.
وفي متنه : ( تحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ، فإنكم لا تحدثون عنهم بشيء إلاَّ وقد كان فيهم أعجب منه . . . ) فإنه يُشعر بأن النبي ( صلّى الله عليه وآله ) لا يكترث للحديث عن هؤلاء القوم ، وذلك مهما ورد في سياقه من أسطورة أو خرافة ، ومهما تضمَّن من زيف أو حقيقة ، كما أنه لا ينسجم مع حرص النبي على سيادة العلم الصحيح والخبر المتقن والفكرة الواقعية في الوسط الإسلامي ، فيما هو أحرص الناس على شيوع العلوم الدقيقة ، والأخبار الصحيحة خوف الانحراف على الأمة وخشية اختلاط الغث بالسمين ، فتضيع الفائدة ، وبنشر الجهل . . . إن كل هذه المفارقات مما لا يرتضيه الإسلام الذي يوجب التثبت والتدقيق والتمحيص في كل أمر خاصَّة على صعيد العلم ، سواء في مضمار الشريعة أو العقيدة أو التاريخ ( ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً ) .
أضف إلى ذلك أنه معارض بأحاديث أخرى تنهى عن الحديث عن أهل الكتاب ، وهذه بعضها :
أ ـ ( عن جابر بن عبد الله ( رضي الله عنهما ) قال : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) : لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء ، فإنهم لن يهدوكم ، وقد ضلوا ، فإنكم إمَّا أن تصدّقوا بباطل أو تكذّبوا بحق ، فإنه لو كان موسى حياً بين أظهركم ، ما حلَّ له إلاَّ أن يتبعني ) الفتح الرباني لترتيب مسند أحمد : ج 1 ص 174 ، ح 61 .
ب ـ ( وعنه أيضاً أن عمر بن الخطاب أتى النبي ( صلّى الله عليه وآله ) بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب ، فقرأه النبي ( صلّى الله عليه وآله ) ، فغضب ، فقال : أمتهوكون فيها يا بن الخطاب ، والذي نفسي بيده ، لقد جئتكم بها بيضاء نقية ، لا تسألوهم عن شيء . . . ) ن . م : ح 62 .
ج ـ ( عن الشعبي عن عبد الله بن ثابت ، قال : جاء عمر بن الخطاب إلى النبي ( صلّى الله عليه وآله ) ، فقال : يا رسول الله إني مررت بأخٍ لي من قريظة ، فكتب لي جوامع من التوراة ، ألا أعرضها عليك قال : فتغير وجه رسول الله. . .) ح 63 .
د ـ ( عن أبي أنملة الأنصاري قال رسول الله: إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ، ولا تكذبوهم ، وقولوا : آمنا بالله وكتبه ورسله ، فإن كان حقاً لم تكذبوهم ، وإن كان باطلاً لم تصدقوهم) ح 64 .
4 ـ ( وعن أبي هريرة : لا تكتبوا عني إلاَّ القرآن ، فمن كتب عني غير القرآن فليمحه ، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج . . . )
(1) ، وفي سنده عبد الرحمن بن زيد ، وقد مرَّ حاله
(2) .
وفي متنه : ( وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ) ينطبق عليه ما بيناه قبل قليل ، ولا يوهم أن الحديث عن بني إسرائيل نقلاً عن رسول الله ليرتفع الاستغراب ، إذ لا داعي لكلمة أو لعبارة ( ولا حرج ) ، وإنما هو حديث المجالس والاستئناس وملء الفراغ ، ولا يستطيع الإنسان أن يكشف المناسبة بين منع رسول الله عن كتابة أي شيء إلاَّ القرآن وأمره بمسح كل مكتوب إلاَّ كتاب الله وبين هذه الحرية التي أطلقها لأصحابه في أن يتحدثوا ما يشاءون عن بني إسرائيل لا يوجد أي داع في المقام لمثل هذه النقلة العجيبة في بيان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ولا يستقيم مع مقتضيات الكلام البليغ .
---------------------------
(1) مجمع الزوائد : ج 1 ص 156 .
(2) المصدر السابق .
مشكلة تدوين الحديث
_ 40 _
5 ـ ( أخبرنا يزيد بن هارون ، أنا هشام عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري ( أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : لا تكتبوا عني شيئاً إلاَّ القرآن ، فمن كتب عني شيئاً غير القرآن فليمحه )
(1) .
6 ـ ( حدثنا عبد الله، حدثني أبي ، ثنا إسماعيل أنا همام بن يحيى ، عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) : لا تكتبوا عني شيئاً سوى القرآن ، ومن كتب شيئاً سوى القرآن فليمحه )
(2) .
7 ـ ( حدثنا عبد الله، حدثني أبي، ثنا شعيب بن حرب قال : أنا همام ، أنا زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد ، قال : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) : لا تكتبوا عني شيئاً فمن كتب عني شيئاً فليمحه )
(3) .
8 ـ ( حدثنا هداب بن خالد الأزدي، حدثنا همام عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري : أنا رسول الله قال : لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه ، وحدثوا عني ولا حرج ، ومن كذب عليَّ ـ قال همام : أحسبه قال ـ متعمداً ، فليتبوأ مقعده من النار )
(4) .
قالوا : وهذا أصحَّ ما ورد في هذا الباب ، وفي سند الحديث (6)، (7)، (8) فضلاً عن زيد بن أسلم : همام بن يحيى : قال محمد بن المنهال الضرير : ( سمعت يزيد بن ذريع يقول : همام حفظه رديء ، قال ابن سعد : كان ثقة ، ربما يخلط )
(5) ، قال أبو زرعة : ( وسألت أبي عن همام ، فقال : ثقة صدوق ، في حفظه شيء )
(6) .
قال الحسن بن علي الحلواني : ( سمعت عفان يقول : كان همام لا يكاد يرجع ولا ينظر فيه ، وكان يخالف ، فلا يرجع إلى كتابه ، ثم رجع بعد ، فنظر في كتبه ، فقال : يا عفان كنا نخطئ كثيراً فنستغفر الله تعالى )
(7) .
---------------------------
(1) سنن الدارمي : ج 1 ص 119 .
(2) مسند أحمد : ج 3 ص 12 .
(3) المصدر السابق .
(4) المسند ( مسند أحمد ) ج 4 ص 2298 ح 72 عفيف أحمد محمد شاكر .
(5) تهذيب التهذيب : ج 1 ص 108 .
(6) المصدر السابق .
(7) المصدر السابق .
مشكلة تدوين الحديث
_ 41 _
قال ابن حجر : ( وهذا ـ أي عدم رجوعه إلى كتبه أولاً ثم رجوعه إليها أخيراً ـ يقتضي أن حديث همام بآخره أصح ممن سمع منه قديماً ، وقد نصَّ على ذلك أحمد بن حنبل )
(1) ، قال أبو بكر المبرد : ( يحيى بن همام صدوق ، يكتب حديثه ولا يحتج به )
(2) ، قال الساجي : ( صدوق سيئ الحفظ ، ما حدَّث من كتابه فهو صالح ، وما حدث من حفظه فليس بشيء )
(3) .
ولكن هذا الحديث الذي هو أصحّ ما ورد في هذا الباب على اختلاف طرقه موقوف على أبي سعيد الخدري ولذا ( أعلَّ البخاري وغيرهُ حديث أبي سعيد هذا ، وقالوا : الصواب وقفة على أبي سعيد )
(4) ، قال أبو اليقظان الجبوري : ( هذا أمر صريح بالنهي عن الكتابة ، إلاَّ أن بعض العلماء قالوا : إن هذا الحديث موقوف على أبي سعيد ، وإنه لم يرفعه إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ومن جملة الذين قالوا بوقفه على أبي سعيد الإمام البخاري
(5) ، هذه هي أم الأحاديث المروية في المنع، وكل حديث منها لا يسلم من علة تخدشه سنداً أو متناً .
--------------------------
(1) المصدر السابق .
(2) المصدر السابق .
(3) المصدر السابق .
(4) البغوي : شرح السنة : ج 1 ص 294 الحاشية .
(5) مباحث في تدوين السنة المطهرة : ص 137 ، كذلك الحديث والمحدثون ، محمد محمد زهو : ص 142 .
مشكلة تدوين الحديث
_42 _
مفارقتان منهجيتان :
في سياق الحديث عن نهي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عن تدوين السنَّة ، تقع بعضُ المفارقات والتناقضات ، التي من شأنها أن تخلط بيْنَ غايةٍ ووسيلة غريبة عنها ، ومن إفرازاتها استدلال في غير محلّه ، واستشهاد على حالة بدليل لا يمت إليها بصلة ، وهذا الاضطراب يتأتى من عدم التمحيص بالنصوص ، سواء في مبناها اللغوي اللساني أو في القرائن التي تحفها وتحيط بها .
من هذه المفارقات أن يستدل بعضهم على كراهة كتابة السُنة في سيرة هذا الصحابي أو ذاك ، وعندما نرجع إلى الدليل المساق نصطدم بثغرة هائلة ، تتجسَّد في عدم فهم ( العلم ) مثلاً ، ففي تصوره يعني الحديث النبوي فيما ذلك ليس على سبيل الحصر، لأنه قد يشير إلى ما كان سائداً من أفكار وآراء وأخبار عن الخلق والتكوين في الأمم السالفة، وعلى الأخص بني إسرائيل، وقد يعني مجموعة التصورات العقائدية المبتناة لدى علمائهم أو المنقولة عنهم .
ومن المفارقات التي تصادفنا في هذا المجال أن نضفي على الموقف الشخصي لصحابيٍّ ما ، قيمةً تعزيزيَّةً لأحاديث النهي الواردة، في حين هو مجرَّد رأي يحبذ عدم كتابة الحديث وتدوين السنة لأسباب مختمرة في ذهن الصحابي المذكور. وليس استجابة لأمر نبوي أو قرار شرعي أو محاولة للسير على منوال حذاه رسول الله. . . نفهم ذلك من السياق كما سنرى ، ولكي تتضح هذه المفارقات نستعرض بعض صورها .
مشكلة تدوين الحديث
_ 43 _
الحالة الأولى:
1 ـ ( ابن يسار يقول : سمعت علياً يخطبُ يقول : أعزمُ على كل من كان عنده كتاب إلاَّ رجع فمحاه ، فإنما هلك الناس حيث اتبعوا أحاديث علمائهم ، وتركوا كتاب الله)
(1) .
2 ـ ( وكيع عن الحكم بن عطية عن ابن سيرين قال : نما ضلَّت بنو إسرائيل بكتب ورثوها عن آبائهم )
(2) .
3 ـ ( أخبرنا أحمد بن عبد الله بن يونس ثنا زيد ثنا حصين عن مرّة الهمداني قال : جاء أبو مرَّة الكندي بكتاب من الشام ، فحمله ، فدفعه إلى عبد الله بن مسعود ، فنظر فيه ، فدعا بطست ، ثم دعا بماء فمرسه فيه ، وقال : إنما هلك من كان قبلكم باتباعهم الكتب وتركهم كتابهم ، قال حصين : فقال مرَّة : أما إنه لو كان من القرآن أو السُنَّة لم يمحه ، ولكن كان من كتب )
(3) .
هذه المرويات وغيرها لا نستفيدُ منها أي دعم للنهي ، ولا تصبُّ في ترجيحه ، ولا يترجم عن موقف متجاوب مع هذه الفكرة، وذلك لسببين رئيسيين :
الأول: إن النهي هنا يخصُّ التعاطي والتعامل مع علم موروث عن الآباء والعلماء وليس الأنبياء ، وضلال الكتب متأتي عن كونها وعاءَ تصورات وأفكار غير صحيحة ، وبالجُملة إن هذه المرويات إذا كانت صادقة إنما تكشف لنا عن دور أصحابها في تحصين الأمة من ( العلوم ) الضالة و( الكتب ) المنحرفة ، وهي في ميزان الإسلام ما لا يتفق مع العقل والمنطق ، والتي تؤدي إلى تدهور الأمم وفساد الإنسان ، وليس فيها ما يتصل بقضية الحديث النبوي بسبب إيجابي أو سلبي ، فيما يدرجها البعض في خانة ( كراهة كتابة الحديث ) ويستعملها مادة تعضيد أو تفنيد .
الثاني: إن نفس هؤلاء الذين طالبوا بحرق الكتب الموروثة أو المنقولة كانوا من دعاة كتابة الحديث ـ كما سنرى ـ وفي حوزتهم كتب بعضها بلغ حمل بعير ، الأمر الذي يؤكد أن مقصدهم غير هذا الذي يتصوره كاتب يدافع عن فكرة ( كراهة كتابة الحديث ) ، وينتصر بها على صدق أخبار النبي العظيم في هذا الصدد .
-------------------------------
(1) جامع بيان العلم وفضله : ص .
(2) المصدر السابق .
(3) سنن الترمذي : ج 1 ص 123 ، 124 .
مشكلة تدوين الحديث
_ 44 _
الحالة الثانية :
1 ـ ( أخبرنا أبو النعمان ثنا إسرائيل عن عثمان بن أبي المغيرة عن عثمان بن أبي المغيرة عن عفان المحاربي عن أبيه قال : سمعت ابن مسعود يقول يسمعون كلامي ، ثم ينطلقون فيكتبونه ، وإني لا أحلُ لأحدٍ أن يكتب إلاَّ كتاب الله)
(1) ، نجدُ في هذا الخبر أن ( عبد الله بن مسعود ) يعبّر عن رأيٍّ شخصي ، ولا يسند موقفه هذا إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) .
2 ـ ( أبو أمامة عن كهمس عن أبي نضرة قال : قيل لأبي سعيد لو كتبنا الحديث فقال : لا نكتبكم ، خذوا عنا كما أخذنا عن نبينا ( صلّى الله عليه وآله ) )
(2) .
3 ـ ( قاسم بن أصبغ ، نا أحمد بن زهير ، قالا : نا مسلم بن إبراهيم ، نا المعقر بن الريان ، عن أبي نضرة قال : قلت لأبي سعيد الخدري : ألا نكتب ما نسمَعُ منك قال أتريدون أن تجعلوها مصاحف ، إن نبيكم ( صلّى الله عليه وآله ) كان يحدثنا فنـحفظ ، فاحفظوا كما حفظـنا )
(3) .
4 ـ ( عبد الوارث بن قاسم ، نا أحمد بن زهير ، نا عبد الله بن عمر ، نا عبد الأعلى ، نا سعيد الجريري ، عن أبي نضرة قال : قلت لأبي سعيد الخدري : إنك تحدثنا عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) حديثاً عجيباً ، وإنا نخاف أن نزيد فيه أو ننقص ، قال : أردتم أن تجعلوها قرآناً ، لا ولكن خذوا عنا كما أخذنا عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) )
(4) .
-------------------------------
(1) سنن الترمذي : ج 1 ص 125 .
(2) جامع بيان العلم وفضله : ص 64 .
(3) المصدر السابق .
(4) المصدر السابق .
مشكلة تدوين الحديث
_ 45 _
وبغض النظر عن سند هذه الرواية التي كل طرقها تنتهي إلى ( أبي نضرة ) ، إلاَّ أننا إذا دققنا النظر فيها لعرفنا أن أبا سعيد في امتناعه عن إملاء الحديث النبوي ، يعبّرُ عن موقف شخصي ، وليس عن موقف شرعي منصوص عليه ، وتصرفه قائم على تقدير ثبت في ذهنه ، وليس انسجاماً مع سيرةٍ نبوية ، فهو يخشى أن تتحول أحاديث النبي إلى مصاحف ، فناهض تدوينها ، وحث الآخرين على حفظها بالصدور لا بالسطور . . . ولنا هنا ملاحظة . . .
إن تعلّل أبي سعيد الخدري [ أن تجعلوها قرآناً ] أو [ أن تجعلوها مصاحف ] لا موقع له في ضوء السنة النبوية ذاتها ، فرسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) أباح الكتابة والتدوين كما ترى مصادر الجمهور ، بل هناك ما يكشف عن تحبيذ وتشجيع . . . ولذا تعلّل الخدري لا يكتسب أي مبرر موضوعي ، لأن الخطر الذي تحسَّسَه لا يمكن أن يغيب عن وحي وإلهام النبي ( صلّى الله عليه وآله ) ، وفي اعتقادي أن ( أبا نضرة ) عندما يلتمسُ أبا سعيد الإملاء خشية الزيادة أو النقصان بحديث النبي ، إنما يعبر عن وعي أكثر عمقاً وأكثر أصالة مما يحمله أبو سعيد نفسه ، وهو الرأي الذي كان عليه الوسط الصحابي العام ، إذ أن جل الصحابة ـ كما سنرى ـ كان مع التدوين إلاَّ أن الخليفة الثاني اتخذ سياسة معاكسة عاماً .
على أي حال أن مذهب أبي سعيد يتصل بإرادته الذاتية وتصوره الفردي الخاص به ، وهو ليس أمارة على أرجحيَّة موقف دون آخر في نطاق الرؤيا الشرعية النبوية الصحيحة ، فيما يخص التدوين أو عدمه ، خاصَّة إذا أمعنا النظر بعلَّة . . . الامتناع التي ساقها أبو سعيد ، وإنها على غير موائمة مع سيرة الرسول وأحاديثه التي نفهم منها بوضوح الرخصة في التدوين .
مشكلة تدوين الحديث
_ 46 _
مع بعض الصحابة المانعين :
قال الخطيب : ( مع ما روي عن النبي ( صلّى الله عليه وآله ) من إباحة للكتابة ، ومع ما كتب في عهده من الأحاديث على يدي من سمح لهم بالكتابة ، نرى أن الصحابة يحجمون عن الكتابة ، ولا يقدمون عليها في الخلافة الرشيدة )
(1) .
وهنا مجموعة أسئلة يطرحها الباحث الحر ، من هم الصحابة الذين أحجموا عن الكتابة وما هي المبررات ما هو موقف الوسط الإسلامي العام من عجلة التدوين على صعيدي المبدأ والرأي هل في الوسط الصحابي من اتخذ موقفاً معارضاً .
أولاً: مع الصديق:
( قالـت عائشة : جمع أبي الحديث عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) وكانت خمسمائة حديث ، فبات ليلته يتقلب كثيراً ، فقالت : فغمَّني ، فقلت : أتتقلبُ لشكوى أو لشيء بلغك فلما أصبح ، قال : أي بُنيَّه هلّمي الأحاديث التي عندك ، فجئته بها ، فدعا بنار فحرقها . . . )
(2) ولكن لماذا ، الجواب في تضاعيف كلام الصديق نفسه إذ قال : ( خشيتُ أن أموت وهي عندي ، فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنته ، ووثقت به ، ولم يكن كما حدثني ، فأكون قد نقلت ذاك . . . )
(3) .
--------------------------------
(1) أصول الحديث : ص 153 .
(2) تذكرة الحفاظ : ج 3 ص 5 .
(3) المصدر السابق .
مشكلة تدوين الحديث
_47 _
ولكن الذهبي يقول : ( وكان ـ أي أبو بكر ـ أول من احتاط في قبول الأخبار . . . )
(1) ويشهد الذهبي لذلك بحادثة أمر ( الجدَّة ) ، فقد ( روي ابن شهاب عن قبيصة بن ذويب أن الجدة جاءت إلى أبي بكر تلتمسُ أن تورث ، فقال : ما أجد لك في كتاب الله شيئاً ، وما علمتُ أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ذكر لك شيئاً ، ثم سأل الناس، فقام المغيرة ، فقال : حضرت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يعطيها السدس ، فقال له : هل معك أحد فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك ، فأنفذه لها أبو بكر )
(2) ويعلق الذهبي على هذه الحادثة فيقول : ( ألا تراه ـ أي أبو بكر ـ لما نزل به أمرُ الجدَّة ، ولم يجده في الكتاب ، كيف سأل عنه في السُنّة ، فلما أخبره الثقة ما اكتفى حتى استظهر بثقة آخر ، ولم يقل حسبنا كتاب الله كما تقوله الخوارج )
(3) .
أقول : فلماذا عمد الصديق إلى حرق هذا الكنز العظيم ، ألا يمكنه أن يستشهد على الأحاديث التي جمعها بثقاة وعدول ، وهم آنذاك كثر ، وعلى مقربة منه ، وذلك كما فعل مع حادثة الجدة إن التبرير الذي ساقه الصديق لا ينسجم مع سيرته التي نوَّه بها الذهبي، السيرة التي تشهد له بـ( التثبت في الأخبار والتحري ، لا سد باب الرواية )
(4) ، إذ كان الأولى به أن يعرض هذه الأحاديث الـ ( خمسمائة ) على الصحابة ، وكل حديث يشهد على صحته اثنان يَمضيه كما أمضى حق الجدَّة وسهمها في الإرث .
--------------------------------
(1) المصدر السابق : ج 3 ص 2 .
(2) المصدر السابق : ج 3 ص 2 ـ 3 .
(3) المصدر السابق .
(4) المصدر السابق .
مشكلة تدوين الحديث
_48 _
ثانياً : مع الفاروق :
1 ـ ( عن يحيى بن جعدة أن عمر بن الخطاب ، أراد أن يكتب السُنّة ، ثم بدا له أن لا يكتبها ، ثم كتب إلى الأمصار : من كان عنده شيء فليمحه )
(1) .
2 ـ ( الزهري عن عروة ، أن عُمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن ، فاستثنى أصحاب النبي ( صلّى الله عليه وآله ) في ذلك ، فأشاروا عليه بأن يكتبها ، فطفق عمر يستخير الله فيها شهراً ، ثم أصبح يوماً ، وقد عزم الله له ، فقال : إني كنت أريد أن أكتب السنن ، وإني ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً ، فأكبوا عليها ، وتركوا كتاب الله، وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبداً )
(2) .
إن الدافع الذي حدا بالفاروق أن يحول دون كتابة السُنَّة ، والذي اضطرّه إلى محو كل شيء مكتوب . . . هو أن لا ينشغل المسلمون فيها عن كتاب الله، وهذا التعليل وارد في أكثر من مرَّة مارس بها عمر هذه العملية ، كما تروي مصادر الجمهور ، ولكن من حقنا أن نسأل : ترى هل كان هذا المبرر على قدر كبيرٍ من الأهليَّة الواقعية والعلمية ، لا نريد أن نحتكم في الجواب إلى طبيعة القرآن ، ولا إلى ذات الآراء التي تقول : إنَّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) أباح الكتابة بعد أن تمرَّست العقولُ على فهمه وَجُبلتْ النفوسُ على التفاعل مع روحه . . . ولكننا نقول : لو كان هذا التبرير يحمل صفة الشرعية المعقولة ، ولو كان على جانب حقيقي من الموضوعية ، لاستمر النهي عن التدوين ، ولما بدر من رسول الله إذن به .
فرسول الله أولى من عمر وغيره في درك هذه القضية الحسَّاسة ، ولرتّب عليها هذا الأثر الذي انقدح في ذهن عمر ، جديره ذكرُه : أن رجلاً من أساطين الفكر ، وهو الأستاذ أحمد محمد شاكر استعرض هذا الرأي في تعليل نهي الرسول المزعوم ولم يرتضيه ، واعتبره ضعيفاً
(3) .
--------------------------------
(1) جامع بيان العلم وفضله : ص 65 .
(2) المصدر السابق ، ح 1 ص 64 .
(3) الباعث الحثيث : ص 128 / الحاشية .
مشكلة تدوين الحديث
_ 49 _
على أن عمر نفسه نقض رأيه بشكل عملي ، فقد كتب شيئاً من السُنَّة
(1) ، بل روى المحدث الشهير ابن عبد البر القرطبي (ت 463) عن ( الضحاك بن مخلد عن ابن جريح عن عبد الملك بن سفيان عن عمه ، أنه سمع عمر بن الخطاب يقول : قيدوا العلم بالكتاب )
(2) ، فأين موضع هذا الحذر الذي راود عمر ، ولماذا لم يسرِ مفعولُه في هذه المجالات .
قال الذهبي : ( وهو الذي سنَّ للمحدثين التثبُت في النقل ، وربما كان يتوقف في خبر الواحد إذا ارتاب ، فروى الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن أبا موسى سلَّم على عمر من وراء الباب ثلاث مرات ، فلم يؤذن له ، فرجع ، فأرسل عمر في أثره فقال : لم رجعت قال سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : إذا سلم أحدكم ثلاثاً ، فلم يجب ، فليرجع ، قال : لتأتيني على ذلك ببينة ، أو لأفعلن بك ، فجاءنا أبو موسى منتقعاً لونه ، ونحن جلوس ، فقلنا : ما شأنك فأخبرنا ، وقال : فهل سمع أحد منكم فقلنا : نعم ، كلنا سمعه ، فأرسلوا معه رجلاً منهم حتى أتى عمر فأخبره )
(3) .
ويعلق الذهبي على هذه الواقعة : ( أحب عمر أن يتأكد عنده خبر أبي موسى بقول صاحب آخر ، ففي هذا دليل على أن الخبر إذا رواه ثقتان كان أقوى وأرجح مما انفرد به واحد . . . )
(4) ، أقول : إن عمر الفاروق ، وهو بهذا الحرص على حديث رسول الله، وبهذه المقدرة الفنية على التثبت . . . وبهذه العقلية النقدية الفاحصة . . . إنه وبكل هذه المواصفات ، ينبغي أن لا يقدم على حرق هذه المدونات الثمينة ، وإنما يجهد ويمل بكل طاقته هذه على تحقيقها وغربلتها ، ولا يأمر بتقليل الرواية بل يضبطها ، ولا يعتقل كبار المحدثين ، بل يطلب أن يحدثوا الناس بسنة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) بدقة وأحكام . . .
هذا هو الموقف الصحيح الذي ينسجمُ مع الإسلام والفكر ، وما يمتاز به الخليفة من قدرة على التصويب والتمييز ، كما يدعي الذهبي وغيره . . . ولو حصل هذا لحفظ لنا التاريخ كنوز نبوية رائعة ، ولجانبت الأمة فتنة الخلاف والاختلاف في قضايا العقيدة والشرع والأخلاق ، ولضمنت وحدتها على قسط كبير من الاطمئنان إلى أحاديث رسول الله وسنته الشريفة .
------------------------------
(1) أصول الحديث : ص 161 ، وراجع مسند أحمد : ج 1 ص 261 .
(2) جامع بيان العلم وفضله : ح 1 ص 72 .
(3) تذكرة الحفاظ : ج 3 ص 6 .
(4) المصدر السابق .
مشكلة تدوين الحديث
_50 _
ثالثاً : مع زيد بن ثابت :
1 ـ ( عن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال : دخل زيد بن ثابت على معاوية فسأله عن حديث ، فأمر إنساناً أن يكتبه ، فقال له زيد بن ثابت : إن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) أمرنا أن لا نكتب شيئاً من حديثه ، فمحاه )
(1) .
ولا نقاش في أن هذا الحديث لا يمكن الركون إليه ، لأن الثابت عند السنّة أن رسول الله أباح الكتابة بعد النهي ، وأن شيئاً من تدوين السُنَّة قد حصل فعلاً بأمره وتوجيهه ، على أن الذي روى ذلك عن زيد هو : عبد المطلب بن عبد الله بن حنطب : قال أبو حاتم : في روايته عن عائشة مرسلة ، ولم يدركها
(2)، وقال أبو حاتم أيضاً : وفي روايته عن غيره من الصحابة مرسلة
(3) ، وقال : وغاية حديثه مراسيل
(4) .
وقال ابن سعد : كان كثير الحديث وليس يحتج بحديثه لأنه مرسل كثيراً وليس له لقي ، وعامة أصحابه يدلسون
(5) ، وقال ابن أبي حاتم في المراسيل : . . . لم يسمع عن جابر ولا ( زيد بن ثابت ) .
2 ـ ( وكيع عن إسماعيل عن الشعبي : أن مروان دعا زيد بن ثابت وقوماً يكتبون ، وهو لا يدري ، فأعلموه ، فقال : أتدرون لعل كل شيء حدثتكم به ليس كما حدثتكم)
(6) في سنده : وكيع وقد عرفنا حاله من قبل .
---------------------------------
(1) جامع بيان العلم وفضله : ج 1 ص 63 .
(2) تهذيب التهذيب : ج 1 ص 332 .
(3) المصدر السابق .
(4) المصدر السابق .
(5) المصدر السابق .
(6) جامع بيان العلم وفضله : ح 1 ص 65 .