قلنا : ليس الأمر على ما ظنه هذا السائل ، لأن الهم في هذه الآية متعلق بما لا يصح أن
يتعلق به العزم والإرادة على الحقيقة ، لأنه تعالى قال : ( ولقد همت به وهم بها )
فتعلق الهم في ظاهر الكلام بذواتهما ، والذات الموجودة الباقية لا يصح أن تراد ويعزم عليها
، فلا بد من تقدير أمر محذوف يتعلق العزم به مما يرجع إليهما ويختصان به ورجوع الضرب
والدفع إليهما كرجوع ركوب الفاحشة فلا ظاهر للكلام يقتضي خلاف ما ذكرناه ، ألا ترى أن
القائل إذا قال : قد هممت بفلان فظاهر الكلام يقتضي تعلق عزمه وهمه إلى أمر يرجع إلى
فلان ، وليس بعض الأفعال بذلك أولى من بعض ، فقد يجوز أن يريد أنه هم بقصده أو
بإكرامه أو بإهانته أو غير ذلك من ضروب الأفعال ، على أنه لو كان للكلام ظاهر يقتضي
خلاف ما ذكرناه ، وإن كنا قد بينا أن الأمر بخلاف ذلك لجاز أن نعدل عنه ونحمله على
خلاف الظاهر ، للدليل العقلي الدال على تنزيه الأنبياء عليهم السلام عن القبائح .
فإن قيل : الكلام في قوله تعالى : ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ) خرج مخرجا واحدا .
فلم جعلتم همها به متعلقا بالقبح ؟ وهمه بها متعلقا بالضرب والدفع على ما ذكرتم ؟
قلنا : أما الظاهر ، فلا يدل الأمر الذي تعلق به الهم والعزم منهما جميعا ، وإنما أثبتنا همها
به متعلقا بالقبيح لشهادة الكتاب ، والآثار بذلك .
وهى ممن يجوز عليها فعل القبيح ، ولم يؤمن دليل ذلك من جوازه عليها كما أمن ذلك فيه (
ع ) ، والموضع إلى يشهد بذلك من الكتاب قوله تعالى : ( وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ
امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ )
َّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ )
(1) وفي موضع آخر : ( قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي
لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ )
(2).
والآثار واردة بإطباق
مفسري القرآن ومتأوليه ، على أنها همت بالمعصية والفاحشة ، وأما هو عليه السلام فقد تقدم
من الأدلة العقلية ما يدل على أنه لا يجوز أن يفعل القبيح ولا يعزم عليه .
وقد استقصينا ذلك في صدر هذا الكتاب .
فأما ما يدل من القرآن ، على أنه عليه السلام ما هم بالفاحشة ولا عزم عليها فمواضع كثيرة
منها قوله تعالى : ( كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء )
(3) وقوله تعالى
( ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ )
(4) ولو كان الأمر كما قال الجهال من
جلوسه منها مجلس الخائن وانتهائه إلى حل السراويل وحوشي من ذلك ، لم يكن السوء
والفحشاء منصرفين عنه ، ولكان خائنا بالغيب ، وقوله تعالى حاكيا عنها : ( وَلَقَدْ
رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ )
(5)
وفي موضع آخر : ( أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ) وقول العزيز لما رأى
القميص قد من دبر ( إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ )
(6) فنسب الكيد إلى
المرأة دونه ، وقوله تعالى حاكيا عن زوجها لما وقف على أن الذنب منها وبراءة يوسف (
ع ) منه : ( يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ )
(7) وعلى مذهبهم الفاسد أن كل واحد منهما مخطئ فيجب أن يستغفر فلم اختصت
بالاستغفار دونه ، وقوله تعالى حاكيا عنه : ( رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ
وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ، فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ
---------------------------
(1) يوسف الآية : 51 .
(2) يوسف الآية : 32 .
(3) يوسف : 24 .
(4) يوسف : 52 .
(5) يوسف : 32 .
(6) يوسف : 28 .
(7) يوسف : 29 .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 79 _
فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )
(1) فالاستجابة تؤذن ببراءته من كل
سوء ، وتنبئ أنه لو فعل ما ذكروه لكان قد يصرف عنه كيدهن .
وقوله تعالى : ( قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ )
(2) والعزم على
المعصية من أكبر السوء ، وقوله تعالى حاكيا عن الملك : ( ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي
فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ )
(3) ولا يقال ذلك فيمن فعل ما أدعوه
عليه .
فإن قيل : فأي معنى لقول يوسف : ( وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ
مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ )
(4) .
قلنا : إنما أراد الدعاء والمنازعة والشهوة ولم يرد العزم على المعصية ، وهو لا يبرئ
نفسه مما لا تعرى منه طباع البشر .
وفي ذلك جواب آخر اعتمده أبو علي الجبائي
واختاره ، وإن كان قد سبق إليه جماعة من أهل التأويل وذكروه ، وهو أن هذا الكلام الذي
هو ( وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء ) إنما هو من كلام المرأة لا من كلام
يوسف عليه السلام .
واستشهدوا على صحة هذا التأويل بأنه منسوق على الكلام المحكي عن المرأة بلا شك .
ألا ترى أنه تعالى قال : ( قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ
(5) أَنَاْ
رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ، ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ
الْخَائِنِينَ ، وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ )
(6) فنسق الكلام على
كلام المرأة وعلى هذا التأويل يكون التبرؤ من الخيانة الذي هو ذلك ( لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ
بِالْغَيْبِ ) من كلام المرأة لا من كلام يوسف ( ع ) ويكون المكنى عنه في قولها (
أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ) هو
---------------------------
(1) يوسف : 33 ـ 34 .
(2) يوسف : 51 .
(3) يوسف : 54 .
(4) يوسف : 53 .
(5) حصحص الحق : بأن بعد كتمانه .
(6) يوسف الآية : 51 ـ 53 .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 80 _
يوسف ( ع ) دون زوجها ، لأن زوجها قد خانته في الحقيقة بالغيب ، وإنما أرادت أني
لم أخن يوسف ( ع ) وهو غائب في السجن ، ولم أقل فيه لما سئلت عنه وعن قصتي
معه إلا الحق ، ومن جعل ذلك من كلام يوسف ( ع ) جعله محمولا على إني لم أخن
العزيز في زوجته بالغيب ، وهذا الجواب كأنه أشبه بالظاهر ، لأن الكلام معه لا ينقطع عن
اتساقه وانتظامه .
فإن قيل : فأي معنى لسجنه إذا كان عند القوم متبرئا من المعصية متنزها عن الخيانة .
قلنا : قد قيل إن العلة في ذلك الستر على المرأة والتمويه والكتمان لأمرها حتى لا تفتضح
وينكشف أمرها لكل أحد ، والذي يشهد بذلك قوله تعالى : ( ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ
الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ )
(1)
وجواب آخر في الآية على أن الهم فيها هو العزم ، وهو أن يحمل الكلام على التقديم
والتأخير ، ويكون تلخيصه " ولقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها " ويجري
ذلك مجرى قولهم : قد كنت هلكت لولا أن تداركتك ، وقتلت لولا أني قد خلصتك .
والمعنى لولا تداركي لهلكت ولولا تخليصي لقتلت ، وإن لم يكن وقع في هلاك ولا قتل .
قال الشاعر :
ولا يدعنى قومي صريخا لحرة لئن كنت مقتولا ويسلم iiعامر |
وقال الآخر :
فلا يدعنى قومي ليوم iiكريهة لئن لم اعجل طعنه أو اعجل فقدم جواب |
لئن في البيتين جميعا ، وقد استبعد قوم تقديم جواب لولا عليها ، وقالوا لو جاز ذلك لجاز قولهم ، قام زيد لولا عمرو
، وقصدتك لولا بكر ،
وقد بينا بما أوردناه من الأمثلة والشواهد جواز تقديم جواب لولا ، وأن القائل قد يقول قد
كنت قمت لولا كذا وكذا ، وقد كنت قصدتك لولا أن
---------------------------
(1) يوسف الآية : 35 .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_81 _
صدني فلان ، وإن لم يقع قيام ولا قصد . وهذا هو الذي يشبه الآية دون ما ذكروه من
المثال .
وبعد ، فإن في الكلام شرطا وهو قوله تعالى : ( لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ )
، فكيف يحمل على الإطلاق مع حصول الشرط ؟ فليس لهم أن يجعلوا جواب لولا محذوفا ،
لأن جعل جوابها موجودا أولى ، وليس تقديم جواب لولا بأبعد من حذفه جملة من الكلام .
وإذا جاز عندهم الحذف لئلا يلزم تقديم الجواب جاز لغيرهم تقديم الجواب حتى لئن لا يلزم
الحذف .
فإن قيل : فما البرهان الذي رآه يوسف عليه السلام حتى انصرف لأجله عن المعصية ،
وهل يصح أن يكون البرهان ما روي من أن الله تعالى أراه صورة أبيه يعقوب ( ع )
عاضا على إصبعه متوعدا له على مقاربة المعصية ، أو يكون ما روي من أن الملائكة نادته
بالنهي والزجر في الحال فانزجر .
قلنا : ليس يجوز أن يكون البرهان الذي رآه فانزجر به عن المعصية ما ظنه العامة من
الأمرين اللذين ذكرناهما ، لأن ذلك يفضي إلى الإلجاء وينافي التكليف ويضاد المحنة ، ولو
كان الأمر على ما ظنوه لما كان يوسف عليه السلام يستحق بتنزيهه عما دعته إليه المرأة من
المعصية مدحا ولا ثوابا ، وهذا من أقبح القول فيه ( ع ) ، لأن الله تعالى قد مدحه
بالامتناع عن المعصية وأثنى عليه بذلك فقال تعالى : ( كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ
وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) ، فأما البرهان ، فيحتمل أن يكون لطفا لطف الله
تعالى به في تلك الحال أو قبلها ، فاختار عنده الامتناع من المعاصي والتنزه عنها ، وهو
الذي يقتضي كونه معصوما لأن العصمة هي ما اختير ( ما اختار ) عنده من الألطاف ،
التنزه عن القيح والامتناع من فعله .
ويجوز أن يكون معنى الرؤية ههنا بمعنى العلم ، كما يجوز أن يكون بمعنى الادراك ، لأن
كلا الوجهين يحتمله القول .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 82 _
وذكر آخرون : إن البرهان ههنا إنما هو دلالة الله تعالى ليوسف ( ع ) على تحريم
ذلك الفعل ، وعلى أن من فعله استحق العقاب لأن ذلك أيضا صارف عن الفعل ومقو لدواعي
الامتناع منه وهذا أيضا جايز .
تنزيه يوسف عن محبة المعصية :
( مسألة ) : فإن قيل : كيف يجوز أن يقول يوسف ( ع ) : ( رَبِّ
السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ) ، ونحن نعلم أن سجنهم له معصية ومحنة ، كما أن ما
دعوه إليه معصية ، ومحبة المعصية عند كم لا تكون إلا قبيحة .
( الجواب ) : قلنا : في تأويل هذه الآية جوابان : أحدهما : إنه أراد بقوله (
أَحَبُّ إِلَيَّ ) أخف علي وأسهل ، ولم يرد المحبة التي هي الإرادة على الحقيقة .
وهذا يجري مجرى أن يخير أحدنا بين الفعلين ينزلان به ويكرههما ويشقان
(1)
عليه ، فيقول في الجواب كذا أحب إلي ، وإنما يريد ما ذكرناه من السهولة والخفة .
والوجه الآخر : إنه أراد أن توطيني نفسي وتصبيري لها على السجن أحب إلي من مواقعة
المعصية .
فإن قيل : هذا خلاف الظاهر لأنه مطلق وقد أضمرتم فيه .
قلنا : لا بد من مخالفة الظاهر ، لأن السجن نفسه لا يجوز أن يكون مرادا ليوسف ( ع ) ، وكيف يريده وإنما السجن البنيان المخصوص ، وإنما يكون الكلام ظاهره يخالف ما
قلناه ، إذا قرأ : رب السجن ( بفتح السين ) وإن كانت هذه القراءة أيضا محتملة
للمعنى الذي ذكرناه ، فكأنه أراد أن سجني نفسي عن المعصية أحب إلي من مواقعتها ،
فرجع معنى السجن إلى
---------------------------
(1) ويشقان : بمعنى يثقلان .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 83 _
فعله دون أفعالهم ، وإذا كان الأمر على ما ذكرناه ، فليس للمخالف أن يضمر في الكلام أن
كوني في السجن وجلوسي فيه أحب إلي ، بأولى ممن أضمر ما ذكرنا ، لأن كلا الأمرين
يعود إلى السجن ويتعلق به .
فإن قيل : كيف يقول السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وهو لا يحب ما دعوه إليه على
وجه من الوجوه ، ومن شأن هذه اللفظة أن تستعمل بين شيئين مشتركين في معناها .
قلنا : قد تستعمل هذه اللفظة فيما لا اشتراك فيه ، ألا ترى أن من خير بين ما يكرهه وما
يحبه ساغ له أن يقول : هذا أحب إلي من هذا ، وإن يخير هذا أحب إلي من هذا ، إذا كان
في محبته ، وإنما سوغ ذلك على أحد الوجهين دون الآخر ، لأن المخير بين الشيئين في
الأصل لا يخير بينهما إلا وهما مرادان له أو مما يصح أن يريدهما .
فموضوع التخيير يقتضي ذلك ، وإن حصل فيما يخالف أصل موضوعه ، ومن قال وقد خير
بين شيئين لا يحب أحدهما : هذا أحب إلي ، إنما يكون مجيبا بما يقتضيه أصل الموضوع
في التخيير ، ويقارب ذلك قوله تعالى ( قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ )
(1)
ونحن نعلم أنه لا خير في العقاب ، وإنما حسن القول لوقوعه التقريع والتوبيخ على اختيار
المعاصي على الطاعات .
وأنهم ما أثروها إلا لاعتقادهم أن فيها خيرا ونفعا ، فقيل أذلك خير على ما تظنوه
وتعتقدونه أم كذا وكذا ، وقد قال قوم في قوله تعالى : ( أَذَلِكَ خَيْرٌ ) : أنه إنما
حسن لاشتراك الحالتين في باب المنزلة ، وإن لم يشتركا في الخير والنفع كما قال تعالى :
( خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا )
(2) ومثل هذا المعنى يتأتى في قوله : رب
السجن أحب إلي ، لأن الأمرين يعني : المعصية ودخول السجن
---------------------------
(1) الفرقان الآية : 15 .
(2) الفرقان : 24 .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 84 _
مشتركان في أن لكل منها داعيا وعليه باعثا ، وإن لم يكن مشتركا في تناول المحبة ، فجعل
اشتراكهما في دواعي المحبة اشتراكا في المحبة نفسها ، وأجرى اللفظ على ذلك .
فإن قيل : كيف يقول وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن واكن من الجاهلين ؟ وعندكم
أن امتناع القبيح منه ( ع ) ليس مشروط بارتفاع الكيد عنه بل هو ممتنع منه وإن وقع
الكيد .
قلنا أنما أراد يوسف ( ع ) إنك متى لم تلطف بي لما تدعوني إلى مجانبة الفاحشة
وتثبتني على تركها صبوت ، وهذا منه انقطاع إلى الله تعالى وتسليم لأمره ، وأنه لولا معونته
ولطفه ما نجي من الكيد ، والكلام وإن تعلق في الظاهر بالكيد نفسه فقال ( ع ) ( وَإِلاَّ
تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ ) فالمراد به إلا تصرف عني ضرر كيدهن لأنهن إنما أجرين بالكيد
إلى مساعدته لهن على المعصية ، فإذا عصم منها ولطف له في الانصراف عنها كان الكيد
مصروفا عنه من حيث لم يقع ضرره ، وما أجري به إليه ، ولهذا يقال لمن أجرى بكلامه إلى
غرض لم يقع ما قلت شيئا ، ولمن فعل ما لا تأثير له : ما فعلت شيئا ، وهذا بين
والحمد الله تعالى .
تنزيه يوسف ( ع ) عن التعويل على غير الله :
( مسألة ) : فإن قيل : كيف يجوز على يوسف عليه السلام وهو نبي مرسل أن
يعول في إخراجه من السجن على غير الله تعالى ويتخذ سواه وكيلا في ذلك ، في قوله للذي
كان معه : ( اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ ) حتى وردت الروايات إن سبب طول حبسه ( ع )
إنما كان لأنه عول على غير الله تعالى ؟ .
( الجواب ) : قلنا : إن سجنه ( ع ) إذا كان قبيحا ومنكرا فعليه أن يتوصل
إلى إزالته بكل وجه وسبب ، ويتشبث إليه بكل ما يظن أنه يزيله عنه ، ويجمع فيه بين
الأسباب المختلفة ، فلا يمتنع على هذا أن يضم إلى دعائه
اتنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 85 _
الله تعالى ورغبته إليه في خلاصه من السجن أن يقول لبعض من يظن أنه سيؤدي قوله :
( أذكرني ونبه على خلاصي ) وإنما القبيح أن يدع التوكل ويقتصر على غيره فإما أن
يجمع بين التوكل والأخذ بالحزم فهو الصواب الذي يقتضيه الدين والعقل ، ويمكن أيضا أن
يكون الله تعالى أوحى إليه بذلك وأمره بأن يقول للرجل ما قاله .
تنزيه يوسف عن إلحاق الأذى بأبيه :
( مسألة ) : فإن قيل : فما الوجه في طلب يوسف ( ع ) أخاه من إخوته ثم
حبسه له عن الرجوع إلى أبيه مع علمه بما يلحقه عليه من الحزن ، وهل هذا إلا إضرارا به
وبأبيه ؟ .
( الجواب ) : قلنا : الوجه في ذلك ظاهر لأن يوسف ( ع ) لم يفعل ذلك إلا
بوحي من الله إليه ، وذلك امتحان منه لنبيه يعقوب عليه السلام وابتلاء لصبره ، وتعريض
للعالي من منزلة الثواب ، ونظير لك امتحانه له ( ع ) بأن صرف عنه خبر يوسف (
ع ) طول تلك المدة حتى ذهب بالبكاء عليه ، وإنما أمرهم يوسف ( ع ) بأن يلطفوا
بأبيهم في إرساله من غير أن يكذبوه ويخدعوه .
فإن قيل : أليس قد قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون ، والمراودة هي الخداع والمكر .
قلنا : ليس المراودة ما ظننتم ، بل هي التلطف والتسبب والاحتيال ، وقد يكون ذلك من
جهة الصدق والكذب جميعا ، فإنما أمرهم بفعله على أحسن الوجوه فإن خالفوه فلا لوم إلا
عليهم .
تنزيه يوسف عن الكذب وتهمة إخوته :
( مسألة ) : فإن قيل : فما معنى جعل السقاية في رحل أخيه وذلك
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 86 _
تعريض منه لأخيه بالتهمة ، ثم إن أذن مؤذنه ونادى بأنهم سارقون ولم يسرقوا على الحقيقة ؟ .
( الجواب ) : قلنا : أما جعله السقاية في رحل أخيه ، فالغرض فيه التسبب إلى
احتباس أخيه عنده ، ويجوز أن يكون ذلك بأمر الله تعالى ، وقد روي أنه ( ع ) أعلم
أخاه بذلك ليجعله طريقا إلى التمسك به ، فقد خرج على هذا القول من أن يكون مدخلا على
أخيه غما وترويعا بما جعله من السقاية في رحله ، وليس بمعرض له للتهمة بالسرقة ، لأن
وجود السقاية في رحله يحتمل وجوها كثيرة غير السرقة ، وليس يجب صرفه إليها إلا بدليل .
وعلى من صرف ذلك إلى السرقة من غير طريق اللوم في تقصيره وتسرعه ، ولا ظاهر
أيضا لوجود السقاية في الرحل يقتضي السرقة ، لأن الاشتراك في ذلك قائم ، وقرب هذا
الفعل من سائر الوجوه التي يحتملها على حد واحد .
فأما نداء المنادي بأنهم سارقون فلم يكن بأمره ( ع ) ، وكيف يأمر بالكذب وإنما نادى بذلك أحد القوم لما فقدوا الصواع ، وسبق إلى قلوبهم أنهم سرقوه ، وقد قيل إن المراد بأنهم سارقون أنهم سرقوا يوسف ( ع ) من أبيه وأوهموه أنهم يحفظونه فضيعوه ، فالمنادي صادق على هذا الوجه ، ولا يمتنع أن
يكون النداء بإذنه ( ع ) .
غير أن ظاهر القصة واتصال الكلام بعضه ببعض يقتضي أن يكون المراد بالسرقة سرقة
الصواع الذي تقدم ذكره وأحسوا فقده ، وقد قيل إن الكلام خارج مخرج الاستفهام ، وإن كان
ظاهره الخبر كأنه قال : ( إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ) فاسقط ألف الاستفهام كما سقطت في
مواضع قد تقدم ذكرها في قصة إبراهيم ( ع ) .
وهذا الوجه فيه بعض الضعف لأن ألف الاستفهام لا تكاد تسقط إلا في موضع يكون على
سقوطها دلالة في الكلام ، مثل قول الشاعر :
كذبتك عينك أم رأيت iiبواسط غلس الظلام من الرباب خيالا |
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 87 _
تنزيه يوسف ( ع ) عن تعمده بعدم تسكين نفس أبيه :
( مسألة ) : فإن قيل : فما بال يوسف ( ع ) لم يعلم أباه بخبره لتسكن نفسه ويزول وجده وهمه مع علمه بشدة تحرقه وعظم قلقه ؟ .
( الجواب ) : قلنا في ذلك وجهان : أحدهما : إن ذلك كان له ممكنا وكان عليه
قادرا ، فأوحى الله تعالى إليه بأن يعدل عن اطلاعه على خبره تشديدا للمحنة عليه وتعريضا
للمنزلة الرفيعة في البلوى وله تعالى أن يصعب التكليف وأن يسهله .
والوجه الآخر :
إنه جائز أن يكون ( ع ) لم يتمكن من ذلك ولا قدر عليه فلذلك عدل عنه .
تنزيه يوسف ( ع ) عن الرضا بالسجود له :
( مسألة ) : فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : ( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ
وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا )
(1) وكيف يرضى بأن يسجدوا له والسجود لا يكون إلا لله
تعالى ؟ .
( الجواب ) : قلنا في ذلك وجوه : منها : أن يكون تعالى لم يرد بقوله إنهم
سجدوا له إلى جهته ، بل سجدوا لله تعالى من أجله ، لأنه تعالى جمع بينهم وبينه ، كما يقول
القائل : إنما صليت لوصولي إلى أهلي ، وصمت لشفائي من مرضي . وإنما يريد من
أجل ذلك .
فإن قيل : هذا التأويل يفسده قوله تعالى : ( يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ
جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا )
(2)
---------------------------
(1) يوسف الآية : 100 .
(2) يوسف الآية : 100 .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 88 _
قلنا : ليس هذا التأويل بمانع من مطابقة الرؤيا المتقدمة في المعنى دون الصورة ، لأنه ( ع ) لما رأى سجود الكواكب والقمرين له كان تأويل ذلك بلوغه أرفع المنازل وأعلى
الدرجات ونيله أمانيه وأغراضه ، فلما اجتمع مع أبويه ورأياه في الحال الرفيعة العالية ونال
ما كان يتمناه من اجتماع الشمل ، كان ذلك مصدقا لرؤياه المتقدمة ،
فلذلك قال : (
هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ ) .
فلا بد لمن ذهب إلى أنهم سجدوا له على الحقيقة من أن يجعل ذلك مطابقا للرؤيا المتقدمة في
المعنى دون الصورة ، لأنه ما كان رأى في منامه أن إخوته وأبويه سجدوا له ، ولا رأى في
يقظته الكواكب تسجد له . فقد صح أن التطابق في المعنى دون الصورة .
ومنها : أن يكون السجود لله تعالى ، غير أنه كان إلى جهة يوسف ( ع ) ونحوه ،
كما يقال : صلى فلان إلى القبلة وللقبلة
.
وهذا لا يخرج يوسف ( ع ) من التعظيم
، ألا ترى أن القبلة معظمة وإن كان السجود لله تعالى نحوها .
ومنها : أن السجود ليس يكون بمجرده عبادة حتى يضاف إليه من الأفعال ما يكون عبادة ،
فلا يمتنع أن يكون سجدوا له على سبيل التحية والاعظام والاكرام ، ولا يكون ذلك منكرا لأنه
لم يقع على وجه العبادة التي يختص بها القديم تعالى وكل هذا واضح .
تنزيه يوسف ( ع ) عن طاعة الشيطان :
( مسألة ) : فإن قيل : فما معنى قوله تعالى حكاية عنه ( ع ) من بعد أن نزغ
الشيطان
(1) بيني وبين أخوتي ، وهذا يقتضي أن يكون قد أطاع الشيطان ونفذ فيه
كيده ونزغه ؟ .
---------------------------
(1) نزع الشيطان بينهم : أغرى بعضهم على بعض .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
ـ 89 ـ
( الجواب ) : قلنا هذه الإضافة لا يقتضي ما تضمنه السؤال ، بل النزغ والقبيح كان
منهم إليه لا منه إليهم .
ويجري قول القائل : جرى بيني وبين فلان شر ، وإن كان من
أحدهما ولم يشتركا فيه .
( مسألة ) : فإن قيل : فما معنى قوله عليه السلام للعزيز ( اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ
الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ )
(1) وكيف يجوز أن يطلب الولاية من قبل الظالمين .
( الجواب ) : قلنا إنما التمس تمكينه من خزائن الأرض ليحكم فيها بالعدل وليصرفها
إلى مستحقها ، وكان ذلك له من غير ولاية . وإنما سئل الولاية للتمكن من الحق الذي له
أن يفعله .
ولمن لا يتمكن من إقامة الحق أو الأمر بالمعروف أن يتسبب إليه ويتصل إلى
فعله ، فلا لوم في ذلك على يوسف عليه السلام ولا حرج .
---------------------------
(1) يوسف الآية : 55 .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 90 _
أيوب عليه السلام
في أن أيوب عذب امتحانا ولم يعاقب :
( مسألة ) : فإن قيل : فما قولكم في الأمراض والمحن التي لحقت أيوب ( ع )
أو ليس قد نطق القرآن بأنها كانت جزاء على ذنب في قوله : ( أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ
بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ) والعذاب لا يكون إلا جزاء كالعقاب والآلام الواقعة على سبيل الامتحان لا
تسمى عذابا ولا عقابا ، أو ليس قد روى جميع المفسرين أن الله تعالى إنما عاقبه بذلك البلاء
لتركه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقصته مشهورة يطول شرحها ؟ .
( الجواب ) : قلنا : أما ظاهر القرآن فليس يدل على أن أيوب عليه السلام عوقب
بما نزل به من المضار ، وليس في ظاهره شئ مما ظنه السائل ، لأنه تعالى قال : (
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ )
(1) والنصب
هو التعب ، وفيه لغتان بفتح النون والصاد ، وضم النون وتسكين الصاد .
والتعب هو
المضرة التي لا تختص بالعقاب ، وقد تكون على سبيل الامتحان والاختبار .
وأما العذاب فهو أيضا يجري مجرى المضار التي يختص إطلاق ذكرها بجهة دون جهة .
ولهذا يقال للظالم والمبتدئ بالظلم أنه معذب ومضر ومؤلم ، وربما قيل معاقب على
---------------------------
(1) ص الآية : 41 .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 91 _
سبيل المجاز ، وليست لفظة العذاب بجارية مجرى لفظة العقاب ، لأن لفظة العقاب يقتضي
ظاهرها الجزاء لأنها من التعقيب والمعاقبة ، ولفظة العذاب ليست كذلك .
فأما إضافته ذلك إلى الشيطان ، وإنما ابتلاه به فله وجه صحيح ، لأنه لم يضف المرض
والسقم إلى الشيطان ، وإنما أضاف إليه ما كان يستضر به من وسوسته ويتعب به من تذكيره
له ما كان فيه من النعم والعافية والرخاء ، ودعائه له إلى التضجر والتبرم مما هو عليه ،
ولأنه كان أيضا يوسوس إلى قومه بأن يستقذروه ويتجنبوه ويستخفوه لما كان عليه من
الأمراض الشنيعة المنتنة ، ويخرجوه من بينهم .
وكل هذا ضرر من جهة اللعين إبليس ، وقد روي أن زوجته ( ع ) كانت تخدم الناس في
منازلهم وتصير إليه بما يأكله ويشربه ، وكان الشيطان لعنه الله تعالى يلقي إليهم أن داءه (
ع ) يعدي ، ويحسن إليهم تجنب خدمة زوجته من حيث كانت تباشر قروحه وتمس جسده ،
وهذه مضار لا شبهة فيها .
وأما قوله تعالى في سورة الأنبياء : ( وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ
الرَّاحِمِينَ ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا
وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ )
(1) فلا ظاهر لها أيضا يقتضي ما ذكروه ، لأن الضر هو
الضرر الذي قد يكون محنة كما يكون عقوبة .
فأما ما روي في هذا الباب عن جملة ( جهلة ) المفسرين فمما لا يلتفت إلى مثله ، لأن
هؤلاء لا يزالون يضيفون إلى ربهم تعالى وإلى رسله عليهم السلام كل قبيح ومنكر ،
ويقذفونهم بكل عظيم .
وفي روايتهم هذه السخيفة ما إذا تأمله المتأمل علم أنه موضوع الباطل مصنوع ، لأنهم رووا
أن الله تعالى سلط إبليس على مال أيوب عليه السلام وغنمه وأهله ، فلما أهلكهم ودمر عليهم
ورأى من صبره ( ع ) وتماسكه ، قال إبليس لربه يا رب إن أيوب قد علم أنك ستخلف
عليه ماله وولده فسلطني على جسده ، فقال تعالى قد
---------------------------
(1) الآية ( 83 ـ 84 ) من سورة الأنبياء .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 92 _
سلطتك على جسده كله إلا قلبه وبصره ، قال فأتاه فنفخه من لدن قرنه على قدمه فصار قرحة واحدة ، فقذف على كناسة لبني إسرائيل سبع سنين وأشهرا تختلف الدواب على جسده ، إلى شرح طويل نصون كتابنا عن ذكر تفصيله ، فمن يقبل عقله هذا الجهل والكفر كيف يوثق بروايته ، ومن لا يعلم أن الله تعالى لا يسلط إبليس على خلقه ، وأن إبليس لا يقدر على أن يقرح الأجساد ولا يفعل الأمراض كيف يعتمد روايته ؟ .
فأما هذه الأمراض العظيمة النازلة بأيوب عليه السلام فلم تكن إلا اختبارا وامتحانا وتعريضا للثواب بالصبر عليها والعوض العظيم النفيس في مقابلتها ، وهذه سنة الله تعالى في أصفيائه وأوليائه عليهم السلام .
فقد روي عن الرسول صلى الله عليه وآله أنه قال وقد سئل أي الناس أشد بلاء فقال : ( الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل من الناس ) فنظهر من صبره ( ع ) على محنته وتماسكه ما صار به إلى الآن مثلا ، حتى روي أنه كان في خلال ذلك كله صابرا شاكرا محتسبا ناطقا بما له فيه المنفعة والفايدة ، وأنه ما سمعت له شكوى ولا تفوه بتضجر ولا تبرم ، فعوضه الله تعالى مع نعيم الآخرة العظيم الدائم أن رد عليه ماله وأهله وضاعف عددهم في قوله تعالى : ( وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ ) وفي سورة ص ( وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ )
(1) ، ثم مسح ما به من العلل وشفاه وعافاه وأمره على ما وردت به الرواية ، بأن أركض برجلك الأرض فظهرت له عين فاغتسل منها فتساقط ما كان على جسده من الداء .
قال الله تعالى : ( ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ )
(2) والركض هو التحريك ومنه ركضت الدابة .
فإن قيل ، أفتصححون ما روي أن الجذام أصابه حتى تساقطت أعضاؤه ؟ .
---------------------------
(1) ص الآية : 43 .
(2) ص الآية : 42 .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 93 _
قلنا : إن العمل المستقذرة التي ينفر من رآها وتوحشه كالبرص والجذام فلا يجوز شئ منها على الأنبياء عليهم السلام لما تقدم ذكره في صدر هذا الكتاب ، لأن النفور ليس بواقف على الأمور القبيحة ، بل قد يكون من الحسن والقبيح معا ، وليس ينكر أن يكون أمراض أيوب عليه السلام وأوجاعه ومحنته في جسمه ثم في أهله وماله بلغت مبلغا عظيما يزيد في الغم والألم على ما ينال المجذوم ، وليس ننكر تزايد الألم فيه ( عليه السلام ) ، وإنما ننكر ما اقتضى التنفير .
فإن قيل : أفتقولون أن الغرض مما ابتلي به أيوب عليه السلام كان الثواب أو العوض أو هما على الاجتماع ؟ .
وهل يجوز أن يكون ما في هذه الآلام من المصلحة واللطف حاصلا في غيرها مما ليس بألم أم تمنعون من ذلك ؟ .
قلنا : أما الآلام التي يفعلها الله تعالى لا على سبيل العقوبة فليس يجوز أن يكون غرضه عز وجل فيها العوض من حيث كان قادرا على أن يبتدي بمثل العوض ، بل الغرض فيها المصلحة وما يؤدي إلى استحقاق الثواب .
فالعوض تابع والمصلحة أصل ، وإنما يخرج بالعوض من أن يكون ظلما وبالغرض من أن يكون عبثا ، فأما الألم ، إذا كان فيه مصلحة ولطف ، وهناك في المعلوم ما يقوم مقامه فيهما ، إلا أنه ليس بألم ، إما بأن يكون لذة أو ليس بألم ولا لذة ، ففي الناس من ذهب إلى أن الألم لا يحسن في هذا الموضع ، وإنما يحسن بحيث لا يقوم مقامه ما ليس بألم في المصلحة ، والصحيح أنه حسن .
والله تعالى مخير في فعل أيهما شاء ، والدليل على صحة ما ذكرناه أنه لو قبح والحال هذه ، لم يخل من أن يكون إنما قبح من حيث كان ظلما أو من حيث كان عبثا ، ومعلوم أنه ليس بظلم ، لأن العوض الزايد العظيم الذي يحصل عليه يخرجه من كونه ظلما ، وليس أيضا بعبث لأن العبث هو ما لا غرض فيه ، أو ما ليس فيه غرض مثله ، وهذا الألم فيه
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 94 _
غرض عظيم جليل ، وهو الذي تقدم بيانه .
ولو كان هذا الغرض غير كاف فيه ولا يخرجه من العبث لما أخرجه من ذلك إذا لم يكن هناك ما يقوم مقامه ، وليس لهم أن يقولوا إنه إنما قبح وصار عبثا من حيث كان هناك ما يغني عنه ، لأن ذلك يؤدي إلى أن كل فعلين ألمين كانا أو لذتين ، أو ليسا بألمين ولا لذتين ، أو أفعال تساوت في وجه المصلحة يقبح فعل كل واحد منهما ، لأن العلة التي ادعيت حاصلة .
وليس له أن يقول إن الألم إنما يقبح إذا كان فيه من المصلحة ، مثل ما في فعل هو لذة من حيث كان يغني عنه ما ليس بألم ، وذلك أن العوض الذي في مقابلته يخرجه من كونه ضررا ويدخله في أن يكون نفعا ، ويجريه على أقل الأحوال مجرى ما ليس بضرر ، فقد عاد الأمر إلى أن الألم بالعوض قد ساوى ما ليس بألم وحصل فيه من الغرض المودي إلى المصلحة مثل ما فيه ، فيجب أن يكون مخيرا في الاستصلاح بأيهما شاء .
فإن قيل : ما أنكرتم أيكون الفرق بين الأمرين إن اللذة قد يحسن أن يفعل بمجرد كونها لذة ، ولا يفتقر في حسن فعلها إلى أمر زايد ، والألم ليس كذلك ، فإنه لا يحسن أن يكون مجردا ولا بد من أمر زايد يجعله حسنا .
قلنا : هذا فرق بين الأمرين في غير الموضع الذي جمعنا بينهما فيه ، لأن غرضنا إنما كان في التسوية بين الألم واللذة إذا كان كل واحد منهما مثل في صاحبه من المصلحة ، وأن يحكم بصحة التخيير في الاستصلاح بكل واحد منهما ، وإن كنا لا ننكر أن بينهما فرقان من حيث كان أحدهما نفعا يجوز الابتداء به واستحقاق الشكر عليه ، والآخر ليس كذلك ، إلا أن هذا الوجه وأن لم يكن في الألم فليس يقتضي قبحه ، ووجوب فعل اللذة .
ألا ترى أن اللذة قد يساويها في المصلحة فعل ما ليس بألم ولا لذة ، فيكون المكلف تعالى مخيرا في الاستصلاح بأيهما شاء ، وإن كان يجوز ويحسن أن يفعل اللذة بمجردها من غير عوض زايد ، ولا يحسن ذلك الفعل الآخر الذي جعلناه في مقابلتها متى تجرد ، وإنما يحسن لغرض زايد ولم يخرجهما اختلافهما في هذا الوجه من تساويهما فيما ذكرناه من الحكم ، وإذا كانت اللذة قد تساوي
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 95 _
في الحكم الذي ذكرناه من التخيير في الاستصلاح ما ليس بلذة ، وبينا أن العوض قد أخرج الألم من كونه ضررا ، وجعله بمنزلة ما ليس بألم ، فقد بان صحة ما ذكرناه لأن التخيير بين اللذة وما ليس بلذة ولا ألم ، إذا حسن متى اجتمعا في المصلحة ، فكذلك يحسن التخيير بين اللذة وما جرى مجرى ما ليس بألم ولا ضرر من الألم الذي يقابله المنافع ، وليس بعد هذا إلا قول من يوجب فعل اللذة لكونها نفعا ، وهذا مذهب ظاهر البطلان لا حاجة بنا إلى الكلام عليه من هذا الموضوع :
فإن قيل : ما أنكرتم ما يكون الاستصلاح بالألم إذا كان هناك ما يستصلح به ، وليس بألم يجري في القبيح والعبث مجرى من بذل المال لمن يحتمل عنه ضرب المقارع ، ولا غرض له إلا إيصال المال في أن ذلك عبث قبيح ؟ .
قلنا : أما قبح ما ذكرته فالوجه فيه غير ما ظننته من أن هناك ما يقوم مقامه في الغرض ، لأنا قد بينا أن ذلك لو كان هو وجه القبح لكان كل فعل فيه غرض يقوم غيره فيه مقامه عبثا وقبيحا ، وقد علمنا خلاف ذلك .
وإنما قبح بذل المال لمن يحتمل الضرب ، والغرض إيصال المال إليه من حيث حسن أن يبتدئ بدفع المال الذي هو الغرض من غير تكلف الضرب ، فصار عبثا وقبيحا من هذا الوجه وليس يمكن مثل ذلك في الألم إذا قابله ما ليس بألم لأن ما فيه من العوض لا يمكن الابتداء به .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 96 _
شعيب عليه السلام :
في قول شعيب ( ع ) استغفروا ربكم ثم توبوا :
( مسألة ) : فإن قيل : ما معنى قوله تعالى في الحكاية عن شعيب عليه السلام : ( وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ )
(1) والشئ لا يعطف على نفسه لا سيما بالحرف الذي يقتضي التراخي والمهلة وهو ( ثُمَّ ) وإذا كان الاستغفار هو التوبة فما وجه هذا الكلام ؟ .
( الجواب ) : قلنا في هذه الآية وجوه :
أولها : أن يكون المعنى اجعلوا المغفرة غرضكم وقصدكم الذي فيه تجئرون ونحوه يتوجهون ، ثم توصلوا إليها بالتوبة إليه ، فالمغفرة أول في الطلب وآخر في السبب .
وثانيها : أنه لا يمتنع أن يريد بقوله : ( وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ) أي اسألوه التوفيق للمغفرة والمعونة عليها ثم توبوا إليه ، لأن المسألة للتوفيق ينبغي أن يكون قبل التوبة .
وثالثها : أنه أراد بثم الواو ، والمعنى استغفروا ربكم وتوبوا إليه ، وهذان الحرفان قد يتداخلان فيقوم أحدهما مقام الآخرة .
---------------------------
(1) هود الآية : 90 .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 97 _
ورابعها : أن يريد استغفروه قولا ونطقا ثم توبوا إليه لتكونوا بالتوبة فاعلين لما يسقط العقاب عنده .
وخامسها : أنه خاطب المشركين بالله تعالى فقال لهم : استغفروه من الشرك بمفارقته ثم توبوا إليه ، أي ارجعوا إلى الله تعالى بالطاعات وأفعال الخير ، لأن الانتفاع بذلك ، لأن ذلك لا يكون إلا بتقديم الاستغفار من الشرك ومفارقته ، والتائب والآئب والنايب والمنيب بمعنى واحد .
وسادسها : ما أومى إليه أبو علي الجبائي في تفسير هذه الآية لأنه قال أراد بقوله ( وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ ) أي أقيموا على التوبة إليه ، لأن التائب إلى الله تعالى من ذنوبه يجب أن يكون تائبا إلى الله في كل وقت يذكر فيه ذنوبه بعد توبته الأولى ، لأنه يجب أن يكون مقيما على الندم على ذلك ، وعلى العزم على أن لا يعود إلى مثله ، لأنه لو نقض هذا العزم لكان عازما على العود ، وذلك لا يجوز ، وكذلك لو نقض الندم لكان راضيا بالمعصية مسرورا بها وهذا لا يجوز .
وقد حكينا ألفاظه بأعيانها ، حمله على هذا الوجه أنه أراد التكرار والتأكيد والأمر بالتوبة بعد التوبة ، كما يقول أحدنا لغيره : ( اضرب زيدا ثم اضربه ) ( وافعل هذا ثم افعل ) .
وهذا الذي حكينا عن أبي علي أولى مما ذكره في صدر هذه السورة ، لأنه قال هناك وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ، أن معناه استغفروا ربكم من ذنوبكم السالفة ثم توبوا إليه بعد ذلك من كل ذنب يكون منكم أو معصية ، وهذا ليس بشئ ، لأنه إذا حمل الاستغفار المذكور في الآية على التوبة فلا معنى لتخصيصه بما سلف دون ما يأتي ، لأن التوبة من ذلك أجمع واجبة ، ولا معنى أيضا لتخصيص قوله ثم توبوا إليه بالمعاصي المستقبلة دون الماضية ، لأن الماضي والمستقبل مما يجب التوبة منه . فالذي حكيناه أو لا عنه أشفى وأولى .
حول إنكاح ابنته ( ع ) :
( مسألة ) : فإن قيل فما الوجه في عدول شعيب عليه السلام عن
جواب
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 98 _
ابنته في قولها ( يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ )
(1) إلى قوله لموسى عليه السلام ( إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ ) وهي لم تسأل النكاح ولا عرضت به ، فترك إجابتها عن كلامها وخرج إلى شئ لم يجر ما يقتضيه .
( الجواب ) : إنها لما سألته أن يستأجره ومدحته بالقوة والأمانة ، كان كلامها دالا على الترغيب فيه والتقريب منه والمدح له بما يدعو إلى إنكاحه ، فبذل له النكاح الذي يقتضي غاية الاختصاص ، فما فعله شعيب ( ع ) في غاية المطابقة لجوابها ولما يقتضيه سؤالها .
في قول شعيب ( ع ) فإن أتممت عشرا فمن عندك :
( مسألة ) : فإن قيل فما معنى قول شعيب عليه السلام : ( إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ )
(2) وكيف يجوز في الصداق هذا التخيير والتفويض ، وأي فايدة للبنت فيما شرط هو لنفسه وليس يعود عليها من ذلك نفع ؟ .
( الجواب ) : قلنا : يجوز أن تكون الغنم كانت لشعيب ( ع ) ، وكانت الفايدة باستيجار من يرعاها عائدة عليه ، إلا أنه أراد أن يعوض بنته عن قيمة رعيها فيكون ذلك مهرا لها ، وأما التخيير فلم يكن إلا ما زاد على الثماني حجج ولم يكن فيما شرطه مقترحا تخيير ، وإنما كان فيما تجاوزه وتعداه .
ووجه آخر أنه يجوز أن تكون الغنم كانت للبنت وكان الأب المتولي لأمرها والقابض لصداقها ، لأنه لا خلاف أن قبض الأب مهر بنته البكر البالغ جايز
---------------------------
(1) القصص الآية : 26 .
(2) القصص الآية : 27 .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 99 _
وأنه ليس لأحد من الأولياء ذلك غيره ، وأجمعوا أن بنت شعيب ( ع ) كانت بكرا .
ووجه آخر : وهو أن يكون حذف ذكر الصداق ، وذكر ما شرطه لنفسه مضافا إلى الصداق ، لأنه جائز أن يشترط الولي لنفسه ما يخرج عن الصداق ، وهذا الجواب يخالف الظاهر ، لأن قوله تعالى ( إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ) يقتضي ظاهره أن أحدهما جزاء على الآخر .
ووجه آخر : وهو أنه يجوز أن يكون من شريعته عليه السلام العقد بالتراضي من غير صداق معين ، ويكون قوله ( عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ) على غير وجه الصداق ، وما تقدم من الوجوه أقوى .
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)
_ 100 _
موسى عليه السلام :
تنزيه موسى عن العصيان بالقتل :
( مسألة ) : فإن قيل : فما الوجه في قتل موسى عليه السلام للقبطي وليس يخلو من أن يكون مستحقا للقتل أو غير مستحق ، فإن كان مستحقا فلا معنى لندمه ( ع ) ، وقوله : ( هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ) وقوله : ( رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي )
(1) ، وإن كان غير مستحق فهو عاص في قتله ، وما بنا حاجة إلى أن نقول إن القتل لا يكون صغيرة لأنكم تنفون الصغير والكبير من المعاصي عنهم عليهم السلام .
( الجواب ) : قلنا مما يجاب به عن هذا السؤال إن موسى عليه السلام لم يعتمد القتل ولا أراده ، وإنما اجتاز فاستغاث به رجل من شيعته على رجل من عدوه بغى عليه وظلمه وقصد إلى قتله ، فأراد موسى ( ع ) أن يخلصه من يده ويدفع عنه مكروهه ، فأدى ذلك إلى القتل من غير قصد إليه ، فكل ألم يقع على سبيل المدافعة للظالم من غير أن يكون مقصودا فهو حسن غير قبيح ولا يستحق عليه العوض به ، ولا فرق بين أن تكون المدافعة من الإنسان عن نفسه ، وبين أن يكون عن غيره في هذا الباب والشرط في الأمرين أن يكون
---------------------------
(1) القصص الآية : 16 .