وخاصتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ) قالت أم سلمة : فأدخلت رأسي البيت فقلت : وأنا معكم يا رسول الله ؟ قال لا ( إنك إلى خير إنك إلى خير )
.
من معالم الإرشاد : مما روته أم سلمة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يتبين أن أم سلمة كانت حجة بذاتها ، نظرا لما شاهدته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما أخبرها به ، فلقد شاء الله تعالى أن تنزل آية التطهير في بيت أم سلمة ، وأن تشهد أم سلمة أصحاب هذه الآية ، وشاء الله تعالى أن ينزل جبريل وغيره من الملائكة عليهم السلام في بيتها ، ويخبروا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقتل الحسين بن علي بن أبي طالب ن وهو واحد من أهل الكساء الذين نزلت في حقهم آية التطهير .
ولقد روي عن أم سلمة : أحاديث تبين ما يستقبل الناس من الفتن ، وكانت هذه الروايات في حقيقة الأمر دعوة من أجل الأخذ بأسباب الحياة الكريمة ، ومما روي عن أم سلمة في هذا الباب عن عبد الله بن رافع عن أم سلمة قالت : أشهد إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من أحب عليا فقد أحبني ، ومن أحبني فقد أحب الله ، ومن أبغض عليا فقد أبغضني ومن أبغضني فقد أبغض الله
.
وعن ثابت مولى أبي ذر ، قال : كنت مع علي بن أبي طالب يوم الجمل ، فلما رأيت عائشة دخلني بعض ما يدخل الناس ، فكشف الله عني ذلك عند صلاة الظهر فقاتلت مع أمير المؤمنين ، فلما فرغ ذهبت إلى المدينة ، فأتيت أم سلمة ، فقلت : إني والله ما جئت أسال طعاما ولا شرابا ، ولكني مولى لأبي ذر ، فقالت : مرحبا .
فقصصت عليها قصتي ، فقالت : أين كنت حين طارت القلوب مطائرها ؟
قلت : إلى حيث كشف الله ذلك عني عند زوال الشمس ، قالت : أحسنت ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( علي مع القرآن والقرآن مع علي ، لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض )
(1) .
وروي عن مالك بن جعونه قال : سمعت أم سلمة تقول : علي مع الحق، ومن تبعه فهو على الحق ، ومن تركه ترك الحق ، عهدا ( معهودا ) قبل يومه هذا
(2) .
وعن أم سلمة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا ذات يوم في بيتي ، فقال : لا يدخل علي أحد ، فإنتظرت ، فدخل الحسين ، فسمعت نشيج رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي ، فاطلعت فإذا حسين في حجره والنبي صلى الله عليه وسلم يمسح جبينه وهو يبكي ، فقلت : والله ما علمت حين دخل فقال : إن جبريل كان معنا في البيت ، قال أفتحبه ؟
قلت : أما من الدنيا فنعم فقال : إن أمتك ستقتل هذا بأرض يقال لها كربلاء .
وعندما فتحت أبواب الفتن لأخذ الناس بأسبابها ، قتل الحسين بن علي عليهما السلام .
وروي عن سلمى قالت : دخلت على أم سلمة وهي تبكي ، فقلت : ما يبكيك ؟
قالت : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام ، وعلى رأسه ولحيته التراب .
فقلت : ما لك يا رسول الله ؟
قال :
---------------------------
(1) رواه الحاكم وأقره الذهبي : ( المستدرك 124 / 3 ) والطبراني : ( كنز العمال : 603 / 11 ) .
(2) رواه الذهبي في ميزان الاعتدال ترجمة مرسى بن قيس : ( ميزان الإعتدال 217 / 4) ، نشيج / أي صوت معه توجع وبكاء ، أي إنها تعجبت حين وجدت الحسين ، قال الهيثمي رواه الطبراني ورجاله ثقات : ( الزوائد 189 / 9 ) .
زوجات النبي (صلى عليه وآله وسلم)
ـ 63 ـ
شهدت قتل الحسين آنفا " )
(1) .
وروى الحاكم عن شهر بن حوشب قال : أتيت أم سلمة أعزيها بقتل الحسين بن علي
(2) .
وروي أن أم سلمة قالت عندما بلغها قتل الحسين : قد فعلوها ملأ الله قبورهم ـ أو بيوتهم عليهم نارا ، ووقعت مغشيا عليها
(3) ، لقد قدر لأم سلمة رضي الله عنها أن تشهد المقدمات والنتائج ، وبين المقدمة وبين النتيجة كانت الحجة بالبلاغ فوق رؤوس المسيرة ، ولله في عباده شؤون .
وقال صاحب الإصابة : كانت أم سلمة موصوفة بالعقل البالغ والرأي الصائب ، وإشارتها على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية تدل على وفور عقلها وصواب رأيها
(4) .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحابه بعد ما كتب كتاب الصلح يوم الحديبية : أنحروا بدنكم واحلقوا رؤوسكم ، فامتنعوا وقالوا : كيف ننحر ونحلق ولم نطف بالبيت ولم نسع بين الصفا والمروة ، فإغتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشكا ذلك لأم سلمة فقالت : يا رسول الله أنحر أنت وأحلق ، فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلق ، فنحر القوم
(5) .
ومما يدل على رجاحة عقلها أيضا ، روي عن عبد الله بن رافع قال : كانت أم سلمة تحدث أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر وهي تمتشط : أيها الناس ، فقالت لماشطتها : لفي رأسي ، قالت : فديتك إنما يقول : أيها الناس ، قالت أم سلمة : ويحك أو لسنا من الناس ، فلفت رأسها وقامت في حجرتها فسمعته يقول : أيها الناس بينما
---------------------------
(1) رواه الحاكم : ( المستدرك 19 / 4 ) وابن كثير : ( البداية 217 / 8 ) .
(2) رواه الحاكم : ( المستدرك 19 / 4 ) .
(3) البداية والنهاية : 218 / 8 .
(4) الإصابة : 459 / 4 .
(5) تفسير الميزان : 268 / 18 .
زوجات النبي (صلى عليه وآله وسلم)
_ 64 _
أنا على الحوض جئ بكم زمرا " ، فتفرقت بكم الطرق
(1) .
فناديتكم : ألا هلموا إلي الطريق
(2) .
فناداني مناد من بعدي
(3) فقال : إنهم قد بدلوا بعدك
(4) .
فقلت : ألا سحقا ( سحقا )
(5) .
وفاتها :
قال ابن حيان : ماتت سنة إحدى وستين بعد ما جاءها نعي الحسين بن علي
(6) .
وقال أبو نعيم : ماتت سنة اثنتين وستين وهي آخر أمهات المؤمنين موتا
(7) .
وروى الحاكم عن عطاء بن السائب قال : كنا قعودا مع محارب بن دثاز فقال : حدثني ابن سعيد بن زيد أن أم سلمة أوصت أن يصلي عليها سعيد بن زيد ، خشية أن يصلي عليها مروان بن الحكم
(8) .
وقال أبو عمر : دخل قبرها عمر وسلمة ابنا أبي سلمة ودفنت بالبقيع رحمة الله عليها
(9) .
---------------------------
(1) أي / بعضهم سلك الطريق إلى الحوض ، وبعضهم ضل عنها إلى طريق آخر غير موصل .
(2) أي / أقبلوا .
(3) من بعدي / أي من ورائي .
(4) أي / أحدثوا في الدين ما ليس منه .
(5) رواه أحمد وأسناده جيد : ( الفتح الرباني 197 / 1 ) .
(6) الإصابة : 460 / 4 .
(7) المصدر السابق : 460 / 4 .
(8) رواه الحاكم : ( المستدرك 19 / 4 ) .
(9) الإستيعاب : 422 / 4 .
زوجات النبي (صلى عليه وآله وسلم)
_ 65 _
7 ـ السيدة زينب بنت جحش زواجها :
هي : زينب بنت جحش بن رياب بن يعمر بن حبرة بن مرة بن أسد بن خزيمة ، وأمها : أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي ، عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أخرج ابن سعد عن عمر بن عثمان عن أبيه قال : قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، وكانت زينب بنت جحش ممن هاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم على زيد بن حارثة ، فقالت : يا رسول الله لا أرضاه لنفسي وأنا أيم قريش قال : فإني قد رضيته لك ، فتزوجها زيد بن حارثة
(1) .
وروي أن زيدا كان يقال له زيد بن محمد ، وكان أهل الجاهلية يعتقدون أن الذي يتبنى غيره يصير ابنه بحيث يتوارثان إلى غير ذلك ، فلما نزل قوله تعالى : ( ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ ) وقوله تعالى : ( مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ) الآية ، وزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بزينب بنت جحش انتفى ما كانوا يعتقدونه في الجاهلية ، وعلاوة على ذلك
---------------------------
(1) الطبقات الكبرى : 101 / 7 .
زوجات النبي (صلى عليه وآله وسلم)
_ 66 _
امتحن الله تعالى المسلمين في هذه الآونة بهذا الزواج ، فأما الذين آمنوا فقد علموا أن وراء هذا التشريع حكمة ، وأما المنافقين فقالوا حرم محمد الولد وقد تزوج امرأة إبنه ، إلى غير ذلك .
وقصة الزواج أشار إليها قول الله تعالى : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا * وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا * مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا * الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا * مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا )
(1) .
قال صاحب الميزان : المراد بهذا الذي أنعم الله عليه ، وأنعم النبي عليه ، زيد بن حارثة ، الذي كان عبدا " للنبي صلى الله عليه وسلم ثم حرره واتخذه ابنا " له ، وكان تحته زينب بنت جحش ، أتى زيد النبي فاستشاره في طلاق زينب ، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن الطلاق ، ثم طلقها زيد فتزوجها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ونزلت الآيات ، فقوله : ( أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ ) أي بالهداية إلى الإيمان وتحبيبه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقوله : ( وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ ) أي بالإحسان إليه وتحريره وتخصيصه بنفسك ، وقوله : ( أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ ) كناية عن الكف عن تطليقها ، ولا تخلو من إشعار بإصرار زيد على تطليقها وقوله : ( وَتُخْفِي
---------------------------
(1) سورة الأحزاب آية : 37 ـ 41 .
زوجات النبي (صلى عليه وآله وسلم)
_ 67 _
فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ ) أي مظهره ( وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاه ) ذيل الآيات ، أعني قوله : ( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّه ) دليل على أن خشيته صلى الله عليه وسلم الناس ، لم تكن خشية على نفسه ، بل كانت خشية في الله ، فأخفى في نفسه ما أخفاه ، استشعارا منه أنه لو أظهره ، عابه الناس وطعن فيه بعض من في قلبه مرض ، فأثر ذلك أثرا ( سيئا ) في إيمان العامة ، وهذا الخوف ـ كما ترى ـ ليس خوفا ( مذموما ) ، بل خوف في الله ، وهو في الحقيقة خوف من الله سبحانه .
فقوله : ( وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاه ) الظاهر في نوع من العتاب ، ردع عن نوع من خشية الله ، وهي خشية عن طريق الناس وهداية إلى نوع آخر من خشيته تعالى ، وأنه كان من الحري أن يخشى الله دون الناس ، ولا يخفي ما في نفسه ما الله مبديه ، وهذا نعم الشاهد على أن الله كان قد فرض له أن يتزوج زوج زيد الذي كان تبناه ، ليرتفع بذلك الحرج عن المؤمنين في التزوج بأزواج الأدعياء ، وهو صلى الله عليه وآله وسلم كان يخفيه في نفسه إلى حين ، مخافة سوء أثره في الناس ، فأمنه الله ذلك بعتابه عليه .
نظير ما تقدم في قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ـ إلى قوله ـ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) الآية ، فظاهر العتاب الذي يلوح من قوله : ( وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاه ) مسوق لانتصاره ... وتأييد أمره ، قبال طعن الطاغين ممن في قلوبهم مرض .
نظير ما تقدم في قوله : ( عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ )
(1) ومن الدليل على أنه انتصار وتأييد في صورة العتاب قوله تعالى بعد : ( فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا ) حيث أخبر عن تزويجه إياها ، كأنه أمر خارج عن إرادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم واختياره ثم قوله : ( وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا )
---------------------------
(1) سورة التوبة آية : 43 .
زوجات النبي (صلى عليه وآله وسلم)
_ 68 _
فقوله : (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا ) متفرع على ما تقدم من قوله : ( وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيه ) وقضاء الوطر منها كناية عن الدخول والتمتع ، وقوله : ( لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ) تعليل للتزويج ومصلحة للحكم .
وقوله : ( وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ) مشير إلى تحقيق الوقوع وتأكيد للحكم ، ومن ذلك يظن أن الذي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخفيه في نفسه ، هو ما فرض الله له أن يتزوجها ، لا هواها وحبه الشديد لها وهي بعد متزوجة ، كما ذكر جمع من المفسرين ، واعتذروا عنه بأنها حالة جبلية لا يكاد يسلم منها البشر ، فإن فيه أولا " : منع أن يكون بحيث لا يقوى عليه التربية الإلهية ، وثانيا " : أنه لا معنى حينئذ للعتاب على كتمانه وإخفائه في نفسه فلا مجوز في الإسلام لذكر حلائل الناس والتشبيب بهن .
وقوله تعالى : ( مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ ) المعنى : ما كان على النبي من منع فيما عين الله له ، أو أباح الله له ، حتى يكون عليه حرج في ذلك
(1) .
وقال في الميزان : وفي العيون في باب مجلس الإمام الرضا عند المأمون مع أصحاب الملل في حديث يجيب فيه عن مسألة علي بن الجهم في عصمة الأنبياء قال : وأما محمد صلى الله عليه وآله وقول الله عز وجل : ( وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ) فإن الله عز وجل عرف نبيه صلى الله عليه وسلم أسماء أزواجه في الدنيا وأسماء أزواجه في الآخرة ، وأنهن أمهات المؤمنين ، وأحد من سمى له زينب بنت جحش ، وهي يومئذ تحت زيد بن حارثة ، فأخفى صلى الله عليه وآله وسلم اسمها
---------------------------
(1) تفسير الميزان : 322 / 16 .
زوجات النبي (صلى عليه وآله وسلم)
_ 69 _
في نفسه ولم يبده ، لكيلا يقول أحد من المنافقين : إنه قال في امرأة في بيت رجل أنها أحد أزواجه من أمهات المؤمنين ، وخشي صلى الله عليه وآله وسلم قول المنافقين ، قال تعالى : ( وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاه ) يعني في نفسك الحديث .
وروي ما يقرب منه في المجمع في قوله : ( وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيه ) قيل : إن الذي أخفاه في نفسه هو أن الله سبحانه أعلمه أنها ستكون من أزواجه ، وأن زيدا " سيطلقها ، فلما جاء زيد وقال له : أريد أن أطلق زينب ، قال له : أمسك عليك زوجك ، فقال الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم : لم قلت أمسك عليك زوجك وقد أعلمتك أنها ستكون من أزواجك
(1) .
مناقبها :
في الروايات ، ما أولم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على امرأة من نسائه ما أولم على زينب ، ذبح شاة وأطعم الناس الخبز واللحم ، وفي الروايات أنها كانت تفتخر على سائر النساء بثلاث : أن جدها وجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم واحد ، فإنها كانت بنت أميمة بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأن الذي زوجها منه هو الله سبحانه وتعالى ، وأن السفير جبريل عليه السلام .
وأخرج ابن سعد عن ابن عباس قال : لما أخبرت زينب بتزويج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لها ، سجدت
(2) .
وقال المسعودي : وكان تزويجه صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش سنة خمس من الهجرة ، وروي عن أم سلمة أن زينب كان بينها وبين عائشة ما يكون
---------------------------
(1) المصدر السابق : 326 / 16 .
(2) الطبقات الكبرى : 102 / 7 .
زوجات النبي (صلى عليه وآله وسلم)
_ 70 _
فقالت زينب : إني والله ما أنا كأحد من نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنهن زوجهن بالمهور وزوجهن الأولياء ، وزوجني الله رسوله وأنزل في الكتاب يقرأ به المسلمون لا يبدل ولا يغير ( وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ ) الآية وقالت أم سلمة : وكانت لرسول الله معجبة وكان يستكثر منها ، وكانت امرأة صالحة صوامة قوامة صنعا ، تتصدق بذلك كله على المساكين
(1) .
وروي عن عاصم الأحول ، أن رجلا ( من بني أسد فاخر رجلا ) ، فقال الأسدي : هل منكم امرأة زوجها الله من فوق سبع سماوات ؟ يعني زينب بنت جحش
(2) .
وأخرج ابن سعد عن عائشة قالت : قال النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه ، يتبعني أطولكن يدا ، قالت عائشة : فكنا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، نمد أيدينا في الجدار نتطاول ، فلم نزل نفعل ذلك حتى توفيت زينب بنت جحش ، وكانت امرأة قصيرة ، ولم تكن أطولنا فعرفنا حينئذ أن النبي صلى الله عليه وسلم ، إنما أراد بطول اليد الصدقة ، قالت : وكانت زينب امرأة صناع اليد ، فكانت تدبغ وتخرز وتتصدق في سبيل الله
(3) .
وأخرج ابن سعد عن عمر بن عثمان عن أبيه : ما تركت زينب بنت جحش درهما ولا دينارا ، كانت تتصدق بكل ما قدرت عليه ، وكانت مأوى المساكين ، وتركت منزلها فباعوه من الوليد بن عبد الملك حين هدم المسجد بخمسين ألف درهم
(4) .
وروي عن محمد بن كعب قال : كان عطاء
---------------------------
(1) المصدر السابق : 103 / 7 .
(2) المصدر السابق : 103 / 7 .
(3) المصدر السابق : 108 / 7 ، رواه الشيخان باختصار .
(4) المصدر السابق : 114 / 7 .
زوجات النبي (صلى عليه وآله وسلم)
_ 71 _
زينب بنت جحش اثني عشر ألفا " لم تأخذه إلا عاما " واحدا " فجعلت تقول : اللهم لا يدركني هذا المال من قابل ، فإنه فتنة ثم قسمته في أهل رحمها وفي أهل الحاجة
(1) .
وفاتها (رضي الله عنها) :
توفيت زينب بنت جحش في خلافة عمر بن الخطاب سنة عشرين وهي بنت خمسين ، وقيل إنها عاشت ثلاثا وخمسين
(2) .
وروي أن عمر بن الخطاب أراد أن يدخل القبر فأرسل إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقلن : إنه لا يحل لك أن تدخل القبر ، وإنما يدخل القبر من كان يحل له أن ينظر إليها وهي حية
(3) وحفر لها بالبقيع عند دار عقيل فيما بين دار عقيل ودار ابن الحنفية ، ونقل اللبن من السمينة فوضع عند القبر ، وكان يوما ( صائفا )
(4) .
---------------------------
(1) الإصابة : 314 / 4 ، الطبقات : 110 / 7 .
(2) الإصابة : 314 / 4 ، الطبقات : 115 / 7 .
(3) الطبقات : 111 / 7 .
(4) المصدر السابق : 109 / 7 .
زوجات النبي (صلى عليه وآله وسلم)
_ 72 _
8 _ السيدة أم حبيبة بنت أبي سفيان نظرات في الطريق إلى بلاد الحبشة :
هي : رملة بنت أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس ، وأمها : صفية بنت أبي العاص بن أمية بن عبد شمس ، تزوجها عبيد الله بن جحش فولدت له حبيبة فكنيت بها .
إن الباحث في تاريخ الأمم السالفة ، يجد أن هلاك هذه الأمم يعود سببه إلى شركهم بالله ، والإعراض عن آياته ، والاستكبار في مقابل الحق ، وتكذيب الرسل ، فإلى هذه الأسباب تعود المعيشة الضنك والهلاك والاستئصال من عصر نوح عليه السلام إلى قيام الساعة ، والله تعالى لم يهلك أمة إلا بعد الإنذار وإتمام الحجة .
وعندما بعث الله تعالى نبيه الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم ، تكاتف وعاء الكفر والشرك والاستعباد والاستكبار والتفاخر ، والتكذيب والجهل والسخرية والظلم والطاغوت إلى آخر التفريعات الشيطانية ، تكاتف أصحاب النفوس المريضة على امتداد مسيرة الأمة ووضعوا العوائق أمام الدعوة حتى لا تسوق الناس إلى سعادة الدنيا وآخرة .
كان النظام الشيطاني بالمرصاد لكل من يحمل معالم الاتحاد والإخلاص والأدب والاستقامة والتطهير والتعقل والإحساس والتقوى والتوسل والجهاد والحلال والحمد
زوجات النبي (صلى عليه وآله وسلم)
_ 73 _
إلى آخر ذلك من تفريعات الصراط المستقيم .
وفي عهد البعثة استهزأ الكفار بالمبعوث صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم يكن الكفار أهلا لسماع الحق وتعقله ، نظرا لما في صدورهم من استكبار وكان طابور الشرك يتمسك بالأصنام وفي هذا دليل على عدم معرفتهم بمقام الله تعالى وخروجهم عن الفطرة التي فطر الله تعالى الناس عليها ، وكان لازم ذلك أن يتعقلوا وينصتوا للحق الذي بعث به النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، لكنهم مكروا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وغضبوا من انتشار الإسلام واضطهدوا المستضعفين من الذين آمنوا وأخرجوا وقاتلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم والذين معه .
وبالجملة : فقد المشركون استعداد الإيمان لإعراضهم عن إتباع الرسول وذكر الله ، وفي عهد البعثة الخاتمة صد الذين كفروا من أهل الكتاب عن سبيل الله ، والطائفتان من أهل الكتاب ـ اليهود والنصارى ـ يرجعان إلى أصل واحد ، وهذا الأصل يحمل فيما يحمل صفات النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم ، لكن الذين كفروا منهم تعاموا عن ما بين أيديهم ، وطلبوا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ينزل إليهم كتابا " من السماء .
ولقد سعى اليهود ضد المسلمين وأشعلوا الفتنة ضد الإسلام فلم يؤثر ذلك لأن الله تعالى الذي بيده عذاب الدنيا من سبي وشتات وضرب للذلة والمسكنة وغير ذلك ، بيده أيضا " النصر وتوريث الأرض لعباده الصالحين إلى غير ذلك .
أما النصارى فلقد وقفوا تحت لافتات وهم لا يعلمون معنى واحدا " من العناوين التي تحملها اللافتة ، لقد قالوا إن المسيح ( إله ) و ( إنسان ) أيضا " ، وقالوا بعقيدة التثليث التي لم تذكر التوراة عنها شيئا " .
ويعلم الباحث في هذا الباب ، أن مصادر هذه العقيدة مصادر وثنية ، ولا يستطيع باحث أن يرد القول بأن عقيدة التثليث والفداء والصليب من عقائد الهنود .
زوجات النبي (صلى عليه وآله وسلم)
_ 74 _
وأن هذه العقيدة كانت شائعة بين عبدة الأصنام القدامى ، وإن العبادة على طريق هذه العقيدة تتنافى مع تعليمات المسيح نفسه .
وبالجملة : كان أبو سفيان بن حرب في زمن البعثة يحمل في يده لواء الكفر والشرك والاستكبار في مقابل الحق ، ولم يترك طريقا يقود صاحبه إلى الإيمان بالله ورسوله إلا ووضع عليه العوائق ، وكان اليهود يتحصنون في قرى داخل الحجاز ، يراقبون ويوسوسون ابتغاء الفتنة وابتغاء إشعال نار الحرب .
وكان النصارى في الحجاز وخارجه عاكفين على عقيدة لم يكن المسيح مسؤولا عنها ، وكان بين أهل الكتاب من يبحث عن الحقيقة ، وهؤلاء لم تخلوا منهم صحراء الحجاز وما حولها ، وكانوا في بلاد الحبشة وبلاد مصر نظرا لأن الكنيسة الأثيوبية والكنيسة المصرية يقفان على أرضية واحدة وتحت ظل واحد ، بمعنى : إن نجاشي الحبشة إذا تأثر بشئ ، وجدت أثر ذلك في مقوقس مصر .
والخلاصة : لما كان أبو سفيان عضوا ( أصيلا ) في طابور الصد عن سبيل الله ، فإن النجاشي كان عضوا ( أصيلا ) في قافلة البحث عن الحقيقة ، وبين ما يمثله أبو سفيان وبين ما يمثله النجاشي .
دارت قصة أم حبيبة بنت أبي سفيان .
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة يخاف على أصحابه من المشركين ، فبعث جعفر بن أبي طالب وابن مسعود وعثمان بن مظعون في رهط من أصحابه إلى النجاشي ملك الحبشة ، فلما بلغ المشركين ، بعثوا عمرو بن العاص في رهط منهم ، فذكروا إنهم سبقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ، وقالوا : إنه قد خرج فينا رجل سفه عقول قريش وأحلامهم ، زعم أنه نبي ، وانه بعث إليك رهطا ليفسدوا عليك قومك ، فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم ، قال : إن جاءوني نظرت فيما
زوجات النبي (صلى عليه وآله وسلم)
_ 75 _
يقولون ، فلما قدم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأتوا إلى باب النجاشي ، فقالوا : أستأذن لأولياء الله ، فقال : أئذن لهم فمرحبا بأولياء الله ، فلما دخلوا عليه سلموا ، فقال الرهط من المشركين : الم تر أيها الملك أنا صدقناك ، وإنهم لم يحيوك بتحيتك التي تحيا بها ؟
فقال لهم : ما يمنعكم أن تحيوني بتحيتي ؟
قالوا : إنا حييناك بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة . فقال لهم : ما يقول صاحبكم في عيسى وأمه ؟
قالوا : يقول : عبد الله ورسوله وكلمة من الله وروح منه ألقاها إلى مريم ، ويقول في مريم : إنها العذراء الطيبة البتول ، فأخذ النجاشي عودا من الأرض وقال : ما زاد عيسى وأمه على ما قال صاحبكم هذا العود ، فكره المشركون قوله وتغير له وجوههم . فقال : هل تقرؤون شيئا مما أنزل عليكم ؟
قالوا : نعم ، قال : فاقرؤوا ، فقرؤوا وحوله القسيسون والرهبان ، فجعلت طائفة من القسيسين والرهبان . كلما قرؤوا آية انحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق ، وهو قوله تعالى ( ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ )
(1) .
وروي أن النجاشي بكى وأسلم ، وأسلم معه خاصته .
وروي أنه خرج من بلاد الحبشة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلما عبر البحر توفي .
وروي عن سعيد بن جبير : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفرا في سبعين راكبا إلى النجاشي يدعوه ، فقدم عليه ودعاه فاستجاب له وآمن به ، فلما كان عند انصرافه ، قال ناس ممن آمن به من أهل مملكته وهم أربعون رجلا : ائذن لنا فنأتي هذا النبي فنسلم به ، فقدموا مع جعفر ، فلما رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة ، استأذنوا رسول الله صلى الله عليه
---------------------------
(1) سورة المائدة آية : 82 .