ووجه آخر : وهو أن نمرود بن كنعان (1) لما قال لإبراهيم عليه السلام : إنك تزعم أن ربك يحيي الموتى ، وأنه قد قال : أرسلك إلي لتدعوني إلى عبادته ، فاسأله أن يحيي لنا ميتا إن كان على ذلك قادرا ، فإن لم يفعل قتلتك ، قال إبراهيم ( ع ) : ( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى ) فيكون معنى قوله : ( وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) على هذا الوجه ، أي لآمن من القتل ويطمئن قلبي بزوال الروع والخوف ، وهذا الوجه الذي ذكرناه وإن لم يكن مرويا على هذا الوجه فهو مجوز ، وإن أجاز صلح أن يكون وجها في تأويل الآية مستأنفا متابعا .
  ووجه آخر : وهو أنه يجوز أن يكون إبراهيم إنما سأل إحياء الموتى لقومه ليزول شكهم في ذلك وشبهتهم ، ويجري مجرى سؤال موسى ( ع ) الرؤية لقومه ، ليصدر منه تعالى الجواب على وجه يزيل منه شبهتهم في جواز الرؤية عليه تعالى ، ويكون قوله ليطمئن قلبي على هذا الوجه ، معناه أن نفسي تسكن إلى زوال شكهم وشبهتهم ، أو ليطمئن قلبي إلى إجابتك إياي فيما أسألك فيه .
  وكل هذا جائز ، وليس في الظاهر ما يمنع منه ، لأن قوله : ( وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) ما تعلق في ظاهر الآية بأمر لا يسوغ العدول عنه مع التمسك بالظاهر ، وما تعلقت هذه الطمأنينة به غير مصرح بذكره ، قلنا إن تعلقه بكل أمر يجوز أن يتعلق به .
  فإن قيل : فما معنى قوله تعالى أولم تؤمن ؟ وهذا اللفظ استقبال ، وعندكم أنه كان مؤمنا فيما مضى .
  قلنا معنى ذلك أو لم تكن قد آمنت ؟ والعرب تأتي بهذا اللفظ ، وإن كان في ظاهره الاستقبال ، وتريد به الماضي .
  فيقول أحدهم لصاحبه : أولم تعاهدني على كذا وكذا ، وتعاقدني على أن لا تفعل كذا وكذا ؟ وإنما يريد الماضي دون المستقبل .

---------------------------
(1) هو ابن كوش بن حام ضرب به المثل بالجبروت (*) .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 52 _

  فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : ( فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (1) .
  قلنا قد اختلف أهل العلم في معنى قوله تعالى ( فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ) ، فقال قوم : معنى قوله فصرهن : أدنهن وأملهن .
  قال الشاعر في وصف الإبل :
  تظل معقلات السوق خرصا ، تصور أنوفها ريح الجنوب أراد أن ريح الجنوب تميل أنوفها وتعطفها .
  وقال الطرماح (2) : عفايف أذيال أوان يصرها ، هوى والهوى للعاشقين صؤر ويقول القائل لغيره : صر وجهك إلي ، أي أقبل به علي .
  ومن حمل الآية على هذا الوجه لا بد أن يقدر محذوفا في الكلام يدل عليه سياق اللفظ ، ويكون تقدير الكلام : خذ أربعة من الطير فأملهن إليك ثم قطعهن ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا .
   وقال قوم إن معنى صرهن أي قطعهن وفرقهن ، واستشهدوا بقول توبة بن الحمير (3) :
  فلما جذبت الحبل لطت نسوعه ، بأطراف عيدان شديد أسورها فأدنت لي الأسباب حتى بلغتها ، بنهضي وقد كاد ارتقائي يصورها وقال الآخر :
  يقولون أن الشام يقتل أهله ، فمن لي أن لم آته بخلود تغرب آبائي فهلا صراهم ، من الموت أن لم يذهبوا وجدودي

---------------------------
(1) البقرة الآية : 260 .
(2) الطرماح بن حكيم الطائي : من شعراء صدر الإسلام ، اعتنق مذهب الخوارج وصار من كبار شعرائهم .
(3) من عشاق العرب المشهورين ، اشتهر بحبه لليلى الأخيلية وقوله الشعر فيها (*) .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 53 _

  أراد : قطعهم ، والأصل صرى يصري صريا ، من قولهم يأت يصري في حوضه إذا استسقى ثم قطع ، والأصل صرى ، فقدمت اللام وأخرت العين .
  هذا قول الكوفيين ، وأما البصريون فإنهم يقولون إن صار يصير ، ويصور بمعنى واحد ، أي قطع ، ويستشهدون بالأبيات التي تقدمت ، وبقول الخنساء : ( فظلت الشم منها وهي تنصار ) وعلى هذا الوجه لا بد في الكلام من تقديم وتأخير ، ويكون التقدير : فخذ أربعة من الطير إليك فصرهن أي قطعهن . فإليك من صلة خذلان التقطيع لا يعدى بإلى .
  فإن قيل فما معنى قوله تعالى : ( ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ) وهل أمره بدعائهن وهن أحياء أو أموات ؟ وعلى كل حال فدعاؤهن قبيح ، لأن أمر البهائم التي لا تعقل ولا تفهم قبيح . وكذلك أمرهن وهن أعضاء متفرقة أظهر في القبح .
  قلنا لم يرد ذلك إلا حال الحياة دون التفرق والتمزق ، فأراد بالدعاء الإشارة إلى تلك الطيور . فإن الانسان قد يشير إلى البهيمة بالمجئ أو الذهاب فتفهم عنه ، ويجوز أن يسمي ذلك دعاء . إما على الحقيقة أو على المجاز .
  وقد قال أبو جعفر الطبري أن ذلك ليس بأمر ولا دعاء ، ولكنه عبارة عن تكوين الشئ ووجوده ، كما قال تعالى في الذين مسخهم : ( كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) (1) وإنما أخبر عن تكوينهم كذلك من غير أمر ولاء دعاء ، فيكون المعنى على هذا التأويل .
  ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ، فإن الله تعالى يؤلف تلك الأجزاء ويعيد الحياة فيها ، فيأتينك سعيا ، وهذا وجه قريب فإن قيل على الوجه الأول : كيف يصح أن يدعوها وهي أحياء ؟ وظاهر الآية يشهد بخلاف ذلك ، لأنه تعالى قال : ( ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ) .
  وقال عقيب هذا الكلام من غير فصل : ( ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ

---------------------------
(1) البقرة الآية : 65 ، والأعراف الآية : 166 (*) .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 54 _

  سَعْيًا ) ، فدل ذلك على أن الدعاء توجه إليهن وهن أجزاء متفرقة ، قلنا ليس الأمر على ما ذكر في السؤال ، لأن قوله : ( ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ) لا بد من تقدير محذوف بعده ، وهو : ( فإن الله يؤلفهن ويحييهن ثم ادعهن يأتينك سعيا ) .
  ولا بد لمن حمل الدعاء لهن في حال التفرق وانتفاء الحياة من تقدير محذوف في الكلام عقيب قوله : ( ثُمَّ ادْعُهُنَّ ) لأنا نعلم أن تلك الأجزاء والأعضاء لا تأتي عقيب الدعاء بلا فصل ، ولا بد من أن يقدر في الكلام عقيب قوله ثم ادعهن ، فإن الله تعالى يؤلفهن ويحييهن فيأتينك سعيا .
  فأما أبو مسلم الأصفهاني فإنه فرارا من هذا السؤال حمل الكلام على وجه ظاهر الفساد ، لأنه قال إن الله تعالى أمر إبراهيم ( ع ) بأن يأخذ أربعة من الطيور ، ويجعل على كل جبل طيرا ، وعبر بالجزء عن الواحد من الأربعة ، ثم أمره بأن يدعوهن وهن أحياء من غير إماتة تقدمت ولا تفرق من الأعضاء ، ويمرنهن على الاستجابة لدعائه ، والمجئ إليه في كل وقت يدعوها فيه ، ونبه ذلك على أنه تعالى إذا أراد إحياء الموتى وحشرهم أتوه من الجهات كلها مستجيبين غير ممتنعين كما تأتي هذه الطيور بالتمرين والتعويد .
  وهذا الجواب ليس بشئ لأن إبراهيم عليه السلام إنما سأل الله أن يريه كيف يحيي الموتى ، وليس في مجئ الطيور وهن أحياء بالعادة والتمرين ، دلالة على ما سئل عنه ولا حجة فيه ، وإنما يكون في ذلك بيانا لمسألته إذا كان على الوجه الذي ذكرناه .
  فإن قيل إذا كان إنما أمره بدعائهن بعد حال التأليف والحياة ، فأي فايدة في الدعاء وهو قد علم لما رآها تتألف أعضاءها من بعد وتتركب أنها قد عادت إلى حال الحياة ؟ فلا معنى في الدعاء إلا أن يكون متناولا لها وهي متفرقة .
  قلنا للدعاء فائدة بينة ، لأنه لا يتحقق من بعد رجوع الحياة إلى الطيور وإن شاهدها متألفة ، وإنما يتحقق ذلك بأن تسعى إليه وتقرب منه .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 55 _

  تنزيه إبراهيم عن الاستغفار للكفار :
  ( مسألة ) : فإن قال قائل : فما معنى قوله تعالى : ( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ ) (1) وكيف يجوز أن يستغفر لكافر أو أن يعده بالاستغفار ؟ .
  ( الجواب ) : قلنا : معنى هذه الآية إن أباه كان وعده بأن يؤمن وأظهر له الإيمان على سبيل النفاق ، حتى ظن أنه الخير ، فاستغفر له الله تعالى على هذا الظن ، فلما تبين له أنه مقيم على كفره رجع عن الاستغفار له وتبرأ منه (2) على ما نطق به القرآن ، فكيف يجوز أن يجعل ذلك ذنبا لإبراهيم ( ع ) وقد عذره الله تعالى في أن استغفاره إنما كان لأجل موعده ، وبأنه تبرأ منه لما تبين له منه المقام على عداوة الله تعالى .
  فإن قيل : فإن لم تكن هذه الآية دالة على إضافة الذنب إليه ، فالآية التي في صورة الممتحنة تدل على ذلك لأنه تعالى قال : ( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ) (3) فأمر بالتأسي والاقتداء به ، إلا في هذا الفعل ، وهذا يقتضي أنه قبيح .
  قلنا : ليس يجب ما ذكر في السؤال ، بل وجه استثناء إبراهيم عليه السلام لأبيه عن جملة ما أمر الله تعالى بالتأسي به فيه ، أنه لو أطلق الكلام لأوهم الأمر بالتأسي به في ظاهر الاستغفار من غير علم بوجهه ، والموعدة السابقة من أبيه له بالإيمان ، وأدى ذلك إلى حسن الاستغفار للكفار ، فاستثنى الاستغفار من جملة الكلام لهذا الوجه ، ولأنه لم يكن ما أظهره أبوه من الإيمان ووعده به

---------------------------
(1) التوبة الآية : 114 .
(2) قصص الأنبياء ص 83 ـ الطبعة الثالثة ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت .
(3) سورة الممتحنة الآية 4 (*) .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 56 _

  معلوما لكل أحد ، فيزول الإشكال في أنه استغفر لكافر مصر على كفره ، ويمكن أيضا أن يكون قوله تعالى : ( إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ ) استثناء من غير التأسي ، بل من الجملة الثانية التي تعقبها .
  هذا القول بلا فصل وهي قوله ( إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ ) إلى قوله ( وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء ) أبدا ، لأنه لما كان استغفار إبراهيم ( ع ) لأبيه مخالفا لما تضمنته هذه الجملة ، وجب استثناءه ، ولا نوهم بظاهر الكلام أنه عامل أباه من العداوة والبراءة بما عامل به غيره من الناس .
  فأما قوله تعالى : ( إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ ) فقد قيل إن الموعدة إنما كانت من الأب بالإيمان للابن ، وهو الذي قدمناه ، وقيل إنها كانت من الابن بالاستغفار للأب في قوله : لاستغفرن لك ، والأولى أن تكون الموعدة هي من الأب بالإيمان للابن ، لأنا إن حملناه على الوجه الثاني كانت المسألة قائمة ، ولقائل أن يقول : ولم أراد أن يعده بالاستغفار وهو كافر ؟ وعند ذلك لا بد أن يقال إنه أظهر له الإيمان حتى ظنه به ، فيعود إلى معنى الجواب الأول .
  فإن قيل : فما تنكرون من ذلك ، ولعل الوعد كان من الابن للأب بالاستغفار ، وإنما وعده به لأنه أظهر له الإيمان ؟
  قلنا ظاهر الآية منع من ذلك ، لأنه تعالى قال : ( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ ) فعلل حسن الاستغفار بالموعدة ، ولا يكون الموعدة مؤثرة في حسن الاستغفار إلا بأن يكون من الأب للابن بالإيمان ، لأنها إذا كانت من الابن لم يحسن له لها الاستغفار ، لأنه إن قيل إنما وعده الاستغفار لإظهاره له الإيمان ، فالمؤثر في حسن الاستغفار هو إظهار الإيمان لا الموعدة .
  فإن قيل : أفليس إسقاط عقاب الكفر والغفران لمرتكبه كانا جائزين من طريق العقل ، وإنما منع منه السمع ، وإلا جاز أن يكون إبراهيم عليه السلام

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 57 _

  إنما استغفر لأبيه لأن السمع لم يقطع له على عقاب الكفار ، وكان باقيا على حكم العقل ، وليس يمكن أن يدعي أن ما في شرعنا من القطع على عقاب الكفار كان في شرعه لأن هذا لا سبيل إليه ؟ .
  قلنا : هذا الوجه كان جائزا لولا ما نطق به القرآن من خلافه ، لأنه تعالى لما قال : ( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ) (1) قال عاطفا على ذلك : ( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ) فصرح بعلة حسن استغفاره ، وأنها الموعدة ، وكان الوجه في حسن الاستغفار على ما تضمنه السؤال ، لوجب أن يعلل استغفاره لأبيه بأنه لم يعلم أنه من أهل النار لا محالة ، ولم يقطع في شرعه على عقاب الكفار ، والكلام يقتضي خلاف هذا ، ويوجب أنه ليس لإبراهيم ( ع ) من ذلك ما ليس لنا ، وأن عذره فيه هو الموعدة دون غيرها .
  وقد قال أبو علي بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي في تأويل الآية التي في التوبة ، ما نحن ذاكروه ومنبهون على خلافه . قال بعد أن ذكر أن الاستغفار إنما كان لأجل الموعدة من الأب بالإيمان : إن الله تعالى إنما ذكر قصة إبراهيم ( ع ) بعد قوله ( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ) لئلا يتوهم أحد أن الله عز وجل كان جعل لإبراهيم عليه السلام من ذلك ما لم يجعله للنبي صلى الله عليه وآله ، لأن هذا الذي لم يجعله للنبي صلى الله عليه وآله لا يجوز أن يجعله لأحد ، لأنه ترك الرضا بأفعال الله تعالى وأحكامه .
  وهذا الذي ذكره غير صحيح على ظاهره ، لأنه يجوز أن يجعل لغير نبينا صلى الله عليه وآله ممن لم يقطع له ، على أن الكفار معاقبون لا محالة ، أن يستغفر

---------------------------
(1) التوبة الآية : 113 (*) .

اتنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 58 _

  للكفار ، لأن العقل لا يمنع من ذلك ، وإنما يمنع السمع الذي فرضنا ارتفاعه .
  فإن قال : أردت أنه ليس لأحد ذلك مع القطع على العقاب ، قلنا : ليس هكذا يقتضي ظاهر كلامك ، وقد كان يجب إذا أردت هذا المعنى أن تبينه وتزيل الابهام عنه ، وإنما لم يجز أن يستغفر للكفار مع ورود الوعيد القاطع على عقابهم ، زايدا على ما ذكره أبو علي من أنه ترك الرضا بأحكام الله ، أن فيه سؤالا له تعالى أن يكذب في أخباره ، وأن يفعل القبيح من حيث أخبر بأنه لا يغفر للكفار مع الاصرار .
  تكريم إبراهيم باستجابة دعائه :
  ( مسألة ) : فإن قال : إذا كان من مذهبكم إن دعاء الأنبياء ( ع ) لا يكون إلا مستجابا ، وقد دعا إبراهيم عليه السلام ربه فقال : ( وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ ) ، وقد عبد كثير من بنيه الأصنام وكذلك السؤال عليكم في قوله : ( رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي ) (1) .
  ( الجواب ) : قيل له أما المفسرون فإنهم حملوا هذا الدعاء على الخصوص وجعلوه متناولا لمن أعلمه الله تعالى أنه يؤمن ولا يعبد الأصنام حتى يكون الدعاء مستجابا ، وبينوا إن العدول عن ظاهره المقتضي للعموم إلى الخصوص بالدلالة واجب ، وهذا الجواب صحيح ، ويمكن في الآية وجه آخر : وهو أن يريد بقوله : ( وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ ) أي افعل بي وبهم من الألطاف ما يباعدنا عن عبادة الأصنام ويصرف دواعينا عنها .
  وقد يقال فيمن حذر من الشئ ورغب في تركه وقويت صوارفه عن فعله : أنه قد جنبه ، ألا ترى أن الوالد قد يقول لولده إذا كان قد حذره من بعض الأفعال

---------------------------
(1) إبراهيم الآية : 40 (*) .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 59 _

  وبين له قبحه وما فيه من الضرر ، وزين له تركه وكشف له عما فيه من النفع : إنني قد جنبتك كذا وكذا ومنعتك منه ، وإنما يريد ما ذكرناه ، وليس لأحد أن يقول كيف يدعو إبراهيم ( ع ) بذلك وهو يعلم أن الله تعالى لا بد أن يفعل هذا اللطف المقوى لدواعي الإيمان ، لأن هذا السؤال أولا يتوجه على الجوابين جميعا ، لأنه تعالى لا بد أن يفعل هذا للطف الذي يقع الطاعة عنده لا محالة ، كما لا بد أن يفعل ما يقوي الداعي إلى الطاعات .
  والجواب عن هذه الشبهة أن النبي صلى الله عليه وآله لا يمتنع أن يدعو بما يعلم أن الله تعالى سيفعله على كل حال ، على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى والتذلل له والتعبد ، فأما قوله ( رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي ) فالشبهة تقل فيه ، لأن ظاهر الكلام يقتضي الخصوص في ذريته الكثير ممن أقام الصلاة .

  تنزيه إبراهيم عن المجادلة :
  ( مسألة ) : فإن قيل فما معنى قوله تعالى : ( وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُـشْرَى قَالُواْ سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ ) (1) فما لبث أن جاء بعجل حنيذ ، وكيف يحضر إبراهيم عليه السلام للملائكة الطعام وهو يعلم أنها لا تطعم ؟ ومن أي شئ كانت مخافته منهم لما امتنعوا من تناول الطعام ؟ وكيف يجوز أن يجادل ربه فيما قضاه وأمر به ؟ .
  ( الجواب ) : قلنا أما وجه تقديم الطعام فلأنه ( ع ) لم يعلم في الحال أنهم ملائكة لأنهم كانوا في صورة البشر فظنهم أضيافا ، وكان من عادته ( ع ) أقراء الضيف ، فدعاهم إلى الطعام ليستأنسوا به وينبسطوا ، فلما امتنعوا أنكر ذلك منهم ، وظن أن الامتناع لسوء يريدونه ، حتى خبروه بأنهم رسل الله تعالى أنفذهم لإهلاك قوم لوط عليه السلام (2) .

---------------------------
(1) هود الآية : 69 .
(2) قصص الأنبياء : ص 112 ـ 113 ط 3 ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت (*) .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 60 _

  وأما الحنيذ : فهو المشوي بالأحجار ، وقيل إن الحنيذ الذي يقطر ماؤه ودسمه ، وقد قيل إن الحنيذ هو النضيج . وأنشد أبو العباس : إذا ما اختبطنا اللحم للطالب القرى ، حنذناه حتى يمكن اللحم آكله فإن قيل : فكيف صدقهم في دعواهم أنهم ملائكة ؟ .
  قلنا : لا بد من أن يقترن بهذه الدعوى علم يقتضي التصديق ، ويقال إنهم دعوا الله بإحياء العجل الذي كان ذبحه وشواه لهم ، فصار حيا يرعى .
  وأما قوله : يجادلنا ، فقيل معناه يجادل رسلنا ، وعلق المجادلة به تعالى من حيث كانت لرسله ، وإنما جادلهم مستفهما منهم هل العذاب نازل على سبيل الاستيصال أو على سبيل التخويف ؟ وهل هو عام للقوم أو خاص ؟ وعن طريق نجاة لوط ( ع ) وأهله المؤمنين بما لحق القوم ؟ وسمى ذلك جدالا لما كانت فيه من المراجعة والاستثبات على سبيل المجاز ، وقيل إن معنى قوله يجادلنا في قوم لوط ( ع ) : يسائلنا أن تؤخر عذابهم رجاء أن يؤمنوا أو أن يستأنفوا الصلاح ، فخبره الله تعالى بأن المصلحة في إهلاكهم ، وأن كلمة العذاب قد حقت عليهم ، وسمى المسألة جدالا على سبيل المجاز .
  فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : ( فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ) (1) فأتى بفعل مستقبل بعد لما ، ومن شأن ما يأتي بعدها أن يكون ماضيا .
  قلنا عن ذلك جوابان ، أحدهما أن في الكلام محذوفا ، والمعنى : أقبل يجادلنا أو جعل يجادلنا ، وإنما حذفه لدلالة الكلام عليه واقتضائه له .

---------------------------
(1) هود الآية : 74 (*) .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 61 _

  والجواب الآخر : أن لفظه ( لما ) يطلب في جوابها الماضي ، كطلب لفظه ( إن ) في جوابها المستقبل ، فلما استحسنوا أن يأتوا في جواب ( إن ) بالماضي ، ومعناه الاستقبال ، لدلالة ( أن ) عليه ، استحسنوا أن يأتوا بعد ( لما ) الاستقبال تعويلا على أن اللفظة تدل على مضيه . فكما قالوا إن زرتني زرتك ، وهم يريدون إن تزرني أزرك ، قالوا ولما تزرني أزرك ، وهم يريدون لما زرتني زرتك .
  وأنشدوا في دخول الماضي في جواب إن قول الشاعر .
  إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا ، مني وما سمعوا من صالح دفنوا وفي قول الآخر في دخول المستقبل جوابا بالماضي : وميعاد قوم إن أرادوا لقاءنا ، بجمع منى إن كان للناس مجمع يروا خارجيا لم ير الناس مثله ، تشير لهم عين إليه وإصبع ويمكن في هذا جواب آخر ، هو أن يجعل ( يجادلنا ) حالا لا جوابا للفظة لما .
   ويكون المعنى أن البشرى جاءته في حال الجدال للرسل .
  فإن قيل : فأين جواب ( لما ) على هذا الوجه ؟ .
  قلنا يمكن أن نقدره في أحد موضعين : إما في قوله تعالى : ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ ) ويكون التقدير : قلنا إن إبراهيم كذلك ، والموضع الآخر أن يكون أراد تعالى ( فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ) ناديناه يا إبراهيم ، فجواب ( لما ) هو ناديناه ، وإن كان محذوفا ودل عليه لفظة النداء ، وكل هذا جايز .

  تنزيه إبراهيم عن القول بخلق الله للأفعال :
  ( مسألة ) : فإن قيل أليس قد حكى الله تعالى عن إبراهيم ( ع ) قوله إذ قال لقومه : ( قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) (1) وظاهر هذا

---------------------------
(1) الصافات الآية : 95 ـ 96 .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 62 _

  القول يقتضي أنه تعالى خلق أعمال العباد ، فما الوجه فيما وما عذر إبراهيم عليه السلام في إطلاقه ؟ .
  ( الجواب ) : قلنا من تأمل هذه الآية حق التأمل ، علم أن معناها بخلاف ما يظنه المجبرة ، لأن قوله تعالى خبر عن إبراهيم ( ع ) بأنه غير قومه بعبادة الأصنام واتخاذها آلهة من دون الله تعالى ، بقوله : ( أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُون ) ، وإنما أراد منحوت وما حمله النحت دون عملهم الذي هو النحت ، لأن القوم لم يكونوا يعبدون النحت الذي هو فعلهم في الأجسام ، وإنما كانوا يعبدون الأجسام أنفسها .
  ثم قال : ( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) . وهذا الكلام لا بد من أن يكون متعلقا بالأول ومتضمنا لما يقتضي المنع من عبادة الأصنام ، ولا يكون بهذه الصفة إلا والمراد بقوله : وما تعملون الأصنام التي كانوا ينحتونها ، فكأنه تعالى قال : كيف تعبدون ما خلقه الله تعالى كما خلقكم .
  وليس لهم أن يقولوا إن الكلام الثاني قد يتعلق بالكلام الأول على خلاف ما قدرتموه ، لأنه إذا أراد أن الله خلقكم وخلق أعمالكم ، فقد تعلق الثاني بالأول ، لأن من خلقه الله لا يجوز أن يعبد غيره ، وذلك أنه لو أراد ما ظنوه ، لكفى أن يقول الله تعالى : والله خلقكم ، ويصير ما ضمنه إلى ذلك من قوله : ( وَمَا تَعْمَلُونَ ) لغوا ولا فائدة فيه ، ولا تعلق له بالأول ولا تأثير له في المنع من عبادة الأصنام ، فصح أنه أراد ما ذكرناه من المعمول فيه ، ليطابق قوله : ( أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُون ) .
  فإن قالوا هذا عدول عن الظاهر ، لقوله تعالى : ( وَمَا تَعْمَلُونَ ) لأن هذه اللفظة لا تستعمل على سبيل الحقيقة إلا في العمل دون المعمول فيه ، ولهذا يقولون : أعجبني ما تعمل وما تفعل ، مكان قولهم : أعجبني عملك وفعلك ، قيل لهم : ليس نسلم لكم إن الظاهر ما ادعيتموه ، لأن هذه اللفظة قد تستعمل في المعمول فيه ، والعمل على حد واحد ، بل استعمالها في

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) ـ 63 ـ

  المعمول فيه أظهر وأكثر ، ألا ترى أنه تعالى قال في العصا ( تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ) (1) وفي آية أخرى : ( وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا ) (2) .
  ومعلوم أنه لم يرد أنها تلقف أعمالهم التي هي الحركات واعتمادات ، وإنما أراد أنها تلقف الحبال وغيرها مما حله الإفك ، وقد قال الله تعالى : ( يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ ) (3) فسمى المعمول فيه عملا .
  ويقول القائل في الباب أنه عمل النجار ، ومما يعمل النجار ، وكذلك في الناسج والصايغ ، وههنا مواضع لا يستعمل فيها ( ما ) مع الفعل إلا والمراد بها الأجسام دون الأعراض التي هي فعلنا ، لأن القائل إذا قال : أعجبني ما تأكل وما تشرب وما تلبس ، لم يجز حمله إلا على المأكول والمشروب والملبوس دون الأكل والشرب واللبس .
  فصح أن لفظة ( ما ) فيما ذكرناه أشبه بأن تكون حقيقة ، وفيما ذكروه أشبه بأن تكون مجازا ، ولو لم يثبت فيها إلا أنها مشتركة بين الأمرين ، وحقيقة فيهما ، لكان كافيا في إخراج الظاهر من أيديهم ، وإبطال ما تعلقوا به ، وليس لهم أن يقولوا أن كل موضع استعملت فيه لفظة ( ما ) مع الفعل ، وأريد بها المفعول فيه ، إنما علم بدليل ، والظاهر بخلافه .
  وذلك أنه لا فرق بينهم في هذه الدعوى وبين من عكسها ، فادعى أن لفظة ( ما ) إذا استعملت مع الفعل وأريد بها المصدر دون المفعول فيه كانت محمولة على ذلك بالدليل ، وعلى سبيل المجاز ، والظاهر بخلافه ، على أن التعليل وتعلق الكلام الثاني بالأول على ما بيناه أيضا ظاهر ، فيجب أن يكون مراعى .
  وقد بينا أيضا أنه متى حمل الكلام على ما ظنوه لم يكن الثاني متعلقا بالأول ولا تعليلا فيه ، والظاهر يقتضي ذلك .

---------------------------
(1) الشعراء الآية : 45 ، والأعراف الآية : 117 .
(2) طه الآية : 69 .
(3) سبأ الآية : 13 .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 64 _

  فقد صار فيما ادعوه عدول عن الظاهر الذي ذكرناه في معنى الآية ، فلو سلم ما ادعوه من الظاهر في معنى اللفظة معه لتعارضتا ، فكيف وقد بينا أنه غير سليم ولا صحيح ؟ .
  وبعد : فإن قوله : ( وَمَا تَعْمَلُونَ ) لا يستقل بالفائدة بنفسه ، ولا بد من أن يقدر محذوف ، ويرجع إلى ( ما ) التي بمعنى ( الذي ) ، وليس لهم أن يقدروا الهاء ليسلم ما ادعوه بأولى منا إذا قدرنا لفظة فيه ، لأن كلا الأمرين محذوف ، وليس تقدير أحدهما بأولى من الآخر ، إلا بدليل هذا .
  على أنا قد بينا أن مع تقدير الهاء يكون الكلام محتملا لما ذكرناه ، كاحتماله لما ذكروه ، ومع تقديرنا الذي بيناه يكون الكلام مختصا غير مشترك ، فصرنا بالظاهر أولى منهم ، وصار للمعنى الذي ذهبنا إليه الرجحان على معناهم ، على أن معنى الآية والمقصود منها يدلان على ما ذكرناه ، حتى أنا لو قدرنا ما ظنه المخالف لكان ناقضا للغرض في الآية ومبطلا لفايدتها ، لأنه تعالى خبر عن إبراهيم ( ع ) بأنه قرعهم ووبخهم بعبادة الأصنام ، واحتج عليهم بما يقتضي العدول عن عبادته .
  ولو كان مراده بالآية ما ظنوه من أنه تعالى خلقهم وخلق أعمالهم ، وقد علمنا أن عبادتهم للأصنام من جملة أعمالهم ، فكأنه قال الله تعالى : والله خلقكم وخلق عبادة أصنامكم ، لوجب أن يكون عاذرا لهم ومزيلا للوم عنهم ، لأن الانسان لا يذم على ما خلق فيه ولا يعاتب ولا يوبخ ، وبعد فلو حملنا الآية على ما توهموه ، لكان الكلام متناقضا من وجه آخر ، لأنه قد أضاف العمل إليهم بقوله ( وَمَا تَعْمَلُونَ ) ، وذلك يمنع من كونه خلقا لله تعالى ، لأن العامل للشئ هو من أحدثه وأخرجه من العدم إلى الوجود .
  والخلق في هذا الوجه لا يفيد إلا هذا المعنى ، فكيف يكون خالقا ومحدثا لما أحدثه غيره وعمله ؟ على أن الخلق إذا كان هو التقدير في اللغة ، فقد يكون الخالق خالقا لفعل غيره إذا كان مقدرا له ومدبرا ، ولهذا يقولون

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 65 _

  خلق الأديم فيمن قدره ودبره ، وإن كان ما أحدث الأديم نفسه ، فلو حملنا قوله : ( وَمَا تَعْمَلُونَ ) على أفعالهم دون ما فعلوا فيه من الأجسام ، لكان الكلام على هذا الوجه صحيحا .
  ويكون المعنى : والله دبركم ودبر أعمالكم ، وإن لم يكن محدثا لها وفاعلا ، وكل هذه الوجوه واضح لا إشكال فيه بحمد الله تعالى ومنه .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 66 _

  يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (عليهم السلام) (1)
  تنزيه يعقوب عن إيقاع التحاسد بين بنيه :
  ( مسألة ) فإن قيل : فما معنى تفضيل يعقوب عليه السلام ليوسف ( ع ) على إخوته في البر والتقريب والمحبة ، حتى أوقع ذلك التحاسد بينهم وبينه وأفضى إلى الحال المكروهة التي نطق بها القرآن ، حتى قالوا على ما حكاه الله تعالى عنهم : ( لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ) (2) فنسبوه إلى الضلال والخطأ ، وليس لكم أن تقولوا إن يعقوب ( ع ) لم يعلم بذلك من حالهم قبل أن يكون منه التفضيل ليوسف ( ع ) ، لأن ذلك لا بد من أن يكون معلوما منه من حيث كان في طباع البشر من التنافس والتحاسد .
  ( الجواب ) : قيل ليس فيما نطق به القرآن ما يدل على أن يعقوب عليه السلام فضله بشئ من فعله وواقع من جهته ، لأن المحبة التي هي ميل الطباع ليست مما يكتسبه الإنسان ويختاره ، وإنما ذلك موقوف على فعل الله تعالى فيه .
  ولهذا ربما يكون للرجل عدة أولاد فيحب أحدهم دون غيره ، وربما يكون المحبوب دونهم في الجمال والكمال ، وقد قال الله تعالى :

---------------------------
(1) قصص الأنبياء : ص 119 ـ 122 .
(2) يوسف الآية : 8 .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 67 _

  ( وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ ) (1) وإنما أراد ما بيناه من ميل النفس الذي لا يمكن الإنسان أن يعدل فيه بين نسائه ، لأن ما عدا ذلك من البر والعطاء والتقريب وما أشبهه ، يستطيع الإنسان أن يعدل بين النساء .
  فإن قيل فكأنكم قد نفيتم عن يعقوب عليه السلام القبيح والاستفساد وأضفتموهما إلى الله تعالى فما الجواب عن المسألة من هذا الوجه ؟ .
  قلنا : عنها جوابان : أحدهما لا يمتنع أن يكون الله تعالى علم أن أخوة يوسف عليه السلام سيكون بينهم ذلك التحاسد والفعل القبيح على كل حال ، وإن لم يفضل يوسف ( ع ) عليهم في محبة أبيه له ، وإنما يكون ذلك استفسادا إذا وقع عنده الفساد وارتفع عند ارتفاعه ، ولم يكن تمكينا .
  والجواب الآخر أن يكون ذلك جاريا مجرى التمكين ( الامتحان ) والتكليف الشاق ، لأن هؤلاء الأخوة متى امتنعوا من حسد أخيهم والبغي عليه والإضرار به وهو غير مفضل عليهم ولا مقدم ولا يستحقونه من الثواب ما يستحقونه إذا امتنعوا من ذلك مع التقديم والتفضيل ، فأراد الله تعالى منهم أن يمتنعوا على هذا الوجه الشاق .
  وإذا كان مكلفا على هذا الوجه فلا استفساد في تمييله بطباع أبيهم إلى محبة يوسف ( ع ) ، لأن بذلك ينتظم هذا التكليف ويجري هذا الباب مجرى خلق إبليس ، مع علمه تعالى بضلال من ضل عند خلقه ، ممن لو لم يخلقه لم يكن ضالا ، ومجرى زيادة الشهوة فيمن يعلم منه تعالى هذه الزيادة أنه يفعل قبيحا لولاها لم يفعله .
  ووجه آخر في الجواب عن أصل المسألة : وهو أنه يجوز أن يكون يعقوب كان مفضلا ليوسف ( ع ) في العطاء والتقريب والترحيب والبر الذي يصل إليه من جهته ، وليس ذلك بقبيح لأنه لا يمتنع أن يكون يعقوب ( ع ) لم يعلم أن ذلك يؤدي إلى ما أدى إليه ، ويجوز أن يكون رأى من سيرة أخوته

---------------------------
(1) النساء الآية : 129 .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 68 _

  وسدادهم وجميل ظاهرهم ما غلب في ظنه معهم أنهم لا يحسدونه ، وإن فضله عليهم ، فإن الحسد وإن كان كثيرا ما يكون في الطباع ، فإن كثيرا من الناس يتنزهون عنه ويتجنبونه ، ويظهر من أحوالهم أمارات يظن معها بهم ما ذكرناه ، وليس التفضيل لبعض الأولاد على بعض في العطاء محاباة ، لأن المحاباة هي المفاعلة من الحباء ، ومعناها أن تحبو غيرك ليحبوك ، وهذا خارج عن معنى التفضيل بالبر ، الذي لا يقصد به إذا ما ذكرناه .
  فأما قولهم : إن أبانا لفي ضلال مبين ، فلم يريدوا به الضلال عن الدين ، وإنما أرادوا به الذهاب عن التسوية بينهم في العطية ، لأنهم رأوا أن ذلك أصوب في تدبيرهم ، وأصل الضلال هو العدول ، وكل من عدل عن شئ وذهب عنه فقد ضل ، ويجوز أيضا أن يريدوا بذلك الضلال عن الدين ، لأنهم خبروا عن اعتقادهم ، ويجوز أن يعتقدوا في الصواب الخطأ .
  فإن قيل : كيف يجوز أن يقع من إخوة يوسف ( ع ) هذا الخطأ العظيم والفعل القبيح وقد كانوا أنبياء في الحال ؟ فإن قلتم لم يكونوا أنبياء في تلك الحال ، قيل لكم وأي منفعة في ذلك لكم وأنتم تذهبون إلى أن الأنبياء عليهم السلام لا يوقعون القبائح قبل النبوة ولا بعدها ؟ .
  قلنا : لم تقم الحجة بأن إخوة يوسف ( ع ) الذين فعلوا به ما فعلوه كانوا أنبياء في حال من الأحوال ، وإذا لم تقم بذلك حجة جاز على هؤلاء الأخوة من فعل القبيح ما يجوز على كل مكلف لم تقم حجة بعصمته ، وليس لأحد أن يقول كيف تدفعون نبوتهم .
  والظاهر أن الأسباط من بني يعقوب كانوا أنبياء ، لأنه لا يمتنع أن يكون الأسباط الذين كانوا أنبياء غير هؤلاء الأخوة الذين فعلوا بيوسف ( ع ) ما قصه الله تعالى عنهم ، وليس في ظاهر الكتاب أن جميع إخوة يوسف ( ع ) وما ساير أسباط يعقوب ( ع ) كادوا يوسف ( ع ) بما حكاه الله تعالى من الكيد .
  وقد قيل إن هؤلاء الأخوة في تلك الأحوال لم يكونوا بلغوا الحلم ولا توجه إليهم التكليف ، وقد يقع ممن

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 69 _

  قارب البلوغ من الغلمان مثل هذه الأفعال ، وقد يلزمهم بعض العقاب واللوم والذم ، فإن ثبت هذا الوجه سقطت المسألة أيضا ، مع تسليم أن هؤلاء الأخوة كانوا أنبياء في المستقبل .

  تنزيه يعقوب عن التغرير بولده :
  ( مسألة ) : فإن قيل : فلم أرسل يعقوب ( ع ) يوسف مع إخوته ، مع خوفه عليه منهم ، وقوله : ( وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ) (1) وهل هذا إلا تغرير به ومخاطرة ؟ .
  ( الجواب ) : قيل له : ليس يمتنع أن يكون يعقوب ( ع ) لما رأى من بنيه ما رأى من الإيمان والعهود والاجتهاد في الحفظ والرعاية لأخيهم ، ظن مع ذلك السلامة وغلبة النجاة ، بعد أن كان خائفا مغلبا لغير السلامة ، وقوي في نفسه أن يرسله معهم إشفاقا من إيقاع الوحشة والعداوة بينهم ، لأنه إذا لم يرسله مع الطلب منهم والحرص ، علموا أن سبب ذلك هو التهمة لهم والخوف من ناحيتهم فاستوحشوا منه ومن يوسف ( ع ) ، وانضاف هذا الداعي إلى ما ظنه من السلامة والنجاة ، فأرسله .
  تنزيه يعقوب عن تكذيب الصادق :
  ( مسألة ) : فإن قالوا : فما معنى قولهم ليعقوب ( ع ) : ( وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ) (2) وكيف يجوز أن ينسبوه إلى أنه لا يصدق الصادق ويكذبه ؟ .
  ( الجواب ) : إنهم لما علموا على مرور الأيام بشدة تهمة أبيهم لهم وخوفه على أخيهم منهم لما كان يظهر منهم من أمارات الحسد والمنافسة ، أيقنوا بأنه ( ع ) يكذبهم فيما أخبروا به من أكل الذئب أخاهم ، فقالوا له إنك

---------------------------
(1) يوسف الآية : 13 .
(2) يوسف الآية : 17 .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 70 _

  لا تصدقنا في هذا الخبر لما سبق إلى قلبك من تهمتنا وإن كنا صادقين ، وقد يفعل مثل ذلك المخادع المماكر إذا أراد أن يوقع في قلب من يخبره بالشئ صدقه ، لأن القتل من أفظع مصائب الدنيا ، فيقول أنا أعلم أنك لا تصدقني في كذا وكذا . وإن كنت صادقا ، وهذا بين .
  تنزيه يعقوب عن الحزن المكروه :
  ( مسألة ) : فإن قيل : فلم أسرف يعقوب ( ع ) في الحزن والتهالك وترك التماسك حتى ابيضت عيناه من البكاء والحزن ، ومن شأن الأنبياء عليهم السلام التجلد والتصبر وتحمل الأثقال ، ولولا هذه الحال ما عظمت منازلهم وارتفعت درجاتهم ؟
  ( الجواب ) : قيل له إن يعقوب عليه السلام بلي وامتحن في ابنه بما لم يمتحن به أحد قبله ، لأن الله تعالى رزقه مثل يوسف عليه السلام أحسن الناس وأجملهم وأكملهم عقلا وفضلا وأدبا وعفافا ثم أصيب به أعجب مصيبة وأطرفها ، لأنه لم يمرض بين يديه مرضا يؤول إلى الموت فيسليه عنه تمريضه له ثم يأسه منه بالموت ، بل فقده فقدا لا يقطع معه على الهلاك فييأس منه ، ولا يجد إمارة على حياته وسلامته ، فيرجو ويطمع .
  وكان متردد الفكر بين يأس وطمع ، وهذا أغلظ ما يكون على الإنسان وأنكأ لقلبه ، وقد يرد على الإنسان من الحزن ما لا يملك رده ولا يقوى على دفعه ، ولهذا لم لا يكون أحدنا منهيا عن مجرد الحزن والبكاء ، وإنما نهي عن اللطم والنوح ، وأن يطلق لسانه فيما يسخط ربه وقد بكى نبينا صلى الله عليه وآله على ابنه إبراهيم عند وفاته .
  وقال : العين تدمع والقلب يخشع ولا نقول ما يسخط الرب ، وهو القدرة في جميع الآداب والفضائل على أن يعقوب ( ع ) إنما أبدى من حزنه يسيرا من كثير ، وكان ما يخفيه ويتصبر عليه ويغالبه أكثر وأوسع مما

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 71 _

  أظهره ، وبعد ، فإن التجلد على المصائب وكظم الغيظ والحزن من المندوب إليه ، وليس بواجب ولا لازم ، وقد يعدل الأنبياء عن كثير من المندوبات الشاقة ، وأن كانوا يفعلون من ذلك الكثير .

حول الرؤيا التي رآها يوسف ( ع ) :
  ( مسألة ) : فإن قيل : كيف لم يتسل يعقوب ( ع ) ويخفف عنه الحزن ما يحققه من رؤيا ابنه يوسف ، ورؤيا الأنبياء ( ع ) لا تكون إلا صادقة ؟ .
  ( الجواب ) : قيل له في ذلك جوابان : أحدهما أن يوسف ( ع ) رأى تلك الرؤيا وهو صبي غير نبي ولا موحى إليه ، فلا وجه في تلك الحال للقطع على صدقها وصحتها .
  والآخر أن أكثر ما في هذا الباب أن يكون يعقوب ( ع ) قاطعا على بقاء ابنه ، وأن الأمر سيؤول فيه إلى ما تضمنته الرؤيا ، وهذا لا يوجب نفي الحزن والجزع ، لأنا نعلم أن طول المفارقة واستمرار الغيبة يقتضيان الحزن ، مع القطع على أن المفارق باق يجوز أن يؤول حال إلى القدوم ؟ وقد جزع الأنبياء عليهم السلام ومن جرى مجراهم من المؤمنين المطهرين من مفارقة أولادهم وأحبائهم ، مع يقينهم بالالتقاء بهم في الآخرة والحصول معهم في الجنة ، والوجه في ذلك ما ذكرناه .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 72 _

  يوسف بن يعقوب (عليهما السلام) (1)
  تنزيه يوسف عن الصبر على الاستعباد :
  ( مسألة ) : فإن قيل : كيف صبر يوسف عليه السلام على العبودية ، ولم لم ينكرها ويبرأ من الرزق ، وكيف يجوز على النبي الصبر على أن يستعبد ويسترق ؟
  ( الجواب ) : قيل له : إن يوسف عليه السلام في تلك الحال لم يكن نبيا على ما قاله كثير من الناس ، ولما خاف على نفسه القتل جاز أن يصبر على الاسترقاق . ومن ذهب إلى هذا الوجه يتناول قوله تعالى : ( وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ) (2) ، على أن الوحي لم يكن في تلك الحال ، بل كان في غيرها ، ويصرف ذلك إلى الحال المستقبلة المجمع على أنه كان فيها نبيا .
  ووجه آخر : وهو أن الله تعالى لا يمتنع أن يكون أمره بكتمان أمره والصبر على مشقة العبودية امتحانا وتشديدا في التكليف ، كما امتحن أبويه إبراهيم وإسحق عليهما السلام ، أحدهما بنمرود ، والآخر بالذبح .

---------------------------
(1) قصص الأنبياء : ص 120 و 138 ـ 144 .
(2) يوسف الآية : 15 .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 73 _

  ووجه آخر : وهو أنه يجوز أن يكون قد خبرهم بأنه غير عبد ، وأنكر عليهم ما فعلوا من استرقاقه ، إلا أنهم لم يسمعوا منه ولا أصغوا إلى قوله ، وإن لم ينقل ذلك ، فليس كل ما جرى في تلك الأزمان قد اتصل بنا .
  ووجه آخر : وهو أن قوما قالوا أنه خاف القتل ، فكتم أمر نبوته وصبر على العبودية .
  وهذا جواب فاسد لأن النبي ( ع ) لا يجوز أن يكتم ما أرسل به خوفا من القتل ، لأنه يعلم أن الله تعالى لم يبعثه للأداء إلا وهو عاصم له من القتل حتى يقع الأداء وتسمع الدعوة ، وإلا لكان ذلك نقضا للغرض .
  ( مسألة ) : فإن قيل : فما تأويل قوله تعالى حاكيا عن يوسف عليه السلام وامرأة العزيز ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) (1) .
  ( الجواب ) : إن الهم في اللغة ينقسم إلى وجوه : منها العزم على الفعل كقوله تعالى : ( إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ ) (2) أي أرادوا ذلك وعزموا عليه .
  قال الشاعر :
هممت  ولم أفعل وكدت iiوليتني      تركت على عثمان تبكي حلائله

  ومثله قول الخنساء :
وفضل مرداسا على الناس حلمه      وإن  كل  هم  همه  فهو  iiفاعله

  ومثله قول حاتم الطائي :
ولله  صلعوك  يساور  iiهمه      ويمضي على الأيام والدهر مقدما ومن وجوه الهم

   خطور الشئ بالبال وإن لم يقع العزم عليه قال الله

---------------------------
(1) يوسف الآية : 24 .
(2) المائدة الآية : 11 .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 74 _

  تعالى : ( إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا ) (1) وإنما أراد تعالى أن الفشل خطر ببالهم ، ولو كان الهم في هذا المكان عزما ، لما كان الله تعالى ولا هما لأنه تعالى يقول : ( وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) (2) وإرادة المعصية ، والعزم عليها معصية .
  وقد تجاوز ذلك قوم حتى قالوا إن العزم على الكبيرة كبيرة وعلى الصغيرة صغيرة وعلى الكفر كفر .
  ولا يجوز أن يكون الله تعالى ولي من عزم على الفرار عن نصرة نبيه صلى الله عليه وآله وإسلامه إلى السوء ، ومما يشهد أيضا بذلك قول كعب بن زهير :
  فكم فيهم من سيد متوسع ، ومن فاعل للخير إن هم أو عزم ففرق كما ترى بين الهم والعزم .
  وظاهر التفرقة قد يقتضي اختلاف المعنى .
  ومن وجوه الهم أن يستعمل بمعنى المقاربة ، فيقولون هم بكذا وكذا أي كاد أن يفعله .
  قال ذو الرمة : أقول لمسعود بجرعاء مالك ، وقد هم دمعي أن يلج أوائله والدمع لا يجوز عليه العزم ، وإنما أراد أنه كاد وقرب .
  وقال أبو الأسود الدؤلي : وكنت متى تهمم يمينك مرة ، لتفعل خيرا تقتفيها شمالكا وعلى هذا خرج قوله تعالى جدارا يريد أن ينقض أي يكاد .
  قال الحارثي : يريد الرمح صدر أبي براء ، ويرغب عن دماء بني عقيل

---------------------------
(1) آل عمران : 122 .
(2) الأنفال الآية : 16 .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 75 _

  ومن وجوه الهم الشهوة وميل الطباع ، لأن الانسان قد يقول فيما يشتهيه ويميل طبعه إليه : ليس هذا من همي وهذا أهم الأشياء إلي ، والتجوز باستعمال الهمة مكان الشهوة ظاهر في اللغة .
  وقد روي هذا التأويل عن الحسن البصري قال : أما همها فكان أخبث الهم ، وأما همه ( ع ) فما طبع عليه الرجال من شهوة النساء ، فإذا كانت وجوه هذه اللفظة مختلفة متسعة على ما ذكرناه نفينا عن نبي الله ما لا يليق به وهو العزم على القبيح ، وأجزنا باقي الوجوه لأن كل واحد منها يليق بحاله .
  فإن قيل : فهل يسوغ حمل الهم في الآية على العزم والإرادة ؟ ويكون مع ذلك لها وجه صحيح يليق بالنبي ( ع ) ؟ .
  قلنا : نعم ، متى حملنا الهم ههنا على العزم ، جاز أن نعلقه بغير القبيح ويجعله متناولا لضربها أو دفعها عن نفسه ، كما يقول القائل : قد كنت هممت بفلان ، أي بأن أوقع به ضربا أو مكروها .

تنزيه يوسف عن العزم على المعصية :
  فإن قيل : فأي فائدة على هذا التأويل في قوله تعالى : ( لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ) والدفع لها عن نفسه طاعة لا يصرف البرهان عنها ؟ .
  قلنا : يجوز أن يكون لما هم بدفعها وضربها ، أراه الله تعالى برهانا على أنه إن أقدم على من هم به أهلكه أهلها وقتلوه ، أو أنها تدعي عليه المراودة على القبيح ، وتقذفه بأنه دعاها إليه وضربها لامتناعها منه ، فأخبر الله تعالى أنه صرف بالبرهان عنه السوء والفحشاء اللذين هما القتل والمكروه ، أو ظن القبيح به أو اعتقاده فيه .
  فإن قيل : هذا الجواب يقضي لفظة ( لولا ) يتقدمها في ترتيب