مصور أن يكون صفة ل‍ * (صلصل) * كأنه أفرغ الحمأ فصور منها تمثال إنسان أجوف فيبس حتى إذا نقر صلصل ثم غير بعد ذلك فصير إنسانا .
  * (والجآن) * للجن كآدم للناس * (من نار السموم) * من نار الحر الشديد النافذ في المسام .
  * (و) * اذكر * (إذ قال ربك) * وقت قوله : * (فإذا سويته) * أي : عدلت خلقته وأكملتها وهيأتها لنفخ الروح فيها * (ونفخت فيه من روحي) * معناه : أحييته ، وليس ثم نفخ ولا منفوخ فيها وإنما هو تمثيل لتحصيل ما يحيى به فيه (1) .
  * (مالك ألا تكون) * حذف حرف الجر مع ( أن ) والتقدير : مالك في أن لا تكون * (مع السجدين) *، والمعنى : أي غرض لك في إبائك السجود ، وأي داع لك إليه ؟ * (لم أكن لاسجد) * اللام لتأكيد النفي ، أي : لا يصح مني أن أسجد ويستحيل مني ذلك .
  * (رجيم) * مرجوم ، ملعون ، مطرود من الرحمة ، مبعد منها ، والضمير في * (منها) * يعود إلى الجنة أو إلى السماء أو إلى الملائكة .
  و * (يوم الدين) * و * (يوم يبعثون) * و * (يوم الوقت المعلوم) * في معنى واحد خولف بين العبارات سلوكا لطريق البلاغة ، وقيل : إنما سأل الإنظار إلى اليوم الذي فيه يبعثون لئلا يموت ، لأنه لا يموت يوم البعث أحد ، فلم يجب إلى ذلك وأنظر إلى آخر أيام التكليف (2) .

-------------------
(1) قال العلامة الطباطبائي : النفخ : إدخال الهواء في داخل الاجسام بفم أو غيره ، ويكنى به عن إلقاء أثر أو أمر غير محسوس في شئ ، ويعني به في الآية : إيجاده تعالى الروح الانساني بما له من الرابطة والتعلق بالبدن ، وليس بداخل فيه دخول الهواء في الجسم المنفوخ فيه ، راجع تفسير الميزان : ج 12 ص 154 .
(2) ذكره العلامة الطباطبائي في تفسيره : ج 12 ص 160 وقال : نسب الى ابن عباس ، ومال إليه الجمهور . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)_ 302 _

  * (بمآ أغويتني) * الباء للقسم و ( ما ) مصدرية ، وجواب القسم * (لازينن) * ، والمعنى : أقسم بإغوائك إياي * (لازينن لهم) * ، ومعنى إغوائه إياه : تسبيبه لغيه بأن أمره بالسجود لآدم فأفضى ذلك إلى غيه ، وما الأمر بالسجود إلا حسن وتعريض للثواب بالتواضع والخضوع لأمر الله، ولكن الملعون اختار الاستكبار فهلك وغوى باختياره .
  ويجوز أن لا يكون * (بمآ أغويتني) * قسما ويقدر قسم محذوف ، ويكون المعنى : بسبب تسبيبك لإغوائي أقسم لأفعلن بهم نحو ما فعلت بي من التسبيب لإغوائهم بأن ازين لهم المعاصي واوسوس إليهم ما يكون سبب هلاكهم * (في الارض) * أي : في الدنيا التي هي دار الغرور ، كقوله تعالى : * (أخلد إلى الارض واتبع هوبه) * (1) ، أو أراد : لأجعلن مكان التزيين عندهم الأرض ولأوقعن تزييني فيها ، أي : لأزيننها في أعينهم حتى يستحبوها على الآخرة ويطمئنوا إليها .
  ثم استثنى * (المخلصين) * لأنه علم أنهم لا يقبلون قوله .
  * (قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ * وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ * إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ * نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ) * أي : * (هذا) * طريق حق * (على) * أن أراعيه ، وهو أن لا يكون لك * (سلطن) *

-------------------
(1) الأعراف : 176 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 303 _
  على عبادي إلا من اختار منهم متابعتك لغوايته ، وقرئ : ( صرا ط علي ) (1) وهو من علو الشرف والفضل .
  * (لموعدهم) * الضمير ل‍ * (الغاوين) * .
  وأبواب جهنم : أطباقها ، بعضها فوق بعض * (جزء مقسوم) * أي : نصيب مفروض (2) .
  و * (المتقين) * الذين يتقون ما يجب عليهم اتقاؤه مما نهوا عنه ، يقال لهم : * (ادخلوها بسلم) * أي : سالمين مسلمين من الآفات * (ءامنين) * من الإخراج منها .
  والغل : الحقد الكامن في القلب ، معناه : وأزلنا ماكان في قلوبهم من أسباب العدواة في الدنيا ، وقيل : معناه : طهرنا قلوبهم من أن يتحاسدوا على الدرجات في الجنة (3) ، و * (إخوا نا) * نصب على الحال ، و * (على سرر متقبلين) * كذلك : أي : كائنين على مجالس السرور متواجهين ، ينظر بعضهم إلى وجه بعض * (لا يمسهم فيها) * تعب وعناء .
  ثم قرر ما ذكره من الوعد ومكنه في نفوسهم بقوله : * (نبئ عبادي أنى أنا) * وحدي * (الغفور) * للذنوب * (الرحيم) * الكثير الرحمة * (وأن عذابي) * هو المستأهل لأن يسمى أليما ، فارجوا رحمتي وخافوا عذابي .
  * (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ * قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِي الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنْ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ * قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنْ الْغَابِرِينَ)

-------------------
(1) قرأه يعقوب وابن سيرين وقتادة ، راجع التبيان : ج 6 ص 337 .
(2) في نسخة : مفروز .
(3) حكاه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 580 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 304 _
  * * (ونبئهم) * عطف على * (نبئ عبادي) * ، أي : وأخبرهم عنهم ليتخذوا ما أحل بقوم لوط من العذاب ، عبرة يعتبرون بها سخط الله وانتقامه من المجرمين ، ويتحققوا عنده أن عذابه هو العذاب الأليم * (فقالوا سلما) * أي : نسلم عليك سلاما ، أو سلمت سلاما * (قال) * إبراهيم * (إنا منكم وجلون) * أي : خائفون ، وكان خوفه لأنهم دخلوا بغير إذن وبغير وقت ، أو لامتناعهم من الأكل .
  * (إنا نبشرك) * استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل ، المعنى : إنك آمن مبشر ف‍ * (لا تؤجل) * .
   * (قال أبشرتموني) * مع مس * (الكبر) * بأن يولد لي ؟ أي : أن الولادة أمر عجيب مع الكبر * (فبم تبشرون) * وهي ( ما ) الاستفهامية دخلها معنى التعجب ، كأنه قال : فبأي أعجوبة تبشرون ، وقرئ بفتح النون وكسرها (1) على حذف نون الجمع ، والأصل ( تبشرونن ) ، وقرئ بإثبات الياء ( تبشروني ) (2) و ( تبشرون ) (3) بإدغام نون الجمع في نون العماد .
  * (قالوا بشرنك بالحق) * أي : باليقين الذي لالبس فيه * (فلا تكن من القنطين) * أي : الآيسين .

-------------------
(1) وقراءة الكسر هي قراءة نافع وشيبة ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 486 ، وتفسير القرطبي : ج 10 ص 35 .
(2) حكاها في مجمع البيان : ج 5 ـ 6 ص 339 عن يعقوب .
(3) أي : بكسر النون مشددة ، وهي قراءة ابن كثير وابن محيصن ، راجع تفسير القرطبي : ج 10 ص 35 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _305 _
  وقرئ : * (يقنط) * بكسر النون (1) وفتحها * (إلا الضالون) * أي : المخطئون سبيل الصواب ، يعني : لم أستنكره قنوطا من رحمته ولكن استبعادا له في العادة الجارية بين الخلق * (فما خطبكم) * أي : فما شأنكم الذي بعثتم له ؟ وقوله : * (إلا ءال لوط) * إن كان استثناء من * (قوم) * كان منقطعا ، لأن القوم موصوفون بالإجرام فاختلف لذلك الجنسان ، وإن كان استثناء من الضمير في * (مجرمين) * كان متصلا ، كأنه قال : * (إلى قوم) * قد أجرموا كلهم إلا آل لوط .
  وقوله : * (إلا امرأته) * استثناء من الضمير المجرور في * (لمنجوهم) * وليس استثناء من الاستثناء * (إنها لمن الغبرين) * تعليق ، لأن التقدير يتضمن معنى العلم ، ولذلك فسر العلماء تقدير الله تعالى أعمال العباد بالعلم (2) ، وإنما أسند الملائكة فعل التقدير إلى أنفسهم وهو لله تعالى لما لهم من القرب والاختصاص بالله ، كما يقول خاصة الملك : فعلنا كذا وأمرنا بكذا ، والمدبر والآمر هو الملك لا هم ، وقرئ : ( قدرنا ) بالتخفيف (3) وكذلك في النمل (4) .
  * (فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ * قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ * وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ * وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ * وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ * قَالَ إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ * وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ * قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنْ الْعَالَمِينَ * قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ * فَأَخَذَتْهُمْ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ * فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ)

-------------------
(1) قرأه أبو عمرو والكسائي ويعقوب وخلف والحسن البصري والأعمش ، راجع الكشف عن وجوه القراءات للقيسي : ج 2 ص 31 ، وتفسير البغوي : ج 3 ص 53 .
(2) قسم علماء الكلام التقدير الى مراتب أو أقسام ثلاثة : التشريعي والعيني والعلمي ، وهذا الأخير عرفوه بأنه عبارة عن تحديد كل شئ بخصوصياته في علمه الأزلي سبحانه وتعالى قبل ايجادها ، فهو تعالى يعلم حد كل شئ ومقداره وخصوصياته الجسمانية وغير الجسمانية ، وقد اشير إليه في آيات الكتاب المجيد ، قال سبحانه : * (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتبا مؤجلا) * ، وقال جل شأنه : * (وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتب إن ذلك على الله يسير) * ، انظر الالهيات للسبحاني : ص 266 .
(3) قرأه أبو بكر والمفضل ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 487 .
(4) الآية : 57 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 306 _
   * * (منكرون) * أي : تنكركم نفسي وتنفر منكم فأخاف أن تطرقوني بشر ، يدل عليه قولهم : * (بل جئنك بما كانوا فيه يمترون) * أي : ماجئناك بما تنكرنا لأجله ، بل جئناك بما فيه فرحك وسرورك وهو العذاب الذي كنت تخوفهم به وتتوعدهم بنزوله فيمترون أي : يشكون فيه .
  * (وأتينك بالحق) * باليقين عن عذابهم * (وإنا لصدقون) * في الإخبار بنزوله بهم .
  * (فأسر بأهلك) * قرئ بقطع الهمزة ووصلها (1) من سرى وأسرى * (بقطع من اليل) * وهو من آخره بعدما يمضي أكثر الليل * (واتبع أدبرهم) * أي : اقتف آثارهم وكن وراءهم لتكون عينا عليهم فلا يتخلف أحد منهم * (ولا يلتفت منكم أحد) * إلى ما خلف وراءه في المدينة ، أو هو كناية عن مواصلة السير وترك التوقف ، لأن من يلتفت لابد له في ذلك من أدنى وقفة * (وامضوا) * أي : اذهبوا إلى * (حيث تؤمرون) * أي: إلى الموضع الذي أمرتم بالذهاب إليه وهو الشام ، وعدي

-------------------
(1) وبالوصل قرأه ابن كثير ونافع ، راجع تفسير السمرقندي : ج 2 ص 222 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _307 _
  * (امضوا) * إلى * (حيث) * كما يعدى إلى الظرف المبهم ، لأن ( حيث ) مبهم في الأمكنة ، وكذلك الضمير في ( تؤمرونه ) .
  وعدي * (وقضينا) * ب‍ ( الى) لأن المعنى : وأوحينا * (إليه ذلك الامر) * مقضيا ، وفسر * (الامر) * بقوله : * (أن دابر هؤلاء مقطوع) * وفي إبهامه وتفسيره تعظيم للأمر ، وقرئ : (إن ) بالكسر (1) على الاستئناف ، كأن قائلا قال : أخبرنا عن ذلك الأمر فقيل : إن دابر هؤلاء مقطوع ، ودابرهم : آخرهم ، يعني : يستأصلون عن آخرهم حتى لا يبقى منهم أحد * (مصبحين) * أي : داخلين في وقت الصبح .
  * (وجاء أهل المدينة) * وهي سدوم (2) التي يضرب بقاضيها المثل في الجور (3) ، مستبشرين بالملائكة .
  * (فلا تفضحون‍) * ـ ي بفضيحة ضيفي ، لأن من أسئ إلى ضيفه وجاره فقد أسئ إليه ، * (ولا تخزون‍) * ـ ي ولا تذلوني بإذلال ضيفي ، من الخزي ، أو لاتشوروا بي ، من الخزاية وهي الحياء .
  * (عن العلمين) * أي : عن أن تجير منهم أحدا أو تدفع عنهم أو تمنع بيننا وبينهم وهو ماأوعدوه من قولهم : * (لئن لم تنته يلوط لتكونن من المخرجين) * (4) ، وقيل : عن ضيافة الناس وإنزالهم (5) .
  * (هؤلاء بناتى) * إشارة إلى النساء ، لأن كل أمة أولاد نبيها ، أي : هؤلاء بناتي فانكحوهن وخلوا بني فلا تتعرضوا لهم * (إن كنتم فعلين) * شك في قبولهم لقوله ،

-------------------
(1) وهي قراءة الأعمش وزيد بن علي ، راجع البحر المحيط لأبي حيان : ج 5 ص 461 .
(2) سدوم بفتح السين وبالدال المهملة ، وقيل : بالذال المعجمة ، وهي مدينة من مدائن قوم لوط (عليه السلام) ، راجع معجم البلدان للحموي : ج 3 ص 59 .
(3) يقال : إن من جوره أنه حكم على أنه إذا ارتكبوا الفاحشة من أحد أخذ منه أربعة دراهم ! انظر مجمع الامثال للميداني : ج 1 ص 199 .
(4) الشعراء : 167 .
(5) قاله الزجاج في معاني القرآن : ج 3 ص 182 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 308_
  فكأنه قال : إن فعلتم ماأقوله لكم وماأظنكم تفعلون ، وقيل : معناه : إن كنتم متزوجين (1) .
  * (لعمرك) * أي : وحياتك يا محمد ومدة بقائك ، وعن المبرد (2) : هو دعاء معناه : أسأل الله عمرك (3) ، وتقديره : لعمرك مما أقسم به ، والعمر والعمر واحد إلا أنهم خصوا القسم بالمفتوح لخفة الفتحة * (إنهم لفي سكرتهم) * أي : في غوايتهم التي أذهبت عقولهم يتحيرون .
  * (فأخذتهم الصيحة) * وهي صيحة جبرئيل * (مشرقين) * داخلين في الشروق وهو طلوع الشمس .
  * (من سجيل) * من طين عليه كتاب .
  والمتوسم : المتفرس ، المتأمل ، المتثبت في نظره حتى يعرف حقيقة سمة الشئ .
  الصادق (عليه السلام) : ( نحن المتوسمون ) (4) .
  وفي الحديث : ( إن لله عبادا يعرفون الناس بالتوسم ) (5) .
  * (وإنها) * وإن آثارها * (لبسبيل مقيم) * ثابت يسلكه الناس لم يندرس بعد وهم يبصرون تلك الآثار ، وهي تنبيه لقريش ، كقوله : * (وإنكم لتمرون عليهم مصبحين) * (6) .

-------------------
(1) قاله الزجاج في معاني القرآن : ج 3 ص 183 .
(2) هو أبو العباس محمد بن يزيد الأزدي الثمالي البصري ، نزيل بغداد ، وكان إماما في النحو واللغة ، أخذ الأدب عن ابي عثمان المازني وأبي حاتم السجستاني ، وأخذ عنه نفطويه ، توفي عام 286 ه‍ ببغداد ، انظر وفيات الاعيان لابن خلكان : ج 3 ص 445 .
(3) حكاه عنه الشيخ في التبيان : ج 6 ص 348 .
(4) تفسير العياشي : ج 2 ص 247 ح 29 .
(5) مجمع الزوائد للهيثمي : ج 10 ص 268 ، اتحاف السادة المتقين للزبيدي : ج 6 ص 545 .
(6) الصافات : 137 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 309 _
  * (وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ * فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ * وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ * وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ * فَأَخَذَتْهُمْ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ * فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ) * * (أصحب الايكة) * قوم شعيب ، وتقديره : وإنه كان أصحاب الايكة ظالمين .
  * (وإنهما) * يعني : قرى قوم لوط والأيكة * (لبإمام مبين) * لبطريق واضح يؤم ويتبع ويهتدى به .
  و * (أصحب الحجر) * : ثمود ، والحجر : واديهم ، وهو بين المدينة والشام . * (ءامنين) * من أن تنهدم بيوتهم ومن نقب اللصوص لوثاقتها واستحكامها ، أو آمنين من عذاب الله، يحسبون أن الجبال تحميهم منه .
  * (فما أغنى عنهم) * فما دفع عنهم العذاب * (ما كانوا) * يكسبونه من البناء الوثيق والمال والعدد .
  * (إلا بالحق) * أي : إلا خلقا ملتبسا بالحق والحكمة والثواب لا باطلا وعبثا ، أو بسبب العدل والإنصاف يوم الجزاء على الأعمال * (وإن الساعة لاتية) * فينتقم الله لك فيها من أعدائك ، ويجازيك وإياهم وجميع الخلائق على أعمالهم * (فاصفح) * أي : فأعرض عنهم واحتمل ما تلقى منهم إعراضا جميلا بحلم وإغضاء .
  * (إن ربك هو الخلق) * الذي خلقك وخلقهم * (العليم) * بحالك وحالهم .
  * (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ * لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ * كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ * فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 310 _
  * * (سبعا) * أي : سبع آيات وهي الفاتحة ، أو سبع سور وهي السبع الطول (1) ، والسابعة الأنفال وبراءة لأنهما في حكم سورة واحدة ، ولذلك لم يفصل بينهما ب‍ ( بسم الله الرحمن الرحيم ) والأول أصح ، و * (المثانى) * من التثنية وهي التكرير ، لأن الفاتحة تكرر قراءتها في الصلاة، أو من الثناء لاشتمالها على الثناء على الله، والواحدة مثناة : مفعلة ، أي: موضع ثناء أو تثنية ، و * (من) * إما للبيان أو للتبعيض .
  * (لاتمدن عينيك) * أي : لا تطمح ببصرك * (إلى ما متعنا به أزوا جا) * أي: أصنافا من المشركين من أنواع النعم طموح راغب فيه متمن له ، واستغن بما أوتيت من النعمة التي كل نعمة وإن عظمت فهي بالإضافة إليها نزرة يسيرة وهي القرآن العظيم * (ولا تحزن عليهم) * أن لم يؤمنوا فيتقوى بهم الإسلام وأهله ، وتواضع لمن معك من المؤمنين ، وطب نفسا عن إيمان الأغنياء والأقوياء .
   * (وقل) * لهم * (إنى أنا النذير المبين) * أنذركم ببيان وبرهان أن عذاب الله نازل بكم ، وأبين لكم ما تحتاجون إليه وما أرسلت به إليكم .
  * (كمآ أنزلنا على المقتسمين) * فيه وجهان : أحدهما : أن يتعلق بقوله : * (ولقد ءاتينك) * أي : أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا على اليهود والنصارى وهم

-------------------
(1) في بعض النسخ : الطوال . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 311 _
  المقتسمون * (الذين جعلوا القرءان عضين) * إذ قالوا بعنادهم : بعضه حق موافق للتوراة والإنجيل وبعضه باطل مخالف لهما ، فاقتسموه إلى حق وباطل وعضوه . والثاني : أن يتعلق بقوله : * (وقل إنى أنا النذير المبين) * أي : أنذركم عذابا مثل ما أنزلنا على المقتسمين الذين اقتسموا مداخل مكة أيام الموسم ، وهم ستة عشر رجلا بعثهم الوليد بن المغيرة فقعدوا في كل مدخل ينفرون الناس عن الإيمان برسول الله (صلى الله عليه وآله) ، يقول بعضهم : لا تغتروا بالخارج منا والمدعي النبوة فإنه ساحر ، ويقول الآخر : كذاب ، والآخر : شاعر ، فأهلكهم الله يوم بدر وقبله بآفات ، * (عضين) * اجزاء ، جمع عضة ، وأصله عضوة ، فعلة من عضي الشاة إذا جعلها أعضاء .
  * (لنسلنهم) * عبارة عن الوعيد ، وقيل : نسألهم سؤال توبيخ وتقريع : لم عصيتم ؟ ! (1) .
  * (فاصدع بما تؤمر) * أي : فاجهر به وأظهره ، يقال : صدع بالحجة : إذا تكلم بها جهارا ، من الصديع وهو الصبح ، والأصل : بما تؤمر به من الشرائع ، فحذف الجار ، كما في قول الشاعر : أمرتك الخير فافعل ما أمرت به (2) ثم حذف ضمير المفعول ، ويجوز أن يكون ( ما ) مصدرية ، أي : بأمرك ، وهو مصدر من المبني للمفعول .
  والمستهزئون : خمسة نفر ذوو أسنان وشرف : الوليد بن المغيرة والعاص بن

-------------------
(1) وهو قول ابن عباس ، راجع تفسير القرطبي : ج 10 ص 61 .
(2) وعجزه : فقد تركتك ذا مال وذا نشب ، واختلف في قائله ، فقيل : لخفاف بن ندبة ، وقيل : لعباس بن مرداس ، وقيل : لعمرو بن معدي كرب واليه مال سيبويه ، وقيل : لأعشى طرود وإليه مال البغدادي في خزانة الأدب، وقيل : لزرعة بن السائب وإليه ذهب المرزباني ، انظر خزانة الأدب: ج 1 ص 339 ـ 345 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 312_
  وائل والأسود بن عبد يغوث والأسود بن المطلب بن عبد مناف والحارث بن الطلاطلة ، ماتوا كلهم قبل بدر ، قال جبرئيل للنبي (صلى الله عليه وآله) : أمرت أن أكفيكهم ، فأومأ إلى ساق الوليد فمر وهو يجر ثوبه ، فتعلقت بثوبه شوكة فمنعه الكبر أن يخفض رأسه فينزعها فخدشت ساقه فمات من ذلك ، وأومأ إلى أخمص (1) العاص بن وائل فوطأ شبرمة (2) فدخلت فيها وقال : لدغت ، ولم يزل يحكها حتى مات ، وأشار إلى عيني الأسود فعمي ، وجعل يضرب رأسه على الجدار حتى مات ، وأشار إلى أنف الحارث فامتخط قيحا فمات ، وأشار إلى الأسود فاستسقى فمات * (فسوف يعلمون) * وعيد .
  * (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) * أي : * (بما يقولون) * من تكذيبك ، والطعن فيك وفي القرآن .
  * (فسبح) * أي : فافزع إلى الله عز اسمه فيما نابك (3) يكشف عنك الغم ويكفك المهم * (وكن من) * الذين يسجدون لله ، كان صلوات الله عليه وآله وسلم إذاأحزنه أمر فزع إلى الصلاة .
  ودم على عبادة * (ربك حتى يأتيك اليقين) * أي : الموت ، يعني : مادمت حيا .

-------------------
(1) أخمص القدم : باطنها الذي لا يصيب الأرض، يقال : خمصت القدم : إذا ارتفعت عن الأرض فلم تمسه ، (مجمع البحرين : مادة خمص) .
(2) الشبرم : ضرب من الشجر ذي شوك ، (القاموس المحيط : مادة شبرم) .
(3) في بعض النسخ : يأتيك . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 313 _
سورة النحل وتسمى أيضا سورة النعم ، أكثرها مكي (1)
  مائة وثمان وعشرون آية بلا خلاف .
  في حديث أبي : ( من قرأها لم يحاسبه الله تعالى على النعم التي أنعمها عليه في دار الدنيا ، وإن مات في يوم تلاها أو ليلة أعطي من الأجر كالذي مات فأحسن الوصية ) (2) .
  وعن الباقر (عليه السلام) : ( من قرأها في كل شهر كفي المغرم في الدنيا وسبعين نوعا من أنواع البلاء أهونه الجنون والجذام والبرص ، وكان مسكنه في جنة عدن وهي وسط الجنان ) (3) .

-------------------
(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان : ج 6 ص 357 : هي مكية الا آية هي قوله : * (والذين هاجروا في الله من بعدما ظلموا) * الآية ، وقال الشعبي : نزلت النحل كلها بمكة إلا قوله : * (وإن عاقبتم) * الى آخرها ، وقال قتادة : من أول السورة الى قوله : * (كن فيكون) * مكي ، والباقي مدني ، وقال مجاهد : أولها مكي وآخرها مدني ، وهي مائة وعشرون آية ليس فيها خلاف ، وقال القرطبي : ج 10 ص 65 ما لفظه : وهي مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر ، وتسمى سورة النعم بسبب ماعدد الله فيها من نعمه على عباده ، وقيل : هي مكية الا قوله تعالى : * (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) * الآية ، نزلت بالمدينة في شأن التمثيل بحمزة وقتلى احد ، وقال الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 592 : مكية غير ثلاث آيات في آخرها ، وتسمى سورة النعم ، وهي مائة وثمان وعشرون آية ، نزلت بعد سورة الكهف .
(2) رواه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 645 مرسلا .
(3) ثواب الأعمال : ص 133 ، تفسير العياشي : ج 2 ص 254 ح 1 باختلاف . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 314 _
بسم الله الرحمن الرحيم

  * (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ * خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) * قرب * (أمر الله) * بعذاب هؤلاء الكفار ، أو * (أتى أمر) * (1) القيامة ، أي : هو بمنزلة الآتي الواقع وإن كان منتظرا لقرب وقوعه * (فلا تستعجلوه) * ، كانوا يستعجلون ذلك كما حكى الله عنهم قولهم : * (فأمطر علينا حجارة من السماء) * (2) ، * (سبحنه وتعلى عما يشركون) * تبرأ (3) عزوجل عن أن يكون له شريك وأن تكون آلهتهم له شركاء فتكون ( ما ) موصولة ، أو عن إشراكهم فتكون مصدرية ، وقرئ : * (يشركون) * بالياء والتاء (4) .
  وقرئ: * (ينزل) * بالتخفيف (5) والتشديد و * (الملئكة) * بالنصب ، وقرئ : ( تنزل الملائكة ) (6) أي : تتنزل * (بالروح من أمره) * : بما يحيي القلوب الميتة

-------------------
(1) في نسخة زيادة : يوم .
(2) الأنفال : 32 .
(3) في نسخة : تنزه .
(4) وقراءة التاء هي قراءة حمزة والكسائي ، راجع التبيان : ج 6 ص 357 .
(5) قرأه ابن كثير وأبو عمرو وورش ورويس ، راجع التبيان : ج 6 ص 359 ، والتذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 489 .
(6) وهي قراءة المفضل عن عاصم وروح ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 = (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _315 _
  بالجهل من وحيه أو بما يقوم في الدين مقام الروح في الجسد ، و * (أن أنذروا) * بدل من ( الروح ) أي : ينزلهم بأن أنذروا ، والتقدير : بأنه ، والضمير للشأن أي : بأن الشأن أقول لكم : أنذروا ، أو يكون * (أن) * مفسرة لأن تنزيل الملائكة بالوحي فيه معنى القول ، ومعنى أنذروا : أعلموا ب‍ * (أنه لاإله إلا أنا) * من نذرت بكذا : إذا علمته ، أي : يقول لهم : أعلموا الناس قولي : * (لاإله إلا أنا فاتقون) * .
  ثم دل على وحدانيته وأنه لا إله إلا هو بذكر ما لا يقدر عليه غيره من خلق * (السموات والارض) * وخلق * (الاءنسن) * وما يصلحه وما لابد له منه من خلق البهائم لأكله وركوبه وحمل أثقاله وسائر حاجاته وخلق ما لا يعلمون من أصناف خلقه * (تعلى) * وجل من أن يشرك به غيره * (فإذا هو خصيم مبين) * معناه : فإذا هو مجادل للخصوم (1) ، منطيق ، مبين عن نفسه بعدما كان نطفة جمادا ، وقيل : فإذا هو خصيم لربه ، منكر لخالقه (2) .
  و * (الانعم) * : الأزواج الثمانية ، وأكثر ما يقع على الإبل ، وانتصب بفعل مضمر يفسره الظاهر ، و ( الدف ء ) : اسم ما يدفأ به ، كالمل ء اسم مايملأ به ، وهو اللباس المعمول من صوف أو وبر أو شعر ، * (ومنفع) * : هي نسلها ودرها وغير ذلك من الحمل والركوب وإثارة الأرض.
  ومن سبحانه بالتجمل بها كما من بالانتفاع بها لأنها من أغراض أصحاب المواشي ، لأنهم إذا أراحوها بالعشي وسرحوها بالغداة فزينت الأفنية (3)

-------------------
= ص 489 ، وتفسير القرطبي : ج 10 ص 67 .
(1) في بعض النسخ زيادة : واو .
(2) حكاه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 593 .
(3) الأفنية جمع فناء ، وهو ما امتد من جوانب الشئ ، يقال : فناء الدار : إذا امتد جوانبها ، (الصحاح : مادة فنى) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 316 _
  وتجاوب فيها الثغاء (1) والرغاء (2) فرحت أربابها وأجلهم الناظرون إليها فكسبتهم الجاه والحرمة عند الناس ، وقدم الإراحة على السرح لأن الجمال في الإراحة أظهر إذا أقبلت ملاى البطون حافلة الضروع .
  وقرئ : * (بشق الانفس) * بفتح الشين (3) وكسرها ، وهما لغتان في معنى المشقة ، والفرق بينهما : أن المفتوح مصدر ( شق الأمر عليه ) وحقيقته راجعة إلى الشق الذي هو الصدع ، وأما الشق : فالنصف كأنه يذهب نصف قوته لما يناله من الجهد ، والمعنى : * (وتحمل أثقالكم إلى بلد) * بعيد * (لم تكونوا بلغيه) * في التقدير : لو لم يخلق الإبل ، إلا بجهد أنفسكم ومشقتها ، ويجوز أن يكون المعنى : لم تكونوا بالغيه بها إلا بشق الأنفس ، وقيل : إن البلد مكة (4) * (إن ربكم لرءوف رحيم) * حيث رحمكم بخلق هذه الحوامل وتيسير هذه المصالح .
  * (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ * وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ * هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) *

-------------------
(1) الثغاء : صوت الشاة والمعز وما شاكلهما ، (لسان العرب : مادة ثغا) .
(2) قال الجوهري : الرغاء : صوت ذوات الخف ، انظر الصحاح : مادة رغا .
(3) وهي قراءة أبي جعفر المدني واليزيدي ، راجع شواذ القرآن لابن خالويه : ص 76 .
(4) قاله عكرمة ، راجع تفسير الطبري : ج 7 ص 561 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 317_
  عطف * (الخيل) * على * (الانعم) * ، أي : خلق هؤلاء للركوب وللزينة ، وعطف * (زينة) * على محل * (لتركبوها) * ولم يرد المعطوف والمعطوف عليه على سنن واحد ، لأن الركوب فعل المخاطبين ، والزينة فعل الزائن وهو الخالق عزاسمه * (ويخلق ما لا تعلمون) * من أنواع الحيوان والنبات والجماد لمنافعكم .
  والمراد ب‍ * (السبيل) * : الجنس، ولذلك أضاف إليها ( القصد ) وقال : * (ومنها جائر) * ، والقصد مصدر بمعنى الفاعل ، سبيل قصد وقاصد أي : مستقيم ، كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه ، ومعنى قوله : * (وعلى الله قصد السبيل) * : أن هداية الطريق الموصل إلى الحق واجبة عليه ، ونحوه : * (إن علينا للهدى) * (1) ، * (ومنها) * أي : ومن السبيل * (جائر) * عن القصد ، فأعلم سبحانه بأن السبيل العادل عن الحق لا يضاف إليه بقوله : * (ومنها جائر) * ، ولو كان الأمر على ما ظنه المجبرة لقال : وعليه جائرها أو وعليه الجائر ، * (ولو شآء لهدبكم أجمعين) * قسرا وإلجاء إلى السبيل القصد .
  * (أنزل من السماء ماء) * أي : مطرا * (لكم منه شراب) * أي : لكم هو شراب كقوله : يأبى الظلامة منه النوفل الزفر (2) والشراب : مايشرب ، وقوله : * (شجر) * يعني : الشجر الذي ترعاه المواشي ، وقيل : معناه لكم من ذلك الماء شراب (3) * (ومنه) * شرب * (شجر) * أو سقي شجر فحذف المضاف ، أو لكم من إنباته شجر أو من سقيه شجر فحذف المضاف إلى

-------------------
(1) الليل : 12 .
(2) وصدره : أخو رغائب يعطيها ويسألها ، والبيت منسوب لأعشى باهلة ، انظر الكامل للمبرد : ج 1 ص 80 .
(3) قاله أبو جعفر الطبري في تفسيره : ج 7 ص 566 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 318_
  الهاء في * (منه) * كما قال زهير : أمن أم أوفي دمنة لم تكلم (1) أي : من ناحية أم أوفي * (تسيمون) * من سامت الماشية : إذا رعت فهي سائمة وأسمتها أنا .
  وقرئ : * (ينبت) * بالياء والنون (2) ، * (ومن كل الثمرا ت) * : * (من) * للتبعيض ، لأن كل الثمرات لا تكون إلا في الجنة ، وأنبت في الأرض بعض من كلها * (يتفكرون) * ينظرون فيستدلون بها عليه وعلى كمال حكمته وقدرته .
  وقرئ جميعها بالنصب (3) فيكون المعنى : وجعل النجوم مسخرات ، إذ لا يصلح أن يقال : وسخر النجوم مسخرات ، ويجوز أن يكون المعنى : أنه سخرها أنواعا من التسخير ، جمع ( مسخر ) ، بمعنى ( تسخير ) ، من قولك : سخره الله مسخرا ، فكأنه قال : وسخرها لكم تسخيرات بأمره ، وقرئ بنصب * (اليل والنهار) * وحدهما ورفع ما بعدهما على الابتداء والخبر (4) ، وقرئ : * (والنجوم مسخرا ت) * بالرفع وما قبله بالنصب ، * (إن في ذلك لايت لقوم يعقلون) * جمع الآية هنا ، لأن الآثار (5) العلوية أظهر دلالة للعقلاء على عظمة الله وباهر قدرته .

-------------------
(1) وعجزه : بحومانة الدراج فالمتثلم ، والبيت مطلع معلقته الميمية ، وهي القصيدة التي يمدح بها هرم بن سنان والحارث بن عوف ، وهما سيدان من سادات ذبيان ، قد تدخلا في اصلاح ذات البين بين عبس وذبيان ووقفا الحرب الضروس التي نشبت بينهما على أثر حرب داحس والغبراء ، ودفعا من أموالهما حقنا للدماء ديات القتلى الذين لم يؤخذ بثأرهم ، فكانت ثلاثة آلاف بعير ، راجع ديوان زهير : ص 74 ، وخزانة الأدب للبغدادي : ج 8 ص 528 .
(2) وقراءة النون هي قراءة عاصم برواية أبي بكر إلا الأعشى والبرجمي ويحيى ، راجع التبيان : ج 6 ص 364 ، والتذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 489 .
(3) أراد من قوله تعالى : * (الليل) * ومعطوفاتها وحتى قوله : * (مسخرات) * ، وهي قراءة ابن كثير ونافع وحمزة والكسائي وأبي عمرو وعاصم برواية أبي بكر ، انظر كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 370 .
(4) قرأه ابن عامر وحده ، راجع التبيان : ج 6 ص 365 .
(5) في بعض النسخ : الآيات . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 319 _
  * (وما ذرأ لكم) * معطوف على * (اليل والنهار) * ، يعني : ما خلق فيها من حيوان ونبات وغير ذلك من أنواع النعم مختلف الهيآت والأشكال لا يشبه بعضها بعضا .
* (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ * أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)
  * (سخر البحر) * أي : ذلله لكم وسهل لكم الطريق إلى ركوبه، واستخراج ما فيه من المنافع، وأراد ب‍ ( اللحم الطري ) : السمك ، وصفه بالطراوة لأن الفساد يسرع إليه فيسارع إلى أكله لئلا يفسد ، و ( الحلية ) هي : اللؤلؤ والمرجان * (تلبسونها) * أي : تتزينون بها وتلبسونها نساءكم * (مواخر) * أي : شواق لماء البحر بحيازيمها (1) ، وعن الفراء (2) : المخر : صوت جري الفلك بالرياح ، وابتغاء الفضل : التجارة * (أن تميد بكم) * كراهة أن تميل بكم وتضطرب * (وأنهرا) * وجعل فيها أنهارا ، لأن في ( ألقى ) معنى ( جعل ) كما قال سبحانه : * (ألم نجعل الارض مهدا والجبال أوتادا) * (3) ،

-------------------
(1) الحيزوم : وسط الصدر ، (الصحاح : مادة حزم) .
(2) هو يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور الديلمي ، مولى بني أسد ، إمام الكوفيين وأعلمهم بالنحو واللغة والأدب ، ومن كلام ثعلب : لولا الفراء ما كانت اللغة ، ويذكر إنه ابن خالة محمد ابن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة ، وعرف أبوه زياد بالأقطع ، لأن يده قطعت في معركة ( فخ ) عام 169 ه‍ التي شهدها مع الحسين بن علي بن الحسن الزكي (عليه السلام) في خلافة موسى الهادي العباسي ، سمي بالفراء لأنه كان يفري الكلام أي : يحسن تقطيعه وتفصيله ، توفي عام 207 ه‍ بطريق مكة ، انظر وفيات الأعيان لابن خلكان : ج 5 ص 225 .
(3) النبأ : 6 و 7 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 320_
  * (وسبلا) * أي : طرقا * (تهتدون) * بها إلى حيث شئتم من البلاد .
  * (وعلمت) * وهي معالم الطرق وكل ما يستدل به المارة من جبل وسهل وغير ذلك ، والمراد ب‍ ( النجم ) : الجنس ، كما يقال : كثر الدرهم في أيدي الناس ، وعن السدي : هو الثريا والفرقدان وبنات نعش والجدي (1) ، فكأنه سبحانه بتقديم النجم وإقحام * (هم) * فيه والخروج من الخطاب إلى الغيبة أراد أن قريشا ـ خصوصا ـ لهم اهتداء بالنجوم ـ خصوصا ـ في أسفارهم ، فكان لهم بذلك علم لم يكن مثله لغيرهم ، فكان الشكر أوجب عليهم فلذلك خصصوا .
  الصادق (عليه السلام) : ( نحن العلامات ، والنجم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ) (2) .
  *(كمن لا يخلق) * أريد به الأصنام ، وجعل ( من ) فيما لا يعقل لما اتصل بذكر الخالق * (أفلا تذكرون) * فتعتبرون .
  * (لاتحصوهآ) * أي: لاتضبطوا عددها فضلا عن أن تطيقوا القيام بشكرها * (إن الله لغفور رحيم) * يتجاوز عن تقصيركم في أداء شكر نعمه ولا يقطعها عنكم . * (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ * لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) * * (يدعون) * قرئ بالياء التاء (3) ، نفي عنهم خصائص الإلهية بنفي كونهم

-------------------
(1) حكاه عنه البغوي في تفسيره : ج 3 ص 64 .
(2) الكافي : ج 1 ص 206 ـ 207 باب ان الأئمة هم العلامات ... المناقب لابن شهرآشوب : ج 4 ص 178 .
(3) وقراءة التاء هي قراءة ابن كثير وأبي عمرو ونافع وابن عامر وحمزة والكسائي ، راجع = (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 321 _
  خالقين ، وأحياء لا يموتون ، وعالمين بوقت البعث ، وأثبت لهم صفات الخلق بأنهم مخلوقون وأنهم أموات وأنهم جاهلون بالغيب ، أي : لو كانوا آلهة على الحقيقة لكانوا أحياء غير أموات وأمرهم على العكس من ذلك ، والضمير في * (يبعثون) * للداعين ، أي : لا يشعرون متى يبعث عابدوهم ، وفيه تهكم بالمشركين ، وأن آلهتهم لا يعلمون وقت بعثهم فكيف يكون لهم وقت جزاء منهم على عبادتهم ! * (لاجرم) * حقا * (أن الله يعلم) * سرهم وعلانيتهم فيجازيهم ، وهو وعيد .
  * (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ * قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ * الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوْا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) * (ماذآ) * منصوب ب‍ * (أنزل) * بمعنى : أي شئ أنزل ربكم ؟ أو مرفوع بالابتداء بمعنى : أي شئ أنزله ربكم ؟ فإذا نصبت فمعنى * (أسطير الاولين) * : ما تدعون نزوله أساطير الأولين ، وإذا رفعت فالمعنى : المنزل أساطير الأولين ، أي : أحاديث الأولين وأباطيلهم .

-------------------
= كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 371 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 322 _
  * (ليحملوا أوزارهم) * أي : قالوا ذلك إضلالا للناس وصدا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فحملوا أوزار ضلالهم * (كاملة) * وبعض * (أوزار) * من أضلوهم ، لأن المضل والضال شريكان ، هذا يضله وهذا يطاوعه على إضلاله ، وجاء باللام من غير أن يكون غرضا ، نحو قولك : خرجت من البلد مخافة الشر ، * (بغير علم) * حال من المفعول ، أي : يضلون من لا يعلم أنهم ضلال ، وإنما وصف بالضلال من لا يعلم لأنه كان عليه أن يبحث وينظر بعقله حتى يميز بين المحق والمبطل ، و * (القواعد) * أساطين البناء ، وقيل : الأساس (1) ، وهذا تمثيل لاستئصالهم ، والمعنى : أنهم سووا منصوبات (2) ليمكروا الله بها فجعل الله هلاكهم في تلك المنصوبات ، كحال قوم بنوا بنيانا وعمدوه بالأساطين فأتي البنيان من الأساطين بأن ضعضعت فسقط عليهم السقف وهلكوا ، ومن أمثالهم : من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا (3) ، والمراد بإتيان الله : إتيان أمره * (من القواعد) * من جهة القواعد .
  وقرأ الصادق (عليه السلام) : ( فأتى الله بيتهم ) (4) .
  * (يخزيهم) * أي : يذلهم بعذاب الخزي ، يعني : هذا لهم في الدنيا ثم العذاب في الآخرة * (أين شركاءي) * أضافهم الى نفسه على طريق الاستهزاء بهم ليوبخهم بذلك * (تشقون) * أي : تعادون المؤمنين وتخاصمونهم في شأنهم ومعناهم (5) ،

-------------------
(1) قاله زيد بن أسلم ، راجع تفسير الطبري : ج 7 ص 577 .
(2) المنصوبة : الحيلة ، يقال : سوى فلان منصوبة ، (أقرب الموارد : مادة نصب) .
(3) وهو من الأمثال المشهورة على ألسن الناطقين بلغة الضاد ، ونحوه بألفاظ قريبة منه نقلته كتب الأمثال ، راجع مجمع الأمثال للميداني : ج 2 ص 253 .
(4) تفسير العياشي : ج 2 ص 258 ح 21 .
(5) في بعض النسخ : مغناهم . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 323 _
  وقرئ بكسر النون (1) بمعنى : تشاقونني ، لأن مشاقة المؤمنين كأنها مشاقة الله، و * (الذين أوتوا العلم) * هم : الأنبياء والعلماء من أممهم ، وقيل : هم الملائكة (2) .
  * (تتوفيهم) * قرئ بالتاء والياء (3) ، وبإدغام التاء في التاء (4) * (فألقوا السلم) * أي : تسالموا وأخبتوا (5) وجاءوا بخلاف ما كانوا عليه في الدنيا من الشقاق (6) والكبر ، وقالوا : * (ماكنا نعمل من سوء) * جحدوا ما وجد منهم من الكفر والعدوان في الدنيا ، فرد عليهم أولو العلم : * (إن الله عليم بما كنتم تعملون) * فهو يجازيكم عليه ، وهذا أيضا من الشماتة ، وكذلك * (فادخلوا أبوا ب جهنم) * .
  * (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون) * * (خيرا) * أي : أنزل خيرا ، ونصب هذا ورفع الأول فصلا بين جواب المقر

-------------------
(1) قرأه نافع وحده ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 371 .
(2) قاله ابن عباس ، راجع تفسيره : ص 223 .
(3) وهي قراءة حمزة ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 491 .
(4) قرأه ابن كثير كما في شواذ القرآن لابن خالويه : ص 76 .
(5) الإخبات : الخشوع ، يقال : أخبت لله أي : خشع له ، (الصحاح : مادة خبت) .
(6) في بعض النسخ : النفاق . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 324_
  وبين جواب الجاحد ، فهؤلاء أطبقوا الجواب على السؤال مفعولا للإنزال فقالوا : خيرا ، وأولئك عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا : هو أساطير الأولين وليس من الإنزال في شئ * (للذين أحسنوا) * وما بعده بدل من * (خيرا) * حكاية لقول الذين اتقوا ، أي : قالوا هذا القول، ويجوز أن يكون كلاما مبتدأ عدة للقائلين * (حسنة) * أي : مكافأة * (في ... الدنيا) * بإحسانهم ، ولهم في الآخرة ما هو خير منها * (ولنعم دار المتقين) * دار الآخرة ، فحذف المخصوص بالمدح لتقدم ذكره .
  * (جنت عدن) * خبر مبتدأ محذوف ، ويجوز أن يكون المخصوص بالمدح .
  * (طيبين) * طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر والمعاصي ، لأنه في مقابلة * (ظالمي أنفسهم) * ، * (يقولون سلم عليكم) * سلامة لكم من كل سوء .
  * (تأتيهم الملئكة) * لقبض الأرواح * (أو يأتي أمر ربك) * بالعذاب المستأصل أو القيامة * (كذلك) * أي : مثل ذلك الفعل من الشرك والتكذيب * (فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله) * بتدميرهم * (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) * لأنهم فعلوا ما استوجبوا به التدمير .
  * (وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ * وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) * (كذلك فعل الذين من قبلهم) * من الكفار والضلال : أشركوا بالله وحرموا ما أحل الله وارتكبوا ما حرمه ، فلما نبهوا على قبح أفعالهم نسبوها إلى الله وقالوا :

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 325 _
  * (لو شآء الله) * لم نفعلها * (فهل على الرسل إلا) * أن يبلغوا الحق وأن الله لا يشاء الشرك والمعاصي بالبيان والبرهان .
  * (في كل أمة) * أي : مامن أمة إلا وقد * (بعثنا) * فيهم * (رسولا) * يأمرهم بالخير الذي هو عبادة الله، وينهاهم عن الشر (1) الذي هو اجتناب (2) * (الطغوت فمنهم من هدى الله) * أي : لطف به لعلمه أنه من أهل اللطف * (ومنهم من حقت عليه الضللة) * أي : ثبت عليه الخذلان والترك من اللطف لتصميمه على الكفر * (فسيروا في الارض فانظروا) * ما فعلت ب‍ * (المكذبين) * حتى لا يبقى لكم شبهة في أني لا أريد الشر حيث أفعل ما أفعل بالأشرار .
  ثم ذكر سبحانه عناد قريش ، وحرص النبي (صلى الله عليه وآله) على إيمانهم ، وعرفه أنهم ممن حقت عليهم الضلالة ، وأنه * (لا يهدي من يضل) * أي : لا يلطف بمن يخذله ، وقيل : معناه : لا يهتدي (3) ، يقال : هداه الله فهدي ، وقرئ: ( لا يهدي ) على البناء للمفعول (4) والعائد إلى * (من) * الموصولة الهاء المحذوف ، أي : من يضله .
  * (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * لِيُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ * إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) * * (بلى) * إثبات لما بعد النفي ، أي : بلى يبعثهم ، و * (وعدا) * مصدر مؤكد لما دل

-------------------
(1) في نسخة : الشرك .
(2) في بعض النسخ : اختيار .
(3) وهو قول الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 605 .
(4) وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو ونافع وابن عامر والحسن البصري والأعرج ومجاهد وشيبة وشبل ومزاحم الخراساني والعطاردي وابن سيرين ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 372 ، والبحر المحيط لأبي حيان : ج 5 ص 490 . (*)