تأليف
سعيد أيوب
سلسلة الرحلة الى الثقلين (32)
إعداد
مركز الأبحاث العقائدية




  إلى مصابيح الهدى الذين يقودون الناس إلى الهدى.
الذين علموا أن الغنى والفقر بعد العرض على الله يوم القيامة.
  والذين صبروا صبر الأحرار.
  والذين ينتظرون يوم العدل على الظالم.
  إلى هؤلاء أهدي هذا الكتاب طمعا في جرعة ماء من حوض النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يوم القيامة.
  « فما هو كائن من الدنيا عن قليل لم يكن .
  وما هو كائن من الآخرة عما قليل لم يزل .
  وكل معدود منقص .
  وكل متوقع آت.
وكل آت قريب دان (*) .
  ... أيوب
.

المقدمة
  الحمد لله رب العالمين .
  وصلوات الله وسلامه على محمد النبي الأكرم المبعوث بالشريعة الخاتمة وعلى آله وأصحابه ومن تبع هداهم إلى يوم الدين .
  وبعد :
  لقد حث كتاب الله تعالى على التدبر في الكون والنظر في تاريخ الأمم السابقة وفحص حركة هذه الأمم والعوامل التي أدت إلى نهاية أجلها.
قال تعالى : ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ) (1) فالأجل في هذه الآية الكريمة.
  أضيف إلى الأمة إلى الوجود المجموعي للناس .
  فكما أن هناك أجل محدد ومحتوم لكل فرد .
  فكذلك هناك أجل آخر وميقات آخر للوجود الاجتماعي لهؤلاء الأفراد.
  للأمة بوصفها مجتمعا ينشئ ما بين أفراده العلاقات والصلات القائمة على أساس مجموعة من الأفكار والمبادئ .
  فهذا المجتمع الذي يعبر عنه القرآن الكريم بالأمة ، له أجل، له موت ، له حياة ، له حركة ، وكما أن الفرد يتحرك فيكون حيا ثم يموت ، كذلك الأمة تكون حية ثم تموت ، وكما أن موت الفرد يخضع لأجل ولقانون ولناموس .
  كذلك الأمم أيضا لها آجالها المضبوطة (2) من أجل هذا نبه كتاب الله الحاضر لكي

-------------------------------
(1) سورة الأعراف، الآية : 34 .
(2) المدرسة القرآنية / باقر الصدر : ص 56 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 8 _
  ينظر إلى أطلال الجهد البشري في الماضي ، ليتجه نحو المستقبل وهو على علم بالإنحراف وما يترتب عليه ، ويعلم أن نصر الله لقريب ولكن نصر الله له طريق .
  وما عليه إلا أن يهتد إلى هذا الطريق، وبقدر ما يكون المثل الأعلى للجماعة البشرية صالحا وعاليا وممتدا تكون الغايات صالحة وممتدة ، وعلى امتداد الصلاح يكون نصر الله، وبقدر ما يكون هذا المثل الأعلى محدودا أو منخفضا تكون الغايات المنبثقة عنه محدودة ومنخفضة أيضا ولا يترتب على هذا إلا فتن وعذاب وهلاك .
  وعلى امتداد هذا الكتاب قمنا بتسليط الضوء على الفقه الشيطاني الذي أنجب جميع المثل العليا المنخفضة التي واجهت أنبياء الله ورسله على امتداد التاريخ الإنساني، وكيف واجه الأنبياء هذا الصد عن سبيل الله وهذا الانحراف .
  ومادة هذا البحث طرحت بين يدي القرآن الكريم، وأجوبتها جاءت من القرآن الكريم، فالقرآن هو الطريق الوحيد للحصول على الخطوط الأساسية التي عليها جرت حركة هذه الأمم، ولقد اعتمدنا على العديد من التفاسير لكشف أعماق هذه الخطوط الأساسية وتقديمها للقارئ ليقف بيسر على صفحة الماضي وينطلق بيسر إلى المستقبل إذا شاء ذلك .
  وفي البداية نقول أنه مما تبين لنا خلال هذا البحث أن حركة الشيطان لم تكن فقط في دورات المياه كما قيل لنا ، وإنما كانت حركة مضبوطة منذ طرده الله ولعنه ، وهذه الحركة عمودها الفقري ينطلق من رفضه السجود لآدم ، فقوله : ( أنا خير منه ) أرسى قاعدة التحقير التي رفعها المستكبرين ضد البشرية على امتداد التاريخ الإنساني، وحركة الاستكبار على امتداد التاريخ طويت صفحتها ليس من أجل إصابتها بالشيخوخة كما يقول البعض في أسباب سقوط الدول، وإنما طويت صفحتها في دائرة العذاب، عندما رفض أصحابها السجود لله كما أراد الله ، وخلال هذا البحث قمنا بطرح ما قصه القرآن عن الأمم السابقة وحتى الرسالة الخاتمة، وعند الحديث عن الرسالة الخاتمة ألقينا بعض من الضوء على أحداث ما سمي ( بالفتنة الكبرى ) ، تلك الأحداث التي يتجنب العديد من الباحثين الخوض فيها ، في حين أنهم أمروا بالنظر في الماضي حتى لا ينطلقوا إلى المستقبل وعلى عقولهم بصمات هذه الفتن وهم لا يعرفون أهي بصمات حق ، أم بصمات انحراف، وعلى هذا يقعوا في الفتنة الأشد من التي اجتنبوها سأل رجل حذيفة : أي الفتن أشد ؟ قال : أن يعرض

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 9 _
  عليك الخير والشر ، لا تدري أيهما تركب (1) ومن الخطأ الشائع أن تاريخ الإسلام هو نفسه تاريخ المسلمين، ولهذا ظن العديد من الباحثين أن نقد تاريخ المسلمون هو نقد لتاريخ الإسلام، ونحن نقول : أن تاريخ الإسلام في الرسالة الخاتمة هو حركة الرسول ودعوته ، وهذا التاريخ امتداد طبيعي لتاريخ الدعوة منذ عهد نوح وآل إبراهيم وآل عمران عليهم السلام، تاريخ الإسلام هو نفسه تاريخ الفطرة النقية التي لم تحيد عن الصراط المستقيم، وعلى امتداد هذا التاريخ لا تجد إلا نصر الله قال تعالى : ( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ) (2) وتاريخ الإسلام فيه الابتلاء والصبر والنصر ، قال تعالى : ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ) (3) فتاريخ الإسلام تقام فيه الحجج على الذين كفروا ، وتكافح فيه الفطرة النقية معسكر الانحراف، أما تاريخ المسلمين فهو يتعلق بحركة المسلمين فما كان منه منطبقا مع آيات الكتاب وحركة الرسول فهو من تاريخ الإسلام، أما ما خرج منه من دوائر الحقد والحسد والاستكبار فلا علاقة للإسلام به .
  ويبحث عن أصوله في فقه الإغواء والتزيين ، تماما كبني إسرائيل، فهم عندما ساروا مع موسى (عليه السلام )في اتجاه البحر وعبروا معه ، كانوا يدونون بذلك تاريخ الإسلام، وعندما عبدوا العجل وأرجلهم لم تجف بعد من ماء البحر، كانوا يدونوا تاريخ بني إسرائيل ولا علاقة للإسلام بهذا التاريخ، لذا نجد هارون (عليه السلام )يقول لموسى (عليه السلام )عندما سأله عن هذا الانحراف وعاتبه : ( إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) (4) لقد وضعهم في دائرة حركتهم التي تحمل العنوان الذي اشتهروا به بين الأمم ( بني إسرائيل )، ولم يضعهم في دائرة الإسلام، وكان موسى (عليه السلام )قد قال لهم وهم تحت المظلة الفرعونية ( يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ ) (5) إن حركة الفطرة ضد

-------------------------------
(1) أسد الغابة: 1 / 468 .
(2) سورة غافر ، الآية: 51 .
(3) سورة البقرة، الآية: 214 .
(4) سورة طه ، الآية: 94 .
(5) سورة يونس ، الآية: 84 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 10 _
  الانحراف تحت قيادة الرسل، هي بعينها تاريخ الإسلام الذي رفع عنوانا من اليوم الأول يقول فيه ، أن دين الله لا إجبار فيه ، أما حركة المال والسلاح والتخويف والتجويع والأهواء والطواغيت إلى غير ذلك ، فهذا مدون في تاريخ الناس وهذا التاريخ يقبل الأخذ والرد ويخضع للنقد والبحث العلمي الجاد.
  وعلى ضوء هذا التعريف بحركة التاريخ ناقشنا العديد من الأحداث.
  انطلقنا من القرآن لنصل إلى أعماق الحدث عن طريق القرآن أيضا، ثم نقبنا في الحدث لنرى أين أهداف الدعوة فيه ، وأخيرا إذا كان هناك كلمة أخيرة فإنني أتوجه بها إلى الذين يختلفون معي في مفهومي لحركة التاريخ الذي يضع الفطرة في مربع والأفعال التي تأنف منها الفطرة رغم زينتها وزخرفها في مربع آخر، أقول لهؤلاء إن هذا الكتاب لن يفيدكم في شئ ، وإنني أشفق عليكم أن تضيعوا أوقاتكم هنا ، وبالله نستعين ( قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ) (1).
  صدق الله العظيم
  سعيد أيوب
  القاهرة في 1 / 7 / 1991

-------------------------------
(1) سورة النور ، الآية: 54 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 11 _
  البذور والجذور

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 13 _
  نظرات حول الفطرة وفي فقه الشيطان
  مقدمة :
  سبحان الله الواحد الأحد، الذي لم يسبقه وقت ، ولم يتقدمه زمان ، ولم يتعاوره زيادة ولا نقصان ، ولم يوصف باين ولا بما ولا بمكان ، الذي بطن من خفيات الأمور، وظهر في العقول بما يرى في خلقه من علامات التدبير، الذي سئلت الأنبياء عنه فلم تصفه بحد ولا نقصان ، بل وصفته بأفعاله ودلت عليه بآياته ، فسبحان من لا يحد ولا يوصف ولا يشبهه شئ ، يصور ما يشاء وليس بمصور ، جل ثناؤه وتقدست أسمائه وتعالى أن يكون له شبيه ، من شبهه بخلقه فهو مشرك ، ومن وصفه بالمكان فهو كافر ومن نسب إليه ما نهى عنه فهو كاذب (1).
  قبل أن يخلق سبحانه آدم (عليه السلام ) قال لملائكته : ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) (2) فهو سبحانه خلق آدم ليكون في الأرض لا في السماء.
  وعندما قالت الملائكة : ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء . . . ) (3) لم

-------------------------------
(1) من أقوال الإمام علي ـ توضيح المراد : 498 ـ 500 .
(2) سورة البقرة، الآية: 30 .
(3) سورة البقرة ، الآية: 30 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 14 _
  ينف سبحانه عن خليفة الأرض الفساد وسفك الدماء ، وقال سبحانه : ( إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) (1) .
  فالإنسان قبل أن يخلق قدر الله أن تكون حركته على الأرض، ولأن هذه الحركة لحكمة ومن وراء هذه الحكمة هدف ، أقام الله الحجة على هذه الحركة، فإذا اقترف الإنسان المعاصي وسفك الدماء: كانت الحجة شاهد عليه ، ولا يوصف بالعدل من نسب إلى الله ذنوب عباده .

  1 ـ حجة الفطرة :
  وإذا كانت حركة الإنسان قدر لها أن تكون على الأرض، فإن هذه الحركة لا ينبغي لها أن تخرج عن دائرة العبادة لله إذا أراد صاحبها النجاة، أما إذا أراد أن يدلي بدلوه في مربعات الفساد وسفك الدماء، فإنه بحركته هذه يدور في عكس اتجاه النجاة وعندئذ لا يلومن إلا نفسه ، قال تعالى : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ) (2) قال المفسرون.
  المراد بخلقهم للعبادة ، خلقهم على وجه صالح لأن يعبدوا الله بجعلهم ذوي اختيار وعقل واستطاعة ، والمعنى : أي ما خلقتهم إلا لأجل العبادة، ولم أرد من جميعهم إلا إياها، والغرض من خلقهم تعريضهم للثواب ، وذلك لا يحصل إلا بأداء العبادات، ولما كان الإنسان قد خلق من أجل العبادة وعلى طريق هذه العبادة توجد دوائر للإفساد وسفك الدماء هدفها عرقلة هذه العبادة، فإنه تعالى وضع أصول هذه العبادة في حصن الفطرة الحصين، ليعبر الإنسان بفطرته السليمة تلك العقبات ويصل بعبادته إلى حيث ينال الثواب، فالفطرة شعاع يهدي صاحبه إلى طريق النجاة، والفطرة حجة بذاتها على الإنسان تنطق عليه بالحق يوم يقف أمام الله تعالى يوم القيامة ويقول له : ( كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ) .
  ومخزون الفطرة الحجة بذاته جاء ذكره في أكثر من موضع من كتاب الله، منه قوله تعالى : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ) (3) قال صاحب الميزان، أي أذكر للناس ، موطنا قبل الدنيا أخذ فيه

-------------------------------
(1) سورة البقرة، الآية: 30.
(2) سورة الذاريات، الآيتان: 56 ـ 57 .
(3) سورة الأعراف، الآيتان: 172 ـ 173 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 15 _
  وهو يعذب الكافرين بآياته وإنما يفعل ما يفعل من الهداية والإنزال والانتقام والتقدير بعزته وحكمته .
  ( بحث روائي )
  في المجمع عن الكلبي ومحمد بن إسحق والربيع بن أنس : نزلت أوائل السورة إلى نيف وثمانين آية في وفد نجران ، وكانوا ستين راكباً قدموا على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وفيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم ، وفي الأربعة عشر ثلاثة نفر يؤول إليهم أمرهم : العاقب أمير القوم وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلا عن رأيه ، واسمه عبد المسيح والسيد ثمالهم وصاحب رحلهم ، واسمه الأيهم ، وأبو حارثة بن علقمة اسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم ، وكان قد شرف فيهم ودرس كتبهم ، وكانت ملوك الروم قد شرَّفوه ومولوه وبنوا له الكنائس لعلمه واجتهاده ، فقدموا على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) المدينة ودخلوا مسجده حين صلّى العصر ، عليهم ثياب الحبرات : جبب وأردية في جمال رجال بلحرث بن كعب ، يقول بعض من رآهم من أصحاب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ما رأينا وفداً مثلهم ، وقد حانت صلاتهم ، فأقبلوا يضربون بالناقوس ، وقاموا فصلوا في مسجد رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فقالت الصحابة : يا رسول الله هذا في مسجدك ؟ فقال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : دعوهم ، فصلوا إلى المشرق ، فكلم السيد والعاقب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فقال لهما رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أسلما ، قالا قد أسلمنا قبلك .
  قال : كذبتما يمنعكما من الاسلام دعائكما لله ولداً وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير ، قالا إن لم يكن ولداً لله فمن أبوه ؟ وخاصموه جميعاً في عيسى ، فقال لهما النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا ويشبه أباه ؟ قالوا بلى ، قال ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت وأن عيسى يأتيه الفناء ، قالوا بلى ، قال ألستم تعلمون ان ربنا قيم على كل شيء ويحفظه ويرزقه ؟ قالوا بلى ، قال : فهل يملك عيسى من ذلك شيئاًً ؟ قالوا لا ، قال : ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ؟ قالوا : بلى ، قال : فهل يعلم عيسى من ذلك إلا ما علم ؟ قالوا لا ، قال فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء ، وربنا لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث ، قالوا بلى ، قال : ألستم تعلمون أن عيسى حملته امه كما تحمل المرأة ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها ، ثم غذي كما

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 16 _
   يأمروا به فيعصوا بمخالفته ، فهم لم يعصوا شيئا ولم يبطلوا حقا ، وحينئذ لم تتم حجة على الذرية، فلم تتم الحجة على جميع بني آدم، وهذا معنى قوله تعالى :
( أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ) (1) .
  ولكي لا يكون للسلف وللخلف حجة على الله يوم القيامة ، أخذ سبحانه الميثاق من بني آدم جميعا ، وهذا الميثاق هو مخزون الفطرة، وحجة بذاته على الإنسان في كل حركة له على الأرض، وميثاق الفطرة هو العمود الفقري للعبادة التي خلق الله الإنسان لها ، وهو الكشاف الذي يهدي إلى الطريق المستقيم ويجنب صاحبه الإنزلاق في منجيات الإفساد وسفك الدماء التي لم ينف الله سبحانه وجودها عندما قالت الملائكة : ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء ) وإذا كانت الفطرة كشاف يهدي إلى الصراط المستقيم فإن حدود هذا الصراط وضوابطه يحددها أنبياء الله عليهم السلام، وأنبياء الله على امتداد التاريخ الإنساني بعثوا بدين الفطرة، أي بالعبادة الحق التي تنسجم مع ميثاق الفطرة وتتكاتف معه على صراط مستقيم ، فالأنبياء جاؤوا إلى نوع إنساني واحد ذات مقصد واحد ، وهذا النوع له رب واحد ، وهو الذي فطر السماوات والأرض.
  والربربية والألوهية ليست من المناصب التشريفية الوضعية، حتى يختار الإنسان منها لنفسه ما يشاء وكم يشاء وكيف يشاء بل هي مبدئية تكوينية لتدبير أمره.
  والإنسان حقيقة نوعية واحدة ، والنظام الجاري في تدبير أمره نظام واحد متصل مرتبط بعض أجزائه ببعض ، ونظام التدبير الواحد لا يقوم به إلا مدبر واحد ، لهذا فلا معنى لأن يختلف الإنسان في أمر الربوبية فيتخذ بعضهم ربا غير ما يتخذه الآخر ، أو يسلك قوم في عبادته غير ما يسلكه الآخرون، فالإنسان نوع واحد يجب أن يتخذ ربا واحدا ، هو رب بحقيقة الربوبية، وهو الله عز اسمه (2) بهذا جاء رسل الله وعلى هذا قامت دعوتهم عليهم السلام.

  2 ـ بذور الإنحرافات الكبرى :
  لم تظهر بذور الإفساد وسفك الدماء الذي ذكرته الملائكة عندما خاطبهم

-------------------------------
(1) المصدر السابق : 309 / 8 .
(2) الميزان: 322 / 14 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 17 _
  الله بأنه جاعل في الأرض خليفة إلا عندما أمر سبحانه الملائكة بالسجود لآدم.
  ففي هذا الوقت خط إبليس خط الانحراف الذي تنمو عليه بذور الافساد التي وضعها ، يقول تعالى : ( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ) (1).
  لقد ذكرت الآية أن مبدأ خلق الإنسان الطين، وفي سورة الروم التراب، وفي سورة الحجر صلصال من حمإ مسنون ، وفي سورة الرحمن صلصال كالفخار ، ولا ضير فإنها أحوال مختلفة لمادته الأصلية التي منها خلق وقد أشير في كل موضع إلى واحدة منها ، وأمر الله تعالى الملائكة، إذا سوى الإنسان بتركيب أعضائه بعضها على بعض وتتميمها صورة إنسان تام ، ونفخ الروح فيه أن يقعوا له ساجدين ، وسجد الملائكة لأمر الله ، ولم يذكر أحد منهم ، أي علاقة بين طين ونور ، فعندما أمروا بالسجود سجدوا ، ولم يشذ في هذا المشهد المهيب سوى إبليس ( قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ ) لقد علل عدم سجوده بما يدعيه من شرافة ذاته وأنه لكونه خلقه من نار خير من آدم المخلوق من طين ، ويظهر للمتدبر الفطن أن رفض إبليس للسجود ، هو في نفس الوقت رفض للخضوع للإنسان والعمل في سبيل سعادته ، وإعانته على كماله المطلوب، على خلاف ما ظهر من الملائكة ، فهو بإيبائه عن السجدة خرج من جموع الملائكة كما يفيده قوله تعالى : ( مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ) وأظهر الخصومة لنوع الإنسان والبراءة منهم ما حيوا وعاشوا .

  * ـ بذور الإستعلاء والتحقير :
  وإبليس بعد أن لعنه الله وجعله من المطرودين من رحمته ، وظف هذا الحقد وهذه الخصومة فيما بعد وذلك أنه وسوس لصنف من الناس وألقى في نفوسهم مقولة أنهم أرقى من البشر وتجري من عروقهم دماء الآلهة ، ووفقا لهذا

-------------------------------
(1) سورة ص ، الآيات : 7 ـ 76 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 18 _
  الاعتقاد ادعى هذا الصنف من البشر الألوهية وفي عهودهم اندرج الإنسان إلى مستوى أقل من مستوى البهيمة، فإبليس بهذه المقولة ذل الإنسان على أيدي الإنسان، من منطلق حقده وخصومته لآدم وأبنائه ، ولم يقذف الشيطان بفقه ( أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ ) على الجبابرة الذين ادعوا الألوهية على امتداد التاريخ فقط ، وإنما قذف بفقه ( أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ ) على الخاص والعام في الساحة الإنسانية لوقف تقدم دين الفطرة، فما من رسول أو نبي بعثه الله منذ ذرأ الله ذرية آدم إلا رفعت في وجهه لافتة تحقير الإنسان التي انبثقت من فقه ( أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ ) الذي يحمل بين طياته الخصومة لبني الإنسان، لقد واجه الخاص والعام رسل الله ( عليهم السلام ) بقول واحد على امتداد الرسالات فقالوا : ( مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ ) (1)، وقالوا : ( إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا ) (2) وقالوا : ( مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ) (3) لقد قام إبليس بتوظيف خصومته للإنسان ، بأن بث ثقافة من شأنها أن تمنع السجود لله ، وإذا كان هو أصل هذه الثقافة يوم أن رفض السجود، فإن هذه الثقافة حملها في الدنيا الإنسان ضد الإنسان بعد أن دق الشيطان وتدها في الكيان الإنساني.
  وهذا الوتد كان له أثرا بالغا في الصد عن سبيل الله، يقول تعالى : ( وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً ) (4) وتحت مظلة تحقير الإنسان واجه رسول الله أشد الخصومات من الإنسان الذي استحوذ عليه الشيطان، لقد وقف تلاميذ الشيطان أمام الهدى الذي يطالبهم بالسجود لله ، وأثاروا قضية الشيطان القديمة ولكن في ثوب يستقيم مع عصورهم ، فرفضوا النبي لأنه بشر خلقه الله من طين ، فإذا كان لا بد من نبي فينبغي أن يكون ملكا رسولا ، ملكا من نار أو من نور ، فهذا وحده الذي ينبغي أن يسمع لقوله ، وتحت مظلة التحقير هذه ارتكبت أفظع الجرائم، وارتدت الأنانية أكثر من ثوب ، وارتفع الأغيلمة السفهاء فوق الحلماء الأتقياء، وتحت مظلة السفهاء تم تصنيف البشر إلى خدم وأراذل وأشراف ، وعلى امتداد التاريخ الإنساني ، ضرب الكون سفهاء

-------------------------------
(1) سورة يس ، الآية : 24 .
(2) سورة إبراهيم ، الآية : 10 .
(3) سورة المؤمنون، الآية: 24 .
(4) سورة الإسراء ، الآية 140 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 19 _
  قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة وقوم فرعون وغيرهم ، وهلك جميع هؤلاء ولكن فقه التحقير لم يهلك معهم لأنه باقي ما بقي الشيطان .
  فالشيطان يطرحه على قوم وعند ذهاب السلف يلقيه الشيطان على الخلف وهكذا حتى تتسع الحلقات ليكون التحقير مألوفا على امتداد القافلة البشرية، تلك هي خطة الشيطان في فقه التحقير الذي يرفض الهدى ليفتح أبواب النار ( أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ) (1) .

  * ـ بذور المتاجرة بالدين :
  بعد أن لعن الله أول فاتح فتح باب معصية الله، وعصاه في أمره، طلب إبليس الإنظار إلى يوم يبعثون ، فلما أجيب إلى ما سأل ، أظهر ما هو كامن في ذاته ، وما أبداه كان في حقيقة الأمر خطته الكاملة تجاه آدم وذريته ، والخطة الشيطانية لم تترك منفذا إلا وراقبته ، وإذا كان إبليس قد استثمر قوله : ( أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ ) في وضع فقه التحقير الذي أنتج نوعا من البشر يعمل ضد البشر، فإنه في مكان آخر عمل من أجل عرقلة طريق العبادة التي من أجلها خلق الله الجن والإنس ، قال تعالى : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) (2).
  قال المفسرون: إن الغرض العبادة، بمعنى كونهم عابدين لله ، لا كونه معبودا ، فقد قال ، ( لِيَعْبُدُونِ ) ولم يقل : لأعبد أو لأكون معبودا لهم ... فالله هو المعبود الحق، وهو سبحانه قد بين للجن والإنس كيف يعبدوه ، فالعبادة هي أن تعبد الله كما يريد الله، وإبليس أدلى بدلوه في اتجاهين ... الاتجاه الأول أنه وسوس للإنسان بعيدا عن المعنى المقصود ( لِيَعْبُدُونِ ) ونصب خيمته في مربع ، لأكون معبودا لهم ، ووفقا لتصورات هذا المربع تم عبادة الأصنام والطاغوت على امتداد المسيرة البشرية، والإتجاه الثاني، وسوس للإنسان ليعرقل المسيرة نحو المعنى المقصود لقوله تعالى : ( لِيَعْبُدُونِ ) فالله تعالى بين لعباده كيفية عبادته على لسان رسله (عليهم السلام) ، ولما كانت دعوة الرسل على صراط مستقيم ، فإن إبليس نصب له خيمة على هذا الصراط مهمتها الصد عن سبيل الله وعرقلة

-------------------------------
(1) سورة الكهف، الآية: 50 .
(2) سورة الذاريات، الآية: 56 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 20 _
  الطريق أمام العبادة الحقة، وتلاميذ إبليس على هذا الصراط هم المنافقون على امتداد التاريخ الإنساني ، فالمنافق يسير على الصراط المستقيم بفقه الشعار وليس بفقه الشعور، وفقه الشعار لا يغني عنه من الله شيئا ولا يحق له أي فوز في موطئ قدم فوق الصراط المستقيم عند العرض على الله يوم القيامة، وعرقلة الطريق على الصراط المستقيم وفقا للخطة الشيطانية جاء في قول الله تعالى : ( قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ) (1) قال المفسرون: أي لأجلسن لأجلهم على صراطك المستقيم وسبيلك السوي الذي يوصلهم إليك وينتهي بهم إلى سعادتهم ، لما أن الجميع سائرون إليك سالكون لا محالة مستقيم صراطك ، فالقعود على الصراط المستقيم كناية عن التزامه والترصد لعابريه ليخرجهم منه ، وقوله : ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم ... ) الآية .
  بيان لما يصنعه بهم ، وقد كمن لهم قاعدا على الصراط المستقيم ، وهو أنه يأتيهم من كل جانب من جوانبهم الأربعة ... والمراد بما بين أيديهم: ما يستقبلهم من الحوادث أيام حياتهم ، مما يتعلق به الآمال والأماني من الأمور التي تهواه النفوس وتستلذه الطباع، ومما يكرهه الإنسان ويخاف نزوله به ، كالفقر يخاف منه لو أنفق المال في سبيل الله، أو ذم الناس ولومهم لو ورد سبيلا من سبل الخير والثواب ، والمراد بخلفهم : ناحية الأولاد والأعقاب ، فللإنسان فيمن يخلفه بعده من الأولاد.
  أمال وأماني ومخاوف ومكاره ، فإنه يخيل إليه ، أنه يبقى ببقائهم ، فيجمع المال من حلاله وحرامه لأجلهم ، ويعد لهم ما استطاع من قوة فيهلك نفسه في سبيل حياتهم والمراد باليمين : وهو الجانب القوي الميمون من الإنسان ناحية سعادتهم وهو الدين، وإتيانه من جانب اليمين أن يزين لهم المبالغة في بعض الأمور الدينية، والتكلف بما لم يأمرهم به الله، وهو الذي يسميه الله تعالى بإتباع خطوات الشيطان، والمراد بالشمال : خلاف اليمين، وإتيانه منه أن يزين لهم الفحشاء والمنكر ويدعوهم إلى ارتكاب المعاصي واقتراف الذنوب واتباع الأهواء (2) .

-------------------------------
(1) سورة الأعراف ، الآيتان : 16 ـ 17 .
(2) الميزان : 31 / 8 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 21 _
  فكل جهة من هذه الجهات لها في خيام النفاق أساتذة وعباقرة ، مهمتهم تمييع القضايا وترقيع الحقائق يرقع الباطل، أو تزيين الباطل بلافتات الحق، ليصلوا بالجميع إلى محطة لا يكون فيها الدين إلا اسما ولا يكون كتابه إلا رسما ، ووفقا لهذا لا يتحقق المقصود من قوله تعالى : ( لِيَعْبُدُونِ )وفقه الشعار الذي يعمل به أولياء الشيطان ، أول من عمل به الشيطان نفسه ، ثم ألقاه على عقولهم الصدئة في خيمة النفاق، ليعملوا به ضد البشرية ولكن بأسلوب آخر ، واستعمال كالشيطان لفقه الشعار، جاء في قوله تعالى : ( فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ) (1) قال المفسرون: المقاسمة، المبالغة في القسم أي حلف لهما وأغلظ في حلفه أنه لهما لمن الناصحين، وروي عن أبي عبد الله قال لما خرج آدم من الجنة نزل عليه جبرائيل ، فقال : يا آدم أليس خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه .
  وأسجد لك ملائكته ، وزوجك حواء أمته، وأسكنك الجنة وأباحها لك ، ونهاك مشافهة أن تأكل من هذه الشجرة، فأكلت منها وعصيت الله ؟ فقال آدم: يا جبرائيل إن إبليس حلف لي بالله أنه لي ناصح ، فما ظننت أن أحدا من خلق الله يحلف بالله كذبا (2) وقال في المجمع: أن الله تعالى خلق آدم حجة في أرضه.
  ولم يخلقه للجنة ، وكانت المعصية من آدم في الجنة لا في الأرض، وعصمته يجب أن تكون في الأرض لتتم مقادير أمر الله عز وجل ، فلما أهبط إلى الأرض وجعل حجة وخليفة عصم بقوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) (3)، والشيطان استعمل فقه الرمز في البداية ، ولكن الله عصم آدم في النهاية.
  ثم قام الشيطان بتوسيع هذا الفقه داخل خيمة الانحراف ليتزود منه كل من لم يدخل الإيمان قلبه ، لتزل أقدامهم إلى مهابط المغضوب عليهم أو الضالين، ومن الذين عملوا بفقه الشعار على الصراط المستقيم ولم تغني عنهم أعمالهم

-------------------------------
(1) سورة الأعراف، الآيتان: 20 ـ 21 .
(2) الميزان : 61 / 8 .
(3) سورة آل عمران ، الآية: 33 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 22 _
  شيئا ، زوجتا أنبياء الله نوح ولوط عليهما السلام، لقد تزودت كل منهما بزاد من خيمة النفاق، فكان الزاد عليهما وبال وحسرة ، ومن نفس الخيمة تزود تجار الأديان في بني إسرائيل الذين حرفوا الكلم عن مواضعه ، ولحق بهم إخوانهم في عصر البعثة الخاتمة، الذين فضحهم القرآن في أكثر من موضع ، وإذا كان تلاميذ الشيطان قد وضعوا العراقيل أمام العبادة الحقة ، إلا أن هذه العبادة ظلت راسخة في نفوس المؤمنين بها ، وفي كل عصر تنهار الأصنام وتسقط الطواغيت، في الوقت الذي تسير فيه طلائع النهار رافعة لأعلام الفطرة التي فيها خلاص الإنسان.

* ـ بذور المتاجرة بالشهوات
  بعد أن دق الشيطان وتده في نفوس الجبابرة وأوهمهم بأن في عروقهم تجري دماء الآلهة ، انطلقوا ليملأوا الأرض ظلما وقاست البشرية من الفراعنة والقياصرة والأكاسرة ، وما من عصر من العصور إلا وعليه بصمة من بصمات هؤلاء رغم رحيلهم ، وذلك لأن إبليس يوظف الإنحراف في كل عصر بعد أن يضع عليه ملابس جديدة ، وما حدث مع الجبابرة وفقا لأطروحة ( أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ ) يحدث مع جبابرة اللسان في عالم النفاق، فشذوذ النفاق لا يموت ، ويوظف وفقا للتطور البشري ، والانحراف وبشذوذ لا يموتان لأن الشيطان جعل لهما ركوبة تستقيم مع كل عصر ، وهذه الركوبة صالحة للخاص والعام ، للأمير وللخفير ، للشريف وللحقير ، والركوبة التي اعتمدها الشيطان تخضع لفقه التزيين والإغواء ، فهذا الفقه وحده يحافظ على الشذوذ وينقله من عصر إلى عصر تحت حماية فقه الاحتناك.
  وفقه التزيين والإغواء جاء في قوله : ( قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) (1) وفقه الاحتناك جاء في قوله : ( قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً ) (2) والفقه الأول يسير في حراسة الفقه الثاني، وفي تزيين الشيطان وإغوائه الناس قال المفسرون : قوله : ( لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ ) أي لأزينن لهم الباطل ، أو

-------------------------------
(1) سورة الحجر، الآية: 39 .
(2) سورة الإسراء ، الآية : 62 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 23 _
  لأزينن لهم المعاصي، والمراد بالتزين لهم في الأرض، غرورهم في هذه الحياة الدنيا وهو السبب القريب للإغواء (1) فالركوبة مزخرفة وتعبير من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل وهي تحمل زخارف كل عصر. وفي كل عصر يجري الذين اعتقدوا بأن في عروقهم تجري دماء الآلهة وغيرهم وراء الشهوات التي تستقيم مع كل منهم ، وكل فرد فيهم يتحرك نحو شهوته بمقدار الغرس الذي غرسه الشيطان بداخله ( وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا * وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ ) (2) قال المفسرون :
  لأضلنهم بالاشتغال بعبادة غير الله باقتراف المعاصي ولأغرنهم بالاشتغال بالآمال والأماني التي تصرفهم عن الاشتغال بواجب شأنهم وما يهمهم من أمرهم.
  ولآمرنهم بشق آذان الأنعام وتحريم ما أحل الله، ولآمرنهم بتغيير خلق الله وينطبق على مثل الإخصاء وأنواع المثلة واللواط والسحاق ، ولير من البعيد أن يكون المراد بتغيير خلق الله، الخروج عن حكم الفطرة وترك الدين الحنيف (3) فهذه الأشياء غرس الشيطان، وكل من اتخذ الشيطان له وليا ينطلق بغرسه ليصيب به ما يشتهيه في عالم الزينة والإغواء .
  وتسير قافلة الزخرف والشهوات محملة بانحرافاتها وشهواتها بضجيج أو بلا ضجيج في مجتمعات هيمن عليها فقه الاحتناك، والاحتناك : الاقتطاع من الأصل، يقال : احتنك فلان من مال أو علم إذا استقصاه فأخذه كله ، واحتنك الجراد الزرع إذا أكله كله ، وحنك الدابة بحبلها إذا جعل في حنكها الأسفل حبلا يقودها به ، والمعنى الأخير هو الأصل في الباب، والاحتناك : الإلجام، وقال المفسرون : قوله ( لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً ) أي لألجمن ذريته إلا قليلا .
  فأتسلط عليهم تسلط راكب الدابة الملجم لها عليها ، يطيعونني فيما آمرهم، ويتوجهون إلى حيث أشير لهم من غير أي عصيان وجماح ... إنه فقه تلجيم العقول وتكميم الأفواه وتعصيب العيون فقه لا يخدم إلا الغوغاء وتجار الشهوات لنشر الانحراف والشذوذ تحت لافتة براقة تنادي بالديمقراطية وحرية الإنسان فيما

-------------------------------
(1) الميزان 164 / 12 .
(2) سورة النساء ، الآيتان : 118 ـ 119 .
(3) الميزان : 84 / 85 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 24 _
  يختار من مزابل الشيطان، إنه فقه يحمي الهجوم بالانحراف لتدمير الجنس البشري بأيدي الجنس البشري .

3 ـ الفقه الشيطاني في مهب الريح :
  لقد استثنى الشيطان عباد الله المخلصين من عموم الاغراء والمخلصون ـ بفتح اللام ـ هم الذين أخلصهم الله لنفسه بعدما أخلصوا لله ، فليس لغيره سبحانه فيهم شركة ، ولا في قلوبهم محل فلا يشتغلون بغيره تعالى ، والمتدبر فيما عزم الشيطان عليه لتدمير البشر، يجد أن أسلحته وإن كانت تبدو فتاكة إلا أنها أسلحة محاصرة ولا تصيب إلا من دخل في مرماها أو حام حولها ، وإذا كان الله قد أعطى إبليس سلاح ، فإنه تعالى أعطى للمؤمن السلاح الأقوى، وعلى سبيل المثال، فإن الله تعالى أيد إبليس على الإنسان بالإنظار إلى يوم الوقت المعلوم.
  وأيد الإنسان عليه بالملائكة الباقين ببقاء الدنيا، وأيد إبليس بالتمكين بتزيين الباطل ، وأيد الإنسان بأن هداه إلى الحق، وزين الإيمان في قلبه وفطره على التوحيد، وعرفه الفجور والتقوى ، وجعل له نورا يمشي به في الناس إن آمن بربه إلى غير ذلك من الأيادي ، وبعث إليه الرسل والأنبياء بهداية التشريع الذي يحمي الله تعالى به عبده الصالح المجتنب عما يسخطه ويكرهه عن مضار الدنيا ويجنبه عن مضلات الفتن، ويلطف به ألطافا ظاهرة أو خفية حتى يخرج من الدنيا سالما دينه راضيا عنه ربه .
  وخطوات الشيطان كلها تصب في آخر الزمان في سلة المسيح الدجال بمعنى أن كل انحراف منذ ذرأ الله ذرية آدم وإن بدأ في أول الطريق ضئيلا إلا أن الشيطان يتعهده على امتداد الطريق بإلقائه على المسيرة البشرية وفقا لتطورها .
  ليكون في النهاية له صفة القانون، وتحت حماية الجماهير لهذا القانون يأتي المسيح الدجال رمزا لقاعدة لا تعرف إلا الانحراف والشذوذ ، وكما في روايات عديدة أن المسيح الدجال هو سر إبليس وحامل رايته آخر الزمان ، وإذا كان الدجال ثمرة لطريق الانحراف، فإن المهدي المنتظر الذي أخبر عنه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هو عنوان الفطرة النقية وتحت رايته سينتظم الذين ساروا على الصراط المستقيم ولم تعرقل خيمة الانحراف والنفاق خطواتهم ، وبين الحق والباطل ستدور معارك آخر الزمان، ومعسكر الشيطان مهزوم مهزوم ، ولقد هزم

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 25 _
  في كل عصر ، هزم يوم أن قتل ابن آدم الأول أخيه بحجر وسيهزم بعد أن قتل ابن آدم أخيه بقنبلة ذرية ، إن هزيمة الباطل في كل عصر هي عنوان للحق الأصيل في الوجود ودعوة للسائرين في طريق الانحراف كي يصححوا مسارهم ، ويعلموا أن الباطل طارئ لا أصالة فيه ، وأنه مطارد من الله ، ولا بقاء لشئ يطارده الله.
  ونحن على امتداد هذا الكتاب سنسرد الأحداث كما وقعت ليتبين القارئ بنفسه موطن الانحراف وموطن الدعوة الحق ، ثم مصير كل منهما ، وسيجد أن الانحراف ضربه الله بالكون كله ، ضربه يوما بالطوفان ، ويوما بالريح العقيم.
  ويوما بالصيحة ويوما آخر بالحجارة ، وعلى امتداد هذه الأيام وهذه الأهوال نجا الله الذين آمنوا من ضربات الكون وأحياهم حياة طيبة ، إن القارئ على امتداد صفحات هذا الكتاب سيكتشف أماكن جراح ما زالت تنفجر منها الدماء.
  وسيحيط بجوانب هذه الجرائم التي دخلت بمعسكرات الانحراف إلى عقاب لم يأخذ صورة الطوفان أو الريح أو الصيحة ، وإنما أخذ صور أخرى حيث ضنك المعيشة وزخارف الفتن التي لا تحقق لمن تلبس بها أي أمن.
  والفقه الشيطاني هزمه الله في كل عصر من العصور، وكانت هزيمته عنوانا لانتصار الحق، ودعوة للسائرين في الظلام كي يخرجوا من خيام ضربت عليها الهزيمة في الحياة الدنيا ولها في الآخرة عذاب أليم، إلى رحاب الكون الذي يتنفس بمخزون الفطرة ويدور في اتجاه واحد نحو غاية واحدة ، إن فقه الشيطان الذي قتل هابيل في أول الزمان بحجر ، حمل شذوذه وانحرافه في سفك الدماء، ووقف في الحاضر وبيده قنبلة ذرية ليقتل بها مليون هابيل ، هذا الفقه المدجج بالسلاح والعتاد مكتوب عليه الفناء لأنه باطل والباطل طارئ لا أصالة فيه .
  والباطل يطارده الله ، ولا بقاء لشئ يطارده الله ، ونحن على امتداد هذا الكتاب سنقص قصة الفطرة في مواجهة الباطل، وسنرى جراح ما زالت تتفجر منها الدماء ، وسنحيط بجوانب هذه الجرائم لنعلم من المسؤول عن كل هذا .