* (بالسيئة قبل الحسنة) * بالعذاب والنقمة قبل الرحمة ، بالعافية والإحسان إليهم بالإمهال ، وذلك أنهم سألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يأتيهم بالعذاب * (وقد خلت) * أي : وقد مضت * (من قبلهم المثلت) * أي : عقوبات أمثالهم من المكذبين ، وسميت العقوبة مثلة لما بين العقاب والمعاقب عليه من المماثلة ، وجزاء السيئة سيئة مثلها ، ويقال : أمثلت الرجل من صاحبه وأقصصته منه ، والمثال : القصاص * (وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم) * أي : مع ظلمهم أنفسهم بالذنوب ، ومحله النصب على الحال ، بمعنى : ظالمين لأنفسهم .
   وعن سعيد بن المسيب (1) : لما نزلت هذه الآية قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ( لولا عفو الله وتجاوزه ماهنأ أحدا العيش، ولولا وعيد الله وعقابه لاتكل كل واحد ) (2) .
  * (لولا أنزل عليه ءاية) * لم يعتدوا بالآيات المنزلة على رسول الله (صلى الله عليه وآله) عنادا ، فاقترحوا نحو آيات موسى وعيسى (عليهما السلام) من انقلاب العصا حية وإحياء الموتى ، فقيل : * (إنما أنت) * يا محمد * (منذر) * مخوف لهم من سوء العاقبة ، وما عليك

-------------------
(1) هو سعيد بن المسيب بن حزن المخزومي القرشي ، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة ، جمع بين الحديث والفقه والزهد ، إذ كان يعيش من التجارة بالزيت ولم يأخذ عطاء ، وكان قد سمع من الامام علي بن الحسين (عليه السلام) وروى عنه ، عده الشيخ الطوسي والبرقي أيضا في أصحاب السجاد (عليه السلام) ، انظر طبقات ابن سعد : ج 5 ص 88 ، ورجال الخوئي : 8 ص 132 .
(2) المغني عن حمل الاسفار للعراقي : ج 3 ص 144 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)_ 252 _

  إلا الإتيان بما يصح به أنك رسول منذر ، والآيات كلها متساوية في حصول صحة الدعوى بها * (ولكل قوم هاد) * يهديهم إلى الدين ، ويدعوهم إلى الله بوجه من الهداية وبآية خص بها ، ولم يجعل الأنبياء شرعا (1) سواء في الآيات والمعجزات .
  * (الله يعلم ما تحمل كل أنثى) * : * (ما) * إما موصولة في * (ما تحمل) * و * (ما تغيض) * و * (ماتزداد) * وإما مصدرية ، فإن كانت موصولة فالمعنى : أنه يعلم ما تحمله من الولد على أي حال هو من ذكورة وأنوثة وتمام وخداج (2) وحسن وقبح وغير ذلك من الصفات * (و) * يعلم * (ما) * تغيضه * (الارحام) * أي : تنقصه ، يقال : غاض الماء وغضته أنا * (وما تزداد) * أي : تأخذه زائدا ، ومما تنقصه الرحم وتزداده عدد الولد ، فإن الرحم يشتمل على واحد واثنين وثلاثة وأكثر ، ومنه حد الولد في أن يكون تاما ومخدجا ، ومنه مدة الولادة .
  وإن كانت مصدرية فالمعنى : أنه يعلم حمل كل أنثى ويعلم غيض الأرحام وازديادها ، لا يخفي عليه شئ من ذلك ، ويجوز أن يراد غيوض ما في الأرحام وزيادته ، فأسند الفعل إلى ( الارحام ) وهو لما فيها ، على أن يكون الفعلان غير متعديين ، ويعضده قول الحسن : الغيضوضة : أن تضع لثمانية أشهر أو أقل من ذلك ، والازدياد : أن تزيد على تسعة أشهر (3) ، وعنه : الغيض : أن يكون سقطا لغير تمام والازدياد ما ولد لتمام (4) ، * (وكل شئ عنده بمقدار) * بقدر (5) وحد لا يجاوزه ولا يقصر عنه .
   * (الكبير) * العظيم الشأن الذي كل شئ دونه * (المتعال) * المستعلي عل كل شئ بقدرته ، أو الذي كبر عن صفات المخلوقين .

-------------------
(1) الشرعة والشرع : مثل الشئ ، (الصحاح : مادة شرع) .
(2) خدجت الناقة تخدج خداجا : إذا ألقت ولدها قبل تمام الأيام ، (الصحاح : مادة خدج) .
(3) تفسير الحسن البصري : ج 2 ص 51 .
(4) نفس المصدر السابق .
(5) في بعض النسخ : مقدر . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 253 _
  * (سارب) * أي : ذاهب في سربه ، بالفتح أي : في طريقه ومذهبه ، يقال : سرب في الأرض سروبا ، والمعنى : سواء عنده من استخفي أي : طلب الخفاء (1) في مختبأ * (باليل) * في ظلمته ومن يضطرب في كل وجه ظاهرا * (بالنهار) * يبصر كل أحد ، والضمير في * (له) * راجع إلى * (من) * والمعنى : لمن أسر ومن جهر ، ومن استخفي ومن سرب .
  * (معقبت) * أي : جماعات من الملائكة تعتقب في حفظه وكلاءته ، والأصل : معتقبات ، فأدغمت التاء في القاف ، أو مفعلات (2) من عقبه : إذا جاء على عقبه ، كما يقال : قفاه ، لأن بعضهم يعقب بعضا ، أو لأنهم يعقبون ما يتكلم به يكتبونه * (يحفظونه من أمر الله) * هما صفتان جميعا ، وليس * (من أمر الله) * بصلة للحفظ ، كأنه قيل : له معقبات من أمر الله، أو : يحفظونه من أجل أمر الله تعالى أي : من أجل أن الله أمرهم بحفظه ، والدليل عليه قراءة علي (عليه السلام) وابن عباس وجعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام) : ( له رقيب من بين يديه ومعقبات من خلفه يحفظونه بأمر الله ) (3) ، * (إن الله لا يغير ما بقوم) * من العافية والنعمة * (حتى يغيروا ما بأنفسهم) * من الحال الجميلة بكثرة المعاصي * (ومالهم من دونه من وال) * يلي أمرهم ويدفع عنهم .
  * (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ * وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ * لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ * وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ)

-------------------
(1) في نسخة : الاختفاء .
(2) في بعض النسخ : معقبات .
(3) انظر التبيان : ج 6 ص 228 ، وتفسير القرطبي : ج 9 ص 293 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 254 _
  * (خوفا وطمعا) * لا يجوز أن يكون انتصابهما على المفعول له ، لأنهما ليسا بفعل فاعل الفعل المعلل إلا أن يكون على تقدير حذف مضاف ، أي : إرادة خوف وطمع ، أو على معنى : إخافة وإطماعا ، ويجوز أن يكون انتصابهما على الحال من * (البرق) * كأنه في نفسه خوف وطمع ، أو على : ذا خوف وطمع ، أو من المخاطبين أي : خائفين طامعين ، ومعنى الخوف والطمع : أنه يخاف عند لمع البرق من وقوع الصواعق ويطمع في الغيث ، وقيل : يخاف المطر من له فيه ضرر كالمسافر ومن له بيت يكف (1) عليه ، ويطمع فيه من له نفع فيه (2) ، * (وينشئ السحاب الثقال) * بالماء : يرفعها من الأرض ويجريها في الجو .
  * (ويسبح الرعد) * أي : سامعو الرعد من العباد حامدين له ، يقولون : سبحان الله والحمد لله ، وقيل : إن الرعد ملك موكل بالسحاب يزجره بصوته ، فهو يسبح الله ويحمده (3) * (والملئكة من خيفته) * أي : يسبح الملائكة من هيبته وجلاله .
  ولما ذكر سبحانه مادل على أنه العالم القادر على كل شئ قال : * (وهم) * يعني : الكفار الذين أنكروا آياته * (يجدلون في الله) * حيث ينكرون على رسوله ما يصفه به من القدرة على البعث والإعادة ويتخذون له الشركاء والأنداد ، فهذا جدالهم ، و * (المحال) * : المماحلة وهي المماكرة والمكايدة ، ومنه تمحل لكذا : إذا تكلف استعمال الحيلة واجتهد فيه ، ومحل بفلان : إذا سعى به إلى السلطان ، ومنه

-------------------
(1) وكف البيت : إذا قطر ، (الصحاح : مادة وكف) .
(2) قاله قتادة ، راجع التبيان : ج 6 ص 229 .
(3) وهو قول ابن عباس وعكرمة وسلمة بن كهيل ، راجع تفسير السمرقندي : ج 2 ص 187 ، وتفسير البغوي : ج 3 ص 11 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 255 _
  الحديث : ( ولا تجعله بنا ماحلا مصدقا ) يعني : القرآن ، والمعنى : أنه شديد المكر بأعدائه ، يأتيهم بالهلاك من حيث لا يشعرون .
  * (له دعوة الحق) * معناه : أنه سبحانه يدعى فيستجيب الدعوة ، فأضيفت ال‍ * (دعوة) * إلى * (الحق) * لكونها مختصة بالحق وبمعزل من الباطل ، وقيل : إن معناه : دعوة المدعو الحق الذي يسمع ويجيب وهو الله سبحانه (1) ، وعن الحسن : الحق : هو الله، وكل دعاء إليه دعوة الحق (2) ، * (والذين يدعون من دونه) * أي : والآلهة الذين يدعوهم الكفار من دون الله * (لا يستجيبون لهم بشئ) * من طلباتهم * (إلا كبسط كفيه) * إلا استجابة كاستجابة باسط كفيه ، أي : كاستجابة * (الماء) * من بسط كفيه إليه يطلب منه أن يبلغ * (فاه) * ، والماء جماد لايشعر ببسط كفيه ولا بحاجته إليه ، ولا يقدر أن يجيب دعاءه ويبلغ فاه ، وقيل : معناه : أنهم كمن أراد أن يغرف الماء بيديه ليشربه فيبسطهما ناشرا أصابعه فلم تلق كفاه منه شيئا (3) * (إلا في ضلل) * أي : في ضياع لا جدوى فيه .
   * (ولله يسجد) * أي : ينقادون لإحداث ما أراده فيهم من أفعاله شاؤوا أم أبوا ، وينقاد له (4) * (ظللهم) * أيضا ، حيث يتصرف على مشيئته في الامتداد والتقلص والفئ والزوال .
  * (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلْ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)

-------------------
(1) قاله ابن عباس ، راجع تفسيره : ص 206 .
(2) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 521 .
(3) قاله ابن عباس ، راجع تفسير البغوي : ج 3 ص 12 .
(4) في بعض النسخ : لهم . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 256 _
  * * (قل) * يا محمد لهؤلاء الكفار : * (من رب السموات والارض) * ومدبرهما ؟ فإذا استعجم (1) عليهم الجواب ولا يمكنهم أن يقولوا : الأصنام ، فلقنهم و * (قل الله) * ، فإنهم لا يقدرون أن ينكروه * (قل أفاتخذتم) * بعد أن علمتموه رب السماوات والأرض * (من دونه أولياء) * فجعلتم ماكان يجب أن يكون سبب التوحيد من علمكم وإقراركم سبب الإشراك * (لا يملكون لانفسهم) * أي : لا يستطيعون لها * (نفعا ولاضرا) * فكيف يستطيعونه لغيرهم وقد آثرتموهم على الخالق الرازق فما أبين ضلالكم ! * (أم جعلوا) * بل أجعلوا ، وهي همزة الإنكار * (خلقوا) * صفة ل‍ * (شركاء) * ، يعني : أنهم لم يتخذوا * (لله شركاء) * خالقين قد * (خلقوا) * مثل خلق الله * (فتشبه ... عليهم) * خلق الله وخلقهم حتى يقولوا : قدر هؤلاء على الخلق كما قدر الله عليه فاستحقوا العبادة ، فنتخذهم له شركاء ونعبدهم كما عبدنا الله، ولكنهم اتخذوا له شركاء عاجزين لا يقدرون على شئ * (قل الله خلق كل شئ) * لاخالق سواه ، فلا يكون له شريك في العبادة * (وهو الوا حد) * في الإلهية * (القهر) * لا يغالب ، ومن سواه مربوب ومقهور .
  * (أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ * لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ)

-------------------
(1) استعجم عليه الكلام : إذا استبهم ، (الصحاح : مادة عجم) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 257 _
  * هذا مثل ضربه * (الله) * تعالى للحق وأهله والباطل وأهله ، فمثل الحق وأهله بالماء الذي ينزله * (من السماء) * فتسيل به * (أودية) * الناس فيحيون به وينتفعون منه بأنواع المنافع ، وبالفلز الذي ينتفعون به في اتخاذ الحلي والآلات المختلفة ، وأن ذلك ماكث في الأرض باق بقاء ظاهرا ، يثبت الماء في منافعه ويبقى آثاره في العيون والآبار والحبوب والثمار التي تنبت به ، وكذلك الجواهر تبقى أزمنة طويلة ، وشبه الباطل في سرعة اضمحلاله ووشك زواله وخلوه من المنفعة بزبد السيل الذي يرمي به وبزبد الفلز الذي يطفو فوقه إذا أذيب .
  وقوله : * (بقدرها) * معناه : بمقدارها الذي عرف الله أنه نافع غير ضار ، والفائدة في قوله : * (ابتغآء حلية) * كالفائدة في قوله : * (بقدرها) * لأنه جمع الماء والفلز في النفع في قوله : * (وأما ما ينفع الناس فيمكث في الارض) * ، فذكر وجه الانتفاع بما يوقد عليه منه ويذاب وهو الحلية والمتاع ، وقوله : * (ومما يوقدون عليه في النار ابتغآء حلية أو متع) * عبارة جامعة لأنواع الفلز مع إظهار الكبرياء في ذكره على وجه التهاون به كما جاء في ذكر الآجر * (فأوقد لى يهمن على الطين) * (1) ، و * (من) * لابتداء الغاية ، أي : ومنه ينشأ * (زبد) * مثل زبد الماء ، أو للتبعيض بمعنى : وبعضه زبد ، والرابي : العالي المنتفخ على وجه الماء ، والجفاء : المتفرق ، جفأه السيل أي : رمى به ، وجفأت القدر بزبدها ، وقرئ : * (يوقدون) * بالياء (2) ، أي : يوقد الناس .
  * (للذين استجابوا) * اللام متعلقة ب‍ * (يضرب) * أي : كذلك يضرب الله الأمثال

-------------------
(1) القصص : 38 .
(2) يظهر من العبارة أن المصنف اعتمد القراءة بالتاء هنا . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 258_
  للذين استجابوا وهم المؤمنون * (و) * للذين * (لم يستجيبوا) * وهم الكافرون ، أي : هما مثلا الفريقين ، و * (الحسنى) * صفة لمصدر * (استجابوا) * أي : استجابوا الاستجابة الحسنى ، وقوله : * (لو أن لهم) * كلام مبتدأ في ذكر ما أعد لغير المستجيبين ، وقيل : إن الكلام قد تم عند قوله : * (كذلك يضرب الله الامثال) * وما بعده كلام مستأنف (1) ، و * (الحسنى) * مبتدأ خبره * (للذين استجابوا) * ، والمعنى : لهم المثوبة الحسنى وهي الجنة ، و * (الذين لم يستجيبوا) * مبتدأ خبره * (لو) * مع ما في حيزه ، و * (سوء الحساب) * المناقشة في الحساب ، وعن النخعي (2) : أن يحاسب الرجل بذنوبه كلها : لا يغفر منها شئ (3) .
  الصادق (عليه السلام) : ( هو أن لا يقبل لهم حسنة ، ولا يغفر لهم سيئة ) (4) .
  * (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)

-------------------
(1) حكاه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 524 .
(2) هو إبراهيم بن يزيد بن الأسود النخعي المذحجي ، أبو عمران ، مولى من أهل الكوفة ، كان من أكابر التابعين صلاحا وحفظا للحديث ، حمل عنه العلم وهو ابن ثمان عشرة سنة ، عده الشيخ الطوسي في رجاله من أصحاب علي (عليه السلام) ، توفي سنة 96 ه‍ ، وهو ابن ست وأربعين سنة ، (طبقات ابن سعد : ج 6 ص 270 ، رجال السيد الخوئي : ج 1 ص 356) .
(3) حكاه عنه الماوردي في تفسيره : ج 3 ص 107 .
(4) تفسير العياشي : ج 2 ص 210 ح 38 و 39 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 259 _
  * دخلت همزة الإنكار على الفاء لإنكار أن تقع شبهة بعد ما ضرب من المثل في أن حال من علم * (أنما أنزل إليك من ربك الحق) * فاستجاب ، بخلاف حال الجاهل الذي لم يستبصر فيستجيب ، وبينهما من البون مابين الزبد والماء والخبث والإبريز (1) * (إنما يتذكر أولوا الالبب) * الذين يعملون على قضايا عقولهم فيتفكرون ويستبصرون .
  (الذين يوفون) * مبتدأ وخبره * (أولئك لهم عقبى الدار) * ، ويجوز أن يكون صفة ل‍ * (أولوا الالبب) * والأول أوجه * (مآ أمر الله به أن يوصل) * من الأرحام والقرابات ، ويدخل فيه وصل قرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقرابة المؤمنين (2) الثابتة بسبب الإيمان ، بالإحسان إليهم بحسب الطاقة (3) والذب عنهم ونصرتهم والنصيحة لهم وعيادة مرضاهم وحضور جنائزهم ، ومنه مراعاة حق الخدم والجيران والرفقاء في السفر * (ويخشون ربهم) * أي : يخافون وعيده كله * (ويخافون) * خصوصا * (سوء الحساب) * فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا .
  * (والذين صبروا) * على القيام بأوامر الله ومشاق التكليف ، وعلى المصائب في النفوس والأموال ، وعن معاصي الله * (ابتغآء وجه ربهم) * لا لغرض من الأغراض الدنيوية ، أو ليقال : ما أصبره وأوقره ولئلا يشمت به الأعداء ، كقوله : وتجلدي للشامتين أريهم * أني لريب الدهر لا أتضعضع (4)

-------------------
(1) الإبريز : الخالص ، (الصحاح : مادة برز) .
(2) في نسخة : قرابة أمير المؤمنين (عليه السلام) .
(3) في بعض النسخ : الطاعة .
(4) البيت لأبي ذؤيب خويلد بن خالد المخزومي يرثي بنيه ، وقبله : وإذا المنية أنشبت أظفارها * ألفيت كل تميمة لا تنفع يقول : إن هذا التجلد الذي اريه به من نفسي انما هو لدفع شماتة الشامتين فاريهم بأني = (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 260 _
  * (وأنفقوا مما رزقنهم) * من الحلال ، لأن الحرام لا يكون رزقا ولا يسند إلى الله * (سرا وعلانية) * يتناول النافلة ، لأنها في السر أفضل ، فأما الفرائض فالمجاهرة بها أفضل ، نفيا للتهمة * (ويدرءون بالحسنة السيئة) * يدفعونها ، ومنه الحديث : ( أتبع السيئة الحسنة تمحها ) (1) ، وعن ابن عباس : يدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سيئ غيرهم (2) ، وعن الحسن : إذا حرموا أعطوا ، وإذا ظلموا عفوا ، وإذا قطعوا وصلوا (3) * (أولئك لهم عقبى الدار) * عاقبة الدنيا وهي الجنة ، لأنها التي أراد الله أن تكون عاقبة الدنيا ومرجع أهلها ، و * (جنت عدن) * بدل من * (عقبى الدار) * .
  * (من أآبائهم) * جمع أبوي كل واحد منهم ، فكأنه قيل : من آبائهم وأمهاتهم ، جعل سبحانه من ثواب المطيع سروره بما يريه في أهله وأنسابه وذريته وإلحاقهم به في الجنة * (والملئكة يدخلون عليهم من كل باب) * من أبواب قصورهم .
  * (سلم عليكم) * في موضع الحال ، لأن المعنى : قائلين : سلام عليكم أو مسلمين ، وتعلق قوله : * (بما صبرتم) * بمحذوف تقديره : هذا بما صبرتم ، يعنون : هذا الثواب بما صبرتم ، أي : بسبب صبركم ، أو بدل ما احتملتم من مشاق الصبر ، والمعنى : لئن تعبتم في الدنيا لقد استرحتم الساعة ، ويجوز أن يتعلق ب‍ * (سلم) * أي : نسلم عليكم ونكرمكم بصبركم .

-------------------
=
لاأتخضع ولا أخشع لأجل حدثان الزمان الطارئ من حيث لاأشعر ، ويذكر أن معاوية مرض واتفق أن جاء وفد العراق وفيهم الإمام الحسن الزكي (عليه السلام) ، فصاح معاوية : كحلوني وزينوني وألبسوني العمامة ، وحاول أن يظهر القوة فأنشد له البيت الثاني ، فأجابه (عليه السلام) بغتة بالأول ، انظر كتاب العين : مادة (ضع) ، ولسان العرب : مادة (ضعع) .
(1) مسند أحمد : ج 5 ص 153 و 158 و 228 و 236 .
(2) تفسير ابن عباس : ص 207 .
(3) حكاه عنه البغوي في تفسيره : ج 3 ص 16 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 261 _
  * (وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ * اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ * وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ * كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمْ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ) * * (من بعد ميثقه) * أي : من بعد ماأوثقوه به من الاعتراف والقبول * (ويفسدون في الارض) * بمعاصي الله وظلم عباده وإخراب بلاده * (ولهم سوء الدار) * أي : عذاب النار .
  * (الله يبسط الرزق) * أي : الله وحده هو يبسط الرزق ويقدره دون غيره ، وهو الذي بسط رزق قريش * (وفرحوا) * بما بسط لهم منه فرح بطر لافرح سرور بفضل الله وإنعامه عليهم ، * (و) * ليست هذه * (الحيواة الدنيا في) * جنب نعيم * (الاخرة إلا متع) * أي : شئ قليل يتمتع به كعجالة الراكب ثم يفنى ويضمحل ، وخفي عليهم ذلك حتى آثروه على النعيم الدائم .
  * (ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه ءاية من ربه) * هو جار مجرى التعجب من قولهم ، مع كثرة آياته الباهرة التي لم يؤتها نبي قبله ، وكفي بالقرآن وحده آية معجزة ، فإذا لم يعتدوا بها كان موضعا للتعجب ، فكأنه قيل لهم : ما أشد عنادكم ! * (إن الله يضل من يشآء) * ممن كان مثلكم في التصميم على الكفر فلا سبيل إلى

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 262_
  اهتدائهم وإن أنزلت كل آية * (ويهدي إليه من) * كان على خلاف صفتكم ، ومعنى الإنابة : الإقبال على الحق ، والدخول في نوبة الخير .
  و * (الذين ءامنوا) * بدل من * (من أناب) * ، * (وتطمئن قلوبهم بذكر الله) * بذكر رحمة الله ومغفرته .
  * (الذين ءامنوا) * مبتدأ و * (طوبى لهم) * خبره ، وطوبى : من طاب، مصدر كبشرى وزلفي ، ومعنى طوبى لك : أصبت خيرا وطيبا ، واللام للبيان ، مثلها في : سقيا لك ، والواو في ( طوبى )* منقلبة عن ياء لضمة ما قبلها ، كواو موقن وموسر .
  وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) : ( أن طوبى شجرة أصلها في داري وفرعها على أهل الجنة ) (1) .
  وقال مرة أخرى : ( في دارعلي ) فقيل له في ذلك ، فقال : ( إن داري ودار علي في الجنة بمكان واحد ) (2) .
  * (كذلك) * أي : مثل ذلك الإرسال * (أرسلنك) * يعني : أرسلناك إرسالا له فضل على غيره من الإرسالات * (في أمة قد) * تقدمتها * (أمم) * كثيرة ، فهي آخر الأمم وأنت خاتم الأنبياء * (لتتلوا عليهم) * الكتاب العظيم * (الذي أوحينا إليك و) * حال هؤلاء أنهم * (يكفرون بالرحمن) * الواسع الرحمة ، فكفروا بنعمته في إرسال مثلك إليهم ، وإنزال هذا القرآن المعجز عليهم * (قل هو) * الرحمن * (ربى) * وخالقي * (لاإله إلا هو) * تعالى عن الشركاء والأنداد * (عليه توكلت) * في نصرتي عليكم * (وإليه) * مآبي ، فيثيبني على مصابرتكم ومجاهدتكم .
  * (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْئَسْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ * وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ * أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنْ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنْ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ)

-------------------
(1 و 2) الكافي : ج 2 ص 239 ح 30 ، الخصال : ج 2 ص 556 ، تفسير القرطبي : ج 9 ص 317 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 263 _
  * جواب * (لو) * محذوف ، والمعنى : * (ولو أن قرءانا سيرت به الجبال) * عن مقارها ، وزعزعت عن أماكنها * (أو قطعت به الارض) * حتى تتصدع وتشقق قطعا ، وقيل : معناه : شققت فجعلت أنهارا وعيونا (1) * (أو كلم به الموتى) * فتسمع وتجيب لكان هذا القرآن لعظم قدره وجلالة أمره ، وقيل : لما آمنوا به (2) ، كقوله : * (ولو أننا نزلنا ...) * الآية (3) .
  وعن الفراء (4) : أنه يتعلق بما قبله ، والمعنى : وهم يكفرون بالرحمن ولو أن قرآنا سيرت به الجبال ، وما بينهما اعتراض (5) * (بل لله الامر جميعا) * بل لله القدرة على كل شئ ، وهو قادر على الآيات التي اقترحوها

-------------------
(1) حكاه البغوي في تفسيره : ج 3 ص 19 .
(2) وهو قول الزجاج في معاني القرآن : ج 3 ص 148 .
(3) الأنعام : 111 .
(4) هو أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد الله الأسلمي الكوفي ، كان فقيها عالما بأيام العرب وأخبارها وأشعارها ، عارفا بالطب والنجوم ، متكلما فيلسوفا ، وكان قد أخذ النحو من الكسائي ، ولد بالكوفة وانتقل الى بغداد في أيام المأمون العباسي واتصل به ، ألف كثيرا من المصنفات ، توفي عام 207 ه‍ في طريق مكة عن عمر يناهز الثلاث وستون سنة ، انظر وفيات الأعيان لابن خلكان : ج 5 ص 225 .
(5) معاني القرآن : ج 2 ص 63 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 264 _
  لكنه لا يفعل ، لما يعلمه من المصلحة .
  * (أفلم يايس) * أي : أفلم يعلم ، وهي لغة قوم من النخع (1) ، وقيل : إنما استعمل اليأس بمعنى العلم لتضمنه معناه ، لأن اليائس عن الشئ عالم بأنه لا يكون ، كما استعمل الرجاء بمعنى الخوف لذلك (2) ، ويدل عليه أن أهل البيت (عليهم السلام) وابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين قرأوا : ( أفلم يتبين ) (3) وهو تفسير * (أفلم يايس) * ، ويجوز أن يكون المعنى : أولم يقنط عن إيمان هؤلاء الكفار * (الذين ءامنوا) * ب‍ * (أن لو يشآء الله لهدى الناس جميعا) * ولهداهم * (ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا) * من كفرهم وسوء أفعالهم * (قارعة) * أي : داهية تقرعهم من صنوف المصائب في نفوسهم وأموالهم * (أو تحل) * القارعة * (قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله) * وهو موتهم أو القيامة ، وقيل : المراد بالقارعة : سرايا النبي (صلى الله عليه وآله) التي كان يبعثها إليهم فتغير حول مكة وتختطف منهم (4) ، أو : تحل أنت يا محمد بجيشك قريبا من دارهم كما حل بالحديبية (5) حتى يأتي وعد الله وهو فتح مكة ، لأنه سبحانه وعده ذلك .

-------------------
(1) النخع ـ بفتح النون والخاء ـ : وهي قبيلة من العرب نزلت الكوفة ، ومنها انتشر ذكرهم ، وجدهم جسر ـ بالفتح ، ابن عمرو بن علة بن جلد بن مالك بن أدد ، سمي النخع لأنه ذهب عن قومه ، انظر الأنساب للسمعاني : ج 5 ص 473 .
(2) حكاه الزجاج عن بعض أهل اللغة ، راجع معاني القرآن : ج 3 ص 149 .
(3) انظر الكشاف : ج 2 ص 530 ، وتفسير القرطبي : ج 9 ص 320 ، والفريد في اعراب القرآن للهمداني : ج 3 ص 138 ، والبحر المحيط لأبي حيان : ج 5 ص 393 .
(4) قاله ابن عباس وعكرمة ، راجع تفسير الماوردي : ج 3 ص 113 ، وتفسير البغوي : ج 3 ص 20 .
(5) الحديبية : قرية متوسطة قريبة من مكة ، سميت ببئر فيها عند مسجد الشجرة التي بايع رسول الله (صلى الله عليه وآله) تحتها ، وقال الخطابي : سميت بشجرة حدباء كانت في ذلك الموضع ، وقال محمد بن موسى الخوارزمي : اعتمر النبي (صلى الله عليه وآله) عمرة الحديبية ووادع المشركين لمضي خمس سنين وعشرة أشهر للهجرة النبوية ، انظر معجم البلدان للحموي : ج 2 ص 222 .

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 265 _
  والإملاء : الإمهال وأن يترك ملاوة من الزمان في خفض وأمن كالبهيمة يملى لها في المرعى ، وهذا وعيد لهم .
  * (أفمن هو قائم) * احتجاج عليهم في إشراكهم بالله ، يعني : أفالله الذي هو رقيب * (على كل نفس) * صالحة أو طالحة * (بما كسبت) * يعلم خيره وشره ، ويعد لكل جزاءه ، كمن ليس كذلك ؟ ويجوز أن يقدر ما يكون خبرا للمبتدأ ويعطف عليه * (وجعلوا) * وتقديره : أفمن هو بهذه الصفة لم يوحدوه وجعلوا له وهو الله الذي يستحق العبادة وحده * (شركاء قل سموهم) * أي : جعلتم له شركاء فسموهم له من هم ، وأنبئوه بأسمائهم ، ثم قال : * (أم تنبونه) * هي ( أم ) المنقطعة ، أي : بل أتنبونه بشركاء لايعلمهم * (في الارض) * وهو العالم بما في السماوات والأرض ، فإذا لم يعلمهم فإنهم ليسوا بشئ يتعلق بهم العلم ، والمراد : نفي أن يكون له شركاء ، ونحوه : * (قل أتنبون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الارض) * (1) ، * (أم بظهر من القول) * بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول ليس له حقيقة ، وهذه الأساليب العجيبة في الاحتجاج تنادي بلسان فصيح أنها ليست من كلام البشر * (وصدوا) * قرئ : بفتح الصاد (2) وضمها * (ومن يضلل الله) * ومن يخذله لعلمه بأنه لا يهتدي * (فماله من) * أحد يقدر على هدايته .
  * (لهم عذاب في الحيواة الدنيا) * بالقتل والسبي وسائر المحن تلحقهم ، عقوبة لهم على كفرهم * (ومالهم من الله من واق) * أي : دافع يدفع عنهم عذابه .
  * (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ * وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنْ الأَحْزَابِ مَنْ يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ * وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ)

-------------------
(1) يونس : 18 .
(2) قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 359 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 266 _
  * * (مثل الجنة) * صفتها التي هي في غرابة المثل ، وهو مبتدأ محذوف الخبر عند سيبويه (1) ، أي : فيما نقص عليكم مثل الجنة ، وعند غيره (2) الخبر : * (تجري من تحتها الانهر) * كما تقول : صفة زيد أسمر ، وعن الزجاج : معناه : مثل الجنة جنة تجري من تحتها الأنهار ، على حذف الموصوف تمثيلا لما غاب عنا بما نشاهد (3) * (أكلها دائم) * كقوله : * (لا مقطوعة ولا ممنوعة) * (4) ، * (وظلها) * دائم لا ينسخ كما ينسخ في الدنيا بالشمس .
  * (والذين ءاتينهم الكتب) * وهم : عبد الله بن سلام (5) وكعب (6) وأصحابهما ومن أسلم من النصارى وهم ثمانون رجلا : أربعون بنجران واثنان وثلاثون بأرض الحبشة وثمانية باليمن * (يفرحون بمآ أنزل إليك ومن الاحزاب) *

-------------------
(1) انظر كتاب سيبويه : ج 1 ص 143 .
(2) كالفراء في معاني القرآن : ج 2 ص 65 .
(3) معاني القرآن : ج 3 ص 150 .
(4) الواقعة : 33 .
(5) هو عبد الله بن سلام بن الحارث الاسرائيلي ، ثم الانصاري ، كان اسمه في لجاهلية : الحصين ، فلما أسلم سماه رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعبدالله ، وهو أحد الأحبار أسلم عند قدوم النبي (صلى الله عليه وآله) المدينة ، توفي فيها سنة 43 ه‍ أيام معاوية ، انظر اسد الغابة : ج 3 ص 176 .
(6) كذا ذكره غيره من أعلام التفسير كالزمخشري ، ولعله ايراده ل‍ ( كعب ) من باب التمثيل من قبيل القضايا الحقيقية التي لا يعتبر فيها وجود الموضوع خارجا ، أو هو من سهو القلم ، وإلا فالمعروف عن كعب هذا وهو من كبار علماء اليهود في اليمن في الجاهلية ، أنه أدرك النبي (صلى الله عليه وآله) ولم يره ، وكان إسلامه في خلافة أبي بكر أو عمر ، ووفاته في خلافة عثمان سنة 33 ه‍ ، وهذا يعني ان إسلامه جاء متأخرا عن وقت نزول هذه الآية ، إذ لم نجد ممن أسلم قبل نزول هذه الآية وكان يهوديا واسمه كعبا على ما تشهد به كتب السير والتواريخ ، راجع على سبيل المثال : اسد الغابة للجزري : ج 4 ص 249 ، وتهذيب التهذيب لابن حجر : ج 8 ص 438 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 267 _
  أي : ومن أحزابهم ، وهم كفارهم المتحزبون على رسول الله بالعداوة * (من ينكر بعضه) * مما يخالف أحكامهم وغير ذلك مما حرفوه وبدلوه من الشرائع * (قل إنما أمرت) * فيما أنزل إلي ب‍ * (أن أعبد الله ولا أشرك به) * فإنكاركم له إنكار لعبادة الله وتوحيده * (إليه أدعوا) * خصوصا لاأدعو إلى غيره * (وإليه) * لا إلى غيره مرجعي ، فلا معنى لإنكاركم وأنتم تقولون مثل ذلك .
  * (وكذلك) * ومثل ذلك الإنزال * (أنزلنه) * مأمورا فيه بعبادة الله وتوحيده والدعوة إليه وإلى دينه * (حكما عربيا) * حكمة عربية مترجمة بلسان العرب ، وانتصابه على الحال * (ولئن اتبعت أهواءهم) * في أمور يدعونك إلى أن توافقهم عليها ماهي إلا أهواء وشبه * (بعد) * ثبوت * (العلم) * عندك بالحجج والدلائل والبينات ، لم ينصرك الله وخذلك ، فلا يقيك منه * (واق) * ، وهذا من باب الإلهاب والتهييج والبعث للسامعين على الصلابة في الدين ، والتثبت فيه من الزلة عند الشبهة بعد الاستمساك بالحجة .
  * (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ * وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ) * كانوا يعيرون رسول الله (صلى الله عليه وآله) بكثرة تزوج النساء ، فقيل : إن الرسل قبله كانوا مثله ذوي أزواج وذرية * (وما كان) * لهم أن يأتوا بآيات برأيهم وبما يقترح عليهم منها ، والشرائع : مصالح تختلف باختلاف الأوقات والأحوال ، ف‍ * (لكل) * وقت حكم يكتب على العباد ، أي : يفرض عليهم على ما يقتضيه استصلاحهم .
  * (يمحوا الله ما يشاء) * أي : ينسخ ما يستصوب نسخه * (ويثبت) * بدله ما يرى

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 268 _
  المصلحة في إثباته أو يتركه غير منسوخ ، وقيل : يمحو من ديوان الحفظة ما يشاء من ذنوب المؤمنين فضلا فيسقط عقابه ويترك ذنوب من يريد عقابه مثبتا عدلا (1) ، وقيل : يمحو بعض الخلائق ويثبت بعضا من الأناسي وسائر الحيوان والنبات والأشجار وصفاتها وأحوالها ، فيمحو من الرزق والأجل ويزيد فيهما ويمحو لسعادة والشقاوة ويثبتهما (2) * (وعنده أم الكتب) * أصل كل كتاب وهو اللوح المحفوظ ، لأن كل كائن مكتوب فيه .
  * (وإن مانرينك) * وكيفما دارت الحال أريناك * (بعض الذي) * وعدنا هؤلاء الكفار من نصرة المؤمنين عليهم ، وتمكينك منهم بالقتل والأسر واغتنام الأموال ، أو توفيناك قبل ذلك * (فإنما) * يجب * (عليك) * تبليغ الرسالة فحسب * (وعلينا) * حسابهم لا عليك ، نجازيهم وننتقم منهم إما عاجلا وإما آجلا .
  * (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ * وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) * يريد : أرض الكفر * (ننقصها من أطرافها) * بما نفتح على المسلمين من بلادهم ، فننقص من بلاد الحرب ونزيد في بلاد الإسلام وذلك من آيات النصر ، والمعنى : عليك البلاغ ولايهمنك ما وراء ذلك ، فنحن نكفيكه ونتم ما وعدناك من الظفر وإعلاء كلمة الإسلام ، وقيل : ننقصها بذهاب علمائها وخيار أهلها (3)

-------------------
(1) وهو قول الضحاك ، راجع تفسير الماوردي : ج 3 ص 118 .
(2) وهو قول عمر وابن مسعود ، راجع تفسير البغوي : ج 3 ص 23 .
(3) قاله ابن عباس ، راجع تفسير الماوردي : ج 3 ص 119 .(*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 269 _
  * (لا معقب لحكمه) * لاراد لحكمه ، والمعقب : الذي يكر على الشئ فيبطله ، وهو جملة في موضع الحال ، كأنه قيل : والله يحكم نافذا حكمه .
  * (وقد مكر الذين من قبلهم) * وصفهم بالمكر ، ثم جعل مكرهم ك‍ ( لامكر ) بالإضافة إلى مكره فقال : * (فلله المكر جميعا) * ، ثم فسر ذلك بقوله : * (يعلم ما تكسب كل نفس وسيعلم الكفر لمن عقبى الدار) * ، لأن من علم ما تكسب كل نفس وأعد لها جزاءها فهو المكر كله ، لأنه يأتيهم من حيث لا يشعرون ، وقرئ : ( الكافر ) (1) والمراد بالكافر : الجنس .
  * (كفي بالله شهيدا) * بما أظهر من المعجزات على نبوتي * (ومن عنده علم الكتب) * والذي عنده علم القرآن وما ألف عليه من النظم المعجز ، وقيل : ومن هو من علماء أهل الكتاب الذين أسلموا ، لأنهم يشهدون بنعته في كتبهم (2) ، وقيل : هو الله عز وجل و * (الكتب) * اللوح المحفوظ (3) ، وقيل : هو علي بن أبي طالب (عليه السلام) (4) .
  الصادق (عليه السلام) : ( إيانا عنى ، وعلي أولنا وأفضلنا وخيرنا بعد النبي (صلى الله عليه وآله) ) (5) .

-------------------
(1) وهي قراءة نافع وابن كثيروأبي عمرو ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 480 .
(2) قاله قتادة وسعيد بن جبير وروي عن ابن عباس ، راجع التبيان : ج 6 ص 267 ، وتفسير القرطبي : ج 9 ص 335 .
(3) قاله الحسن ومجاهد والضحاك ، راجع تفسير الماوردي : ج 3 ص 119 .
(4) روى القرطبي عن عبد الله بن عطاء أنه قال لأبي جعفر (عليه السلام) : إن ناسا زعموا أن الذي عنده علم الكتاب عبد الله بن سلام ، فقال : انما ذلك علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، ثم قال القرطبي : وكذلك قال محمد بن الحنفية ، راجع تفسير القرطبي : ج 9 ص 336 .
(5) الكافي : ج 1 ص 229 ح 6 ، تفسير العياشي : ج 2 ص 220 ح 76 ، وفيهما عن الباقر (عليه السلام) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 271 _
سورة إبراهيم مكية إلا آيتين (1)
  إحدى وخمسون آية بصري ، اثنتان كوفي ، عد الكوفي * (بخلق جديد) * (2) آية .
  في حديث أبي : ( من قرأ سورة إبراهيم أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من عبد الأصنام ومن لم يعبدها ) (3) .
  الصادق (عليه السلام) : ( من قرأ سورة إبراهيم والحجر في ركعتين جميعا في كل جمعة لم يصبه فقر ولا جنون ولا بلوى ) (4) .

-------------------
(1) قال الشيخ الطوسي : قال قتادة : هي مكية إلا آيتين : قوله : * (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله) * الى قوله : * (وبئس القرار) * ، وقال مجاهد : هي مكية وليس فيها ناسخ ولا منسوخ ، وهي اثنان وخمسون آية في الكوفي ، وأربع في المدنيين ، وآية في البصري ، انظر التبيان : ج 6 ص 269 ، وقال الماوردي في تفسيره : ج 3 ص 120 : هي مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وجابر ، وقال ابن عباس وقتادة : إلا آيتين منها مدنية وهي : * (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا) * والتي بعدها ، وقال الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 537 : هي مكية إلا آيتي 28 و 29 فمدنيتان ، وآياتها 52 ، نزلت بعد سورة نوح .
(2) الآية : 19 .
(3) رواه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 568 مرسلا .
(4) تفسير العياشي : ج 2 ص 222 ح 1 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 272 _
بسم الله الرحمن الرحيم

  * (الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ * وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) * * (من الظلمت إلى النور) * من الضلالة إلى الهدى ، ومن الكفر إلى الإيمان * (بإذن ربهم) * بتسهيله وتيسيره ، مستعار من الإذن الذي هو تسهيل للحجاب ، والمراد : مايمنحهم سبحانه من التوفيق والألطاف * (إلى صرا ط العزيز) * بدل من قوله : * (إلى النور) * بتكرير العامل * (الله) * بالجر عطف بيان ل‍ * (العزيز الحميد) * ، لأنه جرى مجرى الأعلام ، لاختصاصه بالمعبود الذي تحق له العبادة ، كما غلب النجم للثريا ، وقرئ بالرفع (1) على ( هو الله) ، و ( الويل) : نقيض الوأل وهو النجاة ، وهو اسم معنى كالهلاك ، إلا أنه لا يشتق منه فعل ، إنما يقال : ( ويلا له ) فينصب نصب المصادر ، ثم يرفع رفعها لإفادة معنى الثبات فيقال : ( ويل له ) كما يقال : سلام عليك ، والمعنى : أنهم يولولون * (من عذاب شديد) * ويضجون منه فيقولون : ( يا ويلاه ) كقوله تعالى : * (دعوا هنالك ثبورا) * (2) .
  * (الذين يستحبون) * مبتدأ خبره * (أولئك في ضلل بعيد) * ، ويجوز أن

-------------------
(1) قرأه نافع وابن عامر والمفضل ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 481 .
(2) الفرقان : 13 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 273 _
  يكون مجرورا صفة ل‍ ( الكافرين ) ومنصوبا على الذم أو مرفوعا على : أعني * (الذين يستحبون) * ، أو : هم * (الذين يستحبون) * ، والاستحباب : استفعال من المحبة ومعناه : الإيثار * (ويبغونها عوجا) * أي : ويطلبون لسبيل الله اعوجاجا ، وأن يدلوا الناس على أنها سبيل ناكبة عن الحق غير مستوية ، والأصل : ( يبغون لها ) فحذف الجار وأوصل الفعل * (في ضلل بعيد) * أي : ضلوا عن طريق الحق ووقعوا دونه بمراحل ، ووصف الضلال بالبعيد مجاز ، وإنما البعد في الحقيقة للضال ، لأنه هو الذي يتباعد عن الطريق ، فهو نحو قولهم : جد جده ، * (إلا بلسان قومه) * أي : بلغة قومه * (ليبين لهم) * أي : ليفقهوا عنه ما يدعوهم إليه * (فيضل الله من يشآء ويهدي من يشآء) * هو مثل قوله : * (فمنكم كافر ومنكم مؤمن) * (1) لأنه سبحانه لا يضل إلا من يعلم أنه لن يؤمن ، ولا يهدي إلا من يعلم أنه يؤمن ، والمراد بالإضلال : التخلية ومنع الألطاف ، والمراد بالهداية : التوفيق واللطف ، فكان ذلك كناية عن الكفر والإيمان .
  * (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ * وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ * وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) *

-------------------
(1) التغابن : 2 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 274 _
  * (أن أخرج) * هي ( أن ) المفسرة ، لأن الإرسال فيه معنى القول ، فكأنه قال : أرسلناه وقلنا له : * (أخرج قومك) * ، ويجوز أن تكون ( أن) الناصبة للفعل والتقدير : بأن أخرج قومك ، ويجوز أن يوصل ( أن ) بفعل الأمر ، لأن الغرض وصلها بما يكون معه في تأويل المصدر وهو الفعل ، والأمر وغيره سواء في الفعلية * (وذكرهم بأييم الله) * أي : وأنذرهم بوقائع الله الواقعة على الأمم قبلهم ، ومنه : ( أيام العرب ) لحروبها وملاحمها ، كيوم بعاث (1) ويوم النسار (2) ويوم الفجار (3) ونحوها ، وعن ابن عباس : هي نعماؤه وبلاؤه (4) * (لكل صبار) * يصبر على بلاء الله * (شكور) * يشكر نعمه .
  * (إذ أنجيكم) * ظرف للنعمة بمعنى الإنعام ، أي : إنعامه * (عليكم) * ذلك الوقت ، ويجوز أن يكون بدلا من * (نعمة الله) * أي : * (اذكروا) * وقت إنجائكم وهو بدل الاشتمال .
  * (وإذ تأذن ربكم) * من جملة ما * (قال موسى لقومه) * أي : واذكروا حين تأذن ربكم ، وتأذن وآذن بمعنى ، مثل توعد وأوعد وتفضل وأفضل ، ولابد في تفعل من زيادة معنى ليس في ( أفعل ) ، كأنه قال : وإذ آذن ربكم إيذانا بليغا

-------------------
(1) وبعاث ـ بضم الباء ـ : موضع في نواحي المدينة على ليلتين منها ، كانت به وقائع بين الأوس والخزرج في الجاهلية ، راجع تفاصيل هذه الوقائع في كتاب أيام العرب في الجاهلية : ص 73 ـ 84 .
(2) النسار ـ بكسر النون ـ : اسم موضع ، وقيل : هي جبال صغار ، وقيل : هو ماء لبني عامر ، وقيل غير ذلك ، كانت عنده وقعة بين الرباب وبين هوازن وسعد بن عمرو بن تميم ، راجع تفصيل هذه الوقعة في أيام العرب قبل الاسلام لأبي عبيدة : ج 2 ص 527 - 542 .
(3) وأيام الفجار عدة ، فأولها مابين كنانة وهوازن أثر حادثة حدثت في سوق عكاظ ، وثانيها مابين قريش وبني عامر في سوق عكاظ أيضا ، وثالثها مابين قريش وكنانة كلها وبين هوازن ، انظر تفاصيلها في أيام العرب قبل الاسلام لأبي عبيدة : ص 503 .
(4) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 540 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 275 _
  ينتفي عنده الشكوك ، والمعنى : وإذ تأذن ربكم فقال : * (لئن شكرتم) * ماخولتم (1) من نعمة الإنجاء وغيرها * (لازيدنكم) * نعمة إلى نعمة * (ولئن كفرتم) * وغمطتم (2) ما أنعمت به عليكم * (إن عذابي لشديد) * لمن كفر نعمتي .
  * (إن تكفروا أنتم و) * الناس جميعهم فمضرة كفرانكم عائدة عليكم ، و * (الله) * غني عن شكركم * (حميد) * مستوجب للحمد بكثرة أنعمه وإن لم يحمده حامد .
  * (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ) * (والذين من بعدهم) * مبتدأ وخبره * (لايعلمهم إلا الله) * وهي جملة اعتراضية ، أو : * (والذين) * في محل جر عطفا على * (قوم نوح) * ، و * (لايعلمهم إلا الله) * اعتراض ، والمعنى : أنهم من الكثرة بحيث لا يعلم عددهم إلا الله، وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال : كذب النسابون (3) ، وقيل : إن بين عدنان (4) وإسماعيل ثلاثين أبا لا يعرفون (5) * (فردوا أيديهم في أفوا ههم) * أي : فعضوا على

-------------------
(1) خوله المال : أعطاه أياه ، (لسان العرب : مادة خول) .
(2) غمط وغمط النعمة يغمطها غمطا : أي بطره وحقره ، (الصحاح : مادة غمط) .
(3) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 542 .
(4) وعدنان هو أحد من تقف عندهم انساب العرب ، والمؤرخون متفقون على أنه من أبناء اسماعيل بن ابراهيم (عليه السلام) ، تقدم تفصيله في ج 1 ص 48 فراجع .
(5) قاله ابن عباس ، راجع الكشاف : ج 2 ص 542 . (*)