ثم عقب النهي عن عبادة مالا ينفع ولا يضر بأن الله هو الضار والنافع الذي إن أصابك * (بضر) * لم يقدر على كشفه * (إلا هو وإن) * أرادك * (بخير) * لم يرد أحد ما يريد بك من * (فضله) * فهو الحقيق بأن يعبد دون الأوثان .
  * (قد جاءكم الحق) * فلم يبق لكم عذر ، ولا لكم على الله حجة * (فمن) * اختار الهدى واتباع الحق لم ينفع إلا نفسه * (ومن) * اختار الضلال لم يضر إلا نفسه ، واللام و ( على ) دليلان على معنى النفع والضرر * (وما أنا عليكم بوكيل) * بحفيظ موكل إلي أمركم وحملكم على ما أريد ، إنما أنا بشير ونذير .
  * (واصبر) * على دعوتهم واحتمال أذاهم * (حتى يحكم الله) * لك بالنصر عليهم والغلبة * (وهو خير الحكمين) * لأنه لا يحكم إلا بالحق والعدل .

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 153 _
سورة هود مكية (1)
  مائة وإحدى وعشرون آية بصري ، ثلاث كوفي ، عد الكوفي : * (برئ مما تشركون) * (2) ، * (في قوم لوط) * (3) .
  في حديث أبي : ( ومن قرأها أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بنوح وكذب به وهود وصالح وشعيب ولوط وإبراهيم وموسى ، وكان يوم القيامة من السعداء ) (4) .
  الباقر (عليه السلام) : ( من قرأها في كل جمعة بعثه الله يوم القيامة في زمرة النبيين ، وحوسب حسابا يسيرا ، ولم تعرف له خطيئة عملها يوم القيامة ) (5) .

-------------------
(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان : ج 5 ص 445 : مكية في قراءة قتادة ومجاهد وغيرهما ، وهي مائة وثلاث وعشرون آية في الكوفي ، واثنتان في المدني ، وواحدة في البصري وعند إسماعيل ، وقال الماوردي في تفسيره : ج 2 ص 455 : مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر ، وقال ابن عباس وقتادة : إلا آية وهي قوله : * (وأقم الصلوة طرفي النهار وزلفا من اليل) * ، ونحوه القرطبي في تفسيره : ج 9 ص 1 ، وعن الكشاف : ج 2 ص 377 : مكية إلا الآيات : 12 و 17 و 114 فمدنية ، وهي مائة وثلاث وعشرون آية ، نزلت بعد سورة يونس .
(2) الآية : 54 .
(3) الآية : 74 .
(4) رواه الزمخشري في كشافه : ج 2 ص 439 مرسلا .
(5) تفسير العياشي : ج 2 ص 139 ح 1 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 154 _
بسم الله الرحمن الرحيم
*
   (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ * وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ * إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) * * (أحكمت ءايته) * نظمت محكما لا نقص (1) فيه ولا خلل كالبناء المحكم ، أو جعلت آياته حكيمة ، من حكم : إذا صار حكيما ، كقوله : * (ءايت الكتب الحكيم) * (2) ، أو منعت من الفساد ، من أحكم الدابة : وضع عليها الحكمة (3) لتمنعها من الجماح ، قال جرير : أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم * إني أخاف عليكم أن أغضبا (4) * (ثم فصلت) * كما تفصل القلائد ، بدلائل التوحيد والمواعظ والأحكام والقصص ، أو جعلت فصولا : آية آية وسورة سورة ، أو فرقت في التنزيل فلم تنزل جملة واحدة ، ومعنى * (ثم) * : التراخي في الحال لا في الوقت ، كما تقول : هي محكمة أحسن الإحكام ثم مفصلة أحسن التفصيل ، و * (كتب) * : خبر مبتدأ

-------------------
(1) في بعض النسخ : ( نقض ) .
(2) يونس : 1 .
(3) حكمة اللجام : ما أحاط بحنكي الدابة ، وفيها العذاران ، سميت بذلك لأنها تمنعه من الجري الشديد ، مشتق من ذلك ، وجمعه حكم ، (لسان العرب : مادة حكم) .
(4) البيت واضح المعنى ، ففيه ضرب من التهديد ، راجع الشعر والشعراء لابن قتيبة : ص 374 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 155 _
  محذوف * (من لدن حكيم) * أحكمها ، و * (خبير) * : عالم فصلها ، أي : بينها وشرحها .
  * (ألا تعبدوا) * مفعول له ، أي : لأن لا تعبدوا ، أو يكون ( أن ) مفسرة ، لأن في تفصيل الآيات معنى القول ، كأنه قيل : قال : لا تعبدوا إلا الله، أو أمركم أن لا تعبدوا إلاالله، أي : أمركم بالتوحيد .
  * (وأن استغفروا) * أي : وأمركم بالاستغفار ، والضمير في *(منه) * لله ، أي : * (إننى لكم ... نذير وبشير) * من جهته ، كقوله : * (رسول من الله) * (1) ، أو هي صلة ل‍ * (نذير) * أي : أنذركم * (منه) * ومن عذابه إن كفرتم ، وأبشركم بثوابه إن آمنتم * (ثم توبوا إليه) * يعني : استغفروا من الشرك ثم أخلصوا التوبة واستقيموا عليها كقوله : * (ثم استقموا) * (2) ، * (يمتعكم) * في الدنيا بالنعم السابغة والمنافع المتتابعة * (إلى أجل مسمى) * إلى أن يتوفاكم * (ويؤت كل ذي فضل فضله) * أي : ويعط في الآخرة كل ذي فضل في العمل وزيادة فيه جزاء فضله لا يبخس ، أو فضله في الثواب والدرجات * (وإن تولوا) * أي : تتولوا ، فحذف إحدى التاءين * (عذاب يوم كبير) * يوم القيامة ، وبين العذاب بأن مرجعهم إلى القادر على ما يريده من عذابهم .
  * (يثنون صدورهم) * أي : يزورون عن الحق وينحرفون عنه ، لأن من أقبل على الشئ استقبله بصدره ، ومن انحرف عنه ثنى عنه صدره * (ليستخفوا منه) * أي : يريدون ليستخفوا من الله، فلا يطلع (3) رسوله والمؤمنين على ازورارهم * (ألا حين يستغشون ثيابهم) * معناه : يتغطون بثيابهم كراهة لاستماع كلام الله، كقوله : * (جعلوا أصبعهم في ءاذانهم واستغشوا ثيابهم) * (4) ، ثم قال : * (يعلم ما يسرون وما يعلنون) * يعني : أنه لا تفاوت في علمه بين إسرارهم وإعلانهم .

-------------------
(1) البينة : 2 .
(2) الأحقاف : 13 .
(3) في بعض النسخ : ( يطلع ) بالتشديد .
(4) نوح : 7 .(*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _156 _
  وفي قراءة أهل البيت (عليهم السلام) : ( يثنوني صدورهم ) (1) على يفعوعل ، من الثني وهو بناء مبالغة ، وقرئ بالتاء (2) والياء (3) .
  * (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ * وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمْ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون) * * (على الله رزقها) * لما ضمن سبحانه أن يتفضل بالرزق عليهم وتكفل به صار التفضل واجبا ، فلذلك جاء بلفظ الوجوب كالنذور الواجبة على العباد * (ويعلم مستقرها) * موضع قرارها ومسكنها * (ومستودعها) * حيث كانت مودعة فيه قبل الاستقرار من : أصلاب الآباء وأرحام الأمهات، أو البيض * (كل) * أي : كل واحدة من الدواب ورزقها ومستقرها ومستودعها * (في كتب) * في اللوح المحفوظ ، يعني : أن ذكرها مكتوب فيه ظاهر .
  * (وكان عرشه على الماء) * أي : ماكان تحته خلق إلا الماء ، قبل خلق السماوات والأرض وارتفاعه فوقها ، وفيه دلالة على أن العرش والماء كانا مخلوقين قبل خلق السماوات والأرض (4) * (ليبلوكم) * يتعلق ب‍ * (خلق) * أي :

-------------------
(1) انظر البحر المحيط لأبي حيان : ج 5 ص 202 .
(2) وهي قراءة ابن عباس ومجاهد ونصر بن عاصم على ما حكاه عنهم ابن خالويه في شواذ القرآن : ص 64 .
(3) وهي قراءة ابن عباس ومجاهد أيضا وابن يعمر وابن أبي اسحاق ، راجع البحر المحيط لأبي حيان : ج 5 ص 202 .
(4) قال العلامة الطباطبائي (قدس سره) : وكون العرش على الماء يومئذ كناية عن أن ملكه تعالى كان = (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _157 _
  خلقهن لحكمة بالغة ، وهي أن يجعلها مساكن لعباده ، وينعم عليهم فيها بفنون النعم ، ويكلفهم ويعرضهم لثواب الآخرة، ولما أشبه ذلك اختبار المختبر قال : * (ليبلوكم) * أي : ليفعل بكم ما يفعل المبتلي لأحوالكم كيف تعملون * (أيكم أحسن عملا) * تعليق ، لأن في الاختبار معنى العلم ، وهو طريق إليه ، والذين هم أحسن عملا : هم المتقون ، فخصهم بالذكر تشريفا لهم وترغيبا في حيازة فضلهم * (ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت) * فتوقعوه لقالوا : * (إن هذا إلا سحر مبين) * أي : أمر باطل ، وأشاروا بهذا إلى القرآن لأن القرآن هو الناطق بالبعث ، فإذا جعلوه سحرا فقد اندرج تحته إنكار ما فيه من البعث وغيره ، وقرئ : ( إلا ساحر ) (1) يريدون الرسول .
  و * (العذاب) * عذاب الآخرة ، وقيل : عذاب يوم بدر (2) * (إلى أمة) * أي : حين ، والمعنى : إلى جماعة من الأوقات * (ليقولن ما يحبسه) * أي : ما يمنعه من النزول استعجالا له ، و * (يوم يأتيهم) * منصوب بخبر * (ليس) * ، وفيه دليل (3) على جواز تقديم خبر ( ليس ) على (ليس ) ، لأن المعمول لا يقع إلا حيث يجوز وقوع العامل فيه ، ووضع * (يستهزءون) * موضع يستعجلون ، لأن استعجالهم كان على وجه الاستهزاء * (وحاق) * في معنى : ( يحيق ) إلاأنه جاء على عادة الله في إخباره .
  * (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ * إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) * *

-------------------
= مستقرا يومئذ على هذا الماء الذي هو مادة الحياة ، فعرش الملك مظهر ملكه ، واستقراره على محل هو استقرار ملكه عليه كما أن استواءه على العرش احتواؤه على الملك واخذه في تدبيره ، وقول بعضهم : ان المراد بالعرش البناء بعيد عن الفهم ، انظر الميزان : ج 10 ص 151 .
(1) قرأه حمزة والكسائي ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 391 .
(2) قاله ابن عباس في تفسيره : ص 182 .
(3) في نسخة : دلالة . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 158_
  (الانسن) * للجنس * (رحمة) * أي : نعمة من صحة أو ثروة أو نحو ذلك * (ثم نزعنها) * أي : سلبناها منه * (إنه ليوس) * شديد اليأس، قنوط من أن تعود إليه تلك النعمة المنزوعة ، قاطع رجاءه من سعة فضل الله * (كفور) * عظيم الكفران لنعمه .
  * (ذهب السيات عنى) * أي : المصائب التي ساءتني وحزنتني * (إنه لفرح) * أي : أشر بطر * (فخور) * على الناس بما أنعم الله عليه ، قد شغله الفرح والفخر عن الشكر .
  * (إلا الذين صبروا) * أي : قابلوا الشدة بالصبر ، والنعمة بالشكر .
  * (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) * كانوا يقترحون عليه أشياء تعنتا ، فقالوا : * (لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك) * ، وكان يضيق صدره صلوات الله عليه وآله بما يقولونه * (أن يقولوا) * كراهة أن يقولوا : هلا * (أنزل عليه) * ما اقترحناه من الكنوز والملائكة ؟ ولم أنزل عليه مالا نريده ولا نقترحه ؟ * (إنما أنت نذير) * أي : ليس عليك إلا إنذارهم بما أوحي إليك * (والله على كل شئ وكيل) * يحفظ ما يقولون ثم يفعل بهم ما يجب أن يفعل ، فكل أمرك إليه ، وعليك بتبليغ الوحي غير مبال بمقالهم ولا ملتفت إلى فعالهم من : استكبارهم واستهزائهم .
  * (أم) * منقطعة ، والضمير في * (افتربه) * ل‍ * (ما يوحى إليك) * ، تحداهم * (بعشرسور)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _159 _
  * ثم تحداهم بسورة واحدة لما استبان عجزهم عن الإتيان بالعشر * (مثله) * بمعنى : أمثاله ، لأنه أراد مماثلة كل واحدة منها له * (مفتريت) * صفة ل‍ ( عشر سور ) ، والمعنى : هبوا أني افتريته من عند نفسي كما زعمتم * (فأتوا) * أنتم بكلام * (مثله) * في حسن النظم والفصاحة مفترى مختلق من عند أنفسكم ، فأنتم فصحاء مثلي تقدرون على مثل ما أقدر عليه من الكلام .
  * (فإلم يستجيبوا لكم) * أي : لك وللمؤمنين * (فاعلموا) * أيها المؤمنون ، أي : اثبتوا على العلم الذي أنتم عليه وازدادوا يقينا * (أنما أنزل بعلم الله) * أي : أنزل ملتبسا بما لا يعلمه إلا الله من نظم معجز لجميع الخلق وإخبار بغيوب لاسبيل لهم إليه * (و) * اعلموا عند ذلك : * (أن لا إله إلا) * الله وحده ، وأن توحيده هو الحق ، والشرك به هو الظلم الصريح * (فهل أنتم مسلمون) * مخلصون موقنون بعد قيام الحجة القاطعة ؟ ويجوز أن يكون الخطاب للكفار ، فيكون المعنى : فإن لم يستجب لكم من تدعونهم إلى معارضته فقد قامت عليكم الحجة ، * (فهل أنتم مسلمون) * متابعون بالإسلام معتقدون للتوحيد .
  * ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنْ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) * * (نوف إليهم) * نوصل إليهم ونوفر عليهم أجور * (أعملهم) * من غير بخس

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 160 _
  في الدنيا ، وهو مايرزقون * (فيها) * من الصحة والرزق ، وقيل : هم أهل الرياء (1) .
  * (وحبط ما صنعوا) * أي : ماصنعوه ، أو صنيعهم * (فيها) * في الآخرة ، يعني : لم يكن لصنيعهم ثواب ، لأنهم لم يريدوا به الآخرة ، وإنما أرادوا به الدنيا وقد وفي إليهم ما أرادوا * (وبطل ما كانوا يعملون) * أي : كان عملهم في نفسه باطلا ، لأنه لم يعمل للوجه الصحيح الذي هو ابتغاء وجه الله، فلا ثواب يستحق عليه ولا أجر . والتقدير : * (أفمن كان على بينة من ربه) * كمن كان يريد الحياة الدنيا على برهان من الله وبيان وحجة على أن دين الإسلام حق وهو دليل العقل ، والمعنى : أنهم لا يقاربونهم في المنزلة ، وبين الفريقين تفاوت شديد وبون بعيد * (ويتلوه) * ويتبع ذلك البرهان * (شاهد) * يشهد بصحته وهو القرآن * (منه) * من الله، وقيل : البينة : القرآن ، والشاهد : جبرئيل يتلو القرآن (2) ، وقيل : أفمن كان على بينة هو النبي ، والشاهد منه : علي بن أبي طالب (عليه السلام) يشهد له وهو منه ، وهو المروي عنهم (عليهم السلام) (3) * (ومن قبله) * من قبل القرآن * (كتب موسى) * وهو التوراة يتلوه أيضا في التصديق * (إماما) * مؤتما به في الدين قدوة فيه * (ورحمة) * ونعمة عظيمة على المنزل عليهم * (أولئك) * يعني : من كان على بينة * (يؤمنون به) * أي : بالقرآن * (ومن يكفر به من الأحزاب) * يعني : أهل مكة ومن وافقهم وضامهم من المتحزبين على رسول الله * (فالنار موعده فلاتك في مرية) * أي : شك من القرآن ، أو من الموعد .

-------------------
(1) قاله مجاهد على ما حكاه عنه البغوي في تفسيره : ج 2 ص 377 .
(2) قاله ابن عباس و عبد الرحمن بن زيد والنخعي وعكرمة والضحاك ، راجع تفسير ابن عباس : ص 183 ، وتفسير الماوردي : ج 2 ص 461 .
(3) تفسير القمي : ج 1 ص 324 ، وفي التبيان : ج 5 ص 460 : روي ذلك عن أبي جعفر (عليه السلام) ، وفي تفسير الماوردي : ج 2 ص 461 عن علي بن الحسين ، وذكره الطبري في تفسيره : ج 7 ص 17 باسناده عن جابر عن علي (عليه السلام) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _161 _
  * (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * أُوْلَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمْ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الأَخْسَرُونَ) * * (يعرضون على ربهم) * أي : يحبسون ويوقفون موقفا يراهم الخلائق للمطالبة بما عملوا * (و) * يشهد عليهم * (الاشهد) * من : الملائكة الحفظة والأنبياء بأنهم الكاذبون * (على) * الله بأنه اتخذ ولدا وشريكا ، وأنهم أضافوا إليه ما لم ينزله ، ويقولون : * (أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) * أي : يغوون الخلق ويصرفونهم عن دين الله * (ويبغونها عوجا) * أي : يصفونها بالاعوجاج وهي مستقيمة ، أو يبغون أهلها أن يعوجوا بالارتداد و * (هم) * الثانية : فصل أكد به كفرهم بالآخرة .
  * (أولئك لم يكونوا معجزين) * أي : فائتين الله * (في) * الدنيا أن يعاقبهم لو أراد عقابهم * (وما كان لهم) * من يتولاهم فينصرهم ويمنعهم منه ، ولكنه أراد إنظارهم وتأخير عقابهم إلى هذا اليوم ، وهو من كلام * (الاشهد) * ، وقرئ : ( يضعف ) (1) ، * (مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ ) * المعنى : أنهم لفرط تصاممهم عن استماع الحق كأنهم لا يستطيعون السمع .
  * (خسروا أنفسهم) * بأن اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله * (وضل عنهم) * أي : وضاع عنهم مااشتروه ،

-------------------
(1) وهي قراءة ابن كثير وابن عامر ويعقوب ، راجع تفسير البغوي : ج 2 ص 378 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 162_
  وهو : * (ما كانوا يفترون) * من شفاعة آلهتهم لهم .
  * (لاجرم أنهم في الاخرة هم الاخسرون) * أي : لا ينفعهم ذلك ، كسب ذلك الفعل لهم الخسران ، وقيل : معناه : حقا لهم أنهم أخسر الناس في الآخرة (1) .
  * ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ) * * (أخبتوا إلى ربهم) * اطمأنوا إليه وخشعوا له وانقطعوا إلى عبادته وذكره ، من الخبت وهو الأرض المستوية .
  شبه فريق الكفار ب‍ * (الاعمى والاصم) * وفريق المؤمنين ب‍ * (البصير والسميع) * وهو من اللف والطباق ، وفيه معنيان : أن يشبه الفريق بشيئين ، كما شبه امرؤ القيس قلوب الطير بالحشف والعناب في قوله : كأن قلوب الطير رطبا ويابسا * لدى وكرها العناب والحشف البالي (2) وأن يشبهه بالذي جمع بين العمى والصمم ، وبالذي جمع بين السمع والبصر ، على أن يكون الواو في * (والاصم) * وفي * (والسميع) * لعطف الصفة على الصفة * (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ * فَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ)

-------------------
(1) ذكره الزجاج في معاني القرآن : ج 3 ص 45 .
(2) البيت من قصيدة يصف فيها مغامراته وصيده العقبان ، راجع ديوان امرئ القيس : ص 145 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 163 _
   * قرئ : * (إنى) * بالفتح (1) والكسر ، فالفتح على * (أرسلنا) * ه ب‍ ( أني لكم نذير ) ، والمعنى : * (أرسلنا نوحا) * ملتبسا بهذا الكلام وهو قوله : * (إنى لكم نذير) * بالكسر ، فلما اتصل به الجار فتح كما فتح ( كأن ) وأصله الكسر في قولك : إن زيدا كالأسد ، وأما كسر ( إن ) فعلى إرادة القول .
  *(أن لا تعبدوا) * بدل من * (إنى لكم) * أي : أرسلنا بأن لا تعبدوا * (إلا الله) * أو تكون * (أن) * مفسرة متعلقة ب‍ * (أرسلنا) * أو ب‍ * (نذير) * ، * (أليم) * مجاز في صفة * (يوم) * أو * (عذاب) * ، لأن الأليم في الحقيقة هو المعذب ، ونظيره قولهم : نهاره صائم وليله قائم .
  * (الملا) * الأشراف ، لأنهم يملؤون القلوب هيبة * (مانربك إلا بشرا مثلنا) * ظنوا أن الرسول ينبغي أن يكون من غير جنس المرسل إليه ، وال‍ ( أراذل ) : جمع الأرذل، و * (بادي الرأى) * قرئ بالهمزة (2) وغير الهمزة ، بمعنى : اتبعوك أول الرأي ، أو ظاهر الرأي ، وإنما انتصب على الظرف ، وأصله : وقت حدوث أول رأيهم أو وقت حدوث ظاهر رأيهم فحذف المضاف ، وأريد : أن اتباعهم لك إنما كان بديهة من غير روية ونظر ، وإنما استرذلوهم لفقرهم وقلة ذات يدهم * (وما نرى لكم علينا من فضل) * أي: زيادة شرف تؤهلكم للنبوة . * (أرءيتم) * أخبروني * (إن كنت على) * برهان * (من ربى) * وشاهد يشهد بصحة نبوتي * (وءاتينى رحمة من عنده) * بإيتاء البينة ، على أن البينة هي الرحمة

-------------------
(1) قرأه ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 332 .
(2) وهي قراءة أبي عمرو ونصير ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 332 ، والتذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 457 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 164_
  بعينها ، ويجوز أن يريد بالبينة : المعجزة وبالرحمة : النبوة (1) ( فعميت عليكم ) (2) أي : خفيت بعد البينة (3) ، وقرئ : * (فعميت) * أي : أخفيت عليكم * (أنلزمكموها وأنتم لها كرهون) * أنكرهكم على قبولها ، ونجبركم على الاهتداء بها * (وأنتم) * تكرهونها ولا تختارونها ولا إكراه في الدين ؟ * (وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ * وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنصُرُنِي مِنْ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمْ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنْ الظَّالِمِينَ) * الضمير في * (عليه) * يرجع إلى قوله : * (إنى لكم نذير مبين) * ، * (إنهم ملقوا ربهم) * معناه : إنهم يلاقون الله فيعاقب من طردهم ، أو يلاقونه فيجازيهم على ما يعتقدونه من الإخلاص في الإيمان كما ظهر لي منهم ، أو على ما تقرفونهم (4) به من خلاف ذلك * (تجهلون) * الحق وأهله ، أو تسفهون على المؤمنين ، أو تجهلون لقاء ربكم .
  * (من ينصرني من الله) * من يمنعني من انتقام الله وعذابه * (إن طردتهم) * ؟ وكانوا يسألونه أن يطردهم ليؤمنوا ، أنفة من أن يكونوا معهم على سواء .
  * (ولا أقول لكم عندي خزائن الله) * فأدعي فضلا عليكم في الدنيا حتى

-------------------
(1) حكاه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 389 .
(2 و 3) الظاهر أن القراءة المعتمدة لدى المصنف هنا على التخفيف .
(4) في بعض النسخ: تعرفونهم .س (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _165_
  تجحدوا فضلي بقولي : * (وما نرى لكم علينا من فضل) * ، * (ولا) * أدعي أني * (أعلم الغيب) * حتى أطلع على نفوس أتباعي وضمائر قلوبهم * (ولا أقول إنى ملك) * حتى تقولوا لي : ما أنت إلا بشر مثلنا ، ولا أحكم على من تسترذلونه لفقرهم : أن الله * (لن يؤتيهم ... خيرا) * كما تقولون ، لهوانهم عليه * (إنى إذا لمن الظلمين) * إن قلت شيئا من ذلك ، والازدراء : افتعال من زرى عليه : إذا عابه .
  * (قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ * وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنْ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) * أي : حاججتنا وزدت في مجادلتنا على قدر الكفاية * (فأتنا بما تعدنا) * من العذاب فإنا لا نؤمن بك .
  * (قال إنما يأتيكم به الله) * وليس الإتيان به إلي * (إن شآء) * تعجيله لكم .
  وقوله : * (إن كان الله يريد أن يغويكم) * شرط جزاؤه مادل عليه قوله : * (لا ينفعكم نصحي) * ، وهذا الدال في حكم مادل عليه ، فوصل بشرط كما يوصل الجزاء بالشرط في قولهم : إن أحسنت إلي أحسنت إليك إن أمكنني .
  وأما المعني في قوله : * (إن كان الله يريد أن يغويكم) * فهو أن الكافر إذا علم الله منه الإصرار على الكفر فخلاه وشأنه ولم يقسره على الإيمان سمي ذلك إغواء وإضلالا ، كما أنه إذا عرف منه الإرعواء (1) إلى الإيمان فلطف به سمي إرشادا وهداية .

-------------------
(1) الإرعواء : الكف عن الأمر ، وقد ارعوى عن القبيح أي : ارتدع ، والاسم : الرعيا والرعوى ، (مجمع البحرين : مادة رعا) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 166 _
  * (فعلى إجرامي) * معناه : إن صح وثبت أني * (افتريته) * فعلي عقوبة إجرامي أي : افترائي ، وكان حقي حينئذ أن تعرضوا عني * (وأنا برى ء) * أي : ولم يثبت ذلك وأنا برئ منه ، ومعنى * (مما تجرمون) * : من إجرامكم في إسناد الافتراء علي ، فلا وجه لإعراضكم عني .
  * (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ * وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ) * أقنطه الله سبحانه من إيمانهم * (إلا من قد ءامن) * إلا من وجد منه ماكان يتوقع من الإيمان ، و * (قد) * للتوقع * (فلا تبتئس) * أي : فلا تحزن حزن بائس مسكين ، قال : ما يقسم الله فاقبل غير مبتئس * منه واقعد كريما ناعم البال (1) أي : فلا تحزن بما فعلوه من تكذيبك وإيذائك ، فقد حان وقت الانتقام لك منهم وإنجائك .
  * (بأعيننا) * في موضع الحال ، أي : * (اصنع الفلك) * ملتبسا * (بأعيننا) *، كأن لله سبحانه معه أعينا تكلؤه (2) أن يزيغ في صنعته عن الصواب * (ووحينا) * وأنا نوحي إليك ونلهمك كيف تصنع ؟ وعن ابن عباس : لم يعلم كيف صنعة الفلك

-------------------
(1) وقائله حسان بن ثابت ، ومعناه واضح ، راجع ديوان حسان : ص 121 .
(2) كلأه : أي حرسه ، (القاموس المحيط : مادة كلأ) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _167 _
  فأوحى الله إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر (1) (2) .
  * (ولاتخطبنى في الذين ظلموا) * ولاتدعني في شأن قومك واستدفاع العذاب عنهم بشفاعتك * (إنهم) * محكوم عليهم بالإغراق ، وقد وجب ذلك فلا سبيل إلى كفه .
  * (ويصنع الفلك) * حكاية حال ماضية * (سخروا منه) * ومن عمله السفينة ، وكان يعملها في برية في أبعد موضع من الماء ، فكانوا يتضاحكون ويقولون : يا نوح ، صرت نجارا بعدما كنت نبيا ! * (فإنا نسخر منكم) * في المستقبل * (كما تسخرون) * منا الساعة إذا وقع عليكم الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة . * (من يأتيه) * في محل النصب ب‍ * (تعلمون) * ، أي : * (فسوف تعلمون) * الذي * (يأتيه عذاب يخزيه) * وهو عذاب الدنيا * (ويحل عليه) * حلول الدين والحق اللازم * (عذاب مقيم) * وهو عذاب الآخرة ، ويجوز أن يكون * (من) * استفهامية ويكون تعليقا .
  * (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ * وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنْ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنْ الْمُغْرَقِينَ) * (حتى) * هذه هي التي يبتدأ بعدها الكلام ، دخلت على الجملة من : الشرط

-------------------
(1) جؤجؤ الطائر والسفينة : صدرهما ، والجمع الجآجئ ، (الصحاح : مادة جأجأ) .
(2) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 392 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 168_
  والجزاء * (وفار التنور) * بالماء ، أي : ارتفع الماء بشدة اندفاع ، وهو تنور الخابزة ، وكان في ناحية الكوفة ، وقيل : التنور : وجه الأرض (1) ، * (وأهلك) * عطف على * (اثنين) * ، وكذلك * (ومن ءامن) * ، يعني : ف‍ * (احمل) * أهلك والمؤمنين من غيرهم ، و * (اثنين) * مفعول * (احمل) * ، والمراد ب‍ * (كل زوجين) * : الشياع ، وقرئ : * (من كل) * بالتنوين (2) وحذف المضاف إليه من * (كل) * ، والمراد : من كل شئ زوجين ، فعلى هذا يكون انتصاب ال‍ * (اثنين) * على أنه صفة ل‍ * (زوجين) *، واستثني من أهله * (من سبق عليه القول) * أنه من أهل النار للعلم بأنه يختار الكفر ، * (وما ءامن معه إلا قليل) * قيل : كانوا ثمانية (3) ، وقيل : كانوا اثنين وسبعين رجلا وامرأة (4) .
  * (وقال) * نوح لمن معه : * (اركبوا فيها) * ، وقرئ : * (مجربها) * بضم الميم (5) وفتحه ، واتفقوا على ضم الميم في * (مرسيهآ) * إلا ماروي عن ابن محيصن : أنه فتح الميم فيهما (6) ، من جرى ورسا : إما مصدرين ، أو وقتين ، أو مكانين ، والمعنى : اركبوا فيها مسلمين الله، أو قائلين : * (بسم الله) * وقت إجرائها ووقت إرسائها ، أو وقت جريها ووقت رسوها ، على القراءة الأخرى ، ويجوز أن يكونا مصدرين حذف منهما الوقت المضاف ، كقولهم : خفوق النجم ومقدم الحاج ، ويجوز أن يكونا

-------------------
(1) قاله ابن عباس وعكرمة والزهري ، راجع تفسير الماوردي : ج 2 ص 472 ، وتفسير البغوي : ج 2 ص 383 .
(2) الظاهر من العبارة أن المصنف اعتمد هنا على قراءة الاضافة وحذف التنوين تبعا للزمخشري .
(3) وهو قول قتادة وابن جريج ومحمد بن كعب القرظي ، راجع تفسير البغوي : ج 2 ص 384 .
(4) قاله مقاتل على ما حكاه عنه البغوي في تفسيره : ج 2 ص 384 .
(5) قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم وابن عامر ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 333 .
(6) حكاه عنه البغوي في تفسيره : ج 1 ص 385 .(*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _169 _
  مكاني الإجراء والإرساء ، وانتصابهما بما في * (بسم الله) * من معنى الفعل ، أو بما فيه من إرادة القول ، وروي : أن نوحا كان يقول إذا أراد أن تجري : ( بسم الله ) وإذا أراد أن ترسو : ( بسم الله ) (1) ، ويجوز أن يراد : بالله إجراؤها وإرساؤها ، أي : بأمره ومشيئته ، والاسم مقحم (2) .
  * (وهي تجري بهم) * معناه : أن السفينة تجري بنوح ومن معه على الماء * (في) * أمواج * (كالجبال) * في عظمها وارتفاعها ، وقرأ علي (عليه السلام) : ( ونادى نوح ابنه ) بفتح الهاء (3) ، اكتفي بالفتحة عن الألف ، وروي أيضا : ( ابنها ) (4) والضمير لامرأته * (وكان في معزل) * وهو مفعل من عزله عنه : إذا نحاه وأبعده ، يعني : وكان في مكان عزل فيه نفسه عن أبيه وعن مركب المؤمنين ، وقيل : كان في معزل عن دين أبيه (5) ، * (يبنى) * قرئ بفتح الياء وكسرها (6) ، فالكسر للاقتصار عليه من ياء الإضافة ، والفتح للاقتصار عليه من الألف المبدلة من ياء الإضافة في قولك : يابنيا ، أو سقطت الياء والألف لالتقاء

-------------------
(1) رواها الطبري في تفسيره : ج 7 ص 45 عن الضحاك .
(2) قحمه تقحيما : إذا أدخله في الأمر بلا روية ، والمراد هنا : أن لفظ الاسم في قوله تعالى : * (بسم الله مجربها) * ادخل بين الجار والمجرور بقصد المبالغة في عظمة الله سبحانه وقدرته .
(3) رويت هذه القراءة عن علي (عليه السلام) وعلي بن الحسين وابنه الباقر وابنه الصادق (عليهم السلام) وعروة ابن الزبير وهشام بن عروة ، قال القرطبي : وزعم أبو حاتم أنها تجوز على أنه يريد ( ابنها ) فحذف الألف كما تقول : ( ابنه ) فتحذف الواو ، وقال النحاس : وهذا الذي قاله أبو حاتم لا يجوز على مذهب سيبويه ، لأن الألف خفيفة فلا يجوز حذفها ، والواو الثقيلة يجوز حذفها ، راجع تفسير القرطبي : ج 9 ص 38 ، والبحر المحيط لأبي حيان : ج 5 ص 226 .
(4) ورويت أيضا عن علي (عليه السلام) وعروة ، راجع شواذ القرآن لابن خالويه : ص 65 ، والبحر المحيط لأبي حيان : ج 5 ص 226 .
(5) ذكره الزجاج في معاني القرآن : ج 3 ص 54 .
(6) وبالكسر قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة وابن عامر والكسائي ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 334 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 170_
  الساكنين ، لأن الراء بعدهما ساكنة ، * (لاعاصم اليوم من) * الطوفان * (إلا من رحم) * الله، أي : إلا مكان من رحم الله من المؤمنين ، يعني : السفينة ، أو : لاعاصم اليوم إلا الراحم وهو الله تعالى ، وقيل : لاعاصم بمعنى : لا ذاعصمة إلا من رحمه الله، كقولهم : ماء دافق ، وعيشة راضية (1) ، وقيل : * (إلا من رحم) * استثناء منقطع ، كأنه قيل : ولكن من رحمه الله فهو معصوم (2) .
  * (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ * قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) * نداء ال‍ ( أرض ) وال‍ ( سماء ) بما ينادي به العقلاء مما يدل على كمال العزة والاقتدار ، وأن هذه الأجرام العظيمة منقادة لتكوينه فيها ما يشاء ، غير ممتنعة عليه ، كأنها عقلاء مميزون قد عرفوا جلالته وعظمته ، فهم ينقادون له ويمتثلون

-------------------
(1) قاله الزجاج في معاني القرآن : ج 3 ص 54 .
(2) وهو قول الزجاج كما حكاه القرطبي في تفسيره : ج 9 ص 39 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 171 _
  أمره على الفور من غير ريث ، والبلع : عبارة عن النشف ، والإقلاع : الإمساك * (وغيض الماء) * من غاضه : إذا نقصه * (وقضى الامر) * وأنجز الموعود في إهلاك القوم * (واستوت) * أي : استقرت السفينة * (على الجودي) * وهو جبل بالموصل * (وقيل بعدا) * يقال : بعد بعدا وبعدا : إذا أرادوا البعد البعيد من حيث الهلاك والموت ونحو ذلك ، ولذلك اختص بدعاء السوء ، ومجئ إخباره عز اسمه على (1) الفعل المبني للمفعول للدلالة على الجلال والعظمة ، وأن تلك الأمور العظام لا تكون إلا بفعل قاهر قادر لا يشارك في أفعاله ، فلا يذهب الوهم إلى أن غيره يقول : * (يأرض ... ويسمآء) * وأن أحدا سواه يقضي ذلك الأمر .
  * (إن ابني من أهلى) * أي : من بعض أهلي ، لأنه كان ابنه من صلبه ، أو كان ربيبا له فهو بعض أهله * (وإن وعدك الحق) * لاشك في إنجازه، وقد وعدتني أن تنجي أهلي * (وأنت أحكم الحكمين) * أي : أعدلهم وأعلمهم .
  * (إنه ليس من أهلك) * الذين وعدتك بنجاتهم معك ، لأنه ليس على دينك * (إنه عمل غير صلح) * تعليل لانتفاء كونه من أهله ، وفيه إيذان بأن قرابة الدين غامرة لقرابة النسب ، وجعلت ذاته عملا غير صالح مبالغة في ذمه ، كقول الخنساء : فإنما هي إقبال وإدبار (2) وقرئ : ( إنه عمل غير صالح ) (3) ، وقرئ : * (فلا تسلن) * بكسر النون بالياء (4)

-------------------
(1) في بعض النسخ : عن .
(2) صدره : ترتع مارتعت حتى إذا ادكرت ، تقدم شرح البيت في ج 1 ص 177 و 205 فراجع .
(3) وهي قراءة الكسائي ويعقوب ، راجع التبيان : ج 5 ص 494 .
(4) قرأه أبو جعفر القارئ ويعقوب واحمد بن صالح عن ورش وأبو عمرو ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 459 ، وتفسير البغوي : ج 2 ص 386 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 172 _
  وبغير ياء ، وقرئ : ( فلا تسلن ) مشددة النون مفتوحة (1) ، و ( لا تسلني ) بالتشديد وإثبات الياء (2) وغير ياء (3) .
  والمعنى : فلا تلتمس مني التماسا لاتعلم أصواب هو أم غير صواب ، حتى تقف على كنهه ، وذكر السؤال دليل على أن النداء كان قبل أن يغرق ، وجعل سبحانه سؤال مالا يعرف كنهه جهلا ، ثم وعظ أن لا يعود إليه وإلى أمثاله من فعل * (الجهلين) * .
  * (أن أسلك) * أن أطلب منك في المستقبل * (ما) * لاعلم * (لى) * بصحته ، تأدبا بأدبك واتعاظا بموعظتك * (وإلا تغفر لى وترحمني أكن من الخسرين) * قاله على سبيل الخضوع لله عز اسمه والتذلل له والاستكانة .
  * (بسلم منا) * أي : مسلما محفوظا من جهتنا ، أو مسلما عليك مكرما * (وبركت عليك) * ومباركا عليك ، والبركات : الخيرات النامية * (وعلى أمم ممن معك) * : ( من ) للبيان ، يريد : الأمم الذين كانوا معه في السفينة ، لأنهم كانوا جماعات ، ولأن الأمم تشعبت منهم ، ويجوز أن تكون ( من ) لابتداء الغاية ، أي : على أمم ناشئة ممن معك ، وهي الأمم إلى آخر الدهر ، وهذا أوجه ، و * (أمم) * رفع بالابتداء ، و * (سنمتعهم) * صفته ، والخبر محذوف تقديره : وممن معك أمم سنمتعهم ، والمعنى : أن السلام منا والبركات عليك وعلى أمم مؤمنين ينشؤون ممن معك ، وممن معك أمم ممتعون بالدنيا صائرون إلى النار ، وكان نوح أبا الأنبياء ، والخلق بعد الطوفان منه وممن كان معه في السفينة .
  * (تلك) * إشارة إلى قصة نوح ، ومحلها رفع بالابتداء ، والجمل بعدها أخبار ،

-------------------
(1) قرأه ابن كثير وابن عامر ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 335 .
(2) وهي قراءة ورش عن نافع ، راجع التبيان : ج 5 ص 494 .
(3) وهي قراءة نافع وابن عامر ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 335 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 173_
  أي : تلك القصة بعض * (أنباء الغيب) * موحاة * (إليك) * مجهولة عندك وعند * (قومك من قبل هذا) * أي : من قبل إيحائي إليك ، أو من قبل هذا العلم الذي كسبته بالوحي ، أو من قبل هذا الوقت * (فاصبر) * على تبليغ الرسالة وعلى أذي قومك كما صبر نوح * (إن العقبة) * في الفوز والنصر والغلبة * (للمتقين) * .
  * (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ * يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ * وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ * قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ * وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ) * * (أخاهم) * في النسب دون الدين ، أي : واحدا منهم ، عطف على * (أرسلنا نوحا) * ، و * (هودا) * عطف بيان * (إن أنتم إلا مفترون) * على الله كذبا باتخاذكم

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 174_
  الأوثان له شركاء ، * (أفلا تعقلون) * إذ تردون نصيحة من لا يطلب عليها * (أجرا ... إلا) * من الله، ولا شئ أنفي للتهمة من حسم المطامع .
  ال‍ ( مدرار ) : الكثير الدرور ، كالمغزار ، رغبهم في الإيمان بكثرة المطر وزيادة القوة ، لأن القوم كانوا أصحاب زروع وبساتين ، وكانوا يدلون (1) بالقوة والبطش والنجدة .
  وعن الحسن بن علي (عليهما السلام) أنه وفد على معاوية ، فلما خرج تبعه بعض حجابه وقال : إني رجل ذو مال ولا يولد لي ، فعلمني شيئا لعل الله يرزقني ولدا ، فقال : ( عليك بالاستغفار ) ، فكان يكثر الاستغفار حتى ربما استغفر في اليوم سبعمائة مرة ، فولد له عشرة بنين ، فبلغ ذلك معاوية ، فقال : هلا سألته مم قال ذلك ؟ فوفد وفدة أخرى ، فسأله الرجل ، فقال : ( ألم تسمع قول الله عزوجل في قصة (2) هود : * (ويزدكم قوة إلى قوتكم) * وفي قصة نوح : * (ويمددكم بأموا ل وبنين) * (3) ) (4) .
  * (ولا تتولوا) * ولا تعرضوا عني وعما أدعوكم إليه * (مجرمين) * مصرين على أجرامكم وآثامكم .
  * (ما جئتنا ببينة) * كذب منهم وجحود ، كما قالت قريش لرسول الله (صلى الله عليه وآله) : * (لولا أنزل عليه ءاية من ربه) * (5) مع كثرة آياته ومعجزاته ، * (عن قولك) * حال من الضمير في * (تاركى ءالهتنا) * بمعنى : وما نترك آلهتنا صادرين عن قولك .
  *(اعتربك) * مفعول * (نقول) * و * (إلا) * لغو ، والمعنى : ما نقول إلا قولنا : * (اعتربك

-------------------
(1) يدل بفلان : أي يثق به ، (الصحاح : مادة دلل) .
(2) في نسخة : سورة .
(3) نوح : 12 .
(4) رواه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 402 .
(5) يونس : 20 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _175_
  بعض ءالهتنا بسوء) * أي : خبلك ومسك بجنون ، لسبك إياها وعداوتك لها ، مكافاة منها لك ، فمن ثم تتكلم بكلام المجانين * (قال) * هود : * (إنى أشهد الله) * واجههم بهذا الكلام لثقته بربه واعتصامه به ، كما قال نوح لقومه : * (ثم اقضوا إلى ولا تنظرون) * (1) ، * (مما تشركون من دونه) * من إشراككم آلهة من دونه ، أو مما تشركونه من آلهة من دونه ، أي : أنتم تجعلونها شركاء له ولم يجعلها هو شركاء * (فكيدوني جميعا) * أنتم وآلهتكم من غير إنظار ، فإني لا أبالي بكم ولا بكيدكم .
  ولما ذكر توكله على الله ووثوقه به وبكلاءته (2) وصفه بما يوجب التوكل عليه من اشتمال ربوبيته عليه وعليهم ، وكون كل * (دابة) * تحت ملكته (3) وقهره ، والأخذ * (بناصيتها) * : تمثيل لذلك * (إن ربى على صرا ط مستقيم) * أي : على طريق الحق والعدل لا يفوته ظالم .
  * (فإن تولوا) * أي : تتولوا ، لم أعاتب على التفريط في الإبلاغ * (فقد أبلغتكم مآأرسلت به إليكم) * فأبيتم إلا تكذيب الرسالة * (ويستخلف ربى) * كلام مستأنف ، يريد : ويهلككم الله ويجئ بقوم آخرين يخلفونكم في دياركم وأموالكم * (ولا تضرونه) * بتوليكم * (شيا) * من ضرر قط ، وإنما تضرون أنفسكم * (إن ربى على كل شئ حفيظ) * أي : رقيب عليه مهيمن ، فما تخفي عليه أعمالكم ، ولا يغفل عن مؤاخذتكم .
  * (ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين ءامنوا) * حين أهلكنا عدوهم * (برحمة منا ونجينهم من عذاب غليظ) * وهو السموم (4) التي كانت تدخل في أنوفهم

-------------------
(1) يونس : 71 .
(2) في بعض النسخ : بكلماته ، وكلأه الله كلاءة : أي حفظه وحرسه ، (الصحاح : مادة كلأ) .
(3) في بعض النسخ : مملكته .
(4) السموم : الريح الحارة ، (لسان العرب : مادة سمم) . (*)