و  فـاطم أمـي من سلالة iiأحمد      و عمي يدعى ذا الجناحين iiجعفر
و فـينا كـتاب الله أنزل iiصادقاً      وفينا الهدى والوحي بالخير يذكر
ونـحن أمـان الله لـلناس iiكلهم      نـسر بـهذا فـي الأنام iiونجهر
ونحن ولاة الحوض نسقي iiولاتنا      بـكأس رسول الله ما ليس iiينكر
وشـيعتنا في الحشر أكرم iiشيعة      و مـبغضنا يـوم القيامة iiيخسر
فـطوبى لـعبد زارنا بعد iiموتنا      بـجنة عـدن صـفوها لا  (1) iiيكدر
   فصاح عمر بن سعد : « الويل لكم ! أتدرون لمن تقاتلون ؟! هذا ابن الأنزع البطين ، هذا ابن قتال العرب ، إحملوا عليه من كل جانب » .
   فحملوا عليه وحمل عليهم كالليث المغضب ، فقتل منهم مقتلةًَ عظيمة ، وكانت الرجال تشد عليه فيشد عليها ، فتنكشف عنه كالجراد

---------------------------
(1) بحار الأنوار للشيخ المجلسي ، ج 45 ، ص 48 ـ 49.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 227 _

   المنتشر ! (1)
   فحمل على ميمنة عسكرهم وهو يقول :
الموت أولى من ركوب العار      والعار  أولى من دخول iiالنار
   ثم حمل على ميسرة الجيش وهو يقول :
أنـا الحسين بن iiعلي      آلـيت  أن لا iiأنـثني
أحـمي عـيالات أبي      أمضي على دين النبي
   فجعلوا يرشقونه بالسهام والنبال حتى صار درعه كالقنفذ ، فوقف ليستريح وقد ضعف عن القتال ، فبينما هو واقف إذ أتاه حجر فأصاب جبهته المقدسة ، فسال الدم على وجهه ، فأخذ الثوب ليسمح الدم عن عينه ، فأتاه سهم محدد مسموم له ثلاث شعب ، فوقع السهم على صدره قريباً من قلبه ، فقال الإمام الحسين : « بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله » ، ورفع رأسه إلى السماء وقال : « إلهي ... إنك تعلم أنهم يقتلون رجلاً ليس على وجه الأرض ابن نبي غيره » !
   ثم أخذ السهم وأخرجه من قفاه فانبعث الدم كالميزاب ، فوضع يده على الجرح فلما امتلأت دماً رمى به إلى السماء ، ثم وضع يده على الجرح ثانياً فلما امتلأت لطخ به

---------------------------
(1) بحار الأنوار للشيخ المجلسي ، ج 45 ص 50.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 228 _

   رأسه ولحيته ، وقال : « هكذا أكون حتى القى جدي رسول الله وأنا مخضوب بدمي وأقول : يا رسول الله قتلني فلان وفلان » (1) .
   فعند ذلك طعنه صالح بن وهب بالرمح على خاصرته طعنةً ، سقط منها عن فرسه إلى الأرض على خده الأيمن ، وهو يقول : « بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله » ثم جعل يجمع التراب بيده ، فيضع خده عليها ثم يناجي ربه قائلاً : « صبراً على قضائك وبلائك ، يا رب لا معبود سواك » .
   ثم وثب ليقوم للقتال فلم يقدر ، فبكى بكاءً شديداً ونادى : « واجداه وامحمداه ، وا أبتاه واعلياه ، واغربتاه ، واقلة ناصراه !!
   ءأقتل مظلوماً وجدي محمد المصطفى ؟!
   ء أذبح عطشاناً وأبي علي المرتضى ؟!
   ءأترك مهتوكاً وأمي فاطمة الزهراء » ؟! (2)
   فخرج عبد الله بن الإمام الحسن ( عليه السلام ) وهو غلام لم يراهق ( في الحادية عشر من عمره ) من عند النساء ،

---------------------------
(1) بحار الأنوار ، ج 45 ، ص 53.
(2) نفس المصدر.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 229 _

   فشد حتى وقف إلى جنب عمه الحسين ، فلحقته زينب بنت علي لتحسبه ، فأبى وامتنع عليها إمتناعاً شديداً وقال : والله لا أفارق عمي وجاء حتى جلس عند الإمام ، وجعل يطلب منه أن ينهض ويرجع إلى المخيم ، وفي هذه الأثناء ... أقبل أبحر بن كعب إلى الحسين والسيف مصلت بيده ، فقال له الغلام : ويلك يا بن الخبيثة اتقتل عمي ! فضربه أبحر بالسيف فاتقاه الغلام بيده (1) وأطنها إلى الجلد فإذا هي معلقة ، ونادى الغلام : يا عماه ، فأخذه الإمام الحسين وضمه إليه وقال : « يا بن أخي إصبر على ما نزل بك واحتسب في ذلك الأجر ، فإن الله يلحقك بآبائك الصالحين » ، فرماه حرملة بسهم فذبحه في حجر عمه الحسين. (2)
   وبقي الإمام الحسين ( عليه السلام ) مطروحاً على الأرض ... والشمس تصهر عليه ، فنادى شمر بالعسكر : ما وقوفكم ؟! إحملوا عليه .

---------------------------
(1) لعل المعنى : أن الغلام مد يده على جسم عمه الحسين لكي لا تصل الضربة إليه ، لكن العدو أنزل السيف ولم يرحم الغلام، أطنها : قطعها ، أي : قطع السيف يد الغلام إلى الجلد.
(2) بحار الأنوار ، ج 45 ، ص 53 ـ 54.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 230 _

   فحملوا عليه من كل جانب ، وضربه زرعة بن شرؤيك بالسيف على كتفه ، وطعنه الحصين بن نمير بالرمح في صدره .
   فصاح عمر بن سعد : ويلكم أنزلوا وحزروا رأسه ! وقال لرجل : ويلك إنزل إلى الحسين وأرحه !
   فأقبل عمرو بن الحجاج ليقتل الحسين ، فلما دنى ونظر إلى عينيه ولى راجعاً مدبراً ، فسألوه عن سبب رجوعه ؟ قال : نظرت إلى عينيه كأنهما عينا رسول الله !!
   وأقبل شبث بن ربعي فارتعدت يده ورمى السيف هارباً ...

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 231 _

عودة فرس الإمام الحسين إلى المخيم
   وكان فرس الإمام الحسين ... فرساً أصيلاً من جياد خيل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ـ وقد بقي حياً إلى ذلك اليوم ـ فلما رأى ما جرى على صاحبه ( أي سقوط الإمام عن ظهره إلى الأرض ) جعل يحمهم ويصهل ويشم الإمام الحسين ويمرغ ناصيته بدمه ، ثم توجه نحو خيام الإمام ( عليه السلام ) بكل سرعة ... وهو هائج هياجاً شديداً ، وقد ملأ البيداء صهيلاً عظيماً ، فلما وصل إلى المخيم جعل يضرب الأرض برأسه عند خيمة الإمام الحسين ، وكأنه يريد إخبار العائلة بما جرى على راكبه ، حتى سقط على الأرض عند باب الخيمة.
   فخرجت النساء والأطفال من الخيام فرأين الفرس خالياً من راكبه ، فارتفعت صياح النساء ، وخرجن حافيات باكيات ،

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 232 _

   يضربن وجوههن ، لما نزل بهن من المصيبة والبلاء ، وهن يصحن : « وا محمداه ، واعلياه ، وافاطماه ، واحسناه ، واحسيناه » .
   وصاحت سكينة : « قتل ـ والله ـ أبي الحسين ، ونادت : واقتيلاه ، وا أبتاه ، واحسيناه ، واغربتاه » (1) .

---------------------------
(1) معالي السبطين ، ج 2 ، الفصل العاشر ، المجلس الرابع عشر ، رواه عن كتاب ( تظلم الزهراء ).

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 233 _

ذهاب السيدة زينب إلى المعركة
   ولما سقط الإمام الحسين ( عليه السلام ) على الأرض خرجت السيدة زينب من باب الخيمة نحو الميدان ، وهي تنادي : وا أخاه ، واسيداه ، وا أهل بيتاه ، ليت السماء أطبقت على الأرض ، وليت الجبال تدكدكت على السهل.
   ثم وجهت كلامها إلى عمر بن سعد ، وقالت : يا بن سعد ! أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه ؟!
   فلم يجبها عمر بشيء .
   فنادت : ويحكم !! ما فيكم مسلم ؟! (1)
   فلم يجبها أحد بشيء .
   ثم انحدرت نحو المعركة وهي تركض مسرعةً ، فتارةً تعثر

---------------------------
(1) وفي نسخة : أما فيكم مسلم ؟

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 234 _

   بأذيالها ، وتارةً تسقط على وجهها من عظم دهشتها حتى وصلت إلى وسط المعركة ، فجعلت تنظر يميناً وشمالاً ، فرأت أخاها الحسين ( عليه السلام ) مطروحاً على وجه الأرض ، وهو يخور في دمه ، ويقبض يميناً وشمالاً ، ويجمع رجلاً ويمد أخرى ، والدماء تسيل من جراحاته ، فجلست عنده وطرحت نفسها على جسده الشريف ، وجعلت تقول :
   ءأنت الحسين ؟!
   ءأنت أخي ؟!
   ءأنت ابن أمي ؟!
   ءأنت نور بصري ؟!
   ءأنت مهجة فؤادي ؟!
   ءأنت حمانا ؟!
   ءأنت رجانا ؟!
   ءأنت ابن محمد المصطفى ؟!
   ءأنت ابن علي المرتضى ؟!
   ءأنت ابن فاطمة الزهراء ؟ (1)

---------------------------
(1) أقول : يحتمل أن السيدة زينب قالت هذه الكلمات بصيغة السؤال ...
   ومن منطلق الإستغراب حيث رأت أخاها العزيز وهو بتلك الحالة المؤلمة ، خاصةً ... وأنها عارفة بعظمته ، وجلالة قدره .

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 235 _

   كل هذا ، والإمام الحسين لا يرد عليها جواباً ، لأنه كان مشغولاً بنفسه ، وقد استولى عليه الضعف الشديد بسبب نزف الدم وكثرة الجراحات.
   فقالت : أخي ! بحق جدي رسول الله إلا ما كلمتني ، وبحق أبي : علي المرتضى إلا ما خاطبتني ، وبحق أمي فاطمة الزهراء إلا ما جاوبتني .
   يا ضياء عيني كلمني .
   يا شقيق روحي جاوبني .
   فعند ذلك جلست خلفه ، وأدخلت يديها تحت كتفه وأجلسته حاضنةً له بصدرها .
   فانتبه الإمام الحسين من كلامها ، وقال لها ـ بصوت ضعيف ـ : « أخيه زينب ! كسرتي قلبي ، وزدتيني كرباً على كربي ، فبالله عليك إلا ما سكنت وسكت ».
   فصاحت : « وايلاه ! يا أخي وابن أمي ، كيف أسكن وأسكت ، وانت بهذه الحالة ، تعالج سكرات الموت ؟!
   روحي لروحك الفداء ! نفسي لنفسك الوقاء ».

---------------------------
   ويحتمل أنها قالت هذه الكلمات لا بصيغة السؤال أو منطلق الإستغراب ، بل من منطلق العاطفة والحنان ، ولعلها تحصل على كلمة جوابية منه ( عليه السلام ) فتعلم أنه لا زال حياً .
   المحقق

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 236 _

   فبينما هي تخاطبه ويخاطبها ، وإذا بالسوط يلتوي على كتفها ، وقائل يقول : تنحي عنه ، وإلا الحقتك به ، فالتفت وإذا هو شمر بن ذي الجوشن ( لعنه الله ).
   فاعتنقت أخاها ، وقالت : والله لا أتنحى عنه ، وإن ذبحته فأذبحني قبله .
   فجذبها عنه قهراً ، وقال : والله إن تقدمت إليه لضربت عنقك بهذا السيف.
   ثم جلس اللعين على صدر الإمام ، فتقدمت السيدة زينب إليه ، وجذبت السيف من يده .
   وقالت : يا عدو الله ! إرفق به لقد كسرت صدره ، واثقلت ظهره ، فبالله عليك إلا ما أمهلته سويعةً لا تزود منه .
   ويلك ! أما علمت أن هذا الصدر تربى على صدر رسول الله وصدر فاطمة الزهراء ؟!
   ويحك ! هذا الذي ناغاه جبرئيل ، وهز مهده ميكائيل !!
   ... دعني أودعه ، دعني أغمضه ... فلم يعبأ اللعين بكلامها ، ولا رق قلبه عليها. (1)

---------------------------
(1) كتاب « تظلم الزهراء » للسيد رضي بن نبي القزويني ، ص 232 ، طبع بيروت ـ لبنان ، عام 1420 هـ.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 237 _

   ويستفاد من بعض كتب المقاتل أن السيدة زينب ( عليها السلام ) لم تكن هناك حين مجيء الشمر ، بل أسرعت إلى المخيم ، إمتثالاً لأمر الإمام الحسين ( عليه السلام ) حيث أمرها بالرجوع إلى الخيام.
   ووقعت الفاجعة العظمى والرزية الكبرى ، ألا وهي : مقتل الإمام المظلوم أبي عبد الله الحسين ( عليه السلام ).
   فبدأت الأرض ترتجف تحت أرجل الناس ، وانكسفت الشمس ، وأمطرت السماء دماً عبيطاً (1) وتراباً أحمر.
   فاقبلت العقيلة زينب إلى مخيم الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) وقالت : يا بن أخي : ما لي أرى الكون قد تغير ؟ والشمس منكسفة ؟ والأرض ترجف ؟!
   فقال لها : يا عمة : أنا عليل مريض لا أستطيع النهوض إرفعي جانب الخيمة وسنديني إلى صدرك لا نظر ما الذي جرى !
   فنظر إلى المعركة وإذا بفرس أبيه الحسين يجول في الميدان خالي السرج وملقى العنان ، ورأي رمحاً عليه رأس الإمام الحسين !
   فقال يا عمة : إجمعي العيال والأطفال ، لقد قتل أبي

---------------------------
(1) الدم العبيط : هو الدم الطري غير المتخثر.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 238 _

   الحسين ، قتل أسد الله الباسل ، قتل إبن سيد الأوصياء ، قتل إبن فاطمة الزهراء ، ثم غشي عليه وسقط على الأرض مكبوباً على وجهه .
   فأخذت السيدة زينب رأسه ووضعته في حجرها ونادت :
   إجلس تفديك عماتك.
   إجلس تفديك أخواتك.
   إجلس يا بقية السلف.
   إجلس يا نعم الخلف.
   وهو لا يجيب نداها ، ولا يسمع شكواها ، فعند ذلك إنكبت عليه ومسحت التراب عن خديه ونادت : يا زين العباد ، يا مهجة الفؤاد ، ففتح عينيه ... (1)

---------------------------
(1) كتاب « تظلم الزهراء » ص 23(3) 234.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 239 _

الفصل الحادي عشر
   الهجوم على المخيمات لسلب النساء
   إحراق خيام الإمام الحسين ( عليه السلام )
   السيدة زينب تجمع العيال والأطفال
   ليلة الوحشة
   ترحيل العائلة من كربلاء
   نياحة السيدة زينب على سيد الشهداء

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 241_

الهجوم على المخيمات لسلب النساء
   وبعد ما قتل الإمام الحسين ( عليه السلام ) بمدة قصيرة ... هجم جيش الأعداء بكل وحشية على خيام الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، وهم على خيولهم !! حتى سحق سبعة من الأطفال تحت حوافر الخيل ... ساعة الهجوم (1) وقد سجل التاريخ أسماء خمسة منهم ، وهم : بنتان للإمام الحسن المجتبى عليه السلام (2) .
   طفلان لعبد الرحمن بن عقيل بن أبي طالب ، وإسمهما :

---------------------------
(1) كتاب « معالي السبطين » ج 2 ص 135 ، الفصل الخامس عشر ، المجلس الثاني عشر.
(2) معالي السبطين ، ج 2 ص 140.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 242 _

   سعد وعقيل (1) .
   عاتكة بنت مسلم بن عقيل ، وكان عمرها سبع سنوات. (2)
   محمد بن أبي سعيد بن عقيل بن أبي طالب وكان له من العمر سبع سنوات. (3)
   نعم ، لقد كان الهجوم على العائلة ـ المفجوعة لتوها ـ بعيداً عن الرحمة والإنسانية ، وقد وصف التاريخ ذلك الهجوم بقوله :
   وتسابق القوم على نهب بيوت آل الرسول ، وقرة عين الزهراء البتول ، حتى جعلوا ينزعون ملحفة المرأة عن ظهرها !! (4) .
   وكانت المرأة تجاذب على إزارها وحجابها ... حتى تغلب على ذلك. (5)

---------------------------
(1) معالم السبطين ، ج 2 ، ص 135.
(2) نفس المصدر ، ص 135.
(3) نفس المصدر.
(4) الملحفة : الملاءة التي تلتحف بها المرأة ، كما في « أقرب الموارد ».
   ويعبر عنها ـ حالياً ـ بالعباءة والإزار.
   المحقق
(5) كتاب معالي السبطين ، الفصل الثاني عشر ، المجلس الثاني. أي :

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 243 _

   وخرجن بنات آل الرسول وحريمه يتساعدن على البكاء ، ويندبن لفراق الحماة والأحباء (1) .
   قال حميد بن مسلم : رأيت امرأة من بني بكر بن وائل ـ كانت مع زوجها في عسكر عمر بن سعد ـ فلما رأت القوم قد اقتحموا على نساء الإمام الحسين في خيامهن ، وهم يسلبونهن ، أخذت سيفاً وأقبلت نحو الخيام وقالت :
   « يا آل بكر بن وائل
   اتسلب بنات رسول الله ؟!
   لا حكم إلا لله !!
   يا لثارات رسول الله !! »
   فأخذها زوجها ، وردها إلى رحله (2) .
   قالت فاطمة بنت الإمام الحسين عليه السلام :
   « كنت واقفة بباب الخيمة ، وأنا أنظر إلى أبي وأصحابه

---------------------------
   كانت المرأة تمسك عباءتها وحجابها بقوة ، وكان الأعداء يسحبون ويجذبون عنها ذلك ، ويضربونهن على أيديهن بالعصي والسياط لكي يستطيعوا سلب ما عليهن من أزر ومقانع !!
   المحقق
(1) كتاب ( الملهوف ) لابن طاووس ، ص 181.
(2) نفس المصدر.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 244 _

   مجزرين كالأضاحي على الرمال ، والخيول على أجسادهم تجول !!
   وأنا أفكر فيما يقع علينا بعد أبي ... من بني أمية !
   أيقتلوننا أم يأسروننا ؟
   فإذا برجل على ظهر جواده ، يسوق النساء بكعب رمحه ، وهن يلذن بعضهن ببعض ، وقد أخذ ما عليهن من أخمرة وأسورة (1) وهن يصحن : « وا جداه ! وا أبتاه ! وا علياه ! وا قلة ناصراه ! واحسيناه !
   أما من مجير يجيرنا ؟
   أما من ذائد يذود عنا ؟ »
   قالت : فطار فؤادي ، وارتعدت فرائصي ، فجعلت أجيل بطرفي (2) يميناً وشمالاً على عمتي أم كلثوم خشيةً منه أن يأتيني .
   فبينا أنا على هذه الحالة وإذا به قد قصدني ، ففررت منهزمة ، وأنا أظن أني أسلم منه !! وإذا به قد تبعني ، فذهلت خشيةً منه ، وإذا بكعب الرمح بين كتفي ، فسقطت على وجهي

---------------------------
(1) أخمرة ـ جمع خمار ـ : ما تغطي به المرأة رأسها.
   أسورة ـ جمع سوار ـ : حلية ـ كالطوق ـ تلبسها المرأة في زندها أو معصمها ، ويعبر عنها ـ أيضاً ـ : بالمعاضد .
(2) أجيل بطرفي : أدبر بعيني وبصري.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 245 _

   فخرم أذني ، وأخذ قرطي ومقنعتي ، وترك الدماء تسيل على خدي ، ورأسي تصهره الشمس ، وولى راجعاً إلى المخيم وأنا مغشي علي !!
   وإذا بعمتي عندي تبكي ، وهي تقول :
   قومي نمضي ، ما أعلم ما جرى على البنات ، وعلى أخيك العليل ؟
   فما رجعنا إلى الخيمة إلا وهي قد نهبت وما فيها .
   وأخي : علي بن الحسين مكبوب على وجهه ، لا يطيق الجلوس من كثرة الجوع والعطش والأسقام ، فجعلنا نبكي عليه ويبكي علينا !! (1)
   وروي عن السيدة زينب ( عليها السلام ) أنها قالت : كنت ـ في ذلك الوقت ـ واقفة في الخيمة إذ دخل رجل أزرق العينين (2) فأخذ ما كان في الخيمة ، ونظر إلى علي بن الحسين وهو على نطع من الأديم (3) وكان مريضاً فجذب النطع من تحته ، ورماه إلى الأرض !!

---------------------------
(1) بحار الأنوار للمجلسي ج 45 ص 61.
(2) وهو خولى بن يزيد الأصبحي.
   كما في كتاب ( اسرار الشهادة ) للدربندي الطبعة الحديثة ، ج 3 ص 129.
(3) النطع : بساط من الجلد يفرش تحت الإنسان، الأديم : الجلد المذبوغ.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 246 _

   قال حميد بن مسلم : انتهيت إلى علي بن الحسين ، وهو مريض ومنبسط على فراش ، إذ أقبل شمر بن ذي الجوشن ومعه جماعة من الرجالة ، وهم يقولون [ له ] : ألا تقتل هذا العليل ؟
   فهم اللعين بقتله ، فقلت : سبحان الله ! أتقتل الصبيان ؟! إنما هو صبي .
   فلم يمتنع اللعين وسل سيفه ليقتله ، فألقت زينب ( عليها السلام ) بنفسها عليه وقالت : والله لا يقتل حتى أقتل.
   فأخذ عمر بن سعد بيده وقال : أما تستحي من الله ، تريد أن تقتل هذا الغلام المريض ؟!
   فقال شمر : قد صدر أمر الأمير عبيد الله بن زياد أن أقتل جميع أولاد الحسين.
   فبالغ عمر في منعه ، فكف عنه (1) .

---------------------------
(1) كتاب معالي السبطين ج 2 ، الفصل الثاني عشر ، المجلس الثاني.
   وكتاب أسرار الشهادة ج 3 ص 129.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 247 _

إحراق خيام الإمام الحسين عليه السلام
   ولما فرغ القوم من النهب والسلب ، أمر عمر بن سعد بحرق الخيام.
   فأضرموا الخيم ناراً ، ففررن بنات رسول الله من خيمة إلى خيمة ، ومن خباء إلى خباء ...
   وذكر في بعض كتب المقاتل : أن زينب الكبرى ( عليها السلام ) أقبلت إلى الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) وقالت :
   يا بقية الماضين وثمال الباقين ! (1) قد أضرموا النار في مضاربنا (2) فما رأيك فينا ؟

---------------------------
(1) الثمال ـ على وزن كتاب ـ : الغياث الذي يقوم بأمر قومه ، يقال : فلان ثمال قومه : أي غياث لهم .
   كتاب « مجمع البحرين » للطريحي .
(2) المضارب : الخيام.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 248 _

   فقال ( عليه السلام ) : عليكن بالفرار .
   ففررن بنات رسول الله صائحات باكيات.
   قال بعض من شهد ذلك :
   رأيت امرأة جليلة واقفة بباب الخيمة ، والنار تشتعل من جوانبها ، وهي تارةً تنظر يمنة ويسرة ، وتارةً أخرى تنظر إلى السماء ، وتصفق بيديها ، وتارةً تدخل في تلك الخيمة وتخرج .
   فأسرعت إليها وقلت : يا هذي ! ما وقوفك ها هنا والنار تشتعل من جوانبك ؟! وهؤلاء النسوة قد فررن وتفرقن ، ولم لم تلحقي بهن ؟! وما شأنك ؟!
   فبكت وقالت : يا شيخ إن لنا عليلاً في الخيمة ، وهو لا يتمكن من الجلوس والنهوض ، فكيف أفارقه وقد أحاطت النار به ؟ (1)
   وعن حميد بن مسلم قال : رأيت زينب ـ حين إحراق الخيام ـ قد دخلت في وسط النار ، وخرجت وهي تسحب إنساناً من وسط لهيب النار ، فظننت أنها تسحب ميتاً قد احترق ، فاقتربت لأنظر إليه ، فإذا هو زين العابدين علي بن الحسين. (2)

---------------------------
(1) معالي السبطين ج 2 ، الفصل الثاني عشر ، المجلس الثالث.
(2) كتاب « الطراز المذهب في أحوال سيدتنا زينب ».

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 249 _

   أيها القارئ الكريم : أنظر إلى هذه العملية الفدائية ، وهذه التضحية بالحياة !!
   كيف تقتحم هذه السيدة الجليلة المكان المشحون بلهيب النار ، لتنقذ ابن أخيها ـ ، وإن شئت فقل : إمام زمانها ـ من بين أنياب الموت ؟!
   فهل تعرف نظيراً لهذه السيدة فيما قامت به من الخطوات والأعمال ؟!
   إنها مغامرة بالحياة من أجل الدين.
   إنها إبنة ذلك البطل العظيم الذي كان يخوض غمار الموت ـ بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ للدفاع عن الإسلام والمحافظة على حياة نبي الإسلام.
   إنها إبنة أسد الله الغالب الإمام علي بن أبي طالب ( عليهما السلام ).