الإمام الحسين يَصطحب العائلة
   لقد عرفنا أن الإمام الحسين ( عليه السلام ) كان يعلم ـ بِعلم الإمامة ـ بأنّه سيفوز بالشهادة في أرض كربلاء ، وكان يعلم تفاصيل تلك الفاجعة وأبعادها.
   ولعلّ بعض السُذّج من الناس كان يعتبر اصطحاب الإمام الحسين عائلته المكرّمة إلى كربلاء منافياً للحكمة ، لأن معنى ذلك تعريض العائلة للإهانة والمكاره ، وأنواع الاستخفاف.
   وما كان أولئك الناس يعلمون بأنّ اصطحاب الإمام الحسين ( عليه السلام ) عائلته المَصونة ـ وعلى رأسهن السيدة زينب ـ كان من أوجب لوازم نجاح نهضته المباركة.
   إذ لولا وجود العائلة في كربلاء لكانت نهضة الإمام ناقصة ، غير متكاملة الأجزاء والأطراف.
   فإنّ أجهزة الدعاية الأموية ما كانت تتحاشى ـ بعد إرتكاب

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 152 _

   جريمة قتل الإمام الحسين ـ أن تُعلن براءتها من دم الإمام ، بل وتُنكر مقتل الإمام نهائياً ، وتنشر في الأوساط الإسلامية انّ الإمام توفّي على أثر السكتة القلبيّة ، مثلاً !!
   وليس في هذا الكلام شيء من المبالغة ، ففي هذه السنة ـ بالذات ـ إنتشرت في بعض البلاد العربية مجموعة من الكتب الضالّة التائهة ، بأقلام عُملاء مُستأجرين ، من بهائم الهند ، وكلاب باكستان ، وخنازير نَجد .
   ومن جملة تلك الأباطيل التي سوّدوا بها تلك الصفحات ، هي إنكار شهادة الإمام الحسين ، وأن تلك الواقعة لا أصل لها أبداً.
   ولا أُجيب ـ على ما ذكره أولئك الكُتّاب العملاء ـ سوى بقول الشاعر :
مِـن أيـن تَخجل أوجهٌ iiأمويّة      سَكَبت بلذّات الفجور حياءها ؟
   فهذه الفاجعة قد مرّت عليها حوالي أربعة عشر قرناً ، وقد ذكرها الألوف من المؤرخين والمحدّثين ، واطّلع عليها القريب والبعيد ، والعالم والجاهل ، بل وغير المسلمين ايضاً لم يتجاهلوا هذه الفاجعة المروّعة.
   وتُقام مجالس العزاء في ذكرى إستشهاد الإمام الحسين ( عليه السلام ) في عشرات الآلاف من البلاد ، في جميع القارّات ، حتى صارت هذه الفاجعة أظهر من الشمس ، وصارت كالقضايا البديهيّة

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 153 _

   التي لا يمكن إنكارها أو التشكيك فيها ، بسبب شُهرتها في العالم.
   وإذا بأفراد قد تجاوزوا حدود الوقاحة ، وضربوا الرقم القياسي في صلافة الوجه وانعدام الحياء ، يأتون وينكرون هذه الواقعة كلّياً .
   ولقد رأيتُ بعض مَن يدور في فلك الطواغيت ، ويجلس على موائدهم ، ويملأ بطنه من خبائثهم ، أنكر واقعة الجمل وحرب البصرة نهائيّاً ، تحفّظاً على كرامة إمراءة خرجت تقود جيشاً لمحاربة إمام زمانها ، وأقامت تلك المجزرة الرهيبة في البصرة ، التي كانت ضحيّتها خمسة وعشرين ألف قتيل .
   هذه محاولات جهنّمية ، شيطانية ، يقوم بها هؤلاء الشواذ ، وهم يظنّون أنّهم يستطيعون تغطية الشمس كي لا يراها أحد ، ويريدون أن يطفؤا نور الله بأفواههم ، ويأبى الله إلا أن يُتمّ نوره .
   وهذه النشاطات المسعورة ، إن دلّت على شيء فإنّما تدل على هويّة هؤلاء الكُتّاب وماهيّتهم ، وحتى يَعرف العالَم كله أن هؤلاء فاقدون للشرف والضمير ـ بجميع معنى الكلمة ـ ولا يعتقدون بدينٍ من الأديان ، ولا بمبدأ من المبادئ ، سوى المادة التي هي الكل في الكلّ عندهم !!
   أعود إلى حديثي عن إصطحاب الإمام الحسين ( عليه السلام ) عائلته المكرّمة في تلك النهضة :
   إنّ تواجد العائلة في كربلاء ، وفي حوادث عاشوراء بالذات

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 154 _

   لم يُبقِ مجالاً للأمويين ولا لغيرهم ـ في تلك العصور ـ لإنكار شهادة الإمام الحسين.
   إنّ الأمويين الأغبياء ، لو كانوا يَفهمون لاكتَفوا بقتل الإمام الحسين فقط ، ولم يُضيفوا إلى جرائمهم جرائم أخرى ، مِثل سَبي عائلة الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، ومُخدّرات الرسالة ، وعقائل النبوة والوحي ، وبنات سيد الأنبياء والمرسلين.
   ولكنّهم لكي يُعلنوا إنتصاراتهم في قتل آل رسول الله ( عليهم السلام ) أخذوا العائلة المكرّمة سبايا من بلد إلى بلد .
   وكانت العائلة لا تدخل إلى بلد إلا وتوجد في أهل ذلك البلاد الوعي واليقظة ، وتكشف الغطاء عن جرائم يزيد ، وتُزيّف دعاوى الأمويّين حول آل رسول الله : بأنّهم خوارج وأنّهم عصابة مُتمرّدة على النظام الأموي.
   ونُلخّص القول ـ هنا ـ فنقول : كان وجود العائلة ـ في هذه الرحلة ، والنهضة المباركة ـ ضرورياً جداً جداً ، وكان جزءاً مُكمّلاً لهذه النهضة.
   إنّ هذه الأسرة الشريفة كانت على جانب عظيم من الحِكمة واليقظة ، والمعرفة وفهم الظروف ، واتّخاذ التدابير اللازمة كما

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 155 _

   تقتضيه الحال (1) .

---------------------------
(1) ولزيادة الفائدة نقول :
   لقد ذكر العالم الكبير الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في كتابه « السياسة الحسينيّة » ما يلي : « وهل نشكّ ونرتاب في أنّ الحسين لو قُتل هو ووُلده ... ولم يتعقّبه قيام تلك الحرائر في تلك المقامات بتلك التحدّيات لَذَهَب قَتلُه جباراً ، ولم يَطلُب به أحد ثاراً ، ولَضاع دمه هدراً .
   فكان الحسين يعلم أنّ هذا عملٌ لابدّ منه ، وأنّه لا يقوم به إلا تلك العقائل ، فوجب عليه حتماً أن يحملهنّ معه لا لأجل المظلوميّة بسببهنّ فقط ، بل لنظرٍ سياسي وفكر عميق ، وهو تكميل الغرض وبلوغ الغاية من قلب الدولة على يزيد ، والمبادرة إلى القضاء عليها قبل أن تقضي على الإسلام ، ويعود الناس إلى جاهليّتهم الأولى ».
   ويقول العلامة البحّاثة الشيخ باقر شريف القرشي في كتابه : « السيدة زينب بطلة التاريخ » ص 212 ما نصّه : « لقد كان من أروع ماخطّطه الإمام في ثورته الكبرى : حَملُه عقيلة بني هاشم وسار مخدّرات الرسالة معه إلى العراق ، فقد كان على عِلم بما يجري عليهنّ من النكبات والخطوب ، وما يَقُمن به من دور مشرق في إكمال نهضته وإيضاح تضحيته ، وإشاعة مبادئه وأهدافه ، وقد قُمن حرائر النبوة بإيقاظ المجتمع من سُباته ، وأسقطن هيبة الحكم الاموي ، وفتحن باب

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 156 _


---------------------------
   الثورة عليه ، فقد ألقينَ من الخُطب الحماسيّة ما زَعزع كيان الدولة الأموية.
   إنّ من ألمع الأسباب في استمرار خلود مأساة الحسين ( عليه السلام ) واستمرار فعّالياتها في نشر الإصلاح الاجتماعي هو حمل عقيلة الوحي وبنات الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مع الإمام الحسين ، فقد قُمنَ ببَلورة الرأي العام ، ونَشََرن مبادئ الإمام الحسين وأسباب نهضته الكبرى ، وقد قامت السيدة زينب ( عليها السلام ) بتدمير ما أحرزه يزيد من الإنتصارات ، وألحقت به الهزيمة والعار ».
   ويقول الدكتور احمد محمود صبحي في كتابه « نظرية الإمامة » ص 343 : « ماذا كان يكون الحال لو قُتل الحسين ومَن معه جميعاً من الرجال إلا أن يُسجّل التاريخ هذه الحادثة الخطيرة من وجهة نظر أعدائه ، فيَضيع كلّ أثر لقضيّته .. مع دمه المسفوك في الصحراء ».
   المحقق

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 157 _

الإمام الحسين في طريق الكوفة
   رويَ أن الإمام الحسين ( عليه السلام ) لمّا نزل الخزيمية (1) قام بها يوماً وليلة ، فلمّا أصبح أقبلت إليه أخته زينب ( عليها السلام ) فقالت :
   يا أخي ! ألا أُخبرك بشيء سمعته البارحة ؟
   فقال الحسين ( عليه السلام ) : وما ذاك ؟
   فقالت : خَرجتُ في بعض الليل فسمعت هاتفاً يهتف ويقول :
ألا  يـا عـينُ فاحتفلي iiبجهد      ومَن يبكي على الشهداء بعدي
عـلى قـومٍ تـسوقهم iiالمنايا      بـمقدار  إلـى إنـجاز iiوعدِ

---------------------------
(1) الخزيميّة : نقطة توقّف ، ومحل نزول الحجّاج ، للإستراحة والتزوّد بالماء ، وتقع بين مكة والكوفة .
   المحقق

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 158 _

   فقال لها الحسين ( عليه السلام ) : يا أختاه كل الذي قُضيَ فهو كائن . (1)
   وقد التقى الإمام الحسين ( عليه السلام ) في طريقه إلى الكوفة برجل يُكنّى « أبا هرم » ، فقال : يابن النبي ما الذي أخرجك من المدينة ؟!
   فقال الإمام : « ... وَيحَك يا أبا هرم ! شَتَموا عِرضي فصَبرتُ ، وطلِبوا مالي فصبرتُ (2) ، وطلبوا دمي فهربت !
   وأيمُ الله ليَقتلونني ، ثمّ ليُلبِسنّهم الله ذُلاً شاملاً ، وسيفاً قاطعاً ، وليُسلّطنّ عليهم من يُذلّهم . (3)

---------------------------
(1) كتاب « نفس المهموم » للشيخ عباس القمي ، ص 179.
(2) لعلّ ا لأصح : وأخذوا مالي .
   المحقق.
(3) الحديث مرويّ عن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) ، مذكور في كتاب « أمالي الصدوق » ص 129 ، حديث 1 ، وذكره الشيخ المجلسي في « بحار الأنوار » ج 44 ص 310.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 159 _

الفصل السابع
   وصول الإمام الحسين إلى أرض كربلاء
   زَحف جيش الأموي نحو خيام آل محمد ( عليهم السلام )


زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 161 _

وصول الإمام الحسين إلى أرض كربلاء
   وفي الطريق إلى الكوفة ، إلتقى الإمام الحسين ( عليه السلام ) بالحرّ بن يزيد الرياحي ، وكان مُرسلاً مِن قِبَل ابن زياد في ألف فارس ، وهو يريد أن يذهب بالإمام إلى ابن زياد ، فلم يوافق الإمام الحسين على ذلك ، واستمرّ في السير حتى وصل إلى أرض كربلاء في اليوم الثاني من شهر محرم سنة 61 للهجرة .
   فلمّا نزل بها ، قال : ما يُقال لهذه الأرض ؟
   فقالوا : كربلاء !
   فقال الإمام : « اللهم إنّي أعوذُ بك من الكرب والبلاء » ، ثم قال لأصحابه : إنزِلوا ، هاهنا مَحَطّ رحالنا ، ومَسفك دمائنا ، وهنا محلّ قبورنا .
   بهذا حدّثني جدّي رسول الله

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 162 _

  ( صلى الله عليه وآله وسلم ). (1)
   قال السيد ابن طاووس في كتاب « الملهوف » :
   لمّا نزلوا بكربلاء جلس الإمام الحسين ( عليه السلام ) يُصلح سيفه ويقول :
يـا دهرُ أفٍ لك من iiخليل      كم لك بالإشراق و الأصيل
مِـن طالبٍ وصاحبٍ iiقتيل      و  الـدهر لا يقنعُ iiبالبَديل
وكلّ حيّ سالكٌ سبيلي  (2) ii      ما أقربَ الوعد من الرحيلِ
وإنّـما الأمـر إلى iiالجليلِ
   فسمعت السيدة زينب بنت فاطمة ( عليها السلام ) ذلك ، فقالت : يا أخي هذا كلام مَن أيقَن بالقَتل !
   فقال : نعم يا أختاه.
   فقالت زينب : واثكلاه ! ينعى إليّ الحسين نفسه .
   وبكت النِسوة ، ولَطمن الخدود ، وشقَقن الجيوب ، وجعلت أمّ كلثوم تنادي : وامحمّداه ! واعليّاه ! وا أمّاه ! وا فاطمتاه !

---------------------------
(1) كتاب « الملهوف » ص 139.
(2) وفي نسخة :
وإنّـما الأمـر إلى iiالجليل      وكـلّ حـيّ فـإلى iiسبيلي
ما أقرب الوعد إلى الرحيل      إلـى جـنانٍ وإلـى iiمقيلِ

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 163 _

   واحَسَناه ! واحُسيناه ! واضيعتاه بعدك يا أبا عبد الله ... إلى آخره. (1)
   ورَوى الشيخ المفيد في كتاب ( الإرشاد ) هذا الخبر بكيفيّة أُخرى وهي :
   قال علي بن الحسين [ زين العابدين ] ( عليهما السلام ) :
   إنّي جالس في تلك العشيّة التي قُتل أبي في صبيحتها ، وعندي عمّتي زينب تُمرّضني ، إذ اعتزل أبي في خِباء له (2) ، وعنده جوين مولى أبي ذرٍ الغفاري ، وهو يعالج سيفه (3) ويُصلحه ، وأبي يقول :
يا  دهر أفّ لك من iiخليل      كم لك بالإشراق والأصيل
مِن  صاحب وطالبٍ iiقتيل      والـدهر  لا يقنع iiبالبديل
و  إنّـما الأمر إلى iiالجلل      وكـلّ حـي سالكٌ سبيلي
   فأعادها مرّتين أو ثلاثاً ، حتّى فهمتُها ، وعَرفت ما أراد ، فخَنَقتني العبرة ، فرددتها ، ولَزِمتُ السكوت ، وعلِمت أنّ البلاء قد نزل .
   وأمّا عمتي : فإنّها سَمِعت ما سمعتُ ، وهي إمرأة ، ومن شأنها النساء : الرقّة والجزع ، فلم تِملِك نفسها ، إذ وَثَبت تجرّ ثوبها ،

---------------------------
(1) كتاب ( الملهوف على قتلى الطفوف ) للسيد علي بن موسى بن طاووس ، المتوفّى سنة 664 هـ ، ص 139.
(2) خِباء : خيمة .
(3) ضمير هو : يرجع إلى جوين ، يُعالج : يُحاول إعداده للإستعمال في القتال.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 164 _

   حتى انتهت إليه فقالت :
   واثكلاه ! ليتَ الموت أعدَمَني الحياة ، اليوم ماتت أُمّي فاطمة ، وأبي علي ، وأخي الحسن ، يا خليفة الماضين وثِمال الباقين !
   فنظر إليها الإمام الحسين فقال لها : يا أُخيَّة ! لا يُذهِبنّ حِلمَك الشيطان.
   وتَرقرَقَت عيناه بالدموع ، وقال : يا أُختاه ، « لو تُرك القَطا لغَفا ونامَ » (1) .
   فقالت : يا ويلتاه ! أفتغتصب نفسك اغتصاباً ؟ (2) فذاك أقرَحُ لقلبي ، وأشدّ على نفسي ، ثمّ لطمت وجهها ! وأهوَت إلى جيبِها فشقّته ، وخرّت مغشيّاً عليها.
   فقام إليها الإمام الحسين ( عليه السلام ) فَصَبّ على وجهها الماء ، وقال لها :

---------------------------
(1) القطا : طائرٌ معروف ، واحدة : القطاة.
   قالوا ـ في الأمثال ـ : « لو تُرك القطا ليلاً لَنام » يُضرَبُ مثلاً لِمَن حُمِل أو أُجبِر على مكروه من غير إرادته ، وذلك أنّ القطا لا يطير ليلاً إذا أذا أزعجوه وأفسدوا عليه راحته ، فإذا طار القطا ليلاً كان ذلك علامة على أنّ عدوّاً يُلاحقه .
   ومعنى كلام الإمام الحسين ( عليه السلام ) : إنّ العدوّ لو كان يتركُنا لكنّا نَبقى في وطننا في المدينة ، ولكنّه أزعجنا وأخرجَنا من بلادنا ، وسيَبقى يُلاحقنا إلى أن نَسلَم منه أو يَقتُلنا .
   المحقق
(2) أي : تُقتَل ظُلماً وقَهراً.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 165 _

   إيهاً يا أُختها ! إتّقي الله ، وتَعزّي بعزاء الله ، واعلمي أنّ أهل الأرض يموتون وأنّ أهل السماء لا يَبقون ، وأنّ كلّ شيء هالِك إلا وجه الله ، الذي خلق الخلق بقُدرته ، ويَبعث الخلق ويعيدهم وهو فردٌ وحده .
   جدّي خيرٌ مني ، وأبي خيرٌ منّي ، وأُمّي خيرٌ منّي ، وأخي [ الحسن ] خيرٌ منّي ، ولي ولكلّ مسلم برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أُسوة.
   فعزّاها بهذا ونحوه ، وقال لها : « يا أُختاه إني أقسمتُ عليكِ ، فأبِرّي قَسَمي (1) .
   لا تَشُقّي عَلَيّ جَيباً ، ولا تَخمشي عليّ وجهاً ، ولا تَدعي عليّ بالويل والثُبور إذا أنا هلكتُ ».
   ثمّ جاء بها حتّى أجلسها عندي ، وخرج إلى أصحابه ... (2)
   أقول : سمعتُ من بعض الأفاضل : أنّ هذه الأبيات كانت مشؤمة عند العَرب ، ولم يُعرف قائلُها ، وكان المشهور عند الناس : أنّ

---------------------------
(1) أبرّي قَسَمي : أجيبيني إلى ما أقسَمتُكِ عليه ، ولا تَحنَثي ذلك.
   كما في « لسان العرب ».
   المحقق
(2) كتاب ( الإرشاد ) للشيخ المفيد ، ص 232 ، وذكره الطبري ـ المتوفّى عام 310 هـ ـ في تاريخه ج 5 ص 420.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 166 _

   كلّ مَن أحسّ بخطر الموت أو القتل كان يتمثّل بهذه الأبيات.
   ولا يَبعدُ هذا الكلام من الصحّة ، لأنّ الأبيات مُشتملة على عتاب الدهر وتوبيخه لا غير ، ولعلّ لهذا السبب أحسّت السيدة زينب باقتراب الخطر من أخيها الإمام الحسين ( عليه السلام ) وقالت : هذا الحسين يَنعى إليّ نفسه .
   وهكذا الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) تَراه قد استَنبَطَ من قراءة هذه الأبيات نُزول البلاء.
   حيث إنّ هذه الأبيات لا تُصرّح ـ بظاهرها ـ بشيء من هذه الأمور ، كخطر الموت أو اقتراب موعد القتل.
   هذا ... والظاهر أنّ نهي الإمام الحسين أُخته السيدة زينب عن شقّ الجيب وخَمش الوجه إنّما كان خاصّاً بساعة قتل الإمام ، بعد الإنتباه إلى قول الإمام : « إذا أنا هلكتُ » .
   وبعبارة أخرى : إنما منَعَها أن تَشُقّ جيبها أو تخمش وجهها ساعة مصيبة مقتل الإمام وشهادته .
   والسيدة زينب إمتثَلت أمر أخيها ، ولم تفعل شيئاً من هذا القبيل عند شهادة الإمام في كربلاء .
   وإنّما قامت ببعض هذه الأعمال في الكوفة ، وفي الشام في مجلس يزيد ، عندما شاهدت ما قام به يزيد ( لعنة الله عليه ) من أنواع الإهانة برأس الإمام الحسين عليه السلام.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 167 _

   ولعلّ نهي الإمام أخته عن شقّ الجيب ـ في تلك الساعة أو الساعات الرهيبة ـ كان لهذه الحِكمة : وهي أن لا يظهر منها أثر الضعف والإنكسار والإنهيار ، أمام أولئك الأعداء الألدّاء ، فقد كان المطلوب من السيدات ـ حينذاك ـ الصبر والتجلّد وعدم الجزع أمام المصائب.
   لانّ هذا النوع من الشجاعة ـ وفي تلك الظروف بالذات ـ ضروري أمام العدوّ الحاقد ، الذي كان يتحيّن كلّ فرصة للقيام بأيّ خطوة تُناسب نفسيّته اللئيمة ، تجاه تلك العائلة المكرّمة الشريفة ، وكانت مواجهة الحوادث بصبر جميل ومعنويّات عالية ، تعني تفويت الفُرص أمام تفكير العدوّ القيام بأيّ نوع من أنواع الاعتداء والإهانة وسحق الكرامة تجاه تلك السيدات الطاهرات المفجوعات ، اللواتي فقدن المُحامي والمدافع عنهن !

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 169 _

زحف الجيش الأموي نحو خيام آل محمد ( عليهم السلام )
   كانت السيدة زينب ( عليها السلام ) تَشعر باقتراب الخطر يوماً بعد يوم ، وساعةً بعد ساعة ، وكيف لا ؟ والسيل البشري يتدفّق نحو أرض كربلاء لقتل ريحانة رسول الله وسبطه الحبيب ؟
   وآخر راية وصلت إلى كربلاء : راية شمر بن ذي الجوشن في ستّة آلاف مقاتل ، ومعه الحُكم الصادر مِن عبيد الله بن زياد ، يأمر فيه ابن سعد أن يُخيّر الإمام الحسين بين أمرين :
  1 ـ الإستسلام.
  2 ـ الحرب.
   فزحف الجيش الأموي نحو خيام آل محمد ( عليهم السلام ) ونظرت السيدة زينب إلى أسراب من الذئاب تتراكض نحو بيوت الرسالة والإمامة .

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 170 _

   ويعلم الله تعالى مدى الخوف والقلق والإضطراب الذي استولى على قلوب آل رسول الله.
   وأقبلت السيدة زينب تبحث عن أخيها ، لتُخبره بهذا الهجوم المُفاجئ في تلك السويعات الأخيرة من اليوم التاسع من المحرّم ، قريب الغروب.
   وأخيراً ، وصلت إلى خيمة الإمام الحسين ( عليه السلام ) وإذا بالإمام جالس ، وقد احتضن ركبتيه ، ووضع رأسه عليهما ، وقد غلبه النوم.
   واستيقظ الإمام على صوت أخته الحوراء تُخاطبه ـ بصوت مليء بالرُعب ، مزيج بالعاطفة والحنان ـ ... قائلةً :
   أخي أما تسمع هذه الأصوات قد اقتربت ؟
   فرفع الإمام الحسين رأسه وقال : أُخيّه ! إنّي رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الساعة في المنام ، وقال لي : « إنّك تروح إلينا ».
   أو « إنّي رأيت ـ الساعة ـ محمداً ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأبي عليّاً ، وأمّي فاطمة ، وأخي الحسن وهم يقولون : يا حسين إنّك رائحٌ إلينا عن قريب » (1) .

---------------------------
(1) كتاب ( الملهوف على قتلى الطفوف ) للسيد ابن طاووس ، طبع ايران ، عام 1414 هـ ، ص 151.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 171 _

   فلطمت السيدة زينب وجهها ، وصاحت : واويلاه ، وبكت.
   فقال لها الإمام الحسين : ليس لك الويل يا أخيّة ، لا تُشمِتي القوم بنا ، أُسكتي رحمك الله. (1) .
   فنهض الإمام الحسين ( عليه السلام ) وأرسل أخاه العبّاس ابن علي مع عشرين فارساً من أصحابه ، وقال : « يا عباس إركب ـ بنفسي أنت يا أخي ـ حتّى تلقاهم وتقول لهم مالكم وما بدا لكم ؟؟ وتسألهم عمّا جاء بهم ؟
   فأتاهم العباس وقال لهم : ما بَدا لكم وما تريدون ؟
   قالوا : قد جاء أمر ابن زياد أن نَعرِض عليكم : أن تنزلوا على حُكمه ، أو نُناجزكم !
   فقال العباس : لا تَعجَلوا حتى أرجع إلى أبي عبد الله ، فأعرض عليه ما ذكرتم.
   فتوقّف الجيش ، وأقبل العباس إلى أخيه الإمام الحسين ( عليه السلام ) وأخبره بما قاله القوم.
   فقال الإمام إرجع إليهم ... فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غدٍ وتدفعهم عنّا العشيّة ، لعلّنا نُصلّي لربنا الليلة

---------------------------
(1) كتاب « معالي السبطين » للمازندراني ، ج 1 ، ص 204 ، الفصل الثامن ، المجلس الأول.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 172 _

   وندعوه ... فهو يعلم أني أحبّ الصلاة له وتلاوة كتابه ؟ فمضى العباس إلى القوم فاستمهلهم ، وأخيراً ... وافقوا على ذلك. (1)

---------------------------
(1) كتاب « معالي السبطين » للمازندراني ، ج 1 ، ص 332.