تأليف
الحافظ ابن البطريق
شمس الدين يحيى بن الحسن الاسدي الربعي الحلي
(523 - 600 هـ)



كلمة المحقق
بسم الله الرحمن الرحيم


  الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على اشرف الانبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم وعلى اهل بيته الطيبين الطاهرين.
  يعد دعم العمل التحقيقي من الضرورات التي لا غنى عنها في عصرنا الراهن ، فنحن اليوم بأمس الحاجة إلى إحياء تراثنا الدفين لتمكين الجيل المعاصر من الاطلاع على تراثه الغني المعطاء ، والتعرف على الاعلام والعظماء من أركان الامة الاسلامية التي كانت ولا تزال تقدم للعالم نماذج حية نابضة بالحياة في جميع حقول المعرفة.
  ونحن إذ نحاول تقديم هذا العمل لابناء الامة الاسلامية نبتغي من ذلك ـ والله من وراء القصد ـ الاشادة بجهود العلماء الابرار وإحياء آثارهم وأسمائهم لانهم لم يدخروا وسعا في سبيل الحفاظ على معالم الدين ونقلها إلى الاجيال

خصائص الوحي المبين _ 4 _

  اللاحقة بأمانة وصدق ، على الرغم من ضآلة الامكانات ، وتواضع العدة ، وصعوبة العثور على المعلومات ، ولكنهم صبروا وادوا ما عليهم ، فجزاهم الله خير جزاء المحسنين.
  ومن فضل الله الرؤوف اللطيف علي ـ ومنذ أمد ـ استهديت إلى التعرف على السيرة العلمية للعلامة الحافظ شمس الدين يحيى بن الحسن الحلي المعروف ب‍ (ابن البطريق) ومؤلفاته القيمة ، فلله الحمد على مننه وآلائه.
  والكتاب الذي بين يديك عزيزي القارئ أعنى (خصائص الوحي المبين في مناقب أمير المؤمنين) هو من أهم وأشهر كتب الحافظ (ابن البطريق) بعد كتابه (عمدة عيون صحاح الاخبار في مناقب إمام الابرار).
  وقد بحثنا كثيرا عن نسخ خطية لهذا الكتاب ولكننا مع الاسف الشديد لم نعثر حتى الآن على اية نسخة خطية منه سوى نسخة مطبوعة في تبريز بالطبعة الحجرية مؤرخة بسنة 1311 ه‍ وعلى ضوئها قمنا بتحقيق الكتاب وتصحيحه. ولذا فإني أرجو من كافة القراء الكرام ممن يمتلكون نسخة خطية له ان يسعفونا بصورتها مشكورين لغرض الاستعانة والاستفادة منها مستقبلا إن شاء الله.
  ومن محاسه الصدف ان الكتاب يشترك في كثير من مباحثه مع كتب المؤلف الاخرى ، ولا سيما كتاب (العمدة) ، ونسخ (العمدة) الخطية متوفرة لدينا.
  ـ ولله الحمد ـ وبهذا تجاوزنا الكثير من صعوبات العمل في هذا المجال ، وحسبك الرجوع إليها عند الحاجة.

خصائص الوحي المبين _ 5 _

  ما كتبه العلامة الاستاذ السبحاني حول كتاب ( العمدة ) وحياة المؤلف ، لشموله ووفائه بكل ما أردنا ذكره.
  نسأل الله الذي وفقنا لهذا العمل وما قبله أن يجزل الثواب لي ولوالدي ولمن وجب حقه علينا.
  وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

خصائص الوحي المبين _ 6 _

خصائص الوحي المبين _ 7 _

خصائص الوحي المبين _ 8 _

بسم الله الرحمن الرحيم

  أهل البيت هم القدوة والاسوة التقريب بين الطوائف الاسلامية من الاماني العزيزة التي يتمناها كل مسلم واع بصير ، خصوصا في الاوضاع الراهنة والاجواء السائدة على المسلمين ، والظروف المحيطة بهم في شتى النواحي والاقطار ولا يشك في ضرورته إلا إثنان : جاهل مغفل ، وجاحد معاند ماكر ، إذ لا يمر على المسلمين يوم إلا وفيه مجازر رهيبة ، وحروب دامية طاحنة ، فرضتها عليهم القوى الكافرة ، التي تخاف من سيادة الاسلام في ربوع العالم ، وانتشاره فيها ، فعادت تؤجج نار الحرب بين آونة واخرى ، فتضرب المسلم بالمسلم تارة وبالكافر اخرى لتحقق أمنيتها الكبرى.
  وليس ببعيد عنا المجازر التي يرتكبها اليوم الكفار (الارمن) ضد المسلمين الآذريين في آسيا الوسطى ، والتي أبرزت ما تكنه صدورهم من العداء والبغض لهم طوال القرون ، فمن أجل السيطرة والتسلط يقتل الارمن الرجال والنساء والاطفال ، ويمثلون بهم ، ويجهزون على الجريح ، وليس هناك دولة تحمي المسلمين ولا مغيث يغيثهم ، ولا قوة تدفع عنهم كارثة الحرب ، وتجزي المسيئ بالجزاء الذي يستحقه وغاية ما نسمعه من وسائل الاعلام هو الاستنكار والمفاوضات والمذاكرات ، إلى غيرذلك من الاساليب الدبلوماسية غير الناجعة ، التي لا تفيد شيئا سوى اعطاء الفرص للعدو وزيادة جرأته.
  واعطف على ذلك المجازر الاخرى التي ترتكبها القوى الكافرة في

خصائص الوحي المبين _ 9 _

  يوغوسلافيا ضد المسلمين في (البوسنه والهرسك) فقد أججت نارا ضد المواطنين بحجة أنهم مسلمون ، وراحت تقتلهم وتبعدهم عن أوطانهم وتذبحهم في عقر دارهم وتدمر مشاريعهم إلى غير ذلك من الاعمال الاجرامية التي كانت ترتكبها القوى الشريرة في القرون الوسطى ، وليس هناك من يداوي جروحهم ولا من يسعفهم بشئ سوى الاستنكارات والخطب الرنانة في وسائل الاعلام وفوق المنابر.
  ولا نتكلم عن المجازر الدامية في فلسطين المحتلة التي يرتكبها الصهاينة ، لانها بمرأى ومسمع من عامة المسلمين.
  إن هذه الحوادث والوقائع الاليمة وعشرات من أمثالها ، تدفع المسلم الحر الذي يجري في عروقه دم الغيرة والحمية إلى التفكير في داء مجتمعة ودوائه ، وفي اعادة مجده التالد وكيانه السابق ، فلا يجد دواء ناجعا سوى التمسك بالاسلام في مجالي العقيدة والشريعة ، ومن أبرز اصوله ما دعا إليه الذكر الحكيم في قوله سبحانه : (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) (1) وقوله تعالى : (إنما المؤمنون إخوة) (2) إلى غير ذلك من الآيات التي تحث على الوحدة والوئام ، والابتعاد عن التمزق والتفرق ، وقد أكد الرسول الكريم ما دعا إليه القرآن بقوله : (مثل المؤمنين في تراحمهم وتواددهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الاعضاء بالسهر والحمى) (3).
  وقال الامام علي ـ عليه‌السلام ـ : (والزموا السواد الاعظم فان يد الله مع الجماعة وإياكم والفرقة ، فان الشاذ من الناس للشيطان كما أن الشاذ من الغنم للذئب ألا من دعا إلى هذا الشعار فاقتلوه ولو كان تحت عمامتي هذه) (4).
  وفي ضوء هذه الدراسة القصيرة نخاطب المسلمين وفي مقدمتهم الرؤساء والمشايخ وقادة الفكر وأرباب القلم بقولنا : (قاربوا الخطى أيها المسلمون ، وقللوا

-----------------------------
(1) آل عمران / 103.
(2) الحجرات / 10.
(3) مسند أحمد 4 / 270.
(4) نهج البلاغة ، طبعة عبده ، ص 261.

خصائص الوحي المبين _ 10 _

  الخلاف واكثروا الوئام ، وتمسكوا بالاصول المشتركة المتوفرة في مجالي العقيدة والشريعة ، وابتعدوا عن التنافر والتناكر حتى تكونوا صفا واحدا في وجه الاعداء لا يزعزعكم مكر الشياطين وحيلة أعدائهم في المناطق كلها).
  ويطيب لي في المقام أن أركز على أمرين ، ربما يكون لهما أثر بارز في حصول التقريب ، وهما :

1 ـ ما هو المراد من التقريب

  ليس المراد من التقريب بين المذاهب والطوائف الاسلامية ، هو ذوب طائفة في اخرى أو جعل جميع المذاهب مذهبا واحدا حتى لا يبقى من المذاهب المختلفة عين ولا أثر ويصبح المسلمون على مذهب واحدا ، فإن ذلك أمر عسير جدا إن لم يكن محالا عادة ولا يتفوه به ذو مسكة ولا يدعو إليه أحد من القادة أعني الذين يحملون لواء التقريب فإن معنى ذلك أن يصير الاشعري معتزليا أو بالعكس ويصبح السني شيعيا أو بالعكس ، ومثله المذاهب الفقهية المتوفرة السائدة في العالم الاسلامي.
  وإنما المراد هو التقريب بين القادة للمذاهب وبالتالي بين القادة واتباعهم وذلك من خلال رسم الخطوط العريضة المشتركة التي تجمع المذاهب الاسلامية في مجالي العقيدة والشريعة ، وانه لو كان هناك خلاف فيهما فهو بالنسبة إلى الامور المتفق عليها قليل جدا ، فالله سبحانه ربنا ، والقرآن كتابنا ، ومحمد نبينا ، والكعبة قبلتنا ، وسنة الرسول قدوتنا ، وأئمة أهل البيت خيارنا إلى غير ذلك من الخطوط التي لا يحيد عنها أي مسلم قيد شعرة ، ومن أنكر أحدها خرج من ريقة الاسلام وهذا هو الذي يوحد المسلمين ويجمعهم تحت راية واحدة ويجعل شعار الجميع قول الشاعر المخلص الداعي إلى تقريب الخطى الذي يقول :
إنـا لـتجمعنا الـعقيدة iiأمة      ii
ويـضمنا دين الهدى iiأتباعا
ويـؤلف الاسلام بين iiقلوبنا      ii
مهما ذهبنا في الهوى أشياعا
  فإذا كان النبي الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقبل إسلام من نطق بالشهادتين ، وأقام الصلاة ،

خصائص الوحي المبين _ 11 _

  وآتى الزكاة ، وصام شهر رمضان وحج البيت (1) ويتلقاه أخا لعامة المسلمين ، ويجعلهم صفا واحدا في مقابل المشركين والطغاة من اليهود والنصارى ، فلماذا لا نقبل إيمان من آمن بأزيد مما جاء في تلك الرواية ، ولو كان هناك اختلاف فإنما هو اختلافات كلامية أوجدها الجدل وصقلها البحث طوال القرون ، مثلا الاختلاف في كون التكلم والارادة من صفات الذات أو من صفات الفعل.
  وإن كان اختلافا حقيقيا وجديا لكنه اختلاف كلامي لا يتوقف عليه الاسلام والايمان ومثله سائر البحوث الكلامية التي أوجدت الانشقاق بين علماء المسلمين من حدوث كلامه وقدمه ، وخلود مرتكب الكبيرة وعدمه.
  ومثل ذلك الاختلاف في الفروع الفقهية من الطهارة إلى الديات فإنها اختلافات أوجدها البحث والاجتهاد من خلال الاستنباط من الكتاب والسنة والغاية هي الوصول إلى واقع الكتاب والسنة وإن كان المصيب واحدا والمخطئ متعددا.
  فاللازم على المسلمين في هذه اللحظات الحاسمة التمسك بالعروة الوثقى وبحبل الله المتين والانظواء تحت المشتركات وارجاع الاختلافات إلى المدارس والمحافل العلمية التي يكثر فيها البحث والجدال وفي النهاية يخرجون منها أخوة متحابين.

2 ـ الالتفات حول أهل البيت من أواصر الوحدة

  إن من وسائل التقريب بل من أواصر الوحدة الاسلامية التمسك بأهل البيت ، والاقتداء بهم في أقوالهم وأفعالهم وتقريراتهم ، فإن المسلمين مهما اختلفوا في شئ لم يختلفوا في طهارتهم وتنزيههم ، وبالتالي حجية كلامهم لانهم أحد الثقلين الذين أوصى الرسول بالتمسك بهما في غير موقف من مواقف حياته ، وقد تكلم الذكر الحكيم في عدة مواضع عنهم وأشاد بفضلهم وكرامتهم ، وإليك البيان بوجه موجز.

-----------------------------
(1) لاحظ جامع الاصول لابن الاثير 1 / 158 ـ 159 فقد جمع ما رواه البخاري ومسلم في ذلك المجال.

خصائص الوحي المبين _ 12 _

  قد ورد لفظ (أهل البيت) في الذكر الحكيم مرتين قال سبحانه : (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (الاحزاب / 33).
  وقال سبحانه : (قالوا أتعجبين من أمر الله * رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد) (هود / 73).
  واللفظة مركبة من كلمتين وهما (الاهل) و (البيت).
  اما (الاهل) فلا يحتاج إلى مزيد تحقيق في تحديد معناه في الكتاب والسنة واللغة ، فإن تلك اللفظة تستعمل فيمن كان له علاقة قوية بما أضيف إليه ذلك اللفظ ، فأهل الامر والنهي هم الذين يمارسون الحكم والبعث والزجر ، وأهل الانجيل هم الذين لهم اعتقاد به ويصدرون عن حكمه ، وأهل الاسلام لمن له علاقة به وعنه يأخذون الحلال والحرام ، وبذلك يعلم معنى أهل الرجل وأهل الماء وأهل الحل والعقد وإنما المهم في المقام الذي يترتب عليه الاثر المهم ، تحديد معنى البيت لغة واستعمالا ، وإليك البيان :

ما معنى (البيت) لغة واستعمالا ؟

  أجمعت المعاجم على أن البيت يطلق ويراد منه دار الرجل ومسكنه.
  قال سبحانه : (ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم ...) (النور / 29).
  فإذا كان البيت هو المأوى والمنزل ، فله مراتب ودرجات ، فالقصر الشاهق بيت كما أن الخبأ المصنوع من الصوف والشعر أيضا بيت ، إلى أن عد القرآن نسيج العنكبوت بيتا له قال سبحانه : (إن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون) (العنكبوت / 41).
  هذا ما يركز عليه اللغة ، ولكن له معنى آخر يستعمل فيه حقيقة أو مجازا ، وهو أنه يطلق البيت ويراد منه مكامن الشرف وجماعه ، فيقال (بيت العرب) أي شرفها.
  قال ابن منظور : وبيت العرب شرفها ، والجمع : البيوت ، ثم يجمع بيوتات ،

خصائص الوحي المبين _ 13 _

  جمع الجمع ، وقال ابن سيدة : والبيت من بيوتات العرب الذي يضم شرف القبيلة كآل حصن : القزاريين ، وآل الجدين : الشيبانيين ، وكان ابن الكلبي يزعم أن هذه البيوتات أعلى بيوت العرب ، ويقال بيت تميم في بني حنظلة أي شرفها.
  وقال العباس يمدح سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :
حتى احتوى بيتك المهيمن من      ii
خـندف عـلياء تحتها iiالنطق
أراد  بـبيته شـرفه iiالـعالي      ii
  وعلى ذلك فالبيت يكون كناية عن الشرف والنسب والعائلة والاسرة.
  قال الشاعر :
ألا يـا بيت بالعلياء iiبيت      ii
ولولا  حب أهلك ما iiأتيت
ألا يا بيت أهلك iiأوعدوني      ii
كأني كل ذنبهم جنيت (1)
  فعلى ذلك فالبيت الوارد في الآية يحتمل وجهين :
  1 ـ البيت : هو مأوى الرجل ومسكنه ومنزله وداره.
  2 ـ البيت : مركز الشرف ومجمع السيادة والعز وما أشبه ذلك.
  وعلى كل تقدير ، فالآية لا تنطبق إلا على بيت خاص وبيت معين ولا تنطبق على جميع البيوت المنوسبة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإليك البيان :
  أما الاول أعني ما إذا اريد منه المسكن والمأوى ، فاللام لا تخلو عن احتمالات ثلاث :
  الف : أن يكون اللام للجنس ، وهو غير مناسب في المقام وإنما يراد منه إذا كان الحكم متعلقا بالطبيعة ، يقال : التمرة خير من جرادة ، وفي قوله تعالى : (إن الانسان خلق هلوعا) (المعارج / 19).
  ومن المعلوم أن الآية الكريمة ليست بصدد بيان حكم طبيعة أهل البيت.

-----------------------------
(1) لاحظ : لسان العرب لابن منظور مادة (بيت) بتلخيص يسير.

خصائص الوحي المبين _ 14 _

  ب : أن يحمل على العموم والاستغراق ، وهو أيضا غير مناسب ، سواء أريد منه جميع البيوت في المدينة أو بيوت النبي ، وإلا لكان اللازم الاتيان بصيغة الجمع كما جاء بها في قوله سبحانه : (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية ...) (الاحزاب / 33).
  ج : أن يراد منها البيت المعهود والمسكن المعين بيت المتكلم والمخاطب ، وعندئذ يقع الكلام في تعيين هذا البيت ، فما هذا البيت الواحد والمسكن المعين ، لا سبيل إلى أن المراد بيت أزواجه لانه لم يكن لازواجه بيت واحد معهود ، بل كان لكل منها بيت خاص ، كما أنه لا سبيل إلى القول بأن المراد بيت واحد من بيوتهن ، إذ لا قرينة على ذلك ، على انه خلاف ما اتفقت عليه الامة ، فتعين أن يكون بيت خاص وهو ليس إلا بيت فاطمة (عليها‌السلام) إذ لم يكن في جانب بيوت أزواج النبي بيت سوى بيتها وهو بيت علي ـ عليه‌السلام ـ صهر النبي.
  إلى هنا خرجنا بهذه النتيجة :
  إذا كان المراد من البيت هو البيت المعين فلا سبيل إلى تطبيقه على جميع بيوت أزواج النبي ولا على واحدة معينة منهن ، إذ لم يكن للجميع بيت خاص كما أنه لم يكن هناك بيت معين لزوجة من زوجاته فلم يبق من اليبوت التي تمت إلى النبي بصلة إلا بيت واحد وهو بيت فاطمة (سلام الله عليها) المتميز من بيوت أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.
  ويؤيده نزول الآية في بيت فاطمة (سلام الله عليها) وجمع النبي إياها وزوجها وابنيها تحت الكساء.
  أما الثاني بأن يكون المراد منه هو مركز الشرف ومجمع السيادة والعز وما يناسب ذلك اللفظ ، وإن شئت قلت إذا اريد منه بيت النبوة وبيت الوحي ومركز أنوارهما فلا يصح أن يراد منه إلا المنتمون إلى النبوة والوحي بوشائج معنوية خاصة على وجه يصح مع ملاحظتها ، عدهم أهلا لذلك البيت ، وتلك الوشائج عبارة عن النزاهة في الروح والفكر.
  ولا يشمل كل من يرتبط ببيت النبوة عن طريق السبب أو النسب فحسب ،

خصائص الوحي المبين _ 15 _

  وفي الوقت نفسه يفتقد الاواصر المعنوية الخاصة ، ولقد تفطن العلامة الزمخشري صاحب التفسير لهذه النكتة ، فهو يقول في تفسير قوله تعالى : (أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت) (هود / 70) : لانها كانت في بيت الآيات ومهبط المعجزات والامور الخارقة للعادات فكان عليها أن تتوقر ولا يزدهيها ما يزدهي سائر النساء الناشئات في غير بيوت النبوة ، وأن تسبح الله وتمجده مكان التعجب ، وإلى ذلك أشارت الملائكة في قولها (رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت ...) أرادوا أن هذه وأمثالها مما يكرمكم به رب العزة ويخصكم بالانعام به يا أهل بيت النبوة (1).
  وعلى ذلك لا يصح تفسير الآية بكل المنتمين عن طريق الاواصر الجسمانية إلى بيت خاص حتى بيت فاطمة إلا أن تكون هناك الوشائج المشار إليها.
  ولقد جرى بين قتادة ذلك المفسر المعروف وبين أبي جعفر محمد بن علي الباقر ـ عليه‌السلام ـ محادثة لطيفة أرشده الامام فيها إلى هذا المعنى الذي أشرنا إليه قال عند ما جلس الامام الباقر ـ عليه‌السلام ـ : لقد جلست بين يدي الفقهاء وقدام ابن عباس فما اضطرب قلبي قدام واحد منهم ما اضطرب قدامك.
  قال له أبو جعفر الباقر عليه‌السلام ـ : ويحك أتدري أين أنت ؟ أنت بين يدي (بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال * رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكوة) (النور / 36 ـ 37) فأنت ثم ونحن اولئك ، فقال قتادة : صدقت والله جعلني الله فداك ، والله ما هي بيوت حجارة ولا طين (2).
  وما جاء في كلام باقر الامة ـ عليه‌السلام ـ يحض المفسر على التحقيق عن الافراد الذين برتبطون بالبيت الرفيع بأواصر معينة وبذلك يسقط القول بأن المراد منه أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لانه لم تكن تلك الوشائج الخاصة ـ باتفاق المسلمين ـ بينهن ، وأقصى ما عندهن أنهن كن مسلمات مؤمنات.

-----------------------------
(1) الكشاف 2 / 107.
(2) الكافي 6 / 256 ـ 257.

خصائص الوحي المبين _ 16 _

القرينة المتصلة في الآية

  إن إمعان النظر في ضمائر الآية ، والروايات الواردة حولها يعطي بأن المراد من أهل البيت غير أزواجه (صلوات الله عليه) ، وذلك لانا نرى أنه سبحانه عندما يخاطب أزواج النبي يخاطبهن حسب المعتاد ، بضمائر التأنيث ، ولكنه عندما يصل إلى قوله : (إنما يريد الله ليذهب ...) يغير الصيغة الخطابية إلى صيغة التذكير ، فما هو السر في تبديل الضمائر لو كان المراد أزواج النبي ؟!
  وإليك الآيات الثلاث الواردة حول أزواجه يقول :
  (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذى في قلبه مرض وقلن قولا معروفا) (الاحزاب / 32).
  (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الاولى وأقمن الصلوة وآتين الزكوة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت).
  (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا) (الاحزاب / 34) نرى أنه سبحانه يخاطبهن في الآية الاولى بهذه الخطابات :
  1 ـ لستن 2 ـ اتقيتن 3 ـ فلا تخضعن 4 ـ وقلن.
  ويخاطبهن في الآية الثانية بهذه الخطابات :
  1 ـ قرن 2 ـ بيوتكن 3 ـ تبرجن 4 ـ أقمن 5 ـ آتين 6 ـ أطعن.
  كما يخاطبهن في الآية الثالثة بقوله :
  1 ـ واذكرن 2 ـ بيوتكن.
  وفي الوقت نفسه يتخذ في ثنايا الآية الثانية موقفا خاصا في الخطاب ويقول :
  1 ـ عنكم 2 ـ يطهركم.
  فما وجه هذا العدول إذا كان المراد نساء النبي ، أو ليس هذا دليلا على

خصائص الوحي المبين _ 17 _

  أن المراد ليس نساءه ؟!
  وروى السيوطي في تفسير قوله سبحانه : (في بيوت اذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه) قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الآية فقام إليه رجل فقال : أي بيوت هذه يا رسول الله ؟ قال : بيوت الانبياء.
  فقام إليه أبو بكر فقال : يا رسول الله هذا البيت منها ـ أي : بيت علي وفاطمة ـ ؟ قال : نعم من أفاضلها (1).
  قال الامام الشافعي :
يـا  أهـل بـيت رسول الله iiحبكم      ii
فـرض  مـن الله في القرآن iiأنزله
كـفاكم مـن عـظيم الـقدر iiأنـكم      ii
من لم يصل عليكم لا صلاة له (2).
  وقال أيضا :
ولـما رأيـت الـناس قد ذهبت iiبهم      ii
مـذاهبهم فـي أبـحر الغي iiوالجهل
ركـبت  على اسم الله في نفس iiالنجا      ii
وهم أهل بيت المصطفى خاتم الرسل
وأمـسكت حـبل الله وهـو iiولاؤهم      ii
كـما قـد امرنا بالتمسك بالحبل ii(3)
  وقال أيضا :
يا راكبا قف بالمحصب من iiمنى      ii
واهتف  بساكن خيفها iiوالناهض
سحرا إذا فاض الحجيج إلى منى      ii
فـيضا  كملتطم الفرات iiالفائض
إن كـان رفـضا حب آل محمد      ii
فـليشهد  الـثقلان اني iiرافضي
  هذا كله يرجع إلى أهل البيت بصورة عامة ويطيب لنا البحث عن سيدهم وعظيمهم الامام علي بن أبي طالب ـ عليه‌ السلام ـ بصورة خاصة.

-----------------------------
(1) الدر المنثور 5 / 505.
(2) الصواعق المحرقة 157.
(3) رشفة الصادي للامام أبي بكر بن شهاب الدين ـ المراجعات 34.

خصائص الوحي المبين _ 18 _

الامام علي ومكونات الشخصية

  تعود شخصية كل انسان ـ حسب ما يرى علماء النفس ـ إلى ثلاثة عوامل هامة لكل منها نصيب وافر في تكوين الشخصية وأثر عميق في بناء كيانها.
  وكأن الشخصية الانسانية لدى كل انسان أشبه بمثلث يتألف من اتصال هذه الاضلاع الثلاثة بعضها ببعض ، وهذه العوامل الثلاثة هي :
  1 ـ الوراثة
  2 ـ التعليم والثقافة
  3 ـ البيئة والمحيط
  إن كل ما يتصف به المرء من صفات حسنة أو قبيحة ، عالية أو وضيعة تنتقل إلى الانسان عبر هذه القنوات الثلاث ، وتنمو فيها من خلال هذه الطرق.
  وان الابناء لا يرثون منا المال والثروة والاوصاف الظاهرية فقط كما مح الوجه ولون العيون وكيفيات الجسم ، بل يرثون كل ما يتمتع به الآباء من خصائص روحية وصفات أخلاقية عن طريق الوراثة كذلك.
  فالابوان ـ بانفصال جزئي (الحويمن) و (البويضة) المكونين للطفل منهما ـ انما ينقلان ـ في الحقيقة ـ صفاتهما ملخصة إلى الخلية الاولى المكونة من ذينك الجزأين تلك الخلية الجنينية التي تنمو مع ما تحمل من الصفات والخصوصيات الموروثة.
  ويشكل تأثير الثقافة والمحيط ، الضلعين الآخرين في مثلث الشخصية الانسانية ، فإن لهذين الامرين أثرا مهما وعميقا في تنمية السجايا الرفيعة المودعة في باطن كل إنسان بصورة فطرية جبلية والمتواجدة في كيانه بسبب الوراثة من الابوين.
  فإن في مقدور كل معلم أن يرسم مصير الطفل ومستقبله من خلال ما يلقي إليه من تعليمات وتوصيات وما يعطيه من سيرة وسلوك ومن آراء وأفكار ، فكم من بيئة

خصائص الوحي المبين _ 19 _

  حولت أفرادا صالحين إلى فاسدين ، أو فاسدين إلى الصالحين.
  وإن تأثير هذين العاملين المهمين من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى المزيد من البيان والتوضيح.
  على اننا يجب أن لا ننسى دور إرادة الانسان نفسه وراء هذه العوامل الثلاثة.

الامام علي ـ عليه ‌السلام ـ والجانب الموروث في شخصيته

  لم يكن الامام علي ـ عليه‌السلام ـ كبشر بمستثنى من هذه القاعدة.
  فقد ورث الامام أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ جانبا كبيرا من شخصيته النفسية والروحية والاخلاقية من هذه العوامل والطرق الثلاثة وإليك تفصيل ذلك :
  1 ـ الامام علي ـ عليه‌السلام ـ والوراثة من الابوين

  لقد انحدر الامام علي من صلب والد عظيم الشأن ، رفيع الشخصية هو أبو طالب ، ولقد كان أبو طالب زعيم مكة ، وسيد البطحاء ، ورئيس بني هاشم ، وهو إلى جانب ذلك ، كان معروفا بالسماحة والبذل والجود والعطاء والعطف والمحبة والفداء والتضحية في سبيل الهدف المقدس ، والعقيدة التوحيدية المباركة.
  فهو الذي تكفل رسول الله منذ توفي عنه جده وكفيله الاول عبد المطلب وهو آنذاك في الثامنة من عمره ، وتولى العناية به والقيام بشؤونه ، وحفظه وحراسته في السفر والحضر ، بإخلاص كبير واندفاع وحرص لا نظير لهما ، بل وبقي يدافع عن رسالة التوحيد ، والدين الحق الذي جاء به النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقوم في سبيل ارساء قواعده ونشر تعاليمه بكل تضحية وفداء ، ويتحمل لتحقيق هذه الاهداف العليا كل تعب ونصب وعناء.
  وقد انعكست هذه الحقيقة وتجلى موقفه هذا في كثير من أشعاره وأبياته المجموعة في ديوانه بصورة كاملة مثل قوله :

خصائص الوحي المبين _ 20 _

لـيـعلم خـيـار الـناس أن مـحمدا      ii
نـبي كـموسى والـمسيح ابـن iiمريم
ألــم  تـعلموا أنـا وجـدنا مـحمدا      ii
رسولا كموسى خط في أول الكتب (1)
  إن من المستحيل أن تصدر أمثال هذه التضحيات التي كان أبرزها محاصرة بني هاشم جميعا في الشعب ومقاطعتهم القاسية من دافع غير الايمان العميق بالهدف والشغف الكبر بالمعنوية ، الذي كان يتصف به أبو طالب ، إذ لا تستطيع مجرد الوشائج العشائرية ، وروابط القربى ، أن توجد في الانسان مثل هذه الروح التضحوية.
  إن الدلائل على إيمان أبي طالب بدين ابن أخيه تبلغ من الوفرة والكثرة بحيث استقطبت اهتمام كل المحققين المنصفين والمحايدين ، ولكن بعض المتعصبين توقف في إيمان تلك الشخصية المتفانية العظيمة ، بالدعوة المحمدية بينما تجاوز فريق هذا الحد إلى ما هو أبعد من ذلك ، حيث قالوا بأنه مات غير مؤمن.
  ولو صحت عشر هذه الدلائل الدالة على إيمان أبي طالب الثابتة في كتب التاريخ والحديث ، في حق رجل آخر لما شك أحد في إيمانه فضلا عن إسلامه ولكن لا يعلم الانسان لماذا لا تسطيع كل هذه الادلة إقناع هذه الزمرة ، وإنارة الحقيقة لهم ؟!
  هذا عن والد الامام أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ.
  وأما أمه فهي فاطمة بنت أسد بن هاشم وهي من السابقات إلى الاسلام والايمان برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد كانت قبل ذلك تتبع ملة إبراهيم.
  إنها المرأة الطاهرة التي لجأت ـ عند المخاض ـ إلى المسجد الحرام ، وألصقت نفسها بجدار الكعبة وأخذت تقول : (يا رب إني مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب ، وإني مصدقة بكلام جدي إبراهيم وانه بنى البيت العتيق ، فبحق الذي بنى هذا البيت و (بحق) المولود الذي في بطني الا ما يسرت علي ولادتي).

-----------------------------
(1) مجمع البيان 4 / 37.

خصائص الوحي المبين _ 19 _

  فدخلت فاطمة بنت أسد في الكعبة ووضعت عليا هناك (1).
  وتلك فضيلة نقلها قاطبة المؤرخين والمحدثين الشيعة ، وكذا علماء الانساب في مصنفاتهم ، كما نقلها ثلة كبيرة من علماء السنة وصرحوا بها في كتبهم واعتبروها حادثة فريدة ، وواقعة عظيمة لم يسبق لها مثيل (2).
  وقال الحاكم النيشابوري : وقد تواترت الاخبار ان فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، في جوف الكعبة (3).
  وقال شهاب الدين أبو الثناء السيد محمود الآلوسي : (وكون الامير كرم الله وجهه ، ولد في البيت ، أمر مشهور في الدنيا ولم يشتهر وضع غيره كرم الله وجهه ، كما اشتهر وضعه) (4).
  2 ـ الامام علي والتربية في حجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأما التربية الروحية والفكرية والاخلاقية فقد تلقاها علي ـ عليه‌السلام ـ في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي الضلع الثاني من أضلاع شخصيته الثلاثة.
  ولو أننا قسمنا مجموعة سنوات عمر الامام ـ عليه‌السلام ـ إلى خمسة أقسام لوجدنا القسم الاول من هذه الاقسام الخمسة من حياته الشريفة ، يشكل السنوات التي قضاها ـ عليه‌السلام ـ قبل بعثة النبي الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.
  وان هذا القسم من حياته الشريفة لا يتجاوز عشر سنوات ، لان اللحظة التي ولد فيها علي (عليه‌السلام) لم يكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد تجاوز الثلاثين من عمره المبارك ، هذا مع العلم بأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد بعث بالرسالة في سن الاربعين.
  وعلى هذا الاساس لم يكن الامام علي ـ عليه‌السلام ـ قد تجاوز السنة العاشرة
-----------------------------
(1) كشف الغمة 1 / 60.
(2) مروج الذهب 2 / 349 ، شرح الشفاء للقاضي عياض 1 / 151 وغيرهما ، وقد أفرد العلامة الاردوبادي رسالة في هذه المنقبة وسماها : علي وليد الكعبة.
(3) شرح عينية عبد الباقي أفندي العمري 15.
(4) الغدير 6 / 22.

خصائص الوحي المبين _20 _

  من عمره يوم بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالرسالة ، وتوج بالنبوة.
  إن أبرز الحوادث في حياة الامام علي ـ عليه‌السلام ـ هو تكوين الشخصية العلوية ، وتحقق الضلع الثاني من المثلث الذي أسلفناه بواسطة النبي الاكرم وفي ظل ما أعطاه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي ـ عليه‌السلام ـ من أخلاق وأفكار ، لان هذا القسم في حياة كل انسان وهذه الفترة من عمره هي من اللحظات الخطيرة ، والقيمة جدا ، فشخصية الطفل في هذه الفترة تشبه صفحة بيضاء نقية تقبل كل لون وهي مستعدة لان ينطبع عليها كل صورة مهما كانت ، وهذه الفترة من العمر تعتبر ـ بالتالي ـ خير فرصة لان ينمي المربون والمعلمون فيها كلما أودعت يد الخالق في كيان الطفل من سجايا طيبة وصفات كريمة ، وفضائل أخلاقية نبيلة ، ويوقفوا الطفل ـ عن طريق التربية ـ على القيم الاخلاقية والقواعد الانسانية وطريقة الحياة السعيدة ، وتحقيقا لهذا الهدف السامي تولى النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفسه تربية علي ـ عليه‌السلام ـ بعد ولادته ، وذلك عند ما أتت فاطمة بنت أسد بوليدها علي ـ عليه‌السلام ـ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلقيت من رسول الله حبا شديدا لعلي حتى أنه قال لها : اجعلي مهده بقرب فراشي وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطهر عليا في وقت غسله ، ويوجر اللبن عند شربه ، ويحرك مهده عند نومه ، ويناغيه في يقظته ، ويلاحظه ويقول : هذا أخي ، ووليي وناصري وصفيي وذخري وكهفي ، وصهري ، ووصيي وزوج كريمتي وأميني على وصيتي وخليفتي (1).
  ولقد كانت الغاية من هذه العناية هي أن يتم توفير الضلع الثاني في مثلث الشخصية (وهو التربية) بواسطته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأن لا يكون لاحد غير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخل في تكوين الشخصية العلوية الكريمة.
  وقد ذكر الامام علي ـ عليه‌السلام ـ ما أسداه الرسول الكريم إليه وما قام به تجاهه في تلكم الفترة إذ قال : (وقد علمت موضعي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقرابة القريبة ، والمنزلة الخصيصة ، وضعني في حجره وأنا وليد يضمني إلى صدره ، ويكنفني

-----------------------------
(1) كشف الغمة 1 / 60.

خصائص الوحي المبين _ 22 _

  في فراشه ، ويمسني جسده ، ويشمني عرفه ، وكان يمضغ الشئ ثم يلقمنيه (1).

النبي يأخذ عليا إلى بيته

  وإذ كان الله تعالى يريد لولي دينه أن ينشأ نشأة صالحة وأن يأخذ النبي عليا إلى بيته وأن يقع منذ نعومة أظفاره تحت تربية النبي الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ألفت نظر نبيه إلى ذلك.
  فقد ذكر المؤرخون أنه أصابت مكة ـ ذات سنة ـ أزمة مهلكة وسنة مجدبة منهكة ، وكان أبو طالب ـ رضي الله عنه ـ ذا مال يسير وعيال كثير فأصابه ما أصاب قريشا من العدم والضائقة والجهد والفاقة : فعند ذلك دعا رسول الله عمه العباس إلى أن يتكفل كل واحد منهما واحدا من أبناء أبي طالب وكان العباس ذا مال وثروة وجدة فوافقه العباس على ذلك :
  فأخذ النبي عليا ، وأخذ العباس جعفرا وتكفل أمره ، وتولى شؤونه (2).
  وهكذا وللمرة الاخرى أصبح علي ـ عليه‌السلام ـ في حوزة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصورة كاملة واستطاع بهذه المرافقة الكاملة أن يقتطف من ثمار أخلاقه العالية وسجاياه النبيلة ، الشئ الكثير ، وأن يصل تحت رعاية النبي وعنايته وبتوجيهه وقيادته ، إلى أعلى ذروة من ذرى الكمال الروحي.
  وهذا هو الامام أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ يشير إلى تلك الايام القيمة وإلى تلك الرعاية النبوية المباركة المستمرة إذ يقول : (ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل اثر أمه ، يرفع لي كل يوم من أخلاقه علما ويأمرني بالاقتداء به) (3).

-----------------------------
(1) نهج البلاغة ـ شرح عبده ـ 2 / 182 الخطبة القاصعة.
(2) بحار الانوار 35 / 44 ، وسيرة ابن هشام 1 / 246.
(3) نهج البلاغة شرح عبده 2 / 182.


خصائص الوحي المبين _ 23 _

علي في غار حراء

  كان النبي ـ حتى قبل أن يبعث بالرسالة والنبوة ـ يعتكف ويتعبد في غار حراء شهرا من كل سنة ، فإذا انقضى الشهر وقضى جواره من حراء انحدر من الجبل ، وتوجه إلى المسجد الحرام رأسا وطاف بالبيت سبعا ، ثم عاد إلى منزله.
  وهنا يطرح سؤال : وماذا كان شأن علي ـ عليه‌السلام ـ في تلك الايام التي كان يتعبد ويعتكف فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذك المكان مع ما عرفناه من حب الرسول الاكرم له ؟ هل كان يأخذ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليا معه إلى ذلك المكان العجيب أم كان يتركه ويفارقه ؟
  إن القرائن الكثيرة تدل على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منذ أن أخذ عليا لم يفارقه يوما أبدا فهاهم المؤرخون يقولون : كان علي يرافق النبي دائما ولا يفارقه أبدا حتى ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا خرج إلى الصحراء أو الجبل أخذ عليا معه (1).
  يقول ابن أبي الحديد : وقد ذكر علي ـ عليه‌السلام ـ هذا الامر في الخطبة القاصعة إذ قال : (ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري) (2).
  إن هذه العبارة وإن كانت محتملة في مرافقته للنبي في حراء بعد البعثة الشريفة إلا أن القرائن السابقة وكون مجاورة النبي بحراء كانت في الاغلب قبل البعثة ، تؤيد أن هذه الجملة ، يمكن أن تكون اشارة إلى صحبة علي للنبي في حراء قبل البعثة.
  إن طهارة النفسية العلوية ، ونقاوة الروح التي كان علي ـ عليه‌السلام ـ يتحلى بها ، والتربية المستمرة التي كان يحظى بها في حجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كل ذلك كان سببا في أن يتصف علي ـ عليه‌السلام ـ ومنذ نعومة أظفاره ـ ببصيرة نفاذة وقلب

-----------------------------
(1) شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد 13 / 208.
(2) نهج البلاغة : الخطبة القاصعة الرقم 187.

خصائص الوحي المبين _ 24 _

  عقول ، وأذن سميعة واعية تمكنه من أن يرى أشياء ويسمع أمواجا تخفى على الناس العاديين ويتعذر عليهم سماعها ورؤيتها ، كما يصرح نفسه بذلك إذ يقول : (أرى نور الوحي والرسالة ، وأشم ريح النبوة) (1).
  ويقول الامام الصادق (عليه‌السلام) : (كان علي ـ عليه‌السلام ـ يرى مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل الرسالة ، الضوء ويسمع الصوت).
  وقد قال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لولا اني خاتم الانبياء لكنت شريكا في النبوة فإن لا تكن نبيا فإنك وصي نبي ووارثه ، بل أنت سيد الاوصياء وإمام الاتقياء (2).
  ويقول الامام علي ـ عليه‌السلام ـ : لقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلت : يا رسول الله ما هذه الرنة ؟ فقال : هذا الشيطان ايس من عبادته.
  ثم قال له : (إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنك لست بنبي ولكنك وزير) (3).
  هذا هو الرافد الثاني الذي كان يرفد الشخصية العلوية بالاخلاق والسجايا الرفيعة.
  3 ـ البيئة الرسالية وشخصية الامام

  ولو أضفنا ذينك الامرين (أي ما اكتسبه من والديه الطاهرين بالوراثة ، وما تلقاه في حجر النبي) إلى ما أخذه من بيئة الرسالة والاسلام من أفكار وآراء رفيعة ، وتأثر عنها أدركنا عظمة الشخصية العلوية من هذا الجانب.
  ومن هنا يحظى الامام علي ـ عليه‌السلام ـ بمكانة مرموقة لدى الجميع : مسلمين وغير مسلمين ، لما كان يتمتع به من شخصية سامقة ، وخصوصيات خاصة يتميزبها.

-----------------------------
(1) نهج البلاغة : الخطبة القاصعة الرقم 187.
(2) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد 13 / 310.
(3) نهج البلاغة : الخطبة القاصعة الرقم 187.

خصائص الوحي المبين _ 25 _

  وهذا هو ما دفع بالبعيد والقريب إلى أن يصف عليا بما لم يوصف به أحد من البشر ، ويخصه بنعوت ، حرم منها غيره ، فهذا الدكتور شبلي شميل المتوفى 1335 وهو من كبار الماديين في القرن الحاضر يقول : (الامام علي بن أبي طالب عظيم العظماء نسخة مفردة لم يرلها الشرق ولا الغرب صورة طبق الاصل لا قديما ولا حديثا) (1).
  وقال عمر بن الخطاب : (عقمت النساء أن يلدن مثل علي بن أبي طالب) (2).
  ويقول جورج جرداق الكاتب المسيحي اللبناني المعروف : (وماذا عليك يا دنيا لو حشدت قواك فأعطيت في كل زمن عليا بعقله وقلبه ولسانه وذي فقاره) (3).
  هذه الابعاد التي ألمحنا إليها هي الابعاد الطبيعية للشخصية العلوية.

البعد الرابع لشخصية الامام ـ عليه‌السلام ـ

  غير أن أبعاد شخصية الامام علي ـ عليه‌السلام ـ لا تنحصر في هذه الابعاد الثلاثة ، فإن لاولياء الله سبحانه بعدا رابعا ، داخلا في هوية ذاتهم ، وحقيقة شخصيتهم وهذا البعد هو الذي ميزهم عن سائر الشخصيات وأضفى عليهم بريقا خاصا ولمعانا عظيما.
  وهذا البعد هو البعد المعنوي الذي ميز هذه الصفوة عن الناس ، وجعلهم نخبة ممتازة وثلة مختارة بين الناس وهو كونهم رسل الله وأنبيائه أو خلفاءه وأوصياء أنبيائه.
  نرى أنه سبحانه يأمر رسوله أن يصف نفسه بقوله : (قل سبحان ربى هل كنت إلا بشرا رسولا) (الاسراء / 93).

-----------------------------
(1) الامام علي صوت العدالة الانسانية 1 / 37.
(2) الغدير 6 / 38 طبعة النجف.
(3) الامام علي صوت العدالة الانسانية 1 / 49.