ، كأنه (عليه السلام ) يستوضح ما هو حقيقة الأمر، ولم يذكر نجاة ابنه ، ولا زاد على هذا ، وبعد استفسار نوح عليه السلام ، قال تعالى : ( قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) (1) قال المفسرون : بين الله سبحانه لنوح (عليه السلام ) وجه الصواب فيما ذكره ، فنوح قال : ( إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ ) فقال تعالى : ( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) فارتفع بذلك أثر حجته ، والمراد بكونه ليس من أهله ـ والله أعلم ـ أنه ليس من أهله الذين وعده الله بنجاتهم ، لأن المراد بالأهل في قوله : ( وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ) الأهل الصالحون وهو ليس بصالح وإن كان ابنه ومن أهله ولذلك علل قوله : ( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) بقوله : ( إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) أي أن ابنك هذا ذو عمل غير صالح فليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم .
  ويؤيد هذا المعنى قراءة من قرأ : ( إنه عمل غير مالح ) بالفعل الماضي، أي عمل عملا غير صالح ، وقوله تعالى : ( فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) أي لكونه عملا غير صالح ، وأنت لا سبيل لك إلى العلم بذلك ، فإياك أن تبادر إلى سؤال نجاته لأنه سؤال ما ليس لك به علم ، وقوله : ( إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) أي أني أنصح لك في القول أن لا تكون بسؤالك هذا من الجاهلين، وبعد أن نادى نوح ربه في يوم الغضب يوم العذاب الأليم ، وبعد أن أخبره ربه بالمخبوء من أمر ابنه قال نوح : ( قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ ) (2) قال المفسرون ، لما تبين لنوح عليه السلام، إنه لو ساقه طبع الخطاب الذي خاطب به ربه إلى السؤال ، كان سائلا ما ليس له به علم وكان من الجاهلين ، وإن عناية الله حالت بينه وبين الهلكة ، شكر ربه فاستعاذ بمغفرته ورحمته .
  كانت هذه المشاهد وهذا النداء وإجابته في وقت كان الموج يضرب فيه بكل عنف ، وروي أن الماء قد أطبق جميع الأرض، وارتفع على رؤوس الجبال

-------------------------------
(1) سورة هود ، الآية 46 .
(2) سورة هود ، الآية: 47.

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 58 _
  بخمسة عشر ذراعا (1) ، وكانت السفينة جارية على وجه الماء ، سائرة بإذن الله وتحت كنفه وعنايته وحراسته ، وروي أن السفينة سارت على وجه الماء بنوح وأتباعه مائة وخمسون يوما (2) وبعد أن غاب وجه الظلم تحت الماء في أعماق الطين ، جاء أمر الله ( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (3) ، ( قيل ) إن النداء نداء العظمة، والقائل هو الله، والأمر تحمله كلمة ( كن ) والأمر يترتب عليه من غير فصل ، أن تبتلع الأرض، ما على وجهها من الماء وأن تكف السماء عن أمطارها .
  وفي قوله تعالى : ( وَغِيضَ الْمَاء ) لم يذكر الأرض، وفي قوله :
  ( وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ) لم يذكر السفينة ، وفي قوله : ( بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) لم يقل بأنهم الظالمين من قوم نوح ، إنها العظمة، ومن أراد أسماء النتائج فعليه بالمقدمات ، وفي المقدمة قوم ظالمون وعدهم الله بالغرق ، وبما أن هناك غرق ونجاة فلا بد من سفينة وماء ، وعلى هذا فلو غيض الماء، فإنما تغيضه الأرض ولو استقر شئ واستوى ، فإنما هي السفينة ، وإذا قيل بعدا للقوم الظالمين ، فإن القائل هو الله، والقوم هم المقضي عليهم بالعذاب ، ولو قيل :
  قضي الأمر، فإنما القاضي هو الله، والأمر هو ما نهى عنه نوح في مخاطبته في الذين ظلموا ، وروي أن السفينة استقرت بهم على الجودي شهر (4) والماء من حولها يذهب شيئا فشيئا بعد أن طهر الأرض من الذين وضعوا بذرة استعباد الإنسان لأخيه الإنسان ودونوا لهذا الاستعباد فقهاء عريضا ذو ثقافة واسعة هدفها تحقير الإنسان وانتقاصه لصالح الأهداف الشيطانية .
  وبعد أن غيض الماء يقول تعالى : ( قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (5) قال

-------------------------------
(1) ابن كثير : 446 / 2 .
(2) البداية والنهاية 116 / 1 .
(3) سورة هود ، الآية : 44 .
(4) البداية والنهاية : 116 / 1 .
(5) سورة هود ، الآية : 48 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 59 _
  المفسرون : معناه والله أعلم ، يا نوح انزل مع سلامة من العذاب ـ الطوفان ـ وبركات وخيرات نازلة منا عليك ، أو انزل بتحية وبركات نازلة منا عليك ، وعلى من معك من المؤمنين ومن سيظهر من نسلهم من الصالحين، وممن معك أمم أو هناك أمم سنمتعهم ثم نعذبهم وهم غير مأذون لهم في التصرف في أمتعة الحياة إذن كرامة وزلفى ... وهذا الخطاب الإلهي تلقاه نوح (عليه السلام ) في وقت لا يوجد فيه متنفس على وجه الأرض من إنسان وحيوان. فقد أغرقوا جميعا ، ولم يبق منهم إلا جماعة المؤمنين بالسفينة ، وهؤلاء هم الذين قضى الله أن ينزلوا إلى الأرض فيعمرها ويعيشوا فيها إلى حين .

  الخاتمة :
  لقد كان الغرق شاملا وهناك أدلة تثبت أن الطوفان كان شاملا وعم الأرض كلها ، ومنها أن الله تعالى أمر نوحا (عليه السلام ) بأن يحمل من كل زوجين اثنين ، فلو كان الطوفان في بقعة معينة ، لم يكن في حاجة إلى أن يحمل في السفينة من كل جنس من أجناس الحيوان زوجين ، ودعوة نوح (عليه السلام ) كانت دعوة عامة ، ولقد قام (عليه السلام ) بالتحرك في المجتمعات البشرية قلت أو كثرت على امتداد دعوته ، وعموم الدعوة يقضي بعموم العذاب ، لهذا قال في دعائه : ( رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ) فالطائفة التي نزلت عند الجودي وهو جبل قيل إنه بديار نكر من الموصل ، وقيل إنه شرقي دجلة على جزيرة ابن عمر ، هذه الطائفة هي البذرة الأولى للمسيرة البشرية بعد الطوفان، وإلى هذه النواة ينتهي نسل البشر اليوم .
  لقد شاء الله أن يجعل اليوم الأليم فاتحة لاستقرار طائفة المؤمنين على الأرض، لترى البشرية على امتداد مسيرها أن أول لبنة في ماضيها من طين وماء ، فأما الطين فباطنه عذاب خزي وعذاب أليم ، وأما الماء فعلى صفحته جرت سفينة ذات ألواح ودسر وعلى ظهرها المتقين ، لقد جعل الله العذاب الأليم بداية ، كي تنظر الأمم في البدايات لتعتبر يقول تعالى : ( فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ ) (1) قال المفسرون : الضمير للواقعة أو النجاة .

-------------------------------
(1) سورة العنكبوت ، الآية : 15 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 60 _
  والعالمين الجماعات الكثيرة المختلفة من الأجيال اللاحقة بهم ، فالله جعل الواقعة أو النجاة آية ليتدبر فيها جميع الأجيال قال تعالى : ( ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ ) ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ) (1) وقال ( وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ) (2) إن اليوم الأليم الذي ضرب انتفاخ الاستكبار أول الزمان دعوة لكي يكون الإنسان كريما ، وهو لن يكون كريما إلا إذا أصبح حرا ، والعبودية لله هي الحرية الحقيقية.
  وقافلة المؤمنين على السفينة الذين كان الانتفاخ الإستكباري يحتقرهم يوما ما ، دعوة لكل إنسان على الصراط المستقيم ، كي يمسك المؤمن عصيدته الحقة بأسنان الصبر ، وأن يقبض على دينه وإن كان كالجمر ، وأن يجعل قلبه بيتا للإيمان بالله ، وأن يكون على يقين بأن العاقبة للمتقين حتى لو طال الليل ألف سنة إلا خمسين عاما ، أو أكثر من ذلك .
  وبعد أن قص الله تعالى قصة نوح (عليه السلام ) في القرآن الكريم ، توجه سبحانه بالخطاب إلى نبيه الخاتم محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقال : ( تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ) (3) قال المفسرون : أي إذا علمت ما آل إليه أمر نوح وقومه .
  من هلاك قومه ونجاة من معه ، وأن الله تعالى قد أورثهم الأرض على ما صبروا ، ونصر نوحا على أعدائه على ما صبر ، فاصبر على الحق ، فإن العاقبة للمتقين ، وبعد الطوفان اتسعت القافلة البشرية حول الجودي، ثم تفرقت بعد ذلك هنا وهناك ، وعندما طال الأمد نشأت أجيال اجتالتهم الشياطين بعد أن ساروا بلا رصيد إيماني في دروب الحياة متبعين أهواءهم ، وهذه الأجيال هي الأجيال التي أخبر الله تعالى بها نوحا بأنه سيمتعهم ثم يعذبهم ، ولقد هرولوا في طريق الانحراف والشذوذ ، وعلى امتداد الطريق زودهم الشيطان بالفقه المعدل لأطروحة رفض الرسول البشر كي ينسجم الفقه مع كل عصر ، كما زودهم بأكثر من فقه ينتقصون ويحتقرون به بعضهم بعضا ، وعلى امتداد رحلة التحقير خسر حزب الشيطان في كل العصور، وكانت العاقبة للمتقين في كل العصور.

-------------------------------
(1) سورة الشعراء، الآيتان 120 ـ 121 .
(2) سورة القمر، الآيتان : 15 ـ 16 .
(3) سورة هود ، الآية : 49 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 61 _
  انحرافات عاد قوم هود (عليه السلام)
  ( فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ) سورة فصلت ، الآية : 15

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 63 _
  * ـ عاد ! والأعمدة العالية
إنحراف القوة

  مقدمة :
  بعد الطوفان ... استقرت القافلة البشرية عند الجودي وما حوله ، وقام نوح (عليه السلام ) ومن معه بإقامة مدينة ثمانين ، نسبة إلى عدد الناجين من قوم نوح (1) وكان نوح (عليه السلام ) يبين للناس ما اختلفوا فيه ويبشر بينهم بنبي يأتي من بعده اسمه هود .
  وروي أن نوحا (عليه السلام ) قال لأتباعه : إن الله سيبعث هودا وإنه سيدعو قومه وإن قومه سيكذبونه وعندئذ سيهلكهم الله تعالى بالريح ، وأوصى نوح (عليه السلام )بأن على من يدرك هودا أن يؤمن به ، كما أمر ابنه سام بأن يتعاهد هذه الوصية وأن يعلنها على الملأ عند رأس كل سنة وأن يكون يوم الاعلان هذا عيدا للقوم يتذكرون فيه بعث هود ، وظل سام بن نوح يعمل بوصية والده (2) وتبشير النبي السابق بالنبي اللاحق لطف من الله ورحمة بعباده ... فوضع أوصاف النبي الذي ما زال في علم الغيب في ذاكرة قافلة التوحيد، يجعل الذاكرة تحمل على الدوام الأمل الذي يقاوم كل معاني الكفر والانحراف ، ومع هذا الأمل تمتد جذور الفطرة إلى جميع ملكات النفس الإنسانية فتحفظ لها توازنها في عالم يعمل من أجل فرض سياسات التوثين وثقافات التضليل ، فالذاكرة عندما تحتضن الأمل يعبر

-------------------------------
(1) مروج الذهب / المسعودي : 26 / 1 .
(2) الميزان : / 10 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 64 _
  صاحبها جميع طرق الانحراف مرتديا رداء الصبر مرتبطا بنبي سابق متجها نحو نبي لاحق إن أدركه آمن به وإن لم يدركه وقع أجره على الله ، والذاكرة التي تحتضن الأمل لا تأخذ إلا بالحق ولا تعمل إلا به ، لأنها من البداية إلى النهاية انتظمت على الصراط المستقيم ماضيا وحاضرا ومستقبلا ، وعلى امتداد طريقها يكون رداء الصبر تحصين لها من عقائد وثقافات مظلات الشذوذ فالصبر إذا انطلق من عالم المشاهدة إلى عالم الغيب المخبوء ليلتقي بأمل يكون له مذاق خاص لأن الغاية غيب ، والغيب في علم الله ، فهذا الصبر الممدود يغذي ملكات النفس بالزاد التوحيدي الذي يشعر معه صاحبه بأنه ليس من نسيج قافلة الانحراف لأنه لا يسير على صراطها ، وكما أن وضع الأنبياء في الذاكرة تحصين للسمع والبصر والفؤاد ، كذلك فإن نسيان هذا الإخبار بالغيب يترتب عليه أن يسير صاحبه في طريق طويل وهو فاقد الذاكرة ، وفاقد الذاكرة بعيد عن قافلة الصراط المستقيم قريب من دوائر الأهواء والانحراف والشذوذ وهذه الدوائر لا تلتقط إلا أجيال اللاوعي لتنشئ منهم جدرا يصدون عن سبيل الله، وأجيال اللاوعي هي التي ينتهي بها الطريق بأن تتصدى لأنبياء الله تعالى عندما يبعثهم الله ليضعوا قواعد تستقيم مع الفطرة ، ورفضهم للأنبياء ارتكاس للفطرة نتيجة لليل طويل قطعوه وراء اتباع الشياطين الذين يغرسون الأماني المزخرفة في النفوس ويقيمون لها أصناما من كل الألوان والأشكال والأجناس ، وعندما يأتي الرسول أو النبي إليهم يجدهم مستعدين للدفاع عن ما ألفته نفوسهم وما أصله فيهم آباؤهم وما تركه لهم أجدادهم ، لقد غرس نوح (عليه السلام )اسم النبي الذي سيأتي بعده في ذاكرة قومه .
  كي تتمسك الذاكرة بعلامات التوحيد وتظل عروة التوحيد تمدهم بالزاد ، وهم يعبرون من على طرق الذين ظلموا أنفسهم ويمتعهم الله ثم يمسهم منه عذاب أليم ، وظل سام بن نوح يعمل بوصية والده ، وكان القوم يتعاهدون بعث هود في يوم عيدهم ، وعندما طال الأمد وتفرق الناس في الأمصار، اجتالت الشياطين الناس ، وظهرت الأهواء التي تمهد للوثنية من جديد ، وأصبحت وصية نوح بهود عليهما السلام، لا يهتم بها إلا طلاب العلم الذين عكفوا على كتب العلم وآثار علم النبوة، وظهرت الأمم التي أخبر الله تعالى بها نوحا (عليه السلام ) بقوله : ( يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 65 _
  يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (1) وكانت عاد من هذه الأمم .

  أولا: عاد والدعوة إلى الله:
  1 ـ عاد قوم هود :

  ينتسب قوم عاد إلى عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح (2) وكان عاد يعبد القمر (3) ، ونزل هو وولده بالأحقاف وقيل إن الأحقاف واد بين عمان وأرض مهرة ، وقيل :
  من عمان إلى حضرموت ، وهي رمال مشرفة على البحر بالشحر (4) وبعد عاد جاء من ولده من يعبد الأصنام فأقام في قومه ثلاثة أصنام عبدوها من دون الله وهي : صمود ، صداء ، الهباء (5) ، وعاد كانت تتكون من عشر قبائل ، كانوا جميعا على هيئة النخل طولا ، ولقد خصهم الله تعالى من بين الأقوام ببسطة في الخلق وعظم الهيكل البدني، وبهذه القوة تمتعت عاد بين الأمم برقي في المدينة والحضارة ، ويكفي بهم حضارة ما ذكره القرآن الكريم عن مدينتهم ، عاد التي لم يخلق مثلها في البلاد، كما كانت أرضهم خصبة ذات جنات ونخيل وزروع ومقام كريم ، فهذه الأشياء وغيرها تستوجب شكر الله عليها ، ولكن عادا فتنت بقوتها وسارت في قافلة الكفر مبهورة بشبابها ، وعلى امتداد طريق الكفر زين الشيطان لهم أعمالهم، ومحا من ذاكرتهم ليس بعث هود فيهم فحسب ، وإنما الأحداث الحقيقية التي أدت إلى الطوفان الذي أطاح بكفار قوم نوح ، فبعد أن طال الأمد وانتقلت عاد إلى أرضها الجديدة، كانت الأساطير والخرافات قد دثرت أحداث الطوفان، وعلى امتداد هذه الأساطير وقف العتاة والطغاة في عاد على أن الطوفان يمكن تفادي خسائره البشرية إذا شيدت الدور والأبنية على أعمدة عالية أو فوق قمم الجبال وعلى أي مرتفع من الأرض، ووفقا لهذا الفهم الذي تنتهي أصوله إلى دائرة الآمال الطويلة وحب الحياة، أقامت عاد أول حضارة لها على الأعمدة ... يقول تعالى : ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ

-------------------------------
(1) سورة هود ، الآية : 48 .
(2) مروج الذهب : 57 / 2 ، ابن كثير 507 / 4 .
(3) مروج الذهب : 44 / 2 .
(4) الميزان: 307 / 10 .
(5) مروج الذهب : 157 / 2 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 66 _
  يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ) (1) ذكر ابن كثير البغوي : أن هؤلاء هم عاد الأولى، وإرم اسم قبيلة أو بلدة كانت عاد تسكنها ، وكانوا يسكنون بيوت الشعر التي ترفع بالأعمدة الشداد، كما أنهم بنوا عمدا بالأحقاف لم يخلق مثلها في البلاد، وعاد الأولى دمرها الله تعالى لتكون عبرة لعاد التي بعث الله تعالى إليها هودا (عليه السلام ) ، ولكن أهل الأحقاف لم يعتبروا ، وشيدوا حضارتهم بروح حضارة عاد الأولى، فأقاموا المصانع التي تنحت الأحجار وشيدوا القصور والقلاع على الأرض، ورفعوا فوق كل مرتفع من الأرض مأوى يحمي الناس من عوامل الطبيعة ، ومع هذه الأخلاق الحديدية ظهرت الثقافة الحديدية التي تنطلق من منطق القوة ، واستكبرت عاد في الأرض استكبارا لا حدود له . . . يقول تعالى :
  ( فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة ؟ أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون ) (2) لقد بغوا وعتوا وعصوا ، ولأنهم بلوا بشدة تركيبهم وقواهم اعتقدوا أنهم يمتنعون بها من بأس الله (3) ومع عقيدة كهذه وثقافة كهذه ، تشنق الخيول المشلولة بلا أي جريرة .
  وتحت فقه الغطرسة الذي دونته عاد يكون السب والطعن وشتى الإهانات من نصيب كل من يحمل بين جنباته فطرة نقية سليمة ، فعاد شيدت الحصون على الأرض وفوق المرتفعات، ووفقا لفقه ( من أشد منا قوة ) الذي دونه الفقهاء الذين كانوا بآيات الله يجحدون .
  انطلقت عاد وراء الخلود خوفا من الموت، وأعلام الخلود والأماني والآمال العريضة يحملها الشيطان، بربط الناس بالدنيا وهو من أجل هذا الهدف لا يترك طريقا إلى الأهواء إلا زينه وزخرفه ، ومن عالم الزينة تخرج الأقوال التي ما إن تسمعها الآذان حتى تنصت لها ، وتتحرك الأشياء التي ما إن تراها العيون حتى تحتضنها ، إن عالم عاد هو عالم كفران النعمة ونكران المنعم، الذي يستهان فيه بالقتل ولا يقام فيه للفضيلة أي وزن! وعاد أمسكت بذيل كفار قوم نوح عندما رفضوا بشرية الرسول ( قالوا لو شاء الله ربنا لأنزل ملائكة ) (4) ورفض الرسول البشر، غرس شيطاني يضمن به عدم قبول أكثر

-------------------------------
(1) سورة الفجر ، الآيتان: 6 - 7 .
(2) سورة فصلت ، الآية : 15 .
(3) ابن كثير 94 / 4 .
(4) سورة فصلت ، الآية : 14 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 67 _
  الناس الهداية التي تأتيهم من رسول يماثلهم في البشرية ، فالشيطان رفض البشرية من أساسها وظن في نفسه أنه أعلى منها مقاما ، ووفقا لهذا المخزون الذي تحتويه النفس الشيطانية ، طرح الشيطان منهج الرفض هذا بما يستقيم مع البشر ، فكل صاحب هوى وكل صاحب عدة وجموع سيرى في نفسه أنه أعلى مقاما من الذي يدعوه وعلى هذا ستنحصر الهداية في رقعة .
  وينطلق الشيطان في الرقعة الأوسع، والشيطان بطابوره الطويل زرع له أولياء مهمتهم الصد عن سبيل الله، معتمدين في ذلك على فقه التحقير بجميع أدواته من سب وطعن وغير ذلك، والله تعالى حذر من سبل هؤلاء الأولياء وسيدهم ، وأخبر بأنهم أعداء للبشرية جمعاء ولا يريدون لها الخير، فقال تعالى : ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ) (1) لقد حذر سبحانه بأنه لا ينبغي للناس أن يفتتنوا بما يزينه لهم الشيطان وذريته من ملذات الدنيا وشهواتها لكي يعرضوا عن ذكر الله، ولا ينبغي أن يطيعونهم فيما يدعون إليه !
  وعاد افتتنت بما زينه الشيطان لها ، وأطاعته فيما يدعي إليه ، ورفعت أعلام ( من أشد منا قوة ؟ ) وفي زمان الافتتان هذا ، وفي عالم الأخلاق الحديدية هذه ، بعث الله تعالى هودا (عليه السلام ) إلى عاد ، ولقد تعرض القرآن الكريم لقصة عاد والنبي المبعوث فيها هود (عليه السلام ) في عشر سور منه هي : الأعراف، هود ، المؤمنون ، الشعراء، فصلت ، الأحقاف، الذاريات ، القمر، الحاقة، الفجر، وعاد الأولى هي إرم ذات العماد ، وصاحب إرم غير عاد قوم هود ، قال تعالى : ( أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ) وإنما قال عاد قوم هود ليتميز عن عاد صاحب إرم ذات العماد ، وجبار إرم ذات العماد أهلكه الله لتعتبر عاد ولكن عادا أمسكت بذيله وسارت على طريقته فبعث الله فيها هودا عليه السلام، وهود (عليه السلام ) كما يراه القلب من خلال قصته مع عاد ، كان إنسانا وقورا رزينا عاقلا واسعا صدره عظيما عقله ، كبيرة نفسه ، ذا شعور قوي ، زاهدا عابدا عفيفا أبيا غيورا ، صلب الإيمان خشنا في ذات الله سبحانه وتعالى ، على الكافرين عذابا صبا وللمؤمنين أبا رحيما ، لا يقابل الشر بمثله بل لا يفارقه العطف

-------------------------------
(1) سورة الكهف ، الآية : 50 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 68 _
  واللطف والحنان واستعمال اللين والإخلاص في أقواله مع قومه (1) وكان هود (عليه السلام ) من قبيلة يقال لها الخلود وكان من أوسطهم نسبا (2) وأصبحهم وجها ، وكان في مثل أجسامهم أبيض بادي العنفقة طويل اللحية ، وكان (عليه السلام ) ينذر قومه ، ويحذرهم بأس الله، ويضرب لهم الأمثال بقوم عاد الأولى وبقوم نوح (عليه السلام ) قبلهم ويذكرهم بنعمة الله عليهم .

2 ـ الدعوة إلى الله:
  كان هود (عليه السلام ) أول رسول من الله تعالى بعد نوح عليه السلام، وهو أول رسول بعث إلى قوم افتتنوا بقوتهم وقالوا ( من أشد منا قوة ؟ ) وهود (عليه السلام ) تجمعه بقومه ، صلة القرابة، ودعوة القوم إلى الهداية بواحد منهم يعرفهم ويعرفونه ، يجعل الدعوة تسير بسهولة ويسر ، نظرا لأن القوم يعرفون أمانة وصدق المبعوث إليهم ، كما أن عنصر القرابة يكون بمثابة مائدة للتعاطف من خلالها يفهمون الرسالة ويدافعون عنها وبث الدعوة أولا بين أهل القوم الواحد ، لطف من الله ورحمة بالعباد ، فهو سبحانه بعث رسله على أرضية القربى لتفتح ) القربى طريق المودة ، ووضع الدعوة في أول خطواتها على أرضية التعاطف والقربى والمودة إشارة إلى أن دين الله لا إجبار فيه ، دين مقدمته قبل أن يتكلم تقوم على التعاطف، وبهذا كله مما تقبله الفطرة السليمة ، ولكن عندما اجتالت الشياطين الناس أصبح أبناء التراب يرفضون أبناء التراب وأبناء الرحم الواحد يقاتلون إخوانهم وكل هذا تحت لافتة ( أنا خير منه ) تلك اللافتة التي رفضت البشر الرسول ورفضت بعد ذلك جميع الهداة الصادقين على امتداد التاريخ! وفي هذا العالم الذي ألف دق خيام القسوة والظلم كان طريق الدعوة طريقا شاقا ، وقام الجبابرة العتاة داخل كل قوم باضطهاد النبي المبعوث فيهم والذين آمنوا معه وهم جميعا من أبناء جلدتهم ، فتحت شعار الجبابرة ( أنا خير منه ) طرد الأنبياء ورجموا بالحجارة ، ونتيجة لمقدمة الذين كفروا التي تحمل الحجر، أصبحت الرسالة وأتباعها في جانب وأهل الكفر والأهواء في جانب آخر ... وعاد أول من دون فقه الغطرسة ، وقفت من هود (عليه السلام ) موقف الضد ،

-------------------------------
(1) الأنبياء ـ حياتهم وقصصهم / الحسني العاملي : 102 .
(2) ابن كثير : 225 / 2 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 69 _
  كان يدعوهم بكلمة المودة والتعاطف ( يا قوم ) فيواجهوه بالشر الجسيم والتمرد العظيم والجرأة الغليظة، وهود (عليه السلام ) ما كان يدعوهم إلا لعبادة الله، وما كان يخاطبهم إلا بلطف وعطف ، وكان (عليه السلام ) يعاتبهم على ما يقومون به من البناء فوق كل مرتفع من الأرض وعلى اتخاذهم مصانع تصنع لهم الحصون لعلهم يخلدون ، وعلى شدتهم وخشونتهم في تعاملهم مع الناس ، وذكرهم بنعم الله تعالى عليهم من أموال وبنين وجنات وعيون ، ودعاهم إلى الرجوع إلى الله، لأن عدم الرجوع إليه بالتوبة والعمل الصالح سيترتب عليه عذاب يوم عظيم ، يقول تعالى :
  ( كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) (1) .
  لقد ردهم (عليه السلام ) في دعوته إليهم إلى الحق الذي عليه تقوم الفطرة ، قال لهم : ( يا قوم ) ليلقى خطابه القبول في نفوسهم ، ودعاهم إلى تقوى الله، وأخبرهم بأنه أمين لهم وأنه يدلهم على الطريق الذي لا يخيب من سار على هداه ، وأمرهم بطاعته لأن طاعته هي طاعة الله، وبين لهم أنه لا مطمع دنيوي له فيما يقوله لهم ، فهو لم يسألهم الأجر، فإذا كان هو الأمين الذي يعرفون أمانته .
  وهو أيضا الذي لم يسألهم الأجر ، فإن في كل هذا دليل على أنه ناصح لهم فيما يدعوهم إليه ، كانت هذه مقدمته (عليه السلام ) عندما خاطبهم ، ثم بدأ ينتقد حضارة الأخلاق الحديدية فقال : ( أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ ) قال البغوي : الريع : المكان المرتفع (2) ... وكانوا يبنون فوق المرتفعات بنيانا محكما هائلا باهرا (3)

-------------------------------
(1) سورة الشعراء ، الآيات: 123 ـ 135 .
(2) البغوي : 229 / 6 ، الميزان .
(3) تفسير البغوي : 229 / 6 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 70 _
  والآية : العلامة والبناء على الأماكن المرتفعة، اخترعته عاد الأولى هروبا من الطوفان بعد أن شوهت الأساطير حقيقة طوفان قوم نوح ، واعتبروه ثورة طبيعية يمكن مقاومتها بالبناء فوق المرتفعات وتحصين المنشآت على الأرض ضد السيول، وبعد أن أهلك الله عادا الأولى، جاءت عاد الثانية إلى الأحقاف، وقاموا بسلخ العمد من الجبال حتى إن العمود الواحد كان بطول الجبل، ثم ينقلون هذه الأعمدة وينصبونها ويبنون عليها القصور (1) ، ولقد أخبرهم هود (عليه السلام ) أن هذا العمل لا يدرج إلا تحت عنوان العبث ، لأن اليوم العظيم إذا جاء فلن تقف أمامه علامات فوق المرتفعات، ولا حصون وقلاع على الأرض الممهدة، فعملهم هذا عبث لا احتياج إليه ، وهو في الحقيقة مجرد لهو وإظهار للقوة (2) ثم انتقل (عليه السلام ) إلى الشطر الثاني من حضارة القوة فقال :
  ( وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ) قيل : المصانع كانت لنحت الجبال وبناء القصور ، وقيل : هي البروج المشيدة والبنيان المخلد (3) وكان القوم يعتقدون أن هذه المصانع كافية لحمايتهم من الموت ووقايتهم من مؤثرات الجو ومن غارات الأعداء ... فقال لهم (عليه السلام ) : أتتخذون مصانع لكي تقيموا فيها أبدا ، وذلك ليس بحاصل لكم بل زائل عنكم كما زال عمن كان قبلكم (4) ، وبعد أن انتقد أعمدة عاد التي أقامت عاد عليها حضارتها وثقافتها الحديدية انتقل من الأعمدة الصخرية إلى الأعمدة التي، تتكون من لحم ودم وعظم وقال لهم : ( وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ) لقد وصفهم بالقوة والغلظة والجبروت (5) (َإِذَا بَطَشْتُم ) أي إذا أخذتم وسطوتم ( بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ) أي قتلا بالسيف وضربا بالسوط ، والجبار هو الذي يقتل ويضرب على الغضب (6) لقد ربط (عليه السلام ) بين الأعمدة ، بين الحجارة والدماء ، فأعمدة هناك تنحت من الصخر ليرفع فوقها أعلام التحدي ورجاء الخلود، وأعمدة من لحم ودماء نزلت

-------------------------------
(1) كتاب الأنبياء / 96 .
(2) البغوي : 229 / 6 .
(3) البغوي : 229 / 6 .
(4) البغوي : 299 / 6 .
(5) البغوي : 229 / 6 .
(6) ابن كثير : 229 / 6.

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 71 _
  بالإنسان إلى أسفل سافلين ، فنهش أصحابها أبدان المستضعفين طمعا في امتلاك جلودهم ، إن عالم الأعمدة هو عالم الجوع والخوف ، لقد كفروا بالنعمة وبالمنعم فألبسهم الله لباس الجوع والخوف ، إن القلاع ، والحصون خوف وجوع ، وبطش الجبارين خوف وجوع ، لأن الاطعام والأمن لا وجود له إلا في دائرة التقوى على الصراط المستقيم، وعاد قفزت من الدائرة وانحرفت عن الصراط، وبعد أن انتقد (عليه السلام ) حضارتهم طالبهم بالدخول في دائرة التقوى وأن يطيعوا الله تعالى فيما يأمرهم به من ترك الترف والاستكبار ، لأن الله تعالى هو الذي أمدهم بما يعلمون من بسطة في الخلق وعظم الهيكل البدني، وهذا ظاهر لهم حيث يفوقون الأمم من حولهم في هذا ، وهذه القوة زادت من قوتهم ، فالواجب عليهم أن يشكروه عليها بوضع النعمة في موضعها ، لأن الهلاك سببه كفران النعمة والطغيان بالمعصية ، ثم ذكر لهم (عليه السلام ) ما أمدهم الله به وعليه قامت أيضا حضارتهم ، فالله تعالى أمدهم بالأموال والأنعام والبنين وجعل لهم الجنات والعيون ، فهذا العطاء يجب أن يشكروا الله عليه ويتقوه فيه ، لأن عدم شكر الله قد يحول هذا العطاء من مجرى النعمة إلى مجرى النقمة، ومجرى النقمة يكون إذا آثروا المعصية على الطاعة ، ثم قال (عليه السلام ) : ( إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) أخبرهم أنه يخاف عليهم لأنهم قومه ، ويخاف عليهم لأنه أمين لا يسألهم أجرا ، مشفق عليهم من عذاب الجبار خائف عليهم من نقمته وحلول غضبه على من تمرد عليه وبغى ، ولم يرحم نفسه بخضوعه لله الواحد الذي له سلطان الدنيا والآخرة .
  كان (عليه السلام ) يتعامل معهم على مائدة القوم، مائدة التعاطف، فماذا كان ردهم ؟ لقد جاء الرد بعيدا عن مائدة التعاطف جاء من قوم لا يتعاملون مع الطبيعة ومع الناس إلا تعامل الجبابرة ( قَالُوا سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ) (1) لقد قابلوا خطابه الذي اتسم باللطف والعطف والخلق الكريم ، قابلوه بقسوة وقالوا : ما يعنينا أن تعظ أو لا تكون أصلا من الواعظين ، وأن ما ذكرته من الدعوة إلى التوحيد ، وما

-------------------------------
(1) سورة الشعراء ، الآيات : 136 ـ 138 .


الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 72 _
  بينته من المواعظ في شأن ما تقوم عليه حياتنا ، كل هذا من عادة البشر الأولين الماضين الذين نسمع عنهم في الأساطير والخرافات (1) .
  والبشر الأولين بالنسبة لعاد هم قوم نوح بعد الطوفان، فبعد نوح (عليه السلام ) بدأت قوافل التوحيد تتحرك هنا وهناك تدعو إلى الله، وبعد أن طال الأمد طوى النسيان ما كانت تعظ به هذه القوافل ، ثم اقتحم الانحراف بثقافته عالم النسيان ، واعتبر كل ما كان يعظ به الأوائل شذوذ وهكذا فعلت الأهواء بأصحابها ، أنستهم الله فعبدوا الأصنام ، وأنستهم معجزات الله يوم الطوفان فأقاموا الأعمدة لتحميهم من الطوفان، وأنستهم صوت الحق والضمير على امتداد الأيام فاعتبروا التوبة والاستغفار رجعية ، وإذا كانت عاد أول من قالوا : ( إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ ) ، فلقد أمسك كفار قريش الذين واجهوا الرسالة الخاتمة بذيلهم ( وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ) (2) .
  وذكر البغوي وابن كثير أن آخرين قرأوا ( إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ ) بضم الخاء واللام ، يعنون دينهم وما هم عليه من الأمر، هو دين الأولين من الآباء والأجداد ، ونحن تابعون لهم سالكون وراءهم نعيش كما عاشوا ونموت كما ماتوا ، ولا بعث ولا معاد ، ولهذا قالوا : ( وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ) (3) ، لقد انتفخت عاد بالغطرسة وانتفشوا بالغرور وازدادوا عتوا وتمردا وعنادا أمام رسول الله الذي يدعوهم إلى الإيمان بالله على بصيرة ، ومع العتو والغرور ، كان كل يوم يمر تشيد عاد المزيد من الحصون والقلاع والمخازن المملوءة بالحبوب وفقا لثقافة ( مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ) ؟

  ثانيا : تكبيل القوة :
  لما دعاهم هود (عليه السلام ) إلى الله تعالى وإلى دينه ، وبالغ في وعظهم وإرشادهم ، وحذرهم سطوة الجبار العلي القدير وعقوبته في الدنيا والآخرة ، فلم ينفع معهم ولم يفد شيئا ، حبس الله سبحانه عنهم المطر كي يتنبهوا ويرتدعوا

-------------------------------
(1) البغوي : 220 / 6 .
(2) ابن كثير .
(3) ابن كثير : 342 / 1 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 73 _
  ويرجعوا إلى الطاعة، وإمساك المطر عنهم سيبعد بينهم وبين الترف لأن الترف أصل أصيل في إفساد الفطرة وإفقاد القلوب تلك الحساسية المرهفة التي تتلقى وتتأثر وتستجيب ، وإمساك المطر يؤدي بالإنسان إلى دائرة التضرع، ليكون التضرع مدخلا إلى التوبة ، وروي أن الله تعالى أمسك عنهم المطر ثلاث سنوات حتى جهدوا وأجدبوا وقحطوا ، فأبوا إلا تماديا فيما هم عليه ، وازدادوا عتوا وتمردا وعنادا (1) وعلى امتداد زمن القحط كان هود (عليه السلام )يدعوهم كي يستغفروا الله فيرسل سبحانه السماء عليهم مدرارا ( قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ * يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ ) (2)، لقد دعاهم وقوتهم التي يستندون عليها تئن تحت ضربات القحط، دعاهم إلى عبادة الله وحده وأخبرهم أنه لا يسألهم على ما يدعوهم إليه أجرا حتى يتهموه بأنه يريد بدعوته منفعة تعود إليه أو تضربهم ، وهو إنما يبغي ثوابه من الذي فطره ، من الله الذي أوجده وأبدعه ، ودعاهم إلى تعقل ما يقوله لهم ، حتى يتضح لهم أنه ناصح لهم في دعوته ، وأنه ما يريد إلا أنه يحملهم على الحق، كما دعاهم إلى طلب المغفرة من الله وأن يتوبوا ويرجعوا إليه بالأعمال الصالحة، حتى يرحمهم بإرسال سحب هاطلة ممطرة يحيي بها الأرض وينبت الزرع والعشب ، ويزدهم قوة الإيمان إلى قوة الأبدان، وأخبرهم أن عبادتهم التي اتخذوها من دون الله إحرام منهم ومعصية توجب نزول السخط الإلهي عليهم ، وفي الآية دلالة على أنهم كانوا مبتلين بإمساك السماء والجدب وهذا في قوله : ( يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم ) وكذا قولهم في موضع آخر : ( فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (3) كما أن الآية بها إشعار أن هناك ارتباطا تاما بين الأعمال الإنسانية وبين الحوادث الكونية التي تمر .
  فالأعمال الصالحة توجب فيضان الخيرات ونزول البركات ، والأعمال الطالحة

-------------------------------
(1) الميزان : 306 / 10 ، ابن كثير : 225 / 2 .
(2) سورة هود ، الآيات : 50 ـ 52 .
(3) سورة الأحقاف ، الآية : 24 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 74 _
  تستدعي تتابع البلايا والمحن وتجلب النقمة والشقاوة والهلكة (1) كما يشير إليه قوله تعالى : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ ) (2) .
  لقد دعاهم هود (عليه السلام ) وهم تحت ضربات القحط إلى التعقل ، فالكون يخضع لنظام دقيق ، وإن الاطعام والأمن بين يدي الذي يملك الجوع والخوف ، فمن انحرف عن نظام الاطعام والأمن سقط في دائرة الجوع والخوف والمد والاستدراج فماذا كان رد عاد في عالم القحط والجدب ؟ ( قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ ) (3) لقد ردوا على هود (عليه السلام ) فيما قاله لهم .
  فلقد طالبهم هود بأمرين هما : أن يتركوا آلهتهم ويعبدوا الله وحده ، وأن يؤمنوا به ويطيعوه فيما ينصح لهم ، فهذه كانت مطالب هود عليه السلام، أما الرد عليه فجاء إجمالا وتفصيلا ، ( أما إجمالا ) فبقولهم : ( مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ ) أي ما جئتنا بحجة وبرهان على ما تدعيه من الرسالة، إن دعوتك لنا خالية من المعجزة، فما هي معجزتك الخارقة للعادة ؟ وبما أنه لا توجد معك معجزة ، فلا موجب للإصغاء إلى ما هذا شأنه ( وأما تفصيلا ) فلقد رفضوا دعوته التي طالبهم فيها برفض الشركاء فقالوا : ( وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ ) كما رفضوا دعوته إياهم إلى الإيمان والطاعة فقالوا : ( وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ) ووفقا للإجمال والتفصيل فقد آيسوه في كلتا الحالتين، ثم قالوا له : ( إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ ) أي نعتقد في أمرك أن بعض آلهتنا أصابك بسوء كالخبل والجنون .
  لشتمك إياها وذكرك لها بسوء فذهب بذلك عقلك ، ومن كان هذا شأنه فلا يعبأ بما يقوله في دعوته (4) ، لقد طالبوه بالمعجزة ، وأخبره أنهم لن يتركوا آلهتهم من قوله ، أي بمجرد قوله اتركوهم يتركوهم ، وأعلنوه بصراحة أنهم له غير مؤمنين ، ثم نظروا إلى

-------------------------------
(1) الميزان : 300 / 10 .
(2) سورة الأعراف، الآية: 96 .
(3) سورة هود ، الآيتان: 53 ـ 54 .
(4) الميزان : 301 / 10 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 75 _
  حضارتهم وأعمدتهم وأصنامهم وأخبروه أن ما يقوله لهم ما هو إلا نتيجة لما أصاب عقله من جنون وخبل ، ومصدر هذا الجنون تطاوله على الآلهة ونهيه عن عبادتها ! هكذا تفكر عاد في عالم القحط ، وهذا إن دل على شئ فإنما يدل على عمق الحضيض الذي تهاووا فيه بعد انحرافهم عن الصراط المستقيم، إن الإنسان عندما يفقد الماء يتضرع ، ولكن أصحاب الأعمدة والصخور كانت لهم قلوب لا تعاني من فقد الماء، قلوب من حجارة ، نبتت وترعرعت في خيام الأخلاق الحديدية .

  * ـ معجزة هود (عليه السلام) :
  لقد انتفخ جبابرة عاد وطالبوه بالمعجزة ( قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ ) ثم قالوا بأن أصنامهم قد مسته بسوء ( إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ ) فجاء رد هود (عليه السلام ) بما يريدون ، جاء بالمعجزة التي تستقيم مع الذي عند قوم عادن ، وعاد عندها القوة وتسير على ثقافة ( من أشد منا قوة ؟ ) لهذا جاءتهم المعجزة التي تقصم ظهر قوتهم : قوة الفرد أو القبيلة أو المرتزقة أو الدولة، والمعجزة جاءت في رد هود (عليه السلام ) : ( قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (1) ، لقد أعلن البراءة من شركائهم ، ولا ينفي ذلك كونه برئ منها من أول مرة ، وإعلانه البراءة هنا ليضع القوم أمام التحدي وأمام المعجزة ، فلقد قالوا بأن الأصنام قد مسته بسوء ، فرد عليهم بأنه برئ منها لأنها لو كانت آلهة حقا وتتمتع بعلم وقدرة فيجب عليها أن تقهره وتنتقم منه لنفسها وهو يعلن تبرؤه منها فالتبرء حجة بينة على أنها ليست بآلهة وعلى أنها لم تعتره بسوء كما ادعوا، وبعد أن حطم (عليه السلام ) القاعدة الصنمية للأوثان التي من حجر ، انتقل إلى القاعدة الصنمية التي من لحم ودم وعظم ، وقدم للجبابرة معجزته التي أذلتهم وهم في أزهى لباس للقوة قال : ( فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ ) لقد كان في قوله لهم أمر ونهي تعجيزيان لقد طالبهم أن يكيدوا له وفي قوله ( جميعا ) إشارة إلى أن

-------------------------------
(1) سورة هود ، الآيات: 54 ـ 56 .