إنّ النظر بعـين الإنصاف إلى ما كُتِبَ في فضائل ومناقب مولانا أمير المؤمنين (ع) يوصلنا إلى نتيجةٍ لا يختلف فيها اثنان ، وهي : أنه لم يصحّ في فضل أحدٍ من الصحابةِ من الأحاديثِ ما صحّ في فضلهِ (ع) وما ذلك إلا لعلو منزلته عند الله تعالى وعند رسوله الأكرم (ص) ، وإنّ هذه الفضائل على ثلاثة أنواع : ما شارك الصحابة بِهِ ، وما اجتمعَ فيه وتَفرّق في الكلّ ، وما تَفرّد بِهِ مِنْ خَصائِص .
وبما أنّ ذكر هذه الفضائل يحتاج إلى كتاب مفـرد ، أو إلى مجموعة كتبٍ ، فإنّني ـــ رعاية للاختصار ـــ سأذكر أقلّ القليل من خصائص مولانا التي انفرد بها ، معـتذراً بقـول ابن أبي الحديد : (( وما أقولُ في رجل أقرّ له أعـداؤه وخصومه بالفضل ، ولم يمكنهم جحدُ مناقبهِ ، ولا كتمانُ فضائلهِ ، فقد عـلمتَ أنّه استولى بنو أميّة عـلى سلطان الإسلام في شرق الأرض وغـربها ، واجتهدوا بكلّ حيلة في إطفاءِ نورهِ ، والتحريض عـليه ، ووضع المعايب والمثالب له ، ولعـنوه عـلى جميع المنابر ، وتوعّـدوا مادحيه بل حبسوهم وقتلوهم ، ومنعــوا من رواية حديث يتضمّن له فضيلةً ، أو يرفع له ذكراً ، حتى حظروا أن يسمّى أحد باسمهِ ، فما زادهُ ذلك إلا رفعةً وسُمُوّاً وكان كالمِسكِ كلّما سُتر انتشر عَـرْفهُ ، وكلّما كُتم تضوّعَ نَشْرُهُ ، وكالشمسِ لا تُستر بالراح ، وكضوءِ النهار إن حُجبت عـنه عـينٌ واحدةُ ، أدركته عـيونٌ كثيرةٌ، وما أقـولُ في رجلٍ تعـزى إليه كلّ فضيلةٍ وتنتهي إليه
كلّ فِرقةٍ ،وتتجاذبه كلّ طائفة فهو رئيس الفضائل ويَنبوعها ، وأبو عُـذرها ، وسابق مضمارها ، ومجلّي حَلْبتها ، كلّ مَن بزغ فيها بعـده فمنهُ أخذ وله اقتفى ، وعـلى مثالهِ احتذى ))
(1) .
ومِنْ خَصائصِهِ (ع) التي انفردَ بها : إنّه (ع) ورسول الله (ص) خُلقا من نـورٍ واحدٍ ، ومن شجـرةٍ واحدةٍ ، ومن طينةٍ واحدة ، فعـن الإمام الرضا (ع) ، عـن آبائه عليهم السلام ، قال : قال رسول الله (ص) : (( خُلِقتُ أنا وعليّ من نـورٍ واحدٍ )) ، وعـن الإمام عليّ (ع) قال : قال رسول الله (ص) : (( يا عليّ خُلق الناسُ من شجرٍ شتّى ، وخُلقتُ أنا وأنتَ من شجرةٍ واحدة )) .
وروى جابر بن عبدالله الأنصاري ، أنّ رسولَ الله (ص) قال لعليٍّ (ع) ألا أسرّكَ ؟ ألا أبشّركَ ؟ ألا أمنحك ؟ فقال : بلى يا رسولَ الله بَشّرني ، قال : فإنّي خُلقتُ أنا وأنتَ من طينةٍ واحدة ففضلت منها فضلة فخلق اللهُ منها شيعـتنا ))
(2) .
ومن خَصائصِهِ (ع) أنّه أوّل من أسلمَ بعـد الرسول الأكرم (ص) وأم المؤمنين خديجة بنت خويلد (ع)، فعـَنْ يَحيى بن عُفيف ، عن عُفيف ، قال : ((جئتُ في الجاهليةِ إلى مكّة ، وأنا أُريدُ أنْ أبتاعَ لأهلي من ثيابِها وعطرِها ، فأتيتُ العـبّاسَ بن عبدالمطلب ، وكان رجلاً تاجراً ، فأنا عندهُ جالسٌ حيث أنظرُ إلى الكعبة ، وقد حلّقت الشمسُ في السماءِ فارتفعتْ وذهبَتْ ، إذ جاءَ شابٌ فرمى ببصره إلى السماء ، ثمّ استقبل الكعـبة فقام مستقبلها فلم يلبث حتى جاء غلامٌ فقام عن يمينه ،
---------------------------
(1) شرح نهج البلاغة ، ابن ابي الحديد 1 / 22 .
(2) الإرشاد ، الشيخ المفيد ص 29 .
وليد الكعبة
_ 24 _
قال : فلم يلبث حتى جاءت امرأة فقامت خلفهما، فركع الشاب فركع الغلام والمرأة ، فخرَّ الشاب ساجداً فسجدا معه ، فقلت : يا عـباس أمرٌ عـظيم ، فقال أمرٌ عـظيم ! أتدري مَنْ هـذا ؟فقلتُ : لا ، قال : هذا محمد بن عـبدالله بن عـبد المطلب ابن أخي ،أتدري من هذا معه ؟ قلتُ : لا قال : هذا عـليُّ بن أبي طالب بن عـبد المطلب ابن أخي أتدري مَنْ هذهِ المرأة التي خلفهما ؟ قلتُ : لا ، قال : هذه خديجةُ بنتُ خُويلِد ، زوجة ابن أخي ؛ وهذا حدّثني أنّ ربّك ربّ السماء أمرهم بهذا الذي تراهم عليه ، وأيّمُ الله ، ما أعلمُ على ظهرِ الأرض كلّها أحداً على هذا الدين غير هؤلاءِ الثلاثة))
(1) .
وعن أنس بن مالك خادم رسول الله (ص) قال : (( أنزلت النبوّة على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم الاثنين ، وبعث يوم الاثنين ، وأسلمت خديجة يوم الاثنين ، وأسلم علي يوم الثلاثاء ليس بينهما إلا ليلة ))
(2) .
وإنّه (ع) باب علم النبي (ص) وباب حكمته ،فعـن عبدالله بن عباس قال : قال رسول الله (ص) : (( أنا مدينة العـلم وعـليّ بابها ، فمن أراد العـلم فليأت بابه ))
(3) ، وفي حديث آخر : (( يا عـليّ أنا مدينة الحكمة وأنت بابها ، ولن تؤتى المدينة إلا من قِبَل البابُ وكذَبَ مَنْ زعَمَ أنّهُ يُحبُّني ويُبغِضكَ لأنكَ منّي وأنا مِنك ))
(4) .
وإنه أقضى الصحابة ، فعـن عكـرمة ، عـن عبدالله بن عـباس قال : قال رسول الله (ص) : (( عـلي بن أبي طالب أعـلم أمّتي وأقضاهـم فيما
---------------------------
(1) ينظر :الطبري 2 / 197، ط 1، الطبعة الموافقة لطبعة محمد ابو الفضل إبراهيم، دار احياء التراث العربي ، بيروت 2008 م ،الإرشاد ص 22، أسد الغابة 3 / 364 في ترجمة عـفـيف الكـندي، تاريخ دمشق، ابن عساكر 42 / 34 ، شرح خصائص امير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) للحافظ النسائي ، العلامة محمد الشرفي 1 / 42 ، تحقيق الشيخ حسين البيرجندي ، ط 1 ، قم 1429 هـ ، مع اختلاف يسير بالألفاظ .
(2) تاريخ دمشق 42 / 28 .
(3) أسد الغابة 3 / 400 .
(4) أمالي الصدوق ص 210 ، المجلس الخامس والأربعون ح 18 .