وقال صاحب الميزان : وقوله تعالى ( وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ) أي : ومن طلبتها من اللاتي عزلتها ولم تقبلها ، فلا إثم عليك ولا لوم ، أي : يجوز لك أن تضم إليك من عزلتها ورددتها من النساء اللاتي وهبن أنفسهن لك بعد العزل والرد ، ويمكن أن يكون إشارة إلى أن له صلى الله عليه وآله وسلم أن يقسم بين نسائه ، وأن يترك القسم فيؤخر من يشاء منهن ويقدم من يشاء ، ويعزل بعضهن من القسم ، فلا يقسم لها أو يبتغيها فيقسم لها بعد العزل ، وهو أفقه لقوله بعده ( ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ ... ) الآية وذلك لسرور المتقدمة بما قسمت له ، ورجاء المتأخرة أن تتقدم بعد وذكر ابن كثير في معنى الآية ( ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ ) أي : إذا علمن أن الله قد وضع عنك الحرج في القسم فإن شئت قسمت وإن شنت لم تقسم ، لا جناح عليك في أي ذلك فعلت ، ثم مع هذا أن تقسم لهن اختيار منك لا أنه على سبيل الوجوب ، فرحن بذلك واستبشرن به وحملن جميلتك في ذلك ، واعترفن بمنتك عليهن في قسمك لهن وإنصافك لهن وعدلك فيهن
.
وقال صاحب الميزان : وقوله تعالى ( لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ) ظاهر الآية لو فرضت مستقلة في نفسها غير متصلة بما قبلها : تحريم النساء له صلى الله عليه وآله وسلم إلا من خير هن فإخترن الله ، ونفي التبدل بهن يؤيد ذلك ، لكن لو فرضت متصلة بما قبلها وهو قوله تعالى ( إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ ) الآية ، كان مدلولها تحريم ما عدا المعدودات .
وفي بعض الروايات عن بعض أئمة أهل البيت إن المراد بالآية : محرمات النساء المعدودة في قوله تعالى من سورة النساء آية 23 ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ ) الآية ، وقوله تعالى ( وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ ) أي : أن تطلق بعضهن
وتزوج مكانها من غيرهن ، وقوله ( إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ) يعني : الإماء ، وهو استثناء من قوله في صدد الآية ( لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء )
(1) .
وذكر ابن كثير في تفسيره : ( لا يحل لك النساء من بعدا أي من بعد ما ذكرنا لك من صفة النساء اللاتي أحللنا لك من نسائك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك ، وبنات العم وبنات العمات وبنات الخال وبنات الخالات والواهبة ، وما سوى ذلك من أصناف النساء فلا يحل لك ، وهذا مروى عن أبي بن كعب ومجاهد .
وروي عن رجل من الأنصار قال . قلت لأبي بن كعب : أرأيت لو أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم توفين ، أما كان له أن يتزوج ؟
فقال : وما يمنعه من ذلك ؟
قال : قلت : قول الله تعالى ( لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ ) فقال : إنما أحل له ضربا من النساء ، فقال تعالى ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ ) إلى قوله تعالى ( إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ ) ثم قيل له ( لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ ) .
وروى ابن كثير عن أبي النضر عن أم سلمة أنها قالت : لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له أن يتزوج من النساء ما شاء
(2) إلا ذات محرم )
(3) ، وذكر ابن كثير لدى قوله تعالى ( وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ ) قال : نهاه عن الزيادة عليهن إن طلق واحدة منهن واستبدال غيرها بها ، إلا ما ملكت يمينه
(4) .
مما سبق يعلم الباحث المتدبر ، أن الأمر لله ، أحل سبحانه لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن ينكح ما شاء من أصناف النساء الوارد ذكرهن في الآية ، وأحل له أن ينكح بغير مهر وهي الهبة ولا تحل الهبة إلا
---------------------------
(1) تفسير الميزان / العلامة الطباطبائي : 335 / 16 .
(2) أي ما شاء من اللاتي أحل الله له .
(3) تفسير ابن كثير : 503 / 3 .
(4) المصدر السابق : 503 / 3
زوجات النبي (صلى عليه وآله وسلم)
_ 17 _
الرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
أما غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلا يصلح نكاح إلا بمهر ، وكان تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم تعدد ترى حكمته عند النظر في حركة الدعوة ، ويتأمل حركة المجتمع وحياة القبائل في عهد البعثة ، نجد إن المخاطر قد أحاطت بالدعوة من كل اتجاه ، وكان على الداعي صلى الله عليه وآله وسلم أن يأخذ بالأسباب لدفع لهذه العقبات .
ولقد اختلفوا في عدد زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
قال البعض : تزوج بخمس وعشرين امرأة وخطب خمس وعشرين .
وقال البعض : تزوج خمس وعشرين امرأة ، وكان في ملك يمينه إحدى وعشرين امرأة .
وقال البعض : تزوج بخمس عشرة امرأة وقال البعض الآخر : تزوج بثلاث عشرة امرأة غير ما كان في ملك يمينه .
وهذا الاختلاف يعود أصله لعدم التدبر في السيرة وفي الأحاديث وفي حركة الدعوة عموما ، وعلى أكتاف اللاعلم واللاتدبر واللابصيرة صعد أعداء الدين واعترضوا على الإسلام بهذا وبغيره بعد أن أضافوا إلى ما تلقفوه إضافات جعلته أكثر تشوها .
ومما لا يخفى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر برواية الحديث ، لأنه يوضح متشابه القرآن ويبين مجمله ويخصص عامه ويفيد مطلقه ، ويخبر بما يستقبل الناس من أحداث لكي يأخذوا بأسباب الحياة الكريمة .
ومما لا يخفى أيضا ( أن رواية الحديث بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم تسر المسار الطبيعي ، ففي مرحلة ثم التضييق على الرواية وفي مرحلة منع الناس من تدوين العلم وردعوا عن جمع السنن والآثار وربما حظر عليهم الحديث عن رسول الله مطلقا ) ، وحبس أعلام الصحابة في المدينة لكيلا يذيعوا الأحاديث في الآفاق
(1) .
ولا يخفى ما قد
---------------------------
(1) انظر كتابنا / معالم الفتن ، كتابنا / ابتلاءات الأمم .
زوجات النبي (صلى عليه وآله وسلم)
_ 18 _
ترتب على هذا من المفاسد التي تتلافى أبدا ، من ذلك شيوع القصص ، والقصص هو إخبار الناس بقصص الماضين ، وعمل ذلك مذموم شرعا لأنه يصرف الناس عن الاشتغال بالعلوم الدينية والنافعة ، ولم يعهد ذلك في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ومع انتشار القصص وضع القصاصون الحديث في قصصهم ، وكانوا إذا دخلوا بمساجد الجماعات ومحافل القبائل من العوام والرعاع ، أكثر جسارة على وضع الحديث ، ومما وضوه أحاديث تنافي عصمة الأنبياء فجعلتهم يخطؤون ، وذلك أنهم عتموا على جوانب الوحي والدعوة ، وأظهروا جوانب الشهوات من حب النساء والأموالى والرآسة إلى غير ذلك
(1) .
ومما نسبوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يسب ويلعن ويجلد ، ونسبوا إليه أنه كان يسهو في الصلاة وأنه كان ينسى آيات القرآن الكريم ، وأنه خطب إحدى زوجاته وهي في سن السادسة وبنى بها وهي في سن التاسعة ، وجميع ذلك تحت عنوان إنه بشر يغضب وينسى ويبحث عن الجمال والمتعة ، قاتلهم الله وتحت عنوان الشجاعة أظهروا حركة السيف وعتموا على الكلمة
(2) .
وأرادوا من وراء تجريد النبي من العصمة ، أن يبرروا أخطاء الأمراء الذين ضيعوا الصلاة وأتبعوا الشهوات وبالجملة : كان القصص مدخلا للكذابين ، وكان النواة الأولى لاختلال منهج البحث ومنهج التفكير ومنهج الاستدلال ، وتحت هذا السقف لا تظهر القراءة النقدية المتفحصة التقييمية إلا بعد عناء شديد .
ومما لا شك فيه أن رواية الحديث الشريف نهضت في عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، إلا أن أهل الشام بقيادة معاوية بن أبي سفيان
---------------------------
(1) المصدر السابق .
(2) المصدر السابق .
زوجات النبي (صلى عليه وآله وسلم)
_ 19 _
تصدوا لهذه النهضة وعارضوها بما بين أيديهم من حديث نخر فيه القصص إلى أقص مدى ، وعلى امتداد المسيرة بعد ذلك كان كل فريقا يمسك بحبله ، وعلى امتداد حبل بني أمية ظهرت العقائد الفاسدة من جبرية وقدرية ومرجئة ، ورفعت أعلام الملك وكانت حركة الملوك عند الخطأ تبرر ويلتمس لها الأعذار من مخزون عتيق يعود فضل ولادته إلى القصاصين
(1) .
وعلى امتداد حبل الإمام علي بن أبي طالب ، كان الحديث الشريف وعلومه ، والقرآن الكريم وعلومه ، حجة على المسيرة لكيلا يكون للناس على الله حجة ، ولا يغني هذا أن الكذابين لم تمتد أيديهم إلى هذا الوعاء ، فربما امتدت أيديهم ولكن بعيدا عن العبادات وعلوم المتشابه والمحكم من الآيات .
وعلى امتداد المسيرة نشط العلماء وجمعوا السنن والآثار النبوية ودونوهما ، ثم جاء من بعدهم علماء سهروا من أجل تنقية الأحاديث مما علق بها ، ورغم عمليات التنقية إلا أن وعاء الحديث لم يسلم من وجود الأحاديث الإسرائيلية والأحاديث التي أشرف على طهيها القصاصون ، وتوالى العلماء من أجل إنجاز هذه المهمة .
ولكن المهمة لم تصل إلى غايتها ، وذلك لأن الدولة كانت قد خلقت رموزا ممنوع الاقتراب منها ، والفرق والأحزاب والمجتمع خلقوا أصنافا لا يمسها أحد بسوء أو نقد ، فمن اقترب من كتاب ما أو من جامعه ، يكون قد أساء إلى الدولة ، ومن الدولة انتقلت الإساءة إلى المواطنين .
ولما كان المجتمع قد تشرب حالة العداء لكل من يقترب من رمز من الرموز ، فإن مجهود العلماء في هذا الباب لم يحقق الكثير وما حققوه يستحقوا عليه الثناء ، وشاء الله تعالى أن يقيم حجته ولو كره الوضاعون الذين أدخلوا في حركة الدعوة ما ليس منها . وتاجروا بقصص لا تفيد الدعوة ولم يقم على
---------------------------
(1) المصدر السابق .
زوجات النبي (صلى عليه وآله وسلم)
_ 20 _
أحدائها تشريع ، وحجة الله تعالى هو القرآن الكريم ، وعلى ضوء القرآن يتبين الباحث المنصف أن حركة الدعوة الإسلامية في عهد النبوة ، كانت حركة قرآنية شكلا ( وموضوعا ) .
ولقد وصف الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بأوصاف حميدة ، وصفه بأنه رؤوف رحيم وأنه على خلق عظيم إلى غير ذلك ، وبين القرآن أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مؤيد بالعصمة ومصون من الخطأ والغفلة في تلقي الوحي من الله وحفظه وتبليغه .
وألزم القرآن الناس بأن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم أسوة حسنة ، وفي عهد البعثة كانت أجهزة الصد عن سبيل الله تعلم أن عصمة الرسول من حجج القرآن ، وقد رسموا كثيرا من الخطط لإبطال هذه الحجة وغيرها فخاب سعيهم ورد الله كيدهم إلى نحورهم .
وعلى امتداد المسيرة كان المسلمون يعرضون أي رأي وأي حديث وأي عقيدة على القرآن الكريم ، فإذا لم يروا ضوءا ( قرآنيا ) على هذه الدوائر ، لم تلتفتوا إليها ، وذلك لاعتقادهم الراسخ بأن كل رأي ديني لا بد أن ينتهي إلى القرآن ، ذلك الكتاب الذي لا يقبل النسخ والإبطال والتهذيب والتغيير ، ولا يجد الباطل طريقه إليه .
وبالجملة : إن حركة الدعوة وسيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا تقرأ إلا تحت هذا العنوان ( عصمة الرسول ) لأنها مركز للضوء القرآني ، ثم نعود إلى حيث بدأنا ، وهو عدد أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو العدد الذي بالغ فيه البعض
روى صاحب الميزان : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تزوج بخمس عشرة امرأة ، ودخل بثلاث عشرة امرأة منهن ، وقبض عن تسع ، فأما اللتان لم يدخل بهما : فعمرة وسبا ، وأما الثلاث عشرة اللاتي دخل بهن ، فأولهن : خديجة بنت خويلد ، ثم سودة بنت زمعة ، ثم أم سلمة واسمها هند بنت أبي أمية ، ثم أم عبد الله
زوجات النبي (صلى عليه وآله وسلم)
_ 21 _
عائشة بنت أبي بكر ، ثم حفصة بنت عمر ، ثم زينب بنت خزيمة بن الحارث أم المساكين ، ثم زينب بنت جحش ، ثم أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان ، ثم ميمونة بنت الحارث ، ثم زينب بنت عميس ، ثم جويرية بنت الحارث ، ثم صفية بنت حمى بن أخطب ، والتي وهبت نفسها للنبي خولة بنت حكيم السلمي ، وكان له سريتان يقسم لهما مع أزواجه : مارية القبطية ، وريحانة الخندقية ، والتسع اللاتي قبض عنهن : عائشة ، وحفصة ، وأم سلمة ، وزينب بنت جحش ، وميمونة بنت الحارث ، وأم حبيب بنت أبي سفيان ، وجويرية ، وسودة ، وصفية ، وأفضلهن : خديجة بنت خويلد ، ثم أم سلمة ثم ميمونة
(1) .
وقال أبو عمر في الاستيعاب : اللواتي لم يختلف أهل العلم فيهن ، هن إحدى عشر امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ست من قريش ، وواحدة من بني إسرائيل من ولد هارون عليه السلام ، وأربع من سائر العرب ، وتوفي في حياته صلى الله عليه وسلم من أزواجه اثنتان : خديجة بنت خويلد ، وزينب بنت خزيمة ، وتخلف منهن تسع بعده ، وأما اللواتي اختلف فيهن ممن أبتنى بها أو فارقها أو عقد عليها ولم يدخل بها أو خطبها ولم يتم له العقد معها ، فقد اختلف فيهن ، وفي أسباب فراقهن اختلافا ( كثيرا ) يوجب التوقف عن القطع بالصحة في واحدة منهن
(2) .
وعن ابن هشام في السيرة : لم يختلف أهل العلم على أنه صلى الله عليه وسلم ، تزوج ست من قريش هن : خديجة بنت خويلد ، وسودة بنت زمعة ، وأم سلمة بنت أبي أمية ، وعائشة بنت أبي بكر ، وحفصة بنت عمر ، وأم حبيبة بنت أبي سفيان ، وإنه تزوج من العربيات وغيرهن أربع هن : زينب بنت جحش وميمونة بنت الحارث ، وزينب بنت خزيمة ، وجويرية
---------------------------
(1) تفسير الميزان : 316 / 16 .
(2) الاستيعاب : 34 / 1 .
زوجات النبي (صلى عليه وآله وسلم)
_ 22 _
بنت الحارث ، وتزوج من بني إسرائيل واحدة هي : صفية بنت حيي من ولد هارون عليه السلام ، وكان له سريتان يقسم لها مع أزواجه هما : مارية القبطية ، وريحانة .
وبقراءة السيرة وبالنظر في الدعوة في زمن البعثة ، يقف الباحث على أن زواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يحكمه البلاغ والإنذار والدعوة إلى الله عز وجل .
فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم تزوج ببعض هؤلاء الأزواج اكتسابا ( للقوة وازديادا ) للعضد والعشيرة ، وببعض هؤلاء استمالة للقلوب وتوقيا ( من بعض الشرور ، وببعض هؤلاء ليقوم على أمرها بالإنفاق وإدارة المعاش وليكون سنة جارية بين المؤمنين في حفظ الأرامل والعجائز من المسكنة والضيعة ، وببعضها لتثبيت حكم مشروع وإجراء عملا ) لكسر السنن المنحطة والبدع الباطلة الجارية بين الناس ، كما في تزوجه بزينب بنت جحش ، وقد كانت زوجة لزيد بن حارثة ثم طلقها زيد وقد كان يدعي زيد بن محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على نحو التبني ، وكانت زوجة المدعو إبنا عندهم كزوجة الابن الصلبي لا يتزوج بها الأب ، فأبطل الإسلام ذلك .
وبالنظر في ازدواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالنساء ، نجد إنه تزوج أول ما تزوج بخديجة رضي الله عنها ، وعاش معها مقتصرا ( عليها نيفا ) وعشرين سنة ، وبعد وفاتها تزوج بسودة بنت زمعة وقد توفي عنها زوجها بعد الرجوع من هجرة الحبشة ، وكانت سودة مؤمنة مهاجرة ، ولو رجعت إلى أهلها وهم يومئذ كفار لفتنوها كما فتنوا غيرها من المؤمنين والمؤمنات بالزجر والقتل والإكراه على الكفر .
وتزوج بزينب بنت خزيمة بعد قتل زوجها عبيدة بن الحارث يوم بدر شهيدا ، وكانت من السيدات الفاضلات في الجاهلية تدعى أم المساكين لكثرة برها للفقراء والمساكين ، فصان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
زوجات النبي (صلى عليه وآله وسلم)
_ 23 _
بازدواجها ماء وجهها .
وتزوج بأم سلمة ، واسمها هند ، وكانت من قبل زوجة عبد الله بن عبد الأسد أبي سلمة ، أول من هاجر إلى الحبشة ، توفي من أثر جرح أصابه يوم أحد ، وكانت أم سلمة زاهدة فاضلة ذات دين ورأي ، فلما توفي عنها زوجها وكانت ذات أيتام تزوج بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وتزوج بجويرية ، واسمها برة بنت الحارث سيد بني المصطلق بعد وقعة بني المصطلق ، وقد كان المسلمون أسروا منهم مثني بيت بالنساء والذراري ، فتزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها ، فقال المسلمون : هؤلاء أصهار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا ينبغي أسرهم وأعتقوهم ، جميعا ، فأسلم بنو المصطلق بذلك ولحقوا عن آخرهم بالمسلمين وكانوا جما غفيرا ، وأثر ذلك أثرا ( حسنا ) في سائر العرب .
وكان هذا العمل من الأسباب الرئيسية لتصدع جبهة المشركين ، وذلك أن أبا سفيان بن حرب كان يرتكز في حربه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم على هذا البطن من خزاعة بني المصطلق ، فلما أسلموا تصدعت جبهة أبو سفيان ، وفتح الطريق أمام الدعوة بعد ذلك وأرسلت الرسائل إلى القادة والملوك .
وتزوج بصفية بنت حيي بن أخطب من نسل هارون عليه السلام ، وكانت في سبي خيبر ، فاصطفاها وأعتقها وتزوج بها ، وأقيمت بهذا الازدواج حجة دامغة على اليهود كما سيأتي .
وتزوج أم حبيبة ، واسمها رملة بنت أبي سفيان ، وكانت زوجة عبيد الله بن جحش ، وهاجر معها إلى الحبشة الهجرة الثانية فتنصر عبيد الله هناك ، وثبتت هي على الإسلام ، وكان أبوها أبو سفيان في مكة يجمع الجموع على الإسلام يومئذ ، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأحصنها .
زوجات النبي (صلى عليه وآله وسلم)
_ 24 _
وتزوج بحفصة بنت عمر ، وقد مات زوجها بعد الهجرة مقدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بدر .
وتزوج عائشة بنت أبي بكر وهى بكر ، لقد قالوا : إن تعدد الزوجات لا يخلو من الانقياد لداعي الشهوة ، فأين هذا الانقياد وهذا الداعي ؟
لقد تزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أول ما تزوج بخديجة وعاش معها مقتصرا ( عليها نيفا ) وعشرين سنة وهذه المدة هي ثلثا عمره الشريف بعد الازدواج ، ومن هذه المدة ثلاث عشرة سنة بعد نبوته قبل الهجرة من مكة ، ثم هاجر إلى المدينة وشرع في نشر الدعوة وإعلاء كلمة الدين .
وتزوج بعدها من النساء منهن البكر ومنهن الثيب ومنهن الشابة ومنهن العجوز والمكتهلة ، وكان ذلك ما يقرب من عشرة سنين ، ثم حرم عليه النساء بعد ذلك إلا من هي في حبالة نكاحه ، ومن المعلوم أن هذه الفعال على هذه الخصوصيات ، لا يقبل التوجيه بمجرد حب النساء والولوع بهن ، والوله بالقرب منهن ، فأول هذه السيرة وآخرها يناقضان ذلك
(1) .
ووفقا لما نشاهده من العادة الجارية بين الناس ، إن الرجل المتولع بالنساء المغرم بحبهن والخلاء بهن والصبوة إليهن ، هذا الرجل تراه مجذوب إلى الزينة عشيق للجمال ، حنين إلى الشباب ونضارة السن وطراوة الخلقة ، فإذا نظرنا إلى هذه الخواص التي تتوفر في الرجل المتولع بالنساء ، نجد أنها لا تنطبق على سيرة النبي الأعظم صاحب الخلق العظيم صلى الله عليه وآله وسلم ، فإنه بني بالثيب بعد البكر ، وبالعجوز بعد الفتاة الشابة ، فقد بنى بسودة بنت زمعة وهي مسنة ، وبنى بزينب بنت جحش وسنها يومئذ يقرب على الخمسين بعدما تزوج بمثل عائشة وأم حبيبة ، وهكذا .
---------------------------
(1) تفسير الميزان : 195 / 4 .
زوجات النبي (صلى عليه وآله وسلم)
_ 25 _
فإذا أضفنا إلى هذه الحركة في الازدواج أنه صلى الله عليه وآله وسلم خير نساءه بين التمتع والسراح الجميل وهو الطلاق إن كن يردن الدنيا وزينتها ، وبين الزهد في الدنيا وترك التزين والتجمل إن كن يردن الله ورسوله والدار الآخرة ، على ما يشهد به قوله تعالى ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا )
(1) .
فهذا المعنى أيضا أمام الباحث المتدبر لا ينطبق على حال رجل مغرم بجمال النساء صاب إلى وصالهن ، فلا يبقى حينئذ للباحث المتعمق إذا أنصف إلا أن يوجه كثرة ازدواجه صلى الله عليه وآله وسلم ، فيما بين أول أمره وآخر أمره ، بعوامل أخرى غير عامل الانقياد لداعي الشهوة حيث الشره والشبق والتلهي .
في ظلال الأوامر الإلهية لنساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
سار النبي بالدعوة في طريق الزهد وترك الزينة وندب نساءه إلى ذلك ، قال تعالى ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا
فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا * يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن
يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ
وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا * يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا * وَقَرْنَ
فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ
---------------------------
(1) سورة الأحزاب آية : 29 .