و ( بشرا ) تخفيف ( بشر ) جمع بشور وبشرى * (بين يدي رحمته) * أي : قدام المطر * (طهورا) * أي : بليغا في طهارته ، وقيل : طاهرا في نفسه مطهرا لغيره (1) ، وهو صفة في قولك : ماء طهور ، واسم لما يتطهر به كالوضوء والوقود .
  قال : * (بلدة ميتا) * لأن البلدة في معنى ( البلد ) في قوله : * (فسقنه إلى بلد ميت) * (2) ، وقرئ : ( نسقيه ) بالفتح (3) ، وسقى وأسقى لغتان ، وقيل : أسقاه : جعل له سقيا (4) ، والأناسي : جمع إنسي أو إنسان ، كالظرابي في جمع ظربان ، على قلب النون من ( أناسين ) و ( ظرابين ) ياء .
  * (ولقد) * صرفنا المطر بينهم في البلدان المختلفة والأوقات المتغايرة وعلى الصفات المتفاوتة ليستدلوا بذلك على سعة مقدورنا ، فأبوا * (إلا كفورا) * وأن يقولوا : مطرنا بنوء كذا (5) .
  * (وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً * فَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً * وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنْ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً * وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً * قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً * وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً * الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً)

-------------------
(1) قاله أحمد بن عيسى ، راجع الكشاف : ج 3 ص 284 .
(2) فاطر : 9 .
(3) قرأه المفضل والأعمش عن عاصم ، راجع التذكرة في القراءات : ج 2 ص 574 .
(4) حكاه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 285 .
(5) قال أبو عبيد : الأنواء ثمانية وعشرون نجما معروفة المطالع في أزمنة السنة كلها ، يسقط منها في كل ثلاث عشرة ليلة نجم في المغرب مع طلوع الفجر ، ويطلع آخر يقابله في المشرق من ساعته ، وكلاهما معلوم مسمى ، وكانت العرب في الجاهلية إذا سقط منها نجم وطلع آخر قالوا : لابد من أن يكون عند ذلك مطر أو رياح ، فينسبون كل غيث يكون عند ذلك الى ذلك النجم ، فيقولون : مطرنا بنوء الثريا والدبران والسماك ، انظر لسان العرب : مادة ( نوأ ) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 657 _
  * (لبعثنا) * في كل قرية * (نذيرا) * ينذرها ، وإنما قصرنا الأمر عليك تفضيلا لك على سائر الرسل ، فقابل هذا التعظيم والتبجيل بالتصبر ، و * (لا تطع الكفرين) * فيما يريدونك عليه .
  والضمير في * (به) * للقرآن ، أو : لترك الطاعة الذي دل عليه * (فلا تطع) * والمراد : أن الكفار يجتهدون في توهين أمرك فقابلهم من جدك واجتهادك بما تغلبهم به ، وجعله * (جهادا كبيرا) * للمشاق العظيمة التي يحتملها فيه .
  ويجوز أن يكون المراد : وجاهدهم بسبب كونك نذيرا للجميع جهادا كبيرا جامعا لكل مجاهدة .
  * (مرج البحرين) * خلاهما متجاورين كما يخلى الخيل في المرج ، والفرات : البالغ في العذوبة ، والأجاج ضده * (برزخا) * أي : حائلا من قدرته يفصل بينهما ويمنعهما التمازج * (وحجرا محجورا) * مر تفسيره (1) ، وهو هنا مجاز ، كأن كل واحد من البحرين يتعوذ من صاحبه ويقول له : حجرا محجورا ، كما قال :

-------------------
(1) تقدم في تفسير الآية : 22 فراجع إن شئت . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 658 _
  * (لا يبغيان) * (1) أي : لا يبغي أحدهما على صاحبه ، فانتفاء البغي هناك كالتعوذ هنا ، جعل كل واحد منهما في صورة الباغي على صاحبه فهو يتعوذ منه .
  * (خلق من الماء) * أي : من النطفة * (بشرا فجعله نسبا) * أي : فقسم البشر قسمين : ذوي نسب ذكورا ينسب إليهم ، و * (صهرا) * أي : إناثا يصاهر بهن * (وكان ربك قديرا) * يخلق من النطفة الواحدة نوعين : ذكرا وأنثى .
  والظهير بمعنى المظاهر ، أي : يظاهر الشيطان على ربه بعبادة الأوثان .
  * (إلا من شاء) * معناه : إلا فعل من شاء أن ينفق المال في طلب رضا ربه ، ويتقرب بالصدقة في سبيله ، وهو معنى الاتخاذ إلى الله سبيلا .
  أي : تمسك بالتوكل * (على الحى الذي لا يموت) * وثق به في استكفاء شرورهم ، وعن بعض السلف أنه قرأها فقال : لا يصح لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق (2) * (وكفي به) * الباء زائدة ، أي كفاك الله * (خبيرا) * تمييز أو حال ، أراد بهذا أنه ليس إليه من أمر عباده شئ ، آمنوا أم كفروا ، وأنه خبير بأحوالهم ، كاف في جزاء أعمالهم .
  * (الذي خلق) * مبتدأ و * (الرحمن) * خبره ، أو : هو صفة ل‍ * (الحى) * و * (الرحمن) * خبر مبتدأ محذوف ، أو بدل عن الضمير المستكن في * (استوى) * .
  وقرئ : ( الرحمن ) بالجر (3)صفة ل‍ * (الحى) * ، وقرئ : ( فأسأل ) (4) ، والباء في * (به) * صلة ( سل ) كقوله : * (سأل سائل بعذاب واقع) * (5) كما أن ( عن ) صلته

-------------------
(1) الرحمن : 20 .
(2) حكاه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 288 .
(3) قرأه زيد بن علي كما في البحر المحيط : ج 6 ص 508 .
(4) وهي قراءة ابن كثير والكسائي في الوصل وحمزة في الوقف ، كما في تفسير السراج المنير : ج 2 ص 670 .
(5) المعارج : 1 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _659 _
  في قوله : * (لتسئلن يومئذ عن النعيم) * (1) ، فقولك : ( سأل به ) مثل ( اهتم به ) و ( اعتنى به ) ، و ( سأل عنه ) ك‍ ( فتش عنه ) و ( بحث عنه ) .
  ويجوز أن يكون صلة * (خبيرا) * ويجعل * (خبيرا) * مفعول ( سل ) ، والمعنى : فسل عنه رجلا عارفا يخبرك برحمته ، أو : فسل رجلا خبيرا به وبرحمته ، أو : فسل بسؤاله خبيرا ، كما تقول : رأيت به أسدا ، أي : برؤيته ، والمعنى : إن سألته وجدته خبيرا ، أو تجعله حالا عن الهاء تريد : فسل عنه عالما بكل شئ .
  وقيل : الرحمن اسم من أسماء الله تعالى مذكور في الكتب المتقدمة ، ولميكونوا يعرفونه ، فقيل له : سل بهذا الاسم من يخبرك به من أهل الكتاب (2) .
  * (وما الرحمن) * أنكروا إطلاق هذا الاسم على الله لأنه لم يكن مستعملا في كلامهم * (أنسجد لما تأمرنا) * أي : للذي * (تأمرنا) * بالسجود له ؟ فحذف على ترتيب ، وقرئ بالياء (3) أي : لما يأمرنا محمد (صلى الله عليه وآله) ، ويأمرنا المسمى بالرحمن .
  ويجوز أن تكون ( ما ) مصدرية أي : لأمرك لنا ، وفي * (زادهم) * ضمير * (اسجدوا للرحمن) * لأنه هو المقول .
  * (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً * وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً * وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً* يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً)

-------------------
(1) التكاثر : 8 .
(2) قاله الزجاج في معاني القرآن : ج 4 ص 73 .
(3) قرأه حمزة والكسائي ، راجع التبيان : ج 7 ص 500 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 660_
  * يريد بالبروج : منازل الكواكب السيارة ، وهي اثنا عشر برجا ، سميت بالبروج التي هي القصور العالية لأنها لهذه الكواكب كالبروج لسكانها ، والسراج : الشمس .
  وقرئ : ( سرجا ) (1) وهي الشمس والكواكب الكبار معها .
  وعنهم (عليهم السلام) : ( لا تقرأ سرجا إنما هي سراجا ، وهي الشمس ) .
  والخلفة : الحالة التي يختلف عليها الليل والنهار ، ويخلف كل واحد منهما الآخر ، والمعنى: جعلهما ذوي خلفة ، أي : ذوي عقبة ، يعقب هذا ذاك وذاك هذا .
  وقرئ : ( يذكر ) (2) و * (يذكر) * ، أي : لينظر في اختلافهما الناظر فيعلم أن لابد لهما من مغير وناقل من حال إلى حال ، ويشكر الشاكر على النعمة فيهما من السكون بالليل والتصرف بالنهار ، أو : ليكونا وقتا للمتذكرين والشاكرين ، من فاته ورده في أحدهما قضاه في الآخر .
  * (وعباد الرحمن) * مبتدأ خبره في آخر السورة قوله : * (ألئك يجزون الغرفة) * ، ويجوز أن يكون خبره * (الذين يمشون على الأرض...) * ، * (هونا) * حال أو صفة للمشي ، أي : هينين أو : مشيا هينا ، إلا أن في وضع المصدر موضع

-------------------
(1) قرأه حمزة والكسائي و عبد الله وعلقمة والأعمش ، راجع التبيان : ج 7 ص 502 ، والبحر المحيط لأبي حيان : ج 6 ص 511 .
(2) وهي قراءة حمزة وحده ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 466 .

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _661 _
  الصفة مبالغة ، والهون : الرفق واللين ، وفي المثل : ( إذا عز أخوك فهن ) (1) أي : يمشون بسكينة وتواضع * (سلاما) * تسلما منكم لا نجاهلكم ، ومتاركة لا خير بيننا ولا شرا ، أي : نتسلم منكم تسلما ، فأقيم السلام مقام التسلم ، وقيل : قالوا سدادا من القول يسلمون فيه من الإثم (2) .
  والمراد بالجهل السفه وقلة الأدب .
  ( بات ) خلاف ( ظل ) ، وصفوا بإحياء الليل أو أكثره ساجدين وقائمين .
  * (غراما) * أي : هلاكا وخسرانا ملحا لازما ، قال : إن يعاقب يكن غراما وإن يع‍ * ـ ط جزيلا فإنه لا يبالي (3) ومنه : الغريم لأنه يلح ويلزم ، يعني : أنهم مع عبادتهم واجتهادهم خائفون متضرعون إلى الله في استدفاع العذاب عنهم .
   * (ساءت) * في حكم ( بئست ) ، فيها ضمير مبهم يفسره * (مستقرا) * ، والمخصوص بالذم محذوف ، ومعناه : ساءت مستقرا * (ومقاما) * هي ، وهذا الضمير هو الذي ربط الجملة باسم ( إن ) وجعلها خبرا لها .
  ويجوز أن يكون ( ساءت ) بمعنى ( أحزنت ) ، وفيها ضمير اسم ( إن ) ، و * (مستقرا) * حال أو تمييز .
  التعليلان يصح أن يكونا متداخلين ومترادفين ، وأن يكونا من كلام الله وحكايته لقولهم .
  * (ولم يقتروا) * قرئ بكسر التاء (4) وضمها و ( يقتروا ) بضم الياء (5) ، والقتر والإقتار نقيض الإسراف الذي هو مجاوزة الحد في النفقة ، وصفهم بالقصد الذي هو بين الغلو والتقصير ، والقوام : العدل بين الشيئين لاستقامة الطرفين واعتدالهما ،

-------------------
(1) وهو من الأمثال الشائعة ، يعني : إذا عاسرك صديقك فياسره ، فإن مياسرتك إياه ليست بضيم يركبك منه ، إنما هو حسن خلق وتفضل عليه ، راجع مجمع الأمثال : ج 1 ص 24 .
(2) قاله مجاهد ، راجع التبيان : ج 7 ص 504 .
(3) البيت للأعشى ، ومعناه واضح ، راجع شرح ديوان الأعشى لكامل سليمان : ص 171 .
(4) قرأه ابن كثير وأبو عمرو ، راجع التبيان : ج 7 ص 506 .
(5) قرأه نافع وابن عامر ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 466 .

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 662_
  ونظييره ( السواء ) من الاستواء .
  ويجوز أن يكون * (بين ذلك) * و * (قواما) * خبرين معا ، وأن يكون * (بين ذلك) * لغوا ، و * (قواما) * مستقرا ، وأن يكون الظرف خبرا و * (قواما) * حال مؤكدة .
  * (النفس التي حرم الله) * أي : حرمها ، والمعنى : حرم قتلها ، وتعلق * (إلا بالحق) * بهذا القتل المحذوف أو ب‍ * (لا يقتلون) * ، نفي عنهم هذه الخصال القبيحة ، وبرأهم منها تعريضا بما كان عليه أعداؤهم من الكفار ، كأنه قال : والذين برأهم الله مما أنتم عليه ، والقتل بغير حق يدخل فيه الوأد وغيره .
  والأثام : جزاء الإثم كالوبال والنكال ، وقيل : هو الإثم (1) .
  والمعنى جزاء أثام .
  * (يضاعف) * بدل من * (يلق) * لأنهما في معنى واحد ، وقرئ : ( يضاعف ) بالرفع و ( يخلد ) بالرفع (2) ، و ( يضعف ) بالرفع (3) والجزم (4) ، والرفع على الاستئناف أو على الحال .
  وتبديل السيئات حسنات أن تمحى السيئة وتثبت بدلها الحسنة ، وقرئ : ( يبدل ) (5) من الإبدال ، وقيل : يبدلون بقبائح أعمالهم في الشرك محاسن الأعمال في الإسلام (6) .
  * (وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً * وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً * وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً * أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً * قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً)

-------------------
(1) قاله ابن عباس والسدي وأبو مسلم ، راجع تفسير الماوردي : ج 4 ص 158 .
(2) وهي قراءة ابن عامر وأبي بكر ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 575 .
(3) قرأه ابن عامر ، راجع كتاب السبعة في القراءات : ص 467 .
(4) وهي قراءة ابن كثير وحده ، راجع المصدر السابق .
(5) قرأه عاصم برواية أبي بكر عنه ، راجع شواذ القرآن لابن خالويه : ص 107 .
(6) قاله ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد والسدي والضحاك ، راجع تفسير الماوردي : ج 4 ص 158 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 663 _
  * (ومن) * ترك المعاصي وندم عليها ، ودخل في العمل الصالح فإنه يرجع * (إلى الله) * وإلى ثوابه مرجعا حسنا أي مرجع ، أو : فإنه تاب بذلك إلى الله * (متابا) * مرضيا عنده .
  * (لا يشهدون الزور) * أي : مجالس الفساق ، ولا يحضرون الباطل ، وقيل : هو الغناء (1) ، وروي ذلك عن السيدين الباقر والصادق (عليهما السلام) (2) ، وفي مواعظ عيسى ابن مريم : ( إياكم ومجالسة الخطائين (3) ) .
  وقيل : لا يشهدون شهادة الزور (4) فحذف المضاف * (وإذا مروا باللغو) * أي : بأهل اللغو والمشتغلين به * (مروا كراما) * مكرمين أنفسهم عن التوقف عليهم والخوض معهم ، معرضين عنهم ، واللغو : كل ما ينبغي أن يلقى ويطرح .
  * (إذا ذكروا بايت ربهم) * أي : وعظوا بالقرآن والأدلة * (لم يخروا عليها صما) * ليس بنفي للخرور ، بل هو إثبات له ونفي للصمم والعمى ، أي : إذا ذكروا بها أكبوا عليها حرصا على استماعها وهم سامعون بآذان واعية ، مبصرون بعيون راعية .

-------------------
(1) قاله محمد بن الحنفية ومجاهد ، راجع تفسير الماوردي : ج 4 ص 159 .
(2) الكافي : ج 6 ص 431 ح 6 وص 433 ح 13 .
(3) رواه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 295 .
(4) وهو قول علي والباقر (عليهما السلام) وعلي بن طلحة ، راجع تفسير القرطبي : ج 13 ص 80 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 664_
  وقرئ : ( وذريتنا ) (1) ، سألوا ربهم أن يرزقهم أزواجا وأولادا وأعقابا تقر بهم عيونهم ، وتسر بهم نفوسهم ، وعن ابن عباس : هو الولد إذا رآه يكتب الفقه (2) * (إماما) * أراد أئمة ، واكتفي بالواحد لدلالته على الجنس ، أو : أراد جمع ( آم ) كصائم وصيام ، و * (من) * للبيان ، أي : * (هب لنا ... قرة أعين) * ثم بين القرة بقوله : * (من أزواجنا وذريتنا) * ، وهو من قولهم : رأيت منك أسدا أي : أنت أسد .
  ويجوز أن يكون للابتداء بمعنى : هب لنا من جهتهم ما تقر به أعيننا من صلاح وعلم ، ونكر القرة بتنكير المضاف إليه ، فكأنه قال : هب لنا منهم سرورا وفرحا .
  وعن الصادق (عليه السلام) في قوله : * (واجعلنا للمتقين إماما) * قال (عليه السلام) : ( إيانا عنى )(3) .
  وروي عنه (عليه السلام) أنه قال : ( هذه فينا ) (4) .
  وعن أبي بصير قال : قلت : واجعلنا للمتقين إماما ؟ فقال (عليه السلام) : ( سألت ربك عظيما ، إنما هي : واجعل لنا من المتقين إماما ) (5) .
  * (يجزون الغرفة) * يريد الغرفات ، وهي العلالي في الجنة ، فوحد اقتصارا على الواحد الدال على الجنس ، يدل عليه قوله : * (وهم في الغرفت ءامنون) * (6) ، * (بما صبروا) * بصبرهم على الطاعات وعن الشهوات ، وعلى مجاهدة الكفار ومقاساة الفقر ومشاق الدنيا ، لشياع اللفظ في كل مصبور عليه .
  وقرئ : * (يلقون) * ،

-------------------
(1) قرأه عاصم برواية ابي بكر وأبو عمرو وحمزة والكسائي وطلحة وعيسى ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 467 ، وتفسير القرطبي : ج 13 ص 82 .
(2) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 296 .
(3) تفسير القمي علي بن ابراهيم : ج 2 ص 117 .
(4) رواه البرقي في المحاسن : ص 170 ح 136 .
(5) تفسير القمي علي بن ابراهيم : ج 2 ص 117 .
(6) سبأ : 3 7 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 665 _
  وهو كقوله : * (ولقاهم نضرة) * (1)و ( يلقون ) (2) كقوله : * (يلق أثاما) * ، * (تحية) * قولا يسرون به ، ودعاء بالتعمير تحييهم الملائكة ويسلمون عليهم ، أو : يحيي بعضهم بعضا ويسلم عليه ، وقيل : يعطون ملكا عظيما وتخليدا مع السلامة من كل آفة (3) .
  * (مستقرا ومقاما) * موضع استقرار وموضع إقامة .
  * (ما يعبؤا بكم) * أي : ما يبالي بكم ربي ، ولم يعتد بكم * (لولا دعاؤكم) * أي : عبادتكم ، وقيل : ( ما ) استفهامية في محل النصب ، وهي عبارة عن المصدر (4) ، كأنه قال : أي عب ء يعبأ بكم لولا دعاؤكم ، أي : لا تستأهلون شيئا من العب ء بكم لولا عبادتكم ، وحقيقة قولهم : ما عبأت به : ما اعتدت به من مهماتي وما يكون عبأ علي ، وقيل : لولا دعاؤكم إياه إذا مسكم ضر رغبة إليه وخضوعا له (5) .
  وفي هذا دلالة على أن الدعاء من الله بمكان ، وقيل : معناه : ما يصنع بكم ربي لولا دعاؤه إياكم إلى الإسلام (6) * (فقد كذبتم) * بالتوحيد وبمن دعاكم إليه * (فسوف يكون) * العذاب * (لزاما) * أي : لازما لكم واقعا بكم لا محالة ، وهو القتل يوم بدر أو عذاب الآخرة .

-------------------
(1) الإنسان : 11 .
(2) قرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر والمفضل والأعمش ويحيى وخلف وطلحة ومحمد اليماني ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 468 ، والبحر المحيط لأبي حيان : ج 6 ص 517 .
(3) حكاه الماوردي في تفسيره : ج 4 ص 161 .
(4) قاله الفراء في معاني القرآن: ج 2 ص 275 .
(5) قاله الماوردي في تفسيره : ج 4 ص 162 .
(6) قاله الفراء في معانيه : ج 2 ص 275 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 667_
سورة الشعراء مكية كلها (1)
  إلا قوله : * (والشعراء يتبعهم الغاوون) * الى آخرها ، مائتان وسبع وعشرون آية كوفي ، ست في غيرهم ، * (طسم) * كوفي ، * (فلسوف تعلمون) * (2) غيرهم ، * (أين ما كنتم تعبدون من دون الله) * (3) غير البصري .
  في حديث أبي : ( من قرأ سورة الشعراء كان له من الأجر بعدد من صدق بنوح وكذب به ، وهود وشعيب وصالح وإبراهيم ، وبعدد من كذب بعيسى ، وصدق بمحمد (صلى الله عليه وآله) ) (4) .
  وعن الصادق (عليه السلام) : ( من قرأ الطواسين الثلاث في ليلة الجمعة كان من أولياء الله وفي جواره وكنفه ، ولم يصبه في الدنيا بؤس أبدا ، وأعطي في الآخرة من الجنة حتى يرضى وفوق رضاه ، وزوجه الله مائة حوراء من حور العين ) (5) .

-------------------
(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان : ج 8 ص 4 : قال قتادة : هي مكية ، وقيل : أربع آيات منها مدنية من قوله : * (والشعراء ...) * الى آخرها ، وهي مائتان وسبع وعشرون آية في الكوفي والمدني الأول، وست في البصري والمدني الآخر ، وفي تفسير الآلوسي : ج 19 ص 58 ما لفظه : وفي تفسير الإمام مالك تسميتها بسورة الجامعة ، وقد جاء في رواية عن ابن عباس وابن الزبير اطلاق القول بمكيتها .
(2) الآية : 49 .
(3) الآية : 92 ـ 93 .
(4) رواه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 346 مرسلا .
(5) ثواب الأعمال للصدوق : ص 136 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _668_
بسم الله الرحمن الرحيم

  * (طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ * وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) * ( طاء وياء وحاء ) من * (طسم) * و * (يس) * و * (حم) * : قرئ بالإمالة (1) والتفخيم (2) ، وقرئ نون ( سين ) بالإظهار (3) والإدغام (4) .
  * (الكتب المبين) * هو اللوح المحفوظ يتبين للناظرين في كل ما هو كائن ، أو : القرآن يبين ما أودع من الحكم والشرائع وأنواع العلوم ، أو : هو الظاهر إعجازه وصحة أنه من عند الله.
  والبخع : الإهلاك ، و * (لعلك) * للإشفاق ، أي : أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة على ما فاتك من إسلام قومك * (ألا يكونوا مؤمنين) * أي : خيفة أن لا يؤمنوا ،

-------------------
(1) ممن قرأهن بالإمالة : حمزة والكسائي وخلف ويحيى والعليمي والأعمش والمفضل وأبو بكر عن عاصم ، راجع التبيان : ج 8 ص 3 ، وتفسير القرطبي : ج 13 ص 88 .
(2) وممن قرأهن بالتفخيم : ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 470 .
(3) ممن أظهر النون : حمزة وأبو جعفر والأعمش وما روى الكسائي عن اسماعيل عن نافع ، راجع التبيان : ج 8 ص 3 ، وكتاب السبعة في القراءات : ص 470 .
(4) وممن أدغم النون : المدنيون وأبو عمرو وعاصم والكسائي على ما حكاه النحاس في إعراب القرآن : ج 3 ص 173 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 669 _
  أو : لأن لا يؤمنوا .
  * (إن نشأ ننزل ... آية) * ملجئة إلى الإيمان ، كما نتق الجبل على بني إسرائيل * (فظلت) * معطوف على * (ننزل) * والأصل : فظلوا * (لها خضعين) * فأقحمت ( الأعناق ) لبيان موضع الخضوع ، وترك الكلام على أصله .
  ويجوز أن يكون ( الأعناق ) لما وصفت بالخضوع الذي هو للعقلاء قيل : * (خضعين) * كقوله : * (لى ساجدين) * (1) ، وقيل : المراد بالأعناق الرؤساء والمقدمون (2) ، شبهوا بالأعناق كما قيل لهم : الرؤوس والصدور والنواصي، قال : في محفل من نواصي الناس مشهود (3) وقيل : * (أعنقهم) * جماعاتهم (4) .
  يقال : جاء عنق من الناس أي : جماعة .
  وما يجدد الله بوحيه موعظة وتذكيرا إلا جددوا إعراضا عنه وكفرا به .
  وصف ( الزوج ) وهو الصنف من النبات بالكرم والكريم صفة لكل ما يرضى ويحمد في بابه ، يقال : وجه كريم مرضي في حسنه وبهائه ، وكتاب كريم مرضي في معانيه ، فالنبات الكريم هو المرضي في المنافع المتعلقة به .
  * (إن في )* إنبات تلك الأصناف * (لآية) * على أن منبتها قادر على إحياء الأموات ، وقد علم الله أن * (أكثرهم) * لا يؤمنون .
  * (وإن ربك لهو العزيز) * في انتقامه منهم * (الرحيم) * بمن يؤمن .

-------------------
(1) قاله ابن عيسى كما في التبيان : ج 8 ص 6 ، والآية من سورة يوسف : 4 .
(2) قاله ابن شجرة وقطرب ، راجع تفسير الماوردي : ج 4 ص 165 .
(3) لام قيس الضبية ، وصدره : ومشهد قد كفيت الغائبين به وقد تقدم ذكر البيت وشرحه في ص في سورة هود : 103 .
(4) قاله ابن عباس ومجاهد وأبو زيد والأخفش والنقاش ، راجع تفسير الماوردي : ج 4 ص 165 ، وتفسير القرطبي : ج 13 ص 89 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _670 _
  * ( وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنْ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * قَالَ كَلاَّ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ * فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ * قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ * قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنْ الضَّالِّينَ * فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُرْسَلِينَ * وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ)* (قوم فرعون) * عطف بيان * (ألا يتقون) * كلام مستأنف ، أي : أما آن لهم أن يتقوا الله ويحذروا من أيامه .
  * (ويضيق صدري ولا ينطلق لساني) * بالرفع لأنهما معطوفان على خبر * (أن) * ، وقرئا بالنصب (1) عطفا على صلة * (أن) * ، والرفع يفيد أن فيه ثلاث علل : خوف التكذيب ، وضيق الصدر ، وامتناع انطلاق اللسان .
  والنصب يفيد أن خوفه يتعلق بهذه الثلاثة .
  * (فأرسل) * جبرائيل * (إلى هرون) * واجعله نبيا ، وأزرني به واشدد به ظهري .
  * (ولهم على ذنب) * هو قتله القبطي ، أي : ولهم علي تبعة ذنب ، وهي قود ذلك القتل * (فأخاف أن يقتلون‍) * ـ ي به ، فحذف المضاف ، أو : سمى تبعة الذنب ذنبا ، كما سمى جزاء السيئة سيئة .
  * (قال) * الله تعالى : * (كلا) * يعني : ارتدع يا موسى عما تظن ، لأنهم لن يقتلوك به ، فإني لا أسلطهم عليك ، فاذهب أنت وهارون .
  وقوله : * (إنا معكم مستمعون) *

-------------------
(1) قرأه يعقوب ، راجع التبيان : ج 8 ص 8 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 671 _
  من مجاز الكلام لأنه تعالى لا يوصف بالاستماع على الحقيقة ، فإن الاستماع جار مجرى الإصغاء ، وإنما يوصف بأنه سميع وسامع ، والمراد : إنا لكما كالظهير المعين إذا حضر واستمع ما يجري بينكما وبينه ، فأظهركما عليه وأكسر شوكته عنكما .
  ويجوز أن يكونا خبرين ل‍ ( أن ) ، وأن يكون * (مستمعون) * مستقرا ، و * (معكم) * لغوا .
  * (إنا رسول رب العالمين) * جعل ( رسول ) هنا بمعنى الرسالة ، فلم يثن كما ثنى في قوله : * (إنا رسولا ربك) * (1) ، كما يفعل في الصفة بالمصادر نحو : صوم وزور .
  ويجوز أن يوحد لأن حكمهما واحد بالاتفاق والأخوة ، فكأنهما رسول واحد .
  * (أن أرسل) * بمعنى : أي أرسل لتضمن الرسول معنى الإرسال ، وفي الإرسال معنى القول ، كما في المناداة ونحوها .
  ومعنى هذه الارسال التخلية والإطلاق ، كما يقال : أرسل البازي ، والمراد : خل بني إسرائيل يذهبوا معنا إلى فلسطين ، وكانت مسكنهما .
  وفي الكلام حذف تقديره : فذهبا إلى فرعون وبلغا الرسالة على ما أمرا به ، فعند ذلك * (قال) * فرعون لموسى : * (ألم نربك) * وهذا النوع من الاختصار كثير في التنزيل .
  الوليد : الصبي لقرب عهده بالولادة * (سنين) * قيل : لبث عندهم ثماني عشرة سنة (2) ، وقيل : ثلاثين سنة (3) ، وقال الكلبي : أربعين سنة (4) .
  * (فعلت فعلتك) * يعني : قتلت القبطي ، أي : * (وأنت) * لذلك * (من الكفرين) * لنعمتي وحق تربيتي .

-------------------
(1) طه : 47 .
(2) قاله ابن عباس كما في مجمع البيان : ج 7 ص 186 .
(3) قاله ابن عباس ومقاتل ، راجع مجمع البيان السابق .
(4) حكاه عنه الآلوسي في تفسيره : ج 19 ص 68 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 672 _
  وأجابه موسى بأن تلك الفعلة إنما فرطت منه وهو * (من الضالين) * أي : الذاهبين عن الصواب أو الناسين من قوله : * (أن تضل إحدبهما فتذكر إحدبهما الأخرى) * (1) .
  كذب فرعون ودفع الوصف بالكفر من نفسه بأن وضع ( الضالين) موضع ( الكافرين ) رياء بمحل من رشح للنبوة عن تلك الصفة ، ثم أبطل امتنانه عليه بالتربية ، وأبى أن يسمي نعمته نعمة بأن بين أن حقيقة إنعامه عليه تعبيد بني إسرائيل ، لأن تعبيدهم وقصدهم بذبح أبنائهم هو السبب في حصوله عنده وتربيته ، فكأنه من عليه بتعبيد قومه ، وتعبيدهم : اتخاذهم عبيدا وتذليلهم .
  * (وتلك) * إشارة إلى خصلة منكرة لا ندري إلا بتفسيرها ، ومحل * (أن عبدت) * الرفع بأنه عطف بيان ل‍ * (ـ تلك) * ، ونظيره * (وقضينا إليه ذا لك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع) * (2) ، والمعنى : تعبيدك بني إسرائيل نعمة * (تمنها على) * ؟ ! ويجوز أن يكون في محل نصب ، والمعنى : إنما صارت نعمة علي لأن عبدت بني إسرائيل ، أي : لو لم تفعل ذلك لكفلني أهلي ولم يلقوني في اليم .
  * (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمْ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * قَالَ لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ * قَالَ لِلْمَلإٍ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ * قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ * فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ * لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمْ الْغَالِبِينَ * فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ)

-------------------
(1) البقرة : 282 .
(2) الحجر : 66 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 673_
  * * (وما رب العلمين) * يريد : وأي شئ هو من الأشياء المشاهدة ؟ فأجابه موسى بما يستدل عليه من أفعاله ليعرفه أنه ليس بشئ يمكن أن يشاهد من الأجسام والأعراض ، وإنما هو شئ مخالف لجميع الأشياء ، ليس كمثله شئ ، منشئ * (السموات والأرض) * ومبدعهما * (وما بينهما إن كنتم موقنين) * بأن هذه الأشياء محدثة منشأة وليست من فعلكم ، والمحدث لابد له من محدث .
  فلما أجاب موسى بما أجاب عجب فرعون قومه من جوابه حيث نسب الربوبية إلى غيره .
  فلما ثنى موسى (عليه السلام) بتقرير قوله نسبه فرعون إلى الجنون وأضافه إلى قومه حيث سماه ( رسولهم ) طنزا به (1) .
  فلما ثلث (عليه السلام) بتقرير آخر غضب وقال : * (لئن اتخذت إلها غيرى) * وعارض موسى (عليه السلام) قوله : * (إن رسولكم ... لمجنون) * بقوله : * (إن كنتم تعقلون) * .
  * (أولو جئتك) * الواو للحال ، دخلت عليها همزة الاستفهام ، والمعنى : أتفعل ذلك بي ولو جئتك * (بشئ مبين) * أي : جائيا بالمعجز الظاهر .
  وفي قوله : * (إن كنت من الصدقين) * أن المعجز لا يأتي به إلا الصادق في دعواه ، لأنه يجري مجرى التصديق من الله تعالى ، فلابد من يدل على الصادق ،

-------------------
(1) طنز طنزا به : سخر منه ، (لسان العرب : مادة طنز) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 674 _
  وتقديره : إن كنت من الصادقين في دعواك إئت به ، فحذف الجزاء لأن الأمر بالإتيان به يدل عليه .
  * (ثعبان مبين) * ظاهر الثعبانية ، لا شئ يشبه الثعبان .
  * (بيضاء للنظرين)* فيه دلالة على أن بياضها كان شيئا تجتمع النظارة على النظر إليه لخروجه عن العادة ، فكان بياضا نورانيا له شعاع يغشى الأبصار ويسد الأفق .
  وقوله : * (حوله) * منصوب اللفظ على الظرف ، ومنصوب المحل على الحال .
  * (فماذا تأمرون) * من المؤامرة وهي المشاورة ، أو : من الأمر الذي هو ضد النهي ، جعل العبيد آمرين وربهم مأمورا ، لما دهاه من الدهش والحيرة حين أبصر الآيتين ، واعترف لهم بما توقعه وأحس به من جهة موسى (عليه السلام) وغلبته على ملكه وأرضه .
  و * (ماذا) * منصوب : إما لكونه في معنى المصدر ، وإما لأنه مفعول به من قولهم : أمرتك الخير .
  وقرئ : ( أرجئه ) وقد مر بيانه (1) .
  * (يوم معلوم) * وهو يوم الزينة ، وميقاته وقت الضحى لأنه الوقت الذي وقته لهم موسى (عليه السلام) من يوم الزينة .
  * (هل أنتم مجتمعون) * استبطاء لهم في الاجتماع ، والمراد منه : استعجالهم ، ومنه قول تأبط شرا : هل أنت باعث دينار لحاجتنا ؟ (2) يريد : إبعثه إلينا سريعا ولا تبطئ (3) .
  * (لعلنا نتبع السحرة) * في دينهم إن غلبوا موسى ، ولا نتبع موسى في دينه .

-------------------
(1) في ج 1 ص 686 من سورة الأعراف : 111 فراجع .
(2) وعجزه : أو عبد رب أخا عون بن مخراق ، انظر خزانة الأدب للبغدادي : ج 8 ص 215 .
(3) في نسخة زيادة : ( به ) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _675_
   (قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ * فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ * فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ * قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ * وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ * فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) *أقسموا * (بعزة فرعون) * وهي من أقسام الجاهلية ، وفي الإسلام لا يصح الحلف إلا بالله تعالى أو ببعض أسمائه وصفاته ، وفي الحديث : ( لا تحلفوا إلا بالله ، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون ) (1) .
  وعبر عن الخرور بالإلقاء على طريق المشاكلة إذ جرى ذكر الإلقاء ، يعني :

-------------------
(1) رواه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 312 مرسلا . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 676 _
  أنهم إذا رأوا ما رأوا رموا بنفوسهم إلى الأرض * (سجدين) * كأنهم أخذوا وطرحوا وألقوا .
  الضير : الضر ، أرادوا : لا ضرر علينا في ذلك بل لنا فيه أعظم النفع لما يحصل لنا في الصبر عليه من الثواب العظيم ، أو : * (لا ضير) * لنا في القتل إذ لابد لنا من الانقلاب إلى ربنا بسبب من أسباب الموت ، والقتل أهون أسبابه وأرضاها ، لأننا ننقلب إلى ربنا انقلاب من يطمع في مغفرته ورحمته لما رزقنا من السبق إلى الإيمان * (أن كنا) * معناه : لأن كنا .
  وعلل الأمر بالإسراء بقوله : * (إنكم متبعون) * على معنى : أن التدبير في أمرهم أن يتقدموا ويتبعهم فرعون وجنوده ويسلكوا مسالكهم في البحر فيهلكهم الله بإطباق البحر عليهم .
  * (إن هؤلاء) * محكي بعد قول مضمر ، والشرذمة : الطائفة القليلة ، ذكرهم بهذا الاسم الدال على القلة ثم وصفهم بالقلة .
  ويجوز أن يريد بالقلة المذلة والغمارة (1) ، فلا يريد قلة العدد ، يعني : أنهم لقلتهم لا يبالى بهم .
  * (وإنهم) * يفعلون أفعالا تغيظنا ، ونحن قوم من عادتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في الأمور ، فإذا خرج علينا خارج بادرنا إلى حسم مادة فساده ، وهذه معاذير اعتذر بها إلى أهل المدائن لئلا يظن به ما يكسر من سلطانه .
  وقرئ : ( حذرون ) (2) و * (حذرون) * ، فالحذر : المتيقظ ، الحاذر : المستعد .
  * (ومقام كريم) * منازل حسنة ، وقيل : مجالس الأمراء التي تحتف (3) بها

-------------------
(1) في بعض النسخ : ( والقماءة ) .
(2) قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 471 .
(3) في نسخة : ( تحفها ) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 677_
  الأتباع (1) .
  * (كذلك) * الكاف رفع لأنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : الأمر كذلك ، أو نصب أي : أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفناه .
  * (فأتبعوهم) * فلحقوهم * (مشرقين) * داخلين في وقت الشروق .
  * (سيهدين‍) * ـ ي طريق النجاة من إدراكهم .
  أي : فضرب فانفلق البحر وظهر فيه اثنا عشر طريقا ، والفرق : الجزء المتفرق فيه ، والطود : الجبل العظيم .
  * (وأزلفنا ثم) * أي : حيث انفلق البحر * (الآخرين) * يعني : قوم فرعون قربناهم من بني إسرائيل ، وأدنينا بعضهم من بعض ، وجمعناهم حتى لا ينجو منهم أحد .
  * (إن في ذلك لآية) * لا توصف ، قد عاينها الناس وما انتبه عليها * (أكثرهم) *.
  * (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنْ الضَّالِّينَ * وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ * وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ * وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ * فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ * قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ * فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ * فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)

-------------------
(1) قاله ابن عيسى ، راجع تفسير الماوردي : ج 4 ص 172 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _678_
  * سألهم إبراهيم (عليه السلام) وإن كان يعلم عبادتهم الأصنام ليريهم أن ما يعبدونه بعيد عن استحقاق العبادة .
  ولابد في * (يسمعونكم) * من تقدير حذف المضاف ، معناه : هل يسمعون دعاءكم ، وهل يقدرون على ذلك ؟ وجاء مضارعا مع إيقاعه على * (إذ) * لأنه حكاية حال ماضية .
  وإنما قال : * (عدو لى) * على معنى : أني فكرت في أمري فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو الذي هو الشيطان فاجتنبتها ، وآثرت عبادة من الخير كله منه ، وأراهم بهذا القول أنه نصيحة نصح بها نفسه ، لينظروا فيقولوا : ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه ، ويكونوا إلى القبول أقرب ، ولو قال : * (فإنهم عدو) * لكم لم يكن بهذه المثابة .
  والعدو والصديق يكونان بمعنى الواحد والجمع ، قال : وقوم علي ذوي مئرة * أراهم عدوا وكانوا صديقا * (إلا رب العلمين) * استثناء منقطع ، كأنه قال : لكن رب العالمين .
  وقال : * (إذا مرضت) * ولم يقل : أمرضني لأن كثيرا من أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في طعامه وشرابه وغير ذلك .
  وإنما قال : * (أطمع أن يغفر لى خطيئتي) * على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى ،

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 679 _
  أو أراد : أطمع أن يغفر لأجلي خطيئة من يشفعني فيه ، فإن الأنبياء (عليهم السلام) منزهون عن الخطايا (1) والآثام ، فاستغفارهم محمول على تواضعهم لربهم وهضمهم لأنفسهم ، ويدل على ذلك قوله : * (أطمع) * ولم يجزم القول بالمغفرة ، وفيه تعليم لأممهم .
  * (هب لى حكما) * أي : حكمة أو حكما بين الناس بالحق ، وقيل : الحكم : النبوة (2) ، لأن النبي ذو حكم بين الناس وذو الحكمة والعلم * (وألحقني بالصلحين) * إجمع بيني وبينهم في الجنة .
  * (ولا تخزني يوم يبعثون) * من الخزي الذي هو الهوان ، أو : من الخزاية التي هي الحياء ، وهذا أيضا من نحو استغفارهم مع عصمتهم وبعدهم عما يوجب الاستغفار ، وفي * (يبعثون) * ضمير للعباد لأنه معلوم .
  * (إلا) * حال من * (أتى الله بقلب سليم) * وهو من قولهم : تحية بينهم ضرب وجيع (3) .
  وبيانه أن يقال لك : هل لزيد مال وبنون ؟ فتقول : ماله وبنوه سلامة قلبه ، تريد نفي المال والبنين عنه ، وإثبات سلامة القلب له بدلا من ذلك .
  ويجوز حمل الكلام على المعنى بأن يجعل المال والبنين في معنى ( الغنى ) ، إلا غنى من أتى الله بقلب سليم ، لأن غنى الرجل في دينه بسلامة قلبه ، كما أن غناه في دنياه بماله وبنيه .
  ويجوز أن يكون مفعولا ل‍ * (ينفع) * أي : لا ينفع مال ولا بنون إلا رجلا سلم قلبه مع ماله حيث أنفقه في طاعة الله، ومع بنيه حيث أرشدهم إلى الدين وعلمهم الشرائع .
  وقيل : القلب السليم الذي أسلم وسالم واستسلم (4) .
  وعن الصادق (عليه السلام) :

-------------------
(1) في نسخة : ( الخطاء ) .
(2) قاله السدي والكلبي ، راجع تفسير الماوردي : ج 4 ص 176 ، وتفسير البغوي : ج 3 ص 390 .
(3) وصدره : وخيل قد دلفت لها بخيل ، وهو منسوب لعمرو بن معد يكرب ، قد تقدم شرح البيت في ج 1 ص 73 فراجع .
(4) حكاه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 321 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 680 _
  ( هو القلب الذي سلم من حب الدنيا ) .
  * (وأزلفت الجنة للمتقين) * أي : قربت من موقفهم ينظرون إليها ويغتبطون بمكانهم منها .
  * (وبرزت الجحيم) * كشفت للأشقياء يتحسرون على أنهم المسوقون إليها ، قال : * (فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا) * (1) يجمع عليهم الغموم ، فتجعل النار بمرأى منهم ويقال لهم : أين آلهتكم هل ينفعونكم بنصرتهم لكم ؟ أو : هل ينفعون أنفسهم بانتصارهم لأنهم وما كانوا يعبدونهم وقود النار ، وهو قوله : * (فكبكبوا فيها هم والغاوون) * أي : الآلهة ، والغاوون أي : عبدتهم ، والكبكبة : تكرير الكب ، جعل التكرير في اللفظ دليلا على التكرير في المعنى ، كأنه إذا ألقي في النار يكب مرة بعد مرة حتى يستقر في قعر جهنم ، اللهم أعذنا منها .
  وكبكب معهم * (جنود إبليس) * أي : أتباعه وشياطينه .
  * (يختصمون) * أي : يخاصم بعضهم بعضا .
  و ( إن ) هي المخففة من الثقيلة ، أي : إنا كنا في * (ضلل مبين إذ) * سويناكم بالله في توجيه العبادة إليكم .
  والمراد بالمجرمين الذين أضلوهم : رؤساؤهم وكبراؤهم والذين اقتدوا بهم * (ربنا إنآ أطعنا سادتنا وكبرآءنا فأضلونا السبيلا) * (2) ، * (فما لنا من شفعين) * يشفعون لنا ، ويسألون في أمرنا ، كما نرى المؤمنين لهم شفعاء من النبيين والأوصياء ، ولا صديق كما نرى لهم أصدقاء .
  الصادق (عليه السلام) : ( والله لنشفعن في شيعتنا ، قالها ثلاثا ، حتى يقول عدونا : * (فما لنا من شفعين) * إلى قوله : * (من المؤمنين) * ) (3) .
  وعن جابر بن عبد الله عن النبي (صلى الله عليه وآله) : ( إن الرجل يقول في الجنة : ما فعل

-------------------
(1) الملك : 27 .
(2) الأحزاب : 67 .
(3) رواه في تأويل الآيات : ص 386 نقلا عن البرقي . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 681 _
  صديقي فلان ، وصديقه في الجحيم ؟ فيقول الله سبحانه : أخرجوا له صديقه إلى الجنة ، فيقول من بقي في النار : * (فما لنا من شفعين ولا صديق حميم) * ) (1) .
  والحميم من الاحتمام ، وهو الاهتمام ، وهو الذي يهمه ما يهمك ، أو من ( الحامة ) بمعنى الخاصة ، وهو الصديق الخاص .
  وإنما جمع ( الشفعاء ) ووحد ( الصديق ) لكثرة الشفعاء وقلة الصديق الصادق في الوداد .
  ويجوز أن يكون المراد بالصديق الجمع .
  والكرة : الرجعة إلى الدنيا ، و ( لو ) هنا في معنى التمني ، المعنى : فليت لنا كرة .
  ويمكن أن يكون ( لو ) على أصل معناه ، ويكون محذوف الجواب والتقدير : لفعلنا كذا .
  * (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ * قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ * وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ * إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ * قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمَرْجُومِينَ * قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِي مِنْ الْمُؤْمِنِينَ * فَأَنجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) *

-------------------
(1) رواه القرطبي في تفسيره : ج 13 ص 118 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 682 _
  ( القوم ) مؤنث ، وتصغيره ( قويمة ) .
  * (أخوهم) * مثل قول العرب : يا أخا بني أسد ، يريدون : يا واحدا منهم ، ومنه بيت الحماسة : لا يسألون أخاهم حين يندبهم * في النائبات على ما قال برهانا (1) * (رسول أمين) * على الرسالة ، أو كان مشهورا فيهم بالأمانة كمحمد (صلى الله عليه وآله) في قريش .
  * (وأطيعون) * فيما أدعوكم إليه من الإيمان والتوحيد .
  * (وما أسئلكم) * على هذا الأمر * (من أجر) * يعني على دعائه ونصحه .
  * (فاتقوا الله) * في طاعتي ، وكرر ذلك ليقرره في نفوسهم مع أن كل واحد منهما قد تعلق بعلة : جعل علة الأول كونه أمينا فيما بينهم ، وعلة الثاني حسم طمعه عنهم .
  وقرئ : ( وأتباعك ) (2) جمع تابع كشاهد وأشهاد ، أو جمع تبع كبطل وأبطال .
   والواو للحال ، والتقدير : وقد اتبعك ، فأضمر ( قد ) ، والرذالة والنذالة : الخسة والدناءة ، وإنما استرذلوهم لاتضاع نسبهم وقلة نصيبهم من الدنيا ، وقيل : كانوا من أهل الصناعات الدنيئة كالحياكة ونحوها (3) .
  * (وما علمي) * وأي شئ علمي ؟ والمراد : انتفاء علمه بسر أمرهم وباطنه ، وإنما قال هذا لأنهم قد طعنوا مع استرذالهم في إيمانهم ، وادعوا أنهم لم يؤمنوا على بصيرة وإنما آمنوا هوى وبديهة ، كما حكى الله عنهم قولهم : * (الذين هم أراذلنا بادي الرأى) * (4) .
  ويجوز أن يكون قد فسر نوح قولهم : * (الأرذلون) *

-------------------
(1) البيت منسوب لقريط بن انيف العنبري ، وهو أول أبيات ثمانية نظمها عندما أغار عليه ناس من بني شيبان فأخذوا له ثلاثين بعيرا ، فاستنجد قومه فلم ينجدوه ، فأتى مازن تميم فركب معه نفر فأطردوا لبني شيبان مائة بعير فدفعوها إليه ، انظر خزانة الأدب: ج 7 ص 441 .
(2) قرأه عبد الله وابن عباس والأعمش وأبو حيوة والضحاك وابن السميقع وسعيد بن أبي سعيد الأنصاري وطلحة ويعقوب ، راجع التبيان : ج 8 ص 41 ، وتفسير الآلوسي : ج 19 ص 107 .
(3) قاله عكرمة ومجاهد ، راجع تفسير الماوردي : ج 4 ص 179 ، وتفسير البغوي : ج 3 ص 392 .
(4) هود : 27 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 683 _
  بما هو الرذالة عنده من سوء الأعمال وفساد العقيدة ، ثم بنى جوابه على ذلك فقال : ما علي إلا اعتبار الظواهر دون الفحص عن الضمائر ، فإن كانوا على ما وصفتم فالله محاسبهم ومجازيهم * (وما ... أنا إلا نذير) * لا محاسب ولا مجاز ، وليس من شأني أن أطرد * (المؤمنين) * طمعا في إيمانكم .
  * (قالوا لئن لم تنته) * أي : لئن لم ترجع عما تقول * (لتكونن من المرجومين) * بالحجارة أو بالشتم .
  * (قال رب) * إنهم * (كذبون‍) * ـ ي في وحيك ورسالتك فاحكم بيني وبينهم .
  والفتاح : الحاكم ، والفتاحة : الحكومة .
  و * (الفلك) * السفينة ، وهو واحد هنا ، وجمع في قوله : * (وترى الفلك فيه مواخر) * (1) فالواحد كقفل ، والجمع كأسد ، جمعوا فعلاء (2) على ( فعل ) كما جمعوا ( فعلى ) على ( فعل ) لأنهما أخوان في قولك : العرب والعرب ، والعجم والعجم ، والرشد والرشد ، و * (المشحون) * المملوء .
  * (كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنْ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)

-------------------
(1) فاطر : 12 .
(2) في بعض النسخ ( فعلا ) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 684 _
  * الريع : المكان المرتفع ، والآية : العلم ، قيل : كانوا يهتدون بالنجوم في أسفارهم ، فاتخذوا في طرقهم أعلاما طوالا فعبثوا بذلك ، لأنهم كانوا مستغنين عنها بالنجوم (1) ، وقيل : كانوا يبنون أبنية لا يحتاجون إليها لسكناهم ، فجعل بناء ما يستغنون عنه عبثا منهم (2) .
  وعن النبي (صلى الله عليه وآله) : ( كل بناء يبنى وبال على صاحبه يوم القيامة إلا مالابد منه ) (3) .
  وقيل : كانوا يبنون بالمواضع المرتفعة ليشرفوا على المارة فيعبثوا بهم (4) .
  والمصانع : مآخذ الماء ، وقيل : القصور المشيدة والحصون (5) * (لعلكم تخلدون) * أي : ترجون الخلود في الدنيا ، أو : يشبه حالكم حال من يخلد .
  * (وإذا بطشتم) * بسوط أو سيف * (بطشتم) * ظالمين عالين ، وقيل : الجبار : الذي يقتل ويضرب على الغضب (6) ، وعن الحسن : مبادرين تعجيل العذاب لا يتفكرون في العواقب (7) .
  ثم نبههم على نعم الله تعالى عليهم ، فأجملها بقوله : * (أمدكم بما تعلمون) * ، ثم فصلها وعددها عليهم ، وعرفهم المنعم النعم بتعديدها ، أي : * (سوآء علينا

-------------------
(1) قاله عكرمة ومجاهد ، راجع تفسير القرطبي : ج 13 ص 123 .
(2) قاله عطية والكلبي ، راجع المصدر السابق .
(3) أخرجه أبو داود في سننه : ج 4 ص 361 ح 5237 وليس فيه لفظة ( يبنى ) .
(4) قاله الضحاك والكلبي ، راجع تفسير الآلوسي : ج 19 ص 110 .
(5) وهو قول مجاهد والكلبي ، راجع تفسير الماوردي : ج 4 ص 181 ، وتفسير البغوي : ج 3 ص 393 .
(6) قاله الحسن والكلبي ، راجع تفسير الماوردي : ج 4 ص 182 ، وتفسير القرطبي : ج 13 ص 124 .
(7) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 326 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 685 _
  أوعظت أم لم تكن) * من أهل الوعظ .
  وقرئ : ( خلق الأولين ) بالفتح (1) ، ومعناه : إن ما جئت به ليس إلا اختلاق الأولين وكذبهم ، أو : ما خلقنا هذا إلا خلق القرون الماضية ، نحيا كما حيوا ، ونموت كما ماتوا ولا بعث ولا حساب .
  وقرئ : ( خلق الأولين ) بالضم (2) ، أي : ما هذا الذي نحن عليه من الحياة والموت إلا عادة لم يزل عليها الناس في قديم الدهر ، أو : ما هذا الذي جئت به من الكذب إلا عادة الأولين كانوا يلفقون مثله .
  * (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ * قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنْ الْمُسَحَّرِينَ * مَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ * قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ * فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ * فَأَخَذَهُمْ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) *

-------------------
(1) قرأه ابن كثير وأبو عمرو والكسائي وأبو جعفر ، راجع التبيان : ج 8 ص 46 .
(2) وهي قراءة أبي قلابة والأصمعي عن نافع ، راجع شواذ القرآن لابن خالويه : ص 109 ، والبحر المحيط لأبي حيان : ج 7 ص 34 . (*)