|
من الواضح أن العرب في مكة وغيرها ... كانوا على درجات متفاوتة في نسبة إنكارهم لوجود الله تعالى ، أو إتخاذهم الأصنام آلهة من دونه سبحانه .
فهناك من هو جاحد ومنكر مائة بالمائة ، وهناك من هو جاحد 70 % ، وهكذا.
ومنهم : من هو عازم على الإستمرار في الكفر رغم علمه بالتوحيد ، ومنهم : من كان يعيش حالة الشك في الإستمرار في الكفر أو الشرك.
ومنهم : من كان يحيك المؤامرات ضد النبي الكريم بصورة سرية ، ومنهم : من كان يخرج لحرب رسول الله ... بشكل مكشوف .
ومنهم : من كان منكراً لله تعالى ... ولكنه يتخذ موقف المحايد تجاه النبي الكريم ، ولا يبذل أي نشاط ضد الإسلام والمسلمين.
ولكن الكافر الذي ضرب الرقم القياسي في إنكار الله تعالى ، وإنكار رسالة النبي الكريم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : هو أبو سفيان .
هذه كلها صفات ومواصفات أبي سفيان ، وقد ورثها منه حفيده يزيد ، حيث كان يشترك مع جده في جميع هذه الأوصاف والأحقاد ، وبنفـس النسبة والدرجة ، لكن مـع
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 427 _
تبدل الظروف !
فلقد وقف أبو سفيان في وجه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وحاربه وأظهر أحقاده.
وجاء ـ من بعده ـ إبنه معاوية ، فوقف في وجه الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) وحاربه بكل ما لديه من طاقة وقوة ، وعلى مختلف الأصعدة والمجالات ، الإعلامية والعسكرية وغيرها.
إن الوثائق التاريخية تقول : « مات معاوية وعلى صدره الصنم » ، فكم تحمل هذه الكلمة من معان ودلالات ، « والحر تكفيه الإشارة » !!
وقد جاء في التاريخ ـ أيضاً ـ : « مات معاوية على غير ملة الإسلام ». (1)
ثم جاء يزيد ـ من بعد معاوية ـ فكان كالبركان يتفجر حقداً على آل رسول الله وأبناء الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ).
فماذا تراه يفعل ؟!
---------------------------
(1) جاء هذا النص ـ بالحرف الواحد ـ في كتاب « سير أعلام النبلاء » للذهبي ، ج 10 ، ص 533 وكتاب « تاريخ بغداد » للخطيب البغدادي ، ج 14 ، ص 181 وكتاب « خلاصة عبقات الأنوار » ج 7 ، ص 305.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 428 _
وماذا تتوقع منه ؟!
وخاصة وأنه يرى تحت تصرفه جيشاً كبيراً ينفذ أوامره بكل سرعة ، ويطيعه طاعةً عمياء ، دون رعاية الجوانب الإنسانية أو العاطفية أو الدينية.
وكان له مستشار مسيحي حاقد إسمه : « سرجون » يملي عليه ما يتبادر إلى ذهنه في كيفية القضاء على الإسلام ، ويرسم له الخطط للوصول إلى هذا الهدف !
« ألا : إنها نتيجة خلال الكفر »
ألا : حرف لجلب الإنتباه ، أو للتأكيد على ما يخبر عنه. (1)
النتيجة ـ هنا ـ العاقبة.
خلال ـ جمع خلة ـ وهي الخصلة.
أي : إن يزيد حينما أمر بقتل ريحانة رسول الله الإمام الحسين ( عليه السلام ) لم يكن لمجرد أنه كان يرى منه منافساً له في السلطة فقضى عليه ، بل إن ذلك كان من منطلق الكفر والإلحاد ، ولذلك ... فهو لم يكتف بقتل الإمام ، بل أمر بسبي نسائه وأطفاله ، وقام بغير ذلك من الجرائم والجنايات.
---------------------------
(1) كما يستفاد من كتاب « مغني اللبيب » لإبن هشام.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 429 _
وهذه الأمور : هي نتيجة خبث نفسيته الطائشة وأثر صفاته الكفرية الموروثة من أبيه وجده !
« وضب يجرجر في الصدر لقتلى يوم بدر »
والضب ـ بكسر الضاد ـ : الغيظ الكامن والحقد الخفي.
جرجر البعير : إذا ردد صوته في حنجرته .
أي : وحقد يتأجج في الصدر ، ويطالب يزيد للأخذ بثارات المقتولين في غزوة بدر ، وهم أقطاب المشركين الذين كانوا قد خرجوا من مكة لمحاربة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقتال المسلمين.
وهم المشركون الذين تمنى يزيد حضورهم بقوله : « ليت أشياخي ببدر شهدوا » وهم : عتبة بن ربيعة ، وشيبة ، والوليد بن شيبة .
أما عتبة فقتله عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ، وأما شيبة وابنه الوليد فقد قتلهما الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ).
إن جميع ما قام به الطاغية يزيد ، من قتله الإمام الحسين وأصحابه وأهل بيته ، وسبي الطاهرات من نسائه وحرمه ، وإهانته لرأس الإمام الحسين ( عليه السلام ) تعتبر
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 430 _
نتيجة طبيعية للكفر المكشوف والحقد الدفين في قلب يزيد ، فلم يكن يوجد في قلبه مقدار ذرة من الإيمان بالله تعالى وبيوم القيامة ، بل إنه إتخذ منصب خلافة الرسول الكريم ، وسيلة لسلطته على الناس ، وانهماكه في الشهوات ، ومحاربته للدين وعظماء الدين.
فقد كان يتجاهر بشرب الخمر ، ولعب القمار وغيرهما من المنكرات التي حرمها الله سبحانه وبذلك أعطى الجرأة لجميع الناس كي يجلسوا في الأماكن العامة ، ويرتكبوا ما شاؤا من المعاصي والذنوب ، من دون أي خوف أو حذر ، أو حياء أو خجل ، أو إحترام لحدود الله تعالى ، أو رعاية للخطوط الحمراء التي وضعها الله سبحانه حول بعض الأعمال المحرمة.
لقد جاء في الحديث الشريف عن الإمام علي بن موسى الرضا ( عليهما السلام ) أنه قال : « ... من نظر إلى الشطرنج فليلعن يزيد وآل يزيد ... » (1)
« فلا يستبطئ في بغضنا ـ أهل البيت ـ من كان نظره إلينا شنفاً وإحناً وضغناً »
وفي نسخة : « وكيف يستطبئ في بغضنا »
---------------------------
(1) كتاب « عيون أخبار الرضا عليه السلام » للشيخ الصدوق.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 431 _
أي : كيف لا يسرع إلى بغض أهل بيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من كانت نظرته وعقيدته فيهم عقيدة الكراهة والحقد .
والشنف والشنآن والإحن والأضغان : معانيها متقاربة ، والمقصود منها : شدة الحقد والبغض.
« يظهر كفره برسوله ، ويفصح ذلك بلسانه » :
إشارة إلى الأبيات التي أنشدها يزيد :
لـعبت هاشم بالملك iiفلا خبر جاء ولا وحي نزل |
|
فقد أظهر كفره برسالة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وتجاهر بذلك ، واعتبر النبوة والرسالة والوحي والقرآن كلها العاب ، وأنكرها جميعاً.
يفصح : أي يظهر ما في قلبه على لسانه .
« وهو يقول ـ فرحاً بقتل ولده ، وسبي ذريته ، غير متحوب ولا مستعظم :
لأهـلوا واسـتهلوا iiفرحاً ولقالوا : يا يزيد لا تشل » |
غير متحوب : أي غير متأثم (1) أو غير متحرج من
---------------------------
(1) القاموس المحيط ، للفيروز آبادي.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 432 _
القبيح، والحوبة : من يأثم الإنسان في عقوقه ... كالوالدين (1) .
والظاهر : أن السيدة زينب ( عليها السلام ) تقصد أن يزيد كان يعيش حالة عدم الإكتراث أو المبالاة بما قام به من جرائم ، وبما يصرح به من كلمات كفرية ، وبما يشعر به من الفرح والسرور لقتله ابن رسول الله ، وسبي ذريته الطاهرة.
إذ من الواضح أن الذي لا يؤمن بيوم الجزاء لا يفكر في مضاعفات جرائمه ، ولا يشعر بالحرج أو الخوف من أعماله التي سوف تجر إليه الويل !!
« منحنياً على ثنايا أبي عبد الله ـ وكان مقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ ينكتها بمخصرته »
ثنايا ـ جمع الثنية ـ : وهي الأسنان الأربع التي في مقدم الفم ، ثنتان من فوق وثنتان من تحت. (2)
مقبل : موضع التقبيل.
ينكت : يضرب.
مخصرة : العصا ، وقيل : هي العصا التي في أسفلها
---------------------------
(1) المعجم الوسيط.
(2) كتاب « لسان العرب » ، و « المعجم الوسيط ».
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 433 _
حديدة محدة ، كحديدة رأس السهم.
أقول : إن القلم ليعجز عن التعبير عن شرح هذه المقطوعة من الخطبة !! وذلك لهول المصيبة ، فكيف تجرأ الطاغية يزيد على أن يضرب تلك الثنايا المقدسة ، التي كانت موضعاً لتقبيل رسول الله ... مئات المرات ... وفعل يزيد ذلك بمرأى من عائلة الإمام الحسين ونسائه وبناته ؟!
ولم يكتف يزيد بالضرب مرةً واحدة أو مرتين ، بل مرات متعددة ، وهو في ذلك الحال في أوج الفرح والإنتعاش !!
ولم يكن الضرب على الأسنان الأمامية فقط ، بل كان يضرب على شفتيه ووجهه الشريف ، ويفرق بين شفتيه بعصاه ليضرب على أسنانه !
إنا لله وإنا إليه راجعون ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون !!
« قد التمع السرور بوجهه »
قد يكون الفرح شديداً فيتدفق الدم إلى الوجه فيحمر ، وبذلك تظهر آثار الفرح على ملامحه ، فيقال : إلتمع السرور بوجهه .
هكذا كانت فرحة يزيد حين ضربه تلك الثنايا
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 434 _
الشريفة. (1)
« لعمري لقد نكات القرحة »
نكأ القرحة : قشرها بعد ما كادت تبرأ (2) .
لعل المعنى : أن ضرب يزيد تلك الثنايا صار سبباً لهيجان الأحزان من جديد ، وفجر دموع العائلة الكريمة ، فاستولى عليهن البكاء والنحيب ، وخاصة أن بنتين من بنات الإمام الحسين ( عليه السلام ) جعلتا تتطاولان ( أي : تقفان على رؤوس أصابع رجليهما ) لتنظرا إلى الرأس الشريف ، من وراء كراسي الجالسين ، فلما نظرتا إلى يزيد وهو يضرب الرأس الشريف ، ضجتا بالبكاء والعويل ، ولاذتا بعمتهما السيدة زينب ، وقالتا : يا عمتاه ! إن يزيد
---------------------------
(1) كتاب « الكامل » لإبن الأثر ، ج 3 ، ص 300 ، وكتاب « تاريخ دمشق » لإبن عساكر ، في ترجمة أبي برزة الأسلمي ، وكتاب « أنساب الأشراف » للبلاذري ، ج 3 ، ص 214 ، وكتاب « مقتل الحسين » للخوارزمي ، ج 2 ص 55 ـ 57 ، وكتاب « تاريخ اليعقوبي » ، ج 2 ، ص 232 من الطبعة الأولى ، وكتاب « الجوهرة » للبري ، طبع الرياض ، ج 2 ، ص 219 ، وكتاب « الرد على المتعصب العنيد » لإبن الجوزي ، طبع لبنان ، ص 45 ، وكتاب « تاريخ الإسلام » للذهبي ، ج2 ، ص 351.
(2) كتاب « العين » للخليل بن أحمد.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 435 _
يَضرب ثنايا أبينا ، فقولي له : لا يفعل ذلك ؟! (1)
فقامت السيدة زينب ( عليها السلام ) ولطمت على وجهها ونادت : « واحسيناه ! يابن مكّة ومِنى ! يا يزيد : إرفع عودك عن ثنايا أبي عبد الله ».
« واستأصَلتَ الشأفة »
يُقال : إستَأصل شأفته : أي أزاله من أصله (2) .
ولعلّ المعنى : يا يزيد : لقد قطعت شجرة النبوة من جذورها بقتلك الإمام الحسين ( عليه السلام ) فهو آخر من كان باقياً من أصحاب الكساء ، الذين نزلت فيهم « آية التطهير » وعبّر الله تعالى عنهم ـ في القرآن الكريم ـ بكلمة « اهل البيت » ، فكلّ من كان يُقتل من هؤلاء الخمسة الطيّبة ... كانَ في الباقين ـ منهم ـ سلوة لآل رسول الله ، وبقتل الإمام الحسين ( عليه السلام ) إنقطعت شجرة أهل البيت من جذورها ، وكان ذلك بأمر يزيد وتنفيذ إبن زياد.
« بإراقتك دم سيد شباب أهل الجنّة ، وابن يعسوب
---------------------------
(1) كتاب « المعجم الكبير » للطبراني ، طبع بغداد ، ج 3 ، ص 109.
(2) المعجم الوسيط.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 436 _
الدين ، وشمس آل عبد المطّلب »
يعسوب : النحلة التي يُعبّر عنها بـ « المَلكة » في مملكة النحل (1) ، وقد لقّب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب ( عليه السلام ) بلقب « يعسوب الدين » وشبّه شيعته بالنحل الذي يعيش في ظلّ تلك المملكة ويتّبع ذلك اليعسوب ، واشتُهر بين المسلمين ـ في ذلك اليوم ـ هذا اللقب للإمام علي ( عليه السلام ) ولذلك قال الشاعر :
ولايـتي لأمير النحل iiتكفيني عند الممات وتغسيلي وتكفيني |
---------------------------
(1) قال الخليل في كتاب « العين » اليعسوب : أمير النحل وفحلها ، ويُقال : هي : عظيمة مُطاعة فيها ، إذا أقبلت أقبلت ، وإذا أدبرت أدبرت.
وقال الزبيدي ـ في « تاج العروس » ـ : اليعسوب : أمير النحل ، واستُعمل بعد ذلك في الرئيس الكبير والسيد والمُقدّم ، ... وفي حديث علي ( عليه السلام ) : « أنا يعسوب المؤمنين » أي : يلوذ بي المؤمنون كما تلوذ النحل بيعسوبها » ، وقال إبن منظور ـ في « لسان العرب » ـ : « اليعسوب : أمير النحل ، ويُقال للسيد : يعسوب قومه ، وفي حديث علي [ عليه السلام ] : أنا يعسوب المؤمنين ، يلوذ بي المؤمنون كما تلوذ النحل بيعسوبها ».
المحقق
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 437 _
وطـينتي عُجِنت من قَبل iiتكويني بحبّ حيدر ، كيف النار تكويني ؟! |
ثمّ عبّرت السيدة زينب عن الإمام الحسين ( عليه السلام ) بـ « شمس آل عبد المطّلب » ، ويا لهذا التعبير من بلاغة راقية ، وتشبيه جميل ، فإنّ الإمام الحسين كان هو الوجه المشرق الوضّاء والواجهة المُتلألأة لآل عبد المطلب بن هاشم ، وسبب الفخر والإعتزاز لهم ، وهم كانوا المجموعة أو العشيرة الطيّبة لقبيلة قريش ، وقريش كانت أشرف قبائل العرب.
« وهَتَفتَ بأشياخك »
حينما قلتَ : « ليت أشياخي ببدر شهدوا » فتمنّيت حضورهم ليروا إنتصارك الموهوم ، وأخذك لثارهم من آل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، مع أنّ أشياخك هم الذين خرجوا ـ من مكة إلى المدينة ـ لقتال رسول الله ، وهم الذين بدؤا الحرب مع المسلمين ، فكانوا بمنزلة الغُدّة السرطانيّة الخبيثة في جسم البشريّة ، وكان يلزم قطعها كي لا ينتشر المرض والفساد في بقيّة أجزاء الجسم.
« وتقرّبت بدمه إلى الكفرة من أسلافك »
أي : قُمتَ بإراقة دم الإمام الحسين ( عليه السلام ) تقرّباً إلى أسلافك ، وقلتَ :
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 438 _
قد قَتَلنا القَرم مِن ساداتهم وأقـمنا مثل بدرٍ فاعتدَل |
« ثمّ صرختَ بندائك »
أي : بندائك لأشياخك ، ومن هذه الجملة يُستفاد أنّ يزيد كان رافعاً صوته حين قراءته لتلك الأبيات الكُفريّة ، والشعارات الإلحادية.
« ولعمري لقد ناديتهم لو شهدوك »
قال ابنُ مالك ـ ما معناه ـ : « لو : حرفٌ يقتضي في الماضي إمتناع ما يليه ، واستلزامه لتاليه ». (1)
وبناءً على هذا ... يكون معنى كلام السيدة زينب ( عليها السلام ) : يا يزيد ! لقد تمنّيتَ أسلافك لو كانوا حاضرين كي يشهدوك ويشهدوا أخذك لثارهم ، ولكنّ هذه الأمنية لا تتحقّق لك ، فأسلافك موتى معذّبون في نار جهنّم ، ومن المستحيل أن يعودوا الآن ويشهدوا ما قُمتَ به من الجرائم ، وليقولوا لك : سَلِمَت يداك !!
« ووشيكاً تشهدهم ولن يشهدوك »
---------------------------
(1) حكى عنه ذلك ابن هشام في كتاب « مغني اللبيب » ص 342.
المحقق
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 439 _
وشيكاً : أي : سريعاً أو قريباً (1) ويُقال : أمرٌ وشيك : أي : سريع (2)
المعنى : يا يزيد : سوف تموت قريباً عاجلاً ، لأنّ مُلكك يزول سريعاً ، ولا تطول أيام حياتك ، وتنتقل إلى عالم الآخرة ، إلى جهنّم فترى أسلافك هناك في الأغلال والقيود وفي صالات التعذيب ، وممرّات السجون ، ولكنّهم لا يرونك ، أي : لا تجتمع معهم في مكان واحد ، لأنّك ستكون في درجة أسفل منهم في طبقات نار جهنّم ، لأنّ جرائمك الموبقة تستوجب العذاب الأشدّ ، لكنّك حين نزولك إلى ذلك المكان الأسفل ، سوف يكون طريقك عليهم ، فتراهم ولكنّهم لا يرونك ، لأنّ شدة عذابهم يُشغلهم عن الإلتفات إلى ما حولهم ومَن حولهم مِن الجُناة !
وقد رُوي عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنّه قال : « إنّ قاتل الحسين بن علي ... في تابوت من نار ، عليه نصف عذاب أهل الدنيا ، وقد شُدّت يداه ورجلاه بسلاسل من نار ، مُنكّس في النار ، حتى يقع في قعر جهنّم ، وله ريحٌ يتعوّذ أهل النار إلى ربهم من شدّة نتنه ، وهو فيها خالد ذائق
---------------------------
(1) المعجم الوسيط.
(2) كتاب « العين » للخيل بن أحمد.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 440 _
العذاب الأليم ، مع جميع من شايع في قتله ، كلّما نضجت جلودهم بدّل الله ( عز وجل ) عليهم الجلود حتى يذوقوا العذاب الأليم ، لا يُفَتّر عنهم ساعة ، ويُسقَون من حميم جهنّم ، فالويل لهم من عذاب الله تعالى في النار » (1) .
« ولتودّ يمينُك ـ كما زعمت ـ شُلّت بك عن مِرفَقها وجُذّت »
شُلّت : الشلل : تعطّل أو تيبّسٌ في حركة العضو أو وظيفته ، يُقال ـ في الدعاء ـ : شُلّت يمينك (2) .
جُذّت : قُطعت أو كُسٍِرَت (3)
المعنى : يا يزيد ! إنّك في الدنيا زَعمت أن أسلافك لو كانوا حاضرين ... لقالوا لك : « يا يزيد لا تُشَل » أمّا في يوم القيامة ، حين تُعاقب تلك العقوبة الشديدة ، سوف تتمنّى أنّ يمينك كانت مشلولة أو مقطوعة حتى لا تستطيع أن تَضرب بعصاك ثنايا الإمام الحسين ( عليه السلام ).
---------------------------
(1) كتاب « عيون أخبار الرضا عليه السلام » ج 2 ، ص 47 ، حديث 178.
(2) المعجم الوسيط.
(3) نفس المصدر.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 441 _
وهذا إخبارٌ من السيدة زينب ( عليها السلام ) بما يدور في ذهن يزيد حين يُلاقي جزاء أعماله الإجراميّة.
وتتمنّى ـ أيضاً ـ حينما تُلاقي أشدّ درجات العقوبة والتعذيب :
« وأحبَبتَ أنّ أُمّك لم تحملك ، وإيّاك لم تَلِد حين تصير إلى سخط الله ومُخاصمك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم »
أحبَبتَ ـ هنا ـ : بمعنى تَمنّيتَ من أعماق قلبك أن أمّك لم تكن تحمل بك ، ولم تلدك حتى لا تكون مخلوقاً وموجوداً من أول يوم ، ولم تَكتَسِب هذه السيئة الكبيرة التي دفعت بك إلى أسفل السافلين في التابوت الموجود في اسفل طبقات جهنّم ، حيث يستقرّ فيه أفراد معيّنون من الجُناة الذين جرّوا الوَيلات على البشريّة جمعاء ، وعلى كلّ الأجيال والبلاد والشعوب ، وأسّسوا الأُسس ومهّدوا الطرق لمن يأتي من بعدهم من الطغاة والخَوَنة ، في أن يقوموا بكلّ جريمة ، وبكل جُرأة !
إنّ الأحاديث الشريفة تقول : إنّ أهل النار ـ جميعاً ـ يستغيثون بالموكّلين بهم من الملائكة ... أن لا يفتحوا باب ذلك الصندوق ، لأنّ درجة الحرارة فيها أشدّ ـ بكثير ـ مِن
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 442 _
حرارة جهنّم نفسها !! (1)
وتقول الأحاديث الشريفة : إنّه كلّما خَفّت ونزلت درجة حرارة نار جهنّم ... تَفتَح الملائكة باب ذلك الصندوق لمدّة قليلة فتزداد حرارة جهنّم كلّها بالحرارة الشديدة التي أُضيفت إليها من ذلك التابوت ، كالقِدر الكبير للطعام الذي توضع فيه البقول ، وتوضع على نار خفيفة ، وفُجأةً يرفعون درجة تلك النار إلى أقصى نسبة ممكنة ، فيحدث إضطراب عجيب في ذلك القدر وما فيه !
ويُعبّر عن ذلك الصندوق بـ « التابوت » وبالمعذّبين فيه بـ « أهل التابوت ».
وقد رُوي عن الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) أنّه قال : « ... إذا كان يوم القيامة أقبل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومعه الحسين ( عليه السلام ) ويده على رأسه يقطر دماً ، فيقول : « يا ربّ سل أمّتي فيمَ ( أي : لمـاذا ) قتلوا ولـدي ! » (2)
---------------------------
(1) كتاب ( بحار الأنوار ) ج 8 ، ص 296 ، وهو ينقل ذلك عن كتاب « تفسير علي بن إبراهيم » ، وقد نَقَلنا مضمون الحديث.
(2) كتاب « أمالي الطوسي » ص 161 ، حديث 268 ، ونقله المجلسي في « بحار الأنوار » ج 45 ، ص 313.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 443 _
ثمّ بدأت السيدة زينب ( عليها السلام ) بالدعاء على يزيد ومَن شاركه في ظلم آل رسول الله الطيّبين الطاهرين ، دَعَت عليهم مِن ذلك القلب المُلتَهِب بالمصائب المُتتالية ، فقالت :
« اللهم ! خُذ بحقّنا ، وانتقم من ظالمنا ، واحلُل غضبك على من سفك دماءنا ، ونقضَ ذمارنا ، وقَتلَ حُماتنا ، وهتك عنّا سدولنا »
نَقَضَ : لم يُراع الحرمة والعهد.
الذمار : ما ينبغي حفظه والدفاع عنه ، كالأهل والعِرض (1) .
وقيل : ذمار الرجل : كل شيء يلزمه الدفع عنه (2) .
سدول ـ جمع سدل ـ السِتر (3) .
ثم أرادت السيدة زينب ( عليها السلام ) أن تُبيّن ليزيد حقيقة واقعيّة : وهي أنّ جميع ما قُمتَ به ضدّ آل رسول الله ، مِن : قتل وسَبي ، وحمل الرؤوس من بلد إلى بلد ، وإهانة
---------------------------
(1) المعجم الوسيط.
(2) كتاب « العين » للخيل بن أحمد.
(3) نفس المصدر.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 444 _
الرأس الشريف ، والإفصاح عن الكلمات الكُفريّة الكامنة في الصدر ، وغيرها ... لا تعود عليك بالفائدة والنَفع ، بل تعود عليك بالخسران والعقوبة ، حتى لو جعَلَتك تفرح لمدّة قصيرة ، لكنّ هذا الفرح سوف لا يستمرّ ، بل يتعقّبه سلسلة متواصلة من أنواع الخسارة والعذاب الجسدي والنفسي ، فقالت ( عليها السلام ) :
« وفعلت فِعلتك التي فعلت ، وما فرَيت إلا جلدك ، وما جَزَرت إلا لحمك »
فَريتَ : شققتَ وفتَتَّ (1) وقَطعتَ (2) .
جزَرتَ : قطعتَ (3) ويُستعمل غالباً في نحر البعير وتقطيع لحمه .
« وسترد على رسول الله بما تحمّلتَ من دم ذريّته ، وانتهكتَ من حرمته ، وسفكت من دماء عترته ولُحمَته ».
---------------------------
(1) المعجم الوسيط.
(2) كتاب « العَين » للخليل.
(3) المعجم الوسيط.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 445 _
اللُحمة : القرابة ، يُقال : بينهم لُحمة نسب (1) .
المعنى : سترِد على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ـ بعد موتكَ ـ وأنت تحمل على ظهرك من الجرائم ما لا تحملها الجبال الرواسي ، فيُخاصمك على كل واحدة واحدة منها ... أشدّ أنواع الخصومة ، من دون أن يخفى عليه شيء !
« حيثُ يُجمع به شملهم ، ويُلمّ به شعثهم ، وينتقم من ظالمهم ، ويأخذ لهم بحقّهم من أعدائهم ».
الشعث : ما تَفرّقَ من الأمور أو الأفراد ، يُقال ـ في الدعاء ـ : « لَمّ الله شعَثه » (2) .
المعنى : سوف يجمع الله تعالى آل رسول الله عند النبي الكريم في جبهة واحدة ـ وذلك في يوم القيامة ـ فيَشكو كلّ واحد من آل الرسول إلى النبي الكريم كلّ ما لقيَ من الناس مِن عداءٍ وظلم ، فينتقم الله من أعدائهم أشدّ الإنتقام.
ومادام الأمر كذلك ، فاسمع يا يزيد :
« فلا يستفزّنّك الفرح بقتلهم »
---------------------------
(1) المعجم الوسيط.
(2) نفس المصدر.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 446 _
لا يستفزّنك : أي : لا يُخرجك الفرح عن حالتك الطبيعيّة ، يُقال : إستفزّه : أي استخفّه ، أو ختَله حتى ألقاه في مهلكة (1) .
فلا خير في فرحة قصيرة يتعقّبها حزن دائم ، وعذاب أليم ، وخلود في النار.
ثمّ أدمجت السيدة زينب ( عليها السلام ) كلامها بالقرآن الكريم ، فقالت :
« « وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ ... » (2) وحسبُك بالله ولياً وحاكماً »
لعلّ المقصود من قولها « وحسبك بالله وليّاً وحاكماً » أي : وليّاً للدم ، وآخذاً للثار ، فالإمام الحسين ( عليه السلام ) هو : وصيّ رسول الله ، وسيّد أولياء الله تعالى ، فمن الطبيعي : أن يكون الله ( عز وجل ) هو الطالب بثاره ، والوليّ لدمه ، فهو الشاهد لمصيبة قتل الإمام الحسين ، وهو القاضي ، وهو الحاكم ، فهنا ... الحاكم والقاضي هو الذي قد شَهِدَ الجريمة
---------------------------
(1) كتاب « العين » للخليل ، و « لسان العرب » لابن منظور ، و « تاج العروس » للزبيدي .
المحقق
(2) سورة آل عمران ، الآية 169 ـ 170.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 447 _
بنفسه ، فلا يحتاج إلى شهادة شهود ، وهو الذي يَعرف عظمة المقتول ظلماً ، وهو الذي يعلم أهداف القاتل مِن وراء قتله للإمام ، وهو يزيد .
« وبرسول الله خَصماً ، وبجبرائيل ظهيراً »
لقد روي عن الصحابي : إبن عباس أنّه قال : « لمّا اشتدّ برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مرضه الذي مات فيه ، حضَرتُه وقد ضمّ الحسين إلى صدره ، يسيل من عرَقه عليه ، وهو يجود بنفسه ويقول : « ما لي وليزيد ! لا بارك الله فيه ، اللهم العن يزيد ».
ثمّ غُشيَ عليه طويلاً وأفاق ، وجعل يُقبّل الحسين وعيناه تذرُفان ويقول : أما إنّ لي ولقاتلك مقاماً بين يدي الله » (1) .
ثمّ صعّدَت السيدة زينب ( عليها السلام ) من لهجتها في تهديد يزيد وإنذاره ، مُغامرةً منها في حربها الكلاميّة ومُخاطرتها في كشف الحقائق ، وإهانتها للطاغية يزيد ، فقالت :
« وسيعلم من بوّأك ومكّنك من رقاب المسلمين أن
---------------------------
(1) كتاب « الدرّ النظيم » للشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي ، المتوفى عام 676 للهجرة ، الطبعة الاولى ، طبع ايران ، عام 1420 هـ ، ص 540 ، وهو ينقل ذلك عن « مثير الأحزان ».
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 448 _
بئس للظالمين بدلاً ، وأيّكم شرّ مكاناً وأضلّ سبيلاً »
مكّنَكَ : مهّد لتسلّطك على كرسيّ الحكم على الناس والتلاعب بدماء المسلمين.
وهذا تصريح من السيدة زينب ( عليها السلام ) ـ أمامَ يزيد ومَن كان حوله في مجلسه ـ بعدم شرعيّة تسلّطه على رقاب الناس ، بل وعدم شرعيّة سلطة من مهّد ليزيد هذه السلطة وهو أبوه معاوية بن أبي سفيان ، فهو الذي يتحمّل ما قام به يزيد من الجرائم ، مُضافاً إلى ما تحمّله هو من الجنايات وقتل الأبرياء ، فسيكون عذابه أشد ، لأن جرائمه أكثر ووزرَه أثقل.
ولعلّ هذا المعنى هو المقصود من قول السيدة زينب ـ حكايةً منها عن القرآن الكريم : « أيّكم شرّ مكاناً ».
« وما استصغاري قَدرك ، ولا استعظامي تَقريعك »
التَقريع : الضرب مع العُنف والإيلام.
وفي نسخة :
« ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك ، إنّي لأستصغر قدرك ، وأستعظِم تقريعك » (1) .
---------------------------
(1) كتاب « الملهوف على قتلى الطفوف » للسيد ابن طاووس ، ص 217.
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 449 _
الدواهي ـ جمع داهية ـ : دَواهي الدهر : ما يُصيب الإنسان من نُوَبه (1) .
لعلّ السيدة زينب ( عليها السلام ) تقصد ـ من كلامها هذا ـ : أنّ يا يزيد ! من الصعب عليّ جداً أن أُخاطبك ، لأنّي في منتهى العفة والخدارة ، وأنت في غاية اللؤم والحقارة ، ومن الصعب عليّ أن أُخاطب رجلاً نازل القدر والمكانة ، لكنّ الضرورة والظروف المؤسفة وتقلّبات الدهر ، جعلتني أكون طرفاً لك في الخطاب ، لكي أُبيّن لك فظاعة تقريعك لرأس أخي الإمام الحسين ( عليه السلام ).
« تَوَهّماً لإنتجاع الخطاب فيك »
الإنتجاع : إحتمال التأثير. (2)
المعنى : ليس هدفي من مُخطابتك إحتمال تأثير خطابي فيك ، بل هو ردّ فعل طبيعي لما شاهدته وأُشاهده من المصائب ، وعسى أن يؤثّر كلامي في بعض الجالسين في هذا المجلس ، ممّن خفيَت عنهم الحقائق ، بسبب تأثير الدعايات ، وأقول قَولي هذا ... لكي أُبطِل
---------------------------
(1) المعجم الوسيط.
(2) كما يُستفاد هذا المعنى من كتاب « العين » للخليل ، و « المعجم الوسيط ».
المحقق
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 450 _
وأُدمر ما أحرزته من الإنتصارات الموهومة.
« بعد أن تركتَ عيون المسلمين به عبرى »
أي : مُغرَورقة ومليئة بالدموع بسبب استشهاد الإمام الحسين ( عليه السلام ) بلا ذنب ، وبتلك الكيفية الفجيعة !
« وصدورهم عند ذكره حرّى »
أي : ملتهبة من الحزن والأسى ، عند تذكّر ما جَرت عليه من المصائب المقرحة للقلوب .
وهذا أمر طبيعي لكل مسلم ـ بل كلّ إنسان ـ لم تتغيّر فيه الفطرة الأولية التي فطر الله الناس عليها ، فالتألّم من هكذا فاجعة ... هو رد فعل طبيعي لكل من تكون صفة العاطفة سليمة لديه .
ثمّ ذكرت السيدة زينب ( عليها السلام ) سبب عدم إحتمال تأثير خطابها في نفسيّة يزيد وحاشيته ، فقالت ( عليها السلام ) :
« فتلك قلوب قاسية ، ونفوس طاغية ، وأجسام محشوّة بسخط الله ولعنة الرسول ، قد عشّش فيها الشيطان وفَرّخ »
|