على ما وردت به الرواية يوم بدر جالسا في العريش ، ولما تباعد أصحابه عنه اسروا من أسروه من المشركين بغير علمه صلى الله عليه وآله فإن قيل : فما بال النبي صلى الله عليه وآله لم يأمر بقتل الاسارى لما صاروا في يده وان كان خارجا من المعصية وموجب العتاب ، أو ليس لما استشار أصحابه فأشار عليه ابو بكر باستبقائهم وعمر باستيصالهم رجع إلى رأي ابي بكر ، حتى روي أن العتاب كان من اجل ذلك ؟ .
قلنا : أما الوجه في أنه عليه السلام لم يقتلهم فظاهر ، لأنه غير ممتنع أن تكن المصلحة في قتلهم وهم محاربون ، وان يكون القتل أولى من الأسر ، فإذا اسروا تغيرت المصلحة وكان استبقاؤهم أولى ، والنبي صلى الله عليه وآله لم يعمل براي أبي بكر إلا بعد أن وافق ذلك ما نزل به الوحي عليه .
وإذا كان القرآن لا يدل بظاهر ولا فحوى على وقوع معصية منه صلى الله عليه وآله في هذا الباب فالرواية الشاذة لا يعول عليها ولا يلتفت إليها .
وبعد : فلسنا ندري من أي وجه تضاف المعصية إليه صلى الله عليه وآله في هذا الباب ، لأنه لا يخلو من أن يكون أوحى إليه صلى الله عليه وآله في باب الاسارى بأن يقتلهم ، أو لم يوح إليه فيه بشئ ، ووكل ذلك إلى اجتهاده ومشورة أصحابه ، فإن كان الأول فليس يجوز أن يخالف ما أوحي إليه ، ولم يقل احد أيضا في هذا الباب أنه صلى الله عليه وآله خالف النص في باب الاسارى ، وإنما يدعى عليه انه فعل ما كان الصواب عند الله خلافه ، وكيف يكون قتلهم منصوصا عليه بعد الأسر وهو يشاور فيه الأصحاب ويسمع فيه المختلف من الأقوال وليس لأحد أن يقول إذا جاز أن يشاور في قتلهم واستحيائهم ، وعنده نص بالاستحياء ، فهلا جاز أن يشاور وعنده نص في القتل ، وذلك أنه لا يمتنع أن يكون أمر بالمشاورة قبل أن ينص له على أحد الأمرين ، ثم أمر بما وافق إحدى المشورتين فاتبعه .
وهذا لا يمكن المخالف أن يقول مثله ، وان كان لم يوح إليه في باب الاسارى شئ ووكل إلى اجتهاده ومشورة أصحابه ، فما
باله يعاتب وقد فعل ما أداه إليه الاجتهاد والمشاورة ، وأي لوم على من فعل الواجب ولم يخرج عنه ، وهذا يدل على ان من اضاف إليه المعصية قد ضل عن وجه الصواب .
تنزيه سيدنا محمد (ص) عن المعاتبة في أمر المتخلفين :
( مسألة ) : فإن قيل فما وجه قوله تعالى مخاطبا لنبيه صلى الله عليه وآله لما استأذنه قوم في التخلف عن الخروج معه إلى الجهاد فأذن لهم : ( عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ )
(1) أو ليس العفو لا يكون إلا عن الذنب ؟ وقوله ( لِمَ أَذِنتَ ) ظاهر في العتاب لأنه من اخص ألفاظ العتاب ؟ .
( الجواب ) : قلنا أما قوله تعالى ( عَفَا اللّهُ عَنكَ ) فليس يقتضي وقوع معصية ولا غفران عقاب ، ولا يمتنع أن يكون المقصود به التعظيم والملاطفة في المخاطبة ، لان احدنا قد يقول لغيره إذا خاطبه : أرأيت رحمك الله وغفر الله لك ، وهو لا يقصد إلى الاستصفاح له عن عقاب ذنوبه ، بل ربما لم يخطر بباله أن له ذنبا ، وإنما الغرض الإجمالي في المخاطبة واستعمال ما قد صار في العادة علما على تعظيم المخاطب وتوقيره .
وأما قوله تعالى : ( لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ) فظاهره الاستفهام والمراد به التقريع واستخراج ذكر علة اذنه ، وليس بواجب حمل ذلك على العتاب ، لان احدنا قد يقول لغيره ، لم فعلت كذا وكذا .
تارة معاتبا وأخرى مستفهما ، وتارة مقررا . فليس هذه اللفظة خاصة للعتاب والإنكار .
وأكثر ما يقتضيه وغاية ما يمكن أن يدعى فيها أن تكون دالة على انه صلى الله عليه وآله ترك الأولى والأفضل ، وقد بينا أن ترك الأولى ليس بذنب ، وان كان الثواب ينقص معه .
فإن الأنبياء عليهم السلام يجوز أن يتركوا كثيرا من النوافل .
وقد يقول
---------------------------
(1) التوبة : 43 .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 161 _
احدنا لغيره إذا ترك الندب : لم تركت الأفضل ولم عدلت عن الأولى ؟ ولا يقتضي ذلك إنكارا ولا قبيحا .
تنزيه سيدنا محمد (ص) عن الوزر :
( مسألة ) : فإن قيل فما معنى قوله تعالى : ( أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ، وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ ، الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ )
(1) أو ليس هذا صريحا في وقوع المعاصي منه صلى الله عليه وآله ؟ .
( الجواب ) : قلنا أما الوزر في أصل اللغة فهو الثقل ، وإنما سميت الذنوب بأنها أوزارا لأنها تثقل كاسبها وحاملها ، فإذا كان أصل الوزر ما ذكرناه ، فكل شئ أثقل الإنسان وغمه وكده وجهده جاز أن يسمى وزرا ، تشبيها بالوزر الذي هو الثقل الحقيقي .
وليس يمتنع أن يكون الوزر في الآية انما أراد به غمه صلى الله عليه وآله وهمه بما كان عليه قومه من الشرك ، وأنه كان هو وأصحابه بينهم مستضعفا مقهورا ، فكل ذلك مما يتعب الفكر ويكد النفس .
فلما أن أعلى الله كلمته ونشر دعوته وبسط يده خاطبه بهذا الخطاب تذكيرا له بمواقع النعمة عليه ، ليقابله بالشكر والثناء والحمد .
ويقوي هذا التأويل قوله تعالى : ( وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ) وقوله عز وجل : ( فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ) والعسر بالشدائد والغموم أشبه ، وكذلك اليسر بتفريج الكرب وإزالة الهموم والغموم اشبه .
فإن قيل : هذا التأويل يبطله ان هذه السورة مكية نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وهو في الحال الذي ذكرتم انها تغمه من ضعف الكلمة وشدة الخوف من الأعداء ، وقبل أن يعلي الله كلمة المسلمين على المشركين ، فلا وجه لما ذكرتموه .
---------------------------
(1) الشرح 1 ـ 3 .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 162 _
قلنا : عن هذا السؤال جوابان : أحدهما انه تعالى لما بشره بأنه يعلي دينه على الدين كله ويظهره عليه ويشفى صلى الله عليه وآله من أعدائه وغيظه ، وغيظ المؤمنين به ، كان بذلك وضعا عنه ثقل غمه بما كان يلحقه من قومه ، ومطيبا لنفسه ومبدلا عسره يسرا ، لأنه يثق بأن وعد الله تعالى حق ما يخلف ، فامتن الله تعالى عليه بنعمة سبقت الامتنان وتقدمته .
والجواب الآخر : أن يكون اللفظ وان كان ظاهره الماضي ، فالمراد به الاستقبال .
ولهذا نظائر كثيرة في القرآن والاستعمال ، قال الله تعالى : ( وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ ) وقوله تعالى : ( وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ) ، إلى غير ذلك مما شهرته تغني عن ذكره .
تنزيه سيدنا محمد (ص) عن الذنب :
( مسألة ) : فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : ( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ )
(1) أو ليس هذا صريحا في أن له صلى الله عليه وآله ذنوبا وان كانت مغفورة .
( الجواب ) : قلنا أما من نفى عنه صلى الله عليه وآله صغائر الذنوب مضافا إلى كبائرها ، فله عن هذه الآية أجوبة نحن نذكرها ونبين صحيحها من سقيمها .
منها : انه أراد تعالى بإضافة الذنب إليه ذنب أبيه آدم عليه السلام ، وحسنت هذه الإضافة لاتصال القربى ، وعفوه لذلك ، من حيث اقسم آدم على الله تعالى به ، فأبر قسمه ، فهذا المتقدم ، والذنب المتأخر هو ذنب شيعته وشيعة أخيه عليه السلام ، وهذا الجواب يعترضه أن صاحبه نفى عن نبي ذنبا واضافه إلى آخر ، والسؤال عليه فيمن اضافه إليه كالسؤال فيمن نفاه عنه .
---------------------------
(1) الفتح : 2 .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 163 _
ويمكن إذا أردنا نصرة هذا الجواب أن نجعل الذنوب كلها لامته صلى الله عليه وآله ، ويكون ذكر التقدم والتأخر إنما أراد به ما تقدم زمانه وما تأخر ، كما يقول القائل مؤكدا : ( قد غفرت لك ما قدمت وما أخرت وصفحت عن السالف والآنف من ذنوبك ) .
ولأضافه ذنوب أمته إليه وجه في الاستعمال معروف لان القائل قد يقول لمن حضره من بني تميم أو غيرهم من القبائل انتم فعلتم كذا وكذا وقلتم فلانا وان كان الحاضرون ما شهدوا ذلك ولا فعلوه وحسنت الإضافة للاتصال والتسبب ولا سبب اوكد مما بين الرسول صلى الله عليه وآله وأمته فقد يجوز توسعا وتجوزا أن تضاف ذنوبهم إليه ( ومنها ) انه سمى ترك الندب ذنبا وحسن ذلك لأنه صلى الله عليه وآله ممن لا يخالف الأوامر إلا هذا الضرب من الخلاف ولعظم منزلته وقدره فجاز ان يسمي بالذنب منه ما إذا وقع من غيره لم يسم ذنبا وهذا الوجه يضعفه على بعد هذه التسمية انه لا يكون معنى لقوله انني اغفر ذنبك ولا وجه في معنى الغفران يليق بالعدول عن الندب ( عن الذنب ) .
ومنها : ان القول خرج مخرج التعظيم وحسن الخطاب كما قلناه في قوله تعالى : ( عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ) ، وهذا ليس بشئ لان العادة قد جرت فيما يخرج هذا المخرج من الألفاظ أن يجري مجرى الدعاء ، مثل قولهم : غفر الله لك ، وليغفر الله لك ، وما أشبه ذلك .
ولفظ الآية بخلاف هذا لان المغفرة جرت فيها مجرى الجزاء والغرض في الفتح ، وقد كنا ذكرنا في هذه الآية وجها اخترناه وهو أشبه بالظاهر مما تقدم ، وهو أن يكون المراد بقوله ما تقدم من ذنبك الذنوب إليك ، لان الذنب مصدر والمصدر يجوز إضافته إلى الفاعل والمفعول معا ، ألا ترى أنهم يقولون : أعجبني ضرب زيد عمرا إذا أضافوه إلى الفاعل ، وأعجبني ضرب زيد عمرا إذا أضافوه إلى المفعول ، ومعنى المغفرة على هذا التأويل هي الإزالة والفسخ والنسخ لأحكام
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
ـ 164 ـ
أعدائه من المشركين عليه ، وذنوبهم إليه في منعهم إياه عن مكة وصدهم له عن المسجد الحرام .
وهذا التأويل يطابق ظاهر الكلام حتى تكون المغفرة غرضا في الفتح ووجها له .
وإلا فإذا أراد مغفرة ذنوبه لم يكن لقوله : ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا ، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ) معنى معقول ، لان المغفرة للذنوب لا تعلق لها بالفتح ، إذ ليست غرضا فيه .
وأما قوله تعالى : ( مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ) ، فلا يمتنع أن يريد به ما تقدم زمانه من فعلهم القبيح لك ولقومك وما تأخر ، وليس لأحد أن يقول ان سورة الفتح نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله بين مكة والمدينة وقد انصرف من الحديبية .
وقال قوم من المفسرين : ان الفتح أراد به فتح خيبر ، لأنه كان تاليا لتلك الحال ، وقال آخرون : بل أراد به أنا قضينا لك في الحديبية قضاء حسنا .
فكيف يقولون ما لم يقله أحد من أن المراد بالآية فتح مكة ، والسورة قد نزلت قبل ذلك بمدة طويلة ، وذلك ان السورة وان كانت نزلت في الوقت الذي ذكر وهو قبل فتح مكة ، فغير ممتنع ان يريد بقوله تعالى ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا ) فتح مكة ، ويكون ذلك على طريق البشارة له والحكم بأنه سيدخل مكة وينصره الله على اهلها ، ولهذا نظائر في القرآن ، والكلام كثير .
ومما يقوي أن الفتح في السورة أراد به فتح مكة قوله تعالى : ( لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا )
(1) فالفتح القريب ههنا هو فتح خيبر ، وأما حمل الفتح على القضاء الذي قضاه في الحديبية فهو خلاف الظاهر ،
ومقتضى الآية لان الفتح بالإطلاق الظاهر منه
---------------------------
(1) الفتح : 27 .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 165 _
الظفر والنصر ، ويشهد بأن المراد بالآية ما ذكرناه قوله تعالى : ( وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ) .
فإن قيل : ليس يعرف اضافة المصدر إلى المفعول إلا إذا كان المصدر متعديا بنفسه ، مثل قولهم : أعجبني ضرب زيد عمرا ، وإضافة مصدر غير متعد إلى مفعوله غير معروفة .
قلنا : هذا تحكم في اللسان وعلى أهله لأنهم في كتب العربية كلها أطلقوا ان المصدر يضاف إلى الفاعل والمفعول معا ، ولم يستثنوا متعديا من غيره ، ولو كان بينهما فرق لبينوه وفصلوه كما فعلوا في غيره وليس قلة الاستعمال معتبرة في هذا الباب لان الكلام إذا كان له أصل في العربية استعمل عليه ، وان كان قليل الاستعمال .
وبعد فإن ذنبهم ههنا إليه انما هو صدهم له عن المسجد الحرام ومنعهم إياه عن دخوله ، فمعنى الذنب متعد ، وإذا كان معنى المصدر متعديا جاز أن يجري ما يتعدى بلفظه ، فإن من عادتهم ان يحملوا الكلام تارة على معناه وأخرى على لفظه ، ألا ترى إلى قول الشاعر : جئني بمثل بني بدر لقومهم ، أو مثل اخوة منظور بن سيار فاعمل الكلام على المعنى دون اللفظ ، لانه لو أعمله على اللفظ دون المعنى لقال : أو مثل : بالجر ، لكنه لما كان معنى ، جئني احضر ، أو هات قوما مثلهم .
حسن أن يقول أو مثل بالفتح ، وقال الشاعر : درست وغير آيهن مع البلى ، الا رواكد جمرهن هباء ومشجج
(1) اما سوار قذى له ، فبدا وغيب سارة المعزاء فقال : ومشجج بالرفع اعمالا للمعنى ، لانه لما كان معنى قوله الا رواكد أنهن باقيات ثابتات عطف على ذلك المشجج بالرفع .
ولو أجرى
---------------------------
(1) مشجج ـ وتد .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 166 _
الكلام على لفظه لنصب المعطوف به أو أمثله هذا المعنى كثير ، وفيما ذكرناه كفاية بمشيئة الله تعالى .
تنزيه سيدنا محمد (ص) عن المعاتبة في أمر الأعمى :
( مسألة ) : فإن قيل : أليس قد عاتب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله في إعراضه عن ابن ام مكتوم لما جاءه واقبل على غيره بقوله : ( عَبَسَ وَتَوَلَّى ، أَن جَاءهُ الْأَعْمَى ، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى )
(1) ، وهذا أيسر ما فيه أن يكون صغيرا .
( الجواب ) : قلنا : أما ظاهر الآية فغير دال على توجهها إلى النبي صلى الله عليه وآله ولا فيها ما يدل على أنه خطاب له ، بل هي خبر محض لم يصرح بالمخبر عنه ، وفيها ما يدل عند التأمل على ان المعني بها غير النبي صلى الله عليه وآله لأنه وصفه بالعبوس وليس هذا من صفات النبي صلى الله عليه وآله في قرآن ولا خبر مع الأعداء المنابذين ، فضلا عن المؤمنين المسترشدين .
ثم وصفه بأنه يتصدى للأغنياء ويتلهى عن الفقراء ، وهذا مما لا يوصف به نبينا عليه السلام من يعرفه ، فليس هذا مشبها مع أخلاقه الواسعة وتحننه على قومه وتعطفه ، وكيف يقول له وما عليك ألا يزكى وهو صلى الله عليه وآله مبعوث للدعاء والتنبيه ، وكيف لا يكون ذلك عليه ، وكان هذا القول اغراء بترك الحرص على إيمان قومه .
وقد قيل ان هذه السورة نزلت في رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله كان منه هذا الفعل المنعوت فيها ، ونحن وان شككنا في عين من نزلت فيه فلا ينبغي أن نشك إلى أنها لم يعن بها النبي ، وأي تنفير أبلغ من العبوس في وجوه المؤمنين والتلهي عنهم والإقبال على الأغنياء الكافرين والتصدي لهم ، وقد نزه الله تعالى النبي صلى الله عليه وآله عما هو دون هذا في التنفير بكثير .
---------------------------
(1) عبس 1 ـ 4 .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 167 _
تنزيه محمد ( ع ) عن الشرك :
( مسألة ) : فإن قيل : فما معنى قوله تعالى مخاطبا لنبيه : ( أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ )
(1) وكيف يوجه هذا الخطاب إلى من لا يجوز عليه الشرك ولا شي ء من المعاصي .
( الجواب ) : قد قيل في هذه الآية ان الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله والمراد به أمته ، فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : نزل القرآن بإياك اعني واسمعي يا جارة .
ومثل ذلك قوله تعالى ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ )
(2) فدل قوله تعالى فطلقوهن على ان الخطاب توجه إلى غيره .
وجواب آخر : ان هذا خبر يتضمن الوعيد ، وليس يمتنع أن يتوعد الله تعالى على العموم ، وعلى سبيل الخصوص من يعلم أنه لا يقع منه ما تناوله الوعيد ، لكنه لابد من أن يكون مقدورا له وجائزا بمعنى الصحة لا بمعنى الشك ، ولهذا يجعل جميع وعيد القرآن عاما لمن يقع منه ما تناوله الوعيد ، ولمن علم الله تعالى أنه لا يقع منه .
وليس قوله تعالى ( أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) على سبيل التقدير والشرط بأكثر من قوله تعالى : ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ) لان استحالة وجود ثان معه تعالى : إذا لم يمنع من تقدير ذلك ، وبيان حكمه كأولى ان يسوغ تقدير وقوع الشرك الذي هو مقدور لكن ، وبيان حكمه .
والشيعة لها في هذه الآية جواب تنفرد به وهو أن النبي لما نص على أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام بالإمامة في ابتداء الأمر جاءه قوم من قريش فقالوا له : يا رسول الله صلى الله عليه وآله ان الناس قريبوا عهد بالإسلام لا يرضون أن تكون النبوة فيك والإمامة في ابن عمك علي بن أبي طالب ، فلو عدلت به إلى غيره لكان أولى ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله : ما فعلت ذلك برأيي فأتخير فيه ، لكن الله تعالى أمرني به
---------------------------
(1) الزمر : 65 .
(2) الطلاق : 1 .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 168 _
وفرضه علي ، فقالوا له : فإذا لم تفعل ذلك مخافة الخلاف على ربك تعالى فأشرك معه في الخلافة رجلا من قريش تركن الناس إليه ، ليتم لك أمرك ولا يخالف الناس عليك ، فنزلت الآية والمعنى فيها لئن أشركت مع علي في الإمامة غيره ليحبطن عملك ، وعلى هذا التأويل ، فالسؤال قائم لأنه إذا كان قد علم الله تعالى انه صلى الله عليه وآله لا يفعل ذلك ولا يخالف أمره لعصمته ، فما الوجه في الوعيد ؟ فلابد من الرجوع إلى ما ذكرناه .
تنزيه سيدنا محمد ( ع ) عن الذنب :
( مسألة ) : فإن قيل : فما وجه قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )
(1) أو ليس ظاهر هذا الخطاب يتضمن العتاب ؟ والعتاب لا يكون إلا على ذنب كبير أو صغير .
( الجواب ) : قلنا ليس في ظاهر الآية ما يقتضي عتابا وكيف يعاتبه الله تعالى على ما ليس بذنب ، لان تحريم الرجل بعض نسائه لسبب أو لغير سبب ليس بقبيح ولا داخل في جملة الذنوب ، وأكثر ما فيه انه مباح .
ولا يمتنع أن يكون قوله تعالى : ( لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ) خرج مخرج التوجع من حيث يتحمل المشقة في ارضاء زوجاته ، وإن كان ما فعل قبيحا ، ولو أن احدنا أرضى بعض نسائه بتطليق أخرى أو بتحريمها لحسن أن يقال له لم فعلت ذلك وتحملت المشقة فيه ، وان كان ما فعل قبيحا .
ويمكن أيضا إذا سلمنا ان القول يقتضي ظاهره العتاب أن يكون ترك التحريم أفضل من فعله ، فكأنه عدل بالتحريم عن الأولى ، ويحسن أن يقال لمن عدل عن النقل لم لم تفعله ، وكيف عدلت عنه ، والظاهر الذي لا شبهة فيه قد يعدل عنه لدليل ، فلو كان للآية ظاهر يقتضي العتاب لجاز أن يصرفه إلى غيره لقيام الدلالة على انه لا يفعل شيئا من الذنوب ولان القصة التي خرجت الآية عليها لا يقتضي ماله تعلق بالذنب على وجه من الوجوه .
---------------------------
(1) التحريم : 1 .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 169 _
تنزيه محمد ( ع ) عن مراجعة أمر ربه :
( مسألة ) : فإن قيل : فما الوجه في الرواية المشهورة ان النبي صلى الله عليه وآله ليلة المعراج لما خوطب بفرض الصلاة راجع ربه تعالى مرة بعد أخرى حتى رجعت إلى خمس ، وفي الرواية ان موسى عليه السلام هو القائل له ان أمتك لا تطيق هذا .
وكيف ذهب ذلك على النبي صلى الله عليه وآله حتى نبهه موسى ( ع ) ؟ وكيف يجوز المراجعة منه مع علمه بأن العبادة تابعة للمصلحة ؟ وكيف يجاب عن ذلك مع ان المصلحة بخلافه ؟ .
( الجواب ) : قلنا أما هذه الرواية فمن طريق الآحاد التي لا توجب علما ، وهي مع ذلك مضعفة وليس يمتنع لو كانت صحيحة ان تكون المصلحة في الابتداء يقتضي بالعبادة بالخمسين من الصلاة ، فإذا وقعت المراجعة تغيرت المصلحة واقتضت أقل من ذلك حتى ينتهي إلى هذا العدد المستقر ، ويكون النبي صلى الله عليه وآله قد اعلم بذلك ، فراجع طلبا للتخفيف عن أمته والتسهيل ، ونظير ما ذكرناه في تغير المصلحة بالمراجعة وتركها أن فعل المنذور قبل النذر غير واجب ، فإذا تقدم النذر صار واجبا وداخلا في جملة العبادات المفترضات ، وكذلك تسليم المبيع غير واجب ولا داخل في جملة العبادات ، فإذا تقدم عقد البيع وجب وصار مصلحة .
نظائر ذلك في الشرعيات أكثر من أن تحصى ، فأما قول موسى له صلى الله عليه وآله ان أمتك لا تطيق فراجع ، فليس ذلك تنبيها له صلى الله عليه وآله ، وليس يمتنع أن يكون النبي أراد أن يسأل مثل ذلك لو لم يقل له موسى .
ويجوز أن يكون قوله قوى دواعيه في المراجعة التي كانت أبيحت له .
ومن الناس من استبعد هذا الموضوع من حيث يقتضي أن يكون موسى ( ع ) في تلك الحال حيا كاملا ، وقد قبض منذ زمان .
وهذا ليس ببعيد لان الله تعالى قد خبر أن أنبياءه عليهم السلام والصالحين من عباده في الجنان يرزقون ، فما المانع من ان يجمع الله بين نبينا صلى الله عليه وآله وبين موسى .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 170 _
حول استئذان محمد ( ع ) لربه أن يقرأ القرآن على سبعة أحرف :
( مسألة ) : فإن قيل : فما الوجه فيما روي من ان الله تعالى لما أمر نبيه أن يقرأ القرآن على حرف واحد قال له جبرئيل عليه السلام استزده يا محمد ، فسأل الله تعالى حتى أذن له أن يقرأه على سبعة أحرف ؟ .
( الجواب ) : قلنا ان اللام في هذا الخبر يجري مجرى ما ذكرناه في المراجعة عند فرض الصلاة ، وليس يمتنع أن تكون المصلحة تختلف بالمراجعة والسؤال ، وإنما التمس الزيادة في الحروف للتسهيل والتخفيف ، فإن في لاناس من يسهل عليه التفخيم وبعضهم لا يسهل عليه إلا الإمالة ، وكذلك القول في الهمز وترك الهمز ، فإن كان هذا الخبر صحيحا فوجه المراجعة فيه هو طلب التخفيف ورفع المشقة .
في وجه استثناء محمد ( ع ) في قول العباس ما لم يكن يريد أن يستثنيه :
( مسألة ) : فإن قيل : فما الوجه في إجابة النبي صلى الله عليه وآله العباس رضي الله عنه في قوله إلا الاذخر ، إلى سؤاله وإمضاء استثنائه وانتم تعلمون ان التحريم والتحليل انما يتبع المصالح فكيف يستثني بقول العباس ما لم يكن يريد أن يستثنيه ؟ .
( الجواب ) : قلنا : عن هذا جوابان : أحدهما أن يكون النبي صلى الله عليه وآله أراد أن يستثني ما ذكره العباس من الاذخر لو لم يسابقه العباس إليه ، وقد نجد كثيرا من الناس يبتدئ بكلام وفي نيته أن يصله بكلام مخصوص فيسابقه إلى ذلك الكلام بعض حاضريه ، فيظن انه لما وصل كلامه الأول بالثاني لأجل تذكير الحاضر له ولا يكون الأمر كذلك .
والجواب الثاني : أن يكون الله تعالى خير نبيه صلى الله عليه وآله في الاذخر ،
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 171 _
فلما سأله العباس اختار أحد الامرين اللذين خير فيهما ، وكل هذا غير ممتنع .
في وجه قول سيدنا محمد صلى الله عليه وآله عن وضع الرب قدمه في النار :
( مسألة ) : فإن قيل : فما قولكم في الخبر الذي رواه محمد بن جرير الطبري بإسناده عن ابي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله " ان النار تقول هل من مزيد إذا القي فيها أهلها ، حتى يضع الرب تعالى قدمه فيها ، وتقول قط قط فحينئذ تمتلئ وينزوي بعضها إلى بعض ، وقد روي مثل ذلك عن انس بن مالك ؟ .
( الجواب ) : قلنا لا شبهة في أن كل خبر اقتضى ، ما تنفيه أدلة العقول فهو باطل مردود ، إلا أن يكون له تأويل سايغ غير متعسف ، فيجوز أن يكون صحيحا ، ومعناه مطابقا للأدلة .
وقد دلت العقول ومحكم القرآن والصحيح من السنة على ان الله تعالى ليس بذي جوارح ولا يشبه شيئا من المخلوقات ، وكل خبر نافى ما ذكرناه وجب ان يكون إما مردودا أو محمولا على ما يطابق ما ذكرنا من الأدلة ، وخبر القدم يقتضي ظاهره التشبيه المحض ، فكيف يكون مقبولا وقد قال قوم أنه لا يمتنع ان يريد بذكر القدم القوم الذين قدمهم لها ، واخبر أنهم يدخلون إليها ممن استحقها بأعماله .
فأما قول النار فهل من مزيد ؟ فقد قيل معنى ذلك انها صارت بحيث لا موضع فيها للزيادة ، وبحيث لو كانت ممن تقول لقالت قد امتلات وما بقي في مزيد ، واضاف القول إليها على سبيل المجاز كما أضاف الشاعر القول إلى الحوض : امتلأ الحوض فقال فطني ، مهلا رويدا قد ملأت بطني
وقد قال أبو علي الجبائي ان القول الذي هو هل من مزيد ، من قول الخزنة ،
كما يقال : قالت البلدة الفلانية كذا أي قال أهلها
وكما قال .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 172 _
تعالى : ( وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا )
(1) وهذا أيضا غير ممتنع .
في قول محمد ( ع ) يعذب الميت ببكاء الحي عليه :
( مسألة ) : فإن قيل : فما معنى الخبر المروي عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال : ( ان الميت ليعذب ببكاء الحي عليه ) .
وفي رواية أخرى ( ان الميت يعذب في قبره بالنياحة عليه ) .
وروى المغيرة بن شعبة عنه صلى الله عليه وآله انه قال : ( من نيح عليه فإنه يعذب بما يناح عليه ) ؟ .
( الجواب ) : قلنا هذا الخبر منكر الظاهر لأنه يقتضي إضافة الظلم إلى الله تعالى ، وقد نزهت أدلة العقول التي لا يدخلها الاحتمال والاتساع والمجاز الله تعالى عن الظلم وكل قبيح ، وقد نزه الله تعالى نفسه بمحكم القول عن ذلك فقال عزوجل : ( وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى )
(2) .
ولابد من أن نصرف ما ظاهره بخلاف هذه الأدلة إلى ما يطابقها إن أمكن ، أو نرده ونبطله .
وقد روي عن ابن عباس في هذا الخبر أنه قال وهل ابن عمر : انما مر رسول الله صلى الله عليه وآله على قبر يهودي أهله يبكون عليه فقال انهم يبكون عليه وانه ليعذب .
وقد روى إنكار هذا الخبر عن عائشة أيضا ، وأنها قالت لما خبرت بروايته : وهل أبو عبد الرحمن كما وهل يوم قليب بدر ، انما قال ( ع ) ان أهل البيت الميت ليبكون عليه ، وانه ليعذب بجرمه ، فهذا الخبر مردود ومطعون عليه كما ترى ، ومعنى قولهما : وهل : اي ذهب وهمه إلى غير الصواب ، يقال وهلت إلى الشئ أو هل وهلا : إذا ذهب وهمك إليه ، ووهلت عنه أو هل وهلا : إذا نسيته وغلطت فيه ، ووهل الرجل يوهل وهلا : إذا فزع ، والوهل : الفزع ، وموضع وهله في ذكر القليب أنه روي أن النبي صلى الله عليه وآله وقف على قليب بدر فقال : هل و جد تم ما وعد ربكم حقا ثم .
---------------------------
(1) الفجر : 22 .
(2) الأنعام : 164 ـ الإسراء 15 ـ فاطر 18 ، الزمر 7 ـ النجم 38 .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 173 _
قال : إنهم ليسمعون ما أقول ، فأنكر ذلك عليه ، وقيل انما قال عليه السلام : أنهم الآن ليعلمون ان الذي كنت أقول لهم هو الحق ، واستشهد بقوله تعالى : ( إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى ) ، ويمكن في الخبر إن كان صحيحا وجوه من التأويل :
أولها : انه إن وصى موص بأن يناح عليه ففعل ذلك بأمره ، فإنه يعذب بالنياحة ، وليس معنى يعذب بها أنه يؤاخذ بفعل النواح ، وانما معناه أنه يؤاخذ بأمره بها ووصيته بفعلها ، وانما قال صلى الله عليه وآله ذلك لان الجاهلية كانوا يرون البكاء عليهم والنوح ويأمرون به ويؤكدون الوصية بفعله ، وهذا مشهور عنهم .
قال طرفة بن العبد : فان مت فانعيني بما أنا أهله ، وشقي عليه الجيب يا ابنة معبد
وقال بشر بن أبي حازم : فمن يك سائلا عن بيت بشر ، فان له بجنب الردم بابا ثوى في ملحد لابد منه ، كفى بالموت نابا واغترابا رهين بلى وكل فتى سيبلى ، فاذري الدمع وانتحبي انتحابا .
وثانيها : ان العرب كانوا يبكون موتاهم ويذكرون غاراتهم وقتل أعدائهم ، وما كانوا يسلبونه من الأموال ويرونه من الأحوال ، فيعدون ما هو معاص في الحقيقة بعذاب الميت بها وإن كانوا يجعلون ذلك من مفاخره ومناقبه ، فذكر انكم تبكونهم بما يعذبون به .
وثالثها : أن يكون المعنى ان الله تعالى إذا علم الميت ببكاء أهله واعزته عليه تألم لذلك ، فكان عذابا له . والعذاب ليس بجار مجرى العقاب الذي لا يكون إلا على ذنب متقدم ، بل قد يستعمل كثيرا بمعنى الألم والضرر .
ألا ترى ان القائل قد يقول لمن ابتدأه بضرر أو ألم : قد عذبتني بكذا وكذا وآذيتني ، كما يقول أضررت بي وآلمتني وإنما لم يستعمل .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 174 _
العقاب حقيقة في الآلام المبتدئة ، من حيث كان اشتقاق لفظة العقاب من المعاقبة التي لابد من تقدم سبب لها وليس هذا في العذاب .
ورابعها : أن يكون أراد بالميت من حضره الموت ودنا منه ، فقد يسمى بذلك القوة المقاربة على سبيل المجاز ، فكأنه صلى الله عليه وآله أراد أن من حضره الموت يتأذى ببكاء أهله عنده ، ويضعف نفسه ، فيكون ذلك كالعذاب له ، وكل هذا بين بحمد الله ومنه .
في قول سيدنا محمد صلى الله عليه وآله إن قلوب بني آدم كلها بين اصبعين :
( مسألة ) : فإن قيل : فما معنى الخبر المروي عن عبدالله بن عمر أنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول : إن قلوب بني آدم كلها بين اصبعين من اصابع الرحمن يصرفها كيف يشاء ، ثم يقول رسول الله صلى الله عليه وآله عند ذلك : اللهم مصرف القلوب اصرف قلوبنا إلى طاعتك ، والخبر الذي يرويه أنس قال رسول الله : ما من قلب آدمي إلا وهو بين اصبعين من اصابع الله تعالى ، فإذا شاء ان يثبته ثبته واذشاء أن يقلبه قلبه ؟ .
( الجواب ) : قلنا ان لمن تكلم في تأويل هذه الأخبار ولم يدفعها لمنافاتها لأدلة العقول أن يقول أن الاصبع في كلام العرب وان كانت هي الجارحة المخصوصه ، فهي أيضا الأثر الحسن ، يقال لفلان على ماله وابله اصبع حسنة ، اي قيام واثر حسن .
قال الراعي واسمه عبيد الله بن الحصين ويكنى بأبي جندل ، يصف راعيا حسن القيام على ابله :
ضعيف العصى بادي العروق ترى له ، عليها إذا ما اجدب الناس اصبعا
وقال لبيد : من يبسط الله عليه اصبعا ، بالخير والشر بأي أولعا يملا له منه ذنوبا مترعا
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 175 _
وقال الآخر : أكرم نزارا واسقه المشعشا ، فإن فيه خصلات اربعا مجدا وجودا ويدا واصبعا فإن الاصبع في كل ما أوردناه المراد به الاثر الحسن والنعمة ، فيكون المعنى ما من آدمي الا وقلبه بين نعمتين لله تعالى جليلتين .
فإن قيل : فما معنى تثنية النعمتين ونعم الله تعالى على عباده لا تحصى كثرة .
قلنا : يحتمل ان يكون الوجه في ذلك نعم الدنيا ونعم الآخرة ، وثناهما لانهما كالجنسين أو النوعين . وان كان كل قبيل منهما في نفسه ذا عدد كثير .
ويمكن أن يكون الوجه في تسميتهم الأثر الحسن بالاصبع هو من حيث يشار إليه بالاصبع اعجابا وتنبيها عليه ، وهذه عادتهم في تسمية الشئ بما يقع عنده وبما له به علقة وقد قال قوم ان الراعي أراد ان يقول يدا في موضع اصبع ، لان اليد النعمة ، فلم يمكنه ، فعدل عن اليد إلى الاصبع لانها من اليد .
وفي هذه الأخبار وجه آخر وهو أوضح من الوجه الأول وأشبه بمذهب العرب وتصرف ملاحن كلامها ، وهو ان يكون الغرض في ذكر الاصابع الاخبار عن تيسير تصريف القلوب وتقليبها والفعل فيها عليه عزوجل ، ودخول ذلك تحت قدرته ، ألا ترى أنهم يقولون هذا الشئ في خنصري واصبعي وفي يدي وقبضتي .
كل ذلك إذا أرادوا وصفه بالتيسير والتسهيل وارتفاع المشقة فيه والمؤونة وعلى هذا المعنى يتأول المحققون قوله تعالى : ( وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ )
(1) فكأنه صلى الله عليه وآله لما أراد المبالغة في وصفه بالقدرة على تقليب
---------------------------
(1) الزمر : 67 .