السيدة زينب في عهد أمها البتول
   تستأنس البنت بأمها أكثر من استيناسها بأبيها ، وتنسجم معها أكثر من غيرها ، وتعتبر روابط المحبة بين الأم والبنت من الأمور الفطرية التي لا تحتاج إلى دليل ، فالأنوثة من أقوى الروابط بين الأم وبنتها.
   وإذا نظرنا إلى هذه الحقيقة من زاوية علم النفس ، فإن الأم تعتبر ينبوعاً للعاطفة والحنان ، والبنت ـ بطبعها وطبيعتها ـ متعطشة إلى العاطفة ، فهي تجد ضالتها المنشودة عند أمها ، فلا عجب إذا اندفعت نحو أمها ، وانسجمت معها روحاً وقلباً وقالباً .
   والسيدة زينب الكبرى كانت مغمورة بعواطف أمها الحانية العطوفة ، وقد حلت في أوسع مكان من قلب أم كانت أكثر أمهات العالم حناناً ورأفةً وشفقةً بأطفالها .

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 52 _

   السيدة زينب الكبرى تعرف الجوانب الكثيرة من آيات عظيمة أمها سيدة نساء العالمين وحبيبة رسول الله وقرة عينه وثمرة فؤاده ، وروحه التي بين جنبيه ، صلى الله عليه وآله وسلم .
   فقد فتحت السيدة زينب الكبرى عينيها في وجه أطهر أنثى على وجه الأرض ، وعاشت معها ليلها ونهارها ، وشاهدت من أمها أنواع العبادة ، والزهد ، والمواساة والإيثار ، والإنفاق في سبيل الله ، وأطعام الطعام مسكيناً ويتيماً وأسيراً.
   وشاهدت حياة أمها الزوجية ، والإحترام المتبادل بينها وبين زوجها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، وإطاعتها له ، وصبرها على خشونة الحياة وصعوبة المعيشة ، ابتغاء رضى الله تعالى .
   كما عاصرت السيدة زينب الحوادث المؤلمة التي عصفت بأمها البتول بعد وفاة أبيها الرسول ، وما تعرضت له من الضرب والأذى ، كما سبقت منا الإشارة إلى ذلك.
   وانقضت عليها ساعات اليمة وهي تشاهد أمها العليلة ، طريحة الفراش ، مكسورة الضلع ، دامية الصدر ، محمرة العين.
   كما رافقت أمها الزهراء ( عليها السلام ) إلى مسجد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ حين إلقاء الخطبة ، كما ستقرأ ذلك في فصل ( بعض ما روي عن السيدة زينب ) إن شاء الله تعالى .

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 53 _

السيدة زينب في عهد والدها أمير المؤمنين
   بعد أن وصل الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من البصرة إلى الكوفة ، واستقر به المكان ، إلتحقت به العوائل من المدينة إلى الكوفة.
   ومن جملة السيدات اللواتي هاجرن من المدينة إلى الكوفة هي السيدة زينب ( عليها السلام ) وقد سبقها زوجها عبد الله بن جعفر ، حيث كان في جيش الإمام لدى وصوله إلى البصرة.
   والمستفاد من مطاوي التواريخ والأحاديث أن الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ـ بعد انقضاء مدة من وصوله إلى الكوفة ـ نزل في دار الامارة ، وهو المكان المعد لحاكم البلدة ، ومع تواجد الإمام في الكوفة لم يكن هناك حاكم أو أمير غيره ، فلماذا لا ينزل في دار الإمارة ؟
   ويتبادر إلى الذهن أن دار الامارة كانت مشتملة على حجرات وغرف عديدة واسعة ، وكان كل من البنات والأولاد

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 54 _

   ( المتزوجين ) يسكنون في حجرة من تلك الحجرات ، والسيدة زينب كانت تسكن مع زوجها في حجرة أو غرفة من غرف دار الإمارة (1) .
   ومكثت السيدة زينب ( عليها السلام ) في الكوفة سنوات

---------------------------
(1) السيدة زينب تعلم تفسير القرآن لنساء الكوفة وجاء في التاريخ أن جمعاً من رجال الكوفة جاؤوا إلى الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وقالوا : إئذن لنسائنا كي يأتين إلى ابنتك ويتعلمن منها معالم الدين وتفسير القرآن.
   فأذن الإمام لهم بذلك ، فبدأت السيدة زينب بتدريس النساء.
   ويعلم الله عدد النساء المسلمات اللواتي كن يحضرن درس السيدة ... طيلة أربع سنوات أو أكثر.
   وذات يوم دخل الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الدار ، فسمع ابنته زينب تتحدث للنساء ـ في درسها ـ عن الحروق المقطعة في أوائل السور ، وعن بداية سورة مريم بشكل خاص .
   وبعد انتهاء الدرس إلتقى الإمام بابنته وقال لها : يا نور عيني أتعلمين أن هذه الحروف هي رمز لما سيجري عليك وعلى أخيك الحسين في أرض كربلاء ، ثم بدأ يحدثها عن بعض تفاصيل تلك الفاجعة.
   المصدر : كتاب ( الخصائص الزينبية ) للسيد الجزائري المتوفى عام 1384 هـ ، ص 68 ، وكتاب ( رياحين الشريعة ) للمحلاّتي ج 3 ص 57.
   المحقق

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 55 _

   وعاصرت الأحداث والإضطرابات الداخلية التي حدثت : من واقعة صفين إلى النهروان ، إلى الغارات التي شنها عملاء معاوية على بلاد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام.
   إنقضت تلك السنوات المريرة ، المليئة بالآلام والمآسي ، وانتهت تلك الصفحات المؤلمة بالفاجعة التي اهتزت منها السماوات والأرضون ، وهي حادثة استشهاد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام.
   لقد كانت العلاقات الودية بين الإمام أمير المؤمنين وبين أولاده وبناته على أطيب ما يمكن ، وفي جو من الصفاء والوفاء ، والعاطفة والمحبة.
   والإمام أمير المؤمنين هو السلطان الحاكم على نصف الكرة الأرضية ، ومعه عائلته المصونة وأبناؤه المكرمون ، ولكنه ـ في شهر رمضان من تلك السنة ، وهي السنة الأخيرة والشهر الأخير من حياته ـ كان يفطر ليلة عند ولده الإمام الحسن ، وليلة عند ولده الإمام الحسين ( عليهما السلام ) وليلة عند السيدة زينب التي كانت تعيش مع زوجها عبد الله بن جعفر ، (1) كل ذلك تقويةً لأواصر

---------------------------
(1) المصدر : الإرشاد للشيخ المفيد ، ص 169 ، وذكر أيضاً في « بحار الأنوار » للشيخ المجلسي ، ج 41 ص 300 ، باب إخباره بالغائبات وعلمه باللغات .
   نقلاً عن كتاب الخرائج.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 56 _

   المحبة والتواصل بينه وبين أشباله وبناته.
   وفي الليلة التاسعة عشر من شهر رمضان ، كانت النوبة للسيدة زينب ، وأفطر الإمام في حجرتها وقدمت له طبقاً فيه رغيفان من خبز الشعير ، وشيء من الملح ، وإناء من لبن .
   كان هذا هو فطور الإمام أمير المؤمنين الذي كان يحكم على نصف العالم ، وأنهار الذهب والفضة تجري بين يديه .
   واكتفى الإمام ـ تلك الليلة ـ برغيف من الخبز مع الملح فقط .
   ثم حمد الله وأثنى عليه ، وقام إلى صلاة ، ولم يزل راكعاً وساجداً ومبتهلاً ومتضرعاً إلى الله تعالى .
   ولا أعلم لماذا بات الإمام في حجرة ابنته السيدة زينب ـ تلك الليلة ـ ؟
   ولعله اختار المبيت في بيتها حتى تشاهد وترى ، وتروي مشاهداتها ومسموعاتها عن أبيها أمير المؤمنين في تلك الليلة ، إذ كانت تلك الليلة تمتاز عن بقية الليالي ، فإنها تحدثنا فتقول :
   إنه ( عليه السلام ) قال لأولاده : « إني رأيت ـ في هذه الليلة ـ رؤيا هالتني ، وأريد أن أقصها عليكم ».
   قالوا : وما هي ؟

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 57 _

   قال : « إني رأيت ـ الساعة ـ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في منامي وهو يقول لي : يا أبا الحسن إنك قادم إلينا عن قريب ، يجيء إليك أشقاها فيخضب شبيتك من دم رأسك ، وأنا ـ والله ـ مشتاق إليك ، وإنك عندنا في العشر الآخر من شهر رمضان ، فهلم إلينا فما عندنا خير لك وأبقى ».
   فلما سمعوا كلامه ضجوا بالبكاء والنحيب ، وأبدوا العويل ، فاقسم عليهم بالسكوت ، فسكتوا (1) .
   وتقول السيدة زينب ( عليها السلام ) :
   لم يزل أبي ـ تلك الليلة ـ قائماً وقاعداً وراكعاً وساجداً ، ثم يخرج ساعةً بعد ساعة ، يقلب طرفه في السماء وينظر في الكواكب وهو يقول : والله ما كذبت ولا كذبت ، وإنها الليلة التي وعدت بها .
   ثم يعود إلى مصلاّه ويقول : اللهم بارك لي في الموت ، ويكثر من قول : « إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ » ، « ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم » ، ويصلي على النبي وآله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ويستغفر الله كثيراً .
   تقول : فلما رأيته ـ في تلك الليلة ـ قلقاً متململاً (2)

---------------------------
(1) كتاب « بحار الأنوار » للشيخ المجلسي ج 42 ص 277 ، باب 127.
(2) متململاً : التململ : هو الإضطرات وعدم الإستقرار بسبب الهم أو الألم.
   وجاء في كتاب ( العين ) للخليل بن أحمد : الململة : أن يصير

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 58 _

   كثير الذكر والإستغفار ، أرقت معه ليلتي (1) وقلت : يا أبتاه ما لي أراك في هذه الليلة لا تذوق طعم الرقاد ؟
   قال ـ عليه السلام ـ : يا بنية إن أباك قتل الأبطال وخاض الأهوال وما دخل الخوف له جوفاً ، وما دخل في قلبي رعب أكثر مما دخل في هذه الليلة (2) .
   ثم قال : إنا لله وإنا إليه راجعون .

---------------------------
   الإنسان من جزع أو حرقة كأنه يقف على جمر .
   وقال الفيروز آبادي في ( القاموس ) : التململ : التقلب ... مرضاً أو غماً .
   المحقق
(1) أرقت معه : أي سهرت معه ، الأرق : السهر.
(2) بناءً على صحة هذه المقطوعة من التاريخ يتبادر إلى الذهن هذا السؤال : لماذا الخوف ؟
   الجواب : لا شك أن الخوف لم يكن من الموت ، لأن الإمام ( عليه السلام ) يقسم على الله تعالى ـ أكثر من مرة ـ أنه لا يخاف الموت ، وأنه « آنس بالموت من الطفل بصدر أمه » وأنه « لا يبالي أوقع على الموت أم وقع الموت عليه ».
   وساحات الحرب وميادين القتال تشهد له بصدق كلماته هذه .
   فلعل سبب الخوف : هو هيبة لقاء الله تعالى والإنتقال من عالم الفناء إلى عالم البقاء.
   أو الخوف والقلق على مستقبل الأمة بعد غياب الإمام عن ذلك المجتمع ، وبسبب خطر المؤامرات التي كان يحكيها معاوية ضد الإسلام والمسلمين .
   أو لغير ذلك من الأسباب والله العالم.
   المحقق

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 59 _

   فقلت : يا أبتاه ، ما لك تنعى نفسك في هذه الليلة ؟
   قال : يا بنية قد قرب الأجل وانقطع الأمل.
   قالت : فبكيت ، فقال لي : يا بنية لا تبكي فإني لم أقل ذلك إلا بما عهد إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
   تقول ( عليها السلام ) : ثم إنه نعس وطوى ساعة ، ثم استيقظ من نومه وقال : يا بنية إذا قرب وقت الأذان فأعلميني .
   ثم رجع إلى ما كان عليه أول الليل من الصلاة والدعاء والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى.
   فجعلت أرقب وقت الأذان ، فلما لاح الوقت أتيته ومعي إناء فيه ماء ، ثم أيقظته فأسبغ الوضوء ، وقام ولبس ثيابه وفتح باب الحجرة ، ثم نزل إلى ساحة الدار.
   وكانت في الدار إوز (1) قد أهديت إلى أخي الحسين ، فلما نزل خرجن وراءه ورفرفن وصحن في وجهه ـ ولم يصحن قبل تلك الليلة ـ فقال ( عليه السلام ) : « لا إله إلا الله ، صوارخ تتبعها نوائح ، وفي غداة غد يظهر القضاء ».
   فقلت : يا أبتاه هكذا تتطير ؟!

---------------------------
(1) إوز ـ بكسر الهمزة وفتح الواو وتشديد الزاي ـ : البط ، كما في ( مجمع البحرين ) للطريحي .
   وقيل : الإوز : طائر يشبه البط في شكله العام ولكنه اكبر منه حجماً وأطول عنقاً .
   كما في كتاب ( المعجم الوسيط ).

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 60 _

   فقال : « يا بنية ! ما منا ـ أهل البيت ـ من يتطير ، ولا يتطير به ، ولكن قول جرى على لساني ».
   ثم قال ـ عليه السلام ـ : « يا بنية ! بحقي عليك إلا ما أطلقتيه ، فقد حبست ما ليس له لسان ، ولا يقدر على الكلام إذا جاع أو عطش ، فأطعميه واسقيه وإلا خلي سبيله يأكل من حشائش الأرض ».
   فلما وصل إلى الباب عالجه ليفتحه ، فتعلق الباب بمئزره ، فانحل مئزرة حتى سقط ، فأخذه وشده وهو يقول :
أشدد حيازيمك للموت      فـإن الـموت iiلاقيكا
ولا تجزع من iiالموت      إذا  حــل iiبـناديكا
كـما أضحكك iiالدهر      كـذاك  الدهر iiيبكيكا
   ثم قال : « اللهم بارك لنا في الموت ، الله مبارك لي في لقائك ».
   تقول السيدة أم كلثوم :
   وكنت أمشي خلفه ، فلما سمعته يقول ذلك قلت : واغوثاه يا أبتاه ! أراك تنعى نفسك منذ الليلى ؟!
   فقال ـ عليه السلام ـ : « يا بنية ! ما هو بنعاء ، ولكنها

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 61 _

   دلالات وعلامات للموت ... يتبع بعضها بعضاً » .
   ثم فتح الباب وخرج.
   فجئت إلى أخي الحسن فقلت : يا أخي قد كان من أمر أبيك الليلة كذا وكذا ، وهو قد خرج في هذا الليل الغلس ، فالحقه (1) .
   فقام الحسن ( عليه السلام ) وتبعه ، فلحق به قبل أن يدخل الجامع ، فأمره الإمام بالرجوع ، فرجع .
   أيها القارئ الكريم :
   هنا ننقل ما ذكره المؤرخون ، ثم نعود إلى حديث السيدة زينب عليها السلام :
   لقد جاء الإمام علي ( عليه السلام ) حتى دخل المسجد ، فصعد على المئذنة ووضع سبابتيه في أذنيه وتنحنح ، ثم أذن فلم يبق في الكوفة بيت إلا اخترقه صوته ، ثم نزل عن المئذنة وهو يسبح الله ويقدسه ويكبره ، ويكثر من الصلاة على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
   وكان يتفقد النائمين في المسجد ويقول للنائم : الصلاة

---------------------------
(1) الغلس ـ بفتح اللام ـ : ظلمة آخر الليل كما في ( القاموس ) للفيروز آبادي.
   وقيل : ظلام آخر الليل إذا اختلط بضوء الصباح ، كما في كتاب ( مجمع البحرين ) للطريحي .

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 62 _

   يرحمك الله ، قم إلى لصلاة المكتوبة ، ثم يتلو : « إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ » (1) .
   ... ثم اتجه نحو المحراب وقام يصلي ، وكان ( عليه السلام ) يطيل الركوع والسجود ، فقام ابن ملجم ( لعنه الله ) لارتكاب أكبر جريمة في تاريخ الكون ، وأقبل مسرعاً حتى وقف بأزاء الاسطوانة التي كان الإمام يصلي عندها ، (2) فأمهله حتى صلى الركعة الأولى وسجد السجدة الأولى ورفع رأسه منها ، فتقدم اللعين ورفع السيف وهزه ثم ضرب الإمام على رأسه الشريف ، فوقعت الضربة على مكان الضربة التي ضربه عمرو بن عبدود العامري ، يوم الخندق.
   فوقع الإمام ( عليه السلام ) على وجهه قائلاً : بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله ، فزت ورب الكعبة ، هذا ما و عد الله ورسوله ، وصدق الله ورسوله .
   وسال الدم على وجهه الشريف ، وشيبته المقدسة ، وعلى

---------------------------
(1) سورة العنكبوت ، الآية 45.
(2) الأسطوانة : العمود الذي يعتمد عليه سقف البناء، وكلمة « أسطوانة » معربة من اللغة الفارسية ، وأصلها : « ستون » أو « أستون ».
   المحقق

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 63 _

   صدره وأزياقه (1) ، حتى اختضبت شيبته وتحقق ما أخبر عنه الرسول الكريم.
   وفي هذه اللحظة الأليمة هتف جبرئيل ـ بين السماء والأرض ـ ذلك الهتاف السماوي الذي لم يسبق له مثيل في تاريخ الأنبياء والأوصياء.
   لقد هتف جبرئيل بشهادة الإمام علي ( عليه السلام ) كما هتف ـ يوم أحد ـ بفتوته وشهامته يوم قال : « لا فتى إلا علي لا سيف إلا ذوالفقار ».
   فقد اصطفقت أبواب المسجد الجامع (2) ، وضجت الملائكة في السماء ، وهبت ريح عاصفة سوداء مظلمة ، ونادى جبرئيل بصوت سمعه كل مستيقظ :
   « تهدمت ـ والله ـ أركان الهدى ، وانطمست ـ والله ـ نجوم السماء وأعلام التقى ، وانفصمت ـ والله ـ العروة الوثقى ، قتل ابن عم محمد المصطفى ، قتل الوصي المجتبى ، قتل علي المرتضى ، قتل ـ والله ـ سيد الأوصياء ، قتله أشقى

---------------------------
(1) أزياق ـ جمع زيق ... بالكسر ـ : زيق القميص : ما أحاط بالعنق من القميص.
   كما في كتاب القاموس وتاج العروس.
   وبتعبير آخر : زيق ، فتحة القميص التي يدخل الإنسان رأسه منها .
   المحقق
(2) إصطفقت : ضربت بعضها ببعض ، ضرباً يسمع منه الصوت.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 64 _

   الأشقياء ».
   فلما سمعت السيدة أم كلثوم نعي جبرئيل لطمت على وجهها وخدها ، وشقت جيبها وصاحت : واأبتاه ! واعلياه ! وامحمداه ! واسيداه !
   ... ثم حملوا الإمام ـ والناس حوله يبكون وينتحبون ـ وجاؤوا به إلى الدار.
   فاقبلت بنات رسول الله وسائر بنات الإمام ، وجلسن حول فراشه ينظرن إلى أسد الله وهو بتلك الحالة ، فصاحت السيدة زينب وأختها : أبتاه من للصغير حتى يكبر ؟! ومن للكبير بين الملأ ؟!
   يا ابتاه ! حزننا عليك طويل ، وعبرتنا لا ترقأ (1) .
   فضج الناس ـ من وراء الحجرة ـ بالبكاء والنحيب ، وشاركهم الإمام ( عليه السلام ) وفاضت عيناه بالدموع .
   وفي ليلة الحادية والعشرين من شهر رمضان ، في الساعة الأخير من حياة الإمام ( عليه السلام ) كانت السيدة زينب ( عليها السلام ) جالسة عنده تنظر في وجهه ، إذ عرق جبين الإمام ، فجعل يمسح العرق بيده ، فقالت زينب : يا أبه أراك تمسح جبينك ؟
   قال : يا بنية سمعت جدك رسول الله ( صلى الله عليه وآله

---------------------------
(1) لا ترقأ : لا تنقطع ، أو لا تجف .

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 65 _

   وسلم ) يقول : « إن المؤمن إذا نزل به الموت ودنت وفاته عرق جبينه وصار كاللؤلو الرطب ، وسكن انينه ».
   فعند ذلك ألقت زينب بنفسها على صدر أبيها وقالت : يا ابه حدثتني أم أيمن بحديث كربلاء ، وقد أحببت أن أسمعه منك (1) .
   فقال ( عليه السلام ) : « يا بنية ! الحديث كما حدثتك أم أيمن ، وكأني بك وبنساء أهلك لسبايا بهذا البلد ، خاشعين تخافون أن يتخطفكم الناس ، فصبراً صبراً ».
   ثم التفت الإمام إلى ولديه الحسن والحسين ( عليهما السلام ) وقال : « يا أبا محمد ويا أبا عبد الله ، كأني بكما وقد خرجت عليكما من بعدي الفتن من ها هنا وها هنا ، فاصبرا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين.
   يا ابا عبد الله ! أنت شهيد هذه الأمة ، فعليك بتقوى الله والصبر على بلائه .
   ثم أغمي عليه وأفاق ، وقال : هذا رسول الله وعمي حمزة وأخي جعفر وأصحاب رسول الله ، وكلهم يقولون : عجل قدومك علينا فإنا إليك مشتاقون .

---------------------------
(1) سوف نذكر لمحة سريعة عن أم أيمن ، في فصل ( بعض ما روي عن السيدة زينب عليها السلام ).

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 66 _

   ثم أدار عينيه في وجوه أهل بيته وقال لهم : « استودعكم الله » ، وتلا قوله تعالى « لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ » (1) وقوله سبحانه « إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ » (2) .
   ثم تشهد الشهادتين وفارق الحياة.
   فعند ذلك صرخت زينب وأم كلثوم وجميع نسائه وبناته ، وشققن الجيوب ، ولطمن الخدود ، وارتفعت الصيحة في الدار.
   ... ولما فرغ أولاد الإمام ( عليه السلام ) من تغسيله ، نادى الإمام الحسن أخته زينب وقال : يا أختاه هلمي بحنوط جدي رسول الله ـ وكان قد نزل به جبرئيل من الجنة ـ.
   فبادرت السيدة زينب مسرعة حتى أتته به ، فلما فتحته فاحت الدار لشدة رائحة ذلك الطيب.
   أيها القارئ الكريم : هذا بعض ما يرتبط بالسيدة زينب في حياة أبيها العظيم الإمام علي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وقد اقتطفنا ما يرتبط بمقتل أبيها من كتابنا : الإمام علي من المهد إلى اللحد.

---------------------------
(1) سورة الصافات ، الآية 61.
(2) سورة النحل ، الآية 128.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 67 _

السيدة زينب مع أخيها الإمام الحسن المجتبى
   إن الاحترام اللائق ، والتقدير الرفيع كان متبادلاً بين السيدة زينب الكبرى وبين أخيها الأكبر ، وهو السبط الأول لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : الإمام الزكي ، الحسن المجتبى عليه السلام.
   إن السيدة زينب كانت تنظر إلى أخيها الامام الحسن من مناظرين :
  (1) منظار الأخوة.
  (2) منظار الإمامة.
   فمن ناحية : يعتبر الإمام الحسن الأخ الأكبر للسيدة زينب ( عليها السلام ) ومن المعلوم أن الأخ الأكر له مكانة خاصة عند الإخوة والأخوات ، وقد ورد في الحديث الشريف : « الأخ الأكبر

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 68 _

   بمنزلة الأب » (1) ومن ناحية أخرى : يعتبر الإمام الحسن ( عليه السلام ) إمام زمان السيدة زينب بعد شهادة الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ولهذا فإن احترامها لاخيها كان ينبعث من هذين المنطلقين.
   وتجدر الإشارة إلى أن كل ما سنذكره ـ من الروابط القلبية بين السيدة زينب والإمام الحسين ـ فهي ثابتةً بينها وبين أخيها الإمام الحسن أيضاً.
   وإذا كان التاريخ قد سكت عن التفاصيل فإن أصل الموضوع ثابت .
   ونكتفي ـ هنا ـ بما ذكر في بعض الكتب من موقف السيدة زينب حينما حضرت عند أخيها الإمام الحسن ساعة الوفاة :
   « ... وصاحت زينب : وا أخاه ! وا حسناه ! وا قلة ناصراه ! يا أخي من الوذ به بعدك ؟!
   وحزني عليك لا ينقطع طول عمري ! ثم إنها بكت على أخيها وهي تلثم خديه وتتمرغ عليه ، وتبكي طويلاً » (2) .

---------------------------
(1) الحديث مروي عن الإمام علي بن موسى الرضا ( عليه السلام ) ، ذكر في كتاب « بحار الأنوار » ج 75 ، 335 ، طبع لبنان عام 1403 هـ.
(2) معالي السبطين ، للمازندراني ، ج 1 ، المجلس التاسع.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 69 _

العلاقات الودّية بين السيدة زينب وأخيها الإمام الحسين
   إن روابط المحبة ، والعلاقات الودية بين الإخوة والأخوات كانت من قديم الزمان ، حتى صارت يضرب بها المثل في المحبة والمودة بين اثنين ، فيقال : كأنهما أخوان ، أو كأنهما أخ وأخت .
   ولكن العلاقات الودية وروابط المحبة بين الإمام الحسين وبين أخته السيدة زينب ( عليهما السلام ) كانت في القمة وكانت تمتاز بمزايا ، ولا أبالغ إذا قلت : لا يوجد ولم يوجد في العالم أخ وأخت تربطهما روابط المحبة والوداد مثل الإمام الحسين وأخته السيدة زينب .
   فإن كلاً منهما كان قد ضرب الرقم القياسي في مجال المحبة الخالصة ، والعلاقات القلبية.
   وكيف لا يكونان كذلك وقد تربيا في حجر واحد وتفرعا

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 70 _

   من شجرة واحدة ؟!
   ولم تكن تلك العلاقات منبعثة عن عاطفة القرابة فحسب ، بل عرف كل واحد منهما ما للآخر من الكرامة ، وجلالة القدر وعظم الشأن.
   فالسيدة زينب تعرف أخاها بأنه :
   سيد شباب أهل الجنة وريحانة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وتعلم بأن الله تعالى قد أثنى على أخيها في آيات كثيرة من القرآن الكريم ، كآية المباهلة ، وآية المودة ، وآية التطهير ، وسورة « هل أتى » ، وغيرها من الآيات والسور.
   بالاضافة إلى أنها عاشت سنوات مع اخيها في بيت واحد ، وشاهدت ما كان يتمتع به اخوها من مكارم الأخلاق والعبادة والروحانية ، وعرفت ما لأخيها من علو المنزلة وسمو الدرجة عند الله عزوجل.
   وتعلم انه إمام منصوب من عند الله تعالى ، منصوص عليه بالإمامة العظمى والولاية الكبرى من الرسول الأقدس صلى الله عليه وآله وسلم.
   مع توفر شروط الإمامة ولوازمها فيه ، كالعصمة ، والعلم بجميع أنواع العلوم ، وغير ذلك.
   وهكذا يعرف الإمام الحسين ( عليه السلام ) أخته السيدة زينب

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 71 _

   حق المعرفة ، ويعلم فصائلها وفواضلها وخصائصها .
   ومن هنا يمكن لنا أن نطلع على شيء من مدى الروابط القوية بين هذا الأخ العظيم وأخته العظيمة.
   وقد جاء في التاريخ : أن الإمام الحسين ( عليه اسلام ) كان يقرأ القرآن الكريم ـ ذات يوم ـ فدخلت عليه السيدة زينب ، فقام من مكانه وهو يحمل القرآن بيده ، كل ذلك احتراماً لها (1) .

---------------------------
(1) كتاب ( ذخيرة المعاد ) للشيخ زين العابدين المازندراني.

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 73 _

الفصل الثالث
زواج السيدة زينب عليها السلام
   عبد الله بن جعفر

   لماذا لم يخرج عبد الله مع الإمام الحسين عليه السلام


زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد _ 75 _

زواج السيدة زينب عليها السلام
   لمّا بَلَغت السيدة زينب الكبرى ( عليها السلام ) مَبلَغ النساء ، خطَبَها ـ فيمَن خطَبَها ـ ابنُ عمّها : عبد الله بن جعفر بن أبي طالب .
   وكان الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يَرغَبُ أن يتزوّج بناته من أبناء عُمومتهنّ : أولاد عقيل وأولاد جعفر ، ولعلّ السبب في ذلك هو كلام رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ـ حينَ نظر الى أولاد الإمام علي وأولاد جعفر بن أبي طالب ـ فقال : ـ « بَناتُنا لبَنينا ، وبَنونا لبَناتنا » (1) .
   وحصلت الموافقة على الزواج ، وتمّ العقد المبارك في جوّ عائلي يَغمره الودّ والمحبّة ، وزُفّت السيدة زينب ( عليها

---------------------------
(1) كتاب ( مناقب آل أبي طالب ) لابن شهرآشوب المتوفى عام 588 للهجرة ، ج 3 ص 305 ، فصل : في أزواجه وأولاده ، وذكره الشيخ المجلسي في ( بحار الأنوار ) ج 42 ص 92 ، باب 120.