وأخرج عبد بن حميد عن عبد الرحمن بن يزيد أن رجلاً سأل عمر عن قوله وأبا ، فلما رآهم يقولون أقبل عليهم بالدرة !
  وأخرج عبد بن حميد وابن الأنباري في المصاحف عن أنس قال قرأ عمر وفاكهة وأبا فقال هذه الفاكة قد عرفناها فما الاب ؟ ثم قال : نهينا عن التكلف !
  وأخرج ابن المنذرعن أبي وائل أن عمر سئل عن قوله وأبا ما الأب ؟ ثم قال : ما كلفنا هذا أو ما أمرنا بهذا ! ) انتهى .
  وروى في كنز العمال ج 2 ص 328 ( عن أنس قال قرأ عمر وفاكهة وأبا ، فقال : هذه الفاكهة قد عرفناها فماالاب ؟ ثم قال : مه نهينا عن التكلف ، وفي لفظ : ثم قال إن هذا لهو التكلف ، يا عمر فما عليك ألا تدري ما الأب ، إتبعوا ما بين لكم من هذا الكتاب واعملوا به وما لم تعرفوه فكلوه الى عالمه ـ ص ، ش ، وأبو عبيد في فضائله ، وابن سعد وعبد بن حميد وابن المنذر ، وابن الأنباري في المصاحف ، ك ، هب ، وابن مردويه ) انتهى .
  قد يأخذ بعضهم على الخليفة من هذه الروايات أنه لايعرف معنى بعض كلمات القرآن ، ولكن هذا إنما يكون إشكالاً على الذين يقولون بوجوب عصمة الإمام والخليفة ويشترطون أن يكون أعلم أهل زمانه ، كما نعتقد نحن الشيعة في الائمة من أهل بيت النبي (ص) ، فلو أن هذه الحادثة كانت مع أحد منهم لكانت دليلاً على عدم سعة علمه باللغة العربية وأضرت بعصمته ... ولكن إخواننا السنة لا يشترطون في الخليفة العصمة ولا الأعلمية على أهل زمانه ، ويروون شهادات الخليفة عمر لعلي وغيره من الصحابة بأنهم أقضى منه وأعلم منه !
  ولكن غرضنا من هذه النصوص أن نعرف موقف الخليفة عمر من البحث في القرآن ؟ فقد وردت فيه عبارات ( هذا لعمر الله التكلف ، اتبعوا ماتبين لكم من هذا الكتاب ... ثم قال : نهينا عن التكلف ... أن رجلاً سأل عمر عن قوله وأبا ، فلما رآهم يقولون أقبل عليهم بالدرة ! ) فهل السؤال عن معنى كلمة قرآنية تكلف منهي عنه في الشريعة ؟ وهل يجوز للحاكم المسلم إذا رأى الصحابة أو العلماء يتناقشون في معنى كلمة أن يقبل عليهم ضرباً بالسوط ؟! فهذه الحادثة التي اختصرنا من مصادرها ، تدل على أن الخليفة كان يفتي بحرمة البحث العلمي في القرآن ، ويعاقب عليه !
  لكن روى البيهقي في سننه ج 4 ص 313 ( عن ابن عباس قال كنت عند عمر وعنده أصحابه فسألهم فقال : أرأيتهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر التمسوها في العشر الأواخر وتراً ، أي ليلة ترونها ؟ فقال بعضهم ليلة إحدى ، وقال بعضهم ليلة ثلاث ، وقال بعضهم ليلة خمس ، وقال بعضهم ليلة سبع ، فقالوا وأنا ساكت ، فقال : ما لك لا تكلم ؟ فقلت إنك أمرتني أن لا أتكلم حتى يتكلموا ، فقال : ما أرسلت إليك إلا لتكلم ، فقلت : إني سمعت يذكر السبع فذكرسبع سموات ومن الأرض مثلهن وخلق الإنسان من سبع ونبت الأرض سبع ، فقال عمر رضي الله عنه : هذا أخبرتني ما أعلم ، أرأيت مالم أعلم قولك نبت الأرض سبع ؟ قال قال عز وجل ( إنا شققنا الأرض شقا ، فأنبتنا فيها حبا ، وعنباً وقضبا ، وزيتوناً ونخلا ، وحدائق غلبا ) قال فالحدائق الغلب الحيطان من النخل والشجر ، وفاكهة وأبا ؟ قال فالأب ما أنبتت الأرض مما تأكله الدواب والأنعام ولا يأكله الناس ، قال فقال عمر رضي الله عنه لأصحابه : أعجزتم أن تقولوا كما قال هذا الغلام الذي لم تجتمع شؤون رأسه ؟! والله إني لأرى القول كما قلت ) انتهى .
  فهذا الحديث يدل على أن الفتوى بتحريم التكلف وتفسير ألفاظ القرآن مختصة بالذين كانوا حول عمر ، الذين يتكلمون رجماً بالغيب ، وأن ضربه لهم بالدرة كان بسبب ذلك ، ولكنه في نفس الوقت أرسل الى ابن عباس وأحضره وسأله عن تفسيرها وقبله منه ووبخ أصحابه الذين لم يعرف أحد منهم معنى وأبا !! فيكون المأخذ على الخليفة في أسلوبه ، وأنه كان الأولى أن يقول أنا وأنتم لانعرف معنى وأبا ، فينبغي أن نسأل من يعرف ، ولا يحتاج الأمر الى النهي عن التكلف ولا الى ... الغضب والضرب بالدرة ! على أن ابن عباس إذا صحت عنه الرواية تكلَّفَ أيضاً ، وأفتى بالظن والإحتمال استحساناً بدون دليل ! نهي الخليفة عن السؤال عما لم يكن !
  روى الدارمي في سننه ج 1 ص 50 ( عن عمرو عن طاووس قال قال عمر على المنبر : أحرج بالله على رجل سأل عما لم يكن ، فإن الله قد بين ما هو كائن ) انتهى ، وبمقتضى فتوى الخليفة يجب أن يصبر الحاكم والقضاة والناس حتى تقع الحوادث فيسألون أو يبحثون عن حكمها ، ولا يجوز افتراض حادثة لم تقع وبحث حكمها الشرعي !!

تدوين القرآن _ 126 _

  ضربه بالدرة وقال : مالك نقبت عنها ؟!
  قال السيوطي في الدر المنثور ج 2 ص 227 ( وأخرج ابن راهويه في مسنده عن محمد بن المنتشر قال قال رجل لعمر بن الخطاب إنى لأعرف أشد آية في كتاب الله ، فأهوى عمر فضربه بالدرة وقال : مالك نقبت عنها ؟! فانصرف حتى كان الغد قال له عمر الآية التي ذكرت بالأمس فقال من يعمل سوء يجز به فما منا أحد يعمل سوء إلا جزى به ، فقال عمر : لبثنا حين نزلت ما ينفعنا طعام ولا شراب ، حتى أنزل الله بعد ذلك ورخص وقال : من يعمل سوء أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفور رحيما ) انتهى .
  ولكن الخليفة لم يتراجع عن ضربه الرجل بالأمس بل أراد التأكيد على منهجه في تطمين الناس بالمغفرة والجنة مهما عملوا ، ومنع تخويفهم بالعقاب ، وقد هيأ للرجل الجواب في اليوم الثاني فجعل الآية 110 من سورة المائدة ترخيصاً ونسخاً للآية 123 منها ، مع أن موضوعهما مختلف ، ويلزم منه جعل المتقدم ناسخاً للمتأخر ... الى آخر البحث في ذلك ، وسيأتي في بحث موقفه من الثقافة اليهودية أنه كان يتبنى تسهيل العقاب الإلهي على الناس ، حتى على أعداء الله تعالى وأنبيائه !!

الفصل الثامن : قصة الأحرف السبعة وجمع القرآن
  هل كان يوجد شئ اسمه مشكلة جمع القرآن ؟!
  حاولت أكثر روايات جمع القرآن ، أن تثبت أنه لم يكن مجموعاً كله في كتاب واحد ( مصحف ) من عهد النبي (ص) ، وأنه كان موزعاً سوراً وآيات مكتوبة عند هذا وذاك على ( العسب والرقاق واللخاف وصدور الرجال ) كما يقول زيد بن ثابت في رواية البخاري ج 8 ص 119 .
  غير أن المتتبع في مصادر الحديث والتاريخ يجزم بأن القرآن كان مجموعاً في مصحف من عهد النبي (ص) ، وأن نسخه كانت موجودة في بيت النبي ، وفي مسجده ، وعند كثيرين ... كما كان محفوظاً في صدور العديد من الصحابة من أهل بيت النبي وغيرهم !! وأن المشكلة كانت مشكلة الدولة التي خافت من اعتماد نسخة من القرآن مكتوبة ، لتكون النسخة الرسمية لجميع المسلمين ... فالدولة ، والدولة هنا تعني الخليفة عمر ، رفضت نسخة القرآن التي جاءها بها علي بن أبي طالب (ع) ... كما نهت الأنصار أن يقدموا نسخة قرآن على أنها النسخة المعتمدة ، لأن ذلك برأيه من حق الدولة وحدها ... ومن جهة ثانية ، لم تقم بنسخ القرآن المتداول في أيدي الناس بعدة نسخ وإرسالها الى الأمصار ، لأنها لا تريد أن تعتمد نسخة معينة ... ومن جهة ثالثة ، قامت بتشكيل لجنة لجمع القرآن ، مكونة من الخليفة عمر وزيد بن ثابت ... وطال عمل هذه اللجنة ولم تقدم الى المسلمين نسخة القرآن ، بل بقيت النسخة التي جمعتها بيد الخليفة عمر ...

تدوين القرآن _ 127 _
  لذلك بقيت الدولة الإسلامية بلا نسخة رسمية للقرآن طوال عهد أبي بكر وعمر ، وكانت تجيب على اختلاف الناس في قراءة نص القرآن برواية الأحرف السبعة ... حتى تفاقمت المشكلة وكادت تنفجر ... فنهض بالأمر الخليفة عثمان وكتب نسخة القرآن الفعلية في سنة 25 هجرية !!
  والأدلة على أن القرآن كان مجموعاً من عهد النبي (ص) كثيرة ... نذكر منها أولاً الأدلة التمهيدية التي تثبت أن الكتابة كانت ميسرة في عهد النبي (ص) بل وقبله ، خاصة في المدن ... وترد ادعاء الباقلاني وغيره الذين برروا عمل السلطة بأن الكتابة لم تكن متيسرة في عهد النبي (ص) وعهد الخليفتين أبي بكر وعمر ، ثم تيسرت في عهد الخليفة عثمان ...! فإن عشرات النصوص بل مئاتها في المصادر ، ترد هذا الإدعاء .
  فمن ذلك : آية الدين أطول آية في كتاب الله تعالى ، التي أمر تعالى فيها مجتمع المدينة وعموم المسلمين بكتابة الديون حتى اليومية منها ، فقال تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين الى أجل مسمى فاكتبوه ، وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئاً ، فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع أن يمل هو ، فليملل وليه بالعدل ... الى آخر الآية الكريمة .
  ومن ذلك : أن النبي (ص) أول من دَوَّنَ الدواوين ، وليس الخليفة عمر كما يذكر بعضهم ، فقد كان عند النبي ديوان فيه أسماء كل المسلمين ، وديوان فيه أسماء المجاهدين ... قال البخاري في صحيحه ج 4 ص 33 : ( ... عن الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم : أكتبوا لي من تلفظ بالإسلام من الناس ، فكتبنا له ألفاً وخمسمائة رجل ، فقلنا نخاف ونحن ألف وخمسمائة ؟! فلقد رأيتنا ابتلينا حتى أن الرجل ليصلي وحده وهو خائف !
  ... عن الأعمش فوجدناهم خمسمائة قال أبومعاوية ما بين ستمائة الى سبعمائة .
  ... عن أبي معبد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال جاء رجل الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني كتبت في غزوة كذا وكذا وامرأتي حاجة قال : إرجع فحج مع امرأتك ! ) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ج 10 ص 48 : ( عن طارق بن شهاب قال : قدم وفد بجيلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله : أكتبوا البجليين وابدؤوا بالأحمسيين ) .
  ورواه أحمد في ج 4 ص 315 لكن فيه ( اكسوا ) بدل ( اكتبوا ) ولابد أن يكون أحدهما تصحيفاً .
  ومن ذلك : أن أشخاصاً كانوا يكتبون حديث النبي (ص) ، منهم عبد الله بن عمرو بن العاص ... ففي صحيح البخاري ج 1 ص 36 : ( ... وهب بن منبه عن أخيه قال سمعت أبا هريرة يقول : ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثاً عنه مني إلا ما كان من عبدالله ابن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب ) .

تدوين القرآن _ 128 _
  وفي مسند أحمد ج 2 ص 171 ( ... عبد الرحمن الحبلي حدثه قال أخرج لنا عبدالله بن عمرو قرطاساً وقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا يقول : اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت رب كل شئ وإله كل شئ ، أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمداً عبدك ورسولك والملائكة يشهدون ، أعوذ بك من الشيطان وشركه وأعوذ بك أن اقترف على نفسي إثماً أو أجره على مسلم ، قال أبو عبد الرحمن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمه عبدالله بن عمرو أن يقول ذلك حين يريد أن ينام ) .
  ومن ذلك : أن البدوي كان يطلب كتابة خطبة النبي (ص) فيكتبونها له ... ففي صحيح البخاري ج 1 ص 36 وج 3 ص 95 : ( ... فجاء رجل من أهل اليمن فقال أكتب لي يا رسول الله ، فقال : اكتبوا لأبي فلان ) .
  ومن ذلك : أن تعليم الصبيان الكتابة كان متعارفاً ، ففي صحيح البخاري ج 3 ص 209 ( ... حدثنا عبدالملك بن عمير قال سمعت عمرو بن ميمون الأودي قال كان سعد يعلم بنيه هؤلاء الكلمات كما يعلم المعلم الغلمان الكتابة ) .
  ومن ذلك : أن الكتابة وطلب التعلم كان في الأنصار قبل الإسلام ... فقد روى مسلم في صحيحه ج 8 ص 231 : ( ... عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من الأنصار قبل أن يهلكوا ، فكان أول من لقينا أبا اليسر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه غلام له معه ضمامة من صحف ... ) .
  ورواه الحاكم في مستدركه ج 2 ص 28 فقال : ( عن عبادة بن الصامت قال خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من الأنصار قبل أن يهلكوا ، فكان أول من لقينا أبو اليسر صاحب رسول الله(ص) ومعه غلام له وعليه برد معافري وعلى غلامه برد معافري ومعه ضبارة صحف ... ) .
  ومن ذلك : أنهم كانوا يشبهون الوجه الحسن الحيوي بورقة المصحف ... قال البخاري في صحيحه ج 1 ص 165 : ( حتى إذا كان يوم الإثنين وهم صفوف في الصلاة فكشف النبي صلى الله عليه وسلم ستر الحجرة ينظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف ، ثم تبسم يضحك فهممنا أن نفتتن من الفرح برؤية النبي صلى الله عليه وسلم ) .
  ورواه مسلم في صحيحه ج 2 ص 24 وأحمد في مسنده ج 3 ص 110 وص 196 ... وغيره ...وجاء في مستدرك الحاكم ج 3 ص 640 قول صهر معاوية الذي طلق ابنته ( ... فنظرت فإذا أنا شيخ وهي شابة لا أزيدها مالاً الى مالها ولا شرفاً الى شرفها ، فرأيت أن أردها إليك لتزوجها فتى من فتيانك كأن وجهه ورقة مصحف ) .
  ومن ذلك : أن دباغة الجلد للكتابة عليه كانت أمراً معروفاً عادياً ، فقد اشترى عمر جلداً وكتب عليه التوراة ... قال السيوطي في الدر المنثور ج 5 ص 148 : ( وأخرج عبدالرزاق والبيهقي عن أبي قلابة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر برجل يقرأ كتاباً فاستمعه ساعة فاستحسنه ، فقال للرجل أكتب لي من هذا الكتاب ، قال نعم ، فاشترى أديماً فهيأه ثم جاء به إليه فنسخ له في ظهره وبطنه ، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يقرؤه عليه وجعل وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلون ، فضرب رجل من الأنصار بيده الكتاب وقال : ثكلتك أمك يابن الخطاب ! أما ترى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ اليوم ، وأنت تقرأ عليه هذا الكتاب ؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك إنما بعثت فاتحاً وخاتماً وأعطيت جوامع الكلم وفواتحه واختصر لي الحديث اختصاراً ، فلا يهلكنكم المتهوكون ) .
  ومن ذلك : أن عادة وضع القلم وراء الأذن كانت من ذلك الزمان ... قال أحمد في مسنده ج 5 ص 193 : ( ... عن زيد بن خالد الجهني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ، قال فكان زيد يروح الى المسجد وسواكه على أذنه بموضع قلم الكاتب ، ما تقام صلاة إلا استاك قبل أن يصلي ) .

تدوين القرآن _ 129 _
  وروى الهيثمي في مجمع الزوائد ج 9 ص 356 رواية لا يصححها علماء الشيعة ولا السنة ، ولكنها تدل على المقصود ، قال : ( عن عائشة قالت لما كان يوم أم حبيبة من النبي صلى الله عليه وسلم دق الباب داق فقال النبي صلى الله عليه وسلم أنظروا من هذا قالوا معاوية قال ائذنوا ودخل وعلى أذنه قلم يخط به ، فقال ما هذا القلم على أذنك يا معاوية ، قال قلم أعددته لله ولرسوله فقال جزاك الله عنا خيراً ... ) .
  ومن ذلك : أن بعضهم كان يكتب أسئلته ويرسلها يستفتي بها ... فقد روى البيهقي في سننه ج 9 ص 241 : ( ... عبدالله بن أبي الهذيل قال أمرني ناس من أهلي أن أسأل لهم عبدالله بن عباس رضي الله عنهما عن أشياء فكتبتها في صحيفة فأتيته لأسأله فإذا عنده ناس يسألونه فسألوه حتى سألوه عن جميع ما في صحيفتي وما سألته عن شئ ، فسأله رجل أعرابي فقال إني مملوك أكون في إبل أهلي فيأتيني الرجل يستسقيني فأسقيه ... ؟ )
  ومن ذلك : أن نظام الكمبيالات أول ما ظهر في العالم في المدينة المنورة في زمن عثمان ... فقد روى مالك في الموطأ ج 2 ص 641 : ( وحدثني عن مالك ، أنه بلغه أن صكوكاً خرجت للناس في زمان مروان بن الحكم من طعام الجار فتبايع الناس تلك الصكوك بينهم ، قبل أن يستوفوها فدخل زيد بن ثابت ورجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، على مروان بن الحكم فقالا : أتحل بيع الربا يا مروان ؟ فقال أعوذ بالله وما ذاك ؟ فقالا هذه الصكوك تبايعها الناس ثم باعوها قبل أن يستوفوها ، فبعث مروان الحرس يتبعونها ينزعونها من أيدى الناس ويردونها الى أهلها ) .
  كل ذلك يدل على أن الكتابة في زمن النبي (ص) كانت أمراً شائعاً ، وكان الناس عامة مدركين لفائدتها وضرورتها خاصة في الأمور المهمة ، فكيف جَوَّزَ هؤلاء الرواة والباحثون على النبي (ص) ، مع إيمانهم ببعد نظره وعمق تفكيره وتسديده بوحي الله تعالى ، أن لا يهتم بكتابة القرآن ونشر نسخه في مصاحف ، والقرآن هو كتاب الدعوة الإلهية ومعجزتها ، والذي بواسطته كان النبي والمسلمون يدعون الناس الى الإسلام ... ؟!!
  بلى ... إن الأحاديث الكثيرة تشهد بأن نسخ القرآن كانت موجودة من عهده (ص) ومنتشرة في أيدي الرجال والنساء ، في المدينة وفي بقية بلاد الجزيرة ... وأنهم كانوا يضيفون الى نسخهم السور والآيات الجديدة عند ما تنزل ... ولا مجال لادعاء الزركشي وغيره بأن النبي والمسلمين لم يكتبوا القرآن في عهده (ص) بحجة أنهم كانوا ينتظرون اكتمال نزوله !!
  قال في البرهان ج 1 ص 262 ( وإنما لم يكتب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مصحف لئلا يفضي الى تغييره في كل وقت ، فلهذا تأخرت كتابته الى أن كمل نزول القرآن بموته صلى الله عليه وسلم ) فهذا المؤلف يتكلم عن التغيير في القرآن كأنه كتاب تحت التأليف لأمثاله ، ينتظر الناشرون اكتماله لينشروا نسخته ! ولكن السورة الواحدة من القرآن كانت حدثاً عقائدياً وفكرياً وسياسياً ، وكان المسلمون يستقبلون نزولها بأرواحهم قبل ألسنتهم ، ويكتبونها لأنفسهم ولدعوة الناس بها الى الإسلام ! ثم إذا نزلت آية أو سورة جديدة كتبوها أيضاً !

تدوين القرآن _ 130 _
  ومما يدل على ذلك : ما رواه الترمذي في سننه ج 4 ص 140 : ( ... عن أبي الدرداء قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فشخص ببصره الى السماء ، ثم قال : هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شئ ، فقال زياد بن لبيد الأنصارى : كيف يختلس منا ، وقد قرأنا القرآن فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا ! قال : ثكلتك أمك يا زياد إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة ! هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى ، فماذا تغني عنهم ؟! ) .
  ورواه أحمد في مسنده ج 5 ص 266 وفيه تصريح أوضح بوجود المصاحف ، قال : ( ... عن أبي إمامة الباهلي قال لما كان في حجة الوداع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ مردف الفضل بن عباس على جمل آدم فقال : يا أيها الناس خذوا من العلم قبل أن يقبض العلم وقبل أن يرفع العلم وقد كان أنزل الله عز وجل : يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم ، عفا الله عنها والله غفور حليم ، قال فكنا نذكرها كثيراً من مسألته واتقينا ذلك حين أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم ، قال فأتينا اعرابياً فرشوناه برداء قال فاعتم به حتى رأيت حاشية البرد خارجة من حاجبه الأيمن ، قال ثم قلنا له سل النبي صلى الله عليه وسلم ، قال فقال له : يا نبي الله كيف يرفع العلم منا وبين أظهرنا المصاحف ، وقد تعلمنا ما فيها وعلمناها نساءنا وذرارينا وخدمنا ؟! قال فرفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه وقد علت وجهه حمرة من الغضب قال فقال : أي ثكلتك أمك ، وهذه اليهود والنصارى بين أظهرهم المصاحف لم يصبحوا يتعلقوا بحرف مما جاءتهم به أنبياؤهم ! ألا وإن من ذهاب العلم أن يذهب حملته ، ثلاث مرار ! ) .
  ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد ج 1 ص 199 ، وروى عدة روايات بمعناه .
  ويدل عليه أيضاً : أن الرجل المسلم كان يأتي بالورق الى النبي (ص) فيأمر النبي الصحابة فينسخوا له القرآن ... فقد روى البيهقي في سننه ج 6 ص 16 : ( ... ثنا جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن علي بن الحسين عن ابن عباس قال كانت المصاحف لاتباع ، كان الرجل يأتي بورقه عند النبي صلى الله عليه وسلم فيقوم الرجل فيحتسب فيكتب ، ثم يقوم آخر فيكتب ، حتى يفرغ من المصحف ! ) .
  فقد كان الورق موجوداً إذن ... فأين ما تصوره الروايات من انعدام الورق ، وأن وسائل الكتابة كانت على الأحجار الرقاق والعظام والخشب ... ؟!
  ويدل عليه أيضاً : ما روته مصادرنا عن الإمام جعفر الصادق(ع) وأيدته مصادر إخواننا ... فقد روى الكليني في الكافي ج 5 ص 121 : ( ... عن غالب بن عثمان ، عن روح بن عبد الرحيم ، عن أبي عبدالله (ع) قال : سألته عن شراء المصاحف وبيعها فقال : إنما كان يوضع الورق عند المنبر وكان ما بين المنبر والحائط قدر ما تمر الشاة أو رجل منحرف قال : فكان الرجل يأتي ويكتب من ذلك ، ثم إنهم اشتروا بعد ذلك ، قلت : فما ترى في ذلك ؟ قال لي : أشتري أحب إلي من أن أبيعه ، قلت : فما ترى أن أعطي على كتابته أجراً ؟ قال : لا بأس ولكن هكذا كانوا يصنعون ) .
  ورواه الشيخ الطوسي في تهذيب الأحكام ج 6 ص 366 : ( ... عن عاصم بن حميد عن أبي بصير قال سألت أبا عبد الله عن بيع المصاحف وشرائها فقال : إنما كان يوضع عند القامة والمنبر قال : وكان بين الحائط والمنبر قيد ممر شاة ورجل وهو منحرف ، فكان الرجل يأتي فيكتب البقرة ويجئ آخر فيكتب السورة وكذلك كانوا ، ثم إنهم اشتروا بعد ذلك ، فقلت فما ترى في ذلك ؟ فقال : أشتريه أحب الى من أن أبيعه ) .

تدوين القرآن _ 131 _
  وروى مسلم في صحيحه أنه كان يوجد مكان في مسجد النبي (ص) يسمى ( مكان المصحف ) وهو مؤيد لما تقدم عن الإمام الصادق (ع) ... قال مسلم في ج 2 ص 59 : ( ... عن يزيد يعني ابن أبي عبيد عن سلمة وهو ابن الأكوع أنه كان يتحرى موضع مكان المصحف يسبح فيه ، وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتحرى ذلك المكان ، وكان بين المنبر والقبلة قدر ممر الشاة ) .
  ورواه البخاري ، ولكن جعل المكان عند الأسطوانة ولم يذكر مكان المصحف ، قال في صحيحه ج 1 ص 127 : ( حدثنا يزيد بن أبي عبيد قال كنت آتي مع سلمة بن الأكوع فيصلي عند الأسطوانة التي عند المصحف ، فقلت يا أبا مسلم أراك تتحرى الصلاة عند هذه الأسطوانة ؟ قال فإني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى الصلاة عندها ) .
  ورواه ابن ماجة في ج 1 ص 459 وفيه ( أنه كان يأتي الى سبحة الضحى فيعمد الى الأسطوانة دون المصحف ، فيصلي قريباً منها ) .
  وروى أحمد في مسنده في ج 4 ص 49 رواية البخاري ، وروى في ج 4 ص 54 رواية مسلم . وروى البيهقي في سننه ج 2 ص 271 وج 5 ص 247 رواية البخاري .
  ويدل عليه أيضاً : ما روي من أن الكتَّاب كانوا يرتبون الآيات والسور في مصاحفهم بأمر النبي (ص) ... فقد روى أحمد في مسنده ج 5 ص 185 ( ... عبد الرحمن بن شماسة أخبره أن زيد بن ثابت قال : بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع إذ قال طوبى للشام ، قيل ولم ذلك يا رسول الله ؟ قال إن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليه ) .
  ورواه الحاكم في المستدرك ج 2 ص 229 ، فقال : ( ... عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال كنا عند رسول الله (ص) نؤلف القرآن من الرقاع إذ قال رسول الله(ص) طوبى للشام ، فقلنا لأي شئ ذاك ؟ فقال لأن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليهم ، هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، وفيه البيان الواضح أن جمع القرآن لم يكن مرة واحدة ، فقد جمع بعضه بحضرة رسول الله (ص) ثم جمع بعضه بحضرة أبي بكر الصديق ، والجمع الثالث هو في ترتيب السور كان في خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنهم أجمعين ) .
  ورواه في ج 2 ص 611 بدون الإضافة عن الشام ، قال : ( ... عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال كنا عند رسول الله (ص) نؤلف القرآن من الرقاع ، هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، وفيه الدليل الواضح أن القرآن إنما جمع في عهد رسول الله (ص) ) انتهى ، وهي شهادة طريفة للحاكم تدل على أن الخليفة عمر لم يجمع القرآن أبداً ، وأن أبابكر جمع القرآن المجموع ! وأن عثمان كتب القرآن المجموع بتأليف جديد للسور من عنده ! وسيأتي أن النسخة التي كتب عنها عثمان كانت نسخة علي (ع) ، وأنه كتبها حسب توجيه النبي (ص) وأمره .

تدوين القرآن _ 132 _
  ويدل عليه أيضاً : أن الإعجاب بالقرآن كان يجعل الشبان يقبلون على قراءته والتأمل فيه ، وكانت نسخه عندهم ... فقد روى أحمد في مسنده ج 2 ص 173 : ( ... عن عبدالله بن عمرو أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم بابن له فقال : يا رسول الله أن ابني هذا يقرأ المصحف بالنهار ويبيت بالليل ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما تنقم أن ابنك ، يظل ذاكراً ، ويبيت سالماً ) ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد ج 2 ص 270 ويدل عليه أيضاً :ما ورد من استحباب كتابة المصحف وتوريثه لتكون نسخته صدقة جارية ... قال الهيثمي في مجمع الزوائد ج 1 ص 67 : ( عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة يجري للعبد أجرهن من بعد موته وهو في قبره : من علم علماً أو كرى نهراً أو حفر بئراً أو غرس نخلاً أو بني مسجداً أو ورث مصحفاً أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته).
  ويدل عليه أيضاً : أن النبي(ص) نهى أن يسافر بالقرآن الى أرض العدو ، لأنهم قد يهينونه ... ففي سنن أبي داود ج 1 ص 587 : ( باب في المصحف يسافر به الى أرض العدو ... عن نافع ، أن عبد الله بن عمر قال : نهى رسول الله صلىالله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن الى أرض العدو ، قال مالك : أراه مخافة أن يناله العدو ) .
  ويدل عليه أيضاً : الحكم الشرعي بعدم جواز مس المصحف لغير المتطهر ، وقد روته مصادر الشيعة والسنة عن النبي (ص) ، كالذي رواه البيهقي في سننه ج 1 ص 309 : ( عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب الى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن والديات وبعث به مع عمرو بن حزم ... فذكر الحديث وفيه قال : ولا يمس القرآن إلا طاهر ) .
  وفي هذا الحديث دلالة على اهتمام النبي (ص) بتدوين الأحكام وإرسالها الى الأمصار ... ومن باب أولى أن يرسل لهم نسخة القرآن ... بل يدل الحديث على وجود نسخة المصحف في اليمن ، أو أن النبي أرسلها مع كتاب الفرائض والسنن والديات المذكور ... وإلا لما صح أن يذكر لهم حرمة مسه لغير المتوضئ ، وفيه دلالة أيضاً على أن القرآن يستعمل في حديث النبي (ص) بمعنى المصحف كما تقدم ويأتي ، وفي اليمن نسخة قرآن خطية يقولون إنها بخط علي (ع) وهي التي أرسلها لهم النبي (ص) ، وهي تدل على أن إرسال نسخ القرآن كان من عهده (ص) .
  ويدل عليه أيضاً : الحكم الشرعي باستحباب قراءة القرآن في المصحف حتى لمن يحفظه ، قال البخاري في صحيحه ج 1 ص 170 : ( باب إمامة العبد والمولى وكانت عائشة يؤمها عبدها ذكوان من المصحف ) .

تدوين القرآن _ 133 _
  وقال مالك في المدونة الكبرى ج 1 ص 224 : ( عن ابن شهاب قال كان خيارنا يقرؤن في المصاحف في رمضان وأن ذكوان غلام عائشة كان يؤمها في المصحف في رمضان ، وقال مالك والليث مثله ) .
  وقال ابن قدامة في المغني ج 1 ص 613 : ( وقال أبوحنيفة تبطل الصلاة به إذا لم يكن حافظاً لأنه عمل طويل ، وقد روى أبوبكر بن أبي داود في كتاب المصاحف بإسناده عن ابن عباس قال نهانا أمير المؤمنين أن نؤم الناس في المصاحف وأن يؤمنا إلا محتلم ، وروي عن ابن المسيب والحسن ومجاهد وابراهيم وسليمان بن حنظلة والربيع كراهة ذلك ، وعن سعيد والحسن قالا تردد ما معك من القرآن ولا تقرأ في المصحف ، والدليل على جوازه ما روى أبوبكر الأثرم وابن أبي داود بإسنادهما عن عائشة أنها كانت يؤمها عبد لها في المصحف ، وسئل الزهري عن رجل يقرأ في رمضان في المصحف فقال كان خيارنا يقرؤون في المصاحف ! ) .
  وعقد الهيثمي في مجمع الزوائد ج 7 ص 165 باباً بعنوان : ( باب القراءة في المصحف وغيره ، عن عثمان بن عبدالله بن أوس الثقفي عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قراءة الرجل في غيرالمصحف ألف درجة وقراءته في المصحف تضاعف على ذلك ألفي درجة ، رواه الطبراني وفيه أبوسعيد بن عون وثقه ابن معبد في رواية وضعفه في أخرى ، وبقية رجاله ثقات .
  وعن عبدالله بن مسعود قال : أديموا النظر في المصحف ، رواه الطبراني عن شيخه عبدالله بن محمد بن سسعيد بن أبي مريم وهو ضعيف ) .
  وقال ابن أبي شيبة في المصنف ج 7 ص 180 : ( ... عن علقمة قال : أمسكت على عبدالله في المصحف فقال كيف رأيت ؟ قلت قرأتها كما هي في المصحف إلا حرف كذا قرأته كذا وكذا ) .
  وقال في ص 191 : ( حدثنا معتمر عن ليث قال : رأيت طلحة يقرأ في المصحف ) .
  ويدل عليه أيضاً : ما ورد في كراهة بيع المصاحف ، ومعناه أن نسخها كان رائجاً في زمن النبي (ص) وبعده الى حد أن بعضهم اتخذ ذلك تجارة ... قال ابن قدامة في المغني ج 4 ص 277 : ( والصحابة أباحوا شراء المصاحف وكرهوا بيعها ، وإن أعطى صاحب العمل هدية أو أكرمه من غير إجارة جاز ، وبه قال الشافعى لما روي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إذا كان إكراماً فلا بأس ) !
  وقال ابن شبة في تاريخ المدينة ج 2 ص 710 : ( ... حدثني عطية بن قيس : أن رجلاً من أهل الشام خرج الى المدينة لكتب مصحف وخرج معه بطعام وإدام ، في خلافة عمر رضي الله عنه ، فكان يطعم الذين يكتبون ، وكان أبي يختلف إليهم يمل عليهم ، فقال له عمر رضي الله عنه : كيف وجدت طعام الشامي ؟ قال : إني لأوشك إذا ما نشبت في أمر القوس ، ما طعمت له طعاماً ولا إداماً ) .

تدوين القرآن _ 134 _
  وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ج 1 ص 293 : ( وعن واصل قال أدركت رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له ناجية الطفاوي وهو يكتب المصاحف فأتته امرأة فقالت جئت أسالك عن الصلاة ... ).
  وقال البيهقي في سننه ج 6 ص 17 : ( ... ثنا يونس عن الحسن أنه كان لا يرى بأساً ببيع المصاحف واشترائها .
  ... عن الشعبي أنه سئل عن ذلك فقال إنما يبتغي ثمن ورقه وأجر كتابه .
  ... ثنا مالك بن دينار قال دخل على جابر بن زيد وأنا أكتب فقلت كيف ترى صنعتي هذه يا أبا الشعثاء ؟ قال ما أحسن صنعتك تنقل كتاب الله عز وجل ورقة الى ورقة وآية الى آية وكلمة الى كلمة ، هذا الحلال لا بأس به .
  ... ثنا مالك بن دينار أن عكرمة باع مصحفاً له ، وأن الحسن كان لا يرى به بأساً ) .
  وقال في كنز العمال ج 2 ص 330 : ( عن عبادة بن نسي أن عمر كان يقول : لا تبيعوا المصاحف ولا تشتروها ـ ابن أبي داود ) .
  وقال النووي في المجموع ج 9 ص 252 : ( وعن عمر أنه كان يمر بأصحاب المصاحف فيقول بئس التجارة ، وبإسناد صحيح عن عبدالله بن شقيق التابعي المجمع على جلالته وتوثيقه قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون بيع المصاحف .
  قال البيهقي وهذه الكراهة على وجه التنزيه تعظيماً للمصحف عن أن يبتذل بالبيع أو يجعل متجراً ، قال وروي عن ابن مسعود الترخيص فيه وإسناده ضعيف ، قال وقول ابن عباس اشتر المصحف ولا تبعه ، إن صح عنه يدل على جواز بيعه مع الكراهة ، والله سبحانه وتعالى أعلم ) .
  ويدل عليه أيضاً : أحاديث ضبط جبرئيل القرآن على النبي(ص) مرتين عام وفاته ... فلا معنى لهذا العمل إلا أن الله تعالى أمر نبيه أن يضبط نسخة القرآن على أحد من الأمة ... على شخص يشمله قول الله تعالى لنبيه سنقرؤك فلا تنسى أو على نسخ من القرآن مكتوبة ... وقد كانت العرضة الأخيرة بعد اكتمال نزول القرآن ، فلم ينزل بعدها شئ حتى توفي (ص) ... قال البخاري في صحيحه ج 6 ص 101 : ( باب كان جبريل يعرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم . وقال مسروق عن عائشة رضي الله عنها عن فاطمة رضي الله عنها : أسرَّ إليَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل يعارضني بالقرآن كل سنة وأنه عارضني العام مرتين ، ولا أراه إلا حضر أجلي !
  ... عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير وأجود ما يكون في شهر رمضان ، لأن جبريل كان يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ ، يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة !

تدوين القرآن _ 135 _
  ... عن أبي هريرة قال كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كل عام مرة فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض ، وكان يعتكف كل عام عشراً فاعتكف عشرين في العام الذي قبض ! ) .
  ويدل عليه أيضاً : أن اقتناء نسخة من القرآن كان متعارفاً عند الصحابة وغيرهم بكتابتها أو استكتابها ... مما يشعر بأن عملهم كان استمراراً للوضع الطبيعي الذي جروا عليه من عهد النبي (ص) ... فقد روى مسلم في صحيحه ج 2 ص 112 : ( ... عن أبي يونس مولى عائشة أنه قال أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفاً وقالت إذا بلغت هذه الآية فآذني حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى فلما بلغتها آذنتها فأملت على حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر وقوموا لله قانتين ) ورواه النسائي في سننه ج 1 ص 236 وأبو داود ج 1 ص 102 والترمذي ج 4 ص 285 وأحمد في مسنده ج 6 ص 73 وص 178 والبيهقي في سننه ج 1 ص 462 ورواه في نفس الصفحة والتي بعدها أيضاً عن حفصة !
  والطريف أن الهيثمي رواه في موضعين ووثقه ، وفيه أن الكاتب هو غلام عمر والمكتوب له بنته ... فأي قرآن كان غير مجموع ويحتاج أن يجمعه زيد أو عمرو ؟!
  قال في مجمع الزوائد ج 6 ص 320 وج 7 ص 154 : ( ... عن عمرو بن رافع مولى عمر بن الخطاب حدث أنه كان يكتب المصاحف في عهد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قال فاستكتبتني حفصة مصحفاً وقالت إذا بلغت هذه الآية من سورة البقرة فلا تكتبها حتى تأتيني بها فأملها عليك كما حفظتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فلما بلغتها جئتها بالورقة التي أكتبها فيها فقالت أكتب حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر وقوموا لله قانتين ، رواه أبو يعلي ورجاله ثقات ) انتهى .
  فلم تكن كتابة نسخة من القرآن تحتاج الى أكثر من تكليف كاتب لينسخها عن نسخته هو ، أو عن إحدى النسخ الكثيرة الموجودة في أيدي الناس ... وليس في هذه الروايات الموثقات والصحيحات ذكر للعسب والرقاق واللخاف وصدور الرجال ! ولا ذكر للجلوس على باب المسجد وسؤال الناس عن آيات القرآن لجمعها ونسخها في مصحف ! بل ليس في هذه الرواية ذكر لنسخة القرآن التي جمعها الخليفة وأودعها عند بنته حفصة ! فإن كان استكتاب حفصة المذكور بعد جمع أبيها للقرآن ، فلماذا أعرضت عن نسخة أبيها واستكتبت نسخة من المصحف المتداول ؟! وهل أن نسخة أبيها تختلف عن المصحف الرائج ؟! وإن كان ذلك قبل جمع أبيها للقرآن ... فما معنى قولهم إن القرآن كان موزعاً متفرفاً وأن جمعه كان عملاً كبيراً صعباً ؟!
  ويدل عليه أيضاً : كثرة الأحاديث التي ورد فيها ذكر نسخ الصحابة ومصاحفهم ، مما يدل على أن نسخه كانت في أيديهم وأيدي الناس قبل ما سموه ( جمع القرآن )...

تدوين القرآن _ 136 _
  قال أحمد في مسنده ج 5 ص 183 : ( ... عن كثير بن الصلت قال كان ابن العاص وزيد بن ثابت يكتبان المصاحف فمروا على هذه الآية فقال زيد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة فقال عمر لما أنزلت هذه أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت أكتبنيها قال شعبة فكأنه كره ذلك فقال عمر ألا ترى أن الشيخ إذا لم يحصن جلد وإن الشاب إذا زنى وقد أحصن رجم ) .
  وقال الحاكم في المستدرك ج 4 ص 360 : ( ... عن كثير بن الصلت قال كان ابن العاص وزيد بن ثابت يكتبان المصاحف فمرا على هذه الآية فقال زيد سمعت رسول الله (ص) يقول الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة فقال عمرو لما نزلت أتيت النبي (ص) فقلت أكتبها فكانه كره ذلك ... هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ) .
  وقال البيهقي في سننه ج 7 ص 69 : ( عن عمرو عن بجالة أو غيره قال : مر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بغلام وهو يقرأ في المصحف : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم ... ) الخ .
  وقال ابن أبي شيبة في مصنفه ج 7 ص 180 : ( حدثنا وكيع عن إسرائيل عن جابر عن عامر قال : كتب رجل مصحفاً ، وكتب عند كل آية تفسيرها ، فدعا به عمر فقرضه بالمقراضين ) .
  وقال الحاكم في المستدرك ج 2 ص 447 : ( ... عن سعيد بن جبير قال قلت لابن عباس رضي الله عنهما وجعلوا الملائكة الذين هم عبد الرحمن أو عباد الرحمن ؟ فقال عباد الرحمن ، قلت هو في مصحفي عبد الرحمن ، قال فامحها واكتب عباد الرحمن ، هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ) .
  وفي كنز العمال ج 2 ص 332 : عن أبي الأسود أن عمر بن الخطاب وجد مع رجل مصحفاً قد كتبه بقلم دقيق ، فقال : ما هذا ؟ فقال : القرآن كله ! فكره ذلك وضربه وقال : عظموا كتاب الله ) .
  وقال الحاكم في المستدرك ج 3 ص 243 : ( عن أيوب عن أبي مليكة قال كان عكرمة بن أبي جهل يأخذ المصحف فيضعه على وجهه ويبكي ويقول : كلام ربي ... كتاب ربي ) .
  وقال في ج 3 ص 408 : ( حدثنا أبو مكين قال رأيت امرأة في مسجد أويس القرني قالت : كان يجتمع هو وأصحاب له في مسجدهم هذا يصلون ويقرؤون في مصاحفهم ، فآتي غداءهم وعشاءهم هاهنا حتى يصلوا الصلوات ، قالت وكان ذلك دأبهم ماشهدوا ، حتى غزوا فاستشهد أويس وجماعة من أصحابه في الرجالة بين يدي علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين ) .

تدوين القرآن _ 137 _
  وقال البخاري في صحيحه ج 5 ص 146 : ( باب ما جاء في فاتحة الكتاب ، وسميت أم الكتاب لأنه يبدأ بكتابتها في المصاحف، ويبدأ بقراءتها في الصلاة ! ) انتهى ، وقد كان إسم الفاتحة أم الكتاب من عهد النبي (ص) !
  ويدل عليه أيضاً : أن عبدالله بن مسعود كان يملي المصاحف على الناس في الكوفة ويكتبونها عنه ... فقد روى أحمد في مسنده ج 1 ص 25 : ( ... عن علقمة قال جاء رجل الى عمر رضي الله عنه وهو بعرفة قال معاوية وحدثنا الأعمش عن خيثمة عن قيس بن مروان أنه أتى عمر رضي الله عنه فقال جئت يا أمير المؤمنين من الكوفة وتركت بها رجلاً يملي المصاحف عن ظهر قلبه وانتفخ حتى كاد يملأ ما بين شعبتي الرحل ! فقال ومن هو ويحك ؟ قال عبدالله بن مسعود فما زال يطفأ ويسرى عنه الغضب حتى عاد الى حاله التي كان عليها ، ثم قال : ويحك والله ما أعلمه بقي من الناس أحد هو أحق بذلك منه ، وسأحدثك عن ذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال يسمر عند أبي بكر رضي الله عنه الليلة كذاك في الأمر من أمر المسلمين وأنه سمر عنده ذات ليلة وأنا معه ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجنا معه فإذا رجل قائم يصلي في المسجد فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع قراءته فلما كدنا أن نعرفه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من : سره أن يقرأ القرآن رطباً كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد ، قال ثم جلس الرجل يدعو فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له : سل تعطه ، سل تعطه ، قال عمر رضي الله عنه : قلت والله لأغدون إليه فلأبشرنه ، قال فغدوت إليه لأبشره فوجدت أبا بكر رضي الله عنه قد سبقني إليه فبشره ، ولا والله ما سابقته الى خير قط إلا وسبقني إليه ) .
  ورواه الحاكم في المستدرك ج 2 ص 227 ، والبيهقي في سننه ج 1 ص 452 أما في زمن علي (ع) فصار في الكوفة دور لكتابة القرآن ... قال ابن أبي شيبة ج 7 ص 196 : ( حدثنا وكيع عن علي بن مبارك عن أبي حكيمة العبدي قال : كنا نكتب المصاحف بالكوفة فيمر علينا علي فينظر ويعجبه خطنا ويقول : هكذا نوروا ما نور الله ) .
  ويدل عليه أيضاً : أن النساء كان منهن قارئات وعندهن مصاحف ... فقد روى أحمد في مسنده ج 1 ص 415 : ( عن مسروق أن امرأة جاءت الى ابن مسعود فقالت أنبئت أنك تنهى عن الواصلة ؟ قال نعم ، فقالت : أشئ تجده في كتاب الله أم سمعته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال أجده في كتاب الله وعن رسول الله ، فقالت والله لقد تصفحت ما بين دفتي المصحف فما وجدت فيه الذي تقول ؟! قال : فهل وجدت فيه ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا قالت : نعم ) .
  ورواه مسلم في صحيحه ج 6 ص 167 وفيه ( فقالت المرأة لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته ! فقال لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه قال الله عزوجل وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهيكم عنه فانتهوا ) ، ومثله في سنن أبي داود ج 2 ص 283 وفي سنن البيهقي ج 7 ص 312

تدوين القرآن _ 138 _
  ويدل عليه أيضاً : الروايات التي تذكر عدداً كبيراً من الصحابة جمعوا القرآن في عهد النبي (ص) ... وقد حاول أكثر علماء إخواننا أن يفسروا جمعهم للقرآن بحفظهم له دون كتابته ويحصروه بذلك ، ولكن جمع القرآن تعبير يطلق على من حفظه فيكون معناه جمعه في صدره ، كما يطلق على من كتبه ودونه فيكون معناه جمعه في مصحف أو كتاب ... وعندما يرد تعبير جمع القرآن ويوجد معه قرينة تدل على نوع الجمع المقصود فهي المتبعة ، وإن لم توجد قرينة فينبغي أن يحمل الجمع على المعنى الأقرب والأكثر شيوعاً وهو جمع القرآن بكتابته ، وإن أبيت فيبقى معناه مجملاً يحتمل المعنيين ، لأن ترجيح أحدهما على الآخر بلا مرجح !
  وسترى أنه يوجد في عدد من أحاديث الجمع قرائن تدل على أن المقصود به جمع الكتابة ، كقول أبي بن كعب جمع القرآن فلان ابن عمنا وتوفي ونحن ورثناه ... فإنه يقصد ورثنا مصحفه لا ورثنا حفظه للقرآن ، خاصة وأن أبياً قد يكون حفظه قبله !!
  قال البخاري في صحيحه ج 4 ص 228 : ( باب مناقب زيد بن ثابت ... عن أنس رضي الله عنه : جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة كلهم من الأنصار : أبي ، ومعاذ بن جبل ، وأبو زيد ، وزيد ابن ثابت ، قلت لأنس من أبو زيد ؟ قال أحد عمومتي ) .
  وروى البخارى في ج 6 ص 103 : ( ... حدثنا قتادة قال سألت أنس ابن مالك رضي الله عنه من جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم قال أربعة كلهم من الأنصار أبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد ، تابعه الفضل ... عن أنس قال : مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة : أبو الدرداء : ومعاذ بن جبل : وزيد بن ثابت : وأبو زيد ، قال ونحن ورثناه ) .
  وروى الأول مسلم في ج 7 ص 149 وص 150والترمذي في ج 5 ص 331 وأحمد في ج 3 ص 233 وص 277 والبيهقي في سننه ج 6 ص 211 ورواه أحمد في مسنده ج 3 ص 233 و277 وغيرها وابن الأثير في أسد الغابة ج 3 ص 106 والمزي في تهذيب الكمال ج 14 ص 186 والهندي في كنز العمال ج 2 ص 576 والذهبي في سير أعلام النبلاء ج 2 ص 6 ... وغيرهم .
  وقال ابن الأثير في أسد الغابة ج 4 ص 216 : ( قال أبو عمر إنما أراد أنس بهذا الحديث الأنصار ، وقد جمع القرآن من المهاجرين جماعة منهم علي وعثمان وابن مسعود وعبد الله بن عمرو بن العاص وسالم مولى أبي حذيفة أخرجه الثلاثة ) .
  وقال الدكتور صبحي الصالح في كتابه مباحث في علوم القرآن ص 66 : ( والسيوطي في الإتقان يذكر بعض هؤلاء القراء بأسمائهم التي وردت في كتاب القراءات المنسوب الى أبي عبيد ، فيفهم منه أن أبا عبيد ( عد من المهاجرين الخلفاء الأربعة ، وطلحة ، وسعداً ، وابن مسعود ، وحذيفة ، وسالماً ، وأبا هريرة ، وعبدالله بن السائب ، والعبادلة ، وعائشة ، وحفصة ، وأم سلمة ، ومن الأنصار عبادة بن الصامت ، ومعاذاً الذي يكنى أبا حليمة ، ومجمع بن جارية ، وفضالة بن عبيد ، ومسلمة بن مخلد ، وقد صرح بأن بعضهم إنما كمله بعد النبي صلى الله عليه وسلم .
  وهؤلاء الذين عدهم القاسم بن سلام من المهاجرين والأنصار وأمهات المؤمنين ليسوا إلا طائفة من الأصحاب الذين جمعوا كتاب الله في صدورهم ( ... ) وتيسر لهم أن يعرضوه على النبي صلى الله عليه وسلم ، فكانوا بذلك تلامذة له وكان شيخاً لهم ، لكن الذين حفظوا القرآن من الصحابة من غير أن يعرضوه على الرسول لا يحصون عدداً ، ولا سيما إذا أدخلنا في عدادهم من لم يكمل له الجمع إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي مقدمة ( طبقات القراء ) للحافظ الذهبي ما يبين ذلك ، وأن هذا العدد هم الذين عرضوه على النبي صلى الله عليه وسلم واتصلت بنا أسانيدهم ، وأما من جمعه منهم ولم يتصل بنا سندهم فكثير ) انتهى .
  ونحن نكتفي بذكر نماذج من هؤلاء الذين جمعوا القرآن وكتبوه ، والذين يصر بعض علماء إخواننا السنة على تسميتهم بالحفاظ فقط ، حتى تبقى فضيلة كتابة القرآن لغيرهم ... ونلفت الى أن الحافظ لكتاب يحتاج الى نسخته ليحفظ منها ، ومن النادر أن يحفظ شخص كتاباً من 400 صفحة بدون تكرار قراءة نسخته ! ولو كان حفظ هؤلاء الحفاظ عن طريق تكرار السماع من حافظ آخر لورد ذكر للحافظ الذي حَفَّظَ فلاناً أو فلاناً بتكرار القرآن عليه حتى حفظه ! مع أنه لم يرد شئ من ذلك !

تدوين القرآن _ 139 _
  قال الهيثمي في مجمع الزوائد ج 9 ص 312 : ( وعن عامر الشعبي قال جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة من الأنصار زيد بن ثابت وأبوزيد ومعاذ بن جبل وأبوالدرداء وسعد بن عبادة وأبيّ بن كعب وكان جارية بن مجمع قد قرأه إلا سورة أو سورتين ، رواه الطبراني مرسلاً وفيه إبراهيم بن محمد بن عثمان الحضرمي ولم أعرفه ، وبقية رجاله رجال الصحيح ) .
  ونحوه في كنز العمال ج2 ص 589 وأسد الغابة ج 1 ص 263 وج 4 ص 303 وتهذيب التهذيب ج 10 ص 43 .
  وقال في مجمع الزوائد ج 9 ص 402 : ( عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : كان سعد بن عبيد يسمى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم القاري ، رواه الطبراني مرسلاً ورجاله رجال الصحيح ) .
  وقال الطبري في تاريخه ج 2 ص 408 : ( قال الواقدي : في هذه السنة قدم جرير بن عبدالله البجلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلماً في رمضان فبعثه رسول الله الى ذى الخلصة فهدمها ، قال وفيها قدم وبر بن يحنس على الأبناء باليمن يدعوهم الى الإسلام فنزل علي بنات النعمان بن بزرج فأسلمن ، وبعث الى فيروز الديلمي فأسلم ، والى مركبود وعطاء ابنه ووهب بن منبه وكان أول من جمع القرآن بصنعاء ابنه عطاء بن مركبود ووهب بن منبه ، قال وفيها أسلم باذان وبعث الى النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامه ) .
  وقال البلاذري في فتوح البلدان ص 210 : ( قال ابن الكلبي : عمير بن سعد عامل عمر هو عمير بن سعد بن شهيد بن عمرو أحد الأوس ، وقال الواقدي : هو عمير بن سعد بن عبيد ، وقتل أبوه سعد يوم القادسية ، وسعد هذا هو الذي يروي الكوفيون أنه أحد من جمع القرآن على عهد رسول الله صلى عليه وسلم ) .
  وقال ابن الأثير في أسد الغابة ج 3 ص 333 : ( عبد الواحد غير منسوب أخرجه الباطرقاني في طبقات المقرئين روى ابن وهب عن خلاد بن سليمان ، قال وكان ممن جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وعبدالله بن مسعود ... قال أبوزرعة : عبدالواحد لم ينسب ، وخلاد مصري ) .
  وقال ابن كثير في البداية والنهاية ج 7 ص 72 : ( عمرو بن زيد بن عوف الأنصاري المازني شهد العقبة وبدراً ، وكان أحد أمراء الكراديس يوم اليرموك ، وقتل يومئذ ، وله حديث قال : قلت يا رسول الله في كم أقرأ القرآن ؟ قال : في خمس عشرة الحديث ، قال شيخنا أبو عبدالله الذهبي : ففيه دليل على أنه ممن جمع القرآن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ) .
  وقال في كنز العمال ج 13 ص 628 : ( عن الوليد بن عبدالله بن جميع قال حدثتني جدتي عن أم ورقة بنت عبدالله بن الحارث الأنصاري وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها ويسميها الشهيدة وكانت قد جمعت القرآن ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين غزا بدراً قالت له : أتأذن لي فأخرج معك أداوي جرحاكم وامرض مرضاكم لعل الله يهدي لي شهادة ؟ قال : إن الله مهد لك شهادة ، فكان يسميها الشهيدة وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمرها أن تؤم أهل دارها وكان لها مؤذن ... ـ ابن سعد وابن راهويه ، حل ، ق ، وروى د بعضه) .

تدوين القرآن _ 140 _
  وقال السمعاني في الأنساب ج 2 ص 134 : ( الجهني : بضم الجيم وفتح الهاء وكسر النون في آخرها ، هذه النسبة الى جهينة وهي قبيلة من قضاعة ... ومنهم ... عقبة بن عامر بن عبس بن عمرو بن عدي بن عمرو بن رفاعة بن مودوعة بن عدي بن غنم بن الربعة بن رشدان بن قيس بن جهينة الجهني ، شهد فتح مصر واختط بها وولي الجند بمصر ... توفي بمصر سنة ثمان وخمسين، وقبر في مقبرتها بالمقطم ، وكان يخضب بالسواد ، وكان عقبة قارئاً عالماً بالفرائض والفقه ، وكان فصيح اللسان شاعراً ، وكان له السابقة والهجرة ، وكان كاتباً ، وكان أحد من جمع القرآن ومصحفة بمصر الى الآن بخطه ، رأيته عند علي بن الحسن بن قديد على غير التأليف الذي في مصحف عثمان ، وكان في آخره : وكتب عقبة بن عامر بيده ، ورأيت له خطاً جيداً ، ولم أزل أسمع شيوخنا يقولون إنه مصحف عقبة لا يشكون فيه ، وروى عن رسول الله حديثاً كثيراً ) ، ونحوه في تهذيب التهذيب ج 7 ص 216 وقال في تعجيل المنفعة ص 140 : ( زهير بن قيس البلوى عن علقمة بن رمثة البلوي وعنه سويد ابن قيس ... وشهد فتح مصر وقتل ببرقة سنة ست وسبعين شهيداً ، قال وكان سبب قتله أن الروم نزلوا ببرقة فأمره عبد العزيز بن مروان أن ينهض إليهم وكان عبد العزيز عليه واجداً لأنه كان عامل أيلة فقاتل عبد العزيز لما دخل أبوه مصر ، فدار بينهما كلام فقال له عبدالعزيز إنك جلف جاف !
  فقال له زهير : يابن ليلى أتقول لرجل جمع القرآن قبل أن يجتمع أبواك ؟! وهو ذا أمر لا ردني الله إليك ومضى معه على البريد فالتقى بالروم واستشهد هو ومن معه كلهم ، وذكره ابن أبي حاتم ومن قبله البخاري ولم يذكرا فيه جرحاً ) .
  وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب ج 5 ص 98 : ( عبادة بن الصامت بن قيس ... أحد النقباء ليلة العقبة ، شهد بدراً فما بعدها ... وقال محمد بن كعب القرظي هو أحد من جمع القرآن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم رواه البخاري في تاريخه الصغير ، قال وأرسله عمر الى فلسطين ليعلم أهلها القرآن فأقام بها الى أن مات ، وقال ابن سعد عن الواقدي عن يعقوب بن مجاهد عن عبادة عن أبيه مات بالرملة سنة أربع وثلاثين وهو ابن 72 سنة ) انتهى .
  هذه الأدلة التي يمكن أن يضاف إليها غيرها حتى تبلغ خمسين دليلاً ... يكفي بعضها لإثبات أنه لم تكن توجد مشكلة عند المسلمين اسمها جمع القرآن !!
  ولكن الباحثين في أمور القرآن وعلومه من إخواننا السنة يريدون منا أن نغمض عيوننا عن أدلة وجود نسخ القرآن وانتشارها في عهد النبي(ص) وعهد أبي بكر وعمر .. مع أن الإسلام بلغ مناطق واسعة من الشرق والغرب ، وأقبلت الشعوب من ورثة الحضارة الفارسية والرومانية على قراءة القرآن ودراسته ... وكان في كل مدينة وربما في كل قرية من يقرأ ويكتب ويريد نسخة من القرآن المنزل على النبي الجديد ... بل كانت الرغبة والتعطش لسماع القرآن وتعلمه وقراءته موجة عارمة في شعوب كل البلاد المفتوحة ، حتى أولئك الذين لا يعرفون العربية !!
  يريدون منا أن نغمض عيوننا عن هذا الواقع وأن نقبل بدله نصوصاً قالت إن نسخة القرآن كانت تواجه خطر الضياع ، لأنها كانت مكتوبة بشكل بدائي ساذج على ... العظام وصفائح الحجارة وسعف النخل ... الخ ، وأن الدولة شمرت عزيمتها ونهضت لإنقاذ كتاب الله من الضياع والإندثار ... وشكلت لجنة تاريخية ، بذلت حهوداً مضنية في جمع القرآن ... حتى أنها استعطت آياته وسوره من الناس استعطاء على باب المسجد!
  لا بأس أن نمدح الصحابة وجهودهم لخدمة الدين والقرآن ... لكن بالمعقول ، فالمدح غير المعقول ابن عم الذم !!

تدوين القرآن _ 141 _
  ولا بأس أن نمدح الصحابة وجهودهم لخدمة الدين والقرآن ... لكن بشرط أن لا نوهن الدين والقرآن والرسول (ص) !
  والنتيجة : أن العقل والنصوص تقول لنا : لم تكن مشكلة في نَسْخِ القرآن ونشره ، بل كانت نُسَخُهُ مُيَسَّرَةً والمصاحف منتشرة ... ونصوص أخرى تقول : بل كانت توجد مشكلة ... وقد نهض الخلفاء أبو بكر وعمر لحلها .
  حسناً ... لننظر ماذا كانت المشكلة ... ؟!
  وصية النبي التي يرويها السنة بشأن القرآن صح عند إخواننا السنة أن النبي (ص) شهد لعدة أشخاص من صحابته بأنهم حفاظ القرآن ، وأمر المسلمين بأن يأخذوا القرآن منهم !
  فقد روى البخاري في صحيحه ج 6 ص 102 ( عن مسروق ذكر عبدالله بن عمر وعبدالله بن مسعود فقال لا أزال أحبه ، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : خذوا القرآن من أربعة : من عبدالله بن مسعود ، وسالم ، ومعاذ ، وأبيّ بن كعب ) وفي ج 4 ص 228 ( عن مسروق قال ذكر عبدالله بن مسعود عند عبدالله بن عمرو فقال ذاك رجل لا أزال أحبه سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول خذوا القرآن من أربعة : من عبدالله بن مسعود فبدأ به وسالم مولى أبي حذيفة ومعاذبن جبل وأبي بن كعب ) ، ورواها مسلم في صحيحه ج 7 ص 148 و 149 وجعل سالماً الرابع .
  ورواها أحمد في مسنده ج 2 ص 163 وص 190 وص 191 وجعل سالماً الرابع .
  وروى الأولى الترمذي في سننه ج 5 ص 338 وقال ( هذا حديث حسن صحيح ) .
  ورواها أحمد في مسنده ج 2 ص 191 والحاكم في مستدركه ج 3 ص 225 و227 بصيغة أخرى وقال ( صحيح الإسناد ولم يخرجاه ) والهندي في كنز العمال ج 2 ص 49 والهيثمي في مجمع الزوائد ج 9 ص 311 ... وروى في ج 9 ص 52 : ( وعن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خذوا القرآن من أربعة من ابن أم عبد ومعاذ وأبيّ وسالم ، ولقد هممت أن أبعثهم في الأمم كما بعث عيسى بن مريم الحواريين في بني إسرائيل ) انتهى .
  وصية النبي التي يرويها السنة والشيعة بشأن القرآن وصح عند الشيعة والسنة أن النبي (ص) أوصى أمته بأن تتمسك بعده بالقرآن والعترة ، وتأخذ منهم معالم دينها ... وذلك في حديث الثقلين الذي أكده النبي مراراً ، والذي صحت روايته عند الطرفين ... وهو برأينا حاكم على كل وصية أخرى ... فمن نصوصه ما رواه أحمد في مسنده ج 3 ص 17 ( عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إني أوشك أن أدعى فأجيب وإني تارك فيكم الثقلين كتاب الله عز وجل وعترتي ، كتاب الله حبل ممدود من السماء الى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، فانظروا بم تخلفوني فيهما ؟ ! ) .

تدوين القرآن _ 142 _
  وقد بلغت مصادر هذا الحديث من الكثرة وتعدد الطرق في المصادر ، أن أحد علماء الهند ألف في جمع أسانيده كتاب ( عبقات الأنوار ) من عدة مجلدات .
  وبموجب هذه الوصية كان على المسلمين بعد فقد نبيهم (ص) أن يأخذوا القرآن والسنة من آل النبي وعترته الذين عينهم ونص عليهم بأسمائهم ، وقد صحت أحاديث تسميتهم عند الطرفين أيضاً ... فقد روى مسلم في صحيحه ج 7 ص120 : ( ... عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال ما منعك أن تسب أبا التراب ؟ فقال أما ما ذكرت ثلاثاً قالهن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن أسبه ، لأن تكون لي واحدة منهن أحب إليَّ من حمر النعم ! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له وقد خلفه في بعض مغازيه فقال له علي يا رسول الله خلفتني مع النساء والصبيان فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبوة بعدي وسمعته يقول يوم خيبر لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله قال فتطاولنا لها فقال ادعوا لي علياً فأتي به أرمد فبصق في عينه ودفع الراية إليه ففتح الله عليه ، ولما نزلت هذه الآية فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال اللهم هؤلاء أهلي ) .
  ورواه أحمد في مسنده ج 1 ص 185 وروى الترمذي القسم الأخير منه ج 4 ص 293 ... وقال مسلم في ج 7 ص 130 : ( ... عن مصعب بن شيبة عن صفية بنت شبية قالت قالت عائشة خرج النبي صلى الله عليه وسلم غداة وعليه مرط مرجل من شعر أسود فجاء الحسن بن علي فأدخله ثم جاء الحسين فدخل معه ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء علي فأدخله ثم قال : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ) .
  ورواه الترمذي في ج 5 ص 30 و ص 328 في قصة أخرى قال : ( ... عن عمر بن أبي سلمة ربيب النبي صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويظهركم تطهيراً ، في بيت أم سلمة فدعا فاطمة وحسناً وحسيناً فجللهم بكساء وعليٌّ خلف ظهره فجلله بكساء ثم قال : اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ، قالت أم سلمة : وأنا معهم يا نبي الله ، قال أنت على مكانك وأنت على خير ، هذا حديث غريب من هذا الوجه من حديث عطاء عن عمر بن أبي سلمة ) ورواه الحاكم في مستدركه ج 2 ص 416 وقال ( هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه ) ورواه في ج 3 ص 108 وقال ( هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السياقة ) .
  ورواه في ج 3 ص 147 وما بعدها ، بعدة روايات وأكثر من مناسبة ، وقال فيها : ( هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه ... هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ! ) ورواه أحمد في مسنده ج 6 ص 292 وص 304 وأما بناء على الوصية التي تفرد بروايتها إخواننا السنة ، فقد كان الواجب بعد وفاة النبي أن ترجع الدولة الى الأربعة الذين عينهم النبي (ص) وهم ابن كعب وابن مسعود وابن معاذ وسالم غلام أبي حذيفة ... وتأخذ القرآن من أي واحد منهم ...

تدوين القرآن _ 143 _
بأي الوصيتين أخذ الخليفة عمر ؟
  لا نريد هنا مناقشة مواقف إخواننا السنة وخلفائهم من وصية النبي (ص) بعترته وأهل بيته (ع) ... فكلنا نعرف أن العترة الطاهرة قد واجهت في يوم وفاة النبي (ص) ، التهديد بحرق بيت فاطمة بمن فيه ... !! ومع ذلك فقد قام علي (ع) بواجبه نحو الأمة وقدم لهم نسخة القرآن بأمر النبي (ص) وخط علي ، ولكنهم رأوا ( المصلحة ) في عدم جعلها نسخة القرآن الرسمية... ورووا أن النبي أمر أن يؤخذ القرآن من هؤلاء القراء الأربعة ... فكان على الخليفة أن يكتب القرآن من إملاء أي واحد من هؤلاء الأربعة ، أو يجمعهم ليتداولوا فيما قد يكون بينهم من اختلاف في النص ، ثم يتفقوا على نسخة القرآن ، ويعممها الخليفة على بلاد المسلمين ... على هذا ... لم يكن هناك شئ اسمه مشكلة في أخذ القرآن ... أو القراءات ، لأن النبي (ص) عين للأمة مصدر القرآن سواء بالرواية المشتركة ، أو بالرواية التي تفرد بها إخواننا السنة .
  ولكن المشكلة نشأت لأن الخليفة لم يأخذ القرآن من أحد ... ! فقد كان له حساباته الخاصة التي أوجبت برأيه أن تبقى الدولة طيلة عهد أبي بكر وطيلة عهده بلا نسخة قرآن رسمية ... كما أبقاها بلا نسخة مدونة من الحديث النبوي ، بل منع حتى رواية الحديث ... فمن هذا الفراغ القرآني المتعمد ... نشأت مشكلة القراءات والمصاحف !!
  أما لماذا اختار الخليفة عمر هذا الفراغ ؟!
  فالجواب : يعلم ذلك عمر ، ورب عمر !
  وأما كيف سكت المسلمون ، ولم يطلبوا من الخليفة تعميم مصحف أهل البيت أو أحد مصاحف هؤلاء الأربعة ؟!!
  فالجواب : لقد طلب المسلمون من الخليفة ، وطالبوه ، وحاولوا أن يقوموا هم بجمع القرآن ... ولكن عمر منعهم وقال لا أسمح أن يقوم أحد بذلك ، أنا أقوم بجمع القرآن!!
  قال عمر بن شبة في تاريخ المدينة ج 2 ص 705 : ( حدثنا هارون بن عمر الدمشقي قال ، حدثنا ضمرة بن ربيعة ، عن إسماعيل بن عياش ، عن عمر بن محمد ، عن أبيه قال : جاءت الأنصار الى عمر رضي الله عنه فقالوا : نجمع القرآن في مصحف واحد ، فقال : إنكم أقوام في ألسنتكم لحن ، وإني أكره أن تحدثوا في القرآن لحناً ، فأبى عليهم .
  حدثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي قال ، حدثنا جرير ابن حازم ، عن عبد الملك بن عمير ، عن عبدالله بن معقل بن معاوية قال : قال عمر رضي الله عنه : لا يملينا في مصاحفنا إلا فتيان قريش وثقيف ) !!
  وقال ابن أبي شيبة في مصنفه ج 7 ص 151 : ( حدثنا أبو أسامة عن عمر بن حمة قال أخبرني سالم أن زيد بن ثابت استشار عمر في جمع القرآن فأبى عليه فقال : أنتم قوم تلحنون ، واستشار عثمان فأذن له ) .

تدوين القرآن _ 144 _
  وقال في كنز العمال ج 2 ص 578 : ( حدثنا إسماعيل بن عياش عن عمر بن محمد بن زيد عن أبيه أن الأنصار جاؤوا الى عمر بن الخطاب فقالوا : يا أمير المؤمنين نجمع القرآن في مصحف واحد ؟ فقال : انكم أقوام في ألسنتكم لحن وأنا أكره أن تحدثوا في القرآن لحناً وأبي عليهم !
  ... عن جابر بن سمرة قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : لا يملين في مصاحفنا هذه إلا غلمان قريش أو غلمان ثقيف ـ أبو عبيد في فضائله وابن أبي داود ) انتهى .
  يعني هذا القرار : أن الخليفة عمر رفض اعتماد مصحف علي الذي وجهه النبي (ص) لتأليفه !
  ثم رفض اعتماد مصحف واحد من الأربعة المشهود لهم من النبي (ص) !
  ثم رفض قبول أي مصحف تجمعه الأنصار ... وبذلك أسقط اثنين من الأربعة الذين عينهم النبي لأنهما أنصاريان ، وهما : معاذ بن جبل وأبي بن كعب !! وأراد قرآناً يمليه فتيان قريش وثقيف ، فأسقط بذلك عبدالله بن مسعود المكي لأنه هذلي ليس من قريش ولا ثقيف !!
  ولم يبق من الأربعة إلا سالم الفارسي غلام أبي حذيفة الأموي ... ! فهل اعتبره الخليفة قرشياً وأخذ منه القرآن ... ؟!
  كلا ... ما أخذ القرآن من سالم ، ولا من غيره ! حتى قتل سالم في حرب اليمامة في أواخر خلافة أبي بكر ... مع أن عمر صرح قبل وفاته بأن سالماً لو كان حياً لجعله خليفة على المسلمين من بعده !! قال ابن شبة في تاريخ المدينة ج 3 ص 922 : ( حدثنا موسى بن إسماعيل قال ، حدثنا أبوهلال قال ، حدثنا الحسن ، وعبدالله بن بريدة قالا : لما طعن عمر رضي الله عنه قيل له : لو استخلفت ؟ قال : لو شهدني أحد رجلين استخلفته ـ إني قد اجتهدت ولم أتم ـ أو وضعتها موضعها ، أبوعبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة ) .
  وفي نفس المصدر ج 3 ص 881 ( يابن عباس ... لو كان فيكم مثل سالم مولى أبي حذيفة لم أشكك في استخلافه ، لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول سالم مولى أبي حذيفة آمن وأحب الله فأحبه ) انتهى .
  ـ فكيف يقولون جمع الخليفة عمر القرآن ، الجمع الأول أو الجمع الثاني ... ثم جمعه عثمان الجمع الثالث ... وما قصة هذه الجموع ؟!
  الجواب : الجمع لا يكون جمعاً إلا إذا كانت له ثمرة ... فالجمع بلا مجموع اسم بلا مسمى ... وهكذا كان جمع الخليفة عمر للقرآن في عهد أبي بكر ثم في عهده ، كان اسم جمع واسم لجنة بلا نتيجة !!
  ـ ولماذا قام الخليفة عمر بهذا العمل الشكلي ؟!
  الجواب : لأن أهل البيت جاؤوا بمصحفهم فرده عمر عليهم ... وأراد الأنصار جمع القرآن فنهاهم عمر ... وقد يكون آخرون طالبوا بجمع القرآن أو أرادوا جمعه ... فنهاهم ، وقد يكون هددهم أو ضربهم ! بعد ذلك أعلن الخليفة أنه قام بتشكيل (لجنة) برئاسة شاب أنصاري ويقال يهودي هو زيد بن ثابت ، وجمع زيد أو عمر القرآن لكن بقيت نسخته عند عمر لا يراها إلا هو ، ولم تصل نسخة القرآن الى المؤمنين مع تشوقهم إليها ، وكأن المؤمنين أطفال اشترى لهم أبوهم عمر شيئاً عزيزاً ، لكن خبأه لهم عند أمهم حفصة !!

تدوين القرآن _ 145 _
  بل حتى الخليفة عمر لم يرو عنه أنه رجع يوماً ولا أرجع أحداً الى النسخة الأم التي عند الأم ... وحتى أم المؤمنين حفصة لم تستفد من هذه النسخة ، فقد تقدم أنها استكتبت نسخة لها !
  من هنا بدأت مشكلة تفاوت القراءات والمصاحف ... ثم أخذت تتراكم ، حتى تحولت الى أزمة وانفجرت في خلافة عثمان ، فكتب عثمان نسخة المصحف الرسمي ونشرها والحمد لله !!
  ويظهر من سياسة الخليفة عمر أنه كان يميل الى إبقاء نص القرآن مفتوحاً لاجتهاداته ، بحجة أنه أساساً نزل مفتوحاً لسبعة أحرف وأكثر ، ولا يريد فعلاً حصره في نسخة واحدة !
  ولعله كان ناوياً أن يكتب نسخة القرآن بالقراءة والمواصفات التي يثق بها ، ولكن الأجل لم يمهله !
  وهكذا تحول موقف الخليفة عمر الغريب وغير المبرر ، الى فضيلة لعمر وخدمة للقرآن ، وتحول قرآن علي وغيره من الصحابة ، الى تهمة بالخروج عن إجماع الأمة ... وكأن الأمة تعني عمر ، حتى لو كان الذين خالفوه كل الأمة ومعهم وصية نبيهم (ص) !!
  مواقف الخليفة عمر من حملة القرآن أولاً : مع كبير القراء أبي بن كعب الأنصاري شهادة عظيمة لأبي بن كعب رووها وخالفوها !!
  روى إخواننا السنة في صحاحهم أن الله جلت عظمته قد أمر رسوله (ص) أن يعلم القرآن لأبي بن كعب ... وبذلك فقد وجب على جميع المسلمين بمن فيهم أبو بكر وعمر وعثمان أن يأخذوا القرآن من أبي بن كعب ...!!
  قال البخارى في صحيحه ج 6 ص 90 : ( ... عن قتادة عن أنس بن مالك أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب : إن الله أمرني أن أقرئك القرآن قال آلله سماني لك ؟! قال نعم ، قال وقد ذكرت عند رب العالمين ؟!
  قال نعم ، فذرفت عيناه !! ) .
  وقال مسلم في ج 2 ص 195 : ( ... حدثنا شعبة قال سمعت قتادة يحدث عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب أن الله أمرني أن أقرأ عليك : لم يكن الذين كفروا ، قال وسماني لك ؟ قال نعم ، قال فبكى ) انتهى ، ورواه مسلم في ج 7 ص 150 ، ورواه البخاري في ج 4 ص 228 ، وروى قريباً من معناه ابن ماجة في سننه ج 1 ص 54 ـ وأحمد في مسنده ج 3 ص 281و لعل الخليفة عمر وجه المسلمين في أول خلافته الى أبي بن كعب ليأخذوا عنه القرآن ، ثم تراجع ونهاهم ... فقد روى البيهقي في سننه ج 6 ص 210 : ( ... حدثني موسى بن علي عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب الناس بالجابية ققال من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت أبيّ بن كعب ، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت ، ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل ، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني ، فإن الله تعالى جعلني له خازناً وقاسماً ) ، ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد ج 1 ص 135 ، والذهبي في سير أعلام النبلاء ج 1 ص 394 وتذكرة الحفاظ ج 1 ص 20 .

تدوين القرآن _ 146 _
  وروى البخاري في صحيحه ج 2 ص 252 أن الخليفة عمر عندما ابتدع صلاة التراويح جعل إمامتها لأبي بن كعب ( ... فقال عمر إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم قال عمر : نعم البدعة ) .
  ولعل أحاديث المدح والإحترام التي رويت عن عمر في حق أبي بن كعب صدرت في تلك الفترة من العلاقة الجيدة بينهما ، فقد روى المزي في تهذيب الكمال ج 2 ص 269 : ( عن أبي نضرة العبدي : قال رجل منا يقال له : جابر أو جويبر طلبت حاجة الى عمر في خلافته فانتهيت الى المدينة ليلاً ، فغدوت عليه وقد أعطيت فطنة ولساناً أو قال منطقاً فأخذت في الدنيا فصغرتها ، فتركتها لا تسوى شيئاً ، وإلى جنبه رجل أبيض الشعر أبيض الثياب ، فقال لما فرغت : كل قولك كان مقارباً إلا وقوعك في الدنيا ، وهل تدري ما الدنيا ؟ إن الدنيا فيها بلاغنا ، أو قال : زادنا الى الآخرة ، وفيها أعمالنا التي نجزى بها في الآخرة ، قال : فأخذ في الدنيا رجل هو أعلم بها مني ، فقلت يا أمير المؤمنين من هذا الرجل الذي الى جنبك ؟ قال سيد المسلمين أبي بن كعب !! ) انتهى.
  ولكن على رغم هذه الشهادات الضخمة بحق أبي ، وعلاقته المميزة مع الخليفة ... فإن الخليفة لم يأخذ عنه القرآن ، ولم يعتمد مصحفه مصحفاً رسمياً للدولة مع شدة حاجة المسلمين الى ذلك ... بل تروي الصحاح اختلافات كثيرة بينهما بسبب أن عمر أراد أن يفرض رأيه على أبيٍّ في آيات القرآن ، بينما كان أبي يرفض ذلك ويقف في وجه الخليفة ... ! كما تروي الصحاح أن العلاقة بينهما قد ساءت الى حد أن عمر أهان أبياً وضربه بالسوط عند خروجه من المسجد على مرأى جماعته ومسمعهم ... !
  الصراع بين عمر وأبي على قراءة القرآن !!
  روت مصادر إخواننا نماذج متعددة من هذا الخلاف ، وقد تفاوتت مواقف الخليفة الى حد التناقض ... ففي بعضها كان يخضع لقول أبي ويعتذر إليه ... وفي بعضها كانا يفترقان بدون نتيجة عملية ... وفي بعضها كان الخليفة يصر على رأيه ويأمر المسلمين بكتابة المصحف على ما يقوله هو ومحو ما يقوله أبيٌّ ... ! الخ.
  وقد عرضنا في فصل القراءات الشخصية ومحاولات التحريف ، نماذج من روايات اختلافه معه ... ونذكر هنا ما رواه الحاكم في المستدرك ج 2 ص 225 : ( ... عن ابن عباس رضي الله عنهما قال بينما أنا أقرأ آية من كتاب الله عزوجل وأنا أمشي في طريق من طرق المدينة فإذا أنا برجل يناديني من بعدي : أتبع ابن عباس ، فإذا هو أميرالمؤمنين عمر ، فقلت اتبعك علي أبي بن كعب فقال : أهو أقرأكها كما سمعتك تقرأ ؟ قلت نعم ، قال فأرسل معي رسولاً قال إذهب معه الى أبي بن كعب فانظر يقرأ أبي كذلك ، قال فانطلقت أنا ورسوله الى أبي بن كعب قال فقلت يا أبي قرأت آية من كتاب الله فناداني من بعدي عمر بن الخطاب اتبع ابن عباس فقلت اتبعك على أبي بن كعب فأرسل معي رسوله أفأنت أقرأتنيها كما قرأت ؟ قال أبي نعم ، قال فرجع الرسول إليه فانطلقت أنا الى حاجتي قال فراح عمر الى أبي فوجده قد فرغ من غسل رأسه ووليدته تدري لحيته بمدراها ، فقال أبي : مرحباً يا أميرالمؤمنين أزائراً جئت أم طالب حاجة ؟ فقال عمر بل طالب حاجة ، قال فجلس ومعه موليان له حتى فرغ من لحيته وأدرت جانبه الأيمن من لمته ثم ولاها جانبه الأيسر ، حتى إذا فرغ أقبل الى عمر بوجهه فقال : ما حاجة أميرالمؤمنين ؟ فقال عمر : يا أبي على ما تقنط الناس ؟ فقال أبي : يا أميرالمؤمنين إني تلقيت القرآن من تلقاء جبريل وهو رطب ، فقال عمر : تالله ما أنت بمنته وما أنا بصابر ، ثلاث مرات ، ثم قام فانطلق ! هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ) انتهى .

تدوين القرآن _ 147 _
  ومن ذلك : ما رواه في كنز العمال ج 13 ص 261 : ( عن الحسن أن عمر بن الخطاب رد على أبي بن كعب قراءة آية فقال أبي : لقد سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت يلهيك يا عمر الصفق بالبقيع ! فقال عمر : صدقت !
  إنما أردت أن أجربكم هل منكم من يقول الحق ، فلا خير في أمير لا يقال عنده الحق ولا يقوله ! ـ ابن راهويه .
  ... عن أبي إدريس الخولاني أن أبي بن كعب قال لعمر : والله يا عمر ! إنك لتعلم أني كنت أحضر وتغيبون وأدنى وتحجبون ويصنع بي ويصنع بي والله لئن أحببت لألزمن بيتي فلا أحدث شيئاً ولا أقرئ أحداً حتى أموت ، فقال عمر بن الخطاب اللهم غفراً ، إنا لنعلم أن الله قد جعل عندك علماً فعلم الناس ما علمت ـ ابن أبي داود في المصاحف ، كر ) ... ومن ذلك : ما رواه السيوطي في الدر المنثور ج 2 ص 344 : ( وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن عدي عن أبي مجلز أن أبي بن كعب قرأ من الذين استحق عليهم الأوليان قال عمر كذبت ! قال أنت أكذب ! فقال رجل : تكذب أمير المؤمنين ؟ قال أنا أشد تعظيماً لحق أمير المؤمنين منك ، ولكن كذبته في تصديق كتاب الله ولم أصدق أمير المؤمنين في تكذيب كتاب الله !! فقال عمر : صدق ) .
  ومن ذلك : موقف غريب للخليفة رواه البخاري في صحيحه ج 5 ص 149 : ( ... عن حبيب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال عمر رضي الله عنه : أقرؤنا أبي ، وأقضانا علي ، وإنا لندع من قول أبي ، وذاك أن أبيّاً يقول لا أدع شيئاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال الله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسؤها ) انتهى .
  ورواه بتفاوت يسير في ج 6 ص 103 ، ورواه أحمد ج 5 ص 113 بثلاث روايات .
  ورواه في كنز العمال ج 2 ص 592 وقال في مصادره ( خ ، ن ، وابن الأنباري في المصاحف ، قط في الإفراد ، ك ، وأبو نعيم في المعرفة ، ق ، الدلائل ) ورواه الذهبي في سير أعلام النبلاء ج 1 ص 391 وص 394 وتذكرة الحفاظ ج 1 ص 20 وفي كثير من رواياته : ( وإنا لندع من لحن أبيٍّ ، وفي بعضها : كثيراً من لحن أبيٍّ !!
  ومعنى ذلك أن الخليفة يشهد بأن أبياً أقرأ الصحابة للقرآن ، ولكنه ليس أقرأهم !! والسبب أن أبياً يلحن ويغلط في نص القرآن ، وأنه لا يعلم المنسوخ من القراءات ، فهو يقرأ آيات نسخها النبي (ص) ولم يعرف أبيٌّ ذلك ... بينما عمر لا يلحن ويعرف المنسوخ ، فيحق له أن يقبل قراءة أبي أو يرفضها ، ويأمر المسلمين باتباع رأيه وترك رأي أبيّ ... !!
  الخليفة عمر يضع حداً لصراعه مع أبيّ بن كعب !!
  ولم يقف سوء العلاقة بينهما عند هذا الحد ... بل تطور حتى وصل الى نهايته المعلومة مع الخليفة عمر ، وهي السوط على رأس ووجه أكبر شيبة في الأنصار ، وأكبر حفظة القرآن بشهادة الخليفة ! وذلك عندما خرج أبي بن كعب من مسجد النبي أو كان داخل المسجد ، على مرأى جماعته ومسمعهم ... ! وبذلك نفذ خليفة النبي وصية النبي معكوسة تماماً ، كما نفذ وصية النبي بآله وعترته (ص) !!

تدوين القرآن _ 148 _
  وقد أغفلت الصحاح الستة قصة ضرب عمر لكعب ، لكن روتها مصادر أخرى موثوقة عند إخواننا السنة ، ولكنها تفاوتت في ذكر السبب ... والذي يظهر من رواية الراغب في محاضرات الأدباء ج 1 ص 133 أن السبب هو مشي عدد من التلاميذ والمحبين لأبيّ خلفه في الطريق ! قال الراغب ( ... ونظر عمر رضي الله عنه الى أبي بن كعب وقد تبعه قوم ، فعلاه بالدرة وقال : إنها فتنة للمتبوع ومذلة للتابع ) .
  ولكن الدارمي وعمر بن شبة صرحا بأن السبب أن أبيّاً خالف أمر الخليفة بعدم تحديث الناس عن النبي (ص) !! قال الدارمي في سننه ج 1 ص 132 : ( ... عن سليمان بن حنظلة قال أتينا أبي بن كعب لنحدِّث إليه فلما قام قمنا ونحن نمشي خلفه ، فرهقنا عمر فتبعه فضربه عمر بالدرة قال فاتقاه بذراعيه فقال يا أمير المؤمنين ما تصنع ؟!! قال : أو ما ترى ؟ فتنة للمتبوع مذلة للتابع ! ) انتهى .
  وقال ابن شبة في تاريخ المدينة ج 2 ص 691 : ( ... حدثني أبو عمرو الجملي ، عن زاذان : أن عمر رضي الله عنه خرج من المسجد فإذا جمع على رجل فسأل : ما هذا ؟ قالوا : هذا أبي بن كعب ، كان يحدث الناس في المسجد فخرج الناس يسألونه ، فأقبل عمر رضي الله عنه حرداً فجعل يعلوه بالدرة خفقاً ، فقال : يا أمير المؤمنين أنظر ما تصنع ، قال : فإني على عمد أصنع ، أما تعلم أن هذا الذي تصنع فتنة للمتبوع مذلة للتابع !! ) ويمكن أن نضيف الى السببين المصرح بهما سببين آخرين قد يكونا أعظم منهما في رأي عمر وهما : وقوف أبي في مواجهة عمر في جملة من مسائل القرآن ، خاصة عندما حاول تحريف آية الأنصار ... وأن عمر ما زال يضطغن على أبي بن كعب أنه كان مع سعد بن عبادة وكثير من الأنصار معارضين لفرضه بيعة أبي بكر ... فقد كان أبي بن كعب مع الذين اعتصموا في بيت فاطمة وهاجمهم عمر وأشعل الحطب في باب البيت وهددهم بإحراقه على من فيه !! فبقيت في نفس عمر حتى وجد لها مناسبة !
  قال ابن واضح اليعقوبي في تاريخه ج 2 ص 124 : ( وتخلف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار ، ومالوا مع علي بن أبي طالب ، منهم : العباس بن عبدالمطلب والفضل بن العباس والزبير بن العوام بن العاص ، وخالد بن سعيد ، والمقداد بن عمرو ، وسلمان الفارسي ، وأبوذر الغفاري ، وعمار بن ياسر ، والبراء بن عازب ، وأبيّ بن كعب ، فأرسل أبو بكر الى عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح والمغيرة بن شعبة ، فقال : ما الرأي ؟ قالوا : الرأي أن تلقى العباس بن عبد المطلب ، فتجعل له في هذا الأمر نصيباً يكون له ولعقبه من بعده ، فتقطعون به ناحية علي بن أبي طالب حجة لكم على علي ، إذا مال معكم ، فانطلق أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح والمغيرة حتى دخلوا على العباس ليلاً ...

تدوين القرآن _ 149 _
  واجتمع جماعة الى علي بن أبي طالب يدعونه الى البيعة له ، فقال لهم : أغدوا عليَّ غداً محلقين الروؤس ، فلم يغد عليه إلا ثلاثة نفر ، وبلغ أبا بكر وعمر أن جماعة من المهاجرين والأنصار قد اجتمعوا مع علي بن أبي طالب في منزل فاطمة بنت رسول الله ، فأتوا في جماعة حتى هجموا الدار ... ) انتهى .
  على أي حال ، فإن من يقرأ ما روته الصحاح عن علم أبي بن كعب بالقرآن وحفظه له ، ثم يقرأ ما فعله الخليفة عمر معه ... يجد نفسه ملزماً بالحكم على الخليفة بأنه لم ينفذ وصية النبي (ص) في حق أبيّ ، بل عمل بعكسها تماماً !!
  ثانياً : مع ثاني القراء عبدالله بن مسعود الهذلي شهادة عظيمة لابن مسعود روتها مصادر السنة أيضاً روى أحمد في مسنده ج : 1 ص 38 : ( ... عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال مر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه وأبوبكر رضي الله عنه على عبدالله بن مسعود وهو يقرأ فقام فسمع قراءته ، ثم ركع عبدالله وسجد قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سَلْ تُعْطَهْ ، سل تعطه ، قال ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : من سره أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل فليقرأه من ابن أم عبد ، قال فادلجت الى عبدالله بن مسعود لأبشره بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فلما ضربت الباب أو قال لما سمع صوتي قال ما جاء بك هذه الساعة ؟ قلت جئت لأبشرك بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال قد سبقك أبوبكر رضي الله عنه ، قلت إن يفعل فإنه سباق بالخيرات ، ما استبقنا خيراً قط إلا سبقنا إليها أبو بكر ) انتهى .
  ورواه أحمد أيضاً في ج 1 ص 454 و ج 4 ص 278 ، وابن ماجة في سننه ج 1 ص 49 ، والحاكم في المستدرك ج 2 ص 227 وصححه على شرط الشيخين ، ورواه في ج 3 ص 317 وقال ( هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ) وفي ص 318 وقال ( هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ) ، ورواه البيهقي في سننه ج 1 ص 452 و ج 2 ص 153 والهيثمي في مجمع الزوائد ج 9 ص 287 و ص 288 ورواه في كنز العمال ج 2 ص 51 وفي ج 11 ص 710 وج 13 ص 460 وقال في مصدره ( البزار وصححه ) ، ورواه في ج 11 ص 710 ، وروى في ج 13 ص 461 أن الخليفة عمر أكد مكانة ابن مسعود عندما جعله والياً على بيت مال الكوفة فكتب الى أهل الكوفة ( يا أهل الكوفة ، أنتم رأس العرب وجمجمتها ، وسهمي الذي أرمي به إن أتاني شئ من ههنا وههنا ، وإني بعثت إليكم عبد الله بن مسعود واخترته لكم وآثرتكم به على نفسي أثرة ـ ابن سعد ، ص ) انتهى .
  ولكن مع كل هذا التأكيد النبوي ، والاحترام العمري ، فإن الخليفة عمر لم يأخذ القرآن من عبدالله بن مسعود ولم يعتمد مصحفه مصحفاً رسمياً للدولة ! بل عندما سمع عنه وهو في الكوفة أنه قرأ الآية الفلانية قراءة لم تعجب الخليفة أرسل إليه رسالة الى الكوفة يتهمه فيها بأنه لا يقرأ القرآن كما أنزل ، فقد أنزل القرآن بلغة قريش بينما ابن مسعود يحرفه ويقرؤه بلغة قبيلته هذيل !!
  قال عمر ابن شبة في تاريخ المدينة ج 3 ص 1010 : ( ... عن عبد الرحمن بن عبدالله ـ يعني أبيّ بن كعب بن عجرة ـ عن أبيه ، عن جده قال : كنت عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقرأ رجل من سورة يوسف ( عتا حين ) فقال عمر رضي الله عنه : من أقرأك هكذا ؟ قال : ابن مسعود ، فكتب عمر رضي الله عنه الى ابن مسعود : أما بعد ، فإن الله أنزل هذا القرآن بلسان قريش ، وجعله بلسان عربي مبين ، فأقرئ الناس بلغة قريش ، ولا تقرئهم بلغة هذيل والسلام ! ) .

تدوين القرآن _ 150 _
  وقال السيوطي في الدر المنثور ج 4 ص 18 : ( وأخرج ابن الأنباري في كتاب الوقف والإبتداء والخطيب في تاريخه عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك رضي الله عنه عن أبيه قال سمع عمر رضي الله عنه رجلاً يقرأ هذا الحرف ليسجننه عتى حين فقال له عمر رضي الله عنه من أقرأك هذا الحرف ؟ قال ابن مسعود رضي الله عنه ، فقال عمر رضي الله عنه ليسجننه حتى حين ، ثم كتب الى ابن مسعود رضي الله عنه سلام عليك أما بعد فإن الله أنزل القرآن فجعله قرآناً عربياً مبيناً وأنزله بلغة هذا الحي من قريش ، فإذا أتاك كتابي هذا فأقرئ الناس بلغة قريش ولا تقرئهم بلغة هذيل !! ) .
  ورواه في كنز العمال ج 2 ص 593 وهذا الموقف غريب من الخليفة ، فهو الذي روى شهادة النبي (ص) بأن ابن مسعود يقرؤه غضاً طرياً كما أنزله الله تعالى ... وروى أن النبي حث المسلمين على القراءة بقراءة ابن أم عبد ... وهو الذي توسع في قراءات القرآن الى سبعة أحرف وأكثر ... وهو الذي توسع في نص القرآن حتى جوز قراءته بالمعنى كما قدمنا ... ومع كل ذلك ضاق صدره عن قراءة ابن مسعود لآية واحدة !!
  الواقع أن المسألة ليست قراءة آية ، خاصة أن عمر لم يذكر الآية ... بل هي أن الخليفة عمر يريد حصر مصدر القرآن وقراءاته به ... فليس من حق أحد أن يقرأ إلا كما يقرأ عمر ، حتى لو كان قارئه شهد له النبي بأن قراءته صحيحة دقيقة كما نزل بها جبرئيل (ع) !!
  هذا هو لب القضية ... ونظريات التوسع والتوسعة كلها للخليفة وحده ، ولمن أجاز له القراءة بها وحده !!
  وقد فصَّلَ عمرو بن العاص شهادته على ما أراده عمر فقال ، كما في كنز العمال ج 12 ص 593 : ( عن عمرو بن العاص قال : أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما أقرأكم عمر فاقرؤوا ، وما أمركم به فائتمروا ! ـ كر ) ، ورووا شهادة مماثلة عن جابر بن عبدالله الأنصاري ! قال ابن أبي شيبة في مصنفه ج 7 ص 183 : ( حدثنا حسين بن علي عن زائدة عن عبدالملك بن عمير عن قبيصة عن جابر قال : ما رأيت أحداً كان أقرأ لكتاب الله ولا أفقه في دين الله ولا أعلم بالله من عمر ) !
  بل رووا شهادة عن لسان عبدالله بن مسعود أسقط فيها نفسه من شهادة النبي (ص) وأعطاها لعمر !! قال الحاكم في مستدركه ج 3 ص 86 : ( ... عن زيد بن وهب عن ابن مسعود رضي الله عنه : كان عمر أتقانا للرب ، وأقرأنا لكتاب الله !! ) انتهى ، ولكن هل يعقل في حق ابن مسعود الذي ائتمنه النبي على نص وقال للناس خذوه منه ... أن يقول لهم : بل خذوه من فلان ؟! بل لو صح ذلك عنه لجرح بعدالته !
  وقد حاول ابن عبد البر أن يبرر نهي عمر لابن مسعود ، وغاية ما وصل اليه أنه ليس نهياً حقيقياً ... فكأن الخليفة عمر كان يمزح في رسالته الصريحة من المدينة الى الكوفة !! قال محمد طاهر الكردي في تاريخ القرآن الكريم ص 39 : ( وأخرج أبوداود من طريق كعب الأنصاري أن عمر كتب الى ابن مسعود أن القرآن نزل بلسان قريش فاقرئ الناس بلغة قريش لا بلغة هذيل ، قال ابن عبدالبر : يحتمل أن يكون هذا من عمر على سبيل الإختيار لا أن الذي قرأ به ابن مسعود لا يجوز ، قال وإذا أبيحت قراءته على سبعة أوجه أنزلت جاز الإختيار فيما أنزل ، انتهى ، من فتح الباري على صحيح البخاري ) انتهى .

تدوين القرآن _ 151 _
  من جهة أخرى ، من قال إن هذيلاً يقلبون الحاء عيناً ويلفظون ( حتى ) ( عتى ) فقد كانت هذيل تعيش مع قريش وتتصف بفصاحتها ، حتى أن الخليفة عثمان تمنى أن يكون مملي القرآن من هذيل لأن لغته لغة قريش ، وأن يكون الكاتب من ثقيف لقربهم منهم وإجادتهم الكتابة ... روى في كنز العمال ج 2 ص 586 وص 587 : ( عن أبي المليح قال قال عثمان بن عفان حين أراد أن يكتب المصحف تملي هذيل ... عن عكرمة قال لما أتي عثمان بالمصحف رأى فيه شيئاً من لحن فقال لو كان المملي من هذيل والكاتب من ثقيف لم يوجد فيه هذا ـ ابن الأنباري وابن أبي داود ) .
  ويبدو من النص الذي تقدم في أدلة جمع القرآن في زمن النبي (ص) ، أن الخليفة عمر كان متسامحاً مع ابن مسعود في أول الأمر ، فتركه يملي المصاحف على الناس ... ثم تغيرت سياسته معه .
  والنتيجة : أن عبدالله بن مسعود كان محترماً عند الخليفة عمر ، وقد تحمل الكثير حتى حافظ على مكانته عنده ... ولكن ذلك لم يشفع له لينفذ عمر فيه وصية النبي (ص) ويأخذ القرآن منه ... بل حدث عكس ذلك ووقع ابن مسعود تحت تأثير الخليفة عمر في الأحرف السبعة وغيرها ، حتى وقف في عهد عثمان ضد توحيد نسخة القرآن ... الأمر الذي يوجب برأينا إعادة النظر في أصل رواية وصية النبي (ص) بأخذ القرآن من ابن مسعود ... لكن الرواية عند إخواننا ثابتة وصحيحة !

قارئا الخليفة المفضلان
  الأول : عبد الرحمن بن أبزى من هو عبد الرحمن بن أبزى ؟
  ذكر الحموي في معجم البلدان ج 1 ص 411 معنى كلمة أبزى ، فقال ( البزواء بالفتح والمد والبزا : خروج الصدر ودخول الظهر ، يقال : رجل أبزى وامرأة بزواء ) انتهى .
  وعبد الرحمن بن أبزى شاب حبشي كان في زمن الخليفة عمر صغير السن لأنه توفي نحو سنة 72 هجرية كما ذكر الذهبي ، وهو غلام لنافع بن عبدالحارث بن حبالة الملكاني حليف خزاعة ، ونافع هذا من أهل مكة ومسلمة الفتح ... قال ابن الأثير في أسد الغابة ج 5 ص 7 : ( نافع بن عبدالحارث بن حبالة بن عمير بن غبشان ، واسمه الحارث بن عبد عمرو بن لؤي ابن ملكان بن أقصى الخزاعي ، نسبه كلهم الى خزاعة وساقوا نسبه الى ملكان وهو أخو خزاعة وأخو أسلم ، ويقال لبعض ولده خزاعي لقلة بني ملكان فنسبوا الى خزاعة ! ولنافع صحبة ورواية واستعمله عمر بن الخطاب رضي الله عنه على مكة والطائف وفيهما سادة قريش وثقيف ، وخرج الى عمر واستخلف على مكة مولاه عبد الرحمن بن أبزى فقال له عمر استخلفت على آل الله مولاك فعزله واستعمل خالد ابن العاص بن هشام ، وكان نافع من فضلاء الصحابة وكبارهم ( ... ) وقيل أسلم يوم الفتح وأقام بمكة ولم يهاجر ! روى عنه أبو سلمة وحميد وأبوالطفيل ) انتهى!
  ولكن الظاهر أن الخليفة عمر لم يعزل ابن أبزى بل أعجبه وأقره نائباً لواليه على مكة والطائف ، ثم استقدمه الى المدينة فكان من خاصته وولاته ، وادعى ابن الأثير أن علياً (ع) ولاه على خراسان ، ولم يؤيده الآخرون ...

تدوين القرآن _ 152 _
  وقد ترجم البخاري لابن أبزى في تاريخه ج 5 ص 245 فقال : ( عبد الرحمن بن أبزى مولى خزاعة الكوفي ، له صحبة ، قال عمرو بن محمد حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني سلمة بن كهيل الحضرمى : عن عبدالله بن عبد الرحمن بن أبزى من قدماء موالي أهل مكة ).
  وروى له البخاري في صحيحه في ج 1 ص 87 و88 فتوى الخليفة عمر بعدم التيمم وعدم الصلاة لمن لم يجد ماء !! وفي ج3 ص44 و45 و46 في شراء السلف ، وفي ج 4 ص 239 و ج 6 ص 15 في التوبة على قاتل النفس المحترمة ، وروى له مسلم في ج1 ص 193 وج 8 ص 242 .
  وروى في ج 2 ص 201 : ( ... عن عامر بن واثلة أن نافع بن عبد الحارث لقى عمر بعسفان وكان عمر يستعمله على مكة فقال من استعملت على أهل الوادي ؟ فقال ابن أبزى قال ومن ابن أبزى ؟ قال مولى من موالينا قال فاستخلفت عليهم مولى ؟ قال إنه قارئ لكتاب الله عز وجل وإنه عالم بالفرائض ، قال عمر : أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين ) وهذا يؤيد أن عمر لم يعزله ، خاصة وأنه عالم بالفرائض ، أي تقسيم الإرث وحساب الماليات ، كما سنرى في زيد بن ثابت .
  وفي كنز العمال ج 13 ص 560 : ( عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : خرجت مع عمر ابن الخطاب الى مكة فاستقبلنا أمير مكة نافع بن الحرث فقال : من استخلفت على أهل مكة ؟ قال : عبد الرحمن بن أبزى ، قال : عمدت الى رجل من الموالي فاستخلفته على من بها من قريش وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ! قال : نعم وجدته أقرأهم لكتاب الله .
  ومكة أرض محتضرة فأحببت أن يسمعوا كتاب الله من رجل حسن القراءة . قال نعم ما رأيت إن عبد الرحمن بن أبزى ممن يرفعه الله بالقرآن ـ ع ) انتهى .
  ابن ابزي شارب خمر وروى النسائي لابن أبزى في ج 1 ص 165 و 168 و 169 وج 3 ص 235 و 244 و245 و247 و250 وج 7 ص 289 وج 8 ص 62 .
  وروى له في ج 8 ص 335 رواية تدل الى أنه كان يشرب الخمر ولا يكتفي بالنبيذ ، قال النسائي : ( عن سفيان عن سلمة بن كهيل عن ذر بن عبدالله عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه قال سألت أبي بن كعب عن النبيذ فقال : إشرب الماء ، واشرب العسل ، واشرب السويق ، واشرب اللبن الذي نجعت به ، فعاودته فقال : الخمر تريد ، الخمر تريد !! ) .
  وفي كنز العمال ج 5 ص 523 : ( عن ابن أبزى عن أبيه قال : سألت أبي بن كعب عن النبيذ فقال : إشرب الماء ، واشرب السويق ، واشرب اللبن الذي نجعت به ، قلت لا توافقني هذه الأشربة ، قال : فالخمر إذا تريد ! ـ عب ) .

تدوين القرآن _ 153 _
  وروى ولايته بالنيابة على مكة ابن ماجة ج 1 ص 79 وروى له في ج 1 ص 188 و 370 و374 وج2 ص 766 ورواها الدارمي ج 2 ص 443 وروى له في ج 1 ص 190 ورواها أحمد في مسنده ج1 ص 35 وروى له في ج1 ص 8 و64 وج 3 ص 406 وج 4 ص 263 و265 و319 و320 وج 5 ص 122 وروت له بقية الصحاح وغيرها ... ولعل أهم ما رووا له أن الخليفة عمر كان يقنت بالسورتين الخلع والحفد اللتين زعموا أنهما من القرآن ، فقد روى ذلك البيهقي في سننه ج 2 ص 211 والهندي في كنز العمال ج 8 ص 74 و75 : ( عن عبد الرحمن بن أبزى أن عمر قنت في صلاة الغداة قبل الركوع بالسورتين : اللهم إنا نستعينك ، واللهم إياك نعبد ـ الطحاوي ) .
  وترجم له الذهبي في سير أعلام النبلاء ج 3 ص 201 ، فقال : ( عبد الرحمن بن أبزى الخزاعي له صحبة ورواية وفقه وعلم . وهو مولى نافع بن عبد الحارث ، كان نافع مولاه استنابه على مكة حين تلقى عمر بن الخطاب الى عسفان ، فقال له : من استخلفت على أهل الوادي يعني مكة ؟ قال : ابن أبزى ، قال ومن ابن أبزى ؟ قال : إنه عالم بالفرائض ، قارئ لكتاب الله ، قال : أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قال إن هذا القرآن يرفع الله به أقواماً ، ويضع به آخرين ، وحدث عبد الرحمن أيضاً عن أبي بكر ، وعمر ، وأبي بن كعب ، وعمار بن ياسر .
  حدث عنه : ابناه ، عبدالله وسعيد ، والشعبي ، وعلقمة بن مرثد ، وأبو إسحاق السبيعى ، وآخرون .
  سكن الكوفة ، ونقل ابن الأثير في تاريخه : أن علياً رضي الله عنه استعمل عبد الرحمن بن أبزى على خراسان .
  ويروى عن عمر بن الخطاب أنه قال : ابن أبزى ممن رفعه الله بالقرآن ، قلت : عاش الى سنة نيف وسبعين فيما يظهر لي ) .
  وقال ابن الأثير في أسد الغابة ج 3 ص 278 : ( عبد الرحمن بن أبزى الخزاعي مولى نافع بن عبدالحارث سكن الكوفة ... وقال فيه عمر بن الخطاب عبد الرحمن بن أبزى ممن رفعه الله بالقرآن ) وقال في ج 1 ص 45 : ( ... عن مقاتل بن حيان عن علقمة بن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن جده قال خطب رسول الله وذكر الحديث ... ولم يصح لابن أبزى عن النبي رواية ولا رؤية ، هذا كلام أبي نعيم ، ولقد أحسن فيما قال وأصاب الصواب رحمة الله تعالى عليه ، وأما أبوعمر فلم يذكر أبزى وإنما ذكر عبد الرحمن لأنه لم تصح عنده صحبة أبزى ، والله أعلم ) انتهى .
  هذا الغلام المحظوظ بصوته الحسن ـ وقد يكون مغنياً ـ وقدرته على الجمع والضرب ، صار برضا الخليفة عمر عنه وتقريبه إياه ، ومن شخصيات التاريخ الإسلامي وصار هو وأبوه وأولاده من العلماء والرواة ، وقد توقف بعض الفقهاء في قبول روايته ورواية أبيه عن النبي (ص) ، لأنهما ليسا من الصحابة كما تقدم ، وقال في الجوهر النقي ج 2 ص 347 تعليقاً على رواية ابن أبزى التي ادعى فيها أن النبي (ص) سهى في صلاته ! ( قلت : في هذا الحديث علتان ، إحداهما أن عبد الرحمن بن أبزى مختلف في صحبته ، والثانية أن عبدالحق ذكر هذا الحديث في أحكامه ثم قال الحسن بن عمران شيخ ليس بالقوي ) انتهى .

تدوين القرآن _ 154 _
  ولكن يبقى الأساس عند إخواننا أن البخاري وثقه وقال إنه له صحبة ما ... لذلك قال في كنز العمال ج 9 ص 58 : ( قال ابن السكن : ماله غيره وإسناده صالح لكن رواه محمد بن إسحاق بن راهويه عن أبيه فقال : في إسناده عن علقمة بن سعيد بن أبزى عن أبيه عن جده رواه طب في ترجمة عبد الرحمن ، ورجح أبو نعيم هذه الرواية وقال لا يصح لأبزى رواية ولا رؤية ، وكذا قال ابن منده ، وقال ابن حجر في الإصابة : كلام ابن السكن يرد عليهما ، والعمدة في ذلك على البخاري فإليه المنتهى في ذلك ) ! والى الله المشتكى في ذلك !
  الثاني : زيد بن ثابت بن ... ؟
  مسؤول جمع القرآن شاب صغير السن ، وأصله ... ؟
  لم يكن زيد بن ثابت ( الأنصاري ) من الصحابة المعروفين ، و لعل أول ما ورد اسمه في التاريخ في مسألة جمع القرآن ... فقد أمره الخليفة أبو بكر وعمر بجمع القرآن ... ثم كان أحد الذين أمرهم الخليفة عثمان بجمع القرآن ، فشارك في كتابة المصحف الأم أو المصحف الإمام ... والذي هو المصحف الوحيد للمسلمين من ذلك التاريخ والحمد لله .
  فمن هو زيد بن ثابت ؟ ولماذا اعتمد عليه الخليفة أبوبكر وعمر وعثمان ؟ ثم ماذا كان عمل زيد بالضبط ، وهل جمع القرآن في مصحف في عهد أبي بكر وعمر ، أم كتبه مسودة في صحف ، وكان الخليفة يجري عليها ( تنقيحات ) حتى تكتمل فتكون مصحفاً كاملاً .. ؟ وهل يحتاج جمع نسخة القرآن الى هذه المدة الطويلة ؟!
  كان زيد بن ثابت صغيراً عندما توفي النبي روى النسائي في سننه ج 8 ص 134 : ( عن أبي وائل قال خطبنا ابن مسعود فقال : كيف تأمروني أقرأ على قراءة زيد بن ثابت بعد ما قرأت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعاً وسبعين سورة وإن زيداً مع الغلمان له ذؤابتان ؟! ) .
  وروى أحمد في مسنده ج 1 ص 389 وص 405 وص 442 : ( عن خمير بن مالك قال قال عبدالله قرأت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة وزيد بن ثابت له ذؤابة في الكتاب ) .
  ورواه في ج 1 ص 405 وص 442 ، وروى في ج 1 ص 411 رواية النسائي وفيها ( غلام له ذؤابتان يلعب مع الغلمان ) .
  وروى الحاكم في المستدرك ج 2 ص 228 : ( ... حدثني اسمعيل بن سالم بن أبي سعيد الأسدي قال سمعت عبدالله بن مسعود رضي الله عنه يقول أقرأني رسول الله (ص) سبعين سورة أحكمتها قبل أن يسلم زيد بن ثابت !! ) انتهى .

تدوين القرآن _ 155 _
  وروى المزي في تهذيب الكمال ج 33 ص 351 : ( عن أبي سعيد الأزدي ، عن عبدالله ابن مسعود : أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة أحكمتها قبل أن يسلم زيد بن ثابت ، فلا أدري هو هذا أو غيره ) انتهى .
  ولكن البخاري وآخرين خففوا قول ابن مسعود في زيد ، وغيروا كلمة غلام في رواية جمع القرآن الى ( رجل ) ... قال البخاري في تاريخه ج 3 ص 227 : ( ... عن خمير ابن مالك عن ابن مسعود يقول : أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة وإن زيد بن ثابت صبي من الصبيان ! )
  وقال أحمد في مسنده ج 5 ص 188 : ( ... عن زيد بن ثابت قال أرسل إليَّ أبوبكر مقتل أهل اليمامة فإذا عمر عنده جالس وقال أبوبكر يا زيد بن ثابت إنك غلام شاب عاقل لا نتهمك ، قد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه ).
  وقال ابن الأثير في أسد الغابة ج 1 ص 80 مؤكداً حداثة من زيد : ( ... قلت هذا إسماعيل بن زيد بن ثابت يروى عن أبيه وهو تابعي ولا اعتبار بإرساله هذا الحديث ، فإن التابعين لم يزالوا يروون المراسيل ، ومما يقوى أنه لم تكن له صحبة أن أباه زيد بن ثابت استصغر يوم أحد وكانت سنة ثلاث من الهجرة فمن يكون عمره كذا كيف يقول ولده خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! وهذا إنما يقوله رجل ، وقد صح عن ابن مسعود أنه قال لما كتب زيد المصحف لقد أسلمت وإنه في صلب رجل كافر ، وهذا أيضاً يدل على حداثة سنه عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، أخرجه أبو موسى ! ) .
  زيد بن ثابت غلام يهودي !!
  ولكن المشكلة في شخصية زيد ليست صغر سنه ، بل اتهامه بأن أصله يهودي ... وعلى لسان صحابي كبير من وزن عبد الله بن مسعود !
  والمؤكد أن زيداً كان ضمن صبيان اليهود ، وأنه كان يعرف العبرية ... فقد قال الفضل بن شاذان في الإيضاح ص 519 : ( فأما سب بعضهم بعضاً وقدح بعضهم في بعض في المسائل الفقهية ، فأكثر من أن يحصى مثل قول ابن عباس وهو يرد على زيد مذهبه العول في الفرائض : إن شاء ، أو قال من شاء ، باهلته ، إن الذي أحصى رمل عالج عدداً أعدل من أن يجعل في مال نصفاً ونصفاً وثلثاً ، هذان النصفان قد ذهبا بالمال فأين موضع الثلث ؟!
  ومثل قول أبيّ بن كعب في القرآن : لقد قرأت القرآن وزيد هذا غلام ذو ذؤابتين يلعب بين صبيان اليهود في المكتب ) انتهى ، ورواه في الدرجات الرفيعة ص 22 وحسب هذه الشهادة وحدها يمكن تبرئة زيد من تهمة اليهودية ، والقول بأنه كان أنصارياً قتل أبوه في حرب بُعاث ، وأدخلته أمه النوار بنت مالك الخزرجية في ( بيت المدراس ) عند اليهود ليتعلم القراءة والكتابة ، كما يضع بعض الناس أبناءهم في عصرنا في مدارس مسيحية أو يهودية ... لكن تبقى مسألة أن اليهود كانوا مجتمعاً مغلقاً لا يقبلون في مدرستهم أبناء العرب ، ولم أجد رواية عن أي عربى أنه تعلم القراءة والكتابة مع أبناء اليهود .