القلوب وتصريفها بغير مشقة ولا كلفة ، قال إنها بين اصابعه كناية عن هذا المعنى واختصارا للفظ الطويل يه .
  وقد ذكر قوم في معنى الاصابع على أنها المخلوقات من اللحم والدم استظهارا في الحجة على المخالف وجها آخر ، وهو أنه لا ينكر أن يكون القلب يشتمل عليه جسمان على شكل الاصبعين ، يحركه الله بهما ويقلبه بالفعل فيهما ، ويكون وجه تسميتهما بالاصبعين من حيث كانا على شكلهما .
  والوجه في اضافتهما إلى الله تعالى .
  وان كانت جميع أفعاله تضاف إليه بمعنى الملك والقدرة ، لأنه لا يقدر على الفعل فيهما وتحريكهما منفردين عما جاوزهما غيره تعالى ، وقيل إنهما اصبعان له من حيث اختص بالفعل فيهما على هذا الوجه .
  وهذا التأويل وان كان دون ما تقدمه فالكلام يحتمله ، ولابد من ذكر القوي والضعيف إذا كان في الكلام له ادنى احتمال .

  في قول سيدنا محمد إن الله خلق آدم على صورته :
  ( مسألة ) : فإن قيل فما معنى الخبر المروي عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال : ( ان الله خلق آدم على صورته ) ، أو ليس ظاهر هذا الخبر يقتضي التشبيه وان له تعالى عن ذلك صورة .
  ( الجواب ) : قلنا قد قيل في تأويل هذا الخبر أن الهاء في قوله في صورته ، إذا صح هذا الخبر راجعة إلى آدم ( ع ) دون الله ، فكان المعنى انه تعالى خلقه على الصورة التي قبض عليها ، وأن حاله لم يتغير في الصورة بزيادة ولا نقصان كما تتغير أحوال البشر .
  وذكر وجه ثان : وهو ان تكون الهاء راجعة إلى الله تعالى ، ويكون المعنى انه خلقه على الصورة التي اختارها واجتباها ، لان الشئ قد يضاف على هذا الوجه إلى مختاره ومصطفيه .
  وذكر أيضا وجه ثالث : وهو ان هذا الكلام خرج على سبب معروف لان

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 177 _

  الزهري روي عن الحسن أنه كان يقول : مر رسول الله صلى الله عليه وآله برجل من الأنصار وهو يضرب وجه غلام له ويقول قبح الله وجهك ووجه من تشبهه ، فقال النبي صلى الله عليه وآله بئس ما قلت ، فإن الله خلق آدم على صورة المضروب .
  ويمكن في هذا الخبر وجه رابع : وهو ان يكون المراد ان الله تعالى خلق صورته لينتفي بذلك الشك في أن تأليفه من فعل غيره ، لان التأليف من جنس مقدور البشر ، والجواهر وما شكلها من الأجناس المخصوصة من الاعراض التي ينفرد القديم تعالى بالقدرة عليها ، فيمكن قبل النظر ان يكون الجواهر من فعله ، وتأليفها من فعل غيره .
  ألا ترى انا نرجع في العلم من أن تأليف السماء من فعله تعالى إلى السمع ، لأنه لا دلالة في العقل على ذلك ، لما نرجع في أن تأليف الإنسان من فعله تعالى في الموضوع الذي يستدل به على أنه عالم من حيف ظهر منه الفعل المحكم ، إلى ان يجعل الكلام في أول إنسان خلقه ، لأنه لا يمكن أن يكون مؤلفه سواه إذا كان هو أول الاحياء من المخلوقات ، فكأنه عليه السلام اخبر بهذه الفائدة الجليلة وهو أن جواهر آدم عليه السلام وتأليفه من فعل الله تعالى .
  ويمكن وجه خامس : وهو ان يكون المعنى ان الله تعالى انشأه على هذه الصورة التي شوهد عليها على سبيل الابتداء ، وأنه لم ينتقل إليها ويتدرج كما جرت العادة في البشر ، وكل هذه الوجوه جائزة في معنى الخبر والله تعالى ورسوله أعلم بالمراد .
  في قول سيدنا محمد : سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر :
  ( مسألة ) : فإن قيل : فما معنى الخبر المروي عن النبي صلى الله عليه

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 178 _

  وآله انه قال : ( سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته ) وهذا خبر مشهور لا يمكن تضعيفه ونسبته إلى الشذوذ ؟ .
  ( الجواب ) : قلنا : أما هذا الخبر فمطعون عليه مقدوح في راويه ، فإن راويه قيس بن أبي حازم ، وقد كان خولط في عقله في آخر عمره مع استمراره على رواية الاخبار ، وهذا قدح لا شبهة فيه لان كل خبر مروي عنه لا يعلم تاريخه يجب أن يكون مردودا ، لأنه لا يؤمن أن يكون مما سمع منه في حال الاختلال ، وهذه طريقة في قبول الاخبار وردها ينبغي أن يكون أصلا ومعتبرا فيمن علم منه الخروج ولم يعلم تاريخ ما نقل عنه .
  على أن قيسا لو سلم من هذا القدح كان مطعونا فيه من وجه آخر ، وهو أن قيس بن أبي حازم كان مشهورا بالنصب والمعاداة لأمير المؤمنين صلاة الله وسلامه عليه والانحراف عنه ، وهو الذي قال : رأيت علي بن أبي طالب ( ع ) على منبر الكوفة يقول : انفروا إلى بقية الأحزاب ، فأبغضته حتى اليوم في قلبي ، إلى غير ذلك من تصريحه بالمناصبة والمعاداة ، وهذا قادح لا شك في عدالته ، على ان للخبر وجها صحيحا يجوز أن يكون محمولا عليه إذا صح ، لان الرؤية قد تكون بمعنى العلم ، وهذا ظاهر في اللغة ويدل عليه قوله تعالى :
  ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ) ، وقوله : ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ) ، وقوله تعالى : ( أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ ) .
  وقال الشاعر :
رأيت الله إذ سمى نزارا      وأسكنهم  بمكة  iiقاطنينا

  فيجوز أن يكون معنى الخبر على هذا ( انكم تعلمون ربكم علما ضروريا كما تعلمون القمر ليلة البدر من غير مشقة ولا كد ) نظر .
  وليس لأحد أن يقول ان الرؤية إذا كانت بمعنى العلم تعدت إلى مفعولين لا يجوز الاقتصار على احدهما على مذهب أهل اللسان ، والرؤية بالبصر تتعدى إلى مفعول واحد ، فيجب أن يحمل الخبر مع فقد المفعول الثاني على الرؤية

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 179 _

  بالبصر ، وذلك أن العلم عند أهل اللغة على ضربين : علم يقين ومعرفة ، والضرب الآخر يكون بمعنى الظن والحسبان ، والذي هو بمعنى البصر لا يتعدى إلى اكثر من مفعول واحد ، ولهذا يقولون علمت زيدا بمعنى عرفته وتيقنته ، ولا يأتون بمفعول ثان وإذا كان بمعنى الظن احتاج إلى المفعول الثاني ، وقد قيل ليس يمتنع ان يكون المفعول الثاني في الخبر محذوفا يدل الكلام عليه ، وإن لم يكن مصرحا به .
  فان قيل : يجب على تأويلكم هذا ان يساوى أهل النار اهل الجنة في هذا الحكم الذي هو المعرقة الضرورية بالله تعالى ، لان معارف جميع أهل الآخرة عندكم لا تكون الا اضطرارا ، فإذا ثبت ان الخبر بشارة للمؤمنين دون الكافرين بطل تأويلكم .
  قلنا : البشارة في هذا الخبر تخص المؤمنين على الحقيقة ، لان الخبر بزوال اليسير من الاذى لمن نعيمه خالص صاف يعد بشارة ، ومثل ذلك لا يعد بشارة لمن هو في غاية المكروه ونهاية الالم والعذاب وأيضا فإن علم أهل الجنة بالله ضرورة يزيد في نعيمهم وسرورهم لانهم يعلمون بذلك انه تعالى يقصد بما يفعله لهم من النعيم التعظيم والتبجيل ، وأنه يديم ذلك ولا يقطعه ، وأهل النار إذا علموه تعالى ضرورة علموا قصده إلى اهانتهم والاستخفاف بهم وادامة مكروهم وعذابهم .
  فاختلف العلمان في باب البشارة وان اتفقا في انهما ضروريان : في حديث نفي الملل عن الله تعالى :
  ( مسألة ) : فان قيل فما معنى الخبر الذي رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال ( ان أحب الأعمال إلى الله تعالى ادومها وان قل فعليكم من الأعمال بما تطيقون فان الله لا يمل حتى تملوا ) .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 180 _

  ( الجواب ) : قلنا في تأويل هذا الخبر وجوه كل واحد منها يخرج كلامه صلى الله عليه وآله من حيز الشبهة :
  ( أولها ) انه أراد نفي الملل عنه تعالى ، وأنه لا يمل أبدا ، فعلقه بما لا يقع على سبيل التبعيد كما قال عزوجل ( وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ) (1) ، وكما قال الشاعر :
فانك  سوف تحكم أو iiتباهي      إذا ما شبت أو شاب الغراب

  أراد انك لا تحكم أبدا ، فان قيل ومن أين لكم ان الذي علقه به لا يقع ، حتى حكمتم بأنه أراد نفي الملل على سبيل التأبيد .
  قلنا : معلوم ان الملل لا يشمل البشر في جميع أمورهم وأطوارهم ، وأنهم لا يعرفون من حرص ورغبة وأمل وطمع ، فلهذا جاز ان يعلق ما علم الله تعالى انه لا يكون تمللهم .
  والوجه الثاني : أن يكون المعنى انه تعالى لا يغضب عليكم فيطرحكم ويخليكم من فضله وإحسانه حتى تتركوا العمل له وتعرضوا عن سؤاله والرغبة في حاجاتكم إلى جوده ، فسمى الفعلين مللا وان لم يكونا على الحقيقة كذلك على مذهب العرب في تسميتها الشئ باسم غيره إذا وافق معناه من بعض الوجوه ، قال عدي بن زيد العبادي : ثم اضحوا لعب الدهر بهم ، وكذاك الدهر يودى بالرجال وقال عبيد بن الأبرص الاسدي : سائل بنا حجر بن ام قطام إذ ، ظلت به السمر الذوابل تلعب فنسب اللعب إلى الدهر والقنا تشبيها .

---------------------------
(1) الأعراف : 40 .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 181 _

  وقال ذو الرمة :
وابيض موشى القميص نصبته      على  خصر مقلاة سفيه جديلها
  فسمى اضطراب زمامها سفها ، لان السفه في الأصل هو الطيش وسرعة الاضطراب والحركة ، وانما وصف ناقته بالذكاء والنشاط .
  والوجه الثالث : ان يكون المعنى انه تعالى لا يقطع عنكم خيره ونائله حتى تملوا من سؤاله ، ففعلهم ملل على الحقيقة ، وسمي فعله تعالى مللا وليس على الحقيقة ، وكذلك للازدواج والتشاكل في الصورة ، وان كان المعنى مختلفا .
  ومثله قوله تعالى ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) (1) ( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ) (2) .
  ومثله قول الشاعر :
الا  لا  يجهلن  احد iiعلينا      فنجهل فوق جهل الجاهلينا

  وإنما أراد المجازاة على الجهل ، لان العاقل لا يفخر بالجهل ولا يتمدح به .
  واعلم ان لهذه الأخبار والمضافة إلى النبي صلى الله عليه وآله مما يقتضي ظاهرها تشبيها لله تعالى بخلقه أو جورا له في حكمه أو إبطالا لأصل عقلي ، نظائر كثيرة ، وان كانت لا تجري في الشهرة مجرى ما ذكرناه ، ومتى تقصينا الكلام على جميع ذلك طال الكتاب جدا وخرج عن الغرض المقصود به ، لا بأشرطنا أن لا نتكلم ولا نتأول فيما يضاف إلى الأنبياء عليهم السلام من المعاصي إلا على آية من الكتاب ، أو خبر معلوم أو مشهور يجري في شهرته مجرى المعلوم وفيما ذكرناه بلاغ وكفاية .
  نحن نبتدئ بالكلام على ما يضاف إلى الأئمة عليهم السلام مما ظن ظانون انه قبيح ونرتب ذلك كما رتبناه في الأنبياء عليهم السلام ، ومن الله نستمد حسن المعونة والتوفيق .

---------------------------
(1) البقرة : 194 .
(2) الشورى : 40 .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 182 _

  تنزيه الأئمة (عليهم السلام)
  أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)
  حول نص النبي صلى الله عليه وآله على خلافة علي ( ع ) وعدم منازعته للمتآمرين :
  ( مسألة ) : إن قال قائل إذا كان من مذهبكم يا معشر القائلين بالنص إن النبي صلى الله عليه وآله نص على علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السلام بالخلافة بعده ، وفوض إليه أمر أمته ، فما باله لم ينازع المتآمرين بعد النبي في الأمر الذي وكل إليه وعول في تدبيره عليه أو ليس هذا منه إغفالا لواجب لا يسوغ إغفاله ؟ فإن قلتم انه لم يتمكن من ذلك فهلا اعذر وأبلى واجتهد ، فإنه إذا لم يصل إلى مراده بعد الأعذار والاجتهاد كان معذورا .
  أو ليس هو عليه السلام الذي حارب أهل البصرة وفيهم زوجة رسول الله صلى الله عليه وآله ، وطلحة والزبير ، ومكانهما من الصحبة والاختصاص والتقدم مكانهما ، ولم يحشمه ظواهر هذه الأحوال من كشف القناع في حربهم حتى أتى على نفوس أكثر أهل العسكر ، وهو المحارب لأهل صفين مرة بعد أخرى مع تخاذل أصحابه وتواكل أنصاره ، وانه ( ع ) كان في أكثر مقاماته تلك وموقفه لا يغلب في ظنه الظفر ولا يرجو لضعف من معه النصر ، وكان عليه السلام مع ذلك كله مصمما ماضيا قدما لا

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 183 _

  تأخذه في الله لومة لائم ، وقد وهب نفسه وماله وولده لخالقه تعالى ، ورضي بأن يكون دون الحق اما جريحا أو قتيلا ، فكيف لم يظهر منه بعض هذه الأمور مع من تقدم والحال عندكم واحدة ، بل لو قلنا انها كانت أغلظ وأفحش لأصبنا لأنها كانت مفتاح الشر واس الخلاف وسبب التبديل والتغيير ؟ .
  وبعد ، فكيف لم يقنع بالكف عن التفكير والعدول عن المكاشفة والمجاهرة حتى بايع القوم وحضر مجالسهم ، ودخل في آرائهم وصلى مقتديا بهم ، وأخذ عطيتهم ونكح من سبيهم وانكحهم ، ودخل في الشورى التي هي عندكم مبنية على غير تقوى ، فما الجواب عن جميع ذلك اذكروه ، فإن الأمر فيه مشتبه والخطب ملتبس ؟ .
  ( الجواب ) : قلنا أما الكلام على ما تضمنه هذا السؤال فهو مما يخص الكلام في الإمامة ، وقد استقصيناه في كتابنا المعروف بالشافي في الإمامة ، وبسطنا القول فيه في هذه الأبواب ونظائرها بسطا يزيل الشبهة ويوضح الحجة ، لكنا لا نخلي هذا الكتاب من حيث تعلق غرضه بهذه المواضع من إشارة إلى طريقة الكلام فيها .
  فنقول : قد بينا في صدر هذا الكتاب إن الأئمة عليهم السلام معصومون من كبائر الذنوب وصغائرها ، واعتمدنا في ذلك على دليل عقلي لا يدخله احتمال ولا تأويل بشئ ، فمتى ورد عن احدهم عليهم السلام فعل له ظاهر الذنب ، وجب ان نصرفه عن ظاهره ونحمله على ما يطابق موجب الدليل العقلي فيهم ، كما فعلنا مثل ذلك في متشابه القرآن المقتضي ظاهره ما لا يجوز على الله تعالى ، وما لا يجوز على نبي من أنبيائه عليهم السلام .
  فإذا ثبت إن أمير المؤمنين عليه السلام إمام فقد ثبت بالدليل العقلي أنه معصوم عن الخطأ والزلل ، فلابد من حمل جميع أفعاله على جهات الحسن ونفي القبيح عن كل واحد منها ، وما كان له منها ظاهر يقتضي الذنب علمنا

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 184 _

  في الجملة انه على غير ظاهره ، فإن عرفنا وجهه على التفصيل ذكرناه ، وإلا كفانا في تكليفنا أن نعلم إن الظاهر معدول عنه ، وأنه لابد من وجه فيه يطابق ما تقتضيه الأدلة .
  وهذه الجملة كافية في جميع المشتبهة من أفعال الأئمة عليهم السلام وأقوالهم ، ونحن نزيد عليها فنقول : ان الله تعالى لم يكلف إنكار المنكر سواء اختص بالمنكر أو تعداه إلى غيره الا بشروط معروفة ، أقواها التمكن ، وان لا يغلب في ظن المنكر ان إنكاره يؤدي إلى وقوع ضرر به لا يحتمل مثله ، وأن لا يخاف في انكاره من وقوع ما هو أفحش منه وأقبح من المنكر .
  وهذه شروط قد دلت الأدلة عليها ووافقنا المخالفون لنا في الإمامة فيها وإذا كان ما ذكرناه مراعي في وجوب إنكار المنكر ، فمن أين أن أمير المؤمنين عليه السلام كان متمكنا من المنازعة في حقه والمجادلة ، وما المنكر من أن يكون عليه السلام خائفا متى نازع وحارب من ضرر عظيم يلحقه في نفسه وولده وشيعته ، ثم ما المنكر من أن يكون خاف من الإنكار من ارتداد القوم عن الدين وخروجهم عن الإسلام ونبذهم شعار الشريعة ، فرأى ان الاغضاء أصلح في الدين من حيث كان يجر الإنكار ضررا فيه لا يتلافى .
  فان قيل : فما يمنع من أن يكون إنكار المنكر مشروطا بما ذكرتم ، إلا انه لابد لارتفاع التمكن وخوف الضرر عن الدين والنفس من امارات لايحة ظاهرة يعرفها كل احد ، ولم يكن هناك شئ من امارات الخوف وعلامات وقوع الفساد في الدين ، وعلى هذا فليس تنفعكم الجملة التي ذكرتموها لان التفصيل لا يطابقها .
  قلنا : أول ما نقوله إن الأمرات التي يغلب معها الظن بأن إنكار المنكر يؤدي إلى الضرر ، إنما يعرفها من شهد الحال وحضرها وأثرت في ظنه ، وليست مما يجب أن يعلمها الغائبون عن تلك المشاهدة ، ومن أتى بعد ذلك الحال بالسنين المتطاولة ، وليس من حيث لم تظهر لنا تلك الأمرات ولم

اتنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 185 _

  نحط بها علما ، يجب القطع على من شهد تلك الحال لم تكن له ظاهرة ، فإنا نعلم ان للمشاهد وحضوره مزية في هذا الباب لا يمكن دفعها ، والعادات تقتضي بأن الحال على ما ذكرناه .
  فإنا نجد كثيرا ممن يحضر مجالس الظلمة من الملوك يمتنع من انكار بعض ما يجري بحضرتهم من المناكير ، وربما أنكر ما يجري مجراه في الظاهر ، فإذا سئل عن سبب إغضائه وكفه ذكر أنه خاف لامارة ظهرت له ، ولا يلزمه ان تكون تلك الأمرة ظاهرة لكل أحد ، حتى يطالب بأن يشاركه في الظن والخوف كل من عرفه ، بل ربما كان معه في ذلك المقام من لا يغلب على ظنه مثل ما غلب على ظنه من حيث اختص بالأمرة دونه .
  ثم قد ذكرنا في كتابنا في الإمامة من أسباب الخوف وامارات الضرر التي تناصرت بها الروايات ، ووردت من الجهات المختلفة ما فيه مقنع للمتأمل ، وانه ( ع ) غولط في الأمر وسوبق إليه وانتهزت غرته ، واغتنمت الحال التي كان فيها متشاغلا بتجهيز النبي صلى الله وآله عليه ، وسعى القوم إلى سقيفة بني ساعدة ، وجرى لهم فيها مع الأنصار ما جرى ، وتم لهم عليهم كما اتفق من بشير بن سعد ما تم وظهر ، وانما توجه لهم من قهرهم الأنصار ما توجه ان الإجماع قد انعقد على البيعة ، وأن الرضا وقع من جميع الأمة وروسل أمير المؤمنين عليه السلام .
  ومن تأخر معه من بني هاشم وغيرهم مراسلة من يلزمهم بيعة قد تمت ووجبت لا خيار فيها لاحد ، ولا رأي في التوقف عنها لذي رأي ثم تهددوه على التأخر ، فتارة يقال له لا تقم مقام من يظن فيه الحسد لابن عمه ، إلى ما شاكل ذلك من الأقوال والأفعال التي تقتضي التكفل والتثبت ، وتدل على التصميم والتتميم ، وهذه امارات بل دلالات تدل على ان الضرر في مخالفة القوم شديد .
  وبعد ، فان الذي نذهب إليه من سبب التقية والخوف مما لابد منه ، إذا فرضوا ان مذهبنا في النص صحيح ، لأنه إذا كان النبي صلى الله عليه وآله قد نص على أمير المؤمنين ( ع ) بالإمامة في مقام بعد مقام وبكلام لا يحتمل

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 186 _

  التأويل ، ثم رأى المنصوص عليه أكثر الأمة بعد الوفاة بلا فصل ، اقبلوا يتنازعون الأمر تنازع من لم يعهد إليه بشئ فيه ، ولا يسمع على الإمامة نصا لان المهاجرين قالوا نحن أحق بالأمر ، لان الرسول صلى الله عليه وآله منا ولكيت وكيت ، وقال الأنصار نحن آويناه ونصرناه فمنا أمير ومنكم أمير ، هذا ، والنص لا يذكر فيما بينهم .
  ومعلوم ان الزمان لم يبعد فيتناسوه ومثله لا يتناسى ، فلم يبق إلا أنه عملوا على التصميم ووطنوا نفوسهم على التجليح ، وأنهم لم يستيجزوا الاقدام على خلاف الرسول صلى الله عليه وآله في اجل أوامره وأوثق عهوده ، والتظاهر بالعدول عما أكده وعقده ، إلا لداع قوي وأمر عظيم يخاف فيه من عظيم الضرر ، ويتوقع منه شديد الفتنة .
  فأي طمع يبقى في نزوعهم بوعظ وتذكير ؟
  وكيف يطمع في قبول وعظه والرجوع إلى تبصيره وإرشاده من رآهم لم يتعظوا بوعظ يخرجهم من الضلالة وينقذهم من الجهالة ؟
  وكيف لا يتهمهم على نفسه ودينه من رأى فعلهم بسيدهم وسيد الناس أجمعين فيما عهده وأراده وقصده ؟
  وهل يتمكن عاقل بعد هذا أن يقول أي امارة للخوف ظهرت ؟
  اللهم الا أن يقولوا إن القوم ما خالفوا نصا ولا نبذوا عهدا ، وإن كل ذلك تقول منكم عليهم لا حجة فيه ، ودعوى لا برهان عليها ، فتسقط حينئذ المسألة من أصلها ، ويصير تقديرها إذا كان أمير المؤمنين ( ع ) غير منصوص عليه بالإمامة ولا مغلوب على الخلافة ، فكيف لم يطالب بها ولم ينازع فيها ؟ ومعلوم انه لا مسألة في ان من لم يطالب بما ليس له ، ولم يجعل إليه ، وإنما المسألة في ان لم يطالب بما جعل إليه .
  وإذا فرضنا ان ذلك إليه ، جاء منه كل الذي ذكرناه . ثم يقال لهم إذا سلمتم ان وجوب إنكار المنكر مشروط بما ذكرناه من الشروط ، فلم أنكرتم ان يكون أمير المؤمنين عليه السلام انما أحجم عن المجاهدة بالإنكار ، لان شروط إنكار المنكر لم تتكامل ، إما لأنه كان خائفا على نفسه أو على من يجري مجرى نفسه ، أو مشفقا من وقوع ضرر في الدين هو أعظم مما أنكره ، وما المانع من أن يكون الأمر جرى على ذلك ؟ .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 187 _

  فان قالوا أن امارات الخوف لم تظهر .
  قلنا : وأي امارة للخوف هي أقوى من الاقدام على خلاف رسول الله صلى الله عليه وآله في أوثق عهوده وأقوى عقوده ، والاستبداد بأمر لاحظ لهم فيه .
  وهذه الحال تخرج من أن يكون امارة في ارتفاع الحشمة من القبيح إلى أن يكون دلالة ، وإنما يسوغ أن يقال لا امارة هناك تقتضي الخوف وتدعو إلى سوء الظن إذا فرضنا ان القوم كانوا على أحوال السلامة متضافرين متناصرين متمسكين بأوامر الرسول صلى الله عليه وآله ، جارين على سنته وطريقته .
  فلا يكون لسوء الظن عليهم مجال ولا لخوف من جهتهم طريق .
  فأما إذا فرضنا انهم دفعوا النص الظاهر وخالفوه وعملوا بخلاف مقتضاه ، فالأمر حينئذ منعكس منقلب وحسن الظن لا وجه له ، وسوء الظن هو الواجب اللازم ، فلا ينبغي للمخالفين لنا في هذه المسألة ان يجمعوا بين المتضادات ، ويفرضوا ان القوم دفعوا النص وخالفوا موجبه ، وهم مع ذلك على أحوال السلامة المعهودة منهم التي تقتضي من الظنون بهم أحسنها وأجملها على أنا لا نسلم انه ( ع ) لم يقع منه إنكار على وجه من الوجوه ، فإن الرواية متظافرة بأنه عليه السلام لم يزل يتظلم ويتألم ويشكو أنه مظلوم ومقهور في مقام بعد مقام وخطاب بعد خطاب .
  وقد ذكرنا تفصيل هذه الجملة في كتابنا الشافي في الإمامة وأوردنا طرفا مما روي في هذا الباب ، وبينا ان كلامه ( ع ) في هذا المعنى يترتب في الأحوال بحسب ترتبها في الشدة واللين ، فكان المسموع من كلامه عليه السلام في أيام أبي بكر لا سيما في صدرها ، وعند ابتداء البيعة له ما لم يكن مسموعا في أيام عمر ، ثم صرح عليه السلام وبين وقوى تعريضه في أيام عثمان ، ثم انتهت الحال في أيام تسليم الأمر إليه إلى انه ( ع ) ما كان يخطب خطبة ولا يقف موقفا الا ويتكلم فيه بالألفاظ المختلفة والوجوه المتباينة ، حتى اشترك في معرفة ما في نفسه الولي والعدو والقريب والبعيد .
  وفي بعض ما كان ( ع ) بيديه ويعيده

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 188 _

  أعذار وإفراغ للوسع ، وقيام بما يجب على مثله ممن قل تمكنه وضعف ناصره ، فأما محاربة أهل البصرة ، ثم أهل صفين ، فلا يجري مجرى التظاهر بالإنكار على المتقدمين عليه ( ع ) ، لأنه وجد على هؤلاء أعوانا وأنصارا يكثر عددهم ويرجي النصر والظفر بمثلهم ، لان الشبهة في فعلهم وبغيهم كانت زايلة عن جميع الأماثل وذوي البصائر ، ولم يشتبه أمرهم إلا على اغنام وطغام ولا إعتبار بهم ولا فكر في نصرة مثلهم .
  فتعين الغرض في قتالهم ومجاهدتهم للأسباب التي ذكرناها ، وليس هذا ولا شئ منه موجودا فيمن تقدم ، بل الأمر فيه بالعكس مما ذكرناه لان الجمهور والعدد الجم الكثير ، كانوا على موالاتهم وتعظيمهم وتفضيلهم وتصويبهم في أقوالهم وأفعالهم .
  فبعض للشبهة وبعض للانحراف عن أمير المؤمنين عليه السلام والحبة لخروج الأمر عنه ، وبعض لطلب الدنيا وحطامها ونيل الرياسات فيها .
  فمن جمع بين الحالتين وسوى بين الوقتين كمن جمع بين المتضادين .
  وكيف يقال هذا ويطلب منه ( ع ) من الإنكار على من تقدم مثل ما وقع منه ( ع ) متأخرا في صفين والجمل ، وكل من حارب معه ( ع ) في هذه الحروب ، إلا القليل كانوا قائلين بإمامة المتقدمين عليه ( ع ) ومنهم من يعتقد تفضيلهم على سائر الأمة ، فكيف يستنصر ويتقوى في اظهار الإنكار على من تقدم بقوم هذه صفتهم ، وابن الإنكار على معاوية وطلحة وفلان وفلان من الإنكار على أبي بكر وعمر وعثمان لولا الغفلة والعصبية ، ولو انه ( ع ) يرجو في حرب الجمل وصفين وسائر حروبه ظفرا ، وخاف من ضرر في الدين عظيم هو أعظم مما ينكره ، لما كان إلا ممسكا ومحجما كسنته فيمن تقدم .

  في بيعة علي (ع) للمتآمرين :
  فأما البيعة ، فإن أريد بها الرضا والتسليم ، فلم يبايع أمير المؤمنين عليه السلام القوم بهذا التفسير على وجه من الوجوه ، ومن ادعى ذلك كانت عليه

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) ـ 189 ـ

  الدلالة ، فإنه لا يجدها ، وان أريد بالبيعة الصفقة وإظهار الرضا ، فذلك مما وقع منه ( ع ) ، لكن بعد مطل شديد وتقاعد طويل علمهما الخاص والعام ، وانما دعاه إلى الصفقة وإظهار التسليم ما ذكرناه من الأمور التي بعضها يدعو إلى مثل ذلك .

  في حضوره مجالسهم :
  واما حضور مجالسهم فما كان عليه الصلاة والسلام ممن يتعمدها ويقصدها ، وإنما كان يكثر الجلوس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله فيقع الاجتماع مع القوم هنا ، وذلك ليس بمجلس لهم مخصوص .
  وبعد ، فلو تعمد حضور مجالسهم لينهى عن بعض ما يجري فيها من منكر ، فإن القوم قد كانوا يرجعون إليه في كثير من الأمور ، لجاز ولكان للحضور وجه صحيح له بالدين علقه قوية ، فأما الدخول في آرائهم ، فلم يكن عليه السلام ممن يدخل فيها إلا مرشدا لهم ومنبها على بعض ما شذ عنهم ، والدخول بهذا الشرط واجب .

  في الصلاة خلفهم :
  وأما الصلاة خلفهم ، فقد علمنا ان الصلاة على ضربين : صلاة مقتد مؤتم بإمامه على الحقيقة ، وصلاة مظهر للاقتداء والائتمام وان كان لا ينويها فإن ادعي على أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام انه صلى ناويا للاقتداء ، فيجب أن يدلوا على ذلك ، فإنا لا نسلمه ولا هو الظاهر الذي لا يمكن النزاع فيه ، وان ادعوا صلاة مظهر للاقتداء فذلك مسلم لهم ، لأنه الظاهر .
  إلا انه غير نافع فيما يقصدونه ، ولا يدل على خلاف ما يذهب إليه في أمره ( ع ) ، فلم يبق إلا أن يقال فما العلة في إظهار الاقتداء بمن لا يجوز الاقتداء به ؟ فالعلة في ذلك غلبة القوم على الأمر وتمكنهم من الحل والعقد ، لان الامتناع من إظهار الاقتداء بهم مجاهرة ومنابذة ، وقد قلنا فيما

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 190 _

  يؤدي ذلك إليه في ما فيه كفاية .

  في أخذه أعطيتهم :
  فأما أخذه الأعطية ، فما اخذ عليه السلام إلا حقه ولا سأل على من اخذ ما يستحقه ، اللهم الا أن يقال ان ذلك المال لم يكن وديعة له ( ع ) في أيديهم ولا دينا في ذممهم ، فيتعين حقه ويأخذه كيف شاء وأنى شاء .
  لكن ذلك المال انما يكون حقا له إذا كان الجابي لذلك المال والمستفيد له ممن قد سوغت الشريعة جبايته وغنيمته ، ان كان من غنيمة ، والغاصب ليس له ان يغنم ولا ان يتصرف التصرف المخصوص الذي يفيد المال ، عن ذلك انا نقول : ان تصرف الغاصب لأمر الأمة إذا كان عن قهر وغاية ، وسوغت الحال للأمة الإمساك عن النكير خوفا وتقية يجري في الشرع مجرى تصرف المحق في باب جواز اخذ الأموال التي تفئ على يده ، ونكاح السبي وما شاكل ذلك .
  وان كان هو لذلك الفعل موزورا معاقبا ، وهذا بعينه عليه نص عن ائمتنا عليهم السلام لما سئلوا عن النكاح في دول الظالمين والتصرف في الأموال .

  في نكاح السبي :
  فأما ما ذكر في السؤال من نكاح السبي فقد قلنا في هذا الباب ما فيه كفاية لو اقتصرنا عليه لكنا نزيد في الأمر وضوحا ، بأن نقول ليس المشار بذلك فيه الا إلى الحنفية أم محمد رضي الله عنه ، وقد ذكرنا في كتابنا المعروف بالشافي انه عليه السلام لم يستبحها بالسبي بل نكحها ومهرها ، وقد وردت الرواية من طريق العامة فضلا عن طريق الخاصة بهذا بعينه فان البلاذري (1) روى في كتابه المعروف بتاريخ الأشراف ، عن علي بن المغيرة بن

---------------------------
(1) البلاذري : ( أحمد بن يحيى ) مؤرخ عربي ولد في بغداد ودرس فيها ، واشتهر بالنقل عن الفارسية ، أهم مصنفاته كتاب فتوح البلدان وكتاب أنساب الاشراف ، اعترف له الجميع بصحة الرواية والنقد .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 191 _

  الاثرم وعباس بن هشام الكلبي ، عن هشام عن خراش بن اسمعيل العجلي ، قال أغارت بنو أسد على بني حنيفة فسبوا خولة بنت جعفر وقدموا بها المدينة في أول خلافة أبي بكر ، فباعوها من علي عليه الصلاة والسلام ، وبلغ الخبر قومها فقدموا المدينة على علي عليه السلام فعرفوها واخبروه بموضعها منهم ، فاعتقها ومهرها وتزوجها ، فولدت له محمدا وكناه أبا القاسم .
  قال وهذا هو الثبت لا الخبر الأول ، يعني بذلك خبرا رواه عن المدايني ، انه قال بعث رسول الله صلى الله عليه وآله عليا عليه السلام إلى اليمن ، فأصاب خولة في بني زبيدة وقد ارتدوا مع عمرو بن معد يكرب ، وصارت في سهمه ، وذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله : ان ولدت منك غلاما فسمه بإسمي وكنه بكنيتي ، فولدت له ( ع ) بعد موت فاطمة صلوات الله وسلامه عليها فسماه محمدا وكناه أبا القاسم ، وهذا الخبر إذا كان صحيحا لم يبق سؤال في باب الحنفية .
  فأما انكاحه عليه السلام إياها ، فقد ذكرنا في كتابنا الشافي ، الجواب عن هذا الباب مشروحا ، وبينا انه ( ع ) ما أجاب عمر إلى انكاح بنته إلا بعد توعد وتهدد ومراجعة ومنازعة بعد كلام طويل مأثور ، أشفق معه من شؤون الحال ظهور ما لا يزال يخفيه منها ، وان العباس رحمة الله عليه لما رأى ان الأمر يفضي إلى الوحشة ووقوع الفرقة سأله ( ع ) رد أمرها إليه ففعل ، فزوجها منه .
  وما يجري على هذا الوجه معلوم معروف انه على غير اختيار ولا إيثار ، وبينا في الكتاب الذي ذكرناه انه لا يمتنع أن يبيح الشرع أن يناكح بالإكراه ممن لا يجوز مناكحته مع الاختيار ، لا سيما إذا كان المنكح مظهرا للإسلام والتمسك بسائر الشريعة .
  وبينا أن العقل لا يمنع من مناكحة الكفار على سائر انواع كفرهم ، وانما المرجع فيما يحل من ذلك أو يحرم إلى الشريعة .
  وفعل أمير المؤمنين عليه السلام أقوى حجة في أحكام الشرع ، وبينا الجواب عن الزامهم لنا ، فلو اكره على انكاح اليهود والنصارى لكان

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 192 _

  يجوز ذلك ، وفرقنا بين الأمرين بأن قلنا إن كان السؤال عما في العقل فلا فرق بين الأمرين ، وان كان عما في الشرع فالإجماع يحظر ان تنكح اليهود على كل حال ، وما اجمعوا على حظر نكاح من ظاهره الإسلام وهو على نوع من القبيح لكفر به ، إذا اضطررنا إلى ذلك واكرهنا عليه .
  فإذا قالوا فما الفرق بين كفر اليهودي وكفر من ذكرتم ؟
  قلنا لهم : وأي فرق بين كفر اليهودية في جواز نكاحها عندكم وكفر الوثنية .
  فأما الدخول في الشورى ، فقد بينا في كتابنا المقدم ذكره الكلام فيه مستقصى ، ومن جملته انه عليه السلام لولا الشورى لم يكن ليتمكن من الاحتجاج على القوم بفضائله ومناقبه ، والأخبار الدالة على النص بالإمامة عليه ، وبما ذكرناه في الأمور التي تدل على ان أسبابه إلى الإمامة أقوى من أسبابهم ، وطرقه إلى تناولها اقرب من طرقهم ، ومن كان يصغي لولا الشورى إلى كلامه المستوفى في هذا المعنى .
  وأي حال لولاها لكانت يقتضي ذكر ما ذكره من المقامات والفضائل ، ولو لم يكن في الشورى من الغرض الا هذا وحده لكان كافيا مغنيا .
  وبعد ، فان المدخل له في الشورى هو الحامل له على إظهار البيعة للرجلين ، والرضا بإمامتهما وامضاء عقودهما ، فكيف يخالف في الشورى ويخرج منها وهي عقد من عقود من لم يزل ( ع ) ممضيا في الظاهر لعقوده حافظا لعهوده ، وأول ما كان يقال له انك انما لا تدخل في الشورى لاعتقادك ان الإمامة إليك ، وان اختيار الأمة للإمام بعد الرسول باطل ، وفي هذا ما فيه ، والامتناع من الدخول يعود إليه ، ويحمل عليه ، وقد قال قوم من أصحابنا انه انما دخل فيها تجويز ان ينال الأمر منها ، ومعلوم ان كل سبب ظن معه ، أو جواز الوصول إلى الأمر الذي قد تعين عليه القيام به يلزمه ( ع ) التوصل به الهجرة له ، وهذه الجملة كافية في الجواب عن جميع ما تضمنه السؤال .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 193 _

  عن عدم إفتائه بمذاهبه في أيام المتآمرين :
  ( مسألة ) : فإن قيل : إذا كنتم تروون عنه ( ع ) وتدعون عليه في أحكام الشريعة مذاهب كثيرة لا يعرفها الفقهاء له مذهبا ، وقد كان عليه السلام عندكم يشاهد الأمر يجري بخلافها ، فإلا أفتى بمذاهبه ونبه عليها وارشد إليها ، وليس لكم أن تقولوا انه ( ع ) استعمل التقية كما استعملها فيما تقدم ، لأنه ( ع ) قد خالفهم في مذاهب استبد بها وتفرد بالقول فيها ، مثل قطع السارق من الأصابع ، وبيع أمهات الأولاد ، ومسائل في الحدود ، وغير ذلك مما مذهبه ( ع ) فيه إلى الآن معروف .
  فكيف اتقى في بعض وأمن في آخر ؟ وحكم الجميع واحد في انه خلاف في أحكام شرعية لا يتعلق بإمامة ولا تصحيح نص ولا إبطال اختيار ؟
  ( الجواب ) : قلنا : لم يظهر أمير المؤمنين عليه السلام في أحكام الشريعة خلافا للقوم إلا بحيث كان له موافق وان قل عدده ، أو بحيث علم ان الخلاف لا يؤول إلى فساد ولا يقتضي إلى مجاهرة ولا مظاهرة .
  وهذه حال يعلمها الحاضر بالمشاهدة أو يغلب على ظنه فيها ما لا يعلمه الغائب ولا يظنه ، واستعمال القياس فيما يؤدي إلى الوحشة بين الناس ونفار بعضهم من بعض لا يسوغ ، لانا قد نجد كثيرا من الناس يستوحشون في ان يخالفوا في مذهب من المذاهب غاية الاستيحاش ، وان لم يستوحشوا من الخلاف فيما هو أعظم منه وأجل موقعا ، ويغضبهم في هذا الباب الصغير ولا يغضبهم الكبير ، وهذا انما يكون لعادات جرت وأسباب استحكمت ، ولاعتقادهم ان بعض الأمور وان صغر في ظاهره ، فإنه يؤدي إلى العظائم والكبائر ، أو لاعتقادهم ان الخلاف في بعض الأشياء وان كان في ظاهر الأمر كالخلاف في غيره ، لا يقع الا مع معاند منافس .
  وإذا كان الأمر على ما ذكرناه لم ينكر أن يكون أمير المؤمنين ( ع ) انما لم يظهر في جميع مذاهبه التي خالف فيها القوم إظهارا واحدا ، لأنه ( ع ) علم أو غلب في ظنه ان إظهار ذلك يؤدي من

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 194 _

  المحتمل الضرر في الدين إلى ما لا يؤدي إليه إظهار ما أظهره ، وهذا واضح لمن تدبره .
  وقد دخل في جملة ما ذكرناه الجواب عن قولهم : لم لم يغير الأحكام ويظهر مذاهبه ، وما كان مخبوا في نفسه عند افضاء الأمر إليه وحصول الخلافة في يديه ، فإنه لا تقية على من هو أمير المؤمنين وإمام جميع المسلمين ، لانا قد بينا ان الأمر ما افضى إليه ( ع ) إلا بالاسم دون المعنى ، وقد كان عليه السلام معارضا منازعا مغصصا طول أيام ولايته إلى ان قبضه الله تعالى إلى جنته ، وكيف يأمن في ولايته الخلاف على المتقدمين عليه ( ع ) رجل من تابعه وجمهورهم شيعة اعدائه ( ع ) .
  ومن يرى انهم مضوا على اعدل الأمور وأفضلها ، وأن غاية من يأتي بعدهم ان يتبع آثارهم ويقتفي طرائقهم .
  وما العجب من ترك أمير المؤمنين عليه السلام ما ترك من اظهار بعض مذاهبه التي كان الجمهور يخالفه فيها ، وإنما العجب من اظهار شئ من ذلك مع ما كان عليه من شر الفتنة وخوف الفرقة ، وقد كان ( ع ) يجهر في كل مقام يقومه بما هو عليه من فقد التمكن وتقاعد الأنصار وتخاذل الأعوان ، بما ان ذكرنا قليله طال به الشرح وهو ( ع ) القائل : " والله لو ثنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم ، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم ، وبين أهل الزبور بزبورهم ، وبين أهل الفرقان بفرقانهم ، حتى يظهر كل كتاب من هذه الكتب ويقول يا رب ان عليا قد قضى بقضائك " .
  وهو القائل عليه السلام وقد استأذنه قضاته فقالوا بم نقضي يا أمير المؤمنين فقال ( ع ) : ( اقضوا بما كنتم تقضون حتى يكون الناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي ) يعني ( ع ) من تقدم موته من أصحابه والمخلصين من شيعته الذين قبضهم الله تعالى وهم على احوال التقية والتمسك باطنا بما أوجب الله جل اسمه عليهم التمسك به ، وهذا واضح فيما قصدناه .
  وقد تضمن كلامنا هذا الجواب عن سؤال من يسأل عن السبب في امتناعه عليه السلام من رد فدك إلى يد مستحقها لما أفضى التصرف في الإمامة إليه ( ع ) .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 195 _

  في مسألة التحكيم :
  ( مسألة ) : فان قيل : فما الوجه في تحكيمه عليه السلام أبا موسى الأشعري وعمرو بن العاص ؟ وما العذر في ان حكم في الدين الرجال ، وهذا يدل على شكه في إمامته وحاجته إلى علمه بصحة طريقته ؟ ثم ما الوجه في تحكيمه فاسقين عنده عدوين له .
  أو ليس قد تعرض لذلك ان يخلعا إمامته ويشككا الناس فيه وقد مكنهما من ذلك بأن حكمهما ، وكانا غير متمكنين منه ولا أقوالهما حجة في مثله ؟ ثم ما العذر في تأخره جهاد المرقة الفسقة وتأجيله ذلك مع امكانه واستظهاره وحضور ناصره ؟ ثم ما الوجه في محو اسمه من الكتاب بالإمامة وتنظيره لمعاوية في ذكر نفسه بمجرد الاسم المضاف إلى الأب كما فعل ذلك به ، وانتم تعلمون ان بهذه الأمور ضلت الخوارج مع شدة تخشنها في الدين وتمسكها بعلائقه ووثايقه ؟ .
  ( الجواب ) : قلنا كل أمر ثبت بدليل قاطع غير محتمل فليس يجوز ان نرجع عنه ونتشكك فيه لأجل أمر محتمل ، وقد ثبت إمامة أمير المؤمنين عليه السلام وعصمته وطهارته من الخطأ وبراءته من الذنوب والعيوب بأدلة عقلية وسمعية ، فليس يجوز ان نرجع عن ذلك اجمع ، ولا عن شئ منه ، لما وقع من التحكيم للصواب بظاهره ، وقبل النظر فيه كاحتماله للخطأ ولو كان ظاهره اقرب إلى الخطأ وأدنى إلى مخالفة الصواب ، بل الواجب في ذلك القطع على مطابقة ما ظهر من المحتمل لما ثبت بالدليل ، أو صرف ماله ظاهر عن ظاهره ، والعدول به إلى موافقة مدلول الدلالة التي لا يختلف مدلولها ولا يتطرق عليها التأويل .
  وهذا فعلنا فيما ورد من آي القرآن التي تخالف بظاهرها الأدلة العقلية مما يتعلق به الملحدون أو المجبرة أو المشبهة ، وهذه جملة قد كررنا ذكرها في كتابنا هذا لجلالة موقعها من الحجة ، ولو اقتصرنا في حل هذه الشبهة عليها لكانت مغنية كافية ، كما انها كذلك فيما ذكرناه من الأصول ، لكننا نزيد وضوحا في تفصيلها ولا نقتصر عليها كما لم نفعل ذلك

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 196 _

  فيما صدرنا به هذا الكتاب من الكلام في تنزيه الأنبياء عليهم السلام عن المعاصي .
  فنقول : إن أمير المؤمنين عليه السلام ما حكم مختارا ، بل أحوج إلى التحكيم وألجئ إليه لان أصحابه ( ع ) كانوا من التخاذل والتقاعد والتواكل إلا القليل منهم على ما هو معروف مشهور ، ولما طالت الحرب وكثر القتل وجل الخطب ملوا ذلك وطلبوا مخرجا من مقارعة السيوف ، واتفق من رفع أهل الشام المصاحف والتماسهم الرجوع إليها وإظهارهم الرضا بما فيها ما اتفق ، بالحيلة التي نصبها عدو الله عمرو بن العاص ، والمكيدة التي كادبها لما أحس بالبوار وعلو كلمة أهل الحق ، وأن معاوية وجنده مأخوذون قد علتهم السيوف ودنت منهم الحتوف ، فعند ذلك وجد هؤلاء الاغنام طريقا إلى الفرار وسبيلا إلى وقوف أمر المناجزة .
  ولعل فيهم من دخلت عليه الشبهة لبعده عن الحق وغلط فهمه ، وظن ان الذي دعى إليه أهل الشام من التحكيم وكف الحرب على سبيل البحث عن الحق الاستسلام للحجة لا على وجه المكيدة والخديعة ، فطالبوه عليه السلام بكف الحرب والرضا بما بذله القوم فامتنع ( ع ) من ذلك امتناع عالم بالمكيدة ظاهر على الحيلة ، وصرح لهم بأن ذلك مكر وخداع ، فأبوا ولجوا فأشفق ( ع ) في الامتناع عليهم والخلاف لهم وهم جم عسكره وجمهور أصحابه من فتنة صماء هي اقرب إليه من حرب عدوه ، ولم يأمن ان يعتدى ما بينه وبينهم إلى ان يسلموه إلى عدوه أو يسفكوا دمه ، فأجاب إلى التحكيم على مضض .
  ورد من كان قد اخذ بخناق معاوية وقارب تناوله وأشرف على التمكن منه ، حتى انهم قالوا للاشتر رحمه الله تعالى وقد امتنع من ان يكف عن القتال وقد أحس بالظفر وأيقن بالنصر ، أتحب انك ظفرت ها هنا وأمير المؤمنين عليه السلام بمكانه قد سلم إلى عدوه وتفرق أصحابه عنه .
  وقال لهم أمير المؤمنين عليه السلام عند رفعهم المصاحف اتقوا الله وامضوا على حقكم ، فإن القوم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن وأنا

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 197 _

  اعرف بهم منكم ، قد صحبتهم أطفالا ورجالا فكانوا شر أطفال وشر رجال ، انهم والله ما رفعوا المصاحف ليعملوا بها وانما رفعوها خديعة ودهاء ومكيدة .
  فأجاب ( ع ) إلى التحكيم دفعا للشر القوي بالشر الضعيف ، وتلافيا للضرر الأعظم بتحمل الضرر الأيسر ، وأراد ان يحكم من جهته عبدالله بن العباس رحمة الله عليه فأبوا عليه ولجوا كما لجوا في أصل التحكيم ، وقالوا لابد من يماني مع مضري .
  فقال ( ع ) فضموا الاشتر وهو يماني إلى عمرو ، فقال الأشعث بن قيس : الاشتر هو الذي طرحنا فيما نحن فيه ، واختاروا أبا موسى مقترحين له ( ع ) ملزمين له تحكيمه ، فحكمهما بشرط ان يحكما بكتاب الله تعالى ولا يتجاوزاه ، وانهما متى تعدياه فلا حكم لهما .
  هذا غاية التحرز ونهاية التيقظ ، لانا نعلم انهما لو حكما بما في الكتاب لاصابا الحق ، وعلمنا ان أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام أولى بالأمر ، وانه لا حظ لمعاوية وذويه في شئ منه ، ولما عدلا إلى طلب الدنيا ومكر أحدهما بصاحبه ونبذا الكتاب وحكمه وراء ظهورهما ، خرجا من التحكيم وبطل قولهما وحكمهما ، وهذا بعينه موجود في كلام أمير المؤمنين عليه السلام لما ناظر الخوارج واحتجوا عليه في التحكيم ، وكل ما ذكرناه في هذا الفصل من ذكر الأعذار في التحكيم والوجوه المحسنة له مأخوذة من كلامه عليه السلام ، وقد روي ذلك عنه عليه السلام مفصلا مشروحا .
  فأما تحكيمهما مع علمه بفسقهما فلا سؤال فيه ، إذ كنا قد بينا ان الإكراه وقع على أصل الاختيار وفرعه ، وأنه عليه السلام ألجئ إليه جملة ثم إلى تفصيله ، ولو خلى عليه السلام واختياره ما أجاب إلى التحكيم أصلا ، ولا رفع السيوف عن أعناق القوم ، لكنه أجاب إليه ملجأ كما أجاب إلى ما اختاروه بعينه كذلك .
  وقد صرح ( ع ) بذلك في كلامه حيث يقول : لقد أمسيت أميرا وأصبحت مأمورا ، وكنت أمس ناهيا وأصبحت اليوم منهيا .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 198 _

  وكيف يكون التحكيم منه ( ع ) دالا على الشك ، وهو ( ع ) ناه عنه وغير راض به ومصرح بما فيه من الخديعة ؟ وانما يدل على شك من حمله عليه وقاده إليه ، وانما يقال ان التحكيم يدل على الشك إذا كنا لا نعرف سببه والحامل عليه ، أو كان لا وجه له إلا ما يقتضي الشك .
  فأما إذا كنا قد عرفنا ما اقتضاه وادخل فيه ، وعلمنا انه ( ع ) ما أجاب عليه إلا لدفع الضرر العظيم ، ولان تزول الشبهة عن قلب من ظن به ( ع ) أنه لا يرضى بالكتاب ولا يجيب إلى تحكيمه ، فلا وجه لما ذكروه .
  وقد أجاب ( ع ) عن هذه الشبهة بعينها في مناظرتهم لما قالوا له : أشككت ؟ فقال عليه السلام : أنا أولى بأن لا أشك في ديني أم النبي صلى الله عليه وآله ؟ أو ما قال الله تعالى لرسوله : ( قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (1) .
  واما قول السائل ، فإنه ( ع ) تعرض لخلع إمامته ومكن الفاسقين من ان يحكما عليه بالباطل ، فمعاذ الله ان يكون كذلك ، لانا قد بينا انه ( ع ) انما حكمهما بشرط لو وفيا به وعملا عليه ، لأقرا إمامته واوجبا طاعته ، لكنهما عدلا عنه فبطل حكمهما ، فما مكنهما من خلع إمامته ولا تعرض منهما لذلك .
  ونحن نعلم ان من قلد حاكما أو ولى أميرا ليحكم بالحق ويعمل بالواجب فعدل عما شرط عليه وخالفه ، لا يسوغ القول بأن من ولاه عرضه لباطل ومكنه من العدول عن الواجب ، ولم يلحقه شئ من اللوم بذلك ، بل كان اللوم عائدا على من خالف ما شرط عليه ، فأما تأخيره جهاد الظالمين وتأجيل ما يأتي من استيصالهم ، فقد بينا العذر فيه ، وان أصحابه ( ع ) تخاذلوا وتواكلوا واختلفوا ، وان الحرب بلا أنصار وبغير أعوان لا يمكن ، والمتعرض لها مغرر بنفسه وأصحابه .

---------------------------
(1) القصص : 49 .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 199 _

  فأما عدوله عن التسمية بأمير المؤمنين واقتصاره على التسمية المجردة ، فضرورة لحال دعت إليها .
  وقد سبق إلى مثل ذلك سيد الأولين والآخرين رسول الله صلى الله عليه وآله في عام الحديبية ، وقصته مع سهل بن عمرو ، وأنذره عليه السلام بأنه : ستدعى إلى مثل ذلك وتجيب على مضض . فكان كما أنذر وخبر رسول الله صلى الله عليه وآله . واللوم بلا إشكال زايل عما اقتدى فيه بالرسول صلى الله عليه وآله . وهذه جملة تفصيلها يطول ، وفيها لمن أنصف من نفسه بلاغ وكفاية .

  في أن عليا لم يندم على التحكيم :
  ( مسألة ) : فان قيل فإذا كان عليه السلام من أمر التحكيم على ثقة ويقين فلم روي عنه ( ع ) انه كان يقول بعد التحكيم في مقام بعد آخر : لقد عثرت عثرة لا تنجبر ، سوف اكيس بعدها واستمر واجمع الرأي الشتيت المنتشر أو ليس هذا اذعانا بأن التحكيم جرى على خلاف الصواب ؟ .
  ( الجواب ) : قلنا قد علم كل عاقل قد سمع الأخبار ضرورة ان أمير المؤمنين عليه السلام وأهله وخلصاء شيعته وأصحابه كانوا من أشد الناس إظهارا لوقوع التحكيم من الصواب والسداد موقعه ، وان الذي دعي إليه حسن ، والتدبير أوجبه ، وأنه ( ع ) ما اعترف قط بخطأ فيه ولا أغضى عن الاحتجاج على من شك فيه وضعفه ، كيف والخوارج انما ضلت عنه وعصته وخرجت عليه ، لأجل انها إرادته على الاعتراف بالزلل في التحكيم فامتنع كل امتناع وأبي اشد إباء وقد كانوا يقنعون منه ويعاودون طاعته ونصرته بدون هذا الذي أضافوه إليه ( ع ) من الإقرار بالخطأ وإظهار الندم .
  وكيف يمتنع من شئ ويعترف بأكثر منه ، ويغصب من جزء ويجيب إلى كل هذا مما لا يظن به احد ممن يعرفه حق معرفته ، وهذا الخبر شاذ ضعيف ، فإما ان يكون باطلا

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 200 _

  موضوعا أو يكون الغرض فيه غير ما ظنه القوم من الاعتراف بالخطأ في التحكيم .
  فقد روي عنه عليه السلام معنى هذا الخبر وتفسير مراده منه ، ونقل من طرق معروفة موجودة في كتب أهل السير ، انه عليه السلام لما سئل عن مراده بهذا الكلام ، قال كتب إلى محمد بن أبي بكر بأن اكتب له كتابا في القضاء يعمل عليه ، فكتبت له ذلك وانفذته إليه ، فاعترضه معاوية فأخذه ، فأسف ( ع ) على ظفر عدوه بذلك ، وأشفق من أن يعمل بما فيه من الأحكام ، وتوهم ضعفة أصحابه ان ذلك من علمه ومن عنده ، فتقوى الشبهة به عليهم .
  وهذا وجه صحيح يقتضي التأسف والتندم ، وليس في الخبر المتضمن للشعر ما يقتضي ان تندمه كان على التحكيم دون غيره . فإذا جاءت رواية بتفسير ذلك عنه ( ع ) ، كان الأخذ بها أولى .

  في أن قتله للخوارج كان بعهد من رسول الله :
  ( مسألة ) : فإن قيل فما الوجه فيما فعله أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام عند حربه للخوارج يوم النهروان من رفعه رأسه إلى السماء ناظرا إليها تارة والى الأرض أخرى وقوله ( ع ) : والله ما كذبت ولا كذبت ، فلما قتلهم وفرغ من الحرب ، قال له ابنه الحسن ( ع ) : يا أمير المؤمنين أكان رسول الله صلى الله عليه وآله تقدم إليك في هؤلاء بشئ ؟ ، قال : لا ولكن أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله بكل حق ، ومن الحق أن أقاتل المارقين والناكثين والقاسطين ، أو ليس قد تعلق بهذا النظام في كتابه المعروف بالنكت ، وقال هذا توهيم منه ( ع ) لأصحابه أن رسول الله قد تقدم إليه في أن الخوارج سيخالفوه ويقتلهم ، إذ يقول والله ما كذبت ولا كذبت .
  ( الجواب ) : إنا لا ندري كيف ذهب على النظام كذب هذه الرواية ، يعني التضمنة لقوله ( ع ) انه لم يتقدم الرسول إليه في ذلك بشئ ، إن كان النظام رواها ونقلها ، أم كيف استجاز ان يضيفها إليه ( ع ) ان كان تخرصها ؟ وكيف ظن ان مثل ذلك يخفى على احد مع ظهور الحال وتواتر الروايات عنه