كما في قوله تعالى : ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ ) ( الاعراف 175 ـ 176 ) .
  وتصور هذه الآيات رجلا أتاه الله العلم بالآيات الموجبة للتصديق بالحق ، وأن هذه الآيات أحاطت بقلبه ونفسه كما يحيط الاهاب أى الجلد بالجسم ولكنه ترك الاخذ بالهدى استجابة لداعى الشيطان، وصار من الضالين الذين أغواهم إبليس اللعين فكان مثله كمثل الكلب يلهث دائما ، إن ترك يلهث ، وإن حمل عليه يلهث ، فكل كلمة في هذة الآيات تؤدى معنى لا تعنى عنه كلمة أخرى مهما حاول الانسان ذلك ، والعبارات صادقة ومطابقة للحال في تصوريها.
  وأما المنهج العلمى من الاعجاز فهو موضوع هذا الكتاب بالذات وسوف فعرض له مجموعة من الآيات التى تبين كيف حفل القرآن بأصول العلوم المتصلة بنشأة الكون وخلق الانسان والكائنات كلها ، وكيف أنه طلب منا التفكر والتدبر في أسرارها وحكمتها ، القرآن والعلم : فليس غريبا ولا عجيبا أن يأتى القرآن وهو المعجزة الكبرى بكل الموافقات والمطابقات لكل ما وصلت إليه العلوم الحديثة من نتائج ووصل إليها العلماء بعد مئات السنين من الدراسة والبحث والتأمل لانه كلام الله العليم بالسر وأخفى في ملكه العظيم وإن كثيرا من القضايا الاجتماعية والسياسية والحربية والتشريعية

القرآن وإعجازه العلمي _ 27 _
  والاخلاقية وغيرها جاء بها القرآن قبل أن تكون شيئا مذكورا في معارف الانسان وقت نزول القرآن ثم ظهرت معالمها واضحة بعد موت النبى صلى الله عليه وسلم بزمن طويل ، بل أن في القرآن ما هو أكثر من الاعجاز العلمى ألا وهو ما أخبر به القرآن في عدة آيات بأمور لم يكن أحد يعلم أسرارها الغيبية مثل ما حدث في الملاء الاعلى قبل ظهور الانسان عندما خلق الله آدم عليه السلام وما كان من سجود الملائكة له وهبوطه إلى الارض وخلافته فيها ، فهل ذلك كله من علم محمد رسول الله حتى يذكره لنا مفصلا؟ كلا أنه كتاب الله الذى يتحدث عن علم الله المحيط يكل شئ.
  المصحف كيف توحد وانتشر: إن كلام الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم سورا أو آيات متفرقة في في مدى ثلاث وعشرين سنة والمنقول تواترا صحيحا والمتعبد به تلاوة وعملا والمجموع كله بين دفتى المصاحف من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس ، كان في أول الامر وعلى عهد النبى مكتوبا على رقاع متفرقة من الجلد أو العظم أو جريد النخل أو قطع الحجارة كما كان محفوظا في صدور الصحابة الذين حفظوه عن ظهر قلب ، فلما قامت حروب الردة في خلافة أبى بكر الصديق وقتل فيها أكثر الصحابة المجيدين لحفظ القرآن ، هال هذا الامر عمر بن الخطاب وأشار على أبى بكر بجمع الرقاع ونسخها ، فستجاب أبوبكر لذلك وأمر زيدا بن ثابت وهو من أبرز كتاب الوحى أن يقوم بجمع القرآن من الرقاع المكتوب عليها ومن صدور الحفاظ فنسخه وحفظت هذه الاصول المنسوخة عند أبى بكر فلما مات حفظتها السيدة حفصة إبنة عمر عندها ، وفى عهد سيدنا عثمان بن عفان ظهرت بعض اختلافات في القراء‌ات بين المسلمين فرأى عثمان منعا لهذه الاختلافات أن

القرآن وإعجازه العلمي _ 28 _
  يدون مصحفا واحدا مأخوذا من الاصول المحفوظة عند حفصة وأن ينسخ منها عدة مصاحف أعدها وأرسلها إلى الامصار الاسلامية ثم أحرق جميع الرقاع الاخرى كما أعدم كل ما سوى المصحف الموحد حتى لا يفتح باب الزيادة أو النقص أو التحريف في كتاب الله وخاصة بعد اختلاط العرب بأهالى البلاد غير العربية التى فتحوها وبذلك تحقق قول الله تعالى : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ).
  وسوف يبقى القرآن إلى ما شاء الله المعجزة الآلهية الخالدة وسوف يبقى كلام الله عزيزا بقدسيته غنيا بنفسه متلالا بآياته التى كلما مضى عليها الزمن إزدادت إشراقا وبهاء لانها أنوار آلهية وضاء‌ة وطاقة علوية خلاقة وقوة روحية وثابة تدفع كل من يؤمن بها إلى العمل والجهاد والرقى حسا ومعنى ، ولا يغيب عن البال أن كتاب الله حليف العلم والعلماء ، وعدو الجهل والجهلاء وداعية الهدى والاهتداء ثم هو كتاب الله الذى لا يرضى مطلقا عن الجمود والركود والاستخذاء وما كان في أى حال أو في أى عهد من عهود الزمان متعارضا أو متناقضا مع أصول العلم ومناهج الحكمة ونواميس الكون بل إنه كلما اكتشف العلماء جديدا من كليات العلوم وأصولها أو أى شئ من كنوز الحكمة وجدوا لها في كتاب الله مواضع وإشارات تنم عليها وتدل عليها.
  إن هذا القرآن هو كلام الله الحق وقد وعد المسلمين فيه بالتمكن في الارض والاستخلاف فيها بقوله تعالى : ( تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ * وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) .
  فماذا جرى ونحن المسلمون المخاطبون بهذه الآيات وقد تخطانا هذا الوعد بأن يستخلفنا الله في الارض ؟ أما آن لنا معاشر.

القرآن وإعجازه العلمي _ 29_
  لمسلمين ونحن في كثرة من العدد ووفرة من الموارد أن نتحد ونتعاون ونستعيد أمجادنا بأن نتعلم كل ما هيأ الله في الارض من علم ، وما يلهم به من عمل وصناعة ورقى مادى واختراع لكي نعد أنفسنا لحياتنا العصرية التى لا تتفوق فيها الامم إلا بالايمان وبالعلم وتطبيقاته ، ولدينا من الحوافز القوية من كتاب الله وسنة رسوله ما يجعلنا خير أمة أخرجت الناس.
  وفى ختام هذا الباب يطيب لى أن أسجل ما سبق لى أن كتبته ونشرته في كتابى ( مع الله ) في باب كلام الله وهو القرآن ما يأتى بأسلوب الشعر الحر: كلام الله يتلوه أهل الذكر على مكث فيحدون هديه أجمل ما يكون.
  وهم يرددون تلاوته آناء اليل وأطراف النهار ما استطاعوا ولا يسأمون ، وكل الذين يرتلونه بفهم يحسون قدسيته فتقشعر منهم الجلود ثم تلين.
  وكل الذين يتدبرون آياته يلهمون من أسراره وأهدافه أكثر وأمتنع مما يعلمون.
  وكل الذين يتفرغون لدراسته تنكشف لهم كنوز قيمة من العلوم والفنون وهكذا كل من يقرأ القرآن بفهم يجد فيه ينابيع من التقى تروى قلوب المؤمين.
  فتعلق ياأخى بحبل القرآن وأحرص على تلاوته وفهمه ولا تكن عنه من الغافلين لقد أنزل الله كتابه وقال له : كن لقرائك الابرار شفاء لما في الصدور.
  وكن نورا يهتدى به من يتعلمه ويحفظه ويتلوه خاشعا في مساء وبكور ، وكن أيها القن آن مذكرا بالغيب وبحقيقة الحساب يوم البعث والنشور ، وكن أيها القرآن معلما ومرشدا للناس بأن الآخرة هى دار القرار والمصير وأن هذه الحياة الدنيا متاع قليل، فلا يلههم الامل عن مآلهم بالغفلة والغرور ، وأن الله سبحانه حسيب رقيب لا يغفل عن صغير من عملهم أو كبير ، وهكذا القرآن على منوال الهدى ينسج الوعظ وعلى محور التقوى يدور.

القرآن وإعجازه العلمي _ 30 _
  والقرآن معجزة الله الباقية من المعجزات التى جاء‌ت وأنتهى أمرها بزمانها،ومعجزة القرآن جاء‌ت كاملة خالدة لندوم إلى ما شاء الله تعالى لدوامها ، وكل الكتب السماوية السابقة حرفت ولم يبق غير الاطلال من جلال أصولها ،أما القرآن الكريم فهو باق على الدهر لا يتغير وآياته حافظة لرسمها ونصوصها ، أليس في ذلك ما يقنع أهل الشك بالدليل القاطع على صدق آياته وإعجازها ، وكم من جاجدين حاقدين يتمنون لو يعثرون على تناقص أو نقص في كمالها ، وقد مضت القرون وما وجد المنقبون في آيات القرآن غير الحق في طياتها.

الباب الثاني : القرآن روح الدعوة الاسلامية ومحور ثقافتها قد جاء‌كم من الله نور وكتاب مبين.
  إن القرآن الكريم منذ نزل على محمد صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذاو هو ركيزة التوحيد الخالص وكنز العقائد الايمانية ومصدر الاحكام الشرعية ودليل الحقائق الكونية كما أنه الملهم بالفتوحات الالهية والباعث على الجهاد والاجتهاد في العبادة والطاعات ، والحافز للعقول إلى التفكر في خلق السماوات والارض وغير ذلك من المجالات المتعلقة بالحسيات والمعنويات ، فهو بحق مدار لكل حركات فكرية أو نهضات إصلاحية أو أعمال عمرانية وتقدمية على مدى الزمن.
  الله هو الخلاق العظيم خلق الله الاكوان كلها من العدم ، وأبدع صنعها وأتقن كل شئ من ظواهرها وخوافيها وجلائها ودقائقها ، ولا تخفى عليه ذرة من مقوماتها وسننها ونواميسها فإذا ذكر سبحانه عنها شيئا في قرآنه فهو قول العليم الخبير الذى لا يعزب عن علمه شئ منها في الارض ولا في السماء ، والقرآن بهذه المزايا الربانية هو المرجع الجامع لكل علم نافع أو نهج قويم يوصل إلى سعادة الدارين ، والرسول صلوات الله وسلامه عليه يقول في حديث له :( من ابتغى الهدى في غير القرآن أضله الله ).
  ولا يتاح للبشرية إن تنتفع بالقرآن وتهتدى بنوره إلا إذا فهمت نصوصه لفظا ومعنى عن طريق تفسير واضح قائم على حقائقه المؤكدة التى تبين مقاصده ومراميه بغير تأويل له يراد به غايات دنيوية أو منافع ذاتية ، ولهذا عنى المسلمون بتفسير القرآن واهتموا بفهم حقائقه اهتماما عظيما على مدى العصور ، ولابد لنا قبل .

القرآن وإعجازه العلمي _33 _
  الكلام عن موضوع الاعجاز العلمى للقرآن أن نمهد بنبذة موجزة عن التفسير ووسائله وأهدافه اتجاهاته المختلفة المنازع ، القرآن كتاب الله المبين يقول الله تبارك وتعالى في وصف القرآن بأنه كتاب مبين في عدة آيات منها : ( الر* تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ) ( يوسف آية ـ 1 ) ( قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ) ( مائدة آية ـ 15 ) ( وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ ) ( النور آية ـ 34 ) ( وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ )( النحل آية ـ 44 ).
  وهذه الآيات ومثيلاتها تبين بكل وضوح أن القرآن بين ولا يحتاج إلى تبيين وقد نزل على العرب بلغتهم التى يعرفون ألفاظها وأساليبها وبلاغتها ، وإذا كان في القرآن شئ مجمل أو شئ غامض المعنى فكان الرسول صلوات الله وسلامه عليه يفسره، هذا مع العلم بأن كثيرا من الآيات القرآنية يفسر بعضه بعضا.
  تفسير القرآن /التفسير علم من العلوم الدينية التى يقصد به إيضاح القرآن وتبيانه للكشف عن مراميه وأسراره ، وقد وضع المفسرون له قديما وحديثا المؤلفات الكثيرة للشرح ألفاظه بما يتفق مع سياق المنهج القرآنى وإظهار المعانى التى وراء الالفاظ سواء في ذلك المعانى الحقيقية أو المعانى المجازية، وفى ذلك يقول الله تعالى في : ( سورة الفرقان آية ـ 33 ) : ( وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ).

القرآن وإعجازه العلمي _ 34 _
  وكان النبى صلوات الله وسلامه عليه أول مفسرا للقرآن لاصحابه فيما يتعلق بالآيات التى تحتاج إلى تفصيل لما أجمل فيها من أحكام أو إيضاح لما غمض فيها من معان دقيقة ، ومع مرور الزمن صار التفسير علما ضروريا لفهم كتاب الله فهما صحيحا ، وهو علم قائم ومدون منذ عهد التابعين للصحابة ، ولا ريب أن القرآن مقصود بذاته لكل مسلم لوجوب تلاوته والتعبد به والاستماع إليه والتفقه فيه ما استطاع إلى ذلك سبيلا ، مع الاجتهاد في فهم الروابط التى تربط معانى القرآن بما ورد في السنة النبوية من أحاديث توضحها.
  وقد تجمعت من مجهودات المفسرين للقرآن قديما وحديثا حصيلة ضخمة من شروح قيمة تدعو للاعجاب التقدير لهؤلاء العلماء الاجلاء الذين خدموا كتاب الله بما لم يخدم به أى كتاب عرفه الناس في هذه الدنيا ، فقد خدموه ظبطا وشرحا واستنباطا وتقديرا وإعزازا وإكبارا على مدى أربعة عشر قرنا سوف تتلوها إن شاء الله قرون أخرى حتى يرث الله الارض ومن عليها ، ومع كل هذه لدراسات والتفسيرات والشروح المستفيضة للقرآن فإنه ما يزال كنزا لا ينفد من العلوم الربانية المنطوية في ثناياه ، والتى سوف تظهر رويدا رويدا مع التعمق في بحاره والغوص وراء جواهره ولآلئة المكتونة فيه ، ويقول الله تعالى في : ( سورة فصلت آية ـ 53 ) : ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ).
 مراحل التفسير ومناهجه ، يمكن القول بأن علم التفسير مر بعدة مراحل كان لكل مرحلة منهاجها العلمى الموافق لاحوال الزمان والمكان للانسان وعلى مبلغ تفتح القلوب واستنارة.

القرآن وإعجازه العلمي _ 35 _
  العقول التى استجابت لدولة العلم في تطورها واتساع آفاقها وازدهار ثمارها، وهذه المراحل هى:
  أولا: مرحلة التفسير المأثور عن النبى صلى الله عليه وسلم.
  ثانيا : مرحلة التفسير المأثور عن أقوال الصحابة وتلاميذهم من التابعين.
  ثالثا : مرحلة التفسير المعتمد على اللغة لانها أداة التعبير.
  رابعا : مرحلة التفسير المعتمد على رأى التابعين وتأويلاتهم واجتهاداتهم.
  خامسا : مرحلة التفسير العصرى لبعض الآيات ذات المفاهيم العلمية أو التشريعية.
  في ضوء العلوم الحديثة التى اتسع مجال أبحاثها وما زال يتسع يوما بعد يوم.
  وإليك توضيحا لكل مرحلة منها : التفسير المأثور عن النبى صلى الله عليه وسلم : كان النبى صلوات الله وسلامه عليه هو المفسر الاول للقرآن وكان تفسيره شاملا لكل ما جاء فيه من عبادات ومعاملات ومعتقدات وكل ما يتعلق بالمجتمع الانسانى ، ابتداء من الاسرة إلى الجماعة إلى الامة وعلاقة الحاكم بالمحكوم وعلاقة المسلمين بغيرهم من الامم في الحرب والسلم ، وقد وردت عن النبى أحاديث صحيحة توضح وتفسر ما جاء في القرآن زيادة في الايضاح والبيان وهى الاحايث المتواترة بالسند الصحيح ولذلك كانت السنة النبوية خير مفسر للقرآن الكريم.
  التفسير المأثور عن أقوال الصحابة وتلاميذهم والتابعين لهم : يعتمد هذا التفسير أولا وقبل كل شئ على ما سمعه الصحابة من مفسره الاول وهو النبى صلى الله عليه وسلم ، وقد حفظوا هذا التفسير ووعوه لانهم كانوا.

القرآن وإعجازه العلمي _ 36 _
  أول من سمع القرآن عقب نزوله والنبى يتلوه عليهم ، وكانوا أول من علموا أسباب نزول كل آية ومناسباتها ، وكان ذلك خير معين لهم على فهم المقصود من كل آية فهما صحيحا ، وكانوا يعنون كل العناية بتفسير كل ما يتعلق بالامور الدينية من حيث العقائد والعبادات وأركان الاسلام وأصوله وأحكامه لان هذا في نظرهم هو جوهر الدين ، وما كانوا يشغلون عقولهم بالحقائق الكونية وأسرارها ونواميسها ولا يفكرون في أمرها إلى بقدر ما تدل عليه في نظرهم من قدرة الله تعالى وعظمته ، وما كانوا يهتمون بالقصص القرآنى ولا الخوض في شئ من أخباره إلا بقدر ما أتى به القرآن ولا يتعدون نطاقه ولا يلتفتون إلى ما يقوله القصاص الذين زادوا فيه كلاما دخيلا عليه من الاسرائيليات وخلافها.
  التفسير القائم على اللغة ومعاجمها اللغوية: إن معرفة اللغة العربية هى بلا شك الاساس في فهم القرآن لان الالفاظ القرآنية في ذاتها هى الوعاء له وهى أداة التعبير عن معانى القرآن وأهدافه ولا يمكن الاستغناء عن معرفتها ، ومعلوم أن القبائل العربية وقت نزول القرآن لم تكن موحدة اللغة أو اللهجة بل كانت لكل قبيلة ألفاظها وتعابيرها الخاصة بها في إطار اللغة العربية العام ، وقد امتازت قبيلة قريش بأنها وسط بين هذه اللغات واللهجات ولذا أنزل القرآن بها لانها أقومها لسانا ، وأعذبها بيانا ، ولذلك كانت لغة القرآن هى أصح وأدق الاصول اللغوية والبيانية وصارت هى المقياس والميزان لكل ما يراد الاستشهاد على صحة عربيته.
  وقد اتجهت عناية المسلمين وغيرهم من المستشرقين إلى دراسة مفردات القرآن الكريم وشرحها ووضع المعاجم والفهارس لالفاظه الغريب منها وغير الغريب للدلالة على معانيها لان القرآن أتى بألفاظ جديدة لم تكن معروفة ولا مألوفة قبل.

القرآن وإعجازه العلمي _ 37 _
  الاسلام ولها مدلولات خاصة مثل كلمات الشرك والنفاق والصور والحشر والاعراف والصراط والعرش والكرسى وغيرها مما لا عهد للعرب بها ، وقد وضح النبى معانيها بجلاء للصحابة وغيرهم ، وقد استعمل القرآن ألفاظا من لغات أخرى مثل كلمات الجبت وحصب وأرائك وهى ألفاظ حبشية ، وكلمات السجل والسرادق وزنجبيل وهى ألفاظ معربة من الفارسية، وكلمات قسط والرقيم والدراهم وفردوس وهى كلمات رومية الاصل ، وكلمات صلوات ولينا وفوم وهى من أصل عبرى ، وأمثال هذه الكلمات الغربية أصلا والدخيلة على اللغة العربية لابد لها من معاجم تبين المقصود منها ، هذا مع ملاحظة أن أمما كثيرة غير عربية دخلت الاسلام وهى لا تعرف العربية كما أن عامة المسلمين الذين لم ينالوا قسطا كافيا من الثقافة بحاجة شديدة إلى فهم معانى الالفاظ القرآنية من المعاجم اللغوية التى هى خير وسيلة لشرحها.
  مرحلة التفسير بالرأى
  وهو التفسير القائم على اجتهاد التابعين للصحابة ومن جاء بعدهم من العلماء الاتقياء ذوى الفطن وهم الذين اتخذوا من سعة علومهم باللغة وإلمامهم بأصول الشريعة وفهمهم لروح الدعوة الاسلامية اتخذوا من ذلك وسيلة للتمحيص والتخريج واستنباط آراء وشروح مفصلة لقضايا وردت في القرآن بطريق الاشارة إليها أو الاجمال لها ، وقد فتح ذلك باب التفكر والتدبر في آيات الله وعدم الاقتصار على ظواهرها وعلى آراء السلف فقط في تفسيرها بل حاولوا الاجتهاد والتعمق في فهمها واستخراج المعانى الدقيقة المنطوية عليها بحيث لا يخالف هذا الاجتهاد روح الشريعة وأهدافها.
  وكان أول من استعمل رأية في التفسير الامام بن جرير الطبرى وذلك بعد

القرآن وإعجازه العلمي _38 _
  استعراضه لمختلف التفاسير في زمنه وتمحيصها وترجيح بعضها على بعض وإيداء رأيه الخاص مستعينا في ذلك باللغة وأسرارها وبمعرفته لتقاليد العرب وآدابهم وثقافته الواسعة في فهم طبائع الاشياء ، وقد سلك مسلكه الامام الزمخشرى ومن جاء بعده ممن استعملوا عقولهم وخبراتهم وعلومهم في تفسيرهم القرآن ، وكذلك فعل أئمة المذاهب الاربعة في تمحيص القرآن وفهمه واستنباط الاحكام منه.
  وقد أجاز هذا التفسير بالرأى الامام الغزالى وغيره ما دام الرأى لا يخالف القرآن ولا يعارض السنة النبوية ويحقق ما أمر به الله في قوله تعالى في : ( سورة محمد آية ـ 24 ) : ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) .
  وفى هذا تحريض على التدبر والتفكر في القرآن بقلوب مفتوحة وعقول مستنيرة غير مغلقة.
  وأنه على الرغم من الدعوة إلى تعقل آيات الله والتعمق في معانيها إلا أن هناك من المحاذير ما يمنع بل يحرم تحريما باتا استعمال الرأى إذا كان هذا الرأى نابعا عن هوى شخصى في نفس المفسر ما يتنافى مع الشرع ويأباه العرف ، أو كان رأيا صادرا عن تحميل الآيات ما لا تتحمله لاقرار مذهب معين يتعصب له المفسر ويقحمه إقحاما لا مبرر له أصلا في نصوص الآيات لان ذلك يفتح أمام القلوب المريضة المجالات للتهجم على القرآن بما لم ينزل به الله سلطانا.
  ولئن كان بعض العلماء أجاز التفسير بالرأى والتأويل استنادا إلى دعاء النبى صلى الله عليه وسلم لابن عباس بأن يفقههه الله في الدين ويعلمه التأويل إلا أن ذلك التوسع في التأويل قد فتح باب الشطط في التخيل والتصور وأوقع الكثير من المؤولين في مزالق خطيرة في فهم الآيات وتحميلها معانى بعيدة عنها ومن ذلك

القرآن وإعجازه العلمي _39 _
  ما يفسر به الشيعة بعض الآيات على هواهم لاعتقادهم بأن للقرآن ظاهرا وباطنا وأن الباطن له عدة بواطن لا يعرفها حق المعرفة إلا الامام المعصوم الذى يعتقدون أنه يوحى إليه وأنه يسمع الكلام الموحى به ولكنه لا يرى من يكلمه.
الي هنا   ومن أمثلة تفاسيرهم وتأويلاتهم ما ورد مرويا عن الامام الباقر في شرح قوله تعالى : ( مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ) ، أنه فسر الحسنة بأنها هى معرفة الامام وحب آل البيت وأن السيئة هى إنكار الامام وبغض آل البيت ، وكذلك ما روى عن جعفر الصادق في قوله : ( فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) ، أنه فسرها بأن أعمال الناس تعرض على الائمة من آل البيت ، وقد كان هناك فريق من علماء المسلمين يستمعون إلى ما يقوله أهل الكتاب من اليهود والنصارى نقلا عن كتبهم المقدسة فيصدقونها ويعتمدون عليها في تفسيرهم للقرآن ، والحقيقة أن كتب أهل الكتاب وتفسيرها قد دخلها التحريف والتغيير على يد رجال الدين السابقين الذين حرفوها ودسوا فيها ما ليس منها طعما في حطام الدنيا أو إرضاء للحكام كما أنها عندما ترجمت من لغاتها الاصلية إلى اللغات الاخرى فقدت الكثير من حقائقها ومعانيها الاصلية ، وذلك علاوة على ما خالط تفسير هذه الكتب من أساطير وخرافات وإسرائيليات كان خليقا بعلماء المسلمين الذين اعتمدوا عليها ألا يركنوا إليها ويحشروها في تفاسيرهم وفاتهم أن المقصود من هذه الاسرائيليات هو الافتراء على الدين الاسلامى بما هو براء منه ونتج عن ذلك تحقيق ما أراده أعداء الاسلام من البلبلة والتضليل ، ومن أمثلة ذلك ما جاء في تفسر الثعالبى وغيره ، وكان الاحرى بالعلماء القدامى الذين عاشوا في العصور المضطربة إجتماعيا والمتأخرة عقليا أن يتنبهوا إلى ما جاء في كتاب الله من الحض على فهم القرآن .

القرآن وإعجازه العلمي _ 40 _
  والتدبر في الآيات ومعانيها بفكر قويم وعقل سليم غير متأثر بترهات أو فلسفات دخيلة على الاسلام من معتقدات الامم التى دخلت في الاسلام وخلطوا عقائدهم ومبادئهم الخاطئة ومفاهيمهم المنكرة في ساحة الاسلام النقية الخالية من الخرافات.

  لماذا تتفاوت تفاسير القرآن :
  إن تراث التفاسير الذى خلفه السلف يختلف بعضه عن بعض في اتجاهاتها ومشاربها إختلافا واضحا ، ومنشأ ذلك هو إختلاف مصادر الثقافة التى تأثر بها أصحاب هذه التفاسير ، فمن غلبت عليه النزعة الدينية توسع في شرح العقيدة وأركان الاسلام ، ومنهم من غلبت عليه الناحية اللغوية من بلاغة وبيان فأولى هذه الابحاث اهتمامه في تفسيره منهم من غلبت عليه النزعة الفقهية التشريعية فانصرف إلى استنباط الاحكام والقوانين الدينية في المعاملات والحقوق والواجبات ومنهم من تعلقت نفسه بالعبادة والتصوف والنظر إلى الحياة الدنيا يعين الزهد فيها والتأمل في تقلباتها والاعتبار بصرفها فاجتهد في تفسير الآيات على منهج الوعظ والتذكير بخشية الله والعمل على مرضاته والاخلاص في طاعته.
  وبعض التفاسير القديمة مليئة بالكثير من الآراء التى لا تخلو من الخطأ والصواب والراجح منها والمرجوح والقوى والضعيف ، كما أن بعض المفسرين قديمهم حديثهم لهم في تفسير الآيات آراء متعددة ومتشعبة ، وقد تكون للآية الواحدة في نظرهم عدة وجوه مختلفة، وواجب المفسر في العصر الحديث أن يمحص ويقارن بين هذه الآراء ويكشف عن الآراء الضعيفة منها ليبين عوامل الضعف والخطأ فيها ، وقد يقتضى الامر البحث عن رأى آخر أقرب للحق والصواب دون مجافاة أو معارضة لنصوص الدين ومنهجه ولا بأس من الاستعانة بكل ما هو صحيح تماما من القوانين العلمية.

القرآن وإعجازه العلمي _ 41 _
  وبدهى أن القرآن لم ينزل ليكون كتاب طبيعة أو كيمياء أو فلك أو طب أو تاريخ أو غير ذلك من مختلف العلوم بل هو كتاب هداية ، لانه لو نزل مفصلا للنظريات العلمية الحديثة لما فهمه العرب الاميون وقتئذ ، ولم يؤد القرآن رسالته التى نزل من أجلها وهى نزع الشرك والجهالة والضلال والشرور والمفاسد المتأصلة في النفوس ، وقد كانت أكثر الآيات الملكية التى نزلت خلال ثلاث عشرة سنة تدعو بصفة عامة إلى التوحيد ومحاربة الشرك بأساليب الوعد والوعيد والترغيب والترهيب والتفقه في أصول الدين ، ثم نزلت الآيات المدنية بعد ذلك لكى تمكن الايمان في القلوب وتدعو إلى أهداف أخرى تقوم على التشريع وتنظيم المجتمع وبث روح الاخوة والتعاون والحض على الجهاد في سبيل الله وغير ذلك من سياسة الجماعات والدول الرشيدة.
  وكان النبى صلى الله عليه وسلم إذا وجه إليه أحد سؤالا عن أمور كونية أو مسائل طبيعية أو غير ذلك مما يستلزم الاجابة عليه الدخول في تفاصيل علمية فوق مستوى ثقافة عصره فإن الله سبحانه يوحى إلى رسوله بإجابات سديدة مبسطة تقبلها العقول قبولا حسنا ، فمن ذلك مثلا قوله تعالى في ( سورة البقرة آية ـ 189 ) : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ) .
  وهكذا يأتى الجواب سهل الفهم كافيا للاقناع بأن اختلاف أوجه القمر هى لحكمة معرفة الاوقات وبخاصة مواقيت الشهور ومواعيد الحج التى تهم السائلين ، وقد جاء‌ت في بعض التفاسير القديمة آراء غير صحيحة وتأويلات خاطئة لا تقبلها العقول السليمة فكان لابد من معارضتها ودحضها بإعادة النظر في تفسيرها على وجهها الصحيح لان السكوت على ذلك وترك القديم على قدمه وخطأه هو نوع من الجمود والتخلف وحجر على العقول والقلوب المتفتحة لرؤية حقائق القرآن بنور العلم والايمان.

  الاعجاز العلمى في آيات القرآن :
  يجب على المسلم ألا يختلط عليه الامر بين رسالتى الدين والعلم وألا ينظر إليهما على أنهما أمران مختلفان تجب المقارنة والمفاضلة بينهما بل هما في حقيقة أمرهما رسالتان متكاملتان ، وكلاهما يساعدان على تثبيت الايمان في القلوب ، لان العلم نور يهدى إلى الحق ما دام علما نافعا ، والدين في جوهره هداية ربانية للعقول والقلوب ونفحات سماوية للارواح والنفوس.
  ويجب على المسلم ألا تخدعه مظاهر التقدم العلمى المادى الذى برع فيه أهل أوروبا وأمريكا وبخاصة في علوم الذرة والتكنولوجية وغزو الفضاء فهذه كلها ليست كل شئ لاسعاد البشرية وشقاء عللها ، وإنما العلوم الدينية المستمدة من القرآن والسنة وأنباع هديها إلى جانب العلوم الدنيوية هى البلسم الواقى من العلل والشافى من أمراض النفوس، والقرآن الكريم هو كلام الله سبحانه وتعالى ، وكلامه جل جلاله صفة من صفاته التى تجلى بها على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فكانت تلك الآيات التى بهرت العقول بروعتها وأدخلت الايمان في القلوب بقدسيتها وروحانيتها ، وبصدق حقائقها المطلق الذى لا يأنيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها ، وإن صدق اليقين الذى نزل به القرآن جعل لكلماته تأثيرا قويا لا تنال منه الايام ، وبهذا يظل هدى القرآن على الدهر شبابا ناضرا دائما ، وإعجازا متجددا لا ينقطع مدده وإلهامه للمؤمنين العاملين به.
  ويكفى للدلالة على حيوية القرآن وقوة تأثيره أن من يسمعه بوعى أو يقرأه بتدبر لمبانيه ومعانيه أو يدرسه للوقوف على أسراره يؤمن إيمانا عميقا أنه وحى السماء.

القرآن وإعجازه العلمي _ 43 _
  وليس من كلام بشر ، فهاهو عمر بن الخطاب رضى الله عنه بعد ما قرأ بعض آيات من القرآن في بيت أخته التى ذهب للانتقام منها لاسلامها نراه يتحول من مشرك عنيد وعدو لدود للاسلام والمسلمين يتحول إلى مؤمن قوى ، ويسارع إلى مقابلة النبى حيث كان مجتمعا مع أتباعه المسلمين يعلمهم ويزكيهم في دار الارقم بن الارقم ويعلن له إسلامه وانضمامه إلى جماعة المسلمين بمكة ، أسلم وهو يعلم ما سوف يلقاه من عشيرته وقومه من معارضة وإيذاء.
  مفهوم العلم والعلماء قديما وحديثا: لقد صارت كلمة العلم مع تطور الزمن ذات مدلولين، فقديما كان مدلولها العلم القائم على العلوم الدينية وما يتفرع عنها من علوم التوحيد وعلم الفقه وعلم التفسير وعلم اللغة والبلاغة وعلم الحديث إلى غير ذلك من العلوم المتصلة بالدعوة الاسلامية وتاريخها وقرآنها وأحاديثها النبوية ، وكان الدارسون لهذه العلوم هم العلماء والفقهاء وأهل العلم وقتئذ ، وكانوا هم قادة الفكر والرأى والعلم قبل عصرنا هذا ، ويقول الامام الغزالى في هذا الموضوع: إن العلم المقصود هو العلم بالله وصفاته وملائكته ورسله وملكوت السماوات والارض وعجائب النفوس الانسانية والحيوانية من حيث أنها مرتبة بقدرة الله لا من حيث ذواتها لان المقصود الاقصى هو العلم بالله ، وأما العمل فمقصود به أساسا مجاهدة الهوى حتى تزول الحوائل التى ربما أعاقت الانسان عن العلم بالله تعالى.
  أما مدلول العلم حديثا فإنه يختلف عن المعنى القديم المشار إليه سابقا ، إذ ظهر من وقت قريب جماعة تقول عن عصرنا الحاضر إنه عصر العلم والعمل ويقصدون بذلك أن العلم بمفهوم عصرنا هو العلم الطبيعى القائم على دراسة ما في الكون من مواد وعناصر وكائنات لها خصائصها الذاتية ونواميسها التى تحكمها من كيمياء.

القرآن وإعجازه العلمي _ 44 _
  وطبيعية وميكانيكا وغير ذلك من علوم الطب والرياضة والفلك وما يتضمنه ذلك من حقائق كونية ، وأن العمل في إطار هذا المفهوم للعلم فهو تطبيق العلم عمليا بإستعمال الاجهزة والادوات والوسائل الاخرى الحديثة من مختبرات ومراصد وتجارب واستنباطات منطقية وغير ذلك : وفى ضوء هذين المدلولين للعلم يرى المفسرون العصريون لآيات القرآن أنه من الضرروى أن يشتمل تفسيرهم الناحيتين الدينية والعلمية ودون الاكتفاء بناحية واحدة منهما.

  
تفسير القرآن في ضوء العلوم الحديثة :
  إن هذا النوع من التفسير لبعض الآيات الكونية والطبيعية وغيرها ذات الطابع العلمى منهج جديد ومحاولة موفقة إن شاء الله تعالى لاظهار ما في القرآن من إعجاز علمى أو تشريعى لم يعرفه المفسرون القدامى المعرفة التامة ، ولم يكن ذلك عن إغفال لشأنها وإنما كان ذلك منهم لانهم نظروا إليها نظرة تأمل وإجلال وتقديس باعتبارها مظهر لقدرة الله العظيمة في خلق هذا الكون وروعة حكمته وتدابيره ؟ لجميع ما فيه من كائنات ومخلوقات ، ولكن عندما تقدم العلم واتسعت آفاقه مع تطور المدنية والحضارة أخذت أنظار العلماء تتجه إلى ما جاء به القرآن من حقائق علمية سبقت نهضة الانسان العلمية بعدة قرون.
  فمن المعلوم أن القرآن نزل على النبى صلى الله عليه وسلم خلال القرن السادس الميلادى أى قبل عصر نهضة أوروبا التى بدأت طلائعها في القرن الرابع عشر الميلادى واستمرت في نمو وإزدهار وحققت نتائج قيمة من الكشوف العلمية في مختلف العلوم والفنون والآداب التى حررت العقول من الجهل والخرافات التى كانت سائدة ومسيطرة في العصور الوسطى ومما يذكره التاريخ من قضايا هذا العصر الوسيط أنه قامت بين رجال الدين.

القرآن وإعجازه العلمي _ 45 _
  المسيحى وبين رجال العلم مخاصمات ومنازعات خطيرة في أمور علمية اعتبرها رجال الدين خروجا على ما في الكتب المقدسة من نصوص لم يفهموها وحرفوها وغيروا وبدلوا فيها تبعا لاهوائهم وتحقيقا لمصالحهم ومنافعهم الخاصة.
  ومن أمثلة هذه الخلافات ما قرره علماء الفلك بعد الدراسة والبحث الوثيق من أن الارض ليست مركز الكون كما كان يعتقد رجال الدين الذين اعتبروا ذلك الرأى خروجا على حرمة الدين فكفروا كل من اعتقد ذلك الرأى واضطهدوهم بل أهدروا دماء‌هم.
  وإليك نموذجا يوضح اختلاف التفاسير قديما وحديثا وكيف أن إدراك المعانى للآيات يتفاوت من فهم إلى فهم ومن عصر إلى عصر كما في الآيات الآتية: قال الله تعالى في ( سورة ص آية ـ 31 ، 32 ) : ( وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ* إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ* فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ ) .
   فقد فسرت هذه الآية الكريمة قديما بأن سيدنا سليمان عليه السلام لما عرضت عليه الخيل في وقت صلاة العصر شغلته وألهته عن الصلاة فتملكه الغضب وأخذ يقطع سيقان هذه الخيول وأعناقها بالسيف.
  وهذا التفسير ينافى ما جاء في الآية من أن سليمان عليه السلام كان نعم العبد الاواب فكيف يصدر عن نبى أثنى عليه القرآن هذا الثناء أن يكون قاسيا إلى حد قتل الخيول البريئة التى هى عدة المؤمنين في قتال أعداء الدين والزود عن حياض الاوطان بغير ذنب جنته.
  وقد فسرت الآيات بعد ذلك تفسيرا معقولا أقرب إلى الواقع المفهوم وهو أن سليمان عليه السلام عرضت عليه بعد الظهر الخيل الاصيلة التى تسكن حين وقوفها .

القرآن وإعجازه العلمي _ 46 _
  وتسرع حين سيرها ، فقال سليمان إنى أشربت حب الخيل لانها عدة الخير وهو الجهاد في سبيل الله وأن حبها نشأ عن ذكرى لربى ، وما زال مشغولا بعرضها حتى غابت عن ناظريه ، ثم إنه أمر بردها عليه ليتعرف أحوالها ، فأخذ يمسح سوقها وأعناقها ترفقا بها وحبا لها واستئناسا لها.
 وبعد أن تقدم العلم كثيرا نجد أن الانسان قد توصل في مجال الطب البيطرى إلى أن ما فعله سيدنا سليمان عليه السلام كان هو الاسلوب الامثل في معاملة الحيوانات واستئناسها بإدخال الطمأنينة والهدوء عليها بأن يربت على رؤوسها ورقابها وظهورها عندما يريد فحصها أو استخدامها ، ومن ذلك يتضح ما بين التفسيرين من فرق شاسع.
  القرآن يهدى القلوب التى تتدبره وتنير العقول التى تتفهمه لقد آمن بالاسلام وبالقرآن أفراد وجماعات كثيرة من غير المسلمين ، وكان إسلامهم نتيجة تأثير القرآن في نفوسهم بطريق مباشر أو غير مباشر ، فأما عن تأثيره المباشر فقد اعترفت به أفراد من علماء أوروبا ذوى الالباب والفطر السليمة ممن سمعوا القرآن أو قرأوه وفهموا بعض أسراره وإعجازه ، ومن أمثلة ذلك ما فهمه أحد الاطباء من قوله تعالى في ( سورة النساء آية ـ 56 ): ( كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ ).
   فأدرك أن وراء هذه الآية حقيقة علمية ما كانت معلومة للناس وقت نزول القرآن ، وأنه لابد أن يكون من كلام عليم خبير بتركيب جسم الانسان، وبشبكة الاعصاب الدقيقة التى تنتشر أطرافها في الطبقة الجلدية وهى التى نستقبل الاحساس بالحرارة والبرودة والالم والراحة فهم ذلك الطبيب من الآية أن تجدد الالم الذى انقطع بحرق الجلد لا يكون.

القرآن وإعجازه العلمي _47 _
  إلا بإعادة الجلد حيا كما كان لكى يتجدد ألمه مرارا وتكرارا كلما تبدل الجلد في كل مرة بعد حرقه ، وتأكد الطبيب بأن هذا الكلام لا يصدر إلا من عالم خبير بتركيب الجسم البشرى ووظيفة الاعصاب المنتشرة في كيانه ، وأن هذا الكلام نزل منذ قرون بعيدة على لسان نبى أمى لم يدرس علم الطب ولا التشريح فأيقن أن هذا كلام من أرسل محمدا رسولا فآمن به وأسلم.
  ومثل آخر لربان بحرى كان يجول البحار ويشاهد أحوالها ومظاهرها ليلا ونهارا وما تتعرض له عن عواصف وسحب وأمواج متلاطمة ورياح عاتية وظلمات وغير ذلك مما كابده خلال سنين عمله في البحار والمحيطات ، فإنه لما قرأ في ( سورة النور آية ـ 40 ) قوله تعالى : ( أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ) ، قال في نفسه إن أحدا لا يستطيع أن يصف هذا الوصف الدقيق لاحوال البحار وظواهرها الجوية إلا من كان بحارا شق عباب الماء وعاين تقلبات الاحوال فيه ، وأن محمدا الذى نزل عليه هذا الكلام لم يكن في يوم من أيامه بحارا كما أنه لم يركب البحر في حياته وعاش في وسط الصحراء البعيدة كل البعد عن عالم البحار فمن أين له هذه المعلومات الدقيقة التى لا يعرفها سوى الملاحون؟ إنه ولا شك كلام عليم خبير وهو الله سبحانه فآمن وأسلم بأن محمدا رسول الله حقا وصدقا.
  وهناك شعوب أسلمت وآمنت بالقرآن بطريق غير مباشر ومن أمثلة هؤلاء سكان إندونيسيا وما حولها وسكان شرق قارة أفريقية ووسطها حيث نزل بساحتهم التجار العرب المسلمون الذين ذهبوا إلى هذه الجهات النائية للاتجار وتعاملوا مع أهلها معاملة كلها الصدق والامانة والوفاء ومكارم الاخلاق فراعتهم هذه الاخلاق السامية والمبادئ العالية التى كانوا عليها وعلموا أن مزاياهم الجميلة هذه هى من.

القرآن وإعجازه العلمي _ 48 _
  أثر القرآن وتعاليم الاسلام التى أكسبتهم هذه الفضائل والمكارم وصاغتهم هذه الصياغة الكريمة التى لا مئيل لها فيمن عرفوا من الناس فآمنوا بالاسلام دينا وبالقرآن معجزة لرسوله الكريم صلوات الله وسلامه عليه.
  بمثل هذه الآيات السالفة الذكر وآثارها في العقول والنفوس كان إيمان كثير من المسيحيين وغيرهم من الملل الاخرى من ذوى الالباب والفطن الذين ما كانوا يعرفون معنى الاعجاز البيانى أو البلاغى في لغة القرآن وإنما عرفوا منه الاعجاز العلمى الذى وجدوه في كثير من الآيات العلمية مثل قوله تعالى : ( خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ) ( يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيّ ) ( وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ ) ( يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ) ( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ ) ( وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ ) ( فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ) ، ( وفى هذا ما يؤكد أن الكون هو كتاب الله الصامت ، وآن القرآن هو كتاب الله الناطق بما يدل على علم الله بأسراره ).
  وهذه الآيات وأمثالها لم يفهمها السلف الصالح على وجهها العلمى وإنما رأوا فيها أنها دلائل على قدرة الله تعالى وعظمته ، وأنها شاهدة على أنه سبحانه بديع السماوات والارض، ولا شك أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يتعرض في.

القرآن وإعجازه العلمي _ 49 _
  تفسيره لمثل هذه الآيات من الناحية العلمية التفصيلية التى هى فوق مستوى عقولهم فقد أمر الله نبيه أن يخاطب الناس على قدر عقولهم.
  وقبل الكلام عن الاعجاز العلمى للقرآن يجب أن نعرف أن المعجزة هى أمر خارق للعادة يظهره الله على يد النبى تأييدا لنبوته ، ومعجزات القرآن كثيرة ومتنوعة كان أبرزها عند نزولها الاعجاز البيانى الذى تحدى به العرب أهل الفصاحة والبلاغة أن يأتوا بشئ من مثله فعجزوا ، وللقرآن إعجازات أخرى منها الاعجاز العلمى والاعجاز التشريعى والسياسى والحربى والنفسى وكلها شاهدة على روعة القرآن وعظمته وقدسيته وأنه كلام الله الحق.
  وقد أجمع العلماء على أنه لا يجوز مطلقا أن نخضع القرآن للتفسير العلمى لان من نظريات العلم ما يتغير ويتطور ولا يثبت على حال ، وإذا اختلفت النظرة العلمية في وقت من الاوقات مع الآية القرآنية فيرجع ذلك إلى أن العلم الذى يتطور من وقت لآخر لم يصل بعد إلى مستوى مفهوم الآية، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز: ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ ).
   أى أن ما لم يتفق مع الآية القرآنية من النظريات العلمية فإنه سوف يظهر مستقبلا بعد طول الدرس وللبحث والتنقيب لان كلام الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ثم أنه سبحانه يقول عن القرآن: ( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) .
  أى أنه سوف يشرحه ويبين أسراره في مستقبل الاعصر والدهور.