والجغرافيّ كان له أثر كبير في هذه المرويّات ، وذلك لقرب الشام من الروم المسيحيّة الديانة ولوجود الثقل المسيحيّ فيها آنذاك، فيمكن أنّ تكون تلك المرويّات (صحف تبشيرية) ـ لو صحّ التعبير ـ حاولوا من خلالها اختراق الفكر الاِسلاميّ ، فلم تكن تحتوي على ما قاله النبيّ (ص) حقّاً ، ولسقوط مثل هذه الصحف المجهولة المصدر والكاتب والمُملي ـأي المحدِّثـ نرى أنَّ أهل البيت (ع) يلتفتون إلى هذه النكتة ، ويعلمون أنّها مُسقطة لمثل تلك الاَحاديث عن الاعتبار ، لذلك نراهم يؤكِّدون على الصحف التي عندهم ، فيبيِّنون مصدرها وكاتبها وممليها فيقول الصادق (ع) لمن وسمه بإنّه صحفي : (أنا رجل صحفيّ ، وقد صدق ـ أبو حنيفة ـ قراتُ صحف آبائي وإبراهيم وموسى) (1).
  ويقول أئمّة أهل البيت (ع) في وصف كتاب عليّ (ع) بأنّه (إملاء عليّ من فلق في رسولالله) ، فهم (ع) يوضِّحون : أنّ صحفهم متوارثة كابراً عن كابر عن رسولالله ، وأنّ حَفَظَتَها وكُتَّابَها هم الاَئمّة (ع).
  وأنّ فيها أحكام الله من لدن موسى وإبراهيم (ع) حتّى نبيّنا محمّد (ص) ، وقد جاء في الكامل ، لابن عديّ : ولجعفربن محمّد حديث كثير عن أبيه عن جابر ، وعن أبيه عن آبائه ، ونسخ لآل البيت يرويها جعفر بن محمّد ... (2).
  د ـ أنّ تلك الصحف ـأو الكثير منهاـ لم تكن تجمع في طيّاتها الفرائض والاَحكام ، ولا شيئاً من التفسير وشرح الآيات ، وإنّما كانت تضمّ غيرذلك ، ففيها على ما يبدو قصص وأخبار ، وأحاديث وأذكار لم ينزل الله بها من سلطان ، وهذا النوع غالباً ما تكون فيه يدٌ للقصّاصين والاَخباريّين ، من تضخيم لبعض الحقائق ، وتعتيم على حقائق أُخرى ، تبعاً للظروف والمُيول والاَهواء والعصبيّات القبليّة ، وغيرها من عوامل الزيادة والنقصان ، وتغيير أو تبديل الاَُمور ، فقد ورد في المرويّات قولهم : (صحيفة فيها كلام من كلام أبي الدرداء وقصص من قصصه) ، وقولهم : (فرأينا صحيفة فيها قصص وقرآن) وقولهم:

------------------
(1) انظر روضات الجنّات 8 : 169 ، قاموس الرجال ترجمة محمّد بن عبد الله بن الحسن 8:243 ، ورياض السالكين 1:100.
(2) الكامل لابن عديّ 2 : 558 وعنه في التهذيب 2 : 104 والسنّة قبل التدوين:358.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 77 _

  (فيها ذكر وحمد وثناء على الله) ، ويظهر أنّ ما في تلك الصحف من كلام أبي الدرداء وما فيها من قصص و(أحاديث حسان) ، هي من قبيل ما نجده حتّى الآن مبثوثاً في تفاسير المسلمين ومؤلّفاتهم في سرد تفاصيل قصص القرآن ، من مثل ما ورد في قضيّة النبيّ يوسف (ع) وأنّه قعد من امرأة العزيز مقعد الرجل من المرأة ، وما ورد في قضيّة داود وأنّه أرسل أحد جنده إلى الحرب ليُقتل فيتزوّج بامرأته من بعده ، وما ورد من أنّ الناس بعد الطوفان قد هلكوا ، فاتّفقت ابنتا شعيب (ع) على إسكار والدهما ـ والعياذ بالله ـ ففعلاً ووقع عليهما فحملتا ، واستمرّ النسل من ذلك ، بل ما روي من أنّ أُمّ المؤمنين خديجة تآمرت فأسكرت والدها ثمّ أمرت النبيّ (ص) بخطبتها منه ، فرضي بذلك وهو سكران ، ثمّ أفاق فقيل له في ذلك فاستسلم للاَمر الواقع ، وإنّما فعلت ذلك لاَنّ خويلداً كان لايرتضي زواجها من النبيّ محمّد (ص) ووو ... وهل ترى أنّ مثل هذه الموضوعات قد جاءت إلاّ من أبي الدرداء وكعب الاَحبار وأضرابهما من المتأثّرين بالمسيحيّة واليهوديّة!! ويزداد هذا وضوحاً من تلاوة ابن مسعود لقوله تعالى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) ، ويقول: (أقصصاً أحسن من قصص الله تريدون ، أو حديثاً أحسن من حديث الله تريدون) ؟! ، ويقول: (إنّ أحسن الهدى هدى محمّد (ص) وإنّ أحسن الحديث كتاب الله وإنّ شرّ الاَُمور محدثاتها) ، فهذه الكلمات كلّها ناظرة إلى ما تضمّنته بطون تلك الصحف.
  حتّى أنّ ابن مسعود زاد تصريحه وضوحاً بقوله في عدّة مرويات (ألا إنّ ما في هذه الصحيفة فتنة وضلالة وبدعة) ، وبقوله في مقام آخر: (إنّما أُهلِك أهل الكتاب قبلكم أنّهم أقبلوا على كتب علمائهم وأساقفتهم وتركوا التوراة والاِنجيل حتّى درسا وذهب ما فيهما من الفرائض والاَحكام).
  فقد وضُحَ أنّ الصحائف المأتي بها إلى ابن مسعود لم تكن تتعلّق بالفرائض والاَحكام ، وإنّما كانت تدوّن القصص والحكايات وبعض الاَذكار المتعلّقة بهذه الحكايات المنسوبة في تلك الاَساطير والخرافات والزيادات.
  وبهذا يحتمل أن يكون في هذه الصحيفة قصص تميم الداري

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 78 _

  ـ الراهب النصرانيّ الذي استأذن عمر أن يقصّ فأذن له (1)ويحتمل أن تكون صحفاً مشابهة لها .
  ويتبيّن الاَمر أكثر وضوحاً وجلاءً في قول ابن مسعود: (فأُنشِد الله رجلاً عَلِم مكان صحيفة إلاّ أتاني ، فوالله لو علمتها بدير هند لانتقلتُ إليها) ، وفي قوله : (فوالذي نفس عبد الله بيده لو أعلم منها صحيفة بدير هند لاَتيتها ولو مشياً على رِجلي) وقوله ـ كما نقله الراوي ـ (وأُقسِمُ بالله لو أنّها كانت بدار الهند (2) أراه ـيعني مكاناً بالكوفة بعيداًـ إلاّ أتيته ولو مشياً) ، فهذا الجدّ والاِصرار منه على محو مثل تلك الصحف كان لنكتةٍ ، ألا وهي اختلاط تلك الاَحاديث واستقاؤها من أحاديث أهل الكتاب ، فكان ابن مسعود يرى أنّها من صنع الاَديرة ، ومن قصص وأساطير أهل الكتاب التي غذّوا بها عقول الضعفاء من المسلمين والمغفّلين ، ومن يتعاطف معهم فكريّاً ، بالاِضافة إلى ميل النفوس إلى أُسلوب السرد القصصيّ وسماع الغرائب والعجائب ، وكأنّ نشر تلك القصص كان أمراً متعمّداً مدروساً من النصارى ، فلذا كان ابن مسعود يمحوها أحياناً بمجرد إلقاء النظرة عليها ، أو حتّى دون إلقاء النظرة الفاحصة لعلمه سلفاً بما تحويه تلك الصحائف والكتب.
  فلذلك وقف ابن مسعود من تلك المدوّنات الموقف الحازم ، الذي قد بدا سلبيّاً بسبب معاصرته للحملة التي قادها عمر بن الخطّاب ضدّ التحديث والتدوين ، وبين المنعيَن فرق لا يخفى على ذي لبّ وبصر!!
  وبعد الوصول إلى هذه النتيجة المتمخّضة عن النظر الشامل لروايات

------------------
(1) كنز العمّال 10 : 280|29445 و 29446 .
(2) دير الهند: من قرى دمشق ، ودير هند الصغرى: بالحيرة ، كانت تنزله هند بنت النعمانبن المنذر ، ودير هند الكبرى: بالحيرة أيضاً ، بَنَته هند بنت الحارث بن عمرو بن حُجر آكل المرار ، [معجم البلدان 2 :54(2) 543] ، وقد يطلق دير هند ويراد به دير هند الصغرى [انظر الاَغاني 2:131] ، وعلى كلّ التقادير فالظاهر أنّ المراد (بدار الهند) (دير هند).
  ونحن نرجّح أنّ يكون مراد ابن مسعود هو الدير الذي بالشام ، لما في ذلك من ارتباط بالصحف المأتي بها من الشام ، ولاَنّه أبلغ في البُعد ، لاَنّ الظاهر هو صدور هذه الاَقوال من ابن مسعود في الكوفة ، إذ الرواة كوفيّون.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 79 _

  المنع المنسوب إلى ابن مسعود ، يحقّ لنا أن نقول إنّ رواية الدارميّ التي تنصّ على أنّ محتوى الكتاب (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر) ، لمتكن وافية ، إذ لم تكن هذه الجمل فقط هي محتوى الكتاب ، بل هناك أشياء أُخرى من قبيل ما مرّ ذكره في سائر الروايات ، وبقرينة قول ابن مسعود في الرواية الاَُخرى: (إنّ ما في هذا الكتاب بدعة وفتنة وضلالة) ، إذ لا يعقل توجيهه هذا الكلام لمجرّد التسبيحة والتحميدة والتهليلة والتكبيرة ، مع أنّه كان يقولها صباحاً ومساءً في صلواته الخمس ، ولا يعقل صدور هذا الردع لهذه الكلمات الطيّبات من مسلم عاديّ ، فضلاً عن صحابيّ من كبار صحابة النبيّ (ص).
  والقول: بأنّ الردع في كلامه موجّهٌ إلى نفس الكتابة والتقييد ، وأنّها ضلالة بغض النظر عن المكتوب ، لا تساعده العبارة المذكورة ولا تدلّ عليه ، لاَنّ قوله: (إنّ ما في هذا الكتاب) يدلّ على أنّ المقصود هو محتوى الكتاب ، لامجرّد ومحض التقييد والتدوين ، وإلاّ لقال مثلاً : (إنّ الكتابة بدعة وفتنة وضلالة).
  ومثل هذا الكلام نقوله في الرواية اليتيمة التي ادّعت أنّ في الصحيفة فضائل أهل بيت النبيّ (ص) ، فإنّ جملة هذه القرائن تدلّ ـ إن صحّت هذه الروايةـ على وجود أكاذيب ومختلقات وربّما شيء من سيرة أهل البيت وفضائلهم ممّا لا يمتّ إلى الواقع بصلة ، أو ممّا بولغ فيه ، ومهما يكن من شيء فإنّ الاِذعان لمحو ابن مسعود لفضائل أهل البيت محالٌ ، خصوصاً بعد الفراغ من أنّ ابن مسعود كان من أكبر المحدّثين بفضائلهم والناشرين لمآثرهم .
  هذا ، ونرى أنّ ابن مسعود لم يكن كأبي بكر وعمر في أُسلوب المحو ، لاَنّه لم يلجأ إلى أُسلوب الحرق والاِبادة الشاملة للمدوّنات ، وإنّما اتّخذ أُسلوب الاِماثة بالماء ، وهو الاَُسلوب الشرعيّ لمحو كتب الضلال ، التي فيها اسم من أسماء الله أو الاَنبياء أو الاَوصياء والاَئمّة (ع) ، إذ يحرم الحرق ، وينحصر الاِتلاف بالميث بالماء أو الدفن في الاَرض.
  ويعضّد ما استنتجناه هنا ما صرّح به بعض الاَعلام ، إذ قال أبو عبيد: إنّه [أي ابن مسعود] يرى أنّ هذه الصحيفة أُخذت من أهل الكتاب ، فلذا كره عبدالله النظر فيها ، وقال مرّة : أما انّه لو كان من القرآن أو السنّة لم يمحُهُ ، ولكن

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 80 _

  كان من كتب أهل الكتاب ، (1) وبهذا يمكن أن يكون نهي ابن مسعود جاء لما فصّلناه عنه سابقاً ، وهناك احتمال آخر ، وهو صدورها عنه تقيّةً أو مصلحة أو تخوّفاً من درّة عمر إذ عرف عن عمر أنّه أمر بإتلاف الصحف والاِقلال في التحديث ، وقد ضرب بعض الصحابة على ذلك ، وسجن آخرين كان من بينهم ابن مسعود ، فلا يستبعد إذاً أن يكون ما فعله ابن مسعود مع الصحيفة جاء مماشاةً مع الوضع العامّ في الدولة الاِسلاميّة وكي لا يتخطّى أمر الخليفة عمر بن الخطّاب ، إمّا تخوّفاً من بطشه أو مداراة ومصلحة ، فعن الحارث بن سويد قال : سمعت عبد الله بن مسعود يقول (ما من ذي سلطان يريد أن يكلّفني كلاماً يدرأ عني سوطاً أو سوطين إلاّ كنت متكلّماً به).
  وقال ابن حزم معقباً : (ولا يعرف له من الصحابة رضي الله عنهم مخالف) (2).
  وجاء عنه أنّه صلّى خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط ـ والي عثمان على الكوفة ـ تقيّة ، وأنّ الوليد كان قد صلّى الصبح بهم أربعاً ثمّ قال : أزيدكم ؟
  فقال له ابن مسعود : مازلنا معك منذ اليوم في زيادة (3)!
  وبهذا يصحّ القول في نهي ابن مسعود ـ لو صحّ عنه ـ أن يكون اتّقاءً من درّة عمر وحفظاً لكيان الاِسلام ، إذ اشتهر عنه أنّه صلّى مع عثمان بمنى أربعاً رغم خلافه معه اتّقاءً للفتنة والشرّ.
  فقيل له : ألم تحدّثنا أنّ النبيّ صلّى ركعتين ، وأبا بكر صلّى ركعتين ؟
  قال : بلى ، وأنا أحدّثكموه الآن ، ولكنّ عثمان كان إماماً فما أُخالفه ، والخلاف شرّ (4).

------------------
(1) جامع بيان العلم وفضله .
(2) المحلّى لابن حزم 8 : 336 مسألة (1409).
(3) شرح العقيدة الطحاويّة ، للقاضي الدمشقيّ 2 :532 كما في واقع التقيّة عند المذاهب والفرق الا ِسلاميّة:106.
(4) السنن الكبرى 3 : 144 ، البداية والنهاية 7 : 228.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 82 _

  وجاء عن ابن عوف أنّه لقي ابن مسعود يوم اعتراضه على عثمان وإتمامه الصلاة بمنى ، فقال له ابن مسعود : الخلاف شرّ ، قد بلغني أنّه [أي عثمان] صلّى أربعاً فصلّيت بأصحابي أربعاً.
  فقال ابن عوف: قد بلغني أنّه صلّى أربعاً ، فصلّيت بأصحابي ركعتين ، أمّا الآن فسوف يكون الاَمر الذي تقول : يعني نصلّي معه أربعاً (1).
  وعليه فقد استبان لك خطّة الصحابة في الصدر الاَوّل وأنّهم كانوا يريدون الحفاظ على كيان الاِسلام رغم احتفاظهم بما يعتقدون به باطناً .
  وهذا الكلام لاينافي ما ذهبنا إليه من كون ابن مسعود من دعاة التحديث والتدوين ومن الذين رووا في فضائل أهل البيت ، إذ عرفت أنّ الاِنسان قد يكتم ما يعتقده ولايبيح به مصلحةً أو خوفاً ، وترى هذا واضحاً في سيرة ابن مسعود ، فالنصوص المنقولة عنه في عليّ والزهراء والحسن والحسين وكونه في السبعة الذين شهدوا دفن الزهراء والاثني عشر الذين أنكروا على أبي بكر غصبه الخلافة وتقارب فقهه معهم ، كلّها تخالف ما جاء في تعليل كتّاب الشيعة.
  إذ الشخص الذي يعدّ من أهل البيت لكثرة دخوله وخروجه عليهم حتّى قالوا عنه: ما نراه إلاّ عبد آل محمّد ، واعتقاده بلزوم الصلاة على آل محمّد في الصلاة ، وغيرها ، لا يتّفق مع ما علّل سابقاً ، وعليه فيلزم حمل الخبر على ما قلناه سابقاً من التقيّة والمصلحة وما شابه ذلك.
  وعليه ، فإنّا لا ننكر الرأي السابع برمّته وإن كنّا لا نعتقد في الوقت نفسه بصحّته على نحو الاِطلاق وانحصار السبب الاَساسيّ فيه ، وعليه فالسبب السابع حسب ما فصّلناه رأي قريب للصحّة وأنّه جزء العلّة لاتمامها.
  والآن لنواصل البحث عن السبب الواقعيّ في منع الشيخين لتدوين حديث رسول الله (ص) ، ولنتعرّف على سبب صرف الخلفاء الناسَ إلى القرآن ، كما لوحظ في مرسلة ابن أبي مُليكة ، وقول الخليفة أبي بكر : (بيننا وبينكم كتاب الله )(2) وقول عمر وعائشة: (حسبنا كتاب الله) و(ليس بعد كتاب الله

------------------
(1) الكامل لابن الاَثير 3 : 104 ، البداية والنهاية 7 : 228.
(2) تذكرة الحفّاظ 1 : 32 ، حجّيّة السنّة : 394.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 83 _

  شيء) وغيرها.
  كانت هذه مبرّرات ذكرها الشيخان وبعض الكتّاب ، مستشرقين ومسلمين ، شيعةً وسنّةً ، قديماً وحديثاً ، وإليك السبب الاَخير عسى أن تقف فيه على الحلّ المطلوب.

  هو ما نذهب إليه:

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 85 _

  اتّضح لنا بعد التجوال السريع ، أنّ المبرّرات والاَسباب المذكورة لمنع التدوين غير ناهضة لاَن تكون سبباً تامّاً أو دليلاً مقنعاً يفسّر دواعيه ، فما هوالسبب إذَن ؟
  والجواب عن ذلك يتّضح بعد بيان مقدّمتين .

  إذا وقف المطالع في تاريخ الاِسلام على مواقف الصحابة في عصر الرسالة والتشريع ، وجد أنّهم كانوا طائفتين ، باعتبار التعامل مع النصوص الصادرة عن الرسول (ص).
  الطائفة الاَُولى: انتهجت منهاج الطاعة والامتثال لمطلق الاَحكام الصادرة عن الله ورسوله ، وذلك لعدّة اعتبارات:
  منها : قداسة تلك الاَحكام ، باعتبارها صادرة عن الواحد الاَحد (عزّ وجلّ) ، فضلاً عن قداسة نفس المُشرِّع.
  ومنها : وجوب طاعة المُشرِّع ، وعدم جواز مخالفته ، لقوله تعالى( أطِيعُوا اللهَ وَرَسوُلَهُ) (1) ، وقوله (ومَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ ويَخْشَ اللهَ

------------------
(1) الاَنفال : 20 ، 46 .

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 86 _

  ويَتّقهَ فأولئك هُمُ الفائِزون) (1) ، وقوله (ومَا آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ومَا نَهاكُمْ عُنْهُ فانْتَهُوا) (2) ، وقوله (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤمِنُونَ حتّى يُحَكِّمُوكَ فيما شَجَرَ بَيْنَهُم ثُمّ لا يَجِدُوا في أنفسِهم حَرَجاً ممّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسلِيما) (3) ، وقوله (إنّما كانَ قول المؤمنينَ إذا دُعُوا إلى اللهِ ورسولهِ لِيْحكُم بينهم أن يَقولوا سَمِعْنا وأَطَعْنا وأولئكَ هُمُ المُفْلِحون) (4) ، وقوله (وماكان لِمُؤمنٍ ولامؤمنةٍ إذا قَضَى اللهُ ورسُولُه أمْراً أن يَكُونَ لَهُمُ الِخيَرةُ من أمْرِهِم ، ومَن يَعْصِ اللهَ ورسُولَه فقد ضَلَّ ضَلالاً مُبينا) (5)وغيرها.
  ومنها: أنّه لا مجال للعمل بآراءٍ شخصيّة لتنظيم سلوك الفرد والمجتمع ، وذلك لتكامل الشريعة وبيان جميع الاَحكام في القرآن ، فلا حاجة ولانقصان يحتاج معه إلى المكمّل للشريعة ، بل هي كاملة تامّة بنفسها ، قال تعالى : (وَنَزَّلنا عَليكَ الكِتابَ تِبياناً لكُلِّ شَيءٍ) (6).
  فصارت سمة هذه الطائفة تعبُّدها بالنصوص الصادرة عن الرسول (ص) وليسللرأي عندهم في مقابل ذلكم البيان الاِلهيّ أيّ اعتبار ، مع ملاحظة وقوع الخطأ والسهو والنسيان منهم ، لعدم عصمتهم!! وستقف علىمصاديق ومواقف لهذه الطائفة لاحقاً.
  والطائفة الثانية: هم الذين كانوا يتعاملون مع النبيّ كأنّه بشر غيركامل يصيب ويخطىَ ويَسبُّ ويَلعن ثمّ يَطْلُبُ المغفرة لاَُولئك (7).
  وهؤلاء هم الذين لم يعطوا للرسول القدسيّة والمكانة التي أعطاها الله إيّاه ، ولم يتعاملوا معه كما أمر الله ، وهذه حقيقة دلّ عليها القرآن والاَثر:
  أمّا القرآن ففيه آيات عديدة:

------------------
(1) النور : 52 .
(2) الحشر : 7 .
(3) النساء : 65 .
(4) النور : 51 .
(5) الاَحزاب : 36 .
(6) النحل : 89 .
(7) صحيح مسلم 4 : 2008|88 و 90 ، مسند أحمد 2 : 31(6) 317 ، 449 ، وج3:400.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 87 _

  منها: قوله تعالى: (يا أيّها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبيّ ولا تجهَروا له بالقول كجَهْرِ بعضكم لبعض ، أن تَحْبَطَ أعمالُكم وأنتم لا تشعرون) (1).
  فالآية تشير إلى انعدام قدسيّة النبيّ (ص) عند بعض الصحابة ، مع تأكيده سبحانه وتعالى على لزوم مراعاة مكانته (ص).
  ومنها: قوله تعالى: (يا أيّها الذين آمنوا ما لَكُم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثّاقلتم إلى الاَرض...) (2).
  وهي تدلّ على عدم الطاعة والامتثال والتثاقل عن الجهاد عند البعض.
  ومنها: قوله تعالى: (إنّ الذين يُؤذون اللهَ ورسولَه لَعَنهم الله...) (3) ، وقوله: (ومنهم الذين يؤذون النبيّ) (4) ، وهي صريحة في أنّ البعض من الصحابة كانوا يؤذون الرسول (ص).
  ومنها: قوله : (ألَمْ ترَ إلى الذين نُهوا عن النجوى ثمّ يعودون لما نُهوا عنه ، ويتناجَون بالاِثمّ والعُدوان ومعصيةِ الرسول ، وإذا جاءَوك حَيَّوك بما لم يُحَيِّك بهِ الله...) (5).
  كلّ هذه النصوص القرآنيّة تدلّ على وجود رجال من بين الصحابة لايدركون حقيقة النبوّة ، وما للنبيّ من مكانة في التشريع الاِسلاميّ ، فتراهم يرفعون أصواتهم على صوت النبيّ (ص) ويتثاقلون عن الجهاد في سبيلالله ويعترضون على رسـول اللّه في أعمالـه ، ويتّبعون ما تمليه المصـلحة التي يرونهاعليهم مع وجـود النصّ ، ويفتـون بالرأي وهـم بحضـرته ، وبعض هؤلاء كانوا منالذين يطلبون من رسول الله أن يُغيّر بعض الاَحكام تبعاً للمصالح ، وهو يقول : (ما يكـون لي أن أُبـدِّله من تِلقاء نفسـي إنْ أتَّبِعُ إلاّ ما يُوحى

------------------
(1) الحجرات : 2 .
(2) التوبة : 38 .
(3) الاَحزاب : 57 .
(4) التوبة: 61.
(5) المجادلة: 8.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 88 _

  إليّ) (1) ، وسبحانه يؤكّد عليه (ص) في أكثر من سورة بمثل قوله تعالى : (ثمّ جعلناكَ على شريعةٍ من الاَمر فاتَّبِعْها ولا تَتّبع أهواءَ الذين لا يَعْلَمون) (2) ، وهؤلاء الصحابة لم يقتصروا على المنافقين ومن أرادوا المصالح من المؤلّفة قلوبهم ، بل إنّ الحقائق التاريخيّة وكتب تراجم الصحابة تدلّنا بوضوح على أنّ عدداً آخر منهم كانوا يحملون أفكاراً مغلوطة في التعامل مع نصوص الله ، ومع أقوال وأفعال النبيّ (ص) خصوصاً ، كان ذلك لما يحملون من رواسب وقناعات عرفيّة يؤمنون معها بأنّ النبيّ ما هو إلاّ رجل قائد مجرّب يمكن أن يخطىَ ويصيب ، فكانوا يعترضون عليه اعتراضات لا توجّه إلاّ لرجل عاديّ ، مع أنّ الله سبحانه والسنّة النبويّة نفسها ردعت عن مثل هذه الاَفكار.
  فقد ثبتت نصوص كثيرة عن رسول الله في هذا السياق:
  منها قوله لبعض أصحابه: ما لكم تضربون كتاب الله بعضَه ببعض ؟! بهذا هلك من كان قبلكم (3) ، وقوله في حديث آخر: أيُتلعَّب بكتاب الله وأنا بين أظهركم (4)؟! وفي ثالث : أبهذا أُمرتم ؟ أو لهذا خُلقتم ؟ أن تضربوا كتاب الله بعضاً ببعض انظروا ما أُمرتم به فاتّبعوه وما نُهيتم عنه فانتهوا (5).
  إلى غير ذلك من الاَحاديث الكثيرة التي كرّسها النبيّ (ص) لاِبطال ذلك الفهم وإبداله بفهم آخر للنبيّ وعصمته ، لاَنّ المجتمع آنذاك كان لا ينظر النظرة الواقعيّة للنبيّ بل يعتبره شخصاً عاديّاً يخطأ ويصيب و يسهو وينسى و ... فلذلك اعتُرض على النبيّ (ص) في أكثر من واقعة وحادثة ، كما وقع ذلك الاعتراض حول فكّ أُسارى بدر ، وحول صلح الحديبيّة وغيرهما ممّا فعله النبيّ

------------------
(1) يونس : 15 .
(2) الجاثية: 18.
(3) كنز العمّال 1: 193|977 عن مسند أحمد.
(4) صحيح مسلم كتاب الاِيمان.
(5) كنز العمّال 1: 383 ، 1661 ، وكذا سنن ابن ماجة.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 89 _

  (ص) وبيَّن لهم الصحيح المُنزل من الله سبحانه وتعالى.
  لكنّ الدراسة الوافية تقودنا إلى أن نصرّح بحقيقة مرّة مفادها أنّ الكثير من سالكي هذا المسلك لم يرتدعوا ولم ينقادوا لما وُضِّح لهم ، بل سعو وجدّوا في ترسيخ فكرتهم بعد رسول الله ، ناسين أو متناسين وصايا الشارع المقدّس.
  فمع بداهة عصمة دم من شهد الشهادتين ، وتأكيد النبيّ (ص) على هذا في بدء الاِسلام نرى أُسامة بن زيد يقتل مرداس بن نهيك حين أغارت السريّة على قوم فيهم مرداس ، وكان قد أسلم فلم يهرب من السريّة ، فلمّا رأى الخيل ألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل ، فلمّا تلاحقوا وكبّروا كبَّر ونزل ، وقال: لا إله إلاّالله ، محمّد رسول الله ، السلام عليكم ، فقتله أُسامةبن زيد وساق غنمه ، فأخبروا رسول الله (ص) فوجد وجداً شديداً ، وقال: قتلتموه إرادةَ ما معه؟! ثمّ قرأ الآية (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا) (1).
  وأصرح من ذلك ما فعله خالد بن الوليد ببني جذيمة ، قال ابن الاَثير في أحداث سنة8 هجريّة:
  وفي هذه السنة كانت غزوة خالد بن الوليد بني جذيمة ، وكان رسولالله (ص) قد بعث السرايا بعد الفتح فيما حول مكّة يدعون الناس إلى الاِسلام ، ولميأمرهم بقتال ، وكان ممّا بعث خالد بن الوليد ، بعثه داعياً ولم يبعثه مقاتلاً ... فلمّا نزل خالد ذلك الماء أخذ بنو جذيمة السلاح ، فقال لهم خالد : ضعوا السلاح فإنّ الناس قد أسلموا ، فوضعوا السلاح ، فأمر خالد بهم فكُتّفوا ، ثمّ عرضهم على السيف فقتل منهم من قَتَل ، فلمّا انتهى الخبر إلى النبيّ (ص) رفع يديه إلى السماء ثمّ قال : اللّهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا صنع خالد ، ثمّ أرسل عليّاً ومعه مال وأمره أن ينظر في أمرهم ، فوَدّى لهم الدماء والاَموال ... (2) واستمرّ هذا النهج ، وظلّت تلك العقليّة تحكم وتؤثّر في الاَحداث والاَُمور حتّى في زمن الشيخين ، قال ابن حجر : وكان فيه [أي في خالد] تقدّم

------------------
(1) النساء : 94 . انظر تفسير الفخر الرازيّ 11 : 3 ، والكشّاف 1 : 552 ، وتفسير ابن كثير 1:851 ـ 852.
(2) الكامل في التاريخ 2 : 25(5) 256 . وانظر سيرة ابن هشام 4 : 70 ـ 78 .

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 90 _

  على أبي بكر ، يفعل أشياء لا يراها أبو بكر (1).
  ولم يكن أُسامة وخالد قد انفردا بهذا المسار ، بل كان ذلك مساراً ومنهجاً عند الكثير من الصحابة ، الذين كانوا يرتجلون المواقف والآراء ويعملون بها في زمان النبيّ (ص) خلافاً لكتاب الله وسنّة النبيّ (ص) ، وكانت نسبة المرتئين المجتهدين عند المهاجرين أكثر بكثرة ساحقة ممّا هي عليه عند الاَنصار الذين سارت أغلبيّتهم الغالبة وفق نهج التعبّد المحض.
  فهؤلاء الاَنماط من الصحابة كانوا هم البذور الاَوّليّة للاجتهاد والرأي ، كما أصبحوا لاحقاً حجر الاَساس في منع التدوين والتحديث.
  نعم ، إنّ أمثال هؤلاء قد نَهَوا عبدَ الله بن عمرو بن العاص من تدوين حديث رسول الله ، وهم الذين أشاعوا أفكاراً وآراءً عُدّت لاحقاً من ضمن شريعة سيّد المرسلين (2).

  ولمّا كان بحثنا يدور حول سبب منع التدوين ، فالذي يَهُمُّنا هو معرفة موقف الشيخَين من النصوص ، وهل كان الشيخان من أنصار التعبّد المحض ، أم من أصحاب الاجتهاد والرأي ، كي يمكن رسم رؤيتنا في المنع على ضوئه ، ونحن وإن كنّا لا نحبّذ الدخول في بحوث من هذا النوع ، خوفاً من إثارة أُمور طائفيّة نحن في غنىً عنها ، إلاّ أنّ الدراسة ألزمتنا بحث هذا الموضوع وغيره ، لاَنّ تركه يعني كتمان بعض الحقائق وإسدال الستار عليها وعدم العثور على السبب الحقيقيّ الكامن وراء منع التدوين ، بل تحجيم الفكر والعقيدة وعدمالحرّيّة في إبداء النظريّات والاَسباب.
  وهذه النقاط هي التي ألزمتنا بعدم ترك هذا الجانب وإن ارتبط بمكانة

------------------
(1) الاِصابة 1 : 414 .
(2) منها قولهم إنّ رسول الله خَفِي عليه أمر الوحي حتّى أخبره زيد بن نوفل بذلك ، وهذا يخالف ما جاء في خصائص النبيّ وأنّ خاتم النبوّة مكتوب على كتفه ، ومعناه أنّه (ص) لايحتاج إلى شهادة ابن نوفل وغيره على نبوّته!!

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 91 _

  الشيخين وبعض الصحابة ، وإليك بعض النصوص في ذلك :
  منها : ما جاء في قصّة الرجل المتنسّك التي رواها أبو سعيد الخدريّ وأنسبن مالك وجابر بن عبد الله الاَنصاريّ وغيرهم من أعيان الصحابة ، واللفظ للاَوّل ، قال : إنّ أبا بكر الصدّيق جاء إلى النبيّ (ص) فقال : يا رسول الله! إنّي بوادِ كذا وكذا ، فإذا رجل مُتخشّع ، حسن الهيئة يصلّي.
  فقال له النبيّ: اذهب فاقْتُله .
  قال : فذهب إليه أبو بكر ، فلمّا رآه على تلك الحال كرِه أن يقتله ، فرجع إلى رسول الله.
  فقال النبيّ لعمر : اذهب فاقتُله ، فذهب عمر ، فرآه على الحال الذي رآه أبو بكر.
  قال: فرجع ، فقال : يا رسول الله ! إنّي رأيته يصلّي متخشّعاً ، فكرِهت أن أقتله.
  قال: يا عليّ ! اذهب فاقتله ، فذهب عليّ فلم يَرَه ، فرجع عليّ فقال: يارسولالله! لم أره.
  فقال النبيّ: إنّ هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يتجاوز تَراقِيهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، ثمّ لا يعودون فيه حتّى يعود السهم من فوقه (1) فالحقيقة أنّ موقف أبي بكر كان منطلقاً من الاجتهاد وتعرّفه على المصلحة وهو بحضرته (ص) لعدم ارتضائه قتل الرجل ، لصلاته وخشوعه! ولم يكن خاضعاً ومتعبّداً بأمر الرسول (ص) كما هو بيّن.
  وكذا الحال بالنسبة إلى الخليفة عمر بن الخطّاب فإنّه قد قدّر المصلحة ولميرتضِ قتل الرجل مع تأكيد الرسول على قتله بعد سماعه تعليل أبي بكر.
  والآن نتساءل : ماذا يعني تأكيد رسول الله (ص) على قتل الرجل

------------------
(1) الاِصابة 1 : 484 ، حلية الاَولياء 3 : 227 ، والعقد الفريد 2 : 24(4) 245 تحقيق علي شيري ، البداية والنهاية 7 : 298 ط 1 دار إحياء التراث العربيّ 1988 ، مسند أحمد 3:15 وغيره.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 92 _

  المتنسّك بعد سماعه تعليل أبي بكر وسبب انصرافه عن تنفيذ أمر النبيّ (ص) بقتله ؟!
  وهل يجوز أن يأمر رسول الله بقتل المصلّي الخاشع ومن لميستحقّ القتل ؟! وكيف يمكن تصوّر خطِئه (ص) والاَمر يتعلّق بالنفوس ؟!
  وإذا جاز قتله أو وجب ، لقوله (ص) (اذهب فاقتله) فلِمَ توانى الشيخان عن أمره ؟
  ألم يكونا يعلمان أنّ الله سبحانه قال : (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) (1)وقوله (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ ) (2).
  وقوله (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ) (3).
  وقوله (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (4).
  إنّ عدم تعبّد الشيخين في امتثال أمر الرسول واجتهادهم بالرأي وتعرّفهم على المصلحة وهم بحضرة الرسول لاَمر يجب الوقوف عنده وهو جدير بالدرس والتحليل.
  ومن ذلك: اعتراض عمر على رسول الله في صلح الحديبيّة وقوله له: ألَسْتَ نبيّ الله حقّاً ؟
  قال: بلى.
  قال: ألسنا على الحقّ ، وعدوّنا على الباطل ؟
  قال: بلى.
  قلت: فلمَ نعطي الدنيّة في ديننا ؟

------------------
(1) الحشر : 7 .
(2) التكوير: 1(9) 22 .
(3) الحاقّة: 40 ـ 41.
(4) النجم: 2.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 93 _

  فقال : إني رسول الله ، ولست أعصيه ، وهو ناصري.
  قال : أوَ ليس كنت حدَّثتنا ، أنّا سنأتي البيت ونطوف به ؟
  قال : بلى ، أفأخبرتُك أنّا نأتيه العام ؟!
  قلت : لا.
  قال : فإنّك آتيه ومطوّف به.
  قال عمر: فأتيت أبا بكر ، فقلت: يا أبا بكر! أليس هذا نبيّ الله حقّاً ؟
  قال : بلى.
  قلت : فلمَ نعطي الدنيّة في ديننا إذَنْ ؟
  قال : أيّها الرجل! إنّه رسول الله ، وليس يعصي ربّه ، وهو ناصُره ، فاستمسك بغرزه فوالله إنّه على الحقّ.
  قلت : أليس كان يُحَدِّثنُا ، أنّا سنأتي البيت ونطوّف به ؟
  قال : أفأخبرك أنّك تأتيه العام ؟
  قلت : لا.
  قال : فإنّك آتيه ومطوّف به (1).
  فالشكّ في صحّة قول الرسول وعدم الاطمئنان بكلامه (ص) واضح في كلام الخليفة عمر بن الخطّاب ، ولا يمكن لاَحد أن يماري في ذلك ، لاَنّ تكرار عمر ومعاودة مسائلة أبي بكر ، يعني عدم الاطمئنان بما قاله رسول الله (ص) ، وقول أبي بكر لعمر (أيُّها الرجل! إنّه رسول الله وليس يَعصي ربّه) ليؤكّد ذلك الاَمر ، وكذا تأكيده بلزوم التمسّك بغرزه (فاستمسك بغرزه فوالله إنّه على الحقّ).
  ثمّ إنّ عمر ومع سماعه كلام أبي بكر نراه يصرّ على السؤال ويشكّك للمرّة الثالثة فيقول : (أليس كان يُحَدِّثنا أنّا سنأتي البيت ونطوّف به ...).
  فهذا النصّ يوضّح أنّ عمر بن الخطّاب لم يكن من أتباع مسلك التعبّد

------------------
(1) الخبر متواتر ورواه أغلب المفسّرين والمؤرّخين ، وللتأكيد انظر تاريخ عمربن الخطّاب لابن الجوزيّ: 58.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 94 _

  المحض ، فإنّه لو كان من أتباع هذا المسلك لامتثل كلامه (ص) ولما احتاج إلى قول أبي بكر أو غيره من الصحابة.
  وثمّة مواقف أُخرى يفهم منها أنّه كان لعمر آراء خاصّة كان يجدّ في ترسيخها ويلزم بها الصحابة على الرغم من معرفته بمواقف الرسول منها.
  منها: أنّه كان لا يرتضي البكاء على الميّت ، وقد ضرب بعضَ الباكين على رقيّة بنت النبيّ وإبراهيم ابنه (ص) بحضرته (ص) ، وقول رسول الله: إنّ القلب ليحزن والعين لتدمع ، مشيراً إلى عدم جواز ضرب المصدومين والمنكوبين ، بل يجب اتّخاذ أُسلوب الرحمة معهم لا الشدّة والضرب ، وقد جاء عنه أنّه (ص) مسح عين فاطمة لمّا كانت تبكي على أُختها رقيّة ، وأمَرَ نساء الاَنصار بالبكاء على عمّه حمزة وقوله (ص) (ولكنّ حمزة لا بواكي له) وقد بكى (ص) عليه.
  وجاء عن عمر أنّه اعترض على رسول الله لمّا أراد أن يصلّي على منافق ، وأخذ بثوبه (ص) وقال له : أتصلّي عليه وهو منافق (1)؟! ثمّ ندم عمر على ما فعله معه (ص).
  ولا تنحصر مواقف عمر بهذه المفردات بل تتعدّاها إلى أبعد من ذلك ، فإنّه أنكر على رسول الله فعله في أخذ الفداء من الاَسرى في بدر ، لاَنّه كان يرى أن يعمد حمزة إلى أخيه العبّاس فيقتله ، ويأخذ عليّ أخاه عقيلاً فيقتله ، وهكذا كلّ مسلم له قرابة في أسرى المشركين يأخذ قريبه ويقتله بيده حتّى لايبقى منهم أحد.
  فأعرض رسول الله عن هذا الرأي تعبُّداً بالوحي الموافق للرحمة والحكمة.
  ولمّا كان التاريخ والفقه ـ في أحد مدارسه ـ ممّا رسمته ريشة الحُكّام واختطّت أُصوله في زمن الشيخين ، فإنّنا نجد من المؤرّخين والمحدّثين مَن ينال مِن رسول الله كي يبرّر ما فعله الشيخان معه (ص) ، فيذهب إلى القول بأنّ ما قالاه هو تفسير لما نزل من القرآن في تلك الواقعة ، وأنّه نزل قوله تعالى (ما

------------------
(1) انظر تفاصيل الخبر في اجتهاد الرسول: 20(9) 211 .

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 95 _

  كانَ لنبيٍّ أن يكون له أسرى حتّى يثخنَ في الاَرض) (1)في التنديد برسولالله وأصحابه حيث آثروا ـ حسب زعم هؤلاء ـ عَرَض الحياة الدنيا على الآخرة فاتَّخذوا الاَسرى وأخذوا منهم الفداء قبل أن يُثخنوا في الاَرض ، وزعموا أنّه لم يَسْلم يومئذٍ من الخطيئة إلاّ عمر ، ونحن لا نريد التفصيل في تفسير هذه الآية ، بل نكتفي بما قاله السيّد شرف الدين في ذلك ، فقال :
  (وكذب من زعم أنّه (ص) اتّخذ الاَسرى وأخذ منهم الفداء قبل أن يثخن في الاَرض ، فإنّه بأبي وأمي إنّما فعل ذلك بعد أن أثخن في الاَرض ، وقتل صناديد قريش وطواغيتها ، كأبي جهل وعُتبة وشيبة والوليد وحنظلة ، إلى سبعين من رؤوس الكفر وزعماء الضلال ، كما هو معلوم بالضرورة الاَوّليّه ، فكيف يمكن بعد هذا أن يتناوله (ص) اللَّوم المذكور في الآية ، تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً ؟!
  والصواب أنّ الآية إنّما نزلت في التنديد بالذين كانوا يودّون العير وأصحابه ، على ما حكاه الله تعالى عنهم في هذه الواقعة فقال عزّ من قائل (وإذ يعدكم اللهُ إحدى الطائفتَين أنّها لكم وتَوَدُّونَ أنّ غَيْرَ ذاتِ الشوكةِ تكون لكم ويُريدُ الله أن يُحِقّ الحَقَّ بكلماتِه ويَقْطَعَ دابرَ الكافرين) (2)وكان (ص) قد استشار أصحابه ، فقال لهم : إنّ القوم قد خرجوا على كلّ صعب وذلول فما تقولون: العير أحبُّ إليكم أم النفير ؟ قالوا : بل العير أحبّ إلينا من لقاء العدوّ ، وقال بعضهم حين رآه (ص) مُصرّاً على القتال: هلاّ ذكرت لنا القتال لنتأهّبَ له ، إنّا خرجنا للعير لا للقتال! فتغيّر وجه رسول الله فأنزل الله تعالى :(كَمَا أخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيِتْكَ بالحَقّ وإنّ فَريقاً مِنَ المؤمنينَ لكارِهُونَ* يُجادلِونَك في الحقّ بعدَما

------------------
(1) الاَنفال : 67 .
(2) الاَنفال : 7 .

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 96 _

  تَبيّنَ كأنّما يُساقون إلى الموت وهُمْ يَنْظُرون) (1).
  وحيثأراد الله عزّ وجلّ أن يقنعهم بمعذرة النبيّ (ص) في إصراره على القتال وعدم مبالاته بالعير وأصحابه قال عزّ من قائل (ما كان لنبيّ) من الاَنبياء المرسلين قبل نبيّكم محمّد (ص) (أن يكون له أسرى حتّى يثخن في الاَرض).
  فنبيُّكم لا يكون له أسرى حتّى يُثْخِنَ في الاَرض على سنن غيره من الاَنبياء : ، ولذلك لم يبالِ إذ فاته أسر أبي سفيان وأصحابه (تُرِيدُونَ عرض الدنيا والله يريد الآخرة) باستئصال ذات الشوكة ، من أعدائه (والله عزيز حكيم) والعزّة والحكمة تقتضيان يومئذ اجتثاث عزّ العدوّ وإطفاء جمرته ، ثمّ قال تنديداً بهم وتهديداً لهم (لولا كتاب من الله سبق ) في علمه الاَزليّ بأن يمنعكم من أخذ العير وأسر أصحابه لاَسرتم القوم وأخَذْتُم عيرهم ، ولو فعلتم ذلك (لَمَسّكم فيما أخَذْتُم) قبل أن تثخنوا في الاَرض (عذاب عظيم) (2) هذا معنى الآية الكريمة وحاشا الله أن يريد منها ما ذكره أُولئك الجهلاء) (3).
  وقال كذلك : (ولهم في أُحُد حالات تشهد بما قلناه ، وذلك أنّ رسول الله (ص) قد استقبل المدينة في هذه الغزوة وترك أُحداً خلف ظهره وجعل الرُّماة وراءه ، وكانوا خمسين رجلاً أمَّرَ عليهم عبد الله بن جبير ، وقال له ـ فيما نَصَّ عليه المُؤِّرخون والمُحدِّثون كافّة ـ : انضح عنّا الخيل بالنَّبل لايأتونا من خلفنا واثبتْ مكانك إن كانت لنا أو علينا.

------------------
(1) الاَنفال : (5) 6 .
(2) الاَنفال : 6(7) 68 .
(3) الفصول المهمّة: 113.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 97 _

  وحضّهم علىذلك بما لا مزيد عليه وشدّد عليهم الاَمر في طاعة أميرهم عبداللهبن جبير ، لكنّهم واأسفاه لميتعبّدوا يؤمئذٍ بأوامره ونواهيه (ص) ترجيحاً لآرائهم عليها ، وذلك حيث حمي الوطيس واشتدّ بأس المسلمين على فيالق المشركين وعلى أصحاب لوائهم ، فقتلهم أميرالمؤمنين واحداً بعد واحد ، وبقي لواؤهم مطروحاً على الاَرض لايدنو منه أحد ، فانكشف الكفّار حينئذٍ عن المسلمين هاربين على غيرانتظام ، ودخل المسلمون عسكرهم ينهبون ما تركوه من أسلحة وأمتعة وذخائر ومؤن ، فلمّا نظر الرماة إلى المسلمين وقد أكبّوا على الغنائم دفعهم الطمع في النهب إلى مفارقة محلّهم ، الذي أُمروا أن لايفارقوه ، فنهاهم أميرهم عبداللهبن جبير ، عنه فلم ينتهوا ، وقالوا: ما مقامنا هاهنا وقد انهزم المشركون ؟! فقال عبدالله: والله لا أجاوز أمر رسول الله ، وثبت مكانه مع أقلّ من عشرة ، فنظر خالدبن الوليد المخزوميّ إلى قلّة مَن في الجبل من الرُّماة فكرّ بالخيل عليهم ومعه عكرمةبن أبي جهل فقتلوهم ومَثَّلوا بعبداللهبن جبير فأخرجوا حشوة بطنه وهجموا على المسلمين وهم غافلون وتنادوا بشعارهم يا للعزّى يالهبل ! ...) إلى آخر أخبار واقعة أُحد.
  ومن الطريف هنا أن أُشير إلى نكتة قال بها أنصار مدرسة (اجتهاد النبيّ) و(اجتهاد الصحابة) ، وهي : إنَّ للمجتهد أجرين إن أصاب الواقع ، وأجراً إن أخطأ ، فإنّهم ومع قولهم بهذا يذهبون إلى أنّ الله عاتب رسوله لاَخذ الفداء على أسرى بدر ، فإن كان رسول الله قد اجتهد في هذه المسألة ـ حسب زعمهم ـ وأنّ المجتهد مأجور ، فما معنى بكائه (ص) وقرب العذاب منه وقوله (ص) (إنّ العذاب قَرُبَ نُزوله ، ولو نزل لَما نَجا منه إلاّ عمر) (1).

------------------
(1) الفصول المهمّة: 116.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 98 _

  بهذا فقد عرفنا: أنّ من بين الصحابة من كان يعتدّ برأيه قبال قول النبيّ وفعله ، فيسعى جادّاً لتصحيح فعل النبيّ! مُذكِّراً إيّاه (ص) بخطِئهِ وأنّ ما فعله يخالف شريعة السماء ، والعياذ بالله!
  وهناك ـ في الاتّجاه المقابل ـ جماعة من الصحابة آخرون يعتقدون بلزوم امثتال أوامر الرسول وعدم جواز مخالفة قول النبيّ وفعله لاعتقادهم بقوله تعالى (مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ....) (1).
  وفي الذكر الحكيم الكثير من الآيات التي توضّح هذا المعنى ، منها قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (2).
  وقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) (3).
  وعن الزبير بن العوّام في تفسير قوله (واتّقوا فتنة):... ونحن مع رسولالله وما ظننّا أنّا خصصنا بها خاصّة (4).
  وعنه أيضاً: لقد قرأنا هذه الآية زماناً وما أرانا من أهلها ، فإذا نحن المعنيّون بها (5)
  وقال السدّيّ: نَزَلت في أهل بدر خاصّة ، فأصابتهم يوم الجمل فاقتتلوا (6).
  ومن تلك الاَُمور التي عدّت من المصلحة وتَعَرَّفها الخليفة عمربن الخطّاب وهو بحضرة الرسول هو ما وقع عند موته (ص) وقوله (ص): ائتوني بكتف ودواة أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعدي أبداً ، فقال عمر: إنّ الرجل ليهجر ،

------------------
(1) القصص : 68 .
(2) النور: 62.
(3) الاَنفال: 2(4) 25 .
(4) تفسير ابن كثير 2 : 48(8) 489 .
(5) نفس المصدر .
(6) نفس المصدر .

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 99 _

  حسبنا كتاب الله.
  وأودّ هنا أن أُلفت نظر القارىَ إلى نكتة في هذه المسألة وهي: أنّ طلب الدواة والكتف من أجل الكتابة كانت بأمر من النبيّ (ص) لئلاّ تضلّ أُمّته من بعده.
  وقد رأيت مخالفة عمر له (ص) ، وذلك تماماً بعكس ما حدث عند موت أبيبكر ، فإنّ أبا بكر أراد عند موته أن يوصي ، فذكر بعض الكلمات فأُغمي عليه ، فأضاف عثمان بن عفّان اسم عمر كخليفة لاَبي بكر ، ولمّا أفاق أبو بكر أمضى ما كتبه عثمان.
  فتثبيت اسم عمر هنا لم يَعدّوه هجراً ، وأمّا تدوين رسولالله كتاباً ، كي لا تضلّ أُمّته بعده فهو حسب زعمهم الهجر ؟!!
  أتساءل: لماذا لا يُرمى أبو بكر بالهجر ورُمي به الرسول ، في حين كانت حالة أبي بكر لدى احتضاره أشدّ من حالة النبيّ (ص) ؟! وكيف بهم يأخذون بكلام عمر في تسمية أعضاء مجلس الشورى وهو مريض ، ولا يأخذون بكلام رسولالله الذي لا ينطق عن الهوى ؟!
  ولِمَ انقسموا بين يدي رسول الله ولم ينقسموا بين يدي عمر ؟ ولماذا لانسمع أحداً يقول عن الفاروق إنّه قد هَجَرَ في فعله وقراره ، مع لحاظ الفارق بين منزلة عمر ومنزلة النبيّ ؟!
  ألم يكن من حقّ كلّ مسلم أن يوصي ، فَلِمَ وقف عمر بن الخطّاب أمام وصيّة رسول ربّ العالمين إذا ً؟ فهل هو أقلّ شأناً من أيّ مسلم عاديّ ؟!
  إن كان رسول الله لم يوصِ وترك الاَُمّة لتنتخب قائدها ، فلِمَ يُعَيِّن أبو بكر من يَخْلفهُ في الاَمر؟ أليس هذا الفعل هو مخالفة لسنّة رسول الله ؟!
  وهل تُصَدِّق أنّ النبيّ ترك أُمَّته سُدى وهو النبيّ الذي أخبر أُمّته ما فعلته الاَُمم السابقة بأديانها ، وكان يرى الناس لم يكمل إيمانهم بعد ، وهم قريبو عهد بالجاهليّة ، دون راعٍ ، مع ما ثبت عنه (ص) من أنّه ما كان يترك المدينة إلاّ وقد خَلَّف عليها أحداً ، فكيف يتركها بعده هملاً ؟ مضافاً إلى ذلك ترى أبا بكر لايترك الاَُمِّة إلاّ ويُعيّن عمر مكانه ، وكذا الحال بالنسبة إلى عمر فإنّه لميتركهم إلاّ وعَيَّنَ الستّة ، أصحاب الشورى ، فهل تُصَدِّق بعد هذا أنّ رسول الله تركهم سدى ولم يُخَلِّفْ عليهم أحداً ، في حين رأينا تأكيده (ص) على اتّباع جيش

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 100 _

  أُسامة حتّى آخر لحظة من حياته!! ألم يدلّ هذا على اهتمامه (ص) بأمر الخلافة والوصاية ؟!
  بهذا فقد استبان لك أنّ الشيخين لم يكونا من المتعبّدين بكلّ ما قاله الرسول ، بل كانا يتعرّفان المصلحة وهم بحضرته .
  وقد أطلقنا خلال بحثنا هذا على كلّ من أخذ بقول الرسول وامتثل أمره دون الشاكّ السائل عن العلّة والمصلحة فيه اسم (التعبّد المحض).
  وأمّا الذين كانوا يعتدّون بآرائهم ويرون لاَنفسهم حقّ البيان في الاَحكام فقد أطلقنا عليهم اسم : (الاجتهاد والرأي).
  وكان كلا الاتّجاهين قائماً في عهد الرسول ثمّ من بعده ، فلو أخذنا حكم صيام الدهر مثلاً ، فترى البعض من الصحابة يصومه غير مُبالٍ بتكرار النهي عن النبيّ فيه ، وقوله (من صام أوّل الشهر ووسطه وآخره كأنَّما صام الدهر).
  نعم ، إنّ من بين الصحابة من كان يصوم الاَيام الثلاثة في كلّ شهر امتثالاً لاَمر الرسول (ص) كي يحصل على فضيلة صيام الدهر ، ومنهم من كان يصومها في جميع الاَيام مع سماعه نهي رسول الله.
  وكذا الحال بالنسبة إلى نحر الاِبل وأكل لحومها يوم تبوك ، فمع إجازة النبيّ لنحرها برز هناك من الصحابة من أنكر نحرها (1).
  ومثله الحال بالنسبة إلى غزوة أُحد ، فالنبيّ (ص) لمّا هجم عليه خمسة من المشركين ، فأصاب أحدهم جبهته والآخر كسر رباعيّته وثالث فَكَمَ وَجْنَتَهُ ورابع ... ـ إلخ ، فلم يرتضِ النبيّ (ص) إعلام المشركين بأنّه حيّ لميمت كي لايعاودوا الكرّة على المسلمين ، فلمّا عرف كعب بن مالك أنّ رسول الله (ص) ، حيّ نادى : يا معشر المسلمين ! أبشروا هذا رسول الله (ص) لم يُقتل ، فأشار إليه النبيّ (ص) أن أنْصِت ، مخافة أن يسمعه العدوّ فيثب عليه ، فسكت الرجل.
   ثمّ أشرف أبو سفيان على المسلمين فقال : أفي القوم محمّد ؟
  فقال رسول الله: لا تجيبوه ، مخافة أن يعرف أنّه حيّ فيشدَّ عليه بمن معه من أعداء الله ورسوله.

------------------
(1) انظر صحيح البخاريّ ، كتاب الجهاد والسير ، باب حمل الزاد في الغزو.