ورووا عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قيل له : إن الله تعالى قال : * (واليتمى والمسكين) * فقال : ( أيتامنا ومساكيننا ) (1) .
  وقوله : * (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ ) * تعلق بمحذوف يدل عليه * (واعلموا) * ، والمعنى : إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أن الخمس من الغنيمة يجب التقرب به فاقطعوا عنه أطماعكم واقتنعوا بالأخماس الأربعة * (وما أنزلنا) * معطوف على * (بالله) * أي : إن كنتم آمنتم بالله وبالمنزل * (عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ) * يعني : يوم بدر (2) ، و * (الجمعان) * : الفريقان من المسلمين والكافرين ، والمراد : ما أنزل من الآيات والملائكة والفتح يومئذ .
  * (إذ) * بدل من * (يوم الفرقان) * ، و ( العدوة ) : شط الوادي ، بالكسر والضم ، و * (الدنيا) * و * (القصوى) * تأنيث الأدنى والأقصى ، والقياس أن تقلب الواو ياء كالعليا إلا أن القصوى جاءت على الأصل شاذا كالقود ، والعدوة الدنيا مما يلي المدينة ، والعدوة القصوى مما يلي مكة * (والركب أسفل منكم) * يعني أبا سفيان والعير * (أسفل) * نصب على الظرف ، معناه : مكانا أسفل من مكانكم يقودون العير بالساحل ، ومحله رفع لأنه خبر المبتدأ .
  والفائدة في ذكر هذه المراكز الإخبار عن الحال الدالة على قوة المشركين وضعف المسلمين ، وأن غلبتهم على مثل هذه الحال أمر إلهي لم يتيسر إلا بحوله وقوته ، وذلك أن العدوة القصوى كان فيها الماء ، ولاماء بالعدوة الدنيا وهي خبار (3) تسوخ فيها الأرجل ، وكانت العير وراء ظهورهم مع كثرة عددهم ، وكانت

-------------------
(1) عوالي اللآلئ لابن جمهور : ج 2 ص 75 ـ 76 ح 201 .
(2) في نسخة زيادة : في يوم الجمعة السابع عشر أو التاسع عشر من شهر رمضان سنة الثاني من الهجرة ، مروي عن الصادق (عليه السلام) .
(3) الخبار : الأرض الرخوة ، (الصحاح : مادة خبر) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) ـ 27 ـ
  الحماية دونها تضاعف حميتهم وتحملهم على أن يبرحوا مواطنهم ويبذلوا نهاية نجدتهم ، وفيه تصوير مادبره عز اسمه من أمر وقعة بدر * (ليقضى الله أمرا كان مفعولا) * من إعزاز دينه وإعلاء كلمته * (ولو تواعدتم) * أنتم وأهل مكة وتواضعتم بينكم على موعد تلتقون فيه للقتال لخالف بعضكم بعضا ، فثبطكم قلتكم وكثرتهم عن الوفاء بالموعد ، وثبطهم ما في قلوبهم من الرعب ، فلم يتفق لكم من اللقاء ما وفقه الله * (ليقضى) * متعلق بمحذوف ، أي : ليقضي أمرا كان واجبا أن يفعل دبر ذلك ، وقوله : * (ليهلك) * بدل منه ، واستعير الهلاك والحياة للكفر والإسلام ، أي : ليصدر كفر من كفر عن وضوح بينة وقيام حجة عليه ، ويصدر إسلام من أسلم عن يقين وعلم بأنه الدين الحق الذي يجب التمسك به * (لسميع عليم) * يعلم كيف يدبر أموركم .
  * (إِذْ يُرِيكَهُمْ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذْ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ) * (إذ) * نصب بإضمار ( اذكر ) ، أو هو بدل ثان من * (يوم الفرقان) * ، أو متعلق بقوله : * (لسميع عليم) * أي : يعلم المصالح إذ يقللهم في عينك * (في منامك) * أي : في رؤياك ، وذلك أن الله سبحانه أراهم إياه في رؤياه قليلا ، فأخبر بذلك أصحابه فكان (1) تشجيعا لهم عليهم ، وعن الحسن : * (في منامك) * في عينك لأنها مكان النوم (2) ، والفشل : الجبن ، أي : لجبنتم وهبتم الاقدام ، ولتنازعتم في الرأي وتفرقت كلمتكم فيما تصنعون * (ولكن الله سلم) * أي : أنعم بالسلامة من الفشل والتنازع

-------------------
(1) في نسخة زيادة : تثبيتا لهم و .
(2) تفسير الحسن البصري : ج 1 ص 403 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) ـ 28 ـ
  * (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) * يعلم ماسيكون فيها من الجرأة والجبن .
  * (وإذ يريكموهم) * أي : يبصركم إياهم ، و * (قليلا) * نصب على الحال ، وإنما قللهم في أعينهم تصديقا لرؤيا رسول الله.
  وعن ابن مسعود : لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي : أتراهم سبعين ؟ قال : أراهم مائة ، فأسرنا رجلا منهم فقلنا : كم كنتم ؟ قال : ألفا (1) .
  * (فِي أَعْيُنِهِمْ وَيُقَلِّلُكُمْ) * حتى قال قائل منهم : إنما هم أكلة جزور ، وإنما قللهم في أعينهم ليجترئوا عليهم قبل اللقاء ، ثم كثرهم فيها بعد اللقاء لتفجأهم الكثرة فيهابوا وتفل شوكتهم حين يرون ما لم يكن في حسابهم ، وذلك قوله : * (مثليهم رأى العين) * (2) ، ويمكن أن يكونوا قد أبصروا الكثير قليلا بأن ستر الله عنهم بعض أولئك بساتر .
  * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) * أي : إذا حاربتم جماعة كافرة ، وإنما لم يصفهم لأن المؤمنين لايحاربون إلا الكفار ، واللقاء اسم للقتال غالب * (فاثبتوا) * لقتالهم ولاتفروا * (واذكروا الله كثيرا) * في مواطن القتال ، مستعينين به مستظهرين بذكره * (لعلكم تفلحون) * أي : تظفرون بمرادكم من النصرة والمثوبة .
  * (ولا تنزعوا) * أي : لا تتنازعوا فيما بينكم فتضعفوا عن قتال عدوكم ، و * (تفشلوا) * منصوب بإضمار ( أن ) ، والريح : الدولة ،

-------------------
(1) حكاه عنه الطبري في تفسيره : ج 6 ص 259 ح 16171 .
(2) آل عمران : 13 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) ـ 29 ـ
  شبهت في نفوذ أمرها بالريح وهبوبها ، قالوا : هبت رياح فلان : إذا دالت له الدولة ونفذ أمره ، وقيل : لم يكن قط نصر إلا بريح يبعثها الله (1) .
  وفي الحديث : ( نصرت بالصبا ، وأهلكت عاد بالدبور ) (2) .
  * (كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ ) * هم أهل مكة خرجوا ليحموا (3) عيرهم ، فأتاهم رسول أبي سفيان وهم بالجحفة (4) : أن ارجعوا فقد سلمت عيركم ، فأبى أبو جهل وقال : حتى نقدم بدرا نشرب بها الخمور وتعزف علينا القيان ، فذلك بطرهم ورئاؤهم الناس : إطعامهم ، فوافوها فسقوا كأس الحمام (5) مكان الخمر ، وناحت عليهم النوائح مكان القيان .
  * (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتْ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) * قيل : إن قريشا لما اجتمعت للمسير ذكرت ما بينها وبين كنانة من الحرب فكاد ذلك يثنيهم ، فتمثل لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الكناني (6) وكان من أشرافهم ، ف‍ * (قال لاغالب لكم اليوم ... وإنى) * مجيركم من بني كنانة * (فلما) * رأى الملائكة تنزل * (نكص) * ولما نكص قال له

-------------------
(1) قاله قتادة وابن زيد ، راجع تفسير الطبري : ج 6 ص 261 .
(2) صحيح البخاري : ج 2 ص 41 ، مسند أحمد : ج 1 ص 228 و 324 .
(3) في نسخة : ليجمعوا .
(4) الجحفة : موضع بين مكة والمدينة .
(5) في نسخة : المنايا ، والحمام ـ بالكسر ـ : قدر الموت ، (الصحاح : مادة حمم) .
(6) ويكنى أبا سفيان ، كان في الجاهلية قائفا ، وقد روى البخاري قصته في إدراكه النبي (صلى الله عليه وآله) لما هاجر الى المدينة واقتفاءه أثره ، ثم دعا النبي (صلى الله عليه وآله) عليه حتى ساخت رجلا فرسه ، ثم طلبه من النبي (صلى الله عليه وآله) الخلاص وأن لا يدل عليه ، ففعل (صلى الله عليه وآله) ، وأسلم يوم الفتح ، مات سنة 24 ه‍ في أول خلافة عثمان ، انظر الإصابة في تمييز الصحابة : ج 2 ص 19 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) ـ 30 ـ
  الحارث (1) وكانت يده في يده : إلى أين ؟ أتخذلنا في هذه الحال ؟ ف‍ * (قال ... إنى أرى مالا ترون) * ودفع في صدره وانطلق ، وانهزموا ، فلما بلغوا مكة قالوا : هزم الناس سراقة ، فبلغ ذلك سراقة ، فقال : والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم (2) .
  * (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) * * (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ ) * بالمدينة * (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) * والشاكون في الإسلام * (غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ) * يعنون المسلمين ، أي : اغتروا بدينهم وأنهم ينصرون من أجله ، فخرجوا مع قلتهم إلى قتال المشركين مع كثرتهم * (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ) * غالب ينصر الضعيف على القوي ، والقليل على الكثير .
  * (ولو ترى) * أي : ولو عاينت وشاهدت ، لأن (لو ) يرد المضارع إلى معنى الماضي ، كما أن ( إن ) ترد الماضي إلى معنى الاستقبال ، و * (إذ) * نصب على الظرف ، وقرئ : * (يتوفي) * بالياء والتاء (3) ، و * (يضربون) * حال ، وعن مجاهد : * (أدبرهم) * : أستاههم ولكن الله كريم يكني (4) ، وقيل : يضربون ما أقبل منه (5) وما أدبر ،

-------------------
(1) في نسخة زيادة : بن هشام .
(2) قاله ابن عباس كما في تفسير ابن كثير : ج 2 ص 303 .
(3) بالتاء قرأه ابن عامر والأعرج ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 435 ، وإعراب القرآن للنحاس : ج 2 ص 190 .
(4) حكاه عنه الشيخ الطوسي في التبيان : ج 5 ص 137 .
(5) لعل الصحيح المناسب لسياق الكلام : منهم . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) ـ 31 ـ
  والمراد به قتلى بدر (1) * (وذوقوا) * معطوف على * (يضربون) * على إرادة القول ، أي : * (و) * يقولون : * (ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) * بعد هذا في الآخرة ، وقيل : كانت مع الملائكة مقامع من حديد كلما ضربوا بها التهبت النار في جراحاتهم (2) .
  * (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) * يحتمل أن يكون من كلام الله، ومن كلام الملائكة ، و * (ذلك) * مبتدأ ، و * (بما قدمت) * خبره * (وأن الله) * عطف عليه ، أي : ذلك العذاب بسببين : بسبب كفركم ومعاصيكم وبأن الله يعذب الكفار بالعدل ، لأنه لا يظلم عباده في عقوبتهم ، وقد بالغ في نفي الظلم عن نفسه بقوله : * (ليس بظلم للعبيد) *.
  * (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ) * الكاف في محل الرفع ، أي : دأب هؤلاء مثل دأب * (ءال فرعون) * ، ودأبهم : عادتهم وعملهم الذي دأبوا فيه ، أي : داوموا عليه ، و * (كفروا) * تفسير لدأب آل فرعون .
  و * (ذلك) * إشارة إلى ماحل بهم ، أي : * (ذلك) * العذاب * (ب‍) * سبب * (أن الله) * لا يصح في حكمته أن يغير نعمته عند * (قوم حتى يغيروا ما) * بهم من الحال ، وعن السدي (3) : النعمة محمد (صلى الله عليه وآله) أنعم الله به على قريش فكفروا به

-------------------
(1) وهو قول ابن عباس وابن جريج كما في تفسير البغوي : ج 2 ص 256 .
(2) قاله ابن عباس على ما حكاه عنه الرازي في تفسيره : ج 15 ص 178 .
(3) أبو محمد اسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة السدي الكبير ، من أهل الكوفة ، يروي = (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) ـ 32 ـ
  وكذبوه فنقله إلى الأنصار (1) * (وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ) * لما يقول مكذبو الرسل * (عليم) * بما يفعلون .
  * (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ) * تكرير للتأكيد ، وفي قوله : * (بايت ربهم) * زيادة دلالة على كفران النعم ، وفي ذكر الإغراق بيان للاخذ بالذنوب * (وكل كانوا ظلمين) * أي : وكل من غرقى آل فرعون وقتلى قريش كانوا ظالمين أنفسهم بكفرهم ومعاصيهم .
  * (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ * فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) * (الذين كفروا فهم لا يؤمنون) * أي : أصروا على الكفر فلا يتوقع منهم إيمان ، وهم بنو قريظة عاهدهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) على أن لا يمالئوا (2) عليه عدوا ، فنكثوا بأن أعانوا مشركي مكة بالسلاح وقالوا : نسينا و (3) أخطأنا ، ثم عاهدهم فنكثوا ومالأوا عليه الأحزاب يوم الخندق .
  * (الذين عهدت منهم) * بدل من * (الذين كفروا) * أي : الذين عاهدتهم من الذين كفروا ، جعلهم شر الدواب لأن شر الناس الكفار ، وشر الكفار المصرون منهم ، وشر المصرين الذين ينقضون العهد

-------------------
= عن أنس وعبد خير وأبي صالح ، ورأى ابن عمر وابن عباس وغيرهما ، وكان ثقة مأمونا ، وذكره الشيخ في رجاله من أصحاب علي بن الحسين (عليه السلام) ومن أصحاب الباقر (عليه السلام) ومن اصحاب الصادق (عليه السلام) توفي عام (127 ه‍) ، انظر اللباب لابن الأثير : ج 2 ص 110 ، ومعجم رجال الحديث للخوئي : ج 3 ص 148 .
(1) حكاه عنه الطبري في تفسيره : ج 6 ص 269 ح 16224 .
(2) مالاته على الأمر ممالاة : ساعدته عليه وشايعته ، (لسان العرب : مادة ملأ) .
(3) في نسخة : أو . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) ـ 33 ـ
  * (وهم لا يتقون) * أي : لا يخافون عاقبة الغدر ، ولا يبالون ما فيه من العار والنار .
  * (فإما تثقفنهم) * أي : تصادفنهم في الحرب ، والمعنى : إن ظفرت بهم وأدركتهم * (فشرد بهم من خلفهم) * أي : ففرق عن محاربتك ومناصبتك من وراءهم من الكفرة بقتلهم شر قتلة ، حتى لا يجسر عليك بعدهم أحد ، اعتبارا بهم واتعاظا بحالهم .
  * (وإما تخافن من قوم) * معاهدين * (خيانة) * ونكثا للعهد * (فانبذ إليهم) * أي : فاطرح إليهم العهد * (على سوآء) * على طريق مقتصد (1) مستو ، وذلك بأن تخبرهم بنبذ العهد إخبارا ظاهرا مكشوفا ، وتبين لهم أنك قطعت ما بينك وبينهم ، ولاتبدأهم بالقتال وهم على توهم بقاء العهد فيكون ذلك خيانة * (إن الله لا يحب الخائنين) * فلاتخنهم بأن تناجزهم القتال من غير إعلامهم بالنبذ ، وقيل : معناه على استواء في العلم بنقض العهد (2) ، والجار والمجرور في موضع الحال ، كأنه قيل : فانبذ إليهم ثابتا على طريق قصد سوي ، أو حاصلين على استواء في العلم على أنها حال من النابذ والمنبوذ إليهم معا .
  * (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ * وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) * (سبقوا) * أي : فاتوا من أن يظفر بهم * (إنهم لا يعجزون) * أي : لا يفوتون ولا يجدون طالبهم عاجزا عن إدراكهم ، وقرئ : ( أنهم ) بالفتح (3) بمعنى ( لانهم ) ،

-------------------
(1) في نسخة : مستقيم .
(2) قاله الأزهري على ما حكاه عنه القرطبي في تفسيره : ج 8 ص 32 .
(3) قرأه ابن عامر ، راجع التبيان : ج 5 ص 146 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) ـ 34 ـ
  وكل واحدة من المكسورة والمفتوحة تعليل ، إلا أن المكسورة على طريقة الاستئناف والمفتوحة تعليل صريح ، والمعنى : لا تحسبن (1) يا محمد - (صلى الله عليه وآله) ـ الكافرين قد فاتوك فإن الله يظفرك بهم ويظهرك عليهم ، وفي الشواذ قراءة ابن محيصن (2) : ( لا يعجزون ) بكسر النون (3) ، وقرئ : * (ولا يحسبن) * بالياء على أن الفعل ل‍ * (الذين كفروا) * كأنه قيل : لا يحسبن الذين كفروا أن سبقوا ، فحذفت ( أن ) ، كقوله : * (ومن ءايته يريكم البرق) * (4) أو على أن المعنى : ولا يحسبنهم الذين كفروا سبقوا .
  والقوة : كل ما يتقوى به في الحرب من العدد ، والرباط : اسم للخيل التي تربط في سبيل الله، ويجوز أن يسمى بالرباط الذي هو بمعنى المرابطة ، ويجوز أن يكون جمع ربيط كفصال جمع فصيل * (ترهبون) * قرئ بالتخفيف والتشديد (5) ، يقال : أرهبته ورهبته ، أي : تخيفون بما تعدونه * (عدو الله وعدوكم) * يعني أهل مكة * (وءاخرين) * أي : وترهبون كفارا آخرين * (من) * دون هؤلاء * (لا تعلمونهم) * لأنهم يصلون ويصومون ويقولون : لا إله إلا الله، محمد ـ (صلى الله عليه وآله) ـ رسول الله * (الله يعلمهم) * لأنه المطلع على الأسرار * (وما تنفقوا من شئ) * في الجهاد يوفر عليكم ثوابه * (وأنتم لا تظلمون) * لا تنقصون شيئا منه .
   * (وإن جنحوا) * جنح له وإليه : مال ، و ( السلم ) بفتح السين وكسرها : الصلح ،

-------------------
(1) حيث إن القراءة المعتمدة لدى المصنف بالتاء كما هو ظاهر .
(2) هو محمد بن عبد الرحمن بن محيصن السهمي المكي المقرئ ، روى عنه عدة منهم مسلم ، وقراءاته من شواذ القراءات ، توفي سنة 123 ه‍ بمكة ، راجع طبقات القراء للجزري : ج 2 ص 167 رقم 3118 .
(3) شواذ القرآن لابن خالويه : ص 55 .
(4) الروم : 24 .
(5) بالتشديد قرأه الحسن وورش ، راجع إعراب القرآن للنحاس : ج 2 ص 194 ، والتذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 435 .(*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) ـ 35 ـ
  يؤنث تأنيث نقيضها وهي الحرب ، قال الشاعر : السلم تأخذ منها ما رضيت به * والحرب يكفيك من أنفاسها جرع (1) * (وتوكل على الله) * ولا تخف من خديعتهم ومكرهم فإن الله عاصمك وكافيك من مكرهم .
  * (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ * يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ * الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) * (وإن يريدوا أن يخدعوك) * في الصلح بأن يقصدوا به دفع أصحابك عن القتال حتى يقوى أمرهم فيبدؤوكم بالقتال من غير استعداد منكم * (فإن حسبك الله) * أي محسبك الله * (هو الذي أيدك) * أي : قواك * (بنصره وبالمؤمنين) * الذين ينصرونك على أعدائك ، يريد الأنصار وهم : الأوس والخزرج .
  * (وألف بين قلوبهم) * حتى صاروا متحابين متوادين بعد ماكان بينهم من التضاغن والتحارب

-------------------
(1) والبيت لعباس بن مرداس السلمي ، أنشده مخاطبا ابن عمه والمنافس له لزعامة بني سليم الخفاف بن ندبة ، يقول : إن السلم وإن طالت لم تر فيها إلا ما تحب ولا تنال إلا ما تريد ، ولا يضرك طولها ، فإذا جاءت الحرب قطعتك عن لذاتك وشغلتك بنفسك ، وهذا تحريض على الصلح وتثبيط عن الحرب ، انظر ديوان العباس بن مرداس : ص 103 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) ـ 36 ـ
  ولم يكن لبغضائهم أمد ، فأنساهم الله ذلك كله حتى تصافوا وعادوا إخوانا * (لو أنفقت ما في الارض جميعا) * لما أمكنك التأليف * (بين قلوبهم) * وإزالة ضغائن الجاهلية عنهم * (ولكن الله ألف بينهم) * بالاسلام .
  * (ومن اتبعك) * الواو بمعنى ( مع ) وما بعده منصوب ، لأن عطف الظاهر المجرور على المكني قبيح ، والمعنى : كفاك وكفي متبعيك * (من المؤمنين) * الله ناصرا ، أو يكون في محل الرفع أي : كفاك الله وكفاك المؤمنون ، وهذه الآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال (1) .
  والتحريض : المبالغة في الحث على الأمر ، من الحرض وهو أن ينهكه المرض حتى يشفي (2) على الموت ، وهذه عدة من الله بأن الجماعة من المؤمنين إن صبروا غلبوا عشرة أمثالهم من الكفار بتأييد الله * (بأنهم قوم لا يفقهون) * أي : بسبب أن الكفار جهلة يقاتلون على غير احتساب ثواب كالبهائم .
  وعن ابن جريج (3) : كان عليهم أن لا يفروا ويثبت الواحد للعشرة ، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعث حمزة بن عبد المطلب في ثلاثين راكبا ، فلقي أبا جهل في ثلاثمائة راكب ، فثقل عليهم ذلك وضجوا منه بعد مدة ، فنسخ وخفف عنهم بمقاومة الواحد الاثنين (4) ، وقرئ : * (ضعفا) * بفتح الضاد وضمها (5) ،

-------------------
(1) انظر الكشاف : ج 2 ص 234 .
(2) أشفي على الشئ : إذا أشرف عليه ، (الصحاح : مادة شفي) .
(3) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي المكي ، أصله رومي ، مولى بني امية ، روى عن عطاء والزهري وعكرمة وطاووس وغيرهم ، كان من فقهاء أهل الحجاز وقرائهم ، قال أبو غسان : سمعت جريرا يقول : كان ابن جريج يرى المتعة ، توفي سنة 150 ه‍ وهو ابن سبعين سنة ، انظر وفيات الاعيان : ج 2 ص 338 .
(4) حكاه عنه أبو حيان في البحر المحيط : ج 4 ص 517 .
(5) وبالضم قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي . راجع كتاب السبعة في = (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) ـ37ـ
  و ( ضعفاء ) (1) جمع ضعيف ، وقرئ : * (يكن) * في الموضعين بالياء والتاء (2) ، والمراد بالضعف : الضعف في البدن ، وقيل : في البصيرة والاستقامة في الدين وكانوا متفاوتين في ذلك (3) .
  * (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) * الإثخان : كثرة القتل والمبالغة فيه ، من قولهم : أثخنته الجراحات حتى أثبتته ، وأصله من الثخانة التي هي الغلظ (4) والكثافة ، والمعنى : * (ما) * استقام * (لنبى) * وما صح له * (أن يكون له أسرى حتى) * يذل الكفر ويضعفه بإشاعة القتل في أهله ، ويعز الإسلام ويقويه بالاستيلاء والقهر ، وكان هذا يوم بدر ، فلما كثر المسلمون نزل : * (فإما منا بعد وإما فداء) * (5) (6) .
  وروي : أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أتي بسبعين أسيرا فيهم العباس عمه وعقيل بن

-------------------
= القراءات لابن مجاهد : ص 308 .
(1) وهي قراءة ابن القعقاع ، راجع الفريد في إعراب القرآن للهمداني : ج 2 ص 437 .
(2) وبالتاء وهي قراءة الحرميان وابن عامر ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 436 وقال : وقرأ البصريان (أبو عمرو ويعقوب) الأول بالياء والثاني بالتاء من أجل * (صابرة) * .
(3) قال الثعالبي : قال كثير من اللغويين : ضم الضاد في البدن ، وفتحها في العقل ، وهذه الآية انما يراد بها حال الجسم ، والضعف الأول هو كون الانسان من ماء مهين ، والقوة بعد ذلك الشبيبة وشدة الأسر ، والضعف الثاني هو الهرم والشيخوخة ، هذا قول قتادة وغيره ، راجع تفسير الثعالبي : ج 2 ص 549 .
(4) في نسخة : الغلظة .
(5) سورة محمد (صلى الله عليه وآله) : 4 .
(6) وهو قول ابن عباس وقتادة ، راجع التبيان : ج 5 ص 156 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) ـ 38 ـ
  أبي طالب ولم يؤسر أحد من أصحاب رسول الله (1) .
  * (عرض الدنيا) * حطامها ، سمي بذلك لأنه حدث قليل اللبث ، يريد الفداء ، والخطاب للمؤمنين الذين رغبوا في أخذ الفداء من الأسرى * (والله يريد الاخرة) * أي : تريدون عاجل الحظ من عرض الدنيا ، والله يريد لكم ثواب الآخرة * (والله عزيز) * يغلب أولياءه على أعدائه ، ويتمكنون منهم قتلا وأسرا ويطلق لهم الفداء ، ولكنه * (حكيم) * يؤخر ذلك وهم يعجلون .
   * (لولا كتب من الله) * أي : حكم منه * (سبق) * إثباته في اللوح بإباحة الغنائم لكم * (لمسكم فيما) * استحللتم قبل الإباحة * (عذاب عظيم) * ، وقيل : لولا كتاب من الله في القرآن : أنه لا يعذبكم والنبي بين أظهركم (2) .
  * (فكلوا مما غنمتم) * هذا إباحة للفداء لانه من جملة الغنائم ، وقيل : إنهم أمسكوا عن الغنائم ولم يمدوا أيديهم إليها ، فنزلت الآية (3) ، ومعنى الفاء التسبيب ، أي : قد أبحت لكم الغنائم * (فكلوا مما غنمتم) * ، و * (حللا) * نصب على الحال من المغنوم ، أو صفة للمصدر ، أي : أكلا حلالا .
  * (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) * وقرئ : * (من الاسرى) * وهو أقيس من ( الأسارى ) (4) ، لأن الأسير فعيل

-------------------
(1) رواها الزمخشري في كشافه : ج 2 ص 236 ، والبغوي في تفسيره : ج 2 ص 263 .
(2) قاله الجبائي كما في التبيان : ج 5 ص 157 .
(3) حكاه البغوي في تفسيره : ج 2 ص 262 .
(4) وقراءة ( الاسارى ) هي قراءة أبي عمرو وأبي جعفر ، راجع التبيان : ج 5 ص 159 ، = (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) ـ 39 ـ
  بمعنى مفعول ، وذلك يجمع على فعلى نحو جرحى وقتلى ، وقالوا : أسارى ، تشبيها بكسالى ، كما شبهوا كسلى بأسرى * (قل لمن في أيديكم) * أي : لمن في ملكتكم ، فكأن أيديكم قابضة عليهم * (إن يعلم الله في قلوبكم خيرا) * خلوص عقيدة وصحة نية في الإيمان * (يؤتكم خيرا مما أخذ منكم) * من الفداء : إما أن يخلفكم أضعافه في الدنيا أو يثيبكم في الآخرة .
  وروي : أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال للعباس : افد ابني أخويك : عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحرث ، فقال : أتتركني أتكفف قريشا ما بقيت ؟ قال : فأين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل ، وقلت : إن حدث بي حدث فهو لك وللفضل و عبد الله وقثم ؟ فقال العباس : وما يدريك ؟ قال : أخبرني به ربي ، قال : أشهد أنك صادق ، وأن لاإله إلا الله، وأنك عبده ورسوله ، والله لم يطلع عليه أحد إلا الله، ولقد دفعت إليها في سواد الليل ، ولقد كنت مرتابا في أمرك ، فأما إذا أخبرتني بذلك فلا ريب ، قال لعباس : فأبدلني الله خيرا من ذلك : لي الآن عشرون عبدا إن أدناهم ليضرب في عشرين ألفا ، وأعطاني زمزم ، وما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة ، وأنا أنتظر المغفرة من ربي (1) .
  * (وإن يريدوا خيانتك) * نكث ما بايعوك عليه ، ومنع ما ضمنوا من الفداء * (فقد خانوا الله من قبل) * بأن خرجوا إلى بدر وقاتلوا مع المشركين * (فأمكن) * الله * (منهم) * وسيمكن منهم إن أعادوا الخيانة .
  * (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنْكُمْ وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)

-------------------
= وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 309 .
(1) رواه ابن كثير في تفسيره : ج 2 ص 313 وعزاه إلى البخاري في صحيحه وابن إسحاق في مغازيه ، والبغوي في تفسيره أيضا : ج 2 ص 263 ، والزمخشري في كشافه : ج 2 ص 238 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) ـ 40 ـ
  * * (هاجروا) * أي : فارقوا أوطانهم وقومهم حبا لله ولرسوله ، وهم المهاجرون من مكة إلى المدينة * (والذين ءاووا) * هم إلى ديارهم * (ونصروا) * هم على أعدائهم ، هم الأنصار * (بعضهم أولياء بعض) * أي : يتولى بعضهم بعضا في الميراث ، وكان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالمؤاخاة الأولى حتى نسخ ذلك بقوله : * (وأولوا الارحام بعضهم أولى ببعض) * (1) ، وقرئ : * (من وليتهم) * بالفتح والكسر (2) ، قال الزجاج : هي بفتح الواو من النصرة والنسب ، وبالكسر هي بمنزلة الإمارة (3) ، والوجه في الآية أنه شبه تولي بعضهم بعضا بالصناعة والعمل ، لأن كل ماكان من هذا الجنس فمكسور كالصياغة والكتابة ، وكأن الرجل بتوليه صاحبه يباشر أمرا ويزاول عملا * (وإن استنصروكم) * أي : وإن طلب المؤمنون الذين لم يهاجروا منكم النصرة لهم على الكفار * (فعليكم النصر) * لهم * (إلا على

-------------------
(1) انظر كتاب الناسخ والمنسوخ لقتادة السدوسي : ص 46 .
(2) وبالكسر هي قراءة حمزة والأعمش ويحيى بن وثاب ، راجع التبيان : ج 5 ص 161 ، وتفسير القرطبي : ج 8 ص 56 .
(3) حكاه عنه الرازي في تفسيره : ج 1 ص 210 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) ـ 41 ـ
  قوم بينكم وبينهم ميثق) * وعهد ، فلا يجوز لكم نصركم عليهم .
  * (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) * معناه نهي المسلمين عن موالاة الكفار ومعاونتهم وإن كانوا أقارب ، وأن يتركوا يتولى بعضهم بعضا * (إلا تفعلوه) * أي : إن لا تفعلوا ما أمرتكم به من تواصل المسلمين وتولي بعضهم بعضا حتى في التوارث ، تفضيلا لنسبة الإسلام على نسبة القرابة ، ولم تقطعوا العلائق بينكم وبين الكفار تحصل * (فتنة في الارض) * ومفسدة كبيرة ، لأن المسلمين ما لم يكونوا يدا واحدة على أهل الشرك كان الشرك ظاهرا ، وتجرأ أهله على أهل الإسلام ودعوهم إلى الكفر .
  ثم عاد سبحانه إلى ذكر المهاجرين والأنصار وأثنى عليهم بقوله : * (أولئك هم المؤمنون حقا) * لأنهم حققوا إيمانهم بالهجرة والنصرة والانسلاخ من الأهل والمال لأجل الدين .
  * (والذين ءامنوا من بعد) * يريد : اللاحقين بعد السابقين إلى الهجرة ، كقوله : * (والذين جاءوا من بعدهم) * الآية (1) * (فأولئك منكم) * من جملتكم ، وحكمهم حكمكم في وجوب موالاتهم ونصرتهم وإن تأخر إيمانهم وهجرتهم * (وأولوا الارحام) * وأولو القرابات أولى بالتوارث ، بعضهم أحق بميراث بعض من غيرهم ، وهو نسخ للتوارث بالهجرة والنصرة (2) * (في كتب الله) * أي : في حكمه ، وقيل : في اللوح المحفوظ (3) ، وقيل : في القرآن (4) ، وفيه دلالة على أن من كان أقرب إلى الميت في النسب كان أولى بالميراث .

-------------------
(1) الحشر : 10 .
(2) انظر كتاب الناسخ والمنسوخ لابن حزم : ص 39 .
(3) قاله ابن عباس ، راجع تفسيره : ص 153 .
(4) حكاه السمرقندي في تفسيره : ج 2 ص 29 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) ـ 43 ـ
سورة التوبة مدنية (1)
  وهي مائة وتسع وعشرون آية كوفي ، ثلاثون بصري ، عد البصري * (برئ من المشركين) * .
  وعن الصادق (عليه السلام) قال : ( الانفال وبراءة واحدة ) (2) .
  وعن علي (عليه السلام) : ( لم ينزل ) بسم الله الرحمن الرحيم ( على رأس سورة براءة ، لأن ) بسم الله ( للأمان والرحمة ، ونزلت براءة لرفع الامان وللسيف ) (3) .
  وقيل : إن السورتين كانتا تدعيان القرينتين ، وتعدان السابعة من السبع الطوال (4) .

-------------------
(1) في التبيان للشيخ الطوسي : ج 5 ص 167 : قال مجاهد وقتادة وعثمان : هي آخر ما نزلت على النبي (صلى الله عليه وآله) بالمدينة ، قال الزمخشري : لها عدة أسماء : براءة ، التوبة ، المقشقشة ، المبعثرة ، المشردة ، المخزية ، الفاضحة ، المثيرة ، الحافرة ، المنكلة ، المدمدمة ، سورة العذاب ، لأن فيها التوبة على المؤمنين ، وهي تقشقش من النفاق أي تبرئ منه ، وتبعثر عن أسرار المنافقين تبحث عنها وتثيرها وتحفر عنها وتفضحهم وتنكلهم وتشرد بهم وتخزيهم وتدمدم عليهم ، وعن حذيفة (رضي الله عنه) : إنكم تسمونها سورة التوبة ، وإنما هي سورة العذاب ، والله ما تركت أحدا إلا نالت منه ، راجع الكشاف : ج 2 ص 241 .
(2) تفسير العياشي : ج 2 ص 73 ح 3 وفيه : عن أحدهما (عليهما السلام) .
(3) تفسير السمرقندي : ج 2 ص 32 .
(4) قاله ابن عباس وحكاه عن عثمان بن عفان ، انظر تفسير الماوردي : ج 2 ص 336 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) ـ 44 ـ
   (بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) * * (براءة) * خبر مبتدأ محذوف ، و * (من) * لابتداء الغاية ، والمعنى : هذه براءة واصلة * (من الله ورسوله إلى الذين عهدتم) * ، ويجوز أن تكون * (براءة) * مبتدأ وإن كانت نكرة لتخصصها بصفتها ، والخبر * (إلى الذين عهدتم) * كما تقول : رجل من قريش في الدار ، والمراد : أن الله ورسوله قد برئا * (من) * العهد الذي عاهدتم به * (المشركين) * وأن عهدهم منبوذ إليهم .
  * (فسيحوا في الارض أربعة أشهر) * هذا خطاب للمشركين ، أمروا أن يسيحوا في الارض أربعة أشهر ـ وهي الأشهر الحرم ـ آمنين أين شاءوا لا يتعرض لهم ، وذلك لصيانة الاشهر الحرم من القتل والقتال فيها ، وقيل : إن ( براءة ) نزلت في شوال سنة تسع من الهجرة والأشهر الأربعة : شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم (1) ، وقيل : هي عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر

-------------------
(1) قاله ابن عباس والزهري كما حكاه الشيخ الطوسي في التبيان : ج 5 ص 169 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) ـ 45 ـ
  وشهر ربيع الأول، وعشر من شهر ربيع الآخر (1) ، وكانت حرما لأنهم أومنوا فيها وحرم قتلهم وقتالهم ، وهو الأصح .
  وأجمع المفسرون على أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين نزلت ( براءة ) دفعها إلى أبي بكر ثم أخذها منه ودفعها إلى علي (عليه السلام) (2) وإن اختلفوا في تفصيله ، وقد شرحناه في الكتاب الكبير (3) .
  وعن الباقر (عليه السلام) قال : ( خطب علي (عليه السلام) الناس يوم النحر واخترط سيفه فقال : لا يطوفن بالبيت عريان ، ولا يحجن البيت مشرك ، ومن كانت له مدة فهو إلى مدته ، ومن لم يكن له مدة فمدته أربعة أشهر ، وقرأ عليهم سورة براءة ) (4) ، وقيل : إنه قرأ ثلاث عشرة آية من أول براءة (5) ، وقيل : ثلاثين أو أربعين آية (6) .
  * (فاعلموا أنكم غير معجزى الله) * أي : لاتفوتونه وإن أمهلكم * (وأن الله مخزي الكفرين) * أي : مذلهم في الدنيا بالقتل ، وفي الآخرة بالعذاب .
  * (وأذا ن من الله) * الوجه في رفعه ما ذكرناه في * (براءة) * بعينه ، ثم الجملة معطوفة على مثلها ، وهو بمعنى الإيذان كما أن الأمان والعطاء بمعنى الإيمان والإعطاء ، والجملة الأولى إخبار بثبوت البراءة ، والجملة الثانية إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت من البراءة الواصلة من الله ورسوله إلى المعاهدين والناكثين لجميع الناس ، من عاهد منهم ومن لم يعاهد * (يوم الحج الاكبر) * يوم عرفة ، وقيل :

-------------------
(1) قاله محمد بن كعب القرظي ومجاهد والسدي والحسن وهو قول الصادق (عليه السلام) ، راجع التبيان : ج 5 ص 169 ، وتفسير الماوردي : ج 2 ص 338 .
(2) رواه ابن كثير من طرق عديدة في تفسيره : ج 2 ص 318 ـ 319 .
(3) يريد به مجمع البيان : ج 5 ـ 6 ص 3 .
(4) تفسير العياشي : ج 2 ص 74 ح 7 .
(5) قاله مجاهد على ما حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 243 .
(6) وهو قول محمد بن كلب القرظي وغيره كما في تاريخ الطبري : ج 2 ص 383 .(*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) ـ 46 ـ
   يوم النحر (1) ، لأن فيه تمام الحج ومعظم أفعاله (2) .
  وروي أن عليا (عليه السلام) أخذ رجل بلجام دابته فقال : ما الحج الأكبر ؟ فقال : ( يومك هذا ، خل عن دابتي ) (3) .
  * (أن الله برئ) * حذفت الباء تخفيفا ، وقرئ في الشواذ : ( إن الله ) بالكسر (4) ، لأن الأذان في معنى القول * (ورسوله) * عطف على الضمير في * (برئ) * أو على محل ( إن ) المكسورة واسمها ، وقرئ بالنصب (5) عطفا على اسم ( إن ) ، أو لأن الواو بمعنى ( مع ) ، * (فإن تبتم) * من الكفر والغدر * (فهو خير لكم) * من الإقامة عليهما * (وإن توليتم) * عن الإيمان * (فاعلموا أنكم غير معجزى الله) * غير سابقين الله، ولا فائتين بأسه وعذابه .
  * (إلا الذين عهدتم من المشركين) * استثناء من * (فسيحوا في الارض) * لأن الاستثناء بمعنى الاستدراك ، والمعنى : ولكن الذين لم ينكثوا ولم ينقصوا من شرط العهد * (شيا ولم يظهروا عليكم أحدا) * من أعدائكم * (فأتموا إليهم عهدهم إلى) * انقضاء * (مدتهم) * التي وقع العهد إليها ، ولا تجعلوا الوفي كالغادر . *
   (فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ)

-------------------
(1) في رواية عن النبي (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام) والصادق (عليه السلام) وابن عباس وابن عمر وسعيد بن جبير و عبد الله بن أبي أوفي وإبراهيم ومجاهد وابن مسعود والمغيرة بن شعبة وأبي هريرة والشعبي والنخعي والزهري وعطاء وابن زيد والسدي واختاره الطبري ، راجع تفسير الماوردي : ج 2 ص 339 ، وتفسير الطبري : ج 6 ص 311 ـ 316 .
(2) في بعض النسخ : أحواله .
(3) أخرجه الطبري في تفسيره : ج 6 ص 312 ح 16422 .
(4) قرأه الحسن والأعرج ، راجع البحر المحيط لأبي حيان : ج 5 ص 6 .
(5) وهي قراءة الحسن وزيد بن علي وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق ، راجع تفسير القرطبي : ج 8 ص 70 ، والبحر المحيط لأبي حيان : ج 5 ص 6 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) ـ 47 ـ
  * أي : * (إذا انسلخ الاشهر) * التي أبيح فيها للناكثين أن يسيحوا في الأرض * (فاقتلوا المشركين) * فضعوا السيف فيهم حيث كانوا وأين وجدوا ، في حل أو حرم * (وخذوهم) * أي : أيسروهم ، والأخيذ : الأسير * (واحصروهم) * أي : قيدوهم وامنعوهم من التصرف في البلاد ، وقيل : حولوا بينهم وبين المسجد الحرام (1) * (واقعدوا لهم كل مرصد) * أي : كل ممر وطريق ترصدونهم به ، وانتصب (2) على الظرف كقوله : * (لاقعدن لهم صرا طك المستقيم) * (3) ، * (فخلوا سبيلهم) * أي : دعوهم يتصرفون في البلاد ، أو : فكوا (4) عنهم ولا تتعرضوا لهم ، أو : دعوهم يحجوا ويدخلوا المسجد الحرام * (إن الله غفور رحيم) * يغفر لهم ما قد سلف من كفرهم وغدرهم .
  * (أحد) * مرفوع بفعل الشرط وهو مضمر يفسره الظاهر ، تقديره : وإن استجارك أحد استجارك ، والمعنى : وإن جاءك أحد من المشركين بعد انقضاء الأشهر لاعهد بينك وبينه فاستأمنك ليسمع ما تدعو إليه من القرآن والدين فأمنه * (حتى يسمع كلم الله) * ويتدبره ، فإن معظم الأدلة فيه * (ثم أبلغه مأمنه) * بعد ذلك ، يعني داره التي يأمن فيها إن لم يسلم ، ثم قاتله إن شئت من غير غدر ولا خيانة ، وهذا الحكم

-------------------
(1) قاله ابن عباس على ما حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 247 .
(2) في بعض النسخ : والنصب .
(3) الأعراف : 16 .
(4) في نسخة : فكفوا . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) ـ48 ـ
  ثابت في كل وقت * (ذلك) * أي : ذلك الأمر بالإجارة * (ب‍) * سبب * (أنهم قوم) * جهلة * (لا يعلمون) * الإيمان فأمنهم حتى يسمعوا ويعلموا .
  * (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ) * * (كيف يكون للمشركين عهد) * صحيح ومحال أن يثبت لهم عهد مع إضمارهم الغدر والنكث ، فلاتطمعوا في ذلك ، ولكن * (الذين عهدتم) * منهم * (عند المسجد الحرام) * ولم يظهر منهم نكث كبني كنانة وبني ضمرة ، فتربصوا أمرهم ولا تقاتلوهم * (فما استقموا لكم) * على العهد * (فاستقيموا لهم) * على مثله .
  * (كيف) * تكرار لاستبعاد ثبات المشركين على العهد ، وحذف الفعل لكونه معلوما ، أي : * (كيف) * يكون لهم عهد * (و) * حالهم أنهم * (إن يظهروا عليكم) * ويظفروا بكم بعد ما سبق لهم من الأيمان والمواثيق * (لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة) * أي : لا يحفظوا فيكم قرابة ولاعهدا ، قال حسان (1) : لعمرك إن إلك من قريش * كإل السقب من رأل النعام (2)

-------------------
(1) حسان بن ثابت ، ويكنى أبا الوليد ، أصله من الخزرج ، ولد بالمدينة عام 563 م ، كان أشعر أهل المدينة في زمانه وأهم شعراء الدعوة الإسلامية ، فقد مدح الرسول (صلى الله عليه وآله) ، ونظم المراثي في شهداء المسلمين ، ونظم أيضا في هجاء الخصوم والمنافقين ، وكانت أشعاره في هجاء قريش وحدها كثيرة جمعها المدائني في كتاب أسماه : ( هجاء حسان لقريش ) يقال : توفي وله من العمر مائة وعشرين عاما ، وعدوه من المعمرين ، انظر الشعر والشعراء لابن قتيبة : ص 170 وما بعده .
(2) انظر ديوان حسان بن ثابت : ج 1 ص 394 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) ـ 49 ـ
  وقيل : إلا : حلفا (1) ، وقيل : إلا: إلها (2) * (يرضونكم) * كلام مبتدأ في وصف حالهم من مخالفة الباطن الظاهر ، وإباء القلوب : مخالفة ما فيها من الأضغان لما يجرونه على ألسنتهم من الكلام الجميل * (وأكثرهم فسقون) * متمردون في الكفر والشرك ، لامروءة تردعهم كما توجد في بعض الكفار من التعفف عما يثلم العرض والتفادي عن النكث .
  * (اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُعْتَدُونَ * فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ * أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ) * استبدلوا * (بايت الله) * أي : بالقرآن والإسلام * (ثمنا قليلا) * وهو اتباع الأهواء والشهوات * (فصدوا عن سبيله) * فعدلوا عنه وصرفوا غيرهم .
  و * (المعتدون) * المجاوزون الغاية في الظلم والكفر .
   * (فإن تابوا) * عن الكفر ونقض العهد * (ف‍) * هم * (إخوا نكم) * حذف المبتدأ * (ونفصل الايت) * ونبينها ، وهذا اعتراض ، فكأنه قيل : ومن تأمل تفصيلها فهو العالم .
  * (وإن نكثوا) * أي : نقضوا عهودهم * (بعد) * أن عقدوها * (وطعنوا في

-------------------
(1) قاله قتادة ، راجع تفسير الطبري : ج 6 ص 326 ح 16522 .
(2) قاله سعيد بن جبير ومجاهد وأبو مجلز ، راجع تفسير الطبري : ج 6 ص 325 ، وتفسير السمرقندي : ج 2 ص 35 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) ـ 50 ـ
  دينكم ) * وعابوه * (فقتلوا أئمة الكفر) * أي : فقاتلوهم ، وضع الظاهر موضع المضمر إشعارا بأنهم إذا نكثوا في حال الشرك تمردا وطرحا لعادات الكرام الأوفياء من العرب ثم آمنوا * (وأقاموا الصلوة وءاتوا الزكوة) * وصاروا إخوانا للمسلمين * (في الدين) * ثم رجعوا فارتدوا عن الإسلام ونكثوا مابايعوا عليه من الايمان وطعنوا في دين الله فهم رؤساء الكفر والضلالة والمتقدمون فيه .
  وعن حذيفة : لم يأت أهل هذه الآية بعد (1) .
  وقرأ علي (عليه السلام) هذه الآية يوم الجمل ، ثم قال : ( أما والله لقد عهد إلي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال لي : يا علي لتقاتلن الفئة الناكثة والفئة الباغية والفئة المارقة ) (2) .
  * (إنهم لا أيمن لهم) * أي : لا عهود لهم يعني : لا يحفظونها ، وقرئ بكسر الهمزة (3) ، أي : فلا يعطون الأمان بعد النكث والردة ، أو لا إسلام لهم ولا إيمان على الحقيقة ، ولا اعتبار بما أظهروه من الإيمان * (لعلهم ينتهون) * يتعلق ب‍ ( قتلوا ) أي : ليكن غرضكم في مقاتلتهم أن ينتهوا عما هم عليه ، وهذا من غاية كرمه سبحانه وفضله . *
  (ألاتقتلون) * دخلت الهمزة للتقرير ، ومعناه : الحض على المقاتلة * نكثوا أيمنهم) * التي عقدوها * (وهموا بإخراج الرسول) * من مكة حين تشاوروا في أمره حتى أذن الله له في الهجرة فخرج بنفسه * (وهم بدءوكم) * بالمقاتلة والبادئ أظلم ، فما يمنعكم أن تقاتلوهم بمثله ؟ ! * (أتخشونهم) * تقريع بالخشية منهم وتوبيخ عليها * (فالله أحق أن تخشوه) * فقاتلوا أعداءه * (إن كنتم مؤمنين) * فإن المؤمن لا يخشى إلا الله.

-------------------
(1) حكاه عنه الطبري في تفسيره : ج 6 ص 330 .
(2) تفسير العياشي : ج 2 ص 78 ح 25 .
(3) وهي قراءة الحسن وابن عامر ، راجع التبيان : ج 5 ص 181 . (*)