داود عليه السلام :
  تنزيه داود عن المعصية
  ( مسألة ) فإن قيل فما الوجه في قوله تعالى : ( وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ، إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ ، إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ) (1) أو ليس قد روى أكثر المفسرين أن داود عليه السلام قال رب قد أعطيت إبراهيم وإسحق ويعقوب من الذكر ما وددت إنك أعطيتني مثله ، قال الله تعالى إني ابتليتهم بما لم أبتلك بمثله ، وإن شئت ابتليتك بمثل ما ابتليتهم وأعطيتك كما أعطيتهم ، قال نعم ، فقال عز وجل له فاعمل حتى أرى بلاءك ، فكان ما شاء الله أن يكون ، وطال عليه ذلك حتى كاد ينساه .
  فبينا هو في محرابه إذ وقعت عليه حمامة ، فأراد أن يأخذها فطارت إلى كوة المحراب ، فذهب ليأخذها فطارت من الكوة ، فاطلع من الكوة فإذا امرأة

---------------------------
(1) سورة ص : الآية ( 21 ـ 24 ) ، وقصص الأنبياء : ص ( 312 ـ 313 ) .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 127 _

  تغتسل فهواها وهم بتزوجها ، وكان لها بعل يقال له أوريا ، فبعث به إلى بعض السرايا وأمره أن يتقدم أمام التابوت الذي فيه السكينة ، وكان غرضه أن يقتل فيه فيتزوج بامرأته ، فأرسل الله إليه الملكين في صورة خصمين ليبكتاه (1) على خطيئته وكنيا عن النساء بالنعاج .
  وعليكم في هذه الآيات سؤال من وجه آخر وهو أن الملائكة لا تكذب فكيف قالوا خصمان بغى بعضنا على بعض ؟ وكيف قال أحدهما إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة إلى آخر الآية ؟ ولم يكن من كل ذلك شئ ؟ .
  ( الجواب ) : قلنا : نحن نجيب بمقتضى الآية ونبين أنه لا دلالة في شئ منها على وقوع الخطأ من داود عليه السلام ، فهو الذي يحتاج إليه ، فأما الرواية المدعاة ، فساقطة مردودة ، لتضمنها خلاف ما يقتضيه العقول في الأنبياء عليهم السلام ، قد طعن في رواتها بما هو معروف ، فلا حاجة بنا إلى ما ذكره ، وأما قوله تعالى : ( وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ ) فالخصم مصدر لا يجمع ولا يثنى ولا يؤنث .
  ثم قال ( إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ) فكنى عنهم بكناية الجماعة ، وقيل في ذلك أنه إخراج الكلام على المعنى دون اللفظ ، لأن الخصمين ههنا كانا كالقبيلتين أو الجنسين .
  وقيل بل جمع لأن الاثنين أقل الجمع ، وأوله لأن فيهما معنى الانضمام والاجتماع .
  وقيل بل كان مع هذين الخصمين غيرهما ممن يعنيهما ويؤيدهما ، فإن العادة جارية فيمن يأتي باب السلطان بأن يحضر معه الشفعاء والمعاونون ، فأما خوفه منهما فلأنه ( ع ) كان خاليا بالعبادة في وقت لا يدخل عليه فيه أحد على مجرى عادته ، فراعه منهما أنهما ، أتيا في غير وقت الدخول ، أو لأنهما دخلا من غير المكان

---------------------------
(1) يبكتاه : بكت ( بالفتح ) : ضربه بسيف أو عصا ـ وكذلك بمعنى عنف وقرع .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 128 _

  المعهود : وقولهما خصمان بغى بعضنا على بعض جرى على التقدير والتمثيل ، وهذا كلام مقطوع عن أو له ، وتقديره : أرأيت لو كنا كذلك واحتكمنا إليك ؟ ولا بد لكل واحد من الاضمار في هذه الآية ، وإلا لم يصح الكلام لأن خصمان لا يجوز أن يبتدؤا به .
  وقال المفسرون تقدير الكلام : نحن خصمان ، قالوا وهذا مما يضمره المتكلم ويضمره المتكلم له أيضا ، فيقول المتكلم سامع مطيع ، أي أنا كذلك ، ويقول القافلون من الحج آئبون تائبون لربنا حامدون . أي نحن كذلك .
  وقال الشاعر : وقولا إذا جاوزتما أرض عامر ، وجاوزتما الحيين نهدا وخثعما فزيعان من جرم بن ريان أنهم ، أبوا أن يجيروا في الهزاهز محجما أي نحن فزيعان ، ويقال للمتكلم مطاع معان ، ويقال له أراحل أم مقيم ؟
  وقال الشاعر : تقول ابنة الكعبي لما لقيتها ، أمنطلق في الجيش أم متثاقل أي أنت كذلك ، فإذا كان لا بد في الكلام من اضمار فليس لهم أن يضمروا شيئا بأولى منا إذا أضمرنا سواه .
  فأما قوله : ( إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً ) إلى آخر الآية ، فإنما هو أيضا على جهة التقدير والتمثيل اللذين قدمناهما ، وحذف من الكلام ما يقتضي فيه التقدير .
  ومعنى قوله : ( وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ) أي صار أعز مني ، وقيل إنه أراد قهرني وغلبني ، وأما قوله لقد ظلمك من غير مسألة الخصم ، فإن المراد به إن كان الأمر

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 129 _

  كذلك .
  ومعنى ظلمك انتقصك ، كما قال الله تعالى : ( آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا ) (1) .
   ومعنى ظن قيل فيه وجهان :
  أحدهما : أنه أراد الظن المعروف الذي هو بخلاف اليقين .
  والوجه الآخر : أنه أراد العلم واليقين ، لأن الظن قد يرد بمعنى العلم قال الله تعالى : ( وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا ) (2) وليس يجوز إن يكون أهل الآخرة ظانين لدخول النار بل عالمين قاطعين .
  وقال الشاعر :
فقلت    لهم    ظنوا   بإلقاء   iiمذحج      سراتهم في الفارسي المسرد أي أيقنوا

  والفتنة في قوله : ( وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ ) هي الاختبار والامتحان لا وجه لها إلا ذلك في هذا الموضع ، كما قال تعالى : ( وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ) .
  فأما الاستغفار والسجود فلم يكونا لذنب كان في الحال ، ولا فيما سلف على ما ظنه بعض من تكلم في هذا الباب ، بل على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى والخضوع له والتذلل والعبادة والسجود ، وقد يفعله الناس كثيرا عند النعم التي تتجدد عليهم وتنزل وتؤول وترد إليهم شكرا لمواليها ، فكذلك قد يسبحون ويستغفرون الله تعالى تعظيما وشكرا وعبادة .
  وأما قوله تعالى : ( وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ) فالإنابة هي الرجوع ، ولما

---------------------------
(1) الكهف : 33 .
(2) الكهف : 53 .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 130 _

  كان داود عليه السلام بما فعله راجعا إلى الله تعالى ومنقطعا إليه ، قيل فيه إنه أناب ، كما يقال في التائب الراجع إلى التوبة والندم إنه منيب .
  فأما قوله تعالى : ( فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ ) فمعناه إنا قبلنا منه وكتبنا له الثواب عليه فأخرج الجزاء على وجه المجازات به ، كما قال تعالى : ( يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ) (1) وقال عز وجل : ( اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ ) فأخرج الجزاء على لفظ المجازي عليه .
  قال الشاعر : ألا لا يجهلن أحد علينا ، فنجهل فوق جهل الجاهلينا ولما كان المقصود في الاستغفار والتوبة إنما هو القبول ، قيل في جوابه فغفرنا لك أي فعلنا المقصود به ، كذلك لما كان الاستغفار على طريق الخضوع والعبادة المقصود به القربة والثواب ، قيل في جوابه غفرنا مكان قبلنا .
  على أن من ذهب إلى أن داود عليه السلام فعل صغيرة ، فلا بد من أن يحمل قوله تعالى ( غفرنا ) على غير إسقاط العقاب ، لأن العقاب قد سقط بما هناك من الثواب الكثير من غير استغفار ولا توبة ، ومن جوز على داود عليه السلام الصغيرة ، يقول إن استغفاره ( ع ) كان لأحد أمور :
  أحدها أن أوريا بن حنان لما أخرجه في بعض ثغوره قتل ، وكان داود ( ع ) عالما بجمال زوجته فمالت نفسه إلى نكاحها بعده ، فقل غمه بقتله لميل طبعه إلى نكاح زوجته ، فعوتب على ذلك بنزول الملكين من حيث حمله ميل الطبع ، على أن قل غمه بمؤمن قتل من أصحابه .
  وثانيها : أنه روى أن امرأة خطبها أوريا بن حنان ليتزوجها ، وبلغ

---------------------------
(1) النساء : 142 .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 131 _

  داود ( ع ) جمالها فخطبها أيضا فزوجها أهلها بداود وقدموه على أوريا وغيره ، فعوتب ( ع ) على الحرص على الدنيا ، بأنه خطب امرأة قد خطبها غيره حتى قدم عليه .
  وثالثها : أنه روي أن امرأة تقدمت مع زوجها إليه في مخاصمة بينهما من غير محاكمة لكن على سبيل الوساطة ، وطال الكلام بينهما وتردد ، فعرض داود ( ع ) للرجل بالنزول عن المرأة لا على سبيل الحكم لكن على سبيل التوسط والاستصلاح ، كما يقول أحدنا لغيره : إذا كنت لا ترضى زوجتك هذه ولا تقوم بالواجب من نفقتها فانزل عنها .
  فقدر الرجل أن ذلك حكم منه لا تعريض ، فنزل عنها وتزوجها داود ( ع ) ، فأتاه الملكان ينبهانه على التقصير في ترك تبيين مراده للرجل ، وأنه كان على سبيل العرض لا الحكم .
  ورابعها : أن سبب ذلك أن داود ( ع ) كان متشاغلا بعبادته في محرابه ، فأتاه رجل وأمرأة يتحاكمان ، فنظر إلى المرأة ليعرفها بعينها فيحكم لها أو عليها ، وذلك نظر مباح على هذا الوجه ، فمالت نفسه إليها ميل الخلقة والطباع ، ففصل بينهما وعاد إلى عبادته ، فشغله الفكر في أمرها وتعلق القلب بها عن بعض نوافله التي كان وظفها على نفسه فعوتب .
  وخامسها : أن المعصية منه إنما كانت بالعجلة في الحكم قبل التثبت ، وقد كان يجب عليه لما سمع الدعوى من أحد الخصمين أن يسأل الآخر عما عنده فيها ، ولا يقتضي عليه قبل المسألة ، ومن أجاب بهذا الجواب قال : إن الفزع من دخولهما عليه في غير وقت العادة نساه التثبت والتحفظ .
  وكل هذه الوجوه لا يجوز على الأنبياء ( ع ) ، لأن فيها ما هو معصية ، وقد بينا أن المعاصي لا تجوز عليهم ، وفيها ما هو منفر ، وإن لم يكن معصية ، مثل أن يخطب امرأة قد خطبها رجل من أصحابه فتقدم عليه وتزوجها ، ومثل التعريض بالنزول عن المرأة وهو لا يريد الحكم .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 132 _

  فأما الاشتغال عن النوافل فلا يجوز أن يقع عليه عتاب ، لأنه ليس بمعصية ولا هو أيضا منفر ، فأما من زعم أنه عرض أوريا للقتل وقدمه أمام التابوت عمدا حتى يقتل ، فقوله أوضح فسادا من أن يتشاغل برده .
  وقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال : لا أوتي برجل يزعم أن داود عليه السلام تزوج بامرأة أوريا إلا جلدته حدين ، حدا للنبوة وحدا للاسلام .
  فأما أبو مسلم فإنه قال : لا يمتنع أن يكون الداخلان على داود ( ع ) كانا خصمين من البشر ، وأن يكون ذكر النعاج محمولا على الحقيقة دون الكناية ، وإنما ارتاع منهما لدخولهما من غير إذن وعلى غير مجرى العادة ، قال وليس في ظاهر التلاوة ما يقتضي أن يكونا ملكين .
  وهذا الجواب يستغنى معه عما تأولنا به . قولهما ودعوى أحدهما على صاحبه وذكر النعاج .
  والله تعالى أعلم بالصواب .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 133 _

  سليمان عليه السلام :
  تنزيه سليمان عن المعصية :
  ( مسألة ) : فإن قيل فما معنى قوله تعالى : ( وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ، إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ، فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ، رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ ) (1) أو ليس ظاهر هذه الآيات يدل على أن مشاهدة الخيل الهاه واشغله عن ذكر ربه ، حتى روي أن الصلاة فاتته وقيل إنها صلاة العصر ، ثم إنه عرقب الخيل وقطع سوقها وأعناقها غيظا عليها ، وهذا كله فعل يقتضي ظاهره القبح .
  ( الجواب ) : قلنا أما ظاهر الآية فلا يدل على إضافة قبيح إلى النبي ( ع ) والرواية إذا كانت مخالفة لما تقتضيه الأدلة لا يلتفت إليها لو كانت قوية صحيحة ظاهرة ، فكيف إذا كانت ضعيفة واهية ؟
  والذي يدل على ما ذكرناه على سبيل الجملة أن الله تعالى ابتدأ الآية بمدحه وتعريفه والثناء عليه ، فقال : نعم العبد إنه أواب ، وليس يجوز أن يثني عليه بهذا الثناء ثم يتبعه من غير فصل بإضافة القبيح إليه ، وأنه تلهى بعرض الخيل عن فعل المفروض عليه من الصلاة والذي يقتضيه الظاهر أن حبه للخيل وشغفه بها

---------------------------
(1) ص : 30 ـ 33 .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 134 _

  كان بإذن ربه وبأمره وتذكيره إياه لأن الله تعالى قد أمرنا بارتباط الخيل وإعدادها لمحاربة الأعداء ، فلا ينكر أن يكون سليمان عليه السلام مأمورا بمثل ذلك ، فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي ، ليعلم من حضره أن اشتغاله بها واستعداده لها لم يكن لهوا ولا لعبا ، وإنما أتبع فيه أمر الله تعالى وآثر طاعته .
  وأما قوله : أحببت حب الخير ففيه وجهان .
  أحدهما :أنه أراد أني أحببت حبا ثم أضاف الحب إلى الخير .
  والوجه الآخر : أنه أراد أحببت اتخاذ الخير ، فجعل قوله بدل اتخاذ الخير حب الخير .
  فأما قوله تعالى : ( رُدُّوهَا عَلَيَّ ) فهو للخيل لا محالة على مذهب سائر أهل التفسير .
  فأما قوله تعالى : ( حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ) ، فإن أبا مسلم محمد بن بحر وحده قال إنه عائد إلى الخيل دون الشمس ، لأن الشمس لم يجر لها ذكر في القصة ، وقد جرى للخيل ذكر فرده إليها أولى إذا كانت له محتملة ، وهذا التأويل يبرئ النبي ( ع ) عن المعصية .
  فأما من قال إن قوله تعالى ( حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ) كناية عن الشمس ، فليس في ظاهر القرآن أيضا على هذا الوجه ما يدل على أن التواري كان سببا لفوت الصلاة ، ولا يمتنع أن يكون ذلك على سبيل الغاية لعرض الخيل عليه ثم استعادته لها .
  فأما أبو علي الجبائي وغيره ، فإنه ذهب إلى أن الشمس لما توارت بالحجاب وغابت كان ذلك سببا لترك عبادة كان يتعبد بها بالعشي ، وصلاة نافلة كان يصليها فنسيها شغلا بهذه الخيل وإعجابا بتقليبها ، فقال هذا القول

اتنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 135 _

  على سبيل الاغتمام لما فاته من الطاعة ، وهذا الوجه أيضا لا يقتضي إضافة قبيح إليه ( ع ) لأن ترك النافلة ليس بقبيح ولا معصية .
  وأما قوله تعالى : ( فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ ) فقد قيل فيه وجوه :
  منها : أنه عرقبها ومسح أعناقها وسوقها بالسيف من حيث شغلته عن الطاعة ، ولم يكن ذلك على سبيل العقوبة لها لكن حتى لا يتشاغل في المستقبل بها عن الطاعات ، لأن للإنسان أن يذبح فرسه لأكل لحمها ، فكيف إذا انضاف إلى ذلك وجه آخر يحسنه .
  وقد قيل أنه يجوز أن يكون لما كانت الخيل أعز ما له عليه أراد أن يكفر عن تفريطه في النافلة فذبحها وتصدق بلحمها على المساكين ، قالوا فلما رأى حسن الخيل راقته وأعجبته ، أراد أن يقترب إلى الله تعالى بالمعجب له الرائق في عينه ، ويشهد بصحة هذا المذهب قوله تعالى : ( لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ) (1) .
  فأما أبو مسلم فإنه ضعف هذا الوجه وقال : لم يجر للسيف ذكر فيضاف إليه المسح ، ولا يسمى العرب الضرب بالسيف والقطع به مسحا ، قال فإن ذهب ذاهب إلى قول الشاعر :
فقلت    لهم    ظنوا   بإلقاء   iiمذحج      سراتهم في الفارسي المسرد أي أيقنوا

  فإن هذا الشاعر يعني أنه عرقب الإبل للأضياف فمسح بأسنمتها ما صار على سيفه من دنس عراقبها وهو الدم الذي أصابه منها ، وليس في الآية ما يوجب ذلك ولا ما يقاربه ، وليس الذي أنكره أبو مسلم بمنكر لأن أكثر أهل التأويل وفيهم من يشار إليه في اللغة ، روى أن المسح ههنا هو القطع وفي الاستعمال المعروف : مسحه بالسيف إذا قطعه وبتره ، والعرب تقول مسح علاوتها أي ضربها .
  ومنها : أن يكون معنى مسحها هو أنه أمر يده عليها صيانة لها وإكراما

---------------------------
(1) آل عمران : 92 .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 136 _

  لما رأى من حسنها ، فمن عادة من عرضت عليه الخيل أن يمر يده على أعرافها وأعناقها وقوائمها .
  ومنها : أن يكون معنى المسح ههنا هو الغسل ، فإن العرب تسمي الغسل مسحا ، فكأنه لما رأى حسنها أراد صيانتها وإكرامها فغسل قوائمها وأعناقها وكل هذا واضح .

  تنزيه سليمان عن الفتنة :
  ( مسألة ) : فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : ( وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ) (1) أو ليس قد روي في تفسير هذه الآية أن جنيا كان اسمه صخرا تمثل على صورته وجلس على سريره ، وأنه أخذ خاتمه الذي فيه النبوة فألقاه في البحر ، فذهبت نبوته وأنكره قومه حتى عاد إليه من بطن السمكة .
  ( الجواب ) : قلنا : أما ما رواه الجهال في القصص في هذا الباب فليس مما يذهب على عاقل بطلانه ، وأن مثله لا يجوز على الأنبياء عليهم السلام ، وأن النبوة لا تكون في خاتم ولا يسلبها النبي ( ع ) ولا ينزع عنه ، وأن الله تعالى لا يمكن الجني من التمثيل بصورة النبي ( ع ) ولا غير ذلك مما افتروا به على النبي ( ع ) .
  وإنما الكلام على ما يقتضيه ظاهر القرآن ، وليس في الظاهر أكثر من أن جسدا القي على كرسيه على سبيل الفتنة له وهي الاختبار والامتحان ، مثل قوله تعالى : ( الم ، أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ) (2)والكلام في ذلك الجسد ما هو إنما يرجع فيه إلى الرواية الصحيحة التي لا تقتضي إضافة قبيح إليه تعالى ، وقد قيل في ذلك

---------------------------
(1) ص 34 .
(2) العنكبوت : 1 ـ 3 .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 137 _

  أشياء ( منها ) : أن سليمان عليه السلام قال يوما في مجلسه وفيه جمع كثير : " لأطوفن الليلة على مائة امرأة تلد كل امرأة منهن غلاما يضرب بالسيف في سبيل الله " وكان له فيما روي عدد كثير من السراري ، فأخرج كلامه على سبيل المحبة بهذا الحال ، فنزهه الله تعالى عن الكلام الذي ظاهره الحرص على الدنيا والتثبت بها لئلا يقتدى به في ذلك ، فلم تحمل من نسائه إلا امرأة واحدة فألقت ولدا ميتا ، فحمل حتى وضع على كرسيه جسدا بلا روح تنبيها له على أنه ما كان يجب بأن يظهر منه ما ظهر ، فاستغفر ربه وفزع إلى الصلاة والدعاء .
  وهذا الوجه إذا صح ليس يقتضي معصية صغيرة على ما ظنه بعضهم حتى نسب الاستغفار والإنابة إلى ذلك ، وذلك لأن محبة الدنيا على الوجه المباح ليس بذنب وإن كان غيره أولى منه ، والاستغفار عقيب هذه الحال لا يدل على وقوع ذنب في الحال ولا قبلها ، بل يكون محمولا على ما ذكرناه آنفا في قصة داود عليه السلام من الانقطاع إلى الله تعالى وطلب ثوابه .
  فأما قول بعضهم : إن ذنبه من حيث لم يستثن بمشيئة الله تعالى لما قال : تلد كل امرأة واحدة منهن غلاما ، وهذا غلط لأنه ( ع ) وإن لم يستثن ذلك لفظا قد استثناه ضميرا أو اعتقادا ، إذ لو كان قاطعا مطلقا للقول لكان كاذبا أو مطلقا لما لا يأمن أن يكون كذبا ، وذلك لا يجوز عند من جوز الصغائر على الأنبياء عليهم السلام .
  وأما قول بعضهم : إنه ( ع ) إنما عوتب واستغفر لأجل أن فريقين اختصما إليه ، أحدهما من أهل جرادة امرأة له كان يحبها ، فأحب أن يقع القضاء لأهلها فحكم بين الفريقين بالحق ، وعوتب على محبة موافقة الحكم لأهل امرأته ، فليس هذا أيضا بشئ لأن هذا المقدار الذي ذكروه ليس بذنب يقتضي عتابا إذا كان لم يرد القضاء بما يوافق امرأته على كل حال ، بل مال طبعه إلى أن يكون الحق موافقا لقول فريقها ، وأن يتفق أن يكون في جهتها

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 138 _

  من غير أن يقتضي ذلك ميلا منه إلى الحكم أو عدولا عن الواجب .
  ( ومنها ) : أنه روي عن الجن لما ولد لسليمان عليه السلام ولد قالوا لنلقين من ولده مثل ما لقينا من أبيه ، فلما ولد له غلام أشفق عليه منهم فاسترضعه في المزن وهو السحاب فلم يشعر إلا وقد وضع على كرسيه ميتا تنبيها له على أن الحذر لا ينقطع مع القدر .
  ( ومنها ) : أنهم ذكروا أنه كان لسليمان ( ع ) ولد شاب ذكي وكان يحبه حبا شديدا فأماته الله تعالى على بساطه فجأة بلا مرض اختبارا من الله تعالى لسليمان ( ع ) وابتلاء لصبره في إماتة ولده ، وألقى جسده على كرسيه ، وقيل إن الله جل ثنائه أماته في حجره وهو على كرسيه فوضعه من حجره عليه .
  ومنها : ما ذكره أبو مسلم ، فإنه قال جايز أن يكون الجسد المذكور هو جسد سليمان ( ع ) ، وأن يكون ذلك لمرض امتحنه تعالى به ، وتلخيص الكلام : ( وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ) وذلك لشدة المرض .
  والعرب تقول في الإنسان إذا كان ضعيفا ( إنه لحم على وضم ) ، كما يقولون : ( إنه جسد بلا روح ) تغليظا للعلة ومبالغة في فرط الضعف .
  ( ثُمَّ أَنَابَ ) أي رجع إلى حال الصحة واستشهد على الاختصار والحذف في الآية بقوله تعالى : ( وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ) (1) ولو أتي بالكلام على شرحه لقول الذين كفروا منهم أي من المجادلين .
  كما قال تعالى : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء

---------------------------
(1) الأنعام : 25 .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) ـ 139 ـ

  بَيْنَهُمْ ) إلى قوله : ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) (1) وقال الأعشى في معنى الاختصار والحذف : وكأن السموط علقها السلك ، بعطفي جيداء أم غزال ولو أتي بالشرح لقال علقها السلك منها .
  وقال كعب بن زهير : زالوا فما زال انعكاس ولا كشف ، عند اللقاء ولا ميل معازيل وإنما أراد فما زال منهم انعكاس ولا كشف وشواهد هذا المعنى كثيرة .

  تنزيه سليمان عن الشح وعدم القناعة :
  ( مسألة ) : فإن قيل فما معنى قول سليمان عليه السلام : ( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ) (2) أو ليس ظاهر هذا القول منه ( ع ) يقتضي الشح والظن والمنافة لأنه لم يقنع بمسألة الملك حتى أضاف إلى ذلك أن يمنع غيره منه ؟ .
  ( الجواب ) قلنا : قد ثبت أن الأنبياء عليهم السلام لا يسألون إلا ما يؤذن لهم في مسألته ، لا سيما إذا كانت المسألة ظاهرة يعرفها قومهم .
  وجايز أن يكون الله تعالى أعلم سليمان ( ع ) أنه إن سأل ملكا لا يكون لغيره كان أصلح له في الدين والاستكثار من الطاعات ، وأعلمه أن غيره لو سأل ذلك لم يجب إليه من حيث لا صلاح له فيه .
  ولو أن أحدنا صرح في دعائه بهذا الشرط حتى يقول اللهم اجعلني أيسر أهل زماني وارزقني مالا يساويني فيه غيري إذا علمت أن ذلك أصلح لي وأنه أدعى إلى ما تريده مني ، لكان هذا

---------------------------
(1) الفتح : 29 .
(2) ص 35 .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 140 _

  الدعاء منه حسنا جميلا وهو غير منسوب به إلى بخل ولا شح . وليس يمتنع أن يسأل النبي هذه المسألة من غير إذن إذا لم يكن شرط ذلك بحضرة قومه ، بعد أن يكون هذا الشرط مرادا فيها ، وإن لم يكن منطوقا به ، وعلى هذا الجواب اعتمد أبو علي الجبائي .
  ووجه آخر : وهو أن يكون عليه السلام إنما التمس أن يكون ملكه آية لنبوته ليتبين بها عن غيره ممن ليس نبيا .
  وقوله ( لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي ) أراد به لا ينبغي لأحد غيري ممن أتى مبعوث إليه ، ولم يرد من بعده إلى يوم القيامة من النبيين ( ع ) ، ونظير ذلك أنك تقول للرجل أنا أطيعك ثم لا أطيع أحدا بعدك ، تريد ولا أطيع أحدا سواك ، ولا تريد بلفظة بعد المستقبل ، وهذا وجه قريب .
  وقد ذكر أيضا في هذه الآية ومما لا يذكر فيها مما يحتمله الكلام أن يكون ( ع ) إنما سأل ملك الآخرة وثواب الجنة التي لا يناله المستحق إلا بعد انقطاع التكليف وزوال المحنة ، فمعنى قوله لا ينبغي لأحد من بعدي أي لا يستحقه بعد وصولي إليه أحد من حيث لا يصح أن يعمل ما يستحق به لانقطاع التكليف .
  ويقوي هذا الجواب قوله ( رَبِّ اغْفِرْ لِي ) وهو من أحكام الآخرة . وليس لأحد أن يقول إن ظاهر الكلام بخلاف ما تأولتم ، لأن لفظة بعدي لا يفهم منها بعد وصولي إلى الثواب ، وذلك أن الظاهر غير مانع من التأويل الذي ذكرناه ، ولا مناف له ، لأنه لا بد من أن تعلق لفظة بعدي بشئ من أحواله المتعلقة به ، وإذا علقناها بوصوله إلى الملك كان ذلك في الفايدة ومطابقة الكلام كغيره مما يذكر في هذا الباب .
  ألا ترى أنا إذا حملنا لفظة بعدي على نبوتي أو بعد مسألتي أو ملكي ، كان ذلك كله في حصول الفايدة به ، يجري مجرى أن تحملها إلى بعد وصولي إلى الملك ، فإن ذلك مما يقال فيه أيضا بعدي .
  ألا ترى أن القائل يقول دخلت الدار بعدي ووصلت إلى كذا وكذا بعدي ، وإنما يريد بعد دخولي وبعد وصولي وهذا واضح بحمد الله .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 141 _

  يونس عليه السلام :
  تنزيه يونس عليه السلام عن الظلم :
  ( مسألة ) : فإن قيل فما معنى قوله تعالى : ( وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) (1) وما معنى غضبه وعلى من كان غضبه وكيف ظن أن الله تعالى لا يقدر عليه ؟ وذلك مما لا يظنه مثله ؟ وكيف اعترف بأنه من الظالمين والظلم قبيح ؟ .
  ( الجواب ) : قلنا أما من يونس عليه السلام خرج مغاضبا لربه من حيث لم ينزل بقومه العذاب ، فقد خرج في الافتراء على الأنبياء عليهم السلام وسوء الظن بهم عن الحد ، وليس يجوز أن يغاضب ربه إلا من كان معاديا له وجاهل بأن الحكمة في سائر أفعاله ، وهذا لا يليق باتباع الأنبياء ( ع ) من المؤمنين فضلا عمن عصمه الله تعالى ورفع درجته ، أقبح من ذلك ظن الجهال وإضافتهم إليه عليه السلام أنه ظن أن ربه لا يقدر عليه من جهة القدرة التي يصح بها الفعل .
  ويكاد يخرج عندنا من ظن بالأنبياء عليهم السلام مثل ذلك عن باب التمييز والتكليف ، وإنما كان غضبه ( ع )

---------------------------
(1) الأنبياء : 87 .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 142 _

  على قومه لبقائهم على تكذيبه وإصرارهم على الكفر ويأسه من إقلاعهم وتوبتهم ، فخرج من بينهم خوفا من أن ينزل العذاب بهم وهو مقيم بينهم .
  وأما قوله تعالى : ( فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ) ، فمعناه أن لا نضيق عليه المسلك ونشدد عليه المحنة والتكليف ، لأن ذلك مما يجوز أن يظنه النبي ، ولا شبهة في أن قول القائل قدرت وقدرت بالتخفيف والتشديد معناه التضييق .
  قال الله تعالى : ( وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ) (1) .
  وقال تعالى : ( اللّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ ) (2) ، أي يوسع ويضيق .
  وقال تعالى : ( وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ) (3) أي ضيق ، والتضييق الذي قدره الله عليه هو ما لحقه من الحصول في بطن الحوت وما ناله في ذلك من المشقة الشديدة إلى أن نجاه الله تعالى منها .
  وأما قوله تعالى : ( فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) (4) فهو على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى والخشوع له والخضوع بين يديه ، لأنه لما دعاه لكشف ما امتحنه به وسأله أن ينجيه من الظلمات التي هي ظلمة البحر وظلمة بطن الحوت وظلمة الليل ، فعل ما يفعله الخاضع الخاشع من الانقطاع والاعتراف بالتقصير ، وليس لأحد أن يقول كيف يعترف بأنه كان من الظالمين ولم يقع منه ظلم ، وهل هذا إلا الكذب بعينه ؟ وليس يجوز أن يكذب النبي ( ع ) في حال خضوع ولا غيره .

---------------------------
(1) الطلاق : 7 .
(2) الرعد : 26 .
(3) الفجر : 16 .
(4) الأنبياء : 87 .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 143 _

  وذلك أنه يمكن أن يريد بقوله إني كنت من الظالمين ، أي من الجنس الذي يقع منهم الظلم ، فيكون صدقا ، وإن ورد على سبيل الخضوع والخشوع لأن جنس البشر لا يمتنع منه وقوع الظلم .
  فإن قيل : فأي فايدة في أن يضيف نفسه إلى الجنس الذي يقع منهم الظلم إذا كان الظلم منتفيا عنه في نفسه ؟.
  قلنا : الفايدة في ذلك التطامن لله تعالى والتخاضع ونفي التكبر والتجبر ، لأن من كان مجتهدا في رغبة إلى مالك قدير ، فلا بد من أن يتطأطأ ، ويجتهد في الخضوع بين يديه ، ومن أكبر الخضوع أن يضيف نفسه إلى القبيل الذي يخطئون ويصيبون كما يقول الإنسان ، إذا أراد أن يكسر نفسه وينفي عنها دواعي الكبر والخيلاء : إنما أنا من البشر ولست من الملائكة ، وأنا ممن يخطئ ويصيب ، وهو لا يريد إضافة الخطأ إلى نفسه في الحال ، بل يكون الفايدة ما ذكرناها .
  ووجه آخر : وهو إنا قد بينا في قصة آدم عليه السلام لما تأولنا قوله تعالى : ( رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا ) أن المراد بذلك أنا نقصناها الثواب وبخسناها حظها منه ، لأن الظلم في أصل اللغة هو النقص والثلم ، ومن ترك المندوب إليه ، وهو لو فعله لاستحق الثواب ، يجوز أن يقال إنه ظلم نفسه من حيث نقصها ذلك الثواب ، وليس يمتنع أن يكون يونس عليه السلام أراد هذا المعنى لأنه لا محالة قد ترك كثيرا من المندوب ، فإن استيفاء جميع الندب يتعذر ، وهذا أولي مما ذكره من جوز الصغائر على الأنبياء عليهم السلام ، لأنهم يدعون أن خروجه كان بغير إذن من الله تعالى له ، فكان قبيحا صغيرا ، وليس ذلك بواجب على ما ظنوه ، لأن ظاهر القرآن لا يقتضيه ، وإنما أوقعهم في هذه الشبهة قوله ( إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) .
  وقد بينا وجه ذلك وأنه ليس بواجب أن يكون خبرا عن المعصية ، وليس لهم أن يقولوا كيف يسمى من ترك النفل بأنه ظالم ؟ وذلك أنا قد بينا وجه هذه التسمية في اللغة وإن كان

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 144 _

  إطلاق اللفظة في العرف لا يقتضيه .
  وعلى من سأل عن ذلك مثله إذا قيل له كيف يسمي كل من قبل معصية بأنه ظالم ؟ وإنما الظلم المعروف هو الضرر المحض الموصل إلى الغير ؟ فإذا قالوا إن في المعصية معنى الظلم وإن لم يكن ضررا يوصل إلى الغير من حيث نقصت ثواب فاعلها .
  قلنا : وهذا المعنى يصح في الندب ، على أن يجري ما يستحق من الثواب مجرى المستحق ، وبعد فإن أبا علي الجبائي وكل من وافقه في الامتناع من القول بالموازنة في الاحباط لا يمكنه أن يجيب بهذا الجواب ، فعلى أي وجه يا ليت شعري يجعل معصية يونس ( ع ) ظلما ، وليس فيها من معنى الظلم شئ .
  وأما قوله تعالى : ( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ ) (1) فليس على ما ظنه الجهال من أنه ( ع ) ثقل عليه أعباء النبوة لضيق خلقه ، فقذفها ، وإنما الصحيح أن يونس لم يقو على الصبر على تلك المحنة التي ابتلاه الله تعالى بها وعرضه لنزولها به لغاية الثواب فشكى إلى الله تعالى منها وسأله الفرج والخلاص ، ولو صبر لكان أفضل ، فأراد الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله أفضل المنازل وأعلاها .

---------------------------
(1) القلم : 48 .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 145 _

  عيسى عليه السلام :
  تنزيه عيسى ( ع ) عن ادعائه الألوهية :
  ( مسألة ) : فإن قيل فما معنى قوله تعالى : ( وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) (1) وليس يخلو من أن يكون عيسى عليه السلام ممن قال ذلك ، أو يجوز أن يقوله .
  وهذا خلاف ما تذهبون إليه في الأنبياء عليهم السلام .
  أو يكون ممن لم يقل ذلك ولا يجوز أن يقوله فلا معنى لاستفهامه تعالى منه وتقريره ، ثم أي معنى في قوله ولا أعلم ما في نفسك ؟ وهذه اللفظة لا تكاد تستعمل في الله تعالى .
  ( الجواب ) : قلنا : إن قوله تعالى ( أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ) ليس باستفهام على الحقيقة وإن كان خارجا مخرج الاستفهام ، والمراد به تقريع من ادعى ذلك عليه من النصارى وتوبيخهم وتأنيبهم وتكذيبهم ، وهذا يجري مجرى قول أحدنا لغيره أفعلت كذا وكذا ؟ وهو يعلم أنه لم يفعله ويكون مراده تقريع من ادعى ذلك عليه ، وليقع الإنكار والجحود ممن خوطب بذلك فيبكت من ادعاه عليه .

---------------------------
(1) المائدة : 116 .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 146 _

  وفيه وجه آخر : وهو أنه تعالى أراد بهذا القول تعريف عيسى عليه السلام أن قوما قد اعتقدوا فيه وفي أمه أنهما إلهان ، لأنه ممكن أن يكون عيسى ( ع ) لم يعرف ذلك إلا في تلك الحال ، ونظيره في التعارف أن يرسل الرجل رسولا إلى قوم فيبلغ الرسول رسالته ويفارق القوم فيخالفونه بعده ويبدلون ما أتى به وهو لا يعلم ، ويعلم المرسل له ذلك ، فإذا أحب أن يعلمه مخالفة القوم له جاز أن يقول له أأنت أمرتهم بكذا وكذا على سبيل الإخبار له بما صنعوا .
  بيان معنى النفس في اللغة : فأما قوله ( ع ) : تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ، فإن لفظة النفس تنقسم في اللغة إلى معان مختلفة .
   فالنفس نفس الإنسان أو غيره من الحيوان ، وهي التي إذا فقدها خرج عن كونه حياء .
  ومنه قوله تعالى : ( كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ ) ( 1 ) والنفس أيضا ذات الشئ الذي يخبر عنه كقولهم : فعل ذلك فلان نفسه ، إذا تولى فعله ، وأعطى كذا وكذا بنفسه ، والنفس أيضا الآنفة ، كقولهم : ليس لفلان نفس ، أي لا أنفة له ، والنفس أيضا الإرادة ، يقولون نفس فلان في كذا وكذا أي إرادته .
  قال الشاعر :
فنفسان نفس قالت ائت ابن بجدل      تجد  فرجا  من  كل  غم  iiتهابها
ونفس  تقول اجهد بحال ولا iiتكن      كخاضبة  لم  يغن  شيئا iiخضابها

ومنه أن رجلا قال للحسن : يا أبا سعيد لم أحجج قط إلا ولي نفسان ،

---------------------------
(1) آل عمران : 185 والأنبياء 35 والعنكبوت 57 .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 147 _

  فنفس تقول لي أحجج ، ونفس تقول لي تزوج ، فقال الحسن : إنما النفس واحدة ، ولكن هم يقول أحجج ، وهم يقول لك تزوج وأمره بالحج .
  وقال الممزق العبدي :
ألا  من لعين قد نآها iiحميمها      وأرقها   بعد  المنام  iiهمومها
فباتت له نفسان شتى همومها      فنفس  تعزيها  ونفس iiتلومها

  والنفس أيضا العين التي تصيب الإنسان ، يقال أصابت فلانا نفس أي عين . وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يرقي فيقول : ( بسم الله أرقيك والله يشفيك من كل داء هو فيك من عين عائن ونفس نافس وحسد حاسد ) ، وقال ابن الأعرابي : النفوس التي تصيب الناس بالنفس .
  وذكر رجلا فقال : كان والله حسودا نفوسا كذوبا .
وقال عبد الله بن قيس في الرقيات :
يتقي أهلها النفوس عليها      فـعلى  نـحرها iiالرقي
  والتميم والنفس أيضا من الدباغ مقدار الدبغة ، يقال أعطني نفسا من الدباغ أي قدر ما أدبغ به مرة .
  والنفس أيضا الغيب ، يقول القائل : إني لا أعلم نفس فلان ، أي غيبه ، وهذا هو تأويل قوله : ( تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ) ، أي تعلم غيبي وما عندي ، ولا أعلم غيبك وما عندك .
  وقيل إن النفس أيضا العقوبة ، من قولهم : أحذرك نفسي أي عقوبتي ، وبعض المفسرين حمل قوله تعالى : ( وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ ) على هذا المعنى ، كأنه قال : يحذركم الله عقوبته ، روي ذلك عن ابن عباس والحسن ، وآخرون قالوا : معنى الآية ويحذركم الله إياه .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 148 _

  فإن قيل : فما وجه تسمية الغيب بأنه نفس ؟ .
  قلنا : لا يمتنع أن يكون الوجه في ذلك أن نفس الإنسان لما كانت خفية الموضع الذي يودعه سرها ، أنزل ما يكتمه ويجهد في سره منزلتها فقيل فيه أنه نفس مبالغة في وصفه بالكتمان والخفاء ، وإنما حسن أن يقول مخبرا عن نبيه ( ع ) ( وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ) من حيث تقدم قوله ( تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي ) ليزدوج الكلام ، فلهذا لا يحسن ابتداء أن يقول أنا لا أعلم ما في نفس الله تعالى ، وإن حسن على الوجه الأول ، ولهذا نظائر في الكلام مشهورة .

  حول تفويضه الأمر لله تعالى :
  ( مسألة ) : فإن قيل فما معنى قوله تعالى حاكيا عن عيسى ( ع ) : ( إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (1)وكيف يجوز هذا المعنى مع علمه ( ع ) بأنه تعالى لا يغفر للكفار ؟ .
  ( الجواب ) : قلنا : المعنى بهذا الكلام تفويض الأمر إلى مالكه وتسليمه إلى مديره ، والتبري من أن يكون إليه شئ من أمور قومه ، وعلى هذا يقول أحدنا إذا أراد أن يتبرأ من تدبير أمر من الأمور ويسلم منه ويفوض أمره إلى غيره ، يقول : هذا الأمر لا مدخل لي فيه فإن شئت أن تفعله ، وإن شئت أن تتركه ، مع علمه وقطعه على أن أحد الأمرين لا بد أن يكون منه ، وإنما حسن منه ذلك لما أخرج كلامه مخرج التفويض والتسليم .
  وقد روي عن الحسن أنه قال : معنى الآية إن تعذبهم فبإقامتهم على كفرهم ، وإن تغفر لهم فبتوبة كانت منهم ، فكأنه اشترط التوبة وإن لم يكن الشرط ظاهرا في الكلام .

---------------------------
(1) المائدة : 118 .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 149 _

  فإن قيل : فلم لم يقل وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم ؟ فهو أليق في الكلام ومعناه من العزيز الحكيم ؟ .
  قلنا : هذا سؤال من لم يعرف معنى الآية ، لأن الكلام لم يخرج مخرج مسألة غفران ، فيليق بما ذكر في السؤال ، وإنما ورد على معنى تسليم الأمر إلى مالكه ، فلو قيل فإنك أنت الغفور الرحيم ، لأوهم الدعاء لهم بالمغفرة ، ولم يقصد ذلك بالكلام ، على أن قوله ( العزيز الحكيم ) أبلغ في المعنى وأشد استيفاء من ( الغفور الرحيم ) وذلك أن الغفران والرحمة قد يكونان حكمة وصوابا ، ويكونا بخلاف ذلك ، فهما بالاطلاق لا يدلان على الحكمة والحسن .
  والوصف بالعزيز الحكيم يشتمل على معنى الغفران والرحمة ، وإذا كانا صوابين ، ويزيد عليهما باستيفاء معان كثيرة ، لأن العزيز هو المنيع القادر الذي لا يذل ولا يضام ، وهذا المعنى لا يفهم من الغفور الرحيم البتة .
  وأما الحكيم فهو الذي يضع الأشياء مواضعها ويصيب بها أغراضها ، ولا يفعل إلا الحسن الجميل ، فالمغفرة والرحمة إذا أقضتهما الحكمة دخلتا في قوله العزيز الحكيم ، وزاد معنى هذه اللفظة عليهما من حيث اقتضاء وصفه بالحكمة في سائر أفعاله ، وإنما طعن بهذا الكلام من الملحدين من لا معرفة له بمعاني الكلام ، وإلا فبين ما تضمنه القرآن من اللفظة وبين ما ذكروه فرق ظاهر في البلاغة واستيفاء المعاني والاشتمال عليها .

تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) _ 150 _

  سيدنا محمد المصطفى صلى الله عليه وآله
  تنزيه محمد ( ع ) عن الضلال :
  ( مسألة ) : فإن قيل فما معنى قوله تعالى : ( وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى ) (1) أو ليس هذا يقتضي إطلاقه الضلال عن الدين ؟ وذلك مما لا يجوز عندكم قبل النبوة ولا بعدها ؟
  ( الجواب ) : قلنا في معنى هذه الآية أجوبة :
  ( أولها ) : أنه أراد : وجدك ضالا عن النبوة فهداك إليها ، أو عن شريعة الإسلام التي نزلت عليه وأمر بتبليغها إلى الخلق ، وبإرشاده صلى الله عليه وآله إلى ما ذكرناه أعظم النعم عليه .
  والكلام في الآية خارج مخرج الامتنان والتذكير بالنعم ، وليس لأحد أن يقول إن الظاهر بخلاف ذلك ، لأنه لا بد في الظاهر من تقدير محذوف يتعلق به الضلال ، لأن الضلال هو الذهاب والانصراف فلا بد من أمر يكون منصرفا عنه ، فمن ذهب إلى أنه أراد الذهاب عن الدين فلا بد له من أن يقدر هذه اللفظة ثم يحذفها ليتعلق بها لفظ الضلال ، وليس هو بذلك أولى منا فيما قدرناه وحذفناه .
  ( وثانيها ) : أن يكون أراد الضلال عن المعيشة وطريق الكسب ، يقال

---------------------------
(1) الضحى : 7 .