خلاصة في نتيجتين :
  وهكذا نصلُ إلى نتيجة خطيرة في الموضوع الذي نحنُ في صَدده ، ويمكن تلخيصها بالنقاط التالية :
أولاً: إن أحاديث النهي عن تدوين الحديث الشريف التي توردها مصادر الجمهور على لسان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، لا تصمدُ للنقد العلمي الرصين .
ثانياً : إن أحاديث ودلائل الإباحة لا تنهضُ بموضوعها بالدرجة التي تبعث على الاطمئنان ، وبالمتانة التي تشجع على تشييد رؤية علميَّة يقينية عن كتابة حديث النبي ( صلى الله عليه وآله ) سواء كانت هذه الإباحة عامة أو خاصَّة ، اللهم إلاَّ ما ورد في حق علي بن أبي طالب ، وهذا الأمر يؤول إلى استنتاج خطير لا توافق عليه مدرسة الجمهور ـ كما سنرى ـ .
ثالثاً : ولو تنزَّلنا عن ذلك ، وقلنا بصحَّة الأحاديث على المستويين ، كما يرى معظم علماء الجمهور ، فإن مشاكل عديدة سوف تترتب على ذلك منها : التناقص بين المنع من جهة والإباحة من جهة أخرى ، ولم توفق المحاولات المبذولة من قبل هؤلاء العلماء ، قديماً وحديثاً في حل إشكال التناقص المذكور ، وهو لا يزال عقبة في تصوير نظرية واضحة المعالم مضبوطة الأسس متكاملة الأبعاد عن تدوين الحديث النبوي في عصر النبوة المقدَّسة ، ومن هذه المشكلات هو علة المنع والسبب الذي دعا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى تحريم الكتابة مع ما يجر هذا الموقف من مخاطر وخيمة على الإسلام والمسلمين ، وبالفعل فقد ظهرت بعد وفاة النبي الأكرم ، ولم تقدم علة تشفي غليل السائل في هذا المقام ، وكانت العلة المقترحة أكثر من خيار ، لم يسلم أحدها من طعن في الصميم .

مشكلة تدوين الحديث _102_

  وفي الحقيقة إن هذه المفارقات هي التي دعت إلى تبني نظرية المنع ومن ثم عدم الكتابة ، ودعت الغير إلى اتخاذ موقف مناقض، وبين هذا وذاك من شكك أصلاً في قيمة السنة وأهميتها ، ومن كل ذلك نفهم أن مصادر الجمهور في تدوين الحديث في هذه الفترة عاجزة أن تكون لنا أطروحة يمكن أن نستند إليها في هذا المجال . . . هذه النتيجة الأولى، وهي سلبية ، على أن النظر في هذه الخلاصة قد يعطينا ثمرة إيجابية مستلة من ثبوت صحيفة علي ، وذلك بلحاظ كونها بإملاء الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وخط أمير المؤمنين ، هذه النتيجة تقول :
  إنَّ رسول الله أحتاط لحديثه بكتابته ، ولكن ليس على أساس الإباحة غير المدروسة ، لأن مخاطرها كبيرة وما سيترتب عليها من مفارقات وملابسات لا تعد ولا تُحصى ، وإنما كلف في ذلك أميناً حافظاً مؤمناً ، لا تؤثر فيه دواعي الدنيا أو مغرياتها ، قريب منه نسباً وروحاً وتربية وعلماً ، ذلك هو علي بن أبي طالب الذي قال فيه : ( يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاَّ أنه لا نبي من بعدي ) ، وهي الصورة التي يطرحها الشيعة الإمامية كما سنرى في فصل قادم .
الرؤية العامَّة :
  يرفضُ الشيعة الإمامية فكرة المنع التي يثبتها علماء الجمهور ، ولا يعتقدونها منهجاً معقولاً يمكن أن يختطه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، كما أننا لا نجد لدى الشيعة الإمامية رأياً في الإباحة العامة ، وقد يستنتج البعض من هذا التصوير أن الشيعة الإمامية لا تملك نظرية في هذه القضية الخطيرة .
ذذذ

مشكلة تدوين الحديث _103_

  والواقع : لا . . . إن هذه الطائفة تعتقدُ أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أمَّن على كتابة حديثه وتدوينه كما أمَّن على كتابة القرآن وتدوينه ، أي أن النبي أملى حديثه على شخص ما ، يطمئن إلى إيمانه ويقينه وحرصه على الشريعة ومستقبلها . . . ذلك الشخص هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وفي هذا السياق يذكر الشيعة الإمامية جملة عينات حديثية مكتوبة في زمن رسول الله، وأمير المؤمنين ورثها ، كما أن بعضها كانت بخط يده ، والمصادر الشيعية الإمامية توردُ في هذا الصَدد الكتب أو الصحف التالية :
أولاً: صحيفة علي .
ثانياً : كتاب علي بالأحكام ، [ الجامعة ] .
ثالثاً : مصحف فاطمة .
رابعاً : الجفر .
  وترى الشيعة الإمامية أن أئمة أهل البيت ( سلام الله عليهم ) توارثوا هذا العلم ، وكان على شكل آثار يرجعون إليها في بيان العقائد والحلال والحرام وحوادث المستقبل القريب والبعيد ، وهذه جملة أحاديث في تثبيت هذه القاعدة :
1 ـ ( عن داود بن أبي يزيد الأحوال عن أبي عبد الله، قال : سمعته يقول : إنا لو كنا نفتي الناس برأينا وهوانا لكنا من الهالكين ، ولكنها آثار من رسول الله، أصل علم ، نتوارثها كابراً عن كابر ، نكنزها كما يكنز الناس ذهبهم وفضتهم ) (1) .

------------------------------------
(1) بصائر الدرجات : ص 299 .

مشكلة تدوين الحديث _104 _

2 ـ ( عن جابر قال : قال أبو جعفر : يا جابر والله لو كنا نحدث الناس أو حدثناهم برأينا ، لكنا من الهالكين، ولكنَّا نحدثهم بآثار عندنا من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، يتوارثها كابراً عن كابر ، نكنزها كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضتهم ) (1) .
3 ـ ( عن محمد بن شريح قال : قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) ، لولا أن الله فرض طاعتنا وولايتنا وأمر مودتنا ، ما أوقفناكم على أبوابنا ، ولا أدخلناكم في بيوتنا ، إنا والله ما نقول بأهوائنا ، ولا نقول برأينا ، ولا نقول إلاَّ ما قال ربنا ، أصول عندنا ، نكنزها ، كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضَّتهم ) (2) .
  فنظرية الشيعة الإمامية في خطوطها العريضة أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أملى حديثه على علي ، وعلي ورث هذا المكتوب ، وتناقله أئمة الهدى بعده ، كابراً عن كابر ، وعليه : إن رسول الله قد خطط لحفظ حديثه ، ولم يتركه لإباحة غير مضبوطة وغير مدروسة ، أي أن الرسول عيَّن كاتباً للوحي الذي لا يتلى ، كما عين كتاباً للوحي الذي يتلى .
  وفي الحقيقة إن هذه النظرية الشيعية في تدوين الحديث مما ينسجم مع العقل وطبائع الأشياء ، فليس من المعقول أن هذا الكنز النبوي يبقى بلا ترقيم ولا تدوين ، وليس من المعقول أن يباح تدوينه بلا إشارة خاصة من صاحبه وإطلاع على ضطبه وصيانته ، إن موقف النبي بهذه الصورة من تراثه العظيم مما يستسيغه العقل والطبع السليم، وها هي سنّة أكثر العظماء والمصلحين في تدبير مذكراتهم وتصريحاتهم وأقوالهم ، إن ترك الحديث لعبقرية الحفظ وطريقة المناقلة ، لا تنقذه من مشاكل عديدة ، وقد ظهرت مباشرة بعد انتقال النبي إلى الملأ الأعلى .
  إن النظرية الشيعية منسجمة مع نفسها ، ليس فيها تناقض ولا تتخللها اختراقات التساؤل والتشكيك خلافاً لنظرية علماء الجمهور ، إذ تعتريها العديد من المشكلات ، بل إن تدوين الحديث في زمن النبي الأكرم هو إحدى الإشكاليات الخطيرة في فكر علماء الجمهور ، وهي تتجدّد وتثار جيلاً بعد جيل ، دون أن تجد لها حلاً يشفي الغليل .

------------------------------------
(1) المصدر السابق .
(2) المصدر السابق : ص 300 / 301 .

مشكلة تدوين الحديث _105_

  عن الإمام الباقر ( قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لعلي : اكتب ما أملي عليك ، قال : يا نبي الله أتخاف عليَّ النسيان قال : لست أخاف عليك النسيان ، وقد دعوت الله لك أن يُحفظك ولا ينسيك ، ولكن اكتب لشركائك قال : قلت : ومن شركائي يا نبي الله قال : الأئمة من ولدك ، بهم تسقى أمتي الغيث ، وبهم يستجاب دعاؤهم ، وبهم يصرف الله عنهم البلاء ، وبهم تنزل الرحمة من السماء . . . ) (1) ، وهذا الحديث يعطي للنظرية العامة عند الشيعة في صدد تدوين الحديث إطارها الجامع وأسسها الواضحة .
  وفي هذا السياق أيضاً ، نقرأ عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ): قال أبو راكة : ( كنا مع علي ( عليه السلام ) بمسكن فحدثنا أن علياً ورث من رسول الله السيف ، وبعض يقول البغلة ، وبعض يقول : ورث صحيفة في حمائل السيف ، إذ خرج علي ( عليه السلام ) ونحن في حديثه ، فقال : إيم الله، لو أنشط ويؤذن لي ، لحدثتكم حتى يحول الحول ، لا أعيد حرفاً ، وإيم الله عندي لصحف كثيرة ، قطائع رسول الله وأهل بيته ، وإن فيها لصحيفة يقال لها العبيطة ، وما ورد على العرب أشد منها ، وإن فيها لستين قبيلة مبهرجة ، ما لها في دين الله من نصيب ) (2) .
  وفي تفصيل أوَّلي تقرأ عن الإمام الصادق : ( إن عندنا سلاح رسول الله وسيفه ودرعه ، وعندنا والله مصحف فاطمة ، ما فيه آية من كتاب الله، وإنه لإملاء رسول الله وخطّه علي بيده ، وعندنا والله الجفر ، وما يدرون ما هو ، أمسك شاة أو مسك بعير . . . ) (3) .

------------------------------------
(1) بصائر الدرجت : ص 167 .
(2) بصائر الدرجات : ص 149 .
(3) المصدر السابق : ص 153 .

مشكلة تدوين الحديث _106_

  ونقرأ أيضاً : ( عن محمد بن عبد الملك ، قال : كنا عند أبي عبد الله ( عليه السلام ) نحواً من ستين رجلاً ، وهو وسطنا ، فجاء عبد الخالق بن عبد ربه فقال له : كنت مع إبراهيم بن محمد جالساً ، فذكروا إنك تقول إن عندنا كتاب علي ( عليه السلام ) ، فقال : لا والله ما ترك علي كتاباً ، وإن كان ترك علي كتاباً ما هو إلاَّ أهاب ، ولو وددت أنه عند غلامي هذا فما أبالي عليه ، قال : فجلس أبو عبد الله ( عليه السلام ) ، ثم أقبل علينا ، فقال : ما هو والله كما يقولون ، إنهما جفران مكتوب فيهما ، لا والله إنهما لإهابان عليهما أصوافهما وأشعارهما ، مدحوسين كتباً في أحدهما ، وفي الآخر سلاح رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، وعندنا والله صحيفة طولها سبعون ذراعاً ، ما خلق الله من حلال وحرام إلاَّ وهو فيها ، حتى إن فيها أرش الخدش ، وقام بظفره على ذراعه ، فخط به وعندنا مصحف ، أما والله ما هو بالقرآن ) (1) .

الصحيفة :
1 ـ ( عن جابر بن يزيد ، قال : قال أبو جعفر الباقر : إن عندي لصحيفة فيها تسعة عشر صحيفة قد حباها رسول الله) (2) .
2 ـ ( عن محمد بن مسلم قال : قال أبو جعفر : إن عندنا صحيفة من كتب عليّ طولها سبعون ذراعاً . . . ) (3) .
3 ـ ( وعن أبي عبد الله قال : والله إن عندنا لصحيفة طولها سبعون ذراعاً فيها جميع ما يحتاجُ الناس حتى أرش الخدش أملاه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وكتبه علي بيده ) (4) .
4 ـ ( عن سليمان بن خالد : قال : سمعت أبا عبد الله يقول : إن عندنا لصحيفة سبعون ذراعاً ، إملاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وخط علي بيده ، ما من حلال ولا حرام إلاَّ وهو فيها حتى أرش الخدش ) (5) ، وأحاديث أخرى كثيرة في هذا الموضوع .

------------------------------------
(1) بصائر الدرجات من 151 .
(2) المصدر السابق : ص 144 .
(3) المصدر السابق : ص 143 .
(4) المصدر السابق : ص 145 .
(5) المصدر السابق : ص 144 .

مشكلة تدوين الحديث _107_

كتاب علي :
1 ـ ( عن الفضيل بن يسار قال ، قال أبو جعفر ( عليه السلام ) ، يا فضيل عندنا كتاب علي سبعون ذراعاً . . . ) (1) .
2 ـ ( عن عبد الله بن ميمون عن جعفر عن أبيه قال : في كتاب علي كل شيء . . . ) (2) .
3 ـ ( وعن عبد الله بن أيوب عن أبيه قال سمعتُ أبا عبد الله يقول : ما ترك علي شيعته وهم يحتاجون إلى أحدث الحلال والحرام حتى إنا وجدنا في كتابه أرش الخدش ، قال : ثم قال : أما إنك إن رأيت كتابه لعلمت أنه من كتب الأولين ) (3) ، والمأثور من هذا الكتاب موجود في جوامع الحديث الشيعي الإمامي والتي منها :
  أ ـ الكافي في أصوله وفروعه .
  ب ـ التهذيب .
  ج ـ من لا يحضره الفقيه .
  د ـ الوسائل .
  والعبارة المعروفة في الإشارة إليه هي ( في كتاب علي ) ، وفيه من كل أبواب الفقه [ الطهارة ، الصلاة ، الزكاة ، الصوم ، الحج ، الجهاد ، الأمر بالمعروف ، المتاجر ، الوصايا ، الطلاق ، النكاح ، الأطعمة والأشربة ، الحدود ، القصاص ، الديات ، القضاء ، الإيمان ، الصيد ، الميراث ، إحياء الاموات . . . ] .

الجفر ومصحف فاطمة :
  ( عن أبي مريم قال : قال لي أبو جعفر ( عليه السلام ) : عندنا الجامعة وهي سبعون ذراعاً فيها كلّ شيء ارش الخدش إملاء رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) وخطّ علي ( عليه السلام ) وعندنا الجفر وهو أديم عكاظيّ قد كتب فيه حتى ملئت أكارعه ، فيه ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة ) (4) .

------------------------------------
(1) المصدر السابق : ص 143 .
(2) المصدر السابق : ص 164 .
(3) بصائر الدرجات : ص 166 .
(4) المصدر السابق : ص 160 .

مشكلة تدوين الحديث _108_

  علي ( عليه السلام ) ، وعندنا الجفر وهو أديم عكاظي قد كتب فيه حتى ملئت أكارعه ، فيه ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة ) (1) ، الحسن : لقد خلّف رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) عندنا ما فيها كل ما يحتاج إليه حتى أرش الخدش والظفر وخلّفت فاطمة مصحفاً ما هو قرآن . . . ) (2) .
  وفيه عن أبان بن عثمان عن علي بن الحسين ـ الإمام زين العابدين ـ عن أبي عبد الله ـ الحسين بن علي ـ قال : إن عبد الله بن الحسين يزعم أنّه ليس عنده من العلم إلاّ ما عند الناس ، فقال : صدق والله عبد الله بن الحسن ما عنده من العلم إلاّ ما عند الناس ولكن عندنا والله الجامعة فيها الحلال والحرام وعندنا الجفر ، أيدري عبد الله بن الحسن ما الجفر مسك معز أم مسك شاة وعندنا مصحف فاطمة أما والله ما فيه حرف من القرآن ولكنه إملاء رسول الله وخطّ علي كيف يصنع عبد الله إذا جاء الـناس من كلّ أفق يسألونه (3) .
  هذه هي الرؤية الشيعية الإمامية في تدوين السنة، لابد من حفظها في السطور ( لأن سنة النبي شارحة القرآن ، فلابد أن تـحفظ بالتدوين ) (4) ، ولكن هذا الحفظ له فارسه المعين المشخَّص من قبل رسول الله وبإمضائه وعنايته وتوجيهه ، وكان علي هو الذي فاز بهذا الاختيار ، نظرة سريعة إلى الرؤية الشيعية الإمامية في مشكلة تدوين الحديث نجدها صادقة مع ذاتها جملة وتفصيلاً ويمكن للباحث أن ينتقل بها من الإجمال إلى التفريع والتشقيق ، دونما تردد أو تعثر ، شاهده في ذلك الأحاديث والأخبار والآثار .

------------------------------------
(1) المصدر السابق .
(2) بصائر الدرجات : ص 156 .
(3) المصدر السابق : ص 157 .
(4) عقيدة الشيعة في الإمام الصادق : ص 211 .

مشكلة تدوين الحديث _109_


معضدات خارجية :
  مرَّ بنا بيان كاف عن الصحيفة التي ورثها علي ( عليه السلام ) عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وتبين أنها الصحيفة التي يمكن الاطمئنان إلى وجودها ، وإلى أنها كتبت في عهد النبي بإملائه من جهة وبخط علي من جهة أخرى ، وتوضح أنها واردة لدى الفريقين ، وهناك جملة محاور تطابقية في صددها في المدرستين ، وهذا معضد للرؤية الشيعية الإمامية في تدوين الحديث ، خاصة وقد رجح لدينا أن أي كتابة للحديث بإملاء النبي خصوصاً لم تحصل إلاَّ مع علي ، والآن نستعرض معضدات أخرى لعموم الرؤية .

الجفر والجامعة :
أولاً: الفخري في الآداب السلطانية : ( كان المأمون قد فكر في حال الخلافة بعده ، وأراد أن يجعلها في رجل يصلح لها ، لتبرأ ذمته ، كذا زعم ، فذكر أنه اعتبر أحوال البيتين ، البيت العباسي والبيت العلوي، فلم ير فيهما أصلح ولا أفضل ولا أورع ولا أدين من علي بن موسى الرضا ( عليه السلام ) ، فعهد إليه ، وكتب بذلك كتاباً بخطه ، وألزم الرضا ( عليه السلام ) ، فامتنع ، ثم أجاب ووضع خطه في ظاهر كتاب المأمون بما معناه : إني قد أجبت امتثالاً للأمر ، وإن كان الجفر والجامعة يدلان ضد ذلك ) (1) .

------------------------------------
(1) ص 217 ، طبع دار صادر .

مشكلة تدوين الحديث _110_

الحديث الثاني :

ثانياً : مقاتل الطالبيين :
  ( حدثني علي بن العباس المقانعي ، قال : أخبرنا بكار بن أحمد ، قال : حدثنا الحسن بن الحسين بن عنبسة بن نجاد العابد، قال : كان جعفر بن محمد إذا رأى محمد بن عبد الله بن حسن تغرغرت عيناه ، ثم يقول : بنفسي هو أن الناس ليقولون فيه أنه المهدي ، وإنه لمقتول ، ليس هذا في كتاب أبيه علي من خلفاء هذه الأمة ) (1) .

ثالثاً : شرح المواقف : [ت 816] .
  ( إن الجفر والجامعة كتابان لعلي ( كرم الله وجهه ) ، وقد ذكر فيهما على طريق علم الحروف والحوادث التي تحدث إلى انقراض العالم، وكان الأئمة المعروفون من أولاده يعرفونهما ، ويحكمون بهما ، وفي كتاب قبول العهد الذي كتبه علي بن موسى الرضا إلى المأمون : إنك قد عرفت من حقوقنا ما لم يعرفه أباؤك ، فقبلت منك عهدك إلاَّ أن الجفر والجامعة يدلان على أنه لا يتم ، والمشايخ المغاربة نصيب من علم الحروف ، ينتسبون فيها إلى أهل البيت ، ورأيت في الشام نظماً أشير إليه بالرموز إلى أحوال ملوك مصر ، وسمعت أنه مستخرج من ذينك الكتابين . . . ) (2) .

رابعاً : حاجي خليفة :
  أ ـ ( نُقل : إن الخليفة المأمون لما عهد بالخلافة من بعده إلى علي بن موسى الرضا، وكتب إليه كتاب عهده ، كتب هو في آخر ذلك الكتاب ، نعم ، إلاَّ أن الجفر والجامعة يدلان على أن هذا الأمر لا يتم ، وكان كما قال ، لأن الممون استشعر فتنة من بني هاشـم فسمّه ) (3) .   ب ـ ( قال ابن طلحة : الجفر والجامعة كتابان جليلان أحدهما ذكره الإمام علي بن أبي طالب ( رضي الله تعالى عنه ) وهو يخطب بالكوفة على المنبر ، والآخر أسرّه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأمره بتدوينه ، فكتبه علي ( رضي الله عنه ) حروفاً متفرقة على طريقة سفر آدم في جفر ، يعني في رق قد صُبغ من جلد البعير ، فاشتهر بين الناس به لأنه وجد فيه ما جرى للأولين الآخرين . . . ) (4) .

-------------------------------
(1) ص 142 طبع الرضي ـ زاهدي .
(2) سفينة البحار : ج 1 ص 164 مادة جفر .
(3) ج 2 ص 591 وقد نقله عن مفتاح السعادة ومصباح السيادة : 2 (420 ـ 421) ، راجع كذلك مقدمة مرآة العقول : ج 1 ص 100 .
(4) المصدر السابق : ص 2/ 591 ـ 592 .

مشكلة تدوين الحديث _111_

  ج ـ ( طلحة هو : الشيخ كمال الدين ( أبي سالم ) محمد بن طلحة النصيبي ( الشافعي ت 654 وقد ألف كتاباً اسمه ( الجفر الجامع والنور اللامع، وهو مجلد صغير ، أوله : الحمد لله الذي أطلع من اجتباه . . . إلخ ، ذكر فيه إن الأئمة من أولاد جعفر يعرفون الجفر ، فاختار من أسرارهم فيه ) (1) .

خامساً : الجرجاني :
  الجفر والجامعة كتابان لعلي ذكر فيهما علي طريقة علم الحروف والحوادث التي تحدث إلى انقراض العالم ، وكان الأئمة المعروفون من أولاده يعرفونها ، ويحكمون بها ) (2) .

سادساً : ابن قتيبة :
  ( الجفر جلد كتب فيه الإمام جعفر الصادق لآل البيت كل ما يحتاجون إلى علمه ، وكل ما يكون إلى يوم القيامة وإلى هذا الجفر أشار المعري بقوله :
   لقد عجبوا لأهل البيت لما      أتـاهم  علمهم في مَسْك iiجفر
ومرآة المنجم وهي iiصغرى      أرتـه كل عامرة وقفر (3)

سابعاً : مقدمة ابن خلدون :
  ( اعلم : أن كتاب الجفر كان أصله أن هارون بن سعيد العجلي ، وهو رأس الزيدية ، كان له كتاب يرويه عن جعفر الصادق ، وفيه علم ما سيقع لأهل البيت على العموم ولبعض الأشخاص منهم على الخصوص وكان مكتوباً عند جعفر في جلد ثور صغير ، وكان فيه تفسير القرآن ، وما في باطنه من غرائب المعاني وقد صحّ عنه - الصادق ، أنه كان يحذر بعض قرابته بوقائع تكون لهم فتصح وإذا كانت الكرامة تقع لغيرهم ، فما ظنك بهم ، علماً وديناً وإيثاراً من النبوة ، وعناية الله) (4) ، وفي الواقع تأتي قيمة هذه المعضدات ليس من حيث كونها أخباراً في ذلك ، بل إضافة لهذا أنها مطابقة لمرويات أهل البيت في المواصفات والخصوصيات .

-------------------------------
(1) المصدر السابق .
(2) دائرة المعارف لبطرس البستاني : ج 6 ص 487 .
(3) المصدر السابق : ج 6 ص 18 .
(4) المقدمة ، كذلك دائرة معارف القرن العشرين : ج 3 ص 125 .

مشكلة تدوين الحديث _112 _


معضدات داخلية :
  وهناك معضدات داخلية تدعم هذه الرؤية ، وتطعّمها بحرارتها الموضوعية والمنطقية ، منها :
  *أنه وارث علم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، فقد روى النسائي بسنده عن خالد بن قثم بن العباس ، أنه سئل : من أين يرث علي رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) قال : إنه كان أولنا به لحوقاً ، وأشدنا به لزوقاً (1) .
  * إنه إذا سأل رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) أجابه وإذا سكت ابتدأه ، روى النسائي في الخصائص بسنده عن عبد الله بن عمرو بن هند الجملي عن علي : كنت إذا سألت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) أعطيت ، وإذا سكت ابتدأني ، ورواه الحاكم في المستدرك بسنده مثله سنداً ومتناً (2) .
  * قول رسول الله فيه : ( أنت تبين لأمتي ما اختلفوا فيه بعدي ) ، روى الحاكم في المستدرك بسنده عن أنس بن مالك ، وقال صحيح على شرط الشيخين أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال لعلي : ( أنت تبين لأمتي ما اختلفوا فيه ) (3) .
  * نزول ( إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ) في حقه ، روى الحاكم في المستدرك بسنده عن علي : ( إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ) قال علي : رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) المنذر وأنا الهادي (4) .
  * قول النبي : ( هذا ولييّ والمؤدي عني ) ، روى النسائي في الخصائص بسنده عن سعد قال : أن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) خطب فقال : ( أما بعد أيها الناس فإني وليكم ، قالوا : صدقت ، ثم أخذ بيد علي فرفعها ثم قال هذا وليي والمؤدي عني ) (5) .
  * إنه من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بمنزلة هارون من موسى ، فقد روى النسائي في الخصائص بسنده أنه قال لعلي : ( أنت مني بمنزلة هارون من موسى )(6) .
  * قوله ( صلى الله عليه وآله ) : ( من كنت مولاه فعلي مولاه ) (7) .
  * قوله ( صلّى الله عليه وآله ) : ( أنا مدينة العلم وعلي بابها ) (8) .
  * إنه ولي كل مؤمن . . . ففي الاستيعاب بسنده عن ابن عباس أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال لعلي بن أبي طالب : ( أنت ولي كل مؤمن بعدي ) (9) .

-------------------------------
(1) أعيان الشيعة : ج 1 ص 357 .
(2) أعيان الشيعة : ج 1 ص 356 .
(3) أعيان الشيعة : ج 1 ص 359 .
(4) أعيان الشيعة : ج 1 ص 359 .
(5) أعيان الشيعة : ج 1 ص 355 .
(6) أعيان الشيعة : ج 1 ص 354 ، ج 1 ص 351 .
(7) أعيان الشيعة : ج 1 ص 354 .
(8) المستدرك للحاكم : ج 3 ص 126 .
(9) أعيان الشيعة : ج 1 ص 351 .