* ( قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) * وبخهم بترك القتال ، ثم أكد ذلك بالأمر بالقتال فقال : * (قتلوهم) * ، ثم وعدهم أنه * (يعذبهم) * بأيديهم قتلا ، ويخزيهم أسرا ، وينصرهم * (عليهم) * ويشفي * (صدور) * طائفة من المؤمنين وهم خزاعة (1) ، وعن ابن
عباس : هم بطون من اليمن قدموا مكة وأسلموا فلقوا منهم أذي ، فقال لهم رسول الله (صلى
الله عليه وآله) : ( أبشروا فإن الفرج قريب ) (2) .
* (وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ) * لما لقوا منهم من المكروه ، وقد أنجز الله هذه المواعيد كلها لهم ، فكان ذلك دليلا على صحة نبوة نبيه (عليه السلام) * (ويتوب الله على من يشآء) * استئناف كلام ، وفيه إخبار بأن بعض أهل مكة سيتوب عن كفره ، وقد كان ذلك ـ أيضا ـ فقد أسلم كثير منهم * (والله عليم) * يعلم ماسيكون كما يعلم ما قد كان * (حكيم) * لا يفعل إلا ما فيه الحكمة .
* (أم) * منقطعة وفي الهمزة معنى التوبيخ ، يعني : أنكم لاتتركون على ما أنتم عليه حتى يميز المخلصون منكم وهم (3) المجاهدون في سبيل الله لوجه الله * (ولم يتخذوا ... وليجة) * أي : بطانة وأولياء يوالونهم ويفشون إليهم أسرارهم ، و * (لما) * معناها التوقع ، ودلت على أن تميز ذلك وإيضاحه متوقع ، وقوله :
-------------------
(1) وخزاعة : حي من الأزد، سموا ذلك لأن الأزد لما خرجت من مكة لتتفرق في البلاد
تخلفت عنهم خزاعة وأقامت بها ، وخزع فلان عن أصحابه : أي تخلف ، انظر الصحاح : مادة
خزع .
(2) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 252 .
(3) في نسخة زيادة : المهاجرون . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 52 _
* (ولم يتخذوا) * عطف على * (جهدوا) * فهو داخل ـ أيضا ـ في الصلة ، فكأنه قيل : ولما يعلم الله المجاهدين منكم والمخلصين غير المتخذين وليجة من دون الله، والوليجة : فعيلة من ولج ، كالدخيلة من دخل ، والمراد بنفي العلم نفي المعلوم كما يقال : ما علم الله ما قيل في فلان أي : ما وجد ذلك منه .
* ( مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ) * * (ما) * صح * (للمشركين) * وما استقام لهم *
(أن يعمروا مسجد الله) * يعني : عمارة المسجد الحرام ، وإنما جمع لأن كل موضع منه
مسجد ، أو لأنه قبلة المساجد كلها فعامره كعامر جميع المساجد ، أو أريد جنس المساجد
فيدخل فيه ما هو صدرها ومقدمها ، وقرئ : ( مسجد الله ) (1) ، * (شهدين) * حال من الواو في * (يعمروا) * ، ومعنى شهادتهم * (على أنفسهم بالكفر) * : ظهور كفرهم ، وأنهم نصبوا أصنامهم حول البيت وطافوا حول البيت عراة ، وكلما طافوا شوطا سجدوا لها ، وقيل : هو قولهم : لبيك لا شريك لك ، إلا شريك هولك ، تملكه وما ملك (2) .
وروي : أن المهاجرين والأنصار عيروا أسارى بدر ، ووبخ علي العباس بقتال رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقطيعة الرحم ، فقال العباس : تذكرون مساوينا وتكتمون محاسننا ؟ فقالوا : أولكم محاسن ؟ قالوا : نعم ، إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب
-------------------
(1) قرأه ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب ، راجع التبيان : ج 5 ص 188 ، وفي تفسير القرطبي : ج 8 ص 89 : هي قراءة ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وابن محيصن .
(2) حكاه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 253 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 53 _
الكعبة ونسقي الحجيج ونفك العاني (1) ، فنزلت (2) .
* (أولئك حبطت أعملهم) * التي هي العمارة والسقاية والحجابة وفك العناة .
* (إنما يعمر) * أي : إنما يستقيم عمارة هؤلاء ، والعمارة تتناول : بناها ورم مااسترم منها ، وكنسها وتنظيفها ، وتنويرها بالمصابيح ، وزيارتها للعبادة والذكر ـ ومن الذكر درس العلم بل هو أفضله وأجله ـ وصيانتها من فضول الكلام .
وفي الحديث : ( يأتي في آخر الزمان ناس من أمتي يأتون المساجد يقعدون فيها حلقا ، ذكرهم الدنيا وحب الدنيا ، لا تجالسوهم فليس لله بهم حاجة ) (3) .
* (ولم يخش إلا الله) * يعني : الخشية والتقوى في أبواب الدين ، وأن لا يختار على رضاء الله رضاء غيره .
* (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) * التقدير : * (أجعلتم) * أهل * (سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن ءامن بالله) * ويعضده قراءة من قرأ : ( سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام ) (4) ، وهو إنكار
-------------------
(1) العاني : الأسير ، (القاموس المحيط : مادة عنا) .
(2) رواها الطبري في تفسيره : ج 6 ص 336 ح 16572 .
(3) الكشاف : ج 2 ص 254 ، ونحوه في مستدرك الحاكم : ج 4 ص 323 .
(4) وهي قراءة ابي بن كعب وابن الزبير وأبي وجزة السعدي ويزيد بن القعقاع ، راجع تفسير البغوي : ج 2 ص 276 ، وتفسير القرطبي : ج 8 ص 91 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 54 _
تشبيه المشركين بالمسلمين ، وتشبيه أعمالهم المحبطة بأعمالهم المثبتة وأن يسوى بينهم ، وجعلت تسويتهم ظلما بعد ظلمهم بالكفر ، أي : هم * (أعظم درجة عند الله) * من غيرهم من المؤمنين الذين لم يفعلوا هذه الأشياء * (وأولئك هم الفائزون) * المختصون بالفوز ، ونكر المبشر به من الرحمة والرضوان والنعيم المقيم ، لوقوع ذلك وراء صفة الواصف وتعريف المعرف .
* (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) * لما أمر المؤمنون بالهجرة وأرادوا أن يهاجروا ، فمنهم من تعلقت به زوجته ، ومنهم من تعلق به أبواه وأولاده، فكانوا يمنعونهم من الهجرة فيتركونها لأجلهم ، فبين سبحانه أن أمر الدين مقدم على النسب ، وإذا وجب قطع قرابة الوالدين والولد فالأجنبي أولى * (إن استحبوا الكفر) * أي : اختاروه * (على الإيمن) * .
وفي الحديث : ( لا يجد أحدكم طعم الايمان حتى يحب في الله ويبغض في الله ) (1) .
وقرئ: * (عشيرتكم) * على الواحد (2) ، * (فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ) * وعيد ، عن الحسن : بعقوبة عاجلة أو آجلة (3) ، وهذه آية شديدة كلف
المؤمن
-------------------
(1) رواه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 257 مرسلا ، ونحوه البيهقي في السنن : ج 10 ص
232 .
(2) الظاهر أن المصنف قد اعتمد قراءة الجمع ، أي بالف بعد الراء هنا .
(3) تفسير الحسن البصري : ج 1 ص 411 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 55 _
فيها أن يتجرد من الآباء والأبناء والعشائر وجميع حظوظ الدنيا لأجل الدين .
اللهم وفقنا لما يوافق رضاك حتى نحب فيك الأبعدين ونبغض فيك الاقربين .
* (لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) * * (مواطن) * الحرب : مقاماتها ومواقفها ، و * (حنين) * : واد بين مكة والطائف ، كانت فيه الوقعة بين المسلمين وهم اثنا عشر ألفا منهم عشرة آلاف حضروا فتح مكة وقد انضم إليها من الطلقاء ألفان ، وبين هوازن وثقيف وهم أربعة آلاف في من انضوى إليهم من أمداد (1) العرب ، فلما التقوا قال رجل من المسلمين : لن نغلب اليوم من قلة ، فساءت مقالته رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وقيل : إن قائلها أبو بكر (2) وذلك قوله : * (أعجبتكم كثرتكم) * فاقتتلوا قتالا شديدا ، وأدركت المسلمين كلمة الإعجاب بالكثرة فانهزموا حتى بلغ فلهم (3) مكة ، وبقي رسول الله (صلى الله عليه وآله) في مركزه لا يتحلحل (4) ، وبقي علي (عليه السلام) ومعه الراية يقاتلهم والعباس
بن عبد المطلب آخذ بلجام بغلة رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن يمينه وأبو سفيان
بن الحارث بن عبد المطلب (5)
-------------------
(1) بفتح الهمزة بمعنى الجيش والقوت ، وبكسرها بمعنى الإعانة ، (المصباح المنير : مادة مدد) .
(2) ذكره الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 259 .
(3) فلهم : انهزامهم ، (القاموس المحيط : مادة فل) .
(4) تحلحل عن مكانه : زال ، (القاموس المحيط : مادة حلحل) .
(5) هو المغيرة بن الحارث بن عبد المطلب ، ابن عم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأخاه من الرضاعة ، أرضعته حليمة السعدية ، فلما بعث النبي (صلى الله عليه وآله) عاداه وهجاه ، وكان شاعرا ، وأسلم عام الفتح هو = (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 56 _
عن يساره في تسعة من بني هاشم وعاشرهم أيمن بن أم أيمن (1) ، وقتل يومئذ ، وقال (عليه السلام) للعباس ـ وكان صيتا ـ : صح بالناس ، فنادى : يا معشر المهاجرين والأنصار ، يا أهل بيعة الشجرة ، يا أصحاب سورة البقرة ، إلى أين تفرون ؟ هذا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فكروا وهم يقولون : لبيك لبيك ، ونزلت الملائكة عليهم البياض على خيول بلق ، فنظر رسول الله إلى قتال المسلمين فقال : الآن حمي الوطيس ، أنا النبي لاكذب ، أنا ابن عبد المطلب ، ونزل النصر من عند الله وانهزمت هوازن (2) .
قوله : * (بما رحبت) * : * (ما) * مصدرية ، والباء بمعنى ( مع ) ، أي : مع رحبها ، والجار والمجرور في موضع الحال ، والمعنى : لا تجدون موضعا تستصلحونه لهربكم إليه لفرط رعبكم ، فكأنها ضاقت عليكم * (ثم وليتم مدبرين) * ثم انهزمتم .
* (ثم أنزل الله سكينته) * رحمته التي سكنوا بها * (على رسوله وعلى المؤمنين) * الذين ثبتوا معه * (وعذب الذين كفروا) * بالقتل والأسر وسبي النساء والذراري وسلب الأموال .
* (ثم يتوب الله) * أي : يسلم من بعد ذلك ناس منهم ، وقيل : إنه سبي يومئذ ستة آلاف نفس ، وأخذ من الإبل والبقر مالايحصى (3) .
* الاية
--------------------
= وولده جعفر ، مات في خلافة عمر سنة عشرين وصلى عليه عمر ودفن بالبقيع ، انظر الكنى
والألقاب للقمي : ج 1 ص 86 .
(1) هو أيمن بن عبيد بن عمرو بن الخزرج ، وامه ام أيمن بركة مولاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وكان من المهاجرين الأولين ، هاجر هو وامه ام أيمن مع علي بن أبي طالب (عليه السلام) لما هاجر بالفواطم بأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وكان أحد العشرة الذين ثبتوا يوم حنين وفيها قتل ، انظر أعيان الشيعة : ج 3 ص 522 .
(2) انظر تفسير القمي : ج 1 ص 285 - 288 .
(3) قاله سعيد بن المسيب على ما حكاه القرطبي في تفسيره : ج 8 ص 102 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 57 _
( النجس ) مصدر ، ومعناه : ذونجس ، لأن معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس ، أو جعلوا كأنهم النجاسة بعينها مبالغة في وصفهم بها ، وعن ابن عباس : أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير (1) ، وعن الحسن : من صافح مشركا توضأ (2) .
وعن الصادقين (عليهما السلام) : ( من صافح الكافر ويده رطبة غسل يده ، وإلا مسحها بالحائط ) (3) .
* (فلا يقربوا المسجد الحرام) * فلا يحجوا ولا يعتمروا كما كانوا يفعلون في الجاهلية * (بعد) * حج * (عامهم هذا) * وهو عام تسع من الهجرة * (وإن خفتم عيلة) * أي : فقرا بسبب منع المشركين من الحج وما كان لكم في قدومهم عليكم من الأرفاق والمكاسب * (فسوف يغنيكم الله من فضله) * من عطائه وتفضله على وجه آخر ، فأسلم أهل جدة وصنعاء وجرش (4) وتبالة (5) فحملوا الطعام إلى مكة فكان ذلك أعود عليهم ، وأرسل السماء عليهم مدرارا أكثر بها خيرهم .
*
(قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)
--------------------
(1) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 261 .
(2) تفسير الحسن البصري : ج 1 ص 412 .
(3) كذا في النسخ ، والظاهر هو سهو ، إذ لم نعثر عليه بهذه الألفاظ ولا قريب منها
عنهما (عليهما السلام) ، ولكن وجدناه قولا منسوبا الى أصحابنا ـ كما في مجمع البيان
نسبه الى أصحابنا ـ وليس حديثا مرويا ، انظر تهذيب الأحكام : ج 1 ص 262 ، ومجمع
البيان : ج 5 ـ 6 ص 20 .
(4) جرش : من مخاليف اليمن من جهة مكة ، وقيل : هي مدينة عظيمة باليمن وولاية واسعة ، وذكر بعض أهل السير أن تبعا خرج من اليمن غازيا حتى إذا كان بجرش وهي إذ ذاك خربة فخلف بها جمعا ممن كان صحبه ورأى فيهم ضعفا وقال : اجرشوا هاهنا ، أي : اثيروا فسميت جرش بذلك ، انظر معجم البلدان للحموي : ج 2 ص 59 ـ 61 .
(5) تبالة : موضع باليمن أيضا ، قال ياقوت : وأسلم أهل تبالة وجرش عن غير حرب ، فأقرها رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أيدي أهلهما على ما أسلموا عليه وجعل على كل حالم ممن بهما من أهل الكتاب دينارا واشترط عليهم ضيافة المسلمين ، انظر المعم : ج 1 ص 816 .(*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 58 _
* عن ابن عباس : ألقى الشيطان في قلوبهم الخوف وقال : من أين تأكلون ؟
فأمرهم الله تعالى بقتال أهل الكتاب ، وأغناهم بالجزية وبفتح البلاد والغنائم (1) *(مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) * بيان ل * (الذين) * مع ما في حيزه ، نفي عن اليهود والنصارى الإيمان بالله ، لأنهم أضافوا إليه مالا يليق به ، ونفي عنهم الإيمان * (باليوم الاخر) * لأنهم في ذلك على خلاف ما ينبغي ، ونفي عنهم تحريم * (ما حرم الله ورسوله) * لأنهم لا يحرمون ما حرم في الكتاب والسنة .
وسميت الجزية جزية لأنها قطعة مما على أهل الذمة أن يجزوه أي يقضوه * (عن يد) * : إما أن يراد يد المعطي ، أو يد الاخذ ، فمعناه على الأول : * (حتى يعطو) * ها عن يد مؤاتية غير ممتنعة ، كما يقال : أعطى بيده : إذا أصحب وانقاد ، أو حتى يعطوها عن يد إلى يد نقدا غير نسيئة ولامبعوثا على يد أحد .
ومعناه على إرادة يد الآخذ : حتى يعطوها عن يد قاهرة مستولية أو عن إنعام عليهم * (وهم صغرون) * أي : تؤخذ منهم الجزية على الصغار والذل ، وهو أن يأتي
بها بنفسه ماشيا غير راكب ، ويسلمها وهو قائم والآخذ جالس ، وأن يؤخذ بتلبيبه (2) ويقال له : أدها .
*
(وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)
--------------------
(1) حكاه عنه الطبري في تفسيره : ج 6 ص 346 ح 16612 .
(2) لببت الرجل تلبيبا : إذا جمعت ثيابه عند صدره ونحوه في الخصومة ثم جررته ، (الصحاح : مادة لبب) . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 59_
* * (عزير ابن الله) * مبتدأ وخبر ، وهو اسم أعجمي ، ولعجمته وتعريفه امتنع من الصرف ، ومن نونه جعله عربيا ، وإنما قال ذلك جماعة من اليهود ولم يقله كلهم * (ذلك قولهم بأفوا ههم) * معناه : أنهم اخترعوه بأفواههم ولم يأتهم به كتاب ، ومالهم به حجة * (يضهون قول الذين كفروا) * أي : يضاهي قولهم قولهم ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، والمعنى : أن الذين كانوا في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) من اليهود والنصارى يضاهي قولهم قول قدمائهم ، يريد أنه كفر قديم فيهم ، أو : يضاهي قولهم قول المشركين : ( إن الملائكة بنات الله ) ، وقرئ : * (يضهون) * بالهمزة من قولهم : امرأة ضهيأ على فعيل ، وهي التي ضاهأت الرجال في أنها لا تحيض * (قتلهم الله) * أي : لعنهم * (أنى يؤفكون) * كيف يصرفون عن الحق .
*
(اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً ) * بأن أطاعوهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ماحلله ، كما يطاع الأرباب في أوامرهم * (والمسيح ابن مريم) * أهلوه للعبادة حين جعلوه ابنا لله
(وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً ) * أمرتهم بذلك أدلة العقل والنصوص في التوراة والإنجيل * (سبحنه) * تنزيه له عن الاشراك واستبعاد له .
* (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ) * مثل سبحانه حالهم في طلبهم إبطال
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 60 _
نبوة محمد (صلى الله عليه وآله) بتكذيبه بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم ، يريد الله أن يبلغه الغاية القصوى من الإضاءة والإنارة ليطفئه بنفخه * (ليظهره) * أي : ليظهر الرسول على أهل الأديان كلهم ، أو ليظهر دين الحق على كل دين ، وقد أجرى ( أبى) مجرى لم يرد ، ولذلك قابل * (يريدون أن يطفوا) * بقوله : * (ويأبى الله) * فكأنه قال : ولا يريد الله إلا أن يتم نوره .
* الاية(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنْ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ) * أكل المال * (بالباطل) * : عبارة عن أخذه وتناوله من الجهة التي يحرم منها أخذه ، والمعنى : أنهم كانوا يأخذون الرشا في الاحكام وفي تخفيف الشرائع عن عوامهم * (والذين يكنزون) * يحتمل أن يكون إشارة إلى الكثير من الاحبار والرهبان ، ويحتمل أن يكون المراد به المسلمين الكانزين غير المنفقين ، قرن بينهم وبين المرتشين من اليهود والنصارى ، وعنى بترك الإنفاق في سبيل الله: منع الزكاة .
وفي الحديث : ( ما أدي زكاته فليس بكنز وإن كان باطنا ، وما بلغ أن يزكى فلم يزك فهو كنز وإن كان ظاهرا ) (1) . *
(ولا ينفقونها) * الضمير يرجع إلى المعنى ، لأن كل واحد من الذهب والفضة
--------------------
(1) رواه الشيخ الطوسي في أماليه : ج 2 ص 133 باسناده عن الرضا عن آبائه (عليهم
السلام) عنه (صلى الله عليه وآله) . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 61 _
جملة وافية : دنانير ودراهم ، فهو كقوله : * (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) * (1) وقيل : معناه : ولا ينفقونها والذهب (2) ، كما أن معنى قوله : فإني وقيار بها لغريب (3) وقيار كذلك ، وإنما خص الذهب والفضة من بين الأموال بالذكر لأنهما قانون التمول وأثمان الأشياء ، ولا يكنزهما إلا من فضلا عن حاجته .
*
(يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ ) * أي : يوقد على الكنوز أو على الذهب والفضة حتى تصير نارا * (فتكوى بها) * أي : بتلك الكنوز المحماة * (جباههم وجنوبهم وظهورهم) * خصت هذه الأعضاء لأنهم لم يطلبوا بترك الإنفاق إلا الأغراض الدنيوية : من وجاهة عند الناس وأن يكون ماء وجوههم مصونا ، ومن أكل الطيبات يتضلعون منها فينفخون جنوبهم ، ومن لبس ثياب ناعمة يطرحونها على ظهورهم ، وقيل : لأنهم كانوا يعبسون وجوههم للفقير ويولونه جنوبهم في المجالس وظهورهم (4) * (هذا ما كنزتم) * على إرادة القول * (لانفسكم) * لانتفاع أنفسكم * (فذوقوا) * وبال الذي * (كنتم تكنزون) * ـ أو وبال كونكم كانزين . ( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)
*
--------------------
(1) الحجرات : 9 .
(2) قاله الزجاج في معاني القرآن : ج 2 ص 445 .
(3) وصدره : ومن يك أمسى بالمدينة رحله ، وقائله ضابئ بن الحارث البرجمي ، أنشده في حبس عثمان بن عفان ، وكان يريد أن يفتك بعثمان فحبسه ولم يزل فيه الى أن مات ، راجع الكامل للمبرد : ج 1 ص 320 .
(4) قاله أبو بكر الوراق كما حكاه عنه البغوي في تفسيره : ج 2 ص 289 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 62 _
* (في كتب الله) * أي : في اللوح المحفوظ ، أو في القرآن ،
أو فيما أثبته من حكمه ورآه حكمة وصوابا * (منهآ أربعة حرم) * ثلاثة سرد : ذوالقعدة ،
وذو الحجة ، والمحرم ، وواحد فرد وهو رجب ، ومنه قوله صلوات الله عليه في خطبته في حجة الوداع : ( ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ، السنة : اثنا عشر شهرا ، منها أربعة حرم ) (1) .
والمعنى : رجعت الأشهر إلى ما كانت عليه ، وعاد الحج في ذي الحجة ، وبطل النسئ الذي كان في الجاهلية * (ذلك الدين القيم) * يعني : أن تحريم الأشهر الأربعة هو الدين المستقيم : دين إبراهيم وإسماعيل ، وكانت العرب قد تمسكت به وراثة منهما ، وكانوا يعظمون الأشهر الحرم ، ويحرمون القتال فيها ، حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه (2) لم يهجه ، وسموا رجبا : الأصم (3) ومنصل الأسنة (4) حتى أحدثوا النسئ فغيروا ، وقيل : ذلك الحساب القيم لا ما أحدثوه من النسئ (5) * (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) * بأن تجعلوا حرامها حلالا * (كآفة) * حال من الفاعل أو المفعول * (مع المتقين) * أي : ناصرهم ، حثهم على التقوى بضمان النصرة لأهلها . * (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)
--------------------
(1) السيرة النبوية لابن هشام : ج 4 ص 251 ، السيرة الحلبية للحلبي الشافعي : ج 3 ص
256 ، الكشاف : ج 2 ص 269 ، تفسير البغوي : ج 2 ص 290 ، تفسير القرطبي : ج 8 ص 133 .
(2) في نسخة زيادة : وأخيه .
(3) قال الفيومي : إنما سمي شهر رجب بالأصم لأنه كان لا يسمع فيه حركة قتال ولانداء مستغيث ، المصباح المنير : مادة ( صمت ) .
(4) وقال : المنصل من أنصله ، أي نزع نصله ، والمراد : أن شهر رجب حيث إنهم لا يقاتلون فيه فكأنه هو الذي نزع نصل الأسنة ، انظر المصدر نفسه : مادة نصل .
(5) قاله ابن قتيبة ، راجع تفسير الماوردي : ج 2 ص 360 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 63 _
* * (النسئ) * تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر ، وذلك أنهم كانوا أصحاب حروب ، فإذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون شق عليهم ترك المحاربة ، فكانوا يحلونه ويحرمون مكانه شهرا آخر ، وذلك قوله : *
(لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ ) * أي : ليوافقوا العدة التي هي الأربعة ولا يخالفوها ، وقد خالفوا تخصيص الأشهر
الحرم بالتحريم ، وربما زادوا في عدة الشهور فيجعلونها ثلاثة عشر شهرا ليتسع لهم
الوقت ، ولذلك قال : * (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا) * يعني : من غير زيادة
زادوها ، والضمير في * (يحلونه) * و * (يحرمونه) * ل * (النسئ) * أي : إذا أحلوا
شهرا من الاشهر الحرم * (عاما) * رجعوا فحرموه في العام القابل ، وقرئ : * (يضل) *
على البناء للمفعول، وقرئ : ( يضل ) (1) على أن الفعل لله تعالى ، ( ويضل ) قراءة الأكثرين (2) ، وقرئ : ( النسي ) بالتشديد (3) ، وهو تخفيف الهمزة في ( النسئ ) ، وعن الصادق (عليه السلام) : ( النسي ) (4) على وزن الهدي ، وهو على إبدال الياء من الهمزة ، وهو مصدر نسأه : إذا أخره ، يقال : نسأه نسئا ونسيئا نحو مسه مسا ومسيسا * (فيحلوا ما حرم الله) * معناه : فيحلوا بمواطأة العدة وحدها * (ما حرم الله) *
--------------------
(1) قرأه ابن مسعود في رواية والحسن والأعمش وأبو عمرو ومجاهد وقتادة وعمرو بن
ميمون وأبو رجاء ويعقوب ، راجع تفسير القرطبي : ج 8 ص 139 ، والبحر المحيط لأبي حيان :ج 5 ص 40 .
(2) وهي قراءة أهل الحرمين وأبي عمرو وعاصم برواية أبي بكر ، انظر تفسير القرطبي : ج 8 ص 139 .
(3) قرأه أبو جعفر وابن فرج عن البزي والزهري وحميد وورش عن نافع والحلواني ، راجع تفسير القرطبي : ج 8 ص 136 ، والبحر المحيط لأبي حيان : ج 5 ص 39 .
(4) ذكرها أبو حيان في البحر المحيط : ج 5 ص 39 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 64 _
من القتال * (زين لهم سوء أعملهم) * خذلهم الله فحسبوا أعمالهم القبيحة حسنة * (والله لا يهدي) * أي : لا يلطف بهم بل يخذلهم .
*
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ * إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) * أصله : تثاقلتم ، فأدغمت التاء في الثاء ثم أدخلت همزة الوصل ، أي : تباطأتم ، وضمن معنى الميل فعدي ب ( إلى) ، والمعنى : ملتم إلى الدنيا ولذاتها ، وكرهتم مشاق السفر ، ونحوه : * (أخلد إلى الارض واتبع هوبه) * (1) ، وقيل : ملتم إلى الاقامة بأرضكم ودياركم (2) ، وكان ذلك في غزوة تبوك في سنة عشر بعد رجوعهم من الطائف ، استنفروا في وقت قحط وقيظ مع بعد الشقة وكثرة العدو فشق ذلك عليهم ، وقيل : إنه صلوات الله عليه ما خرج في غزوة إلا ورى عنها بغيرها إلا في غزوة تبوك ، ليستعد الناس تمام العدة (3) .
* (من الاخرة) * بدل الآخرة ، ونحوه : * (لجعلنا منكم ملئكة) * (4) ، * (فما متع الحيوة الدنيا في) * جنب * (الاخرة إلا قليل) * .
* (إلا تنفروا) * سخط عظيم على المتثاقلين ، حيث هددهم بعذاب
عظيم مطلق يتناول عذاب الدارين ، وأنه يهلكهم * (ويستبدل) * بهم * (قوما) * آخرين
خيرا
--------------------
(1) الأعراف : 176 .
(2) قاله الزجاج في معاني القرآن : ج 2 ص 447 .
(3) ذكره ابن هشام في السيرة النبوية : ج 4 ص 159 عن الزهري ويزيد بن رومان و عبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم .
(4) الزخرف : 60 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 65 _
منهم وأطوع ، وأنه غني عنهم في نصرة دينه ، لا يؤثر تثاقلهم فيها * (شيا) * وقيل : الضمير للنبي (صلى الله عليه وآله) (1) ، أي : * (لاتضروه شيا) * لان الله وعد أن يعصمه من الناس ولا يخذله بل ينصره ، ووعد الله كائن لا محالة .
*
(إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) * أي : إن تركتم نصرته فإن الله قد أوجب له النصرة ، وجعله منصورا حين لم يكن معه إلا رجل واحد ، فلن يخذله من بعد * (إذ أخرجه الذين كفروا) * أسند الإخراج إلى الكفار كما في قوله : * (من قريتك التي أخرجتك) * (2) ، لأنهم حين هموا بإخراجه أذن الله له في الخروج عنهم ، فكأنهم أخرجوه * (ثانى اثنين) * أحد اثنين كقوله : * (ثالث ثلثة) * (3) ، وهما رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأبو بكر ، وانتصابه على الحال ، و * (إذ هما) * بدل من * (إذ أخرجه) * ، و * (إذ يقول) * بدل ثان ، و * (الغار) * : الثقب العظيم في الجبل ، وهو هاهنا غار ثور ، جبل في يمنى مكة على مسيرة ساعة * (لا تحزن) * أي : لا تخف * (إن الله معنا) * مطلع علينا وعالم بحالنا يحفظنا وينصرنا ، ولما دخلا الغار بعث الله حمامتين فباضتا في أسفله ، والعنكبوت يحفظنا وينصرنا ، ولما دخلا الغار بعث الله حمامتين فباضتا في أسفله ، والعنكبوت فنسجت عليه ، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ( اللهم أعم
أبصارهم ) ، فجعلوا يترددون حول الغار ولايفطنون ، أخذ الله بأبصارهم عنه * (فأنزل
الله سكينته عليه) * قرأ الصادق (عليه السلام) : ( على رسوله ) (4) ، وسكينته : ما ألقى في قلبه من الأمنة التي سكن
--------------------
(1) قاله الزجاج في معاني القرآن : ج 2 ص 448 .
(2) محمد : 13 .
(3) المائدة : 73 .
(4) تفسير العياشي : ج 2 ص 88 ـ 89 ح 58 وفيه : عن أبي جعفر (عليه السلام) . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 66_
إليها ، وأيقن أنهم لا يصلون إليه ، والجنود : الملائكة يوم بدر والأحزاب وحنين أو ذلك اليوم صرفوا وجوه الكفار وأبصارهم عن أن يروه ، و * (كلمة الذين كفروا) * دعوتهم إلى الكفر * (وكلمة الله) * دعوته إلى الإسلام ، وقرئ : ( وكلمة الله ) بالنصب (1) ، و * (هي) * فصل ، وفيها تأكيد فضل كلمة الله في العلو ، وأنها المختصة به دون سائر الكلم .
* (انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمْ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوْ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) * * (خفافا) * في النفور لنشاطكم له * (وثقالا) * عنه لمشقته عليكم ، أو * (خفافا) * من السلاح * (وثقالا) * منه ، أو * (خفافا) * لقلة عيالكم * (وثقالا) * لكثرته ، أو ركبانا ومشاة ، أو شبابا وشيوخا ، أو صحاحا ومراضا .
عن ابن عباس : نسخت بقوله : * (ليس على الضعفاء ولا على المرضى) * (2)(3) ، * (يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ) * إيجاب للجهاد بهما إن أمكن ، أو بأحدهما على حسب الحال والحاجة .
والعرض : ما عرض لك من منافع الدنيا ، والمعنى : * (لو كان) * ما دعوا إليه غنما * (قريبا وسفرا قاصدا) * أي : وسطا مقاربا * (لاتبعوك) * ، و * (الشقة) * : المسافة الشاقة ، وسيحلف المتخلفون عند رجوعك من غزوة تبوك * (بالله) * يقولون :
--------------------
(1) وهي قراءة الحسن وأبي مجلز والأعمش ويعقوب ، راجع التبيان : ج 5 ص 221 ، وشواذ
القرآن لابن خالويه : ص 57 .
(2) التوبة : 91 .
(3) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 273 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 67 _
* (لو استطعنا) * ، وقوله : * (لخرجنا) * سد مسد جواب * (لو) * وجواب القسم جميعا ، والإخبار بما سوف يكون بعد قفوله من خلفهم (1) واعتذارهم ، وقد كان من جملة المعجزات ، والمراد ب * (لو استطعنا) * : استطاعة العدة ، أو استطاعة الأبدان كأنهم تمارضوا * (يهلكون أنفسهم) * بدل من * (سيحلفون) * ، أو حال بمعنى : مهلكين ، أي : يوقعونها في الهلاك بحلفهم الكاذب .
* (عفا الله عنك) * هذا من لطيف المعاتبة ، بدأه بالعفو قبل العتاب ، ويجوز العتاب من الله فيما غيره منه أولى، لاسيما للأنبياء ، ولا يصح ما قاله جار الله: إن * (عفا الله عنك) * كناية عن الجناية (2) ، حاشا سيد الأنبياء وخير بني حواء من أن ينسب إليه جناية (3) .
* (إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ * وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * لَقَدْ ابْتَغَوْا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ)
--------------------
(1) في بعض النسخ : حلفهم بالحاء .
(2) الكشاف : ج 2 ص 274 .
(3) قال العلامة الطباطبائي : والآية في مقام دعوى ظهور كذبهم ونفاقهم وأنهم مفتضحون بأدنى امتحان يمتحنون به ، ومن مناسبات هذا المقام إلقاء العتاب الى المخاطب وتوبيخه والإنكار عليه كأنه هو الذي ستر عليهم فضائح أعمالهم وسوء سريرتهم ، وهو نوع من العناية الكلامية يتبين به ظهور الأمر ووضوحه لايراد أزيد من ذلك ، فهو من أقسام البيان على طريق : إياك أعني واسمعي يا جارة ، فالمراد بالكلام إظهار هذه الدعوى لا الكشف عن تقصير النبي (صلى الله عليه وآله) وسوء تدبيره في إحياء أمر الله، انظر تفسير الميزان : ج 9 ص 285 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 68 _
* أي : ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في * (أن يجهدوا) * ، أو كراهة أن يجاهدوا .
* (إنما يستذنك) * المنافقون * (يترددون) * عبارة عن التحير ، لأن التردد صفة المتحير كما أن الثبات صفة المستبصر .
* (ولكن كره الله انبعاثهم) * خروجهم إلى الغزو لعلمه بأنهم لو خرجوا لكانوا يمشون بالنميمة من المسلمين * (فثبطهم) * أي : بطأ بهم وكسلهم وخذلهم لما علم منهم من الفساد ، وإنما وقع الاستدراك ب * (لكن) * لأن قوله : * (ولو أرادوا الخروج) * يعطي معنى النفي ، فكأنه قيل : لم يخرجوا ولكن تثبطوا عن الخروج ، لأن الله كره انبعاثهم فضعف رغبتهم في الانبعاث * (وقيل اقعدوا مع) * النساء والصبيان ، وهو إذن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لهم في القعود ، وفي هذا دلالة على أن إذنه (عليه السلام) لهم غير قبيح وإن كان الاولى أن لا يأذن ليظهر للناس نفاقهم .
ثم بين سبحانه وجه الحكمة في تثبيطهم عن الخروج فقال : * (لو خرجوا فيكم) * أي : لو خرج هؤلاء معكم إلى الجهاد * (ما زادوكم) * بخروجهم * (إلا خبالا) * أي : فسادا وشرا ، وتقديره : ما زادوكم شيئا إلا خبالا * (ولاوضعوا خللكم) * أي : ولسعوا بينكم بالتضريب (1) والنمائم وإفساد ذات البين ، يقال : وضع البعير وضعا : إذا أسرع ، وأوضعته أنا ، والمعنى : ولاوضعوا ركائبهم بينكم ، والمراد : الإسراع بالفساد ، لأن الراكب أسرع من الماشي * (يبغونكم الفتنة) * أي : يحاولون (2) أن يفتنوكم بأن يوقعوا الخلاف فيما بينكم ، ويفسدوا نياتكم في غزواتكم * (وفيكم سمعون لهم) * أي : عيون نمامون يسمعون حديثكم فينقلونه إليهم ، أو : فيكم قوم يسمعون قول المنافقين ويقبلونه ويطيعونهم ، يريد من كان ضعيف الإيمان من
--------------------
(1) في نسخة : بالتفريق .
(2) في بعض النسخ : يجادلون بالجيم . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_69 _
جملة المسلمين * (والله عليم بالظالمين) * المصرين على الفساد. * (لقد ابتغوا الفتنة من قبل) * الفتنة : اسم يقع على كل شر وفساد ، أي : نصبوا لك الغوائل وسعوا في تشتيت شملك ، وعن سعيد بن جبير : وقفوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله) في غزوة تبوك على الثنية (1) ليلة العقبة ليفتكوا به وهم اثنا عشر رجلا * (وقلبوا لك الامور) * أي : ودبروا لك الحيل والمكائد ، واحتالوا في إبطال أمرك * (حتى جاء الحق) * وهو تأييدك ونصرتك * (وظهر أمر الله) * وغلب دينه وعلا أهله * (وهم كرهون) * في موضع الحال .
*
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ * إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ * قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ * قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمْ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) * ومن هؤلاء المنافقين * (من يقول ائذن لى) * في القعود عن الجهاد * (ولا تفتني) * ولاتوقعني في الفتنة وهي الإثم بأن لا تأذن لي ، فإني إن تخلفت بغير إذنك أثمت ، وقيل : هو الجد بن قيس (2) ، قال : قد علمت الأنصار أني مستهتر بالنساء فلاتفتني ببنات الأصفر ، يعني : نساء الروم ، ولكني أعينك بمال فاتركني (3) * (ألا في الفتنة سقطوا) * أي : إن الفتنة هي التي سقطوا فيها ، وهي فتنة
--------------------
(1) الثنية : طريق العقبة ، (الصحاح : مادة ثنى) .
(2) هو جد بن قيس بن صخر بن خنساء الأنصاري ، كان من المنافقين ، تخلف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند بيعة الرضوان ، راجع امتاع الأسماء للمقريزي : ج 1 ص 447 .
(3) قاله ابن عباس ومجاهد وابن زيد وقتادة ، راجع تفسير ابن عباس : ص 159 ، وتفسير الطبري : ج 6 ص 386 ـ 387 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 70 _
التخلف * (وإن جهنم لمحيطة بالكفرين) * أي : بهم يوم القيامة ، أو محيطة بهم الآن، لأن أسباب إحاطتها بهم معهم ، فكأنهم في وسطها .
* (إن تصبك) * في بعض غزواتك * (حسنة) * أي : ظفر وغنم ونعمة من الله * (تسؤهم وإن تصبك مصيبة) * شدة وبلية ونكبة ، نحو ماكان يوم أحد * (يقولوا قد أخذنا أمرنا) * الذي نحن متسمون به من الحذر والعمل بالحزم * (من قبل) * ما وقع هذا البلاء ، وتولوا عن مقام التحدث بذلك والاجتماع له * (وهم فرحون) * مسرورون .
وقرأ عبد الله: ( هل يصيبنا ) (1) ، واللام في قوله : *
(ماكتب الله لنا) * للاختصاص ، أي : * (لن يصيبنا إلا ما) * اختصنا الله بإثباته
وإيجابه : من النصرة أو الشهادة ، و * (هو مولينا) * يتولانا ونتولاه * (وعلى الله
فليتوكل المؤمنون) * أي : وحق المومنين أن لايتوكلوا على غير الله تعالى فليفعلوا ما
هو حقهم .
* (قل هل تربصون بنآ) * هل تتوقعون * (إلا إحدى الحسنيين) * أي : إحدى
العاقبتين اللتين كل واحدة منهما هي حسنى العواقب ، وهما : النصرة والشهادة * (ونحن
نتربص بكم) * إحدى السوأتين من العواقب ، وإنهما : * (أن يصيبكم الله بعذاب من عنده)
* أي : من السماء كما نزل على عاد وثمود * (أو) * بعذاب * (بأيدينا) * وهو القتل على
الكفر * (فتربصوا) * بنا ما ذكرنا من عواقبنا * (إنا معكم متربصون) * فلابد أن يلقى
كلنا مايتربصه لا يتجاوزه .
*
(قُلْ أَنفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ * وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ * فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ)
--------------------
(1) ذكره الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 278 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 71 _
* * (طوعا أو كرها) * حال ، أي : طائعين أو مكرهين ، وهو أمر في معنى الخبر ، والمعنى : * (لن يتقبل منكم) * ما أنفقتم طوعا أو كرها ، ونحوه قوله : * (استغفر لهم أولا تستغفر لهم) * (1) وقول كثير (2) : أسيئي بنا
أو أحسني لاملومة * لدينا ولا مقلية إن تقلت (3) أي : لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أو لم تستغفر لهم ، ولا نلومك أسأت إلينا أو أحسنت ، وإنما يجوز هذا إذا دل الكلام عليه ، كما جاز عكسه في قولك : رحم الله زيدا ، أو الله غفر له * (إنكم كنتم قوما فسقين) * تعليل لرد إنفاقهم .
* (أنهم كفروا) * فاعل ( منع ) ، أي : لم يمنع المنافقين قبول نفقاتهم إلا كفرهم * (بالله وبرسوله) * ، وقرئ : * (تقبل) * بالتاء والياء (4) ،
والإعجاب بالشئ أن تسر به سرور راض به متعجب من حسنه ، والمعنى : فلا تستحسن ماأوتوا
من زينة الدنيا ، فإن الله أعطاهم ذلك للعذاب ، بأن عرضه للغنائم والسبي وبلاهم فيه
-------------------
(1) التوبة : 80 .
(2) هو كثير بن عبد الرحمن بن الأسود الخزاعي ، شاعر مشهور من أهل الحجاز ، وصاحبته عزة وإليها ينسب ، وكان عفيفا ، قال ابن قتيبة : وكان رافضيا ، وقال لما حضرته الوفاة : برئت الى الإله من ابن أروى * ومن دين الخوارج أجمعينا ومن عمر برئت ومن عتيق * غداة دعي أمير المؤمنينا راجع الشعر والشعراء لابن قتيبة : ص 316 ـ 329 .
(3) وهي من قصيدة يجيب فيها عزة لما سمعها تسبه حين أرغمها زوجها على ذلك ، وهي
من منتخبات قصائده ، والتزم فيها مالا يلزم الشاعر ، وذلك اللام قبل حرف الروى ،
اقتدارا في الكلام وقوة في الصناعة ، راجع ديوان كثير عزة : ص 57 .
(4) وبالياء قرأه حمزة والكسائي وزيد بن علي ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 315 ، والبحر المحيط لأبي حيان : ج 5 ص 53 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 72 _
بالآفات والمصائب ، وكلفهم الإنفاق منه في أبواب الخير * (وهم كرهون) * على رغم أنوفهم ، وأذاقهم أنواع الكلف في جمع الأموال وتربية الأولاد.
وقوله : * (وتزهق أنفسهم وهم كفرون) * مثل قوله : * (إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً) * (1) ومعناه : الاستدراج بالنعم ، أي : و * (يريد) * أن يديم عليهم نعمته إلى أن يموتوا * (وهم كفرون) * مشتغلون بالتمتع عن النظر للعاقبة .
* (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ * لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ) * * (لمنكم) * أي : من جملة المسلمين * (يفرقون) * يخافون القتل والأسر فيتظاهرون بالإسلام تقية .
* (لو يجدون) * مكانا يلجؤون إليه متحصنين به من رأس جبل أو قلعة * (أو مغرا ت) * أي : غيرانا * (أو مدخلا) * وهو : مفتعل من الدخول ، وأصله : ( مدتخلا ) يبدل التاء بعد الدال دالا ، وقرئ : ( مدخلا ) (2) أي : موضع دخول يأوون إليه ونفقا ينجحرون فيه * (لولوا إليه وهم يجمحون) * يسرعون إسراعا لا يردهم شئ ، من الفرس الجموح .
* (ومنهم من يلمزك) * أي : يعيبك * (في) * قسمة * (الصدقت) * ويطعن عليك ، ثم وصفهم بأن رضاهم وسخطهم لأنفسهم لا للدين ، و * (إذا) * للمفاجأة ، أي : ف * ( إن لم يعطوا منهآ) * فاجأوا السخط .
-------------------
(1) آل عمران : 178 .
(2) وهي قراءة الحسن وابن أبي إسحاق ومسلمة بن محارب وابن محيصن ويعقوب وابن كثير بخلاف عنه ، راجع التبيان : ج 5 ص 240 ، والبحر المحيط لأبي حيان : ج 5 ص 55 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 73 _
* (ولو أنهم رضوا) * جواب * (لو) * محذوف ، تقديره : ولو أنهم رضوا * (مآ) * أعطاهم * (الله ورسوله) * من الغنيمة والصدقة وطابت به نفوسهم * (وقالوا) * مع ذلك : * (حسبنا الله) * سيعطينا * (الله من فضله) * وإنعامه * (ورسوله إنآ إلى الله) * في أن يوسع علينا من فضله ل * (را غبون) * لكان خيرا لهم .
* (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) * (إنما) * لقصر * (الصدقت) * على هذه الأصناف الثمانية ، وأنها مختصة بها لا تتجاوزها إلى غيرها ، ونحوه : إنما السخاء
لحاتم ، أي : ليس لغيره ، ويحتمل أن تصرف إلى بعضها ، وعن حذيفة وابن عباس وغيرهما من
الصحابة أنهم قالوا : في أي صنف منها وضعتها أجزأك (1) ، وهو مذهبنا (2) ، و ( الفقراء ) هم : المتعففون الذين لا يسألون * (والمسكين) * الذين يسألون ، وقيل بالعكس (3) ، والأول أصح ، وقيل : الفقير : الذي لا شئ له ، والمسكين : الذي له بلغة من العيش لاتكفيه (4) ، وقيل بالعكس (5) ، * (والعملين عليها) * هم السعاة الذين يقبضونها
-------------------
(1) انظر تفسير الطبري : ج 6 ص 404 ح 16902 و 16903 و 16907 ، وتفسير القرطبي : ج 8 ص
168 وزاد : وقال به من التابعين جماعة .
(2) راجع الخلاف للشيخ الطوسي : ج 2 ص 154 مسألة 196 .
(3) رواه أبو هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله) ، راجع التبيان : ج 5 ص
243 .
(4) وهو قول الشيخ الطوسي وابن البراج وابن حمزة وابن إدريس ، وبه قال الأصمعي
وأحمد ابن حنبل وأحد قولي الشافعي وأكثر أصحابه وأحمد بن عبيد وحكاه الطحاوي عن
الكوفيين ، انظر الجمل والعقود للشيخ الطوسي : ص 103 ، ومختلف الشيعة للعلامة : ج 3 ص 198 ، وتفسير القرطبي : ج 8 ص 169 .
(5) وهو قول الشيخ المفيد وابن الجنيد وسلار ، وبه قال أبو حنيفة ويونس بن حبيب وابن = (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 74 _
* (والمؤلفة قلوبهم) * أشراف من العرب كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يتألفهم على أن يسلموا فيرضخ (1) لهم شيئا منها حين كان في المسلمين قلة ، و * (الرقاب) * المكاتبون يعانون منها في فك رقابهم من الرق ، والعبيد إذا كانوا في شدة يشترون ويعتقون ويكون ولاؤهم لأرباب الزكاة * (والغرمين) * وهم الذين ركبتهم الديون في غير معصية ولا إسراف * (وفي سبيل الله) * وهو الجهاد وجميع مصالح المسلمين * (وابن السبيل) * وهو المسافر المنقطع به عن ماله فهو فقير حيث هو ، غني حيث ماله * (فريضة) * في معنى المصدر المؤكد ، لأن قوله : * (إنما الصدقت للفقراء) * معناه : فرض اله الصدقات لهم ، وإنما عدل عن ( اللام ) إلى ( في ) في الأربعة الأخيرة ليدل على أنهم أحق بأن توضع فيهم الصدقات ممن سبق ذكره ، لأن ( في ) للوعاء .
وإنما وقعت الآية في أثناء ذكر المنافقين لتدل بكون هذه الأصناف مصارف الصدقات خاصة ، على أن أهل النفاق ليسوا من مستحقيها ، وأنهم بعداء من مصارفها ، فما لهم وللتكلم فيها ولمن قاسمها ؟ ! .
* ( وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ * أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ) * الأذن : الرجل الذي يصدق كل ما يسمع ويقبل قول كل أحد ، سمي بالعضو
-------------------
= السكيت وابن قتيبة والقتبي ، انظر المقنعة للشيخ المفيد : ص 241 ، ومختلف الشيعة
للعلامة : ج 3 ص 198 عن ابن الجنيد ، وتفسير القرطبي : ج 8 ص 168 .
(1) الرضخ : العطاء ليس بالكثير ، (الصحاح : مادة رضخ) . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 75 _
الذي هو آلة السماع ، كأن جملته أذن سامعة كما سموا الربيئة (1) بالعين ، و * (أذن خير) * كقولك : رجل صدق ، تريد الجودة والصلاح ، كأنه سبحانه قال : * (قل) * نعم هو أذن ولكن نعم الأذن، أو يريد : هو أذن في الخير وفيما يجب سماعه ، وليس بأذن في غير ذلك ، ويدل عليه قراءة حمزة : ( ورحمة ) (2) بالجر عطفا عليه ، أي : هو أذن خير لكم ورحمة لا يسمع غيرهما ولا يقبله .
ثم فسر كونه أذن خير بأنه يصدق * (بالله) * ويقبل من * (المؤمنين) * ويصدقهم فيما يخبرونه به ، ولهذا عدي الأول بالباء والثاني باللام ، كما في قوله : * (وما أنت بمؤمن لنا) * (3) ، * (و) * هو * (رحمة) * لمن آمن * (منكم) *
أي : أظهر الإيمان أيها المنافقون ، حيث يسمع منكم ويقبل إيمانكم ولايفضحكم مراعاة
لما رأى الله سبحانه من المصلحة في الإبقاء عليكم ، فهو أذن كما قلتم إلا أنه أذن
خير لكم لا أذن سوء ، فسلم لهم قولهم فيه ، إلا أنه فسر بما هو مدح له وإن كانوا
قصدوا به المذمة ، وأنه من أهل سلامة القلب .
وروي : أن جماعة ذموه وبلغه ذلك ، فقال بعضهم : لا عليكم ، فإنما هو أذن سامعة ، يسمع كلام المبلغ ونحن نأتيه فنعتذر إليه فيسمع عذرنا أيضا (4) .
وقرئ : ( أذن خير لكم ) (5) وهو خبر مبتدأ محذوف ، و ( خير)
مثله ، أي : هو أذن ، هو خير لكم ، يعني : إن كان كما تقولون فهو خير لكم ، لأنه يقبل
عذركم
-------------------
(1) ربأهم ولهم : صار ربيئة لهم أي طليعة ، وطليعة الجيش : من يبعث ليطلع طلع العدو ،
(الصحاح : مادة ربأ) .
(2) انظر الكشف عن وجوه القراءات السبع للقيسي : ج 1 ص 503 .
(3) يوسف : 17 .
(4) رواه ابن عباس ، راجع تفسيره : ص 160 .
(5) قرأه الحسن ومجاهد وزيد بن علي والأعشى عن أبي بكر عن عاصم ، راجع تفسير القرطبي : ج 8 ص 192 ، والبحر المحيط لأبي حيان : ج 5 ص 63 . (*)