---------------------------
   قال : روى البخاري ـ في ترجمة سليم القاص تحت الرقم 2202 من القسم الثاني من المجلد الثاني من التاريخ الكبير ، ج 4 ص 129 قال : وعن سليم القاص : مطرنا يوم قتل الحسين دماً ».
  3 ـ وروى ذلك ابن حجر الهيثمي في كتابه : الصواعق.

  4 ـ وروى ذلك القندوزي الحنفي في كتابه : ينابيع المودة ج 2 ص 320.
  5 ـ وروى ذلك : سبط ابن الجوزي في كتاب ( مرآة الزمان ) ص 102.
  6 ـ وروى البلاذري في الحديث 52 في كتابه ( أنساب الأشراف ) طبع بيروت ج 3 ص 209 قال : حدثني عمر بن شبة ، عن موسى بن اسماعيل ، عن حماد بن سلمة ، عن سليم القاص قال : مطرنا أيام قتل الحسين دماً.
  7 ـ وروى الشيخ المحمودي ـ أيضاً ـ عن ابن العديم ، عن هلال بن ذكوان قال : لما قتل الحسين مطرنا مطراً بقي أثره في ثيابنا مثل الدم.
   وعن قرط بن عبد الله قال : مطرت ذات يوم بنصف نهار فأصاب ثوبي فإذا دم ، فذهبت الإبل إلى الوادي فإذا دم فلم تشرب ، وإذا هو يوم قتل الحسين.
  8 ـ وذكر القرطبي ـ المتوفى سنة 671 هـ ، في تفسيره المسمى بـ « الجامع لأحكام القرآن » ج 16 ص 141 ، طبع بيروت عام 1405 هـ : « ... قال سليمان القاضي : مطرنا دماً يوم قتل الحسين ».

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 327 _

   وكان هذا المطر الأحمر كإعلان سماوي ـ على مستوى الكون ـ لفظاعة حادث قتل الإمام الحسين ( عليه السلام ) واستنكاراً لهذه الجريمة النكراء ، ولكن ... « ما أكثر العبر وأقل الإعتبار ».
   وقد بقيت آثار تلك الدماء من ذلك المطر على جدران مدينة الكوفة وحيطانها وعلى ثياب أهلها مدة تقرب من سنة كاملة .
   لقد كان ذلك المطر تنديداً بفظاعة الجريمة ، وإنذاراً للعاقبة السيئة لأهل الكوفة في يوم القيامة.
   « ولعذاب الآخرة أخزى »
   أي : إن العقاب الصارم لقتلة الإمام الحسين ( عليه السلام ) سوف لا يقتصر ولا ينحصر بالعذاب الدنيوي ، والصفعات الدنيوية المتتالية ، بل إن العذاب الإلهي ينتظرهم في الآخرة.
   إن الدنيا سوف تنتهي ويخرج كل إنسان من قاعة

---------------------------
9 ـ وروى ذلك الحافظ إبن عساكر الشافعي ـ المتوفى عام 571 هـ ـ في كتابه : تاريخ مدينة دمشق قال : حدثتنا أم شرف العبدية ، قالت : حدثتني نضرة الأزدية قالت : لما قتل الحسين بن علي مطرت السماء دماً ، فأصبحت كل شيء لنا ملآن دماً.
   « المحقق »

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 328 _

   الإمتحان ، وعندها يكون المجرمون في قبضة محكمة العدالة الإلهية ، فمن يخلصهم ـ في ذلك اليوم ـ من رسول الله جد الحسين ؟!
   « وأنتم لا تنصرون »
   أي : لا تجدون من ينصركم يوم القيامة ، ومن ينجيكم من العذاب الأليم ، لأن طرف النزاع : هو الإمام المظلوم البريئ المقتول : الإمام الحسين ( عليه السلام ) ذاك الرجل العظيم الذي زين الله تعالى العرش الأعلى باسمه « إن الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة » ومن الواضح أنه سوف لا يتنازل عن حقه ... مهما كانت نفسيته المقدسة عالية وفوق كل تصور .
   لأن المجرمين ضربوا أرقاماً قياسية في اللؤم والخبث والغدر والجناية !
   والمخاصم لأهل الكوفة : هو أشرف الخلق وأعز البشر عند الله تعالى : وهو سيدنا محمد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو أيضاً لا يتنازل عن دم إبنه الحبيب العزيز ، وعن سبي بناته الطاهرات !
   والمحامي : هو جبرئيل سيد أهل السماء ، حيث يقف ظهراً لرسول الله في قضية ملف مقتل الإمام الحسين ( عليه السلام ).

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 329 _

   ونوعية الجريمة وحجمها ومضاعفاتها ... تأبى شمول الغفران والعفو الإلهي لها ، لعدم وجود الفوضى في أجهزة القضاء الإلهية ، فاللازم إعطاء كل ذي حق حقه .
   هذا أولاً ...
   وثانياً : إن من آثار هذه الجريمة النكراء : هو أنها تمنع المجرم من التوفيق للتوبة والإنابة إلى الله ، كما صرح بذلك الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام.
   ويجب علينا أن لا ننسى أن كبار قواد جيش الكوفة ... كانوا من الذين قد كتبوا إلى الإمام الحسين بأن يأتي إليهم في الكوفة ، ووعدوه بالنصر ... حتى لو آل الأمر إلى القتل والقتال ، وإلى التضحية ببذل دمائهم وأرواحهم ، وختموا رسائلهم بتوقيعاتهم وأسمائهم الصريحة.
   إلى درجة أن البعض منهم أعطى لنفسه الجرأة في أن يكتب إلى الإمام الحسين ( عليه السلام ) هذه الكلمات : « إن لم تأتنا فسوف نخاصمك غداً ـ يوم القيامة ـ عند جدك رسول الله » !!
   فهم ـ إذن ـ كانوا يعرفون الإمام الحسين ، « وليس من يعرف كمن لا يعرف » والأحاديث الشريفة تقول : « إن الله تعالى يغفر للجاهل سبعين ذنباً ... قبل أن يغفر للعالم ذنباً واحداً ».

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 330 _

   « فلا يستخفنكم المهل »
   المهل ـ بضم الميم ـ جمع المهلة : وهي بمعنى الإنظار والإمهال وعدم العجلة. (1)
   أي : لا يصير الإمهال والتأخير في الإنتقام سبباً لخفة نفوسكم وانتعاشها من الطرب والفرح ، وبذلك تأخذكم سكرة الإنتصار والظفر .
   فالإنتصار الذي يتعقبه العذاب الأليم ـ مع فاصل زمني قصير ـ لا يعتبر إنتصاراً حقيقياً ، بل هو سراب مؤقت ، لا يعترف به العقلاء ، فـ « لا خير في لذة وراءها النار » !
   إن الإمهال ليس دليلاً على الإهمال ، فإن الله تعالى قد يمهل ، ولكنه ( سبحانه ) لا يهمل .    وبناءً على هذا ... فلا يكون الإمهال سبباً لتصور خاطئ منكم بأن علة تأخير العقاب هي أن الجريمة قد تم التغاضي والتغافل عنها ، ولسوف تنسى بمرور الأيام ، لأنها شيء حدث وانتهى ... بلا مضاعفات لاحقة ، أو أن الإنتقام غير وارد حيث أن الأمور قد فلتت من اليد.
   كلا ... ليس الأمر كذلك ، بل شاء الله تعالى أن يجعل الدنيا دار إمتحان لجميع الناس : الأخيار والأشرار ، وقرر أن يدفع كل من يخالف أوامر الله ضريبة مخالفته ... إن عاجلاً أو آجلاً.

---------------------------
(1) كما يستفاد ذلك من « مجمع البحرين » للطريحي .

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 331 _

   فعدم تعجيل العقوبة لا يعني أن الأمور منفلتة من يد الله الغالب القاهر العلي القيدر ، فهو المهمين على العالم كله. لكنه قد يؤخر الجزاء لأسرار وحكم يعلمها سبحانه ، فهو لا يعجل العذاب للعاصين ـ أحياناً أو غالباً ـ ولكنه بالمرصاد ، فكما أن الجندي الذي يجلس وراء المتراس يراقب ساحة الحرب ، وينتظر الوقت المناسب للهجوم أو لإطلاق القذيفة ، كذلك العذاب الإلهي ينزل في التوقيت المناسب ... مع ملاحظة سائر أسرار الكون. ولا مناقشة في الأمثال.
   قال تعالى : «} وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء ». (1)
   وقد روي عن الإمام أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) أنه قال : « ولئن أمهل الله الظالم فلن يفوت أخذه ، وهو له بالمرصاد على مجاز طريقه وبموضع الشاجا من مساغ ريقه » (2) .

---------------------------
(1) سورة إبراهيم ، الآية 42 و 43.
(2) نهج البلاغة ، طبع لبنان ، المطبوع مع تعليقات صبحي الصالح ، ص 141 ، خطبة 97.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 332 _

   « فإنه لا يحفزه البدار »
   « يحفزه » يقال : تحفز في مشيه : أي جد وأسرع (1) فهو محتفز : أي : مستعجل (2) والحفز : الإعدال في الأمر للبطش وغيره.
   « البدار » يقال : بدر إلى الشيء مبادرةً وبداراً : أسرع (3) وبدر فلاناً بالشيء : عاجله به (4) .
   تقول السيدة زينب ( عليها السلام ) : إعلموا ـ يا أهل الكوفة ـ : أن عدم نزول العذاب الإلهي عليكم ... ليس سببه الإهمال ، فإن الله تعالى لا تدفعه العجلة إلى إنزال العذاب ، لأن الحكمة الإلهية تجعل إطاراً للمقدرات الكونية ، ومنها : إختيار التوقيت المناسب لنزول العذاب ، وإختيار نوعيته .
   هذا أولاً ...
   وثانياً ... لقد جاء في الحديث الشريف أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) سأل ربه أن لا يعاجل أمته

---------------------------
(1) المعجم الوسيط.
(2) مجمع البحرين للطريحي.
(3) نفس المصدر.
(4) المعجم الوسيط.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 333 _

   بالعذاب في الدنيا ، واستجاب الله تعالى لرسوله ذلك ، فجعل من القوانين الكونية عدم نزول العذاب الغيبي على الأمة الإسلامية ـ في الدنيا ـ كرامةً واحتراماً لرسول الله ، وهذه الكرامة لم تكن لغير نبي الإسلام ، من الأمم السالفة ، والأنبياء السابقين في الزمن.
   فمعنى قول السيدة زينب ( عليها السلام ) : « فإنه لا يحفزه البدار » أي : لا يحث الله ـ سبحانه ـ شيء على تعجيل العقوبة والإنتقام ، لوجود أسباب وأسرار كونية ، ولعدم خوف إنفلات المجرم من قبضة العدالة الإلهية.
   ونقرأ في الدعاء : « ولا يمكن الفرار من حكومتك ».
   « ولا يخاف فوت الثار ، وإن ربك لبالمرصاد »
   فسوف يأتي الإمام المهدي المنتظر ( عجل الله ظهوروه ) وينتقم من قتلة الإمام الحسين ... في الدنيا ، أما في الآخرة ... فستكون أول دفعة ـ من البشر ـ يؤمر بهم إلى نار جهنم : هم قتلة الإمام الحسين ( عليه السلام ).
   المرصاد : المكمن ، وهو المكان الذي يختفى فيه عن أعين الأعداء ، بانتظار التوقيت المناسب للهجوم أو الدفاع

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 334 _

   قال الراوي :
   « فوالله لقد رأيت الناس ـ يومئذ ـ حيارى يبكون ، وقد وضعوا أيديهم في أفواههم (1) . ورأيت شيخاً واقفاً إلى جنبي يبكي حتى اخضلت لحيته ، وهو يقول : « بأبي أنتم وأمي !! كهولكم خير الكهول ، وشبابكم خير الشباب ، ونساؤكم خير النساء ، ونسلكم خير نسل لا يخزى ولا يبزى ».
   إلى هنا إنتهى ما هو مذكور في الكتب حول نص الخطبة ، وللقارئ الكريم أن يتساءل : ماذا حدث بعد ذلك ؟
   الجواب : هذا ما ستقرؤه في الصفحات القادمة إن شاء الله.

---------------------------
(1) لعل وضع أيديهم في أفواههم كان من أجل حبس أصوات بكائهم كي لا تغطي على صوت السيدة زينب ( عليها السلام ) وبذلك يستمروا في الإستماع إلى خطبتها ، أو كان ذلك لعض أصابعهم بسبب شدة الندم والتأثر للجريمة التي ارتكبوها ، أو المصيبة الكبرى التي نزلت بالإسلام والمسلمين .
   المحقق

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 335 _

كيف ولماذا قطعوا على السيدة زينب خطابها ؟
   كانت السيدة زينب ( عليها السلام ) الشجاعة المفجوعة تتكلم بصوت شجي ، وكل كلمة منها تلهب احاسيس الحزن والأسى والندم في الناس ، حتى ضج الناس بالبكاء والعويل ، وارتبكت قوات الأمن والشرطة ، وصار كل إحتمال للتمرد والإنتفاضة وارداً ، فكيف يتصرفون ؟!
   وماذا يصنعون حتى يقطعوا على السيدة زينب خطابها ، ويصرفوا أذهان الناس إلى شيء آخر ؟!
   هناك من يقول : أمروا بحركة القافلة ، وجاؤا بالرمح الذي عليه رأس الإمام الحسين ( عليه السالم ) وقربوه من محمل السيدة زينب ، وتعالت صرخات الناس : هذا رأس الحسين ... هذا رأس الحسين !!
   وكانت عينا الإمام مفتوحتين ، وهو ينظر نظرةً فريدة ، وصفها المؤرخون بقولهم : « شاخص ببصره

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 336 _

   نحو الأفق » !
   وهنا لم تستطع السيدة زينب أن تستمر في الخطبة رغم شجاعتها وانطلاقها بالكلام ، فهاج بها الحزن من ذلك المنظر الذي وتر أعصابها ، وأوشك أن يقضي عليها ... بسبب الألم الذي بدأ يعصر قلبها العطوف عصرةً يعلم الله درجتها .
   فكان رد الفعل منها أنها نطحت جبينها بمقدم المحمل ... وبكل قوة ، حتى سال الدم من رأسها وجبهتها ، وأومأت ( أي : أشارت ) إليه بخرقة ـ حسب العادة ، العشائرية المتبعة يومذاك ، عند رؤية جنازة الفقيد الغالي ـ ، وشاهدت أن الناس يشيرون بأصابع أيديهم إلى رأس الإمام الحسين ، كما يشيرون إلى مكان وجود الهلال في أول ليلة من الشهر !
   فنادت السيدة زينب ( عليها السلام ) :
يـا هلالاً لما استتم iiكمالا      غاله  خسفه فأبدى iiغروبا
ما توهمت يا شقيق فؤادي      كـان هـذا مقداراً مكتوبا
   ويتصور أحد الشعراء ـ وهو الحاج هاشم الكعبي ـ ذلك

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 337 _

   الموقف الحزين ويقول : كانت مع السيدة زينب ( عليها السلام ) في محملها بنت صغيرة للإمام الحسين ( عليه السلام ) فحينما رأت رأس أبيها بدأت تناديه : يا أبه ... يا أبه ... كلمني أين كنت ! ولما لم تسمع جواباً إنفجرت بالبكاء الشديد ، فنادت السيدة زينب مخاطبةً رأس أخيها العزيز :
أخي : فاطم الصغيرة كلمها      فـقد كـاد قـلبها أن يذوبا
   الإحتمال الثاني : أن الإمام علي بن الحسين ( عليه السلام ) تقدم إلى عمته ـ ولعل ذلك كان بأمر من الشرطة ـ وقال : يا عمة ! اسكتي ، ففي الباقي من الماضي إعتبار ، وأنت بحمد الله عالمة غير معلمة ، وفهمة غير مفهمة ، إن البكاء والحنين لا يردان من قد أباده الدهر ، فسكتت (1) .

---------------------------
(1) الإحتجاج للشيخ الطبرسي ، طبع لبنان ، عام 1403 هـ ، ج 2 ص 305 .

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 339 _

نص خطبة السيدة زينب برواية أخرى
   وروى الشيخ الطبرسي في كتاب « الإحتجاج » نص الخطبة مع وجود بعض الفروق بين النسختين ، ونحن نذكر ذلك ، تتميماً للفائدة :
   قال حذيم الأسدي : لم أر ـ والله ـ خفرةً قط انطق منها ، كأنها تنطق وتفرغ على لسان علي ( عليه السلام ) وقد أشارت إلى الناس بأن انصتوا ، فارتدت ، الأنفاس وسكنت الأجراس ، ثم قالت ـ بعد حمد الله تعالى والصلاة على رسوله ـ : « أما بعد ، يا أهل الكوفة ، يا أهل الختل والغدر والخذل (1) .

---------------------------
(1) الخذل : ترك النصرة والإعانة ، مجمع البحرين للطريحي .

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 340 _

   ألا فلا رقأت العبرة ولا هدأت الزفرة.
   إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم ، هل فيكم إلا الصلف والعجب ، والشنف ، والكذب ، وملق الإماء وغمز الأعداء ، أو كمرعى على دمنة ، أو كفضة على ملحودة ، ألا بئس ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون .
   أتبكون أخي ؟!
   أجل ـ والله ـ فابكوا فإنكم أحرى بالبكاء ، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً ، فقد أبليتم بعارها ، ومنيتم بشنارها ، ولن ترحضوها أبداً ، وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة ، ومعدن الرسالة ، وسيد شباب أهل الجنة ، وملاذ حربكم ، ومعاذ حزبكم ومقر سلمكم وآسي كلمكم ، ومفزع نازلتكم ، والمرجع إليه عند مقاتلتكم ، ومدرة حججكم ، ومنار محجتكم .
   ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم ، وساء ما تزرون ليوم بعثكم ، فتعساً تعساً !! ونكساً نكساً !! لقد خاب السعي ، وتبت الأيدي ، وخسرت الصفقة ، وبؤتم بغضب من الله ، وضربت عليكم الذلة والمسكنة ...
   أتدرون ـ ويلكم ـ أي كبد لمحمد ( صلى الله عليه وآله

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 341 _

   وسلم ) فرثتم ؟!
   وأي عهد نكثتم ؟!
   وأي كريمة له أبرزتم ؟!
   وأي حرمة له هتكتم ؟!
   وأي دم له سفكتم ؟!
   لقد جئتم شيئاّ إداً ، تكاد السماوات يتفطرن منه ، وتنشق الأرض ، وتخر الجبال هداً ؟!
   لقد جئتم بها شوهاء ، صلعاء ، عنقاء ، سوداء ، فقماء ، خرقاء ، كطلاع الأرض ، أو ملء السماء.
   أفعجبتم أن تمطر السماء دماً ، ولعذاب الآخرة أخزى ، وهم لا ينصرون .
   فلا يستخفنكم المهل ، فإنه ( عز وجل ) لا يحفزه البدار ، ولا يخشى عليه فوت الثار ، كلا إن ربك لنا ، ولهم لبالمرصاد ، ثم أنشأت تقول ( عليها السلام ) :
مـاذا  تـقول إذ قال النبي iiلكم      مـاذا  صنعتم وأنتم آخر iiالأمم
بـأهل بيتي وأولادي iiوتكرمتي      منهم أسارى ومنهم ضرجوا بدم

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 342 _

ما كان ذاك جزائي إذ نصحت iiلكم      أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي
إنـي  لأخشى عليكم أن يحل iiبكم      مثل  العذاب الذي أودى على iiإرم
   ثم ولت عنهم ... » إلى آخر الرواية. (1)

---------------------------
(1) كتاب « الإحتجاج » للشيخ الطبرسي ج 2 ص 30(4) 305 ، طبع ايران ، عام 1404 هـ ، وذكرت هذه الخطبة في الكتب التالية :
1 ـ مجالس الشيخ المفيد.
2 ـ أمالي الشيخ الطوسي.
3 ـ بلاغات النساء ، لابن طيفور .
4 ـ مقتل الإمام الحسين ، للخوارزمي .
5 ـ البيان والتبيين ، للجاحظ .
6 ـ روضة الواعظين ، للفتال.
7 ـ مطالب السؤول ، لمحمد بن طلحة الشافعي.
8 ـ مناقب آل أبي طالب ، لإبن شهر آشوب.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 343 _

الفصل الرابع عشر
   دار الإمارة
   السيدة زينب في مجلس ابن زياد
   ماذا جرى بعد ذلك ؟


زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 345 _

دار الإمارة
   كانت دار الإمارة في الكوفة ـ قبل حوالي عشرين سنة من فاجعة كربلاء ـ مقراً للإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) وكانت السيدة زينب تعيش في ذلك المكان في ظل والدها أمير المؤمنين ، وهي في أوج العزة والعظمة ، وفي جو مملوء بالعواطف والإحترام ، فيما بين إخوتها وذويها .
   والآن ! وبعد عشرين سنة أصبحت دار الإمارة مسكناً للدعي بن الدعي : عبيد الله بن زياد ، وتبدلت معنويات دار الإمارة مائة بالمائة ، فبعد أن كانت مسكن أولياء الله ، صارت مسكن الد أعداء الله ، وألأم خلق الله.
   واليوم دخلت السيدة زينب إلى دار الإمارة ، وهي في حالة تختلف عما مضى قبل ذلك .
   ذكر الشيخ المفيد في كتاب ( الإرشاد ) ما يلي :
   ثم إن ابن زياد جلس في قصر الإمارة ، وأذن للناس إذناً عاماً ، وأمر بإحضار رأس الإمام الحسين ( عليه السلام ) فأحضر

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 346 _

   ووضع بين يديه ، وجعل ينظر إليه ويتبسم ، وكان بيده قضيب فجعل يضرب به ثناياه !!
   وكان إلى جانبه رجل من الصحابة يقال له : « زيد بن أرقم » وكان شيخاً كبيراً ، فلما رآه يفعل ذلك قال له : « إرفع قضيبك عن هاتين الشفتين ، فوالله الذي لا إله إلا هو لقد رأيت ثنايا رسول الله ترتشف ثناياه » (1) ثم انتحب وبكى !
   فقال ابن زياد : أتبكي ؟ أبكى الله عينيك ، والله لولا أنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لأضربن عنقك ، فنهض من بين يديه وصار إلى منزله (2) .
   وجاء في التاريخ : أن إبن زياد أمر بالسبايا إلى السجن ، فحبسوا وضيق عليهم ، ثم أمر أن يأتوا بعلي بن الحسين ( عليهما السلام ) والنسوة إلى مجلسه (3) .

---------------------------
(1) وفي نسخة : لقد رأيت شفتي رسول الله عليهما ما لا أحصيه كثرةً يقبلهما .
(2) كتاب « الإرشاد » للشيخ المفيد ص 342 وكتاب « المنتخب » للطريحي ص 464 ـ المجلس العاشر.
(3) كتاب « أمالي الصدوق » ، ص 140 ، وكتاب « روضة الواعظين » للفتال ، ج 1 ص 190.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 347 _

السيدة زينب في مجلس ابن زياد
   ذكر الشيخ المفيد في كتاب « الإرشاد » :
   « وأدخل عيال الحسين ( عليه السلام ) على ابن زياد ، فدخلت زينب أخت الحسين في جملتهم متنكرة وعليها أرذل ثيابها ، فمضت حتى جلست ناحيةً من القصر ، وحفت بها إماؤها.
   فقال ابن زياد ، من هذه التي انحازت ناحيةً ومعها نساؤها ؟!
   فلم تجبه زينب.
   فأعاد القول ثانيةً وثالثةً يسأل عنها ؟
   فقالت له بعض إمائها : هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول الله.
   فأقبل عليها ابن زياد وقال لها : الحمد لله الذي فضحكم

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 348 _

   وقتلكم وأكذب أحدوثتكم. (1) فقالت زينب : الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وطهرنا من الرجس تطهيرا ، وإنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر ، وهو غيرنا والحمد لله .
   فقال ابن زياد : كيف رأيت فعل الله بأهل بيتك ؟! (2)
   فقالت : ما رأيت إلا جميلاً ، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل ، فبرزوا إلى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجون إليه وتختصمون عنده (3) فانظر لمن الفلج يومئذ ، ثكلتك أمك يابن مرجانة !! فغضب ابن زياد واستشاط (4) ، فقال له عمرو بن حريث : أيها الأمير ، إنها امرأة والمرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها .
   فقال ابن زياد : لقد شفى الله قلبي من طاغيتك الحسين

---------------------------
(1) قال الزبيدي في « تاج العروس » : الأحدوثة ـ بالضم ـ : ما يتحدث به. قال ابن بري : الأحدوثة : بمعنى الأعجوبة ، يقال : قد صار فلان أحدوثة.
   وقال الطريحي في « مجمع البحرين » : « الأحدوثة : ما يتحدث به الناس ».
(2) وفي نسخة : « كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك » ؟
(3) وفي نسخة : فتحاج وتخاصم .
(4) وفي نسخة : « فغضب وكأنه هم بها » : أي : أراد ضربها أو قتلها .

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 349 _

   والعصاة المردة من أهل بيتك .
   فرقت زينب وبكت وقالت له : لعمري لقد قتلت كهلي ، وقطعت فرعي ، واجتثثت أصلي ، فإن كان هذا شفاؤك فقد اشتفيت.
   فقال ابن زياد : هذه سجاعة ، ولعمري لقد كان أبوها سجاعاً شاعراً (1) .
   ثم التفت ابن زياد إلى علي بن الحسين وقال له : من أنت ؟ (2)
   فقال : أنا علي بن الحسين.
   فقال : أليس الله قد قتل علي بن الحسين ؟
   فقال علي : قد كان لي أخ يسمى علي بن الحسين ، قتله الناس.
   فقال ابن زياد : بل الله قتله .
   فقال علي بن الحسين : الله يتوفى الأنفس حين موتها .

---------------------------
(1) وفي نسخة : هذه شجاعة ولعمري لقد كان أبوها شجاعاً ، كما في نسخة « تاريخ الطبري » ج 5 ص 457.
(2) وفي نسخة : « من هذا » ؟

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 350 _

   فغضب ابن زياد وقال : ولك جرأة على جوابي (1) وفيك بقية للرد علي ؟! إذهبوا به فاضربوا عنقه.
   فتعلقت به زينب عمته ، وقالت : يا بن زياد ! حسبك من دمائنا ، واعتنقته وقالت : والله لا أفارقه ، فإن قتلته فاقتلني معه .
   فنظر ابن زياد إليها وإليه ساعة ، ثم قال : عجباً للرحم ! والله إني لأظنها ودت أني قتلتها معه ، دعوه فإني أراه لما به (2) .
   ثم أمر ابن زياد بعلي بن الحسين وأهله فحملوا إلى دار جنب المسجد الأعظم ، فقالت زينب بنت علي : « لا يدخلن علينا عربية إلا أم ولد مملوكة ، فإنهن سبين وقد سبينا (3) (4) .

---------------------------
(1) وفي نسخة : وبك جرأة لجوابي .
(2) الإرشاد للشيخ المفيد ص 243 ـ 244 ، وكتاب الملهوف ، لابن طاووس ، ص 201 ـ 202 ، وتاريخ الطبري ج 5 ص 457.
(3) سبين : أسرن.
(4) بحار الأنوار ج 45 ص 118 ، والملهوف ص 202.