وقال أبو حاتم والنسائي : متروك ، وقال الدارقطني : ضعيف (1) ، هذه هي أهم الأحاديث الواردة في صَدد عبد الله بن عمرو بن العاص ، من كوّن رسول الله قد أباح له الكتابة ، ويمكننا أن نلاحظ عليها ما يلي :
أولاً: إن عمرو بن شعيب لم يسلم من تجريح مطلق ، كما مرَّ بنا الحديث عنه مفصلاً إبان دراسة قضية الصحيفة الصادقة ، وبالمناسبة إن الإمام رشيد رضا يضعف هذا الحديث لوجود عمرو فيه ورشيد رضا من أساطين علم الحديث والرواية (2) .
ثانياً : وسؤال على هامش الموضوع أن تدوين عبد الله بن عمرو أو كتابته للحديث جاءت بعد إذن النبي ، وإلاَّ فهو قد ارتكب محرَّماً . . . وعلى هذا الأساس كيف تجرؤ قريش على ردعه خاصَّة وإن النبي قد أباح الكتابة على رأي مدرسة الجمهور ، وليس من ريب أن من العسير قبول هذا الردع من قريش بعد ترخيص رسول الله.
ثالثاً : وقد كذب بعضهم هذا الحديث ( حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال : سمعتُ أبي يقول ، جاء رجل إلى إسماعيل بن إبراهيم بن عليه ، فحدثه بحديث عن رجل عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، قال : قلتُ : يا رسول الله أكتب ما أسمع منك قال : نعم ، قال : قلت : يا رسول الله في الرضا والغضب قال : نعم ، فإنه لا ينبغي أن أقول في ذلك إلاَّ حقاً ، فنفض إسماعيل ثوبه ، حين حدثه ذلك الرجل هذا الحديث ، وقال : أعوذُ بالله من الكذب وأهله مراراً ) (3) .
رابعاً : وأخيراً وليس آخراً فإن الحديث مطعون سنداً في أكثر طرقه ، ومتناً متفاوت في دلالته كما هو واضح .
  تنبيه : ربما يقول قائل : إن تعدّد طرق هذا الحديث عن عمرو بن شعيب يقوّيه ، وفي هذا يتحدث رشيد رضا ( يقول المحدثون في بعض الأحاديث حتى التي لم يصح لها سند ، إن تعدد طرقها يقوّمها ، وهي قاعدة للمحدثين لم يشر إليها الله في كتابه ، ولا ثبتت في سنة عن رسوله ، وإنما هي مسألة نظرية غير مطردة . . . ) (4) ومع التساهل في كل هذه الملاحظات ، فإن كل ما يمكن أن يقال هنا ، أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يحدث عن النبي أو يكتب بإرادته ، ولم يكن هناك أي تعهد بينه وبين النبي على ذلك .

--------------------------------
(1) ميزان الاعتدال : ج 3 ص 75 رقم (5644) .
(2) تفسير المنار : 10 (765 ـ 766) .
(3) تقييد العلم : ص 79 .
(4) أضواء على السنة المحمدية ص 283 نقلاً عن مجلة المنار: ص 128 ج 31.

مشكلة تدوين الحديث _77 _

  أما حديث ( اكتبوا لأبي شاه ) الذي يرويه أبو هريرة وهو : ( حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن حدثني أبو هريرة ، قال : لما فتح الله تعالى على رسوله ( صلّى الله عليه وآله ) مكة ، قام في الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : إن الله تبارك وتعالى . . . إلخ، فهو حديث مرفوع ، فضلاً عن أنه لا يكشف عن خطة نبوية مقصودة وهادفة لحفظ الحديث الشريف بالكتابة والتدوين .

صحيفة عبد الله بن عمرو بن العاص :
  الصحيفة الصادقة هي التي كتبها ( عبد الله بن عمرو بن العاص ) عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) مباشرة وبإذن منه، فقد روى مجاهد : ( رأيتُ عند عبد الله بن عمرو صحيفة ، فسألته عنها ، فقال : هذه الصادقة ، فيها ما سمعتُ من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، ليس بيني وبينه أحد ) (1) ، وكما يبدو من مواصفاتها أنها كانت ذخراً لا ينضب في الفقه والعلم ، ولذلك أحتلت مكانة عزيزة لدى صاحبها ، حتى إنه يقول : ( ما يرغبني في الحياة إلاَّ الصادقة والوهط ، فأمَّا الصادقة فصحيفة كتبتها عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، وأما الوهط فأرض تصدق بها عمرو بن العاص كان يقوم عليها ) (2) .

--------------------------------
(1) طبقات ابن سعد: ج 4 ص 262 .
(2) سنن الدارمي : ج 2 ص 127 .

مشكلة تدوين الحديث _78 _

  وقد أخرج الإمام أحمد هذه الصحيفة في مسنده بعنوان : مسند عبد الله بن عمرو بن العاص (1) ، وتروي بعض المصادر أن بني عبد الله توارثوا هذه الصحيفة الثمينة حتى استقرت عند حفيده ( عمر بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو ) (2) المتوفى سنة (120 هـ) أو (118 هـ) ، وكان يروي عنها قراءة أو حفظاً من أصلها (3) .
  ولكل ذلك يهتم علماء الجمهور بهذه الصحيفة اهتماماً بارزاً ، فقد قال الخطيب : ( لهذه الصحيفة أهميَّة عظيمة ، لأنها وثيقة علمية تاريخية تثبت كتابة الحديث النبوي الشريف بين يدي رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) وبإذنه ) (4) ، لقد بلغ اهتمام علماء ومفكري الجمهور بهذه الصحيفة أن جعلها أحدهم رسالة لنيل شهادة الدكتوراه والآن نحاول أن نخضع الصحيفة والقول بأنها أثر حقيقي يحمل هذه المواصفات لعملية النقد العلمي ، لنرى ما هي قيمتها وسوف نبدأ بتحليل أسانيدها التي جمعها الخطيب البغدادي في كتابه المعروف بـ( تقييد العلم ) ، متطرقين بعد ذلك إلى فحص المتون والمقارنة بينها .

الرواية الأولى:
  ( أخبرنا علي بن محمد بن عبد الله المؤمَّل ، أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار ، حدثنا عباس بن محمد بن حاتم ، حدثنا محمد بن الصلت ، حدثنا شريك عن ليث عن طاووس عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : الصادقة : صحيفة كتبتها عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ) (5).

----------------------------
(1) المسند: ج 2 ص 158 ـ 226 .
(2) تهذيب التهذيب : ج 8 ص 48 ـ 55 .
(3) أصول الحديث : ص 194 .
(4) أصول الحديث، علوم الحديث ومصطلحه : ص 27 .
(5) تقييد العلم : ص 84 .

مشكلة تدوين الحديث _79 _

الرواية الثانية :
  ( حدثنا عبد الله بن جعفر بن أحمد بن فارض ، حدثنا إسماعيل بن عبد الله العبدي ، حدثنا محمد بن سعيد ، حدثنا شريك عن ليث عن مجاهد قال : قال عبد الله بن عمرو : ما يرغبني في الحياة إلاَّ خصلتان ، الصادقة والوهط ، فأمَّا الصادقة : فصحيفة كتبتها عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، وأما الوهط، فأرض تصدق بها عمرو بن العاص كان يقومُ عليها ) (1) .

الرواية الثالثة :
  ( أخبرنا أحمد بن محمد بن عبد الله بن زياد القطان ، حدثنا الحسن بن عباس الرازي ، حدثنا محمد بن حميد ، حدثنا هارون بن المغيرة عن عنبسة ، يعني ابن سعيد ، عن ليث عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو قال : ما آسي على شيء إلاَّ على الصادقة والوهط ، وكانت الصادقة صحيفة إذا سمع من النبي شيئاً كتبه فيها ، والوهط كان جعلها صدقة ) (2) .

الرواية الرابعة :
  ( حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا محمد بن علي الوراق ، حدثنا سعيد يعني ابن سليمان ، حدثنا إسحاق بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله، حدثنا مجاهد : قال : أتيتُ عبد الله بن عمرو ، فتناولت صحيفة من تحت مفرشه ، فمنعني ، قلتُ : ما كنت تمنعني شيئاً قال : هذه الصادقة ، هذه ما سمعتُ عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ليس بيني وبينه أحد ، إذا سلمت لي هذه ، وكتاب الله تبارك وتعالى والوهط ، فما أبالي ما كانت عليه الدنيا ) (3) .

---------------------------------
(1) تقييد العلم : ص 85 .
(2) تقييد العلم : ص 85 .
(3) تقييد العلم : ص 84 .

مشكلة تدوين الحديث _80 _

الرواية الخامسة :
  ( أخبرنا أبو محمد عمر عبد الواحد بن محمد بن عبد الله بن مهدي الديباجي وأبو الحسن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رزق الثاني وأبو الحسين محمد بن الحسين بن محمد بن الفضل القطان قالوا : أبو علي إسماعيل بن محمد الصفار ، حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن محمد بن زياد الألهاني ، عن أبي راشد الميراثي قال : أتيتُ عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت له : حدثنا ما سمعت من رسول الله، فألقى بين يدي صحيفة ، فقال : هذا ما كتب لي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فنظرت فيها ، فإذا فيها : إن أبا بكر الصديق قال : يا رسول الله علمني ما أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت ، فقال له رسول الله: يا أبا بكر قل : اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة ، لا إله إلاَّ أنت ، رب كل شيء ومليكه ، أعوذ بك من شر نفسي ، ومن شر الشيطان وشركه ، وأن اقترف على نفسي سوءً أو أجره على مسلم ) (1) .
  هذه هي الروايات التي تثبت وجود ( الصحيفة الصادقة ) التي يدعى أن عبد الله بن عمرو بن العاص كتبها عن رسول الله، وليس بينه وبين الرسول أحد ، ونحن إذا نظرنا إلى أسانيدها لوجدناها مخدوشة ، وهذه هي المؤشرات :
1 ـ الرواية الأولى والثانية والثالثة تشترك في ( ليث ) ، فماذا يقول الرجاليون في هذه الرواية قال عبد الله عن أحمد عن أبيه : مضطرب الحديث ، قال عثمان بن أبي شيبة : سألت جريراً عن ليث ويزيد بن أبي زياد وعطاء بن السائب ، فقال : كان يزيد أحسنهم استقامة . . . وكان ليث أكثر تمليكاً .
  قال معاوية بن صالح عن ابن معين : ضعيف ، قال أبو معمَّر القطيعي كان ابن عيينة يقول : ضعيف ، قال ابن أبي حاتم : سمعت أبي وأبا زرعة يقولان : ليث لا يُشتغل به ، وهو مضطرب الحديث ، قال ابن سعد : كان رجلاً صالحاً ، عابداً ، وكان ضعيف الحديث ، قال الحاكم أبو عبد الله: مُجَمعٌ على سوء حفظه ، وقال الجوزجاني بضعف حديثه (2) .
2 ـ وفي الرواية الرابعة ( إسحاق بن يحيى بن طلحة بن عبد الله التميمي ت 164 هـ ) .

------------------------------
(1) تقييد العلم : ص 85 .
(2) تهذيب التهذيب : ج 8 ص 833 .

مشكلة تدوين الحديث _81 _

   قال علي : نحن لا نروي عنه شيئاً ، قال صالح بن أحمد عن أبيه : منكر الحديث ، وليس بشيء ، قال عبد الله بن أحمد عن أبيه : متروك الحديث ، قال معاوية بن صالح عن ابن معين : ضعيف ، قال البخاري : يتكلمون في حفظه ، قال النسائي : ليس بثقة ، قال أبو زرعة : واهي الحديث ، قال أبو حاتم : ضعيف الحديث (1) .
3 ـ وفي الرواية الخامسة ( أبو راشد الميراثي ) قال فيه الحاكم : اشتهر عنه النصب كحريز بن عثمان (2) .
4 ـ إن جميع الروايات في هذا المقام تنتهي سلسلتها إلى إدعاء عبد الله بن عمرو بن العاص نفسه ، على أن هناك مفارقات واضحة تكتنفُ المتون ، نشير إلى بعضها .
1 ـ الرواية الثانية والثالثة تبيّنان صراحة أن أقصى ما يرغبه عبد الله بن عمرو هو الصادقة والوهط ، فيما تزداد فقرات الرغبة المذكورة أمراً جديداً في الرواية الرابعة ، ألا وهو كتاب الله تعالى ، رغم أن جميعها من طريق (مجاهد) .
2 ـ إن الرواية الأولى تصرح أن عبد الله بن عمرو كان يكتب وليس بينَهُ وبين رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أحد ، فيما تشير بكل وضوح الرواية الخامسة إلى حضور أبي بكر واشتراكه في العملية ، بشكل من الأشكال ، وحاول الشيخ صبحي الصالح تذليل هذه العقبة بقوله أن لعبد الله هذا كتباً كثيرة ودعاء أبي بكر ليس من الصادقة ، بل من صحيفة أخرى كان عبد الله يحتفظ بها (3) ، وهو تأويل يحتاج إلى دليل من خارجه .
3 ـ الرواية الثالثة لا تشير إلى خلوة عبد الله بالرسول أثناء الكتابة، وإنما هو يكتب ما يسمع من رسول الله وحسب ، رغم أنها من طريق ( مجاهد ) ، هذه هي الروايات التي يستند عليها القوم لتأصيل الصحيفة الصادقة فهي مخدوشة سنداً ، ومتضاربة متناً ، ولكن الأمر لا يقف عند هذه الحدود ، بل هناك طبائع الأشياء التي لا تساعد أن يظفر عبد الله بن عمرو بهذا الشرف الرفيع على غيره ، وفيما يلي توضيح هذه الحقيقة . . .

------------------------------
(1) المصدر السابق : ج 1 ص 254 رقم (479) .
(2) المصدر السابق : ج 9 ص 170 رقم (250) .
(3) علوم الحديث ومصطلحه .

مشكلة تدوين الحديث _82 _

  إن عبد الله بن عمرو هذا أسلم وعمره خمسة عشر عاماً (1) وفي السنة الثامنة من الهجرة (2) ، أي قبل وفاة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) بسنتين ، ولم يكن من ذوي السابقة في الإسلام ، بل كان أبوه وجده من الذين كادوا لرسول الله ودينه العظيم ، فهل ( من المقبول ـ والحالة هذه ـ أن يؤثره الرسول ولوحده كما تنص الرواية ، بتلك المهمَّة الخطيرة التي تخص التشريع كله إنه لأمر بعيد ، ويدعو إلى أكثر من تساؤل ، حتى لو سلَّمنا بواقع قدرته على الكتابة الفائقة ) (3).
  إنه تساؤل يفرض نفسه بقوة بلحاظ العديد من المفارقات التي يصعب تجاوزها بسهولة ، بل إنها لتدعو إلى الريب بصحة العملية ، والواقع : ليس السن وحده يدعو إلى مثل هذا الموقف أو التشكيك في أصل الصحيفة وصاحبها عبد الله بن عمرو :
1 ـ قال جرير : كان المغيرة لا يعبأ بصحيفة عبد الله بن عمرو ، وكان يقول : ( ما يسرّني أن صحيفة عبد الله بن عمرو عندي بتمرتين أو فلسين ) (4) ولم ينطلق هذا التضعيف من نقل عمرو بن شعيب وجادة كما يقول الخطيب (5) ، لأن التقييم صادر بحق الصحيفة ذاتها كما هو واضح .
2 ـ لم يرو البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص أكثر من سبعة أحاديث (6) .
3 ـ لم يرو مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أكثر من عشرين حديثاً (7) .
  وله موقف سلبي عدائي حاد من مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، كما أن سيرته على العموم تميزت بالسلبيَّة من آل البيت (8) ، وبالإيجابية من الأمويين ، بما فيهم يزيد بن معاوية قاتل الحسين ، ولكن على نحو خجول ، كما سنرى ، وقد ورث ابناؤه هذه العلاقة الطيبة مع أبناء الأمويين من الحكام والزعماء ، على أن بعض الباحثين يدعي أن هذه الصحيفة ، قد استقرت أخيراً عند الحفيد عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص .

-------------------------------
(1) المعارف لابن قتيبة ترجمة عبد الله بن عمرو نفسه .
(2) المصدر .
(3) مجلة كلية الثقة : ص 1 ع 1 ص 111 بشيء من التصرف .
(4) تهذيب التهذيب : ج 8 ص 50 .
(5) أصول الحدث .
(6) سيرة أعلام النبلاء : ج 3 ص 79 .
(7) المصدر السابق .
(8) في الصفحات التالية .

مشكلة تدوين الحديث _83 _

  وهنا يطرح سؤال مهم : إن وفاة هذا الحفيد عام (120هـ) أو (118هـ) أي في طليعة العام الذي بدأت فيه معالم التدوين والحرص على كتابة حديث رسول الله، فلماذا وهذه هي الحال لم يعمد المسلمون إلى نسخها ونشرها وتدارسها فإن مثل هذا الإجراء له مسوّغه الطبيعي في ضوء أكثر من حقيقة ، وذلك فضلاً عن أهميَّة الصحيفة الدينية والتشريعية ، هناك الظروف الملائمة والعوامل المشجعة على استنساخها ونشرها واعتمادها في الوسط الإسلامي الحديثي والفقهي والعلمي مادَّة نبوية جاهزة ومما لا ريب فيه أن الصحيفة لم تصلنا ، وهنا نقطة ضعف كبيرة يحاول أحد الكتاب معالجتها ، فيقول : ( وإذا لم تصلنا الصحيفة الصادقة كما كتبها ابن عمرو بخطه ، فقد نقل إلينا أحمد محتواها في مسنده ، كما ضمَّت كتبُ السنن الأخرى جانباً منها ) (1)ولكن فات هذا المعالج الذي أدرك جيداً موطن الضعف ، فاته أن أحمد بن حنبل ( لم يشر إلى كونها مستقاة من تلك الصحيفة الصادقة ) (2).
  وكذلك حال أصحاب السنن الأربع كما يبدو واضحاً لمن يراجعها ، ولم يدّع أحد أنه رآها إلاَّ (مجاهد) ، وقد مرَّت بنا الروايات في هذا الصدد، وتكشَّف لنا أنها مخدوشة في سندها أو متنها، على أن الغريب في الأمر حقاً ، أن الصحيفة لم يرها أحد حتى في عهد ( عمرو بن شعيب ) ، وهو عهد البدء بكتابة الحديث وانتشار أوراقه على أن ما يُلفت النظر حقاً في هذه الصحيفة ، تباين الآراء في حقيقة مضمونها إلى حدٍّ يدعو إلى الاستفسار عن واقعها كحقيقةٍ موجودة ، أو على أقل تقدير إلى الاستفسار عن مدى الاطمئنان إلى ما جاء فيها ، وهناك ثلاث آراء في المقام :
الأول: إنها موسوعة حديثيَّة تضُمّ ألف حديث ، وذلك بالاعتماد على رواية عن عبد الله نفسه ، فقد روي عنه : ( حفظت عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ألف مثل ) (3) ، ويوجِّه بعضهُم هذا الأمر على اعتبار كل حديث رُويَ عن عبد الله، إنما هو من الصحيفة ، فيما يعتقد آخرون ، أن ما في الصحيفة ما آتانا برواية ( ؤعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ) ، ومجموعة مع المكرر في مسند أحمد والسنن الأربع (436) حديثاً فقط (4) .

------------------------------
(1) أصول الحديث : ص 195 .
(2) مجلة كلية الفقه ، مصدر سابق : ص 122 .
(3) أسد الغابة : ج 3 ص 233 .
(4) أصول الحديث : ص 195 ، الحاشية .

مشكلة تدوين الحديث _84 _

الثاني : إن الصحيفة رغم كل ما قيل فيها وعنها ، لا تعدو مجموعة أدعية وصلوات تلقَّاها عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، وليس لها علاقة بالأحاديث النبوية والفقه والتشريع (1) ، ومما يعضد هذا الرأي أن الذي يطالع روايات عبد الله، بن عمرو سيجد أن الأدعية والأذكار غالب عليها بشكل قاطع وملفت للنظر ، كذلك تضم جملة من التنبؤات الكونية والسياسية .
الثالث: وهناك إشارة تفيدُ أن الصحيفة عبارة عن كتابين ، أحدهما حديثي تشريعي ، والثاني غيبي تكويني ، فقد ( قال أبو سعيد بن يونس في تاريخ مصر عن حياة ابن شريح ، قال : دخلت على حسين شُفي بن مانع الأصبحي ، وهو يقول : فعل الله بفلان فقلتُ : ما له فقال : عمد إلى كتابين كان شُفي سمعها من عبد الله بن عمرو بن العاص ، أحدهما : قضى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في كذا وقال رسول الله في كذا ، والآخر : ما يكون من الأحداث إلى يوم القيامة ، فأخذهما ، فرمى بهما بين الخولة والباب ) (2) .
الرابع: ويرى آخرون أن هذه الصحيفة هي مجموعة كتب ظفر بها عبد الله بن عمرو في معركة اليرموك تخص أهل الكتاب ، ويستند أهل هذا الرأي إلى أخبار تفيدُ ذلك منها :
1 ـ ( أن عبد الله كان قد ظفر في الشام يحمل جمل من كتب أهل الكتاب فكان ينظر فيها ، ويحدث منها ، فتجنب الأخذ عنه لذلك كثير من أئمة التابعين ) (3) .
2 ـ ( أن عبد الله بن عمرو أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب فكان يحدث منهما ) (4) .
3 ـ وفي رد الدارمي على بشر المريسي : ( إنه ـ عبد الله بن عمرو ـ أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب ، وكان يرويها للناس وكان يقال له : لا تحدثنا عن الزاملتين ) (5) .
4 ـ وقال ابن كثير عن حديث : (بعث الله جبريل إلى آدم وحواء ، فأمرهما ببناء الكعبة ، فبناه آدم ، ثم أمر بالطواف به ، وقيل له : أنت أول الناس ، وهذا أول بيت وضع للناس ) (6) قال ابن كثير : ( إن الأشبه أن يكون موقوفاً على عبد الله بن عمرو ، أيكون من الزاملتين اللتين أصابهما يوم اليرموك من أهل الكتاب ) (7) .

------------------------------
(1) المصدر .
(2) خطط المقريزي : ج 2 ص 332 .
(3) فتح الباري بشرح البخاري : ج 1 ص 217 .
(4)أبو هريرة/ أبو ريه ، نقلاً عن تفسير الحافظ أبي الفداء .
(5) المصدر السابق ، نقلاً عن رد الدارمي على بشر المريسي : ص 136 .
(6) البداية والنهاية : ج 2 ص 277 .
(7) أبو هريرة/ أبو ريه ، نقلاً عن ابن كثير ، هامش ص 125 .

مشكلة تدوين الحديث _85 _

5 ـ قال الذهبي : ( وكان صاحب جملة من كتب أهل الكتاب وأدمن فيها ، ورأى فيها العجائب ) (1) .
6 ـ قال شارح مقدمة ابن الصلاح : ( والسبب في قلَّة حديث عبد الله بن عمرو هو أنه كان قد ظفر بجمل من كتب أهل الكتاب ، وكان ينظر فيها ، ويحدث منها ، فتجنَّب الأخذ عنه كثير من التابعين ) (2) .
7 ـ قال في عمدة القارئ : ( والسبب في قلة حديث عبد الله بن عمرو ، وهو أنه كان قد ظفر بجمل من كتب أهل الكتاب ، وكان ينظر فيها ويحدث منها ، فتجنَّب الأخذ عنه كثير من التابعين ) (3) .
  إن كل هذه المفارقات تجعلنا نشكك على أقل تقدير في ماهيَّة هذه الصحيفة وحقيقة محتواها وكنه مسطورها ، ولكن الذي يستدعي البيان هنا أن ( ما لابن عمرو من الحديث في كتب السنة قد جاء عن طريق الرواية لا من سبيل الكتابة ) (4) ، وما قيل عن رؤيتها مرَّ بيانه سنداً ومتناً ، ودعوى استقرارها لدى الحفيد ( عمرو ت 120 هـ ) تثير كثيراً من التساؤلات التي ثبتنا بعضها ، وللمزيد من الفائدة في هذا الصدد ، نذكر ما يلي :
  إن الذي يراجع ترجمة عمرو بن شعيب في الكتب الرجالية لا يقع على أي إشارة منه إلى هذه الصحيفة ، وكل الإشارات التي تقرن بينه وبين الصحيفة إنما من آخرين ، فيما من المنطقي جداً أن تكون محور حديثه وافتخاره وإشادته ، ولك أن تراجع ( تهذيب التهذيب : ج 8 ص 48 ـ 55) و ( المعارف لابن قتيبة : ص 125) و ( كتاب التاريخ الكبير للبخاري ح 8 ص 342 رقم 2578 ) و ( طبقات ابن سعد: ج 5 ص 243 ) و ( العبر في خبر من عبر : ج 1 ص 148 ) و ( خلاصة تهذيب الكمال ص 249 ) و ( شذرات الذهب في أخبار من ذهب : ج1 ص155 ) و ( مرآة الجنان : ج 1 ص 256 ) ، وغيرها من المصادر الأخرى ، ونرى نفس الحال مع ( شعيب ) أبي عمرو ، وللتوكيد راجع مصادر ترجمته ومنها : ( طبقات ابن سعد : ج5 ص243 ) و ( تاريخ البخاري : ج 4 ص 218 ) و ( المعارف ص 287 ) و ( الجرح والتعديل : ج4 ص251 ) و ( تهذيب ابن عساكر : ج 6 ص 326 ) و ( تاريخ الإسلام للذهبي : ج 3 ص 255 ) و ( سير أعلام النبلاء : ج 5 ص 181 ) و ( تهذيب الكمال ص 587 ) . . فهذان الرجلان لم نعهد لهما كلامَ افتخار أو اعتزاز بالصحيفة كما يروى ذلك عن عبد الله بن عمرو بن العاص بالشكل الذي مرَّ علينا سلفاً .

------------------------------
(1) تذكرة الحفاظ : ج 1 ص 42 .
(2) المصباح جُلى مقدمة ابن الصلاح : ص 170 ، المطبعة العلمية بحلب .
(3) عمدة القارئ : ج 1 ص 574 .
(4) المصدر السابق .

مشكلة تدوين الحديث _86 _

  فما الذي كان يمنع عمرو بن شعيب وأباه شعيب بن محمد من الإشارة الشخصية المفصَّلة إلى هذه الصحيفة المزعومة ولماذا لا يشيران إليها إبان الرواية ، أحدهما عن الآخر حتى عبد الله بن عمرو هذه أسئلة يمكن أن تثار وتكون مدخل تشكيك بأصل الصحيفة . . . وما ذكر عنها نسبة إلى عمرو أو أبيه إنما جاء على لسان غيرهما ، وهذه هي أهم التصريحات الواردة في هذا الصدد :
  أ ـ قال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين : إذا حدَّث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه فهو ( كتاب ) .
  ب ـ وقال أبو زرعة . . . إنما تكلم فيه ـ أي في عمرو ـ بسبب ( كتاب ) عنده .
  ج ـ وقال محمد بن عثمان عن ابن أبي شيبة ، سألتُ علي بن المديني عن عمرو بن شعيب فقال . . . ما روي عن أبيه عن جده فهو ( كتاب ) وحده .
  د ـ وقال أبو بكر بن أبي خيثمة سمعتُ هارون بن معروف يقول : لم يسمع عمرو من أبيه شيئاً إنما وجده في ( كتاب ) أبيه .
  هـ ـ قال أيوب : حدثني عمرو ، فذكر أباً عن أب إلى جده ، قد سمع من أبيه ، ولكنهم قالوا حين مات : عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، إنما هذا ( كتاب ) .
  و ـ قال ابن معين . . . وجد شعيب ( كتب ) عبد الله بن عمرو .
  ز ـ قال أبو زرعة . . . وأخذ ـ أي عمرو ـ ( صحيفة ) كانت عنده (1) .

------------------------------
(1) تهذيب التهذيب : ج 8 ص 49 .

مشكلة تدوين الحديث _87 _

  كل هذه التصريحات لم نجد فيها بياناً على أن أحد أصحابها رأى الصحيفة ـ الكتاب ، وإلاَّ لنقلوا لنا عنها شيئاً ما ، إضافة إلى غياب أي تصريح لعمرو وأبيه يشير إلى وجودها عندهما ولابد أن نعلق على مجمل التصريحات المذكورة ، حيث نلاحظ عليها ما يلي :
1 ـ إن لفظ ( الكتاب ) هُو الغالب على تسمية ما عند عمرو على لسان أكثر الرجاليين ، الأمر الذي يَعيدُ إلى ذاكرتنا قصَّة ما أصابهُ عَبْد الله من كتب أهل الكتاب في معركة اليرموك، حيث نصَّ على ذلك أكثر من مؤرخ ورجالي .
2 ـ نفس ( عمرو بن شعيب ) صدرت فيه تضعيفات مطلقة ، وهذه جملة سريعة منها : قال علي بن المديني عن يحيى بن سعيد : حديثه عندنا واهي ، وقال علي عن ابن عيينة : حديثه عند الناس فيه شيء ، وقال عمرو بن العلاء : كان يعاب على قتادة وعمرو بن شعيب ، أنهما كانا لا يسمعان شيئاً ، إلاَّ حدثا به ، وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين : ليس بذاك ، وقال الآجري : قلت لأبي داود ، عمرو بن شعيب حجة ، قال : لا ، ولا تصف حجَّة .
  وقال عبد الملك الميموني : سمعتُ أحمد بن حنبل يقول : عمرو بن شعيب له أشياء مناكير ، إنما نكتبُ حديثه لنعتبر به ، فأما أن يكون حجة فلا ، وقال معمر : كان أيوب إذا قعد إلى عمرو بن شعيب تمطَّى رأسه حياء من الناس (1)، وقال الأثرم : سئل أبو عبد الله، عن عمرو بن شعيب ، فقال : ربما احتججنا به ، وربما وجس في القلب منه شيء(2).

------------------------------
(1) تهذيب التهذيب : ج 8 ص 48 ـ 55 .
(2) سير أعلام النبلاء : ج 5 ص 167 .

مشكلة تدوين الحديث _88 _

  وقال الترمذي عن البخاري : رأيتُ أحمد وعلياً وإسحاق وأبا عبيدة وعامة أصحابنا يجتمعون بحديث عمرو شعيب عن أبيه عن جده ما تركه أحد من المسلمين ، فمن الناس بعدهم (1) إلاَّ أن الإمام الذهبي يستدل على ذلك فيقول : ( استبعدُ صورة هذه الألفاظ من البخاري فالبخاري لا يعرج على عمرو ، أفتراه يقول : فمن بعدهم ، ثم لا يحتجُّ به أصلاً ، ولا متابعة ) (2) ، ( وروى أبو داود عن أحمد ، قال : أصحاب الحديث إذا شاءوا احتجُّوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، وإذا شاءوا تركوه ) ، ويعلق الذهبي: ( هذا محمول على أنهم يترددون في الاحتجاج به ، لا أنهم يفعلون ذلك على سبيل التشهي ) (3) .
  إن استعراض حياة عبد الله بن عمرو بن العاص يكشف عن مفاصل حسَّاسة في سلوكه السياسي والعلمي إزاء أهل البيت ( عليهم السلام ) ، فعبدُ الله هذا حاربَ علياً مع معاوية في صفين ، وقد كان على الميمنة يضرب بسيفين ، وأكمل دوره بحمل راية أبيه (4) في هذه الحرب الظالمة، ووَلاَّه معاوية الكوفة لردحٍ من الزمن، ووجد في كنفهِ حياة رغيدة ، وقد استمرَّ في علاقته الطيبة مع العائلة الأموية ، إذ كان من الذين يفدون على يزيد في حضرته ، فقد روي ( قال علي بن يزيد بن جدعان عن العريان بن الهيثم قال : وفدت مع أبي إلى يزيد ، فجاء ، رجل طويل ، أحمر ، عظيم البطن ، فقلت من ذا قيل عبد الله بن عمرو ) (5)، ولم يصدر عنه أي موقف حاد من يزيد على ممارساته المنافية للإسلام ، وذلك حتى على صعيد قتله الحسين ( عليه السلام ) وبطشه بالمدينة إبان واقعة الحرَّة الشهيرة .

------------------------------
(1) المصدر السابق: ص 166 .
(2) المصدر السابق .
(3) المصدر السابق : ص 168 .
(4) راجع : (أ) أسد الغابة في معرفة الصحابة : ج 3 ص 234 ، (ب) المعارف لابن قتيبة: ترجمة عبد الله بن عمرو .
(5) راجع : تاريخ الإسلام ، الذهبي : ج 3 ص 37 ، كذلك : سيرة أعلام النبلاء: ج2 ص83، ابن سعد : ج 4 ص 265 ، مع اختلاف يسير في اللفظ .

مشكلة تدوين الحديث _89 _

  وقد انتقل موقفه الإيجابي من الأمويين إلى حفيده ( شعيب ) ، إذ يروي عن معاوية بن أبي سفيان ، وقد وفد على الوليد ، وفي ذلك قصَّة قد نفهم منها نوعية شعيب هذا ، ( وفد المترجم ( أي شعيب ) على الوليد بن عبد الملك ، وكان الأحوص نزل عليه وامتدحه ، فأنزله منزلاً ، وأمر بمطبخه أن يُحال عليه ، ثم أن الأحوص جعل يراود وُصَفاء للوليد ، خبازين ، عن أنفسهم ، ولا يجسرون أن يذكروه للوليد ، وكان شعيب قد غضب على مولى له ، ونحَّاه ، فلما خاف الأحوص أن يفتضح بمراودته الغلمان دسَّ لمولى شعيب ذلك وقال له : ادخل على أمير المؤمنين فاذكر أن شعيباً أرادك عن نفسك ، ففعل المولى ، فالتفت الوليد إلى شعيب فقال : ما تقول فقال : إن لكلامه غوراً ، فاشدد به يصدقك أصلحك الله.
  فشدَّ به ، فقال : أمرني الأحوص ، فقال قيم الخبازين : أصلحك الله الأحوص يراود غلمانك عن أنفسهم ، فأرسل به الوليد إلى ابن حزم بالمدينة ، وأمره أن يجلده مائة جلدة ) (1)فشعيب من رواد قصور الخلفاء الظالمين ، وممن لا يملك هيبة ووقار عدم التعريض به في مثل هذه المجالات وتستقيم السلسلة على ولاءٍ كأنه معهود ، إذا علمنا أن عمرو بن سعد كان وزير معاوية وداهيته وسيفه ضد علي ( عليه السلام) ، فيما يختتمها ( عمرو بن شعيب ) على الوتيرة ذاتها حيث لم يروِ عن الإمام السجاد أو الباقر ( عليه السلام )، رغم انتشار حديثهما آنذاك ، خاصة فيما يتعلق بمحمد الباقر ، ورغم ما يذكر المؤرخون عن رحلات عمرو وتجواله وسعيه في طلب الحديث ونشره ، وقد كان نزيل الطائف ويتردد على مكة (2).
  وإذا كان الفاصل بين علي وعمرو بن العاص السيف بإصرار من الأخير وانحياز غير مشروع لمعاوية ، فكانت بين الحسين وعبد الله القطيعة ، وكان عبد الله يتحسّسُها غُصَّة تعملُ في نفسه وضميره ، فقد روى ( عن إسماعيل بن رجاء عن أبيه قال : كنت في مسجد الرسول ( صلى الله عليه وآله ) في حلقة ، فيها أبو سعيد الخدري وعبد الله بن عمرو ، فمرَّ بنا حسين بن علي ، فسلّم ، فرد القوم السلام ، فسكت عبد الله حتى فرغوا ، رفع صوته وقال : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ، ثم أقبل على القوم ، فقال : ألا أخبركم بأحب أهل الأرض إلى أهل السماء قالوا : بلى ، قال : هو هذا الماشي ، ما كلَّمني كلمة منذ ليالي صفين . . . ) (3) .

------------------------------
(1) تهذيب ابن عساكر ك ج 6 ص 304 ـ 325 .
(2) سير أعلام النبلاء : ج 5 ص 167 .
(3) أسد الغابة : ج 3 ص 234 .

مشكلة تدوين الحديث _90 _

  أما على الصعيد الفكري ، فيكفي أن نعلم أن عبد الله لم يرو في علي أبداً ، فيما روى في أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم من صحابة النبي آنذاك فهل يُفسَّر هذا الموقف صُدفة أو جهلاً بل لم يروِ في الرموز التي تمحورت حول علي ، اللَّهم إلاَّ في ذم قاتل عمار حديثاً واحداً ، وفي صدق أبي ذر حديثاً واحداً وإسناده ضعيف كما ذكر أحمد محمد شاكر (1) .
  ولم تعد الصورة في حاجة إلى رتوش أو زيادة إذا علمنا أن هذا الرجل يروي من الأحاديث ما يشجَّع على طاعة معاوية والخضوع لحكمه ولو بصورة مهذَّبة ، فقد روى ( حدثنا وكيع ، حدثنا الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة عن عبد الله بن عمرو، قال: من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده ، وثمرة قلبه ، فليطعه إن استطاع ، وقال مرَّة : ما استطاع ، فلما سمعتها ودخلت رأسي بين رجلين وقلتُ ( أي عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة ) : فإن ابن عمك معاوية ، يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ، ونقتل أنفسنا والله يقول : ( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ألا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً )(2) ، فوضع ( عبد الله) جُمعَهُ على جبهته ، ثم نكس ، ثم رفع رأسه ، فقال : أطعه في طاعة الله، واعصه في معصية الله، قلتُ له ( عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة ) : أنتَ سمعت هذا من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، قال : نعم سمعته أذناي ووعاه قلبي ) (3) .

------------------------------
(1) المسند .
(2) سورة النساء : 29 .
(3) المسند : ح 6051 تحقيق أحمد محمد شاكر .

مشكلة تدوين الحديث _91 _


صحيفة جابر بن عبد الله الأنصاري (16 ق .هـ 78) :
   ويسندون إلى الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري صحيفة حديثيَّة ، ويقول بعضهم أنَّ جابراً كتبها على عهد رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، وهو بذلك يريد أن يسوق برهاناً على تدوين الحديث في تلك الفترة ، ومن هؤلاء صبحي الصالح في كتابه ( علم الحديث ومصطلحه ) (1) ، والخطيب في كتابه ( أصول الحديث ) (2) ، فيما يعتقد باحث ، إن هذه الصحيفة لم نجد ما يدل على كتابتها في عصر النبوة. واحتمل أن تكون مكتوبة بعد هذا العصر، وربما دوَّنها سامعون عن جابر وليس جابراً بالذات (3) ، وفي الحقيقة إن لهذا الاختلاف في عصر كتابتها أسباب تتصل بأخبار هذه الصحيفة كما سنرى .
1 ـ ( قال . . . كانوا يرون أنَّ مجاهداً يحدّث عن صحيفة جابر ) (4) .
2 ـ ( قال معمر : وقال قتادة لسعيد بن أبي عروبة : يا أبا النضر خذ المصحف ، قال : فعرض عليه سورة البقرة فلم يخطئ فيها حرفاً واحداً قال : فقال يا أبا النضر أحكمتُ ، قال : نعم ، قال : لأن بالصحيفة جابر بن عبد الله أحفظ مني لسورة البقرة ، قال : وكانت قـرئـت عليه ) (5) .
3 ـ ( وقال أبو حاتم جالس ـ سليمان بن قيس اليشكري ـ جابراً وكتب عنه صحيفة ) (6) .
4 ـ ( وروى أبو الزبير وأبو السفيان والشعبي عن جابر وهم قد سمعوا من جابر ، وأكثره من الصحيفة وكذلك قتادة ) (7) .
5 ـ وعُرضت على الشعبي صحيفة كُتبت عن جابر فقال : ( سمعت هذا كله عن جابر رضي الله عنه ) (8).

------------------------------
(1) ص 26 .
(2) ص 197 .
(3) منهج النقد في علوم الحديث : ص 47 الهامش .
(4) طبقات ابن سعد : ج 5 ص 467 .
(5) طبقات ابن سعد : ج 7 ص 229 .
(6) تهذيب التهذيب : ح 4 ص 214 رقم (369) .
(7) المصدر السابق .
(8) أصول الحديث نقلاً عن المحدث الفاضل .

مشكلة تدوين الحديث _92 _

  والواقع أن كل هذه الشواهد تفيدُ أمراً واحدا ً، وذلك فيما نحن بصَدده [ كتابه الحديث في عصر النبوة ] : ألا وهو أن هناك صحيفة تتصل بجابر بن عبد الله الأنصاري ، ولكن غير واضح أن هذه الصحيفة كتبها جابر بالذات في عهد رسول الله ، بل من هذه الشواهد ما يشير إلى أن الرواة كتبوها عن جابر ، كما هو ومن هنا استظهر بعض الباحثين من أن هذه الصحيفة على فرض وجودها لم تكتب في أيام النبي ( صلّى الله عليه وآله ) (1) ، ومما يؤيد هذا الاستفهام أمور ، منها :
أولا ً: إن خبر هذه الصحيفة مروي لنا عن التابعين، وليس هناك خبر عن الصحابة في صَددها .
ثانياً : إننا لم نعثر في مطاوي ترجمة جابر على إشارة منه إلى هذه الصحيفة ، ولنا أن نطالع في ذلك ( أسد الغابة : ج 1 ص 356 ) و ( الاستيعاب في معرفة الأصحاب : ج1 ص218 ) و ( تاريخ ابن عساكر : ج 3 ص 289 ) و ( تاريخ الإسلام ، للذهبي : ج 3 ص 143 ) و ( سير أعلام النبلاء : ج 3 ص 189 ) و ( تاريخ البخاري الكبير : ج 2 ص 207 ) و ( العبر في خير من غبر : ج 1 ص 89 ) و ( خلاصة تهذيب الكمال : ص 90 ) و ( شذرات الذهب : ج 1 ص 94 ) و ( مرآة الجنان : ج 1 ص 158 ) و ( الطبقات الكبرى : ج 3 ص 574 ) و ( كتاب الثقات لابن حبان : ج 3 ص 158 ) و ( صفوة الصفوة : ج 1 ص 486 ) و ( تهذيب التهذيب : ج 2 ص 42 ) و ( المعارف لابن قتيبة ص 133 ) وغيرها من المصادر الأخرى .
  وفي الحقيقة إنها لمفارقة كبيرة أن لا نجد إشارة ولو بسيطة من قبل جابر لهذه الصحيفة ، وهي المفارقة التي وجدناها لدى عمرو بن شعيب في صَدد صحيفة جده التي قالوا أنها استقرت في عهدته نعم جاء في تذكرة الحفاظ ( وله مـنسك صغير في الحج أخرجه مسلم )(2)، ولكن ليست هناك أي إشارة إلى أنه مكتوب في عهد النبوة .

------------------------------
(1) منهج النقد في أصول الحديث .
(2) ج 1 ص 43 .

مشكلة تدوين الحديث _93 _


صحيفة علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) :
  استفاضت الأخبار من الطرفين أن لعلي بن أبي طالب صحيفة أخذها عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، نستعرض خبرها عن طريق الجمهور :
1 ـ ( حدثنا عبد الله ، حدثني أبي هاشم بن القاسم ، ثنا شريك عن مخارق بن طارق بن شهاب ، قال : شهدت علياً ( رضي الله عنه ) وهو يقول على المنبر : والله ما عندنا كتاب نقرأه عليكم إلاَّ كتاب الله تعالى وهذه الصحيفة معلقة بسيفه ، أخذتها من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، فيها فرائض الصدقة ، معلقة بسيفٍ له ، حليته حديد أو قال : لكرامة حديد ، أي حلقة ) (1) .
2 ـ ( حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا أبو معاوية ثنا الأعمش من إبراهيم التيمي عن أبيه قال : خطبنا علي ( رضي الله عنه ) ، فقال : من زعم أن عندنا شيئاً نقرأه إلاّ كتاب الله وهذه الصحيفة ، صحيفة فيها أسنان الإبل ، وأشياء من الجراحات فقد كذب ، قال : وفيها قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : المدينة حرم ما بين عِير إلى ثور ، فمن أحدث فيها حدثاً وآوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه يوم القيامة عدلاً وصرفاً ، ومن ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة عدلاً ولا صرفا ً، وذمَّة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم ) (2) .

------------------------------
(1) مسند أحمد : ج 1 ص 100 و 102 ، 110 باختلاف يسير في اللفظ .
(2) مسند أحمد : ج 1 ص 81 ، نقله في البداية والنهاية : ج 5 ص 251 .

مشكلة تدوين الحديث _94 _

3 ـ ( حدثنا عبد الله ، حدثني أبي ، ثنا همام ، أنبأنا قتادة عن أبي حسان : أن علياً ( رضي الله عنه ) ، كان يأمر بالأمر ، فيؤتى ، فيقال : فعلنا كذا وكذا ، فيقول : صدق الله ورسوله ، قال : فقال له الأشتر إن هذا الذي تقول تشفع فيه الناس ، أفشيء عهده إليك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال علي ( رضي الله عنه ) : ما عهد إليَّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) شيئاً خاصاً دون الناس إلاَّ شيء سمعته منه ، فهو في صحيفة في قرابة سيفي ، قال : فلم يزالوا به حتى أخرج الصحيفة ، قال : فإذا فيها : إن إبراهيم حرّم مكة ، وإني أحرّم المدينة ، حرام ما بين حرَّيتها وحماها ، لا يُخلى خلاها ، ولا ينفر صيدها ، ولا تلتقط لقطتها ، إلاَّ لمن أشار بها ، ولا تقطع منها شجرة إلاَّ أن يعلف رجل بعيره ، ولا يُحمل فيها السلاح لقتال ، قال : وإذا فيها المؤمنون تتكافأ دماؤهم ، يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم ألا لا يُقتل مؤمن بكافر ، ولا ذو عهد بعهده ) (1) .
4 ـ ( حدثنا عبد الله ، حدثني أبي ثنا عبد الرحمن ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه ، عن علي ( رضي الله عنه ) قال : ما عندنا شيء إلاَّ كتاب الله تعالى وهذه الصحيفة عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) : المدينة حرام ما بين عائر إلى ثور ، من أحدث فيها حدثاً وآوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل منه عدل ولا صرف ، وقال : ذمة المسلمين واحدة ، فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل منه صرف ولا عدل ، ومن تولى قوماً بغير إذن مواليه ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل ) (2) .

-------------------------
(1) مسند أحمد : ج 1 ص 119 .
(2) مسند أحمد : ج 1 ص 126 .

مشكلة تدوين الحديث _95 _

5 ـ ( حدثنا عبد الله حدثني أبي ، ثنا محمد بن جعفر ، ثنا شعبة ، سمعتُ القاسم بن أبي برزة يحدث عن أبي الطفيل قال : سئل علي (رضي الله عنه ) ، هل خصكم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) بشيء فقال : خصَّنا رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) بشيء لم يعم الناس كافة إلاَّ ما كان في قراب سيفي هذا قال : فأخرج صحيفة مكتوب فيها ، لعن الله من ذبح لغير الله ، ولعن الله من سرق منار الأرض ، ولعن الله من لعن والده ، ولعن الله من آوى محدثا ً) (1) .
6 ـ ( حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا سفيان عن مطرف عن الشعبي عن أبي جحيفة قال : سألنا علياً ( رضي الله عنه ) هل عندكم من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) شيء بعد القرآن قال لا والذي فلق الحبَّة وبرأ النسمة إلاَّ فهم يؤتيه الله عز وجل رجلاً في القرآن أو ما في الصحيفة ، قلتُ وما في الصحيفة ، قال : العقل وفكاك الأسير ، ولا يقتل مسلم بكافر ) (2) .
7 ـ ( وعن علي قال : والله ما عندنا كتاب نقرأه إلاَّ كتاب الله وهذه الصحيفة أخذتها من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فيها فرائض الصدقة ) (3) .
8 ـ ( سئل يحيى بن معين عن كتاب عمرو بن حزن ، ثم سئل عن كتاب علي ( عليه السلام ) إنه قال : ليس عندي من رسول الله إلاَّ هذا الكتاب فقال : كتاب علي بن أبي طالب هذا أثبت من كتاب عمرو بن حزم ) (4) .
  هذه الأحاديث وغيرها تؤكد أن لعلي ( عليه السلام ) صحيفة أو كتاباً يتضمن جملة أحكام ، وقد أخذها عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .

------------------------------------
(1) مسند أحمد : ج 1 ص 126 .
(2) مسند أحمد : ج 1 ص 79 .
(3) كنز العمال : ج 3 ص 35 .
(4) كنز العمال : ج 3 ص 87 .

مشكلة تدوين الحديث _96 _

  ونحنُ إذا قمنا بعمليَّة تحليل لهذا الكتاب وما يتصل به من خصائص ومواصفات لوجدنا ما يلي :
  * إن هذا الكتاب كان في قراب سيف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أو مُعلَّقة بسيفه .
  * إن الكتاب مجموعة أحكام وفرائض ، منها ما يتعلق بالصدقات ، ومنها ما يتصل بالقصاص ، ومنها ما يرتبط بمكَّة وغيرها .
  * إن الكتاب ممَّا اختصَّ به علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) دون غيره .
  * إن علياً ( عليه السلام ) كان يحملُ معه الكتاب المذكور في قراب سيفه ، وكان الناس يرونه ، والإمام يقرأه على مسامعهم .
  * ويستفاد من رواية أبي جحيفة أن من أعطاه الله فهماً بكتاب الله وهذه الصحيفة إنما يُعطى علماً جمَّا ً، مما يشير أن في الصحيفة أو الكتاب أصول العلوم وجوامع الفكر .
  هناك ملاحظات أخرى في هذا المجال أرجأنا الحديث عنها في ظرف يناسبها ، هذا الكتاب له مؤيدات خارج النصوص الواردة على ذكره مقروناً بالإمام ، وطبيعة المؤيدات التي سنذكرها ، قدرتها على ردّ المدَّعى ـ كتاب علي عن رسول الله ـ بكل عنصر من عناصر تكوينه ، أي مؤيدات تفصيليَّة إذا صحَّ التعبير ، ففي أصله ومضمونه ورؤيته وأهميته . . . في كل فقرة من هذه الفقرات هناك شاهد يعزّزه ويثبته، ويعطيه حظاً من الدلالة ، ومن مجموع هذه الشواهد المتعاضدة تشكل دلالة قوية على الكتاب الذي أخذه علي من رسول الله .

مشكلة تدوين الحديث _97 _

أولاً : أصل الكتاب :
  لقد وردت أخبار مفادها أنَّ في قائم سيف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أو قراب سيفه كتاب أو كتابين ، وذلك بغض النظر عن انتقال الكتاب إلى علي ( عليه السلام ) ، أي أن هناك مرويات تفيدُ أن الكتاب موجود ، وأنه كان في المكان الذي تتحدث عنه روايات انتقال الكتاب إلى أمير المؤمنين [ قائم سيف النبي أو قرابة ] .
1 ـ ( أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى بن الفضل الصيرفي ثنا أبو العباس محمد بن سنان ثنا عبيد الله بن عبد المجيد ثنا ابن موهب ، قال : سمعتُ مالكاً عن محمد بن عبد الرحمن عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة ، أنها قالت وجد في قائم سيف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كتابان ، فذكر أحدهما قال : وفي الآخر المؤمنون تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، لا يقتل مسلم بكافر ، ولا ذو عهد في عهده ، ولا يتوارث أهل ملتين ولا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ، ولا تسافر المرأة ثلاث ليال إلاَّ مع ذي محرم ) - سنن البيهقي : ج 8 ص 30 .
2 ـ ( عن محمد بن إسحاق ، قال : قلتُ لأبي جعفر محمد بن علي ( عليه السلام ) مما كان في الصحيفة التي في قراب سيف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فقال : كان فيها لعن الله القاتل لغير قاتله . . . ) (1) .
3 ـ ( عن إبراهيم بن محمد عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده ، قال : وجد في قائم سيف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كتاب : إن أعثى الناس على الله ( وفي حديث سليمان إن أعثى الناس على الله ) القاتل غير قاتله ، والضارب غير ضاربه، ومن تولى غير مواليه ، فقد كفر بما أنزل الله على محمد ( صلى الله عليه وآله ) ) (2) .
4 ـ ( ثنا ابن موهب قال : سمعتُ مالكاً ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن عائشة أنها قالت : وجد في قائم سيف رسول الله (صلى الله عليه وآله ) كتابان ) (3) .

------------------------------------
(1) ترتيب مسند الإمام الشافعي : ح 1 ص 97 .
(2) السنن الكبرى : ج 8 ص 26 عن الشافعي .
(3) المصدر السابق : ج 8 ص 30 .

مشكلة تدوين الحديث _98 _

  ففي هذه الأحاديث وغيرها نقرأ أن هناك كتاباً أو كتابين عند النبي ، وكان أو كانا في قراب السيف النبوي ، والرواية في هذا المقام عن أقرب الناس إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ألا وهم أهل بيته وزوجته عائشة ، ومن الجدير بالذكر أن وجود كتاب في قراب سيف رسول الله مما نصَّ عليه الشيعة أيضاً، وهذه بعض الأحاديث في ذلك . 1 ـ ( عن أيوب بن عطيَّة الحذاء قال : سمعت أبا عبد الله ( عليه السلام ) يقول : إن علياً ( عليه السلام ) وجد كتاباً في قراب سيف رسول الله ) (1) .
2 ـ ( عن موسى بن جعفر ( عليه السلام ) قال : ابتدر الناسُ إلى قراب سيف رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) بعد موته ، فإذا صحيفة صغيرة ، وجدوا فيها ) (2) .
3 ـ ( عن المثنى عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : وجد في قائم سيف رسول الله صحيفة . . . ) (3) .
4 ـ ( عن كليب الأسدي ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) ، إنه وجد في سيف رسول الله صحيفة . . . ) (4) .
  أحاديث وروايات كثيرة عن طريق الشيعة تتحدث عن هذه الصحيفة التي كانت في قراب السيف النبوي، الأمر الذي يفيدُ تطابقاً بين روايات الطرفين في هذا المجال .

ثانياً : انتقاله إلى علي :
  من الفقرات الأساسية في صحيفة علي ( عليه السلام ) أنها انتقلت إليه من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ورواية طارق بن شهاب تشير إلى ذلك صراحة ، والشيعة تروي في هذه المسألة أحاديث كثيرة ، منها ( عن علي ( عليه السلام ) ، قال : ورثت عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كتابين ، كتاب الله وكتاب في قراب سيفي ) (5) .

------------------------------------
(1) وسائل الشيعة : ج 3 / كتاب القصاص باب تحريم القتل ظلماً .
(2) وسائل الشيعة : ج 3 / كتاب القصاص باب تحريم الضرب بغير حق .
(3) المصدر السابق .
(4) الكافي .
(5) عيون أخبار الرضا .

مشكلة تدوين الحديث _99 _

  إن هذا التطابق في انتقال الكتاب من الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) وأمير المؤمنين ( عليه السلام ) في مرويات الطرفين ، تعطي للكتاب مزيداً من القوة في الدليل على وجوده واختصاص علي به بعد وفاة النبي الكريم .
ثالثاً : وممَّا نلاحظه أيضاً أن كثيراً من أحكام الكتاب متطابقة في الروايات الواردة عن كلا الطرفين، ومن الأمثلة على ذلك ، أن يتفق الطرفان أن في الكتاب أو الصحيفة ( إن أعثى الناس على الله: القاتل غير قاتله ، والضارب غير ضاربه ، ومن وإلى غير مواليه فقد كفر بما أنزل الله على محمد ( صلّى الله عليه وآله ) ، ومن أحدث حدثاً أو آوى محدثاً ، فلا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً . . . [ و ] من ادعى إلى غير أبيه فهو كافر بما أنزل الله، ومن ادّعى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله . . . ) (1) ، فهذا تطابق واضح في أحكام وردت بالصحيفة أو الكتاب برواية الطرفين ، هو في صالح الدليل عليها ، وجوداً ومضموناً .

رابعاً : الاختصاص بعلي :
  رواية طارق بن شهاب تصرح بعبارة دافعة أن علياً اختصَّ بهذا الكتاب عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كذلك رواية أبي حسان وأبي طفيل ، وهذا الاختصاص يرد في أحاديث الشيعة أيضاً وقد مرَّ بنا لون من هذه الأحاديث ، ولكن في أحاديث الجمهور نقطة تستلفتُ النظر ، تلك هي إصرارها على حصر مختصات أهل البيت من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بهذا الكتاب وحسب ( ما عندنا شيء إلاَّ كتاب الله تعالى وهذه الصحيفة عن النبي ) ، ( ما عهد إليَّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) شيئاً خاصاً دون الناس إلاَّ شيء سمعته منه ، فهو هذه الصحيفة . . . ) ، وجاء هذا الانحصار مشفوعاً بالأيمان المغلظة ، والتوكيدات المتوالية .

------------------------------------
(1) راجع : (أ) وسائل الشيعة : ج 19 ص 15 ـ 17 ، (ب) مسند أحمد : ج 1 ص 18 ، 119 ، 126 وغيرها .

مشكلة تدوين الحديث _100 _

  ونحن نعتقد أنها زيادة مفتعلة ، لأنها تخالف النصوص والحقائق الثابتة عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في صدد علاقته بعلي ، وهذه شواهد سريعة على ما نقول . . .
1 ـ ( حدثنا محمد بن سهل بن الصباح الأصفهاني ، حدثنا أحمد بن الفرات الرازي ، حدثنا سهل بن عبد ربه السندي الرازي ، حدثنا عمرو بن أبي قيس ، عن مطرف بن طريف ، عن المنهال بن عمرو التميمي ، عن ابن عباس قال : كنا نتحدث إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) عهد إلى علي سبعين عهداً لم يعهدها إلى غيره ) (1) .
2 ـ ( الحمويني في فرائد السمطين بسنده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وأيضاً بسنده عن المنهال بن عمر والتميمي عن ابن عباس ( رضي الله عنهما ) قال : كنا نتحدث معشر أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن النبي عهد إلى عليّ ثمانين عهداً لم يعهده إلى غيره ) (2) .
3 ـ ( عن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب ، عن أبيه أنه قيل لعلي ما لك أكثر أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حديثاً ، فقال : إني كنتُ إذا سألت أنبأني ، وإذا سكت ابتدأني ) (3) .
4 ـ ( في حلية الأولياء عن أبي برزة الأسلمة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إن الله عهد إليَّ في علي عهداً . . . ) (4) .
5 ـ كيف نقول بهذا الانحصار ورسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) قال : ( أنا مدينة العلم وعلي بابها . . . ) (5) ، وقال ( . . . وَصيّي ووارثي يقضي ديني علي بن أبي طالب ) (6) ، وقال : ( . . . إن الله عز وجل عهد إليَّ في علي عهداً أن علياً راية الهدى وإمام أوليائي . . . وهي الكلمة التي ألزمها المتقين ) (7) كيف يستقيم إذن كل هذا مع القول بانحصار اختصاص علي من الرسول بتلكم الصحيفة فحسب إن اختصاصات علي وأهل بيته من رسول الله كثيرة ، تنصَّ عليها مصادر الجمهور ، منها المادية ومنها المعنوية ، وعليه لا معنى لهذا الانحصار المفتعل ، ولا نفسره إلاَّ على أساس الزيادة المقصودة ، هذا وإن أخبار هذه الصحيفة عند الشيعة متواترة ثابتة كما سيأتي الحديث عنها .

------------------------------------
(1) الطبراني الصغير : ج 2 ص 69 .
(2) ينابيع المودة : ج 1 ص 76 .
(3) ترجمة علي في ابن عساكر : ج 2 ص 456 ح 988 ومستدرك الحاكم : ج 3 ص 125 .
(4) ينابيع المودة : ج 1 ص 78 .
(5) ينابيع المودة : ج 1 ص 64 .
(6) ينابيع المودة : ج 1 ص 77 .
(7) المصدر السابق .