سورة يوسف مكية
وهي مائة وإحدى عشرة آية بالإجماع (1) .
في حديث أبي : ( علموا أرقاءكم سورة يوسف (عليه السلام) ، فأيما مسلم تلاها وعلمها أهله وما ملكت يمينه هون الله عليه سكرات الموت ، وأعطاه القوة أن لا يحسد مسلما ) (2) .
وعن الصادق (عليه السلام) : ( من قرأها في كل ليلة بعثه الله يوم القيامة وجماله مثل جمال يوسف (عليه السلام) ، ولا يصيبه فزع ، وكان من خيار عباد الله الصالحين ) (3) .
* (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ * إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ * قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ)
-------------------
(1) قال الشيخ الطوسي في تبيانه : ج 6 ص 91 : مكية في قول مجاهد وقتادة ، وهي مائة
وإحدى عشرة آية بلا خلاف في ذلك ، وقال الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 440 : مكية الا
الآيات 1 و 2 و 3 و 7 فمدنية ، وهي مائة واحدى عشرة آية ، نزلت بعد سورة هود ، وقال
الماوردي في تفسيره : ج 3 ص 5 : مكية كلها ، وقال ابن عباس وقتادة : الا أربع آيات
منها .
(2) رواه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 511 مرسلا .
(3) ثواب الأعمال للصدوق : ص 133 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 202 _
* * (الكتب المبين) * الظاهر أمره في الإعجاز ، أو المبين أنه
من عند الله لا من عند البشر ، أو المبين الواضح الذي لا تشتبه معانيه على العرب
لنزوله بلسانهم .
* (قرءا نا عربيا) * حال * (لعلكم تعقلون) * إرادة أن تفهموه
وتحيطوا بمعانيه ، * (ولو جعلنه قرءانا أعجميا) * (1) لالتبس عليكم .
و * (القصص) * يكون مصدرا ، أو يكون بمعنى المقصوص ، كالنقص والحسب ، فإن أريد المصدر فالمعنى : نحن نقص عليك أحسن الاقتصاص * (بمآ أوحينا إليك) * أي : بإيحائنا إليك هذه السورة ، فيكون * (أحسن) * نصبا على المصدر لإضافته إلى المصدر ، والمراد بأحسن الاقتصاص : أنه اقتص على أبدع أسلوب وأحسن طريقة وأعجب نظم ، وإن أريد ب * (القصص) * المقصوص فالمعنى : نحن نقص عليك أحسن مايقص من الأحاديث في بابه لما يتضمن من النكت والحكم والعبر التي ليست في غيرها * (وإن كنت) * : * (إن) * مخففة من الثقيلة (2)، والضمير في * (قبله) * يعود إلى * (مآ أوحينا) * أي : الحديث وإن كنت من قبل إيحائنا إليك من * (الغفلين) * عنه : ماكان لك به علم قط .
* (إذ قال يوسف) * بدل من * (أحسن القصص) * وهو من بدل الاشتمال ، لأن
-------------------
(1) فصلت : 44 .
(2) في بعض النسخ : المثقلة . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 203 _
الوقت مشتمل على مايقص فيه * (يأبت) * قرئ بكسر التاء وفتحها (1) ، وهي تاء التأنيث جعلت عوضا من ياء الإضافة ، وإنما صح أن يكون عوضا منها لأن التأنيث والإضافة يتناسبان في أن كل واحد منهما زيادة مضمومة إلى الاسم في آخره ، ومن فتح حذف الألف من ( يآأبتا ) وأبقى الفتحة دليلا عليها * (إنى رأيت) * من الرؤيا ، وعن ابن عباس : أن يوسف رأى في المنام ليلة القدر أحد عشر كوكبا نزلن من السماء فسجدن له ، ورأى الشمس والقمر نزلا من السماء فسجدا له ، فالشمس والقمر أبواه والكواكب إخوته الأحد عشر (2) ، وقيل : الشمس أبوه والقمر خالته (3) ، وذلك أن أمه ( راحيل ) قد ماتت ، ويجوز أن يكون الواو في * (والشمس والقمر) * بمعنى ( مع ) أي : رأيت الكواكب مع الشمس والقمر ، و * (رأيتهم) * كلام مستأنف على تقدير سؤال وقع جوابا له ، كأنه قال له يعقوب : كيف رأيتها ؟ فقال : * (رأيتهم لى سجدين) * .
* (قال) * يعقوب : * (لاتقصص رؤياك على إخوتك) * خاف عليه حسد إخوته له وبغيهم عليه ، لما عرف من دلالة رؤياه على أن الله يبلغه من شرف الدارين أمرا عظيما * (فيكيدوا) * منصوب بإضمار ( أن ) ، والمعنى : إن قصصتها عليهم كادوك ، ضمن قوله : ( يكيدوا ) معنى ( يحتالوا ) فعداه باللام ليفيد معنى الفعلين ، ثم أكده بالمصدر فقال : * (كيدا) * ، * (عدو مبين) * ظاهر العداوة .
* (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ )
-------------------
(1) وبالفتح هي قراءة ابن عامر وأبي جعفر والأعرج ، راجع تفسير القرطبي : ج 9 ص 121 .
(2) تفسير ابن عباس : ص 193 .
(3) قاله ابن عباس وقتادة والسدي ، راجع تفسير الطبري : ج 7 ص 149 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 204 _
(إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوْ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ) * الاجتباء : الاصطفاء ، و * (الاحاديث) * الرؤى جمع الرؤيا ، لأن الرؤيا : إما حديث نفس أو حديث ملك أو حديث شيطان ، وتأويلها : عبارتها وتفسيرها ، وكان يوسف (عليه السلام) أعبر الناس للرؤيا وأصحهم عبارة لها ، وقيل : هو معاني كتب الله تعالى وسنن الأنبياء وما غمض على الناس من مقاصدها ، يفسرها لهم ويشرحها (1) ، وهي اسم جمع للحديث ، ومعنى إتمام النعمة : أنه وصل نعمة الدنيا لهم بنعمة الآخرة فجعلهم أنبياء وملوكا ثم نقلهم إلى نعيم الآخرة والدرجات العلى من الجنة ، و * (ءال يعقوب) * أهله ونسله ، وأصل ( آل ) : أهل ، بدليل أن تصغيره ( أهيل ) إلا أنه لا يستعمل إلا فيمن له خطرفيقال : آل النبي وآل الملك ، و * (إبراهيم) * عطف بيان ل * (أبويك) * ، * (إن ربك عليم) * بموضع الاجتباء * (حكيم) * في إتمام الإنعام على من يستحقه .
* (في يوسف وإخوته) * في قصتهم وحديثهم * (ءايت) * أي : علامات ودلائل على حكمته ، أو عبر وأعاجيب * (للسائلين) * عن قصتهم ، أو آيات على نبوة محمد (صلى الله عليه وآله) * (للسائلين) * للذين سألوه : من اليهود عنها فأخبرهم بالصحة (2) من غير سماع ولا قراءة كتاب ، فقد روي : أنهم قالوا لكبراء المشركين : سلوا محمدا : لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر ؟ وعن قصة يوسف (3) ، وقرئ : ( ءاية ) (4) .
-------------------
(1) قاله الجبائي والزجاج ، راجع التبيان : ج 6 ص 98 ، ومعاني القرآن للزجاج : ج 3 ص
92 .
(2) في نسخة : بالقصة .
(3) رواها القرطبي في تفسيره : ج 9 ص 130 .
(4) قرأه ابن كثير وحده ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 465 . (*
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 205 _
* (ليوسف) * لام الابتداء ، وفيها تأكيد وتحقيق لمضمون الجملة ، أرادوا : أن زيادة محبته ليوسف وأخيه بنيامين أمر ثابت لاشبهة فيه ، وإنما قالوا : * (أخوه) * لأن أمهما كانت واحدة * (ونحن عصبة) * حال ، والمراد : أنه يفضلهما في المحبة علينا وهما ابنان صغيران لا كفاية فيهما ، ونحن جماعة : عشرة رجال كفاة نقوم بمرافقه * (إن أبانا لفي) * ذهاب عن طريق الحق والثواب ، والعصبة والعصابة : العشرة فصاعدا ، سموا بذلك لأنهم تعصب بهم الأمور .
* (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوْ اطْرَحُوهُ أَرْضاً) * مجهولة بعيدة من العمران ، هذا هو المعنى في تنكيرها وإخلائها من الوصف ، ولإبهامها من هذا الوجه نصب نصب الظروف المبهمة * (يخل لكم وجه أبيكم) * يقبل عليكم إقبالة واحدة ولا يلتفت عنكم إلى غيركم ، وقيل : * (يخل لكم) * يفرغ لكم من الشغل بيوسف (1) ، * (وتكونوا من) * بعد يوسف ، أي : بعد قتله أو تغريبه * (قوما صلحين) * تائبين إلى الله مما جنيتم عليه ، أو تصلح دنياكم وتنتظم أموركم (2) .
* (قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ * قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخَاسِرُونَ) * القائل : يهودا ، وكان أحسن إخوته رأيا فيه ، وهو الذي قال : * (فلن أبرح الارض حتى يأذن لى أبى) * (3) ، * (قال) * لهم : القتل أمر
عظيم * (ألقوه في غيبت
-------------------
(1) قاله الطبري في تفسيره : ج 7 ص 152 .
(2) قاله الحسن كما في تفسير الماوردي : ج 3 ص 11 .
(3) الآية : 80 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 206 _
الجب) * وهو غوره وما غاب منه عن عين الناظر وأظلم من أسفله ، وقرئ : ( غيابات ) في الموضعين على الجمع (1) ، والجب : البئر التي لم تطو * (يلتقطه) * يأخذه * (بعض السيارة) * وهم الذين يسيرون في الأرض * (إن كنتم فعلين) * أي : إن كنتم على أن تفعلوا ما يحصل به غرضكم فهذا هو الرأي .
( مالك لاتأمننا ) بإظهار النونين (2) ، وقرئ : * (لا تأمنا) * بالإدغام بإشمام وغير إشمام (3) ، والمعنى : لم تخافنا عليه ونحن نريد له الخير ونحبه ، وما فعلنا في أمره ما يدل على خلاف النصيحة ؟ وقرئ : ( نرتع ونلعب ) بالنون فيهما (4) وبالياء فيهما والجزم ، وقرئ : الأول بالنون والثاني بالياء (5) ، وأصل الرتعة : الخصب والسعة ، والمعنى : ننال ما نحتاج إليه ونتسع
في أكل الفواكه وغيرها ، وقرئ : ( يرتع ) بكسر العين ( ويلعب ) بالياء فيهما (6) وبالنون (7) من ارتعى يرتعي ، يقال : رعى وارتعى ، مثل : شوى واشتوى ، وقد يستقيم أن يقال : ( نرتع ) وإنما يرتع إبلهم ، ونرتع وإنما يرتعي إبلهم (8) ، فيكون على حذف المضاف ، وأرادوا به اللعب المباح مثل الرمي والاستباق بالأقدام .
* (ليحزنني أن تذهبوا به) * اعتذر إليهم بشيئين : أحدهما : أن مفارقته إياه مما
-------------------
(1) قرأه نافع وأبو جعفر ، راجع التبيان : ج 6 ص 102 .
(2) وهي قراءة طلحة بن مصرف ، راجع تفسير القرطبي : ج 9 ص 138 .
(3) حكاها ابن غلبون في التذكرة : ج 2 ص 465 عن الأعشى ، والقرطبي في تفسيره : ج 9 ص 138 عن يزيد بن القعقاع وعمرو بن عبيد والزهري .
(4) قرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ، راجع التبيان : ج 6 ص 104 .
(5) وهي قراءة ابن كثير برواية اسماعيل المكي وبه قرأ يعقوب ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 345 .
(6) قرأه نافع وحده ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 345 .
(7) وهي قراءة النخعي وأبي اسحاق ويعقوب ، راجع البحر المحيط لأبي حيان : ج 5 ص
285 .
(8) واليه ذهب أبو عبيدة في مجاز القرآن : ج 1 ص 303 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 207 _
يحزنه لأنه كان لا يصبر عنه ساعة ، والآخر : خوفه عليه من عدوة * (الذئب) * إذا غفلوا * (عنه) * برعيهم ولعبهم * (لئن أكله الذئب) * اللام موط - ئة للقسم ، و * (إنآ إذا لخسرون) * جواب القسم وقد سد مسد جواب الشرط ، والواو في * (ونحن عصبة) * واو الحال ، حلفوا له : لئن كان ماخافه من خطفة الذئب أخاهم من بينهم وحالهم أنهم عشرة رجال ، بمثلهم تعصب الأمور وتستكفي الخطوب ، إنهم إذا لقوم هالكون ضعفا وخورا وعجزا، أو مستحقون أن يهلكوا لأنه لاغناء عندهم ، أو مستحقون لأن يدعى عليهم بالخسار والدمار فيقال : خسرهم الله، حين أكل الذئب بعضهم وهم حضور .
* (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ * وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) * * (أن يجعلوه) * مفعول * (أجمعوا) * من أجمع الأمر وأزمعه ، جواب ( لما ) محذوف ، والتقدير : فعلوا به ما فعلوا من الأذي، فقد روي : أنهم لما برزوا به إلى البرية أظهروا له العداوة وأخذوا يضربونه ، فلما أرادوا إلقاءه في الجب ربطوا يديه ونزعوا قميصه ودلوه في البئر ، فلما بلغ نصفها ألقوه وكان في البئر ماء فسقط فيه ، ثم آوى إلى صخرة فقام عليها ، وكان إبراهيم خليل الرحمن لما ألقي في النار عريانا أتاه جبرئيل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه ، فدفعه إبراهيم إلى إسحاق ، وإسحاق إلى يعقوب ، وجعله يعقوب في تميمة علقها في عنق يوسف ،
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 208 _
فجاء جبرئيل فأخرجه وألبسه إياه ، وهو القميص الذي وجد يعقوب ريحه لما فصلت العير من مصر (1) .
* (وأوحينا إليه) * أوحى إليه في الصغر كما أوحى إلى يحيى وعيسى : *
(لتنبئنهم بأمرهم هذا) * ، وإنما أوحى إليه ليبشر بما يؤول إليه أمره ، والمعنى :
لتتخلصن مما أنت فيه ، ولتحدثن إخوتك بما فعلوا بك * (وهم لا يشعرون) * أنك يوسف ،
لعلو شأنك ولطول عهدهم بك ، وقيل : يريد * (وهم لا يشعرون) * بإيحائنا إليه وإزالتنا
الوحشة عنه ، ويحسبون أنه مستوحش لا أنيس له .
وجاء إخوته * (أباهم عشاء) * آخر النهار ، وأظهروا البكاء ليوهموه أنهم صادقون .
* (قالوا يأبانآ إنا ذهبنا نستبق)
* أي : نتسابق في العدو أو في الرمي ، وقيل : في تفسيره : ننتضل (2)(3) ، * (ومآأنت ب) * مصدق * (لنا ولو كنا) * من أهل الصدق عندك لشدة محبتك ليوسف فكيف وأنت سيئ الظن بنا غير واثق بقولنا ! * (بدم كذب) * أي : ذي كذب ، أو (4) وصف بالمصدر مبالغة ، كقول الشاعر : فهن به جود وأنتم به بخل (5) وروي : أن يعقوب أخذ القميص وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص وقال : تالله ما رأيت كاليوم ذئبا أحلم من هذا ، أكل ابني ولم يمزق عليه قميصه (6) .
-------------------
(1) رواها البغوي في تفسيره : ج 2 ص 414 .
(2) ننتضل : نتبارى في الرمي ، ونستبق : نتبارى في الجري ، انظر لسان العرب : مادتي (نضل) و (سبق) .
(3) قاله الزجاج في معاني القرآن : ج 3 ص 95 .
(4) في بعض النسخ : ( و ) بدل ( أو ) .
(5) أنشده الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 451 .
(6) رواه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 451 .
(*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 209_
* (على قميصه) * محله نصب على الظرف ، أي : * (وجآءو) * فوق * (قميصه بدم كذب) * ، ولا يجوز أن يكون حالا متقدمة ، لأن الحال عن المجرور لايتقدم عليه * (قال بل سولت) * أي : سهلت * (لكم أنفسكم أمرا) * عظيما ارتكبتموه من يوسف وهونته في أعينكم (1) ، والسول : الاسترخاء * (فصبر جميل) * أي : فأمري صبر جميل ، أو فصبر جميل أمثل ، وفي الحديث : ( إن الصبر الجميل هو الذي لاشكوى فيه ) (2) يعني : إلى الخلق ، لقوله : * (إنما أشكوا بثى وحزني إلى الله) * (3) ، * (والله المستعان على) * احتمال * (ما تصفون) * ـ ه من هلاك يوسف .
* (وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنْ الزَّاهِدِينَ) * (سيارة) * جماعة مارة تسير من قبل مدين إلى مصر ، وذلك بعد ثلاثة أيام من إلقاء يوسف في الجب ، فأخطأوا الطريق فنزلوا قريبا منه * (فأرسلوا واردهم) * والوارد : الذي يرد ليستقي للقوم ، أي : بعثوا رجلا يطلب لهم الماء ، وهو مالك بن ذعر * (فأدلى دلوه) * في البئر ، فتعلق يوسف بالحبل ، فلما خرج إذا هو بغلام أحسن ما يكون من الغلمان ، ( قال يا بشراي ) (4) أي : أضاف البشرى إلى نفسه ، وقرئ : * (يبشرى) * نادى : البشرى ، كأنه قال : تعالي فهذا أوانك * (وأسروه) * الضمير للوارد وأصحابه : أخفوه من الرفقة ، وقيل : أخفوا أمره ووجد انهم له في الجب
-------------------
(1) في بعض النسخ: في أنفسكم .
(2) رواه الطبري في تفسيره : ج 7 ص 163 بإسنادة عن النبي (صلى الله عليه وآله) .
(3) الآية : 86 .
(4) الظاهر أن القراءة المعتمدة لدى المصنف هنا بالألف والياء . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 210 _
وقالوا لهم : دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم بمصر (1) ، وعن ابن عباس : أن الضمير لإخوة يوسف وأنهم قالوا للرفقة : هذا غلام لنا قد أبق فاشتروه منا ، وسكت يوسف مخافة أن يقتلوه (2) ، وانتصب * (بضعة) * على الحال ، أي : أخفوه متاعا للتجارة ، والبضاعة : مايبضع من المال للتجارة ، أي : يقطع .
* (وشروه) * باعوه * (بثمن بخس) * مبخوس ناقص عن القيمة نقصانا ظاهرا * (درا هم) * لادنانير * (معدودة) * قليلة تعد عدا ولا توزن ، وعن ابن عباس : كانت عشرين درهما (3) * (وكانوا فيه من الزا هدين) * ممن يرغب عما في يده فيبيعه بما طف من الثمن ، لأنهم التقطوه ، والملتقط للشئ لا يبالي بم باعه ، ويجوز أن يكون المعنى : واشتروه من إخوته يعني : الرفقة وكانوا من الزاهدين في
نفس يوسف .
* وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) * * (الذي اشتربه من مصر) * هو العزيز الذي كان على خزائن مصر ، واسمه قطفير أو اطفير ، والملك يومئذ : الريان بن الوليد ، وعن ابن عباس : العزيز ملك مصر (4) ، وقيل : اشتراه العزيز وهو ابن سبع عشرة سنة ، وأقام في منزله ثلاث عشرة سنة ، واستوزره الريان بن الوليد وهو ابن ثلاثين سنة ، وآتاه الله الحكمة
-------------------
(1) قاله مجاهد والسدي ، راجع تفسير الطبري : ج 7 ص 165 و 166 .
(2) تفسير ابن عباس : ص 195 .
(3) المصدر السابق .
(4) تفسير ابن عباس : 195 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 211 _
والعلم وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ، وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة (1)، وقيل : اشتراه العزيز بأربعين دينارا وزوج نعل وثوبين أبيضين (2) .
* (وقال... لامرأته أكرمي مثوبه) * أي : اجعلي منزله ومقامه عندنا كريما ، أي : حسنا مرضيا بدليل قوله : * (إنه ربى أحسن مثواى) * ومعناه : تعهديه بالإحسان حتى يكون نفسه طيبة في صحبتنا * (عسى أن ينفعنآ) * لعله ينفعنا بكفايته وأمانته ، أو نتبناه ونقيمه مقام الولد ، وكان قد تفرس فيه الرشد فقال ذلك * (وكذلك) * أي : ومثل ذلك الإنجاء والعطف ، والمراد : كما أنجيناه وعطفنا عليه العزيز * (مكنا) * له * (في) * أرض مصر ، وجعلناه ملكا يتصرف فيها بأمره ونهيه * (ولنعلمه من تأويل الاحاديث) * كان ذلك الإنجاء والتمكين * (والله غالب على أمره) * لايمنع مما يشاء ويقضي ، أو على أمر يوسف يدبره ولا يكله إلى غيره .
وقيل في ال ( أشد ) : ثاني عشرة سنة (3) ، وعشرون (4) ، وثلاث وثلاثون (5) ، وأربعون (6) ، وقيل : أقصاه ثنتان وستون سنة (7) ، * (حكما) * أي : حكمة ، يعني : النبوة
* (وعلما) * بالشريعة ، وقيل : الحكم على الناس والعلم بوجوه المصالح (8) ، * (وكذلك نجزى المحسنين) * فيه تنبيه على أن الله آتاه الحكم والعلم جزاء على إحسانه في العمل وتقواه .
-------------------
(1) قاله ابن اسحاق على ما في تاريخ الطبري : ج 1 ص 235 .
(2) قاله ابن عباس كما في مجمع البيان : ج 5 ـ 6 ص 221 .
(3) قاله الشعبي وربيعة وزيد بن أسلم ومالك بن أنس راجع تفسير الماوردي : ج 3 ص 21 .
(4) قاله ابن عباس والضحاك ، راجع التبيان : ج 6 ص 117 .
(5) قاله الحسن ومجاهد وقتادة وابن عباس على رواية ، راجع تفسير الطبري : ج 7 ص
175 .
(6) قاله الحسن ، راجع تفسيره : ج 2 ص 30 .
(7) حكاه الطبري في تفسيره : ج 7 ص 174 .
(8) حكاه النحاس في إعراب القرآن : ج 2 ص 321 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 212 _
وعن الحسن : من أحسن عبادة ربه في شبيبته آتاه الحكمة في اكتهاله (1) .
والمراودة : مفاعلة من راد يرود : إذا جاء وذهب ، والمعنى : خادعته * (عن نفسه) * أي : فعلت ما يفعله المخادع بصاحبه عن الشئ الذي لا يريد أن يخرجه من يده ، يحتال أن يغلبه عليه ويأخذه منه ، وهي عبارة عن التمحل (2) لمواقعته إياها ، و * (هيت لك) * أي : أقبل وتعال ، وقرئ : ( هيت لك ) بضم التاء (3) ، و ( هيت لك ) بكسر الهاء وفتح التاء (4) ، و ( هئت لك ) بالهمزة وضم التاء (5) ، بمعنى تهيأت لك ، يقال : هاء يهئ ، واللام من صلة
الفعل وأما في الأصوات فللبيان ، كأنه قيل : لك أقول هذا * (معاذ الله) * أعوذ بالله
معاذا * (إنه) * الضمير للشأن والحديث * (ربى أحسن مثواى) * مبتدأ وخبر ، يريد قطفير
حين قال لامرأته : * (أكرمي مثوبه) * فليس جزاؤه أن أخلفه في أهله بسوء وأخونه .
* (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ * وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنْ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنْ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنْ الْخَاطِئِينَ)
-------------------
(1) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 454 .
(2) تمحل : أي احتال ، (الصحاح : مادة محل) .
(3) قرأه ابن كثير وأبو عبد الرحمن السلمي ، راجع المحتسب لابن جني : ج 1 ص
337 .
(4) وهي قراءة نافع وابن عامر وذكوان ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج
2 ص 466 .
(5) وهي قراءة ابن عباس وابن عامر وهشام ، راجع التبيان : ج 6 ص 118 ، ومعاني
القرآن للزجاج : ج 3 ص 100 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 213 _
* هم بالأمر : إذا قصده وعزم عليه ، والمعنى : * (ولقد همت) * بمخالطته * (وهم) * بمخالطتها * (لولا أن رءا برهن ربه) * جوابه محذوف تقديره : لولا أن رأى برهان ربه لخالطها ، فحذف لأن قوله : * (وهم بها) * يدل عليه ، كقولك : هممت بقتله لولا أني خفت الله، معناه : لولا أني خفت الله لقتلته ، والمراد في قوله : * (وهم بها) * : أن نفسه مالت إلى المخالطة ونازعت إليها عن شهوة الشباب ميلا يشبه الهم بها والقصد إليها ، ولو لم يكن ذلك الميل الشديد المسمى هما لشدته لما كان صاحبه ممدوحا عند الله بالامتناع ، ولو كان همه كهمها لما مدحه الله بأنه : * (من عبادنا المخلصين) * ، ويجوز أن يريد بقوله : * (وهم بها) * : وشارف أن يهم بها ، كما يقول الرجل : قتلته لو لم أخف الله، ومن حق القارئ أن يقف على * (ولقد همت به) * ويبتدئ * (وهم بها لولا أن رءا برهن ربه) * (1) ، * (كذلك) * الكاف في محل النصب أي : مثل ذلك التثبيت ثبتناه ، أو في محل الرفع أي : الأمر مثل ذلك * (لنصرف عنه السوء) * من خيانة السيد * (والفحشاء) * من الزنا ( إنه من عبادنا المخلصين ) الذين أخلصوا دينهم لله ، وبالفتح : الذين أخلصهم الله لطاعته بأن عصمهم .
* (واستبقا الباب) * وتسابقا إلى الباب ، على حذف الجار أو على تضمينه معنى ( ابتدرا ) ، ففر منها يوسف فأسرع يريد الباب البراني ليخرج ، وأسرعت وراءه لتمنعه الخروج * (وقدت قميصه من دبر) * اجتذبته من خلفه فانقد ، أي :
-------------------
(1) قال الهمداني : والأحسن أن يقف القارئ على قوله : * (ولقد همت به) * ، لا بل يجب
عليه ليخرج * (وهم بها) * من حيز القسم ، ليدل أنه لم يهم بها ، انظر الفريد : ج 3 ص
48 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 214 _
انشق * (وألفيا سيدها) * وصادفا بعلها وهو قطفير ، و * (ما) * نافية ، أي : ليس جزاؤه إلا السجن ، أو استفهامية بمعنى : أي شئ جزاؤه إلا السجن ؟ كما يقول : من في الدار إلا زيد ؟ وقيل : العذاب الأليم : الضرب بالسياط (1) .
ولما عرضته للسجن والعذاب وأغرت به وجب عليه الدفع عن النفس ف * (قال هي را ودتنى عن نفسي) * ولولا ذلك لكتم عليها * (وشهد شاهد من أهلها) * قيل : كان ابن عم لها وكان جالسا مع زوجها عند الباب (2) ، وقيل : كان ابن خال لها صبيا في المهد (3) ، وسمي قوله شهادة لما أدى مؤدى الشهادة في أن ثبت به قول يوسف وبطل قولها .
* (فلما رءا) * يعني : قطفير ، وعلم براءة يوسف وصدقه وكذبها * (قال إنه) * أي : إن قولك : * (ماجزآء من أراد بأهلك سوءا) * أو : إن هذا الأمر * (من كيدكن) * ، واستعظم كيد النساء لأنهن ألطف مكيدة وأنفذ حيلة من الرجال .
* (يوسف) * حذف منه حرف النداء لأنه منادى قريب * (أعرض عن هذا) * الأمر واكتمه ولاتحدث به * (واستغفرى) * أنت * (لذنبك إنك كنت من) * القوم المتعمدين للذنب ، يقال : خطئ إذا أذنب متعمدا .
* (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتْ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوْا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ)
-------------------
(1) حكاه البغوي في تفسيره : ج 2 ص 421 .
(2) قاله السدي ، راجع تفسير الماوردي : ج 3 ص 28 .
(3) قاله ابن عباس وأبو هريرة وسعيد بن جبير وهلال بن يساف والحسن الضحاك ، راجع
تفسير الحسن البصري : ج 2 ص 33 ، وتفسير الطبري : ج 7 ص 191 ـ 192 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 215 _
* (وقال) * جماعة من النساء ، والنسوة : اسم مفرد لجمع المرأة ، وتأنيثه غير حقيقي كتأنيث اللمة (1) ، وفيه (2) لغتان : كسر النون وضمها * (في المدينة) * في مصر * (امرأت العزيز) * يردن قطفير ، والعزيز : الملك بلسان العرب ، * (فتيها) * غلامها * (شغفها) * خرق حبه شغاف قلبها حتى وصل إلى الفؤاد ، والشغاف : حجاب القلب ، وروي عن أهل البيت (عليهم السلام) : ( شعفها ) بالعين (3) ، من شعف البعير : إذا هنأه فأحرقه بالقطران ، قال امرؤ القيس : كما شعف المهنوءة الرجل الطالي (4) و * (حبا) * نصب على التمييز * (إنا لنربها في ضلل مبين) * أي : في خطأ وبعد عن الصواب .
* (فلما سمعت بمكرهن) * باغتيابهن وتعبيرهن وقولهن : امرأة العزيز عشقت
عبدها الكنعاني * (أرسلت إليهن) * دعتهن * (وأعتدت لهن متكا) * مايتكئن عليه من
نمارق (5) ، قصدت بتلك الهيئة وهي قعودهن متكئات
-------------------
(1) اللمة : الصاحب والأصحاب في السفر والمؤنس ، للواحد والجمع ، (القاموس : مادة لمم) .
(2) أي : في ( النسوة ) .
(3) انظر تفسير القرطبي : ج 9 ص 176 ، والبحر المحيط : ج 5 ص 301 .
(4) صدره : لتقتلني وقد شعفت فؤادها ، ومعناه واضح ، راجع ديوان امرئ القيس : ص
142 .
(5) النمرقة والنمرقة : الوسادة الصغيرة ، والجمع نمارق ، (الصحاح : مادة نمرق) .
(*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 216 _
والسكاكين في أيديهن أن يدهشن عند رؤيته ويشغلن عن نفوسهن فيقطعن أيديهن ، وقيل : * (متكا) * مجلس طعام ، لأنهم كانوا يتكئون للطعام والشراب والحديث كعادة المترفين (1) ، وقيل : * (متكا) * طعاما يجز جزا ، أي : يعتمد بالسكين ، لأن القاطع يتكئ على المقطوع بالسكين (2) ، * (أكبرنه) * أعظمنه وهبن ذلك الحسن الرائع والجمال الرائق ، قيل : كان يوسف إذا سار في أزقة مصر يرى تلالؤ وجهه على الجدار كما يرى نور الشمس من الماء عليها (3) ، وقيل : ورث الجمال من جدته سارة (4) ، * (وقطعن أيديهن) * جرحنها * (حش) * كلمة تفيد معنى التنزيه (5) في باب الاستثناء ، تقول : أساء القوم حاشا زيد ، فمعنى حاشا لله : براءة الله وتنزيه الله من صفات العجز والتعجب من قدرته على خلق جميل مثله ، وأما قوله : * (حش لله ما علمنا عليه من سوء) * (6) فالتعجب من قدرته على
خلق عفيف مثله * (ماهذا بشرا) * نفين عنه البشرية ، لغرابة حاله في الحسن ، وأثبتن له
الملكية لما هو مركوز في الطباع أنه لا أحسن من الملك .
* (قالت فذا لكن الذي لمتننى فيه) * ولم تقل : فهذا ، وهو حاضر ، رفعا لمنزلته في الحسن واستحقاق أن يحب ويفتتن به ، أو تقول : هو ذلك العبد الذي صورتن في أنفسكن ثم لمتنني فيه ، ولو صورتنه بما عاينتن لعذرتنني في الافتتان به * (فاستعصم) * أي : امتنع أشد امتناع كأنه في عصمة ، واجتهد في الاستزادة منها ،
-------------------
(1) قاله ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وقتادة ومجاهد ، راجع تفسير البغوي : ج 2 ص
423 .
(2) قاله أبو زيد الانصاري وعكرمة والضحاك ، راجع تفسير الطبري : ج 7 ص 201 .
(3) وهو قول اسحاق بن أبي فروة ، راجع تفسير البغوي : ج 2 ص 423 .
(4) حكاه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 465 .
(5) في بعض النسخ : ( التبرئة ) بدل ( التنزيه ) .
(6) الآية : 51 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 217 _
ونحوه : استمسك ، وفي هذا برهان قوي على أن يوسف برئ مما أضاف إليه الحشوية (1) من هم المعصية * (ولئن لم يفعل مآءامره) * الأصل : ما آمر به ، فحذف الجار، كما في قولك : أمرتك الخير * (ليسجنن) * ليحبسن في السجن * (وليكونا) * بالنون الخفيفة ولذلك كتبت في المصحف ألفا .
* (قال رب السجن أحب إلى) * أي : أسهل علي * (مما يدعونني إليه) * من الفاحشة ، أو نزول السجن أحب إلي من ركوب المعصية ، روي : أن النسوة لما خرجن من
عندها أرسلت كل واحدة منهن إلى يوسف سرا تسأله الزيارة (2) ، وقيل : إنهن قلن له : أطع مولاتك فإنها مظلومة وأنت تظلمها (3) ، وقرئ : ( السجن ) بالفتح (4) على المصدر * (وإلا تصرف عنى كيدهن) * فزع إلى ألطاف الله تعالى وعصمته كعادة الأنبياء والأولياء فيما وطن عليه نفسه من الصبر * (أصب إليهن) * أمل إليهن * (وأكن من الجهلين) * الذين لا يعملون بما يعلمون ، أو من السفهاء لأن الحكيم لا يفعل القبيح .
-------------------
(1) الحشوية ـ بسكون الشين وفتحها ـ وهم : قوم تمسكوا بالظواهر فذهبوا الى التجسم
وغيره ، قال الجرجاني : وسميت الحشوية حشوية لأنهم يحشون الأحاديث التي لا أصل لها في
الاحاديث المروية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وقال : وجميع الحشوية يقولون
بالجبر والتشبيه وتوصيفه تعالى بالنفس واليد والسمع والبصر ، وقالوا : إن كل حديث
يأتي به الثقة من العلماء فهو حجة أيا كانت الواسطة ، وقال الصفدي : إن الغالب في
الحنفية معتزلة ، والغالب في الشافعية أشاعرة ، والغالب في المالكية قدرية ، والغالب
في الحنابلة حشوية ، راجع التعريفات للجرجاني : ص 341 .
(2) رواه المصنف في مجمع البيان : ج 5 - 6 ص 231 من حديث أبي حمزة الثمالي عن علي ابن الحسين (عليه السلام) .
(3) ذكره السمرقندي في تفسيره : ج 2 ص 160 .
(4) وهي قراءة عثمان بن عفان ومولاه طارق ويعقوب وابن أبي اسحاق و عبد الرحمن الأعرج وزيد بن علي والزهري وابن هرمز ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 467 ، وتفسير القرطبي : ج 9 ص 184 ـ 185 ، والبحر المحيط لأبي حيان : ج 5 ص 306 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 218 _
* (ثم بدا لهم) * الفاعل مضمر لدلالة ما يفسره عليه وهو * (ليسجننه) * ، والمعنى : بدا لهم بداء ، أي : ظهر لهم رأي : * (ليسجننه) * ، * (من بعد ما رأوا الايت) * وهي الشواهد على براءته * (حتى حين) * إلى زمان ، والضمير في * (لهم) * ل * (العزيز) * وأهله ، * (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) * * (ودخل معه السجن فتيان) * أي : عبدان للملك : ملك مصر
مصاحبين له ، لأن ( مع ) تدل على الصحبة ، والفتيان : خباز الملك وشرابيه أدخلا السجن
ساعة أدخل يوسف ، نمي (1) إلى الملك أنهما يسمانه * (إنى أربنى) * يعني : في المنام ، وهي حكاية حال ماضية * (أعصر خمرا) * يعني : عنبا ، تسمية للعنب بما يؤول إليه * (من المحسنين) * من الذين يحسنون عبارة الرؤيا ، أو من المحسنين إلى أهل السجن، فأحسن إلينا : بأن تفرج عنا الغمة بتأويل ما رأينا إن كانت لك يد في تأويل الرؤيا ،
-------------------
(1) نميت الحديث تنمية : إذا بلغته على وجه النميمة والافساد ، (الصحاح : مادة نمم) .
(*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 219 _
روي : أنه كان إذا مرض رجل منهم قام عليه ، وإذا ضاق على أحد منهم مكانه وسع له ، وإن احتاج جمع له (1) .
وعن الشعبي : أن الفتيين امتحناه ، فقال الشرابي : إني أراني في بستان فإذا بأصل حبلة (2) عليها ثلاث عناقيد من عنب فقطعتها وعصرتها في كأس الملك وسقيته ، وقال الخباز : إني أراني فوق رأسي ثلاث سلال فيها أنواع الأطعمة فإذا سباع الطير ينهبن منها (3) .
* (نبئنا) * بتأويل ذلك .
ولما استعبراه ووصفاه بالإحسان ابتدأ فوصف نفسه بما هو فوق علم العلماء وهو الإخبار بالغيب ، وأنه ينبئهما بما يحمل إليهما من الطعام في السجن قبل أن يأتيهما ، ويصفه لهما ويقول : اليوم * (يأتيكما طعام) * بصفة كذا وكذا فيجدانه على ما أخبر به ، وجعل ذلك تخلصا إلى أن يذكر لهما التوحيد ويعرض عليهما الإيمان ويقبح إليهما الشرك بالله * (ذا لكما) * إشارة إلى التأويل ، أي : ذلك التأويل والاخبار بالغائبات * (مما علمني ربى) * وأوحى به إلي ، ولم أقله عن تكهن وتنجم * (إنى تركت) * يجوز أن يكون استئناف كلام ، وأن يكون تعليلا لما قبله أي : علمني ربي لأني تركت * (ملة) * أولئك * (واتبعت ملة ءابآءى) * الأنبياء المذكورين وهي الملة الحنيفية ، وذكر آباءه ليريهما أنه من أهل بيت النبوة ومعدن الوحي بعد أن عرفهما أنه نبي يوحى إليه ، ليقوي رغبتهما في الاستماع إليه * (ماكان لنآ) * أي : ماصح لنا ـ معشر الأنبياء ـ الشرك * (بالله) * ، * (ذلك) * التمسك بالتوحيد * (من فضل الله علينا وعلى الناس) * على الرسل وعلى المرسل إليهم * (ولكن أكثر) * المرسل إليهم
-------------------
(1) رواه قتادة والضحاك والسدي ، راجع تفسير الطبري : ج 7 ص 214 .
(2) الحبلة ـ بالتحريك ـ : القضيب من الكرم ، (الصحاح: مادة حبل) .
(3) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 469 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 220_
* (لا يشكرون) * فضل الله فيشركون .
* (يصحبى السجن) * يريد : يا صاحبي في السجن ، فأضافهما إلى السجن ، كقوله : يا سارق الليلة أهل الدار ، فكما أن الليلة مسروق فيها غير مسروقة فكذلك السجن مصحوب فيه غير مصحوب ، وإنما المصحوب غيره وهو يوسف (عليه السلام) ، ويجوز أن يريد : يا ساكني السجن ، كقوله عز اسمه : * (أصحب النار وأصحب الجنة) * (1) ، * (ءأرباب متفرقون) * في العدد ، أي : أأن يكون لكما أرباب شتى
يستعبدكما هذا ويستعبدكما هذا * (خير) * لكما * (أم) * أن يكون لكما رب واحد قاهر
لا يغالب ولايشارك في الربوبية ؟ وهذا مثل ضربه لعبادة الله وحده ولعبادة الأصنام .
* (ما تعبدون من دونه إلا أسماء) * فارغة سميتم بها ، يقال : سميته بزيد وسميته زيدا * (ما أنزل الله) * بتسميتها * (من سلطن) * أي : حجة * (إن الحكم) * في أمر الدين والعبادة * (إلا لله) * ، ثم بين ماحكم الله فقال : * (أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم) * الثابت بالدلائل . * (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ * وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) * * (أمآ أحدكما) * يعني : الشرابي * (فيسقى ربه خمرا) * أي : سيده * (قضى الامر) * أي : قطع وفرغ منه ، وروي : أنهما قالا : ما رأينا شيئا ، فأخبرهما أن ذلك كائن صدقتما أو كذبتما (2) .
-------------------
(1) الحشر : 20 .
(2) قاله ابن مسعود ، راجع تفسير البغوي : ج 2 ص 427 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 221 _
* (وقال للذي ظن أنه ناج منهما) * الظن هنا بمعنى العلم ، كما في قوله : * (إنى ظننت أنى ملق حسابيه) * (1) ، * (اذكرني عند ربك) * صفني عند الملك بصفتي وأخبره بحالي وأني حبست ظلما ، فأنسى الشرابي * (الشيطن ذكر ربه) * أن يذكره لربه ، وقيل : أنسى الشيطان يوسف ذكر ربه في تلك الحال حين وكل أمره إلى غيره حتى استغاث بمخلوق (2) ، والبضع : مابين الثلاث إلى التسع ، وأصح الأقوال : أنه * (لبث في السجن) * سبع * (سنين) * . * (وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَاي إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ * قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ * وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَاِدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ * قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) * قرأ الصادق (عليه السلام) : ( وسبع سنابل ... يأكلن
ما قربتم لهن ) (3) .
لما دنا فرج يوسف من الحبس رأى الملك وهو الريان بن الوليد رؤيا هالته :
-------------------
(1) الحاقة : 20 .
(2) قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة ، راجع تفسير السمرقندي : ج 2 ص 163 .
(3) تفسير القمي : ج 1 ص 345 ، تفسير العياشي : ج 2 ص 179 ح 33 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 222 _
رأى * (سبع بقرا ت سمان) * خرجن من نهر يابس ، و * (سبع) * بقرات * (عجاف) * فأكلت العجاف السمان * (و) * رأى * (سبع سنبلت خضر) * قد انعقد حبها * (و) * سبعا * (أخر يابست) * قد استحصدت ، فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها ، فجمع الأشراف والكهان وقص رؤياه عليهم * (وقال ... أفتوني في رءيى) * أي : عبروا ما رأيت في منامي * (إن كنتم للرءيا تعبرون) * أي : إن كنتم تنتدبون (1) لعبارة الرؤيا ، وحقيقة عبرت الرؤيا : ذكرت عاقبتها ، كما تقول : عبرت النهر : إذا قطعته حتى تبلغ آخر عرضه ، وأما اللام في قوله : * (للرءيا) * إما أن تكون للبيان كقوله : * (وكانوا فيه من الزاهدين) * (2) ، وإما أن تدخل لأن المعمول إذا تقدم على عامله لم يقو على العمل فعضد باللام كما يعضد به اسم الفاعل إذا قيل : هو عابر للرؤيا لانحطاطه عن الفعل في القوة ، ويجوز أن يكون * (للرءيا) * خبر ( كان "، كما تقول: كان فلان لهذا الأمر: إذا كان مستقلا به متمكنا منه ، و * (تعبرون) * خبر بعد خبر أو حال ، والسبب في وقوع * (عجاف) * جمعا ل ( عجفاء ) ، وأفعل وفعلاء لايجمعان على فعال ، حمله على * (سمان) * لأنه نقيضه ، وهم يحملون النظير على النظير والنقيض على النقيض * (وأخر يابست) * أي : وسبعا أخر .
وأضغاث الاحلام : تخاليطها وأباطيلها ، وما يكون منها من وسوسة أو
حديث نفس ، وأصل الأضغاث : ما جمع من أخلاط النبات وحزم ، والواحد ضغث ، والإضافة بمعنى ( من ) ، أي : أضغاث من أحلام ، والمعنى : هي أضغاث أحلام .
* (وادكر بعد أمة) * أي : بعد مدة طويلة * (أنا أنبئكم بتأويله) * أنا أخبركم به عمن عنده علمه * (فأرسلون) * فابعثوني إليه لأسأله ومروني باستعباره ، فأرسلوه
-------------------
(1) ندبه لأمر فانتدب له : أي دعاه له فأجاب ، (الصحاح : مادة ندب) .
(2) الآية : 20 .
(*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 223 _
إلى يوسف ، فأتاه فقال : * (يوسف أيها الصديق) * أيها البليغ في الصدق ، وإنما قاله لأنه تعرف صدقه في تأويل رؤياه ورؤيا صاحبه ، ولذلك كلمه كلام محترز فقال : * (لعلى أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون) * لأنه ليس على يقين من الرجوع فربما اخترم دونه ، ولا من علمهم فربما لم يعلموا ، ومعنى * (لعلهم يعلمون) * : لعلهم يعلمون فضلك ومكانك من العلم فيطلبونك ويخلصونك من حبسك، وعن ابن عباس : لم يكن السجن في المدينة (1) .
* (تزرعون) * خبر في معنى الأمر ، كقوله : * (تؤمنون بالله ورسوله وتجهدون) * (2) ، ويدل عليه قوله : * (فذروه في سنبله) * ، قرئ : * (دأبا) * بسكون الهمزة (3) وتحريكها ، وهما مصدرا دأب في العمل ، وهو حال من المأمورين ، أي : دائبين : إما على تدأبون دأبا ، وإما على إيقاع * (دأبا) * بمعنى : ذوي دأب * (فذروه في سنبله) * لئلا يتسوس ، و * (يأكلن) * من الإسناد المجازي : جعل أكل أهلهن مسندا إليهن * (تحصنون) * تحرزون وتخبؤون .
* (يغاث الناس) * من الغوث أو من الغيث ، يقال : غيثت البلاد : إذا مطرت (4) ، ومنه قول الأعرابية : غثنا ما شئنا * (يعصرون) * العنب والسمسم ، وقرئ : ( يعصرون ) (5) من عصره : إذا أنجاه ، وقيل : معناه : يمطرون (6) . تأول البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخصبة ، والعجاف
-------------------
(1) حكاه عنه البغوي في تفسيره : ج 2 ص 429 .
(2) الصف : 11 .
(3) قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 349 .
(4) في بعض النسخ : أمطرت .
(5) وهي قراءة عيسى والأعرج ، راجع البحر المحيط لأبي حيان : ج 5 ص 316 .
(6) قاله عيسى بن عمر الثقفي ، راجع تفسير الماوردي : ج 3 ص 45 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 224 _
واليابسات بسنين مجدبة ، ثم بشرهم بعد الفراغ من تأويل الرؤيا بأن العام الثامن يجئ مباركا خصيبا كثير الخير ، وذلك من جهة الوحي .
* (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ * قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتْ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) * تأنى (عليه السلام) وتثبت في إجابة الملك وقدم سؤال النسوة ليظهر براءة ساحته عما اتهم به وحبس لأجله ، ومن كرمه وحسن أدبه أنه لم يذكر امرأة العزيز مع ما صنعت به من السجن والعذاب ، واقتصر على ذكر * (النسوة التى قطعن أيديهن) * ، * (ما خطبكن) * ما شأنكن * (إذ را ودتن يوسف عن نفسه) * هل وجدتن منه ميلا إليكن ؟ * (قلن حش لله) * تعجبا من عفته ونزاهته عن الريبة * (الن حصحص الحق) * أي : ثبت الحق واستقر ، وهو من حصحص البعير : إذا ألقى ثفناته للإناخة ، ولا مزيد على شهادتهن له بالبراءة واعترافهن على أنفسهن بأنه لم يفعل شيئا مما قرفنه به لأنهن خصومه ، وإذا اعترف الخصم بأن صاحبه على الحق وهو على الباطل لم يبق لأحد كلام .
* (ذلك) * أي : ذلك التشمر والتمكن والتثبت * (ليعلم) * العزيز * (أنى لم أخنه) * بظهر الغيب في حرمته ، وقوله : * (بالغيب) * في محل النصب على الحال من الفاعل أو المفعول ، بمعنى : وأنا غائب عنه أو هو غائب عني * (و) *
ليعلم * (أن الله
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 225 _
لا يهدي كيد الخائنين) * أي : لا ينفذه ولا يسدده .
ثم تواضع لله وبين أن ما فيه من الأمانة إنما هو بتوفيق الله وعصمته ، فقال : * (وما أبرئ نفسي) * من الزلل * (إن النفس لامارة بالسوء) * أراد الجنس * (إلا مارحم ربى) * إلا البعض الذي رحمه ربي بالعصمة ، ويجوز أن يكون بمعنى الزمان ، أي : وقت رحمة ربي ، وقيل : هو من كلام امرأة العزيز (1) ، أي : ذلك الذي قلت ليعلم يوسف أني لم أكذب عليه في حال الغيبة وصدقت فيما سئلت عنه ، وما أبرئ نفسي مع ذلك من الخيانة فإني خنته حين قذفته وسجنته ، تريد الاعتذار مما كان منها .
* (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) * * (أستخلصه) * وأستخصه متقاربان ، والمعنى : أنه جعله خالصا لنفسه وخاصا به يرجع إليه في تدبيره * (فلما كلمه) * وعرف فضله وأمانته ، لأنه استدل بكلامه على عقله ، وبعفته على أمانته * (قال إنك) * أيها الصديق * (اليوم لدينا مكين) * ذو مكانة ومنزلة * (أمين) * مؤتمن على كل شئ .
ثم قال : أيها الصديق ، إني أحب أن أسمع رؤياي منك ، قال : نعم أيها الملك رأيت سبع بقرات ، فوصف لونهن وأحوالهن ووصف السنابل على الهيئة التي رآها ، ثم قال له : من حقك أن تجمع الطعام وتزرع زرعا كثيرا في هذه السنين
-------------------
(1) حكاه الماوردي في تفسيره : ج 3 ص 48 . (*)