المصرع الثالث عشر
  وهو مصرع الصادق (عليه السلام)
   ما لي أرى أرباب الإيمان في غفلة ساهين ، وأصحاب الأديان عما يراد بهم غافلين ، وبزهوة دني الدنيا لاهين ، وعلى نمارق غرورها متّكئين ، وفي سرر بهجتها راقدين ، ولمعانقة خودها (1) طالبين ، وعن سلوك مناهج الآخرة قاعدين ، وفي السعي لتحصيلها متوانين ، وعن نعيمها الدائم عمين ؟!
   ما هذا شأن العاقلين ، ولا من عادة العارفين ، ويحهم أما كانوا بالنصوص سامعين ، أم سمعوا وما كانوا موقنين ، فأقسم بديّان الدين وبارئ الخلائق أجمعين ، إنهم عن ذلك لمسؤولون ، وعلى القطمير والقنطار لمحاسبون ، وإنهم إلى الآخرة لصائرون ، وبالعبور على جسر جهنم لمكلّفون .
   فتزوّدوا أيها المسافر ، فالطريق بعيد ، وتفقّه أيها المتاجر لئلا ترتطم في بحار التفنيد ، وانظر بعين بصيرتك تكن بصيرا ، وصفّ مورد سريرتك تكن محبورا ، واكتم أيها العاشق فمحبوبك كتوم ، ومت بهواك أيها الوامق فالرقيب نموم ، وخذ قول النبي المجيد ، واقتد بالعاشق الوحيد ، فقد أوضح لك الطريق ، وأوقفك على جادة التحقيق ، بقوله في كلامه المرويّ في صحيح الأسانيد : « من عشق فكتم فمات فهو شهيد » (2) .

---------------------------
(1) الخود : الشابة الناعمة الحسنة الخَلق ، جمعه خود وخَودات .
(2) تاريخ بغداد : 11 : 297 عن ابن عباس ، وفيه : « وعفّ فمات » .
  كنز العمال : 3 : 372 | 6999 عن عائشة ، وح 7000 خطيب عن ابن عباس ، و 4 : 420 |11203 خطيب عن ابن عباس . =

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 209 _

   ويك ، أتدّعي المحبة وتسلك غير طريق المحبوب ؟ وتزيّن قامتك بخلع الرغبة وأنت بعيد عن المطلوب ، جاف جنبك عن فراش الهناء إن كنت طامعا في اللقاء ، وأنزح بقلبك عن مواطن القلى إن رمت الوصال في الحمى ، أترى المحبوب زائرك وأنت مرقوب ؟ وتتمنى الإستراحة بقربه وقلبك بهوى غيره متعوب ؟ ألم يرفع لك أعلام الهداية الواضحة ، ويوقفك على نجوم الدراية اللائحة ؟ فما حجتك في التواني ؟ وما وسائلك في ترك القرب والتداني ؟ ألم يبلّغك على لسان النبي الأواه : ( قل [ إن كنتم تحبون الله فـ ] اتبعوني يحببكم الله ) (1) ؟ ألم يعرّفك شأن العشاق بلا اشتباه بقوله : ( الَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ ) (2) ؟
   فدونك الرفيق فقد أمن الطريق ، وقد وقفت على التحقيق ، فإياك والتعويق ، الطريق محمد وآله ، ومتابعة دين الحق ورجاله ، فهم سرّ الله المخزون ، وأولياؤه المقربون ، وهم الكاف والنون ، إلى الله يدعون ، وعنه يقولون ، وبأمره يعملون ، وفي ذلك سر مصون ، ومن أنكر ذلك فهو شقيّ ملعون ، فكلما في الذكر الحكيم ، والكلام القديم ، من آية تذكر فيها العين والوجه واليد والجنب والحقّ والصراط ، فهم هم ، لأنّ ظاهرهم باطن الصفات ، وهم السرّ المستودع في الكلمات ، أما سمعت قول النبي الهادي صلى الله عليه وآله : « إن لله أعينا وأيادي » .
   فهم الجنب العليّ ، والوجه الرضي ، والمثل الرويّ ، والصراط السويّ ، والوسيلة إلى الله ، والوصلة إلى عفوه ورضاه ، فهم عين الأحد ، فلا يقاس بهم من الخلق أحد ، وهم خاصة الله وخالصته ، وسرّ الديان وكلمته .

---------------------------
=   البداية والنهاية : 11 : 125 ، الجامع الصغير للسيوطي : 2 : 263 |8853 ، سبل الرشاد والهدى للصالحي الشامي : 12 : 93 باب 39 ، فيض القدير : 6 : 232 | 8852 ، شرح النهج لابن أبي الحديد : 20 : 233 .
(1) سورة آل عمران : 3 : 31 .
(2) سورة البقرة : 2 : 165 .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 210 _

تركت هوى ليلى وسعدى بمعزل
ومـلت إلى ذكرى حبيب iiومنزل
ونـادتني  الأشواق ويحك iiهذه
مـنازل  من تهوى فدوك iiفانزل

   عد يا قلب إلى هواك الراسخ ، ودع عنك لمع البرق اللائح ، وانفرد فليس الجمع من حزبك ، ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ ) (1) ، أنّى للمعدم واللذات ، وأنّى للعليل وعناق الغانيات ؟ كيف يستر قلب من أصيب بهداته ، وحطم الدهر نواجم لذّاته ؟ أبعد مصاب الإمام الناطق للقلب سرور ؟ وبعد قتل الحجة الصادق يتهنّى المحب بحبور ؟ هيهات ما ذلك شأن الموالين ، بل هو فعل القالين .
تـقاضي الـنوى مـنّا فـما في iiظلاله      مـقـيل ولا مـمـا جـنـاه iiمـقـيل
فـحسبي إذ شـطّت بـكم غربة iiالنوى      عــلاج نـحـول لا يـكـاد يـحول
أروم  بـمـعتلّ الـصـبائر iiغـلـتي      وأعـجب مـا يـشفى الـغليل iiعـليل
لـعل الـصبا إن شـطّت الدار أو iiنأى      مـثـالكم أو عــزّ مـنـك iiمـثـيل
أحيّي الحيا إن صاب من صوب أرضكم      يـبـاريه  مـن مـرّ الـنسيم iiرمـيل
تـمرّ بـنا فـي الـليل وهناً عسى iiبها      يــداوى عـلـيل أو يـبـلّ iiغـليل
سـرى وبـريق الـثغر وهـناً iiكـأنّما      لــديّ بـريـق الـثغر مـنك يـذيل
وأنـشأ شـمال الـغور لـي منك iiنشأة      غـشـاه  بـمـعتلّ الـشمال iiشـمول
أمـتـهمة  قـلبي مـع الـبين iiسـلوة      ومـتهمة  فـي الـركب لـيس iiتـؤل
   روي في كتاب الراوندي عن أبي عبدالله عليه السلام أنه قال : « علمنا غابر ومزبور ، ونكت في القلوب ، ونقر في الأسماع ، وعندنا الجفر الأبيض والجفر الأحمر ، أما الجفر الأبيض فهو التوراة ، وأما الجفر الأحمر فهو سلاح رسول

---------------------------
(1) سورة الفجر 89 : 28 .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 211 _

  الله صلى الله عليه وآله ، وعندنا مصحف فاطمة وهو علم ما يكون من الحوادث واسم من يملّك منّا إلى يوم القيامة ، وعندنا الجامعة وهي ما يحتاج الناس إليه من أمور دينهم ، وعندنا الصحيفة وفيها اسم مَن وُلد ومن يولد إلى يوم القيامة ، ذلك فضل الله علينا وعلى الناس ولكنّ أكثر الناس لا يشكرون » (1) .
   وروي في كتاب المجالس أنّ مولد الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام كان يوم الاثنين سابع [ عشر ] ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين من الهجرة (2) .

---------------------------
(1) رواه الراوندي في الخرائج : 2 : 894 قال : وكان عليه السلام يقول : « علمنا غابر ومزبور ونكت في القلوب ونقر في الأسماع ، وإن عندنا الجفر الأحمر والجفر الأبيض ومصحف فاطمة عليها السلام ، وإن عندنا الجامعة التي فيها جميع ما يحتاج الناس إليه » .
  فسئل عن تفسيرها فقال : « أما الغابر فالعلم بما يكون ، وأما المزبور فالعلم بما كان ، وأما النكت في القوب فالإلهام ، والنقر في الأسماع حديث الملائكة نسمع كلامهم ولانرى أشخاصهم ، وأما الجفر الأحمر فوعاء فيه سلاح رسول الله صلى الله عليه وآله ولن يخرج حتى يقوم قائمنا أهل البيت ، وأما الجفر الأبيض فوعاء فيه توراة موسى وإنجيل عيسى وزبور داود ، وفيها كتب الله الأولى ، وأما مصحف فاطمة ففيه ما يكون من حادث واسماء كلّ من يملك إلى أن تقوم الساعة ، وأما الجامعة فهي كتاب طوله سبعون ذراعا إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله من فلق فيه وخطّ علي بن أبي طالب بيده ، فيه والله جميع ما يحتاج الناس إليه إلى يوم القيامة ، حتى أرش الخدش والجلدة ونصف الجلدة » .
  وقال : « ألواح موسى عندنا ، وعصا موسى عندنا ، ونحن ورثة النبيين ، حديثي حديث أبي ، وحديث أبي حديث جدّي ، وحديث جدّي حديث علي بن أبي طالب ، وحديث علي حديث رسول الله ، وحديث الله قول الله عزوجل » .
  ورواه الكليني في الكافي : 1 : 264 ح 3 وص 239 ح 1 من باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة عليها السلام من كتاب الحجة ، والصفار في بصائر الدرجات : ص 151 ح 3 من الباب 14 وأحاديث قبله وبعده ، والمفيد في الإرشاد : 2 : 186 ، والطبرسي في الاحتجاج : 2 : 294 برقم 246 ، والإربلي في كشف الغمة : 2 : 381 ، وابن شهر آشوب في المناقب : 4 : 298 في معالي أموره عليه السلام .
(2) ورواه ـ مقتصرا على سنة الولادة ـ الكليني في الكافي : 1 : 472 ، وابن الخشاب في مواليد =

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 212 _

   وروي أيضا في كتاب النوادر يرفعه إلى عبدالعظيم [ بن عبدالله ] الحسني قال : دخل عمر [ و ] بن عبيد البصري على أبي عبدالله عليه السلام ، فلما سلم وجلس تلا هذه الآية : ( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ ) (1) ، ثم سأل عن الكبائر ، فأجابه عليه السلام فخرج أبو عبيد وله صراخ وبكاء وهو يقول : هلك والله من عمل برأيه ونازعكم في الفضل (2) .
   وروي في كتاب ثواب الأعمال عن المعلّى بن خنيس قال : خرج أبو عبدالله الصادق عليه السلام في ليلة قد رشت السماء وهو يريد ظلّة بني ساعدة ، فاتبعته فإذا [ هو ] قد سقط منه شيء فقال : « بسم الله ، اللهم ردّه (3) علينا » .
   [ قال : ] فأتيته فسلمت عليه ، [ فـ ] قال : « أنت معلى » ؟
   قلت : نعم ، جعلت فداك .
   فقال لي : « التمس بيدك ، فما وجدت من شيء فادفعه إليّ » .
   قال : فإذا بخبز متنشّر ، فجعلت أدفع إليه ما أجد (4) ، فإذا أنا بجراب مملوء

---------------------------
=   الأئمة : ( مجموعة نفيسة : ص 185 ) ، والمفيد في الإرشاد : 179 .
  وقال الطبرسي في إعلام الورى : ص 266 : ولد بالمدينة لثلاث عشر ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين من الهجرة .
  قال : المجلسي في البحار : 47 : 1 : 2 : قال الشهيد في الدروس : ولد عليه السلام بالمدينة يوم الاثنين سابع عشر ربيع الأول سنة وثلاث وثمانين .
   ومثله في تاريخ الغفاري وفي الجدول من مصباح الكفعمي : [ ص 523 ] .
  ومثله في المناقب لابن شهر آشوب : 4 : 301 في تواريخ وأحواله عليه السلام ، والحلي في العدد القويّة : ص 147 .
  وفي تاريخ ولادته قول آخر ، راجع البحار : 47 : 1 .
(1) سورة الشورى : 42 : 37 ، والنجم : 53 : 32 .
(2) ورواه ابن شهر آشوب في المناقب : 4 : 273 مع إضافات .
(3) في المصدر : « ردّ » .
(4) في المصدر : « ما وجدت » .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 213 _

  خبزا (1) ، فقلت له : جعلت فداك ، ( دعني )(2) أحمله عنك .
   فقال : « لا ، أنا أولى منك بحمله (3) ، ولكن امض معي » .
   فانطلقت معه وأتينا (4) ظلّة بني ساعدة ، وإذا بأناس نيام (5) ، فجعل يدسّ الرغيف والرغيفين تحت ثوب كلّ واحد منهم حتى أتى على آخرهم وانصرفنا ، فقلت له : جعلت فداك ، هل يعرف هؤلاء الحق ؟ (6)
   فقال : « لو عرفوا ( الحق ) (7) لواسيناهم بالدقة والملح » ! (8) فوا لهف نفسي على الإمام ، وربيع الأرامل والأيتام ، والمطعم لوجه الله الطعام ، وفاروق الحلال والحرام ، الصادق في الفعل والكلام ، والمنزّه عن الخطايا واللآثام ، وعماد الدين والقوام ، والعروة الوثقى التي ليس لها انفصام ، ولله درّ من قال من الأنام :
أبني المفاخر والذين علا     لهم على هام السهى القدر

---------------------------
(1) في المصدر : « ما وجدت » .
(2) ليس في المصدر .
(3) في المصدر : « أولى به منك » .
(4) في المصدر : « ... امض معي . قال : فأتينا » .
(5) في المصدر : « فإذا نحن بقوم نيام » .
(6) في المصدر : « ثم انصرفنا ، قلت : جعلت فداك ، يعرف هؤلاء الحق » .
(7) ليس في المصدر .
(8) رواه الصدوق في ثواب الأعمال : ص 144 وجميع ما بين المعقوفات منه ، وفيه : « بالدقة » ـ والدقة هي الملح ـ إن الله لم يخلق شيئا إلا وله خازن يخزنه إلا الصدقة فإن الربّ تبارك وتعالى يليهما بنفسه ، وكان أبي إذا تصدّق بشيء وضعه في يد السائل ثم ارتدّه منه وقبّله وشمّه ثمّ ردّه في يد السائل ، وذلك إنها تقع في يد الله قبل أن تقع في يد السائل ، فأحببت أن أناول ما ولاها الله تعالى ، إنّ صدقة الليل تطفئ غضب الربّ وتمحق الذنب العظيم وتهوّن الحساب ، وصدقة النهار تثمر المال وتزيد في العمر ، إن عيسى بن مريم عليهما السلام لما مر على البحر ألقى بقرص من قوته في الماء ، فقال له بعض الحواريين : يا روح الله وكلمته ، لِمَ فعلتَ هذا ؟ هو من قوتك ؟ قال : فعلت هذا لتأكله دابة من دوابّ الماء وثوابه عند الله العظيم » .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 214 _

أسـمائكم فـي الـذكر iiمـعلنة      يـجلو مـحاسنها لـنا iiالـذكر
شـهدت بـها الأعراف iiمعرفة      والـنحل  والأنـفال iiوالـزمر
وبــراءة  شـهدت iiبـفضلكم      والـنور  والـفرقان والـحشر
وتـعـظم الـتـوراة iiقـدركم      فـإذا  انـتهى سفر حكى iiسفر
ولـكم  مـناقب قـد أحاط iiبها      الإنـجيل حـار بوصفها iiالفكر
ولـكم عـلوم الـغائبات iiفمنها      الـجامع  الـمخزون iiوالـجفر
هـذا ولـو شجر البسيطة iiأقلا      م وسـبـعة أبـحـر iiحـبـر
وفـسيح هـذي الأرض مجملة      طـرس فـمنها السهل iiوالوعر
والإنــس والأمـلاك iiكـاتبة      والـجنّ  حـتى ينقضي iiالعمر
لـيـعددوا مـا فـيه iiخـصّكم      ذو الـعرش حـتى ينفد iiالدهر
لـم  يدركوا عُشر العشير وهل      يُحصى الحصى أو يُحصر الذرّ
   وروي في كتاب الاحتجاج أنه دخل أبو شاكر الديصاني ـ وهو زنديق ـ على أبي عبدالله الصادق عليه السلام ، فقال له : يا جعفر ، دلّني على معبودي .
   فقال [ له أبو عبدالله ] عليه السلام : « اجلس » . فإذا غلام صغير في كفّه بيضة يلعب بها ، فقال [ أبو عبدالله ] عليه السلام : « ناولني يا غلام هذه البيضة » . فناوله إياها ، فقال أبو عبدالله عليه السلام : « يا ديصاني ، هذا حصن مكنون ، له جلد غليظ ، وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق ، وتحت الجلد الرقيق ذهبية مائعة وفضة ذائبة ، فلا الذهبية المائعة تختلط بالفضة الذائبة ولا الفضة الذائبة تختلط بالذهبية المائعة ، فهي على حالها لم يخرج منها خارج مصلح [ فـ ] يخبر عن إصلاحها ، ولم يدخل فيها داخل مفسد فخبّر عن فسادها ، لا ندري للذكر خلقت أم للأنثى ؟ تنفلق عن مثل ألوان الطواويس ، أترى لذلك مدبّرا أم لا » ؟
   فأطرق مليّا وقال : (1) أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ

---------------------------
(1) في المصدر : « ثم قال » .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 215 _

  محمدا عبده ورسوله ، وأنك إمام وحجة الله على خلقه ، وأنا تائب إلى الله تعالى مما كنت عليه (1) .
   وروي في الكتاب المذكور عن أبان بن تغلب قال : كنت عند أبي عبدالله الصادق عليه السلام إذ دخل عليه رجل من أهل اليمن فسلّم ، فردّ أبو عبدالله عليه السلام فقال : « مرحبا بك يا سعد » (2) .
   فقال له الرجل : هذا اسم ما سماّني به أحد إلا أمي ، وما أقلّ من يعرفني بهذا الاسم (3) .
   فقال له أبو عبدالله عليه السلام : « صدقت يا سعد المولى » .
   فقال الرجل : جعلت فداك ، بهذا كنت ألقّب .
   فقال أبو عبدالله عليه السلام : « لا خير في اللقب ، إن الله تعالى يقول : ( وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ (4)بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) ، ما صناعتك يا سعد » ؟
   قال : جعلت فداك ، إنا أهل بيت ننظر في النجوم ، لا يوجد أحد في اليمن أعلم به منّا (5) .
   فقال أبو عبدالله عليه السلام : « [ فكم يزيد ضوء الشمس على ضوء القمر درجة » ؟
   فقال اليماني : لا أدري . فقال أبو عبدالله عليه السلام : « صدقت » .
   قال : « فكم ضوء القمر يزيد على ضوء المشتري درجة » ؟

---------------------------
(1) الاحتجاج : 2 : 201 برقم 215 وما بين المعقوفات منه ، وفيه : « مما كنت فيه » .
  ورواه ـ مع إضافات في أوله ـ الكليني في الكافي : 1 : 79 ح 4 كتاب التوحيد ، والصدوق في كتاب التوحيد : ص 122 باب 9 ح 1 .
(2) المثبت من المصدر ، وفي النسخة : « يا سعد المولى » .
(3) في المصدر : « بهذا الإسم سمّتني أمّي ، وما أقلّ من يعرفني به » .
(4) سورة : الحجرات : 49 : 11 .
(5) في المصدر : « لا يقال إن باليمن أحد أعلم بالنجوم منّا » .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 216 _

   قال اليماني : لا أدري .
   قال أبو عبدالله عليه السلام : « صدقت » ، ] كم [ يزيد ] ضوء المشتري على ضوء القمر درجة » ؟
   قال اليماني : لا أدري .
   فقال له أبو عبدالله عليه السلام : « [ فـ ] كم [ يزيد ] ضوء المشتري على ضوء عطارد درجة » ؟
   قال [ اليماني ] : لا أدري .
   فقال أبو عبدالله عليه السلام : « صدقت ، فما اسم النجم الذي إذا طلعت هاجت الإبل » ؟ فقال اليماني : لا أدري .
   قال الصادق عليه السلام : « صدقت » .
   [ قال : « فكم ضوء عطارد يزيد درجة على الزهرة » ؟
   قال : اليماني : لا أدري . قال أبو عبدالله عليه السلام : « صدقت » .
   قال : ] فما اسم النجم الذي إذا طلع هاجت البقر » ؟
   قال اليماني : لا أدري .
   قال أبو عبدالله عليه السلام : « صدقت ، فما اسم النجم الذي إذا طلع هاجت الكلاب » ؟
   قال اليماني : لا أدري .
   قال ابو عبدالله عليه السلام : « صدقت ، فما زحل عندكم في النجوم » ؟
   قال اليماني : نجم نحس .
   فقال أبو عبدالله عليه السلام : « لا تقل نجم نحس ، فإنه (1) نجم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وعلى ذريته الأكرمين ، [ وهو ] نجم الأوصياء ، [ وهو ] النجم الثاقب الذي ذكره الله في كتابه العزيز » .

---------------------------
(1) في المصدر : « لا تقل هذا ، فإنه » .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 217 _

   قال (1) له اليماني : فما معنى الثاقب ؟
   قال : « لأن مطلعه في السماء السابعة ، فضوؤه تثقبت السماوات الأربع ، فمن ذلك سمّي النجم الثاقب » (2) .
   ثم قال عليه السلام له : « يا أخا العرب ، هل عندكم عالم » ؟
   قال (3) اليماني : نعم ، جعلت فداك ، إن اليمن ليسوا كغيرهم (4)من الناس في علمهم .
   فقال أبو عبدالله : « فما تبلغ من علم عالمهم » ؟
   قال اليماني : إن عالمهم ليزجر الطير فيقف ، ويقفوا أتر الراكب (5) في مسيرة في ساعة واحدة .
   فقال أبو عبدالله عليه السلام : « فعالم المدينة أعلم من عالم اليمن » .
   فقال اليماني : وما يبلغ من [ علم ] عالم المدينة ؟
   قال أبو عبدالله عليه السلام : « [ علم عالم المدينة ينتهي إلى ] أن (6) لا يقفو الأثر ولا يزجر الطير ويعلم [ ما ] في اللحظة الواحدة مسيرة الشمس تقطع اثني عشر برجا واثني عشر بحرا (7) واثني عشر عالما » .
   فقال [ له ] اليماني : ما ظننت أنّ أحدا يعلم هذا و [ ما يدري ما كنهه ! قال : ] وقام [ اليماني ] ( من عنده ) (8) [ فخرج ] (9) .

---------------------------
(1) في المصدر : « قال الله تعالى في كتابه . فقال » .
(2) في المصدر : « لأنّ مطلعه في السماء السابعة ، فإنه ثقب بضوئه حتى أضاء في السماء الدنيا ، فمن ثم سمّي النجم الثاقب » .
(3) في المصدر : « ثم قال : يا أخا العرب أعندكم عالم ؟ فقال » .
(4) في المصدر : « ليسوا كأحد » .
(5) في المصدر : « ليزجر الطير ، ويقفوا الأثر في ساعة واحدة مسيرة شهر للراكب المحث » .
(6) المثبت من المصدر ، وفي النسخة : « أنه » .
(7) في المصدر : « برّا » .
(8) ليس في المصدر . =

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 218 _

   ولله درّ من قال :
تـلك  نفس عزت على الله iiقدرا      فـارتضاها لـدينه iiواصـطفاها
صـيغ  لـلذكر وحده iiوالإلهيّون      كـانت  ! فـي الذكر عنه iiشفاها
سـل  ذوات التمييز تخبرك iiعنه      إنّ حـال الـتوحيد مـنه iiابتداها
حـاز قـدسيّة الـعلوم وإن iiلـم      يـؤتـها جـعفر فـمن iiيـؤتاها
عـلم  اقـسمت جـميع iiالمعالي      إنــه  ربّـهـا الـذي iiربّـاها
مـقدم الأمـر عـن عزائم iiقدس      لـيست  السبعة السواري iiسواها
إنـما عاشت السماوات iiوالأرض      ومــن فـيهما عـلى iiنـعماها
لا  تـضع في سوى أياديه iiسؤلا      ربـمـا أفـسـد الـمدام إنـاها
وهو سرّ السجود في الملأ الأعلى      ولــولاه لــم تـعفّر iiجـباها
وهـو  الآيـة الـمحيطة بالكون      فـفي عـين كـلّ شـيء iiتراها
   فالعجب العجاب ، من الكفرة النصّاب ، كيف أغفلوا دخول هذا الباب ، ولم يرقبوا فيه ربّ الأرباب ، في ظلم هذا الإمام الأوّاب ، فالويل لهم يوم فصل الخطاب ، حين يدعون للمناقشة والجواب ، وأنّى لهم الجواب ؟ فسوف يذوقون أشدّ العذاب ، ( وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) (10) .
   وروي في كتاب عيون أخبار الرضا بالإسناد عن الحسن بن الفضل (11) [ أبو محمد مولى الهاشميين بالمدينة ] ، عن علي بن موسى ، عن أبيه عليهم السلام قال : « أرسل أبو جعفر الدوانيقي إلى جعفر بن محمد عليه السلام وأحضره ليقتله وأحضر له سيفا ونطعا ، ثم قال للربيع : إني دعوت جعفرا ، فإذا دخل عليّ فسوف أكلّمه فإذا كلّمته

---------------------------
=
(9) الاحتجاج للطبرسي : 2 : 250 رقم 224 .
  ورواه الصدوق في الخصال : 2 : 489 ح 68 من أبواب الأثني عشر ، وابن شهر آشوب في المناقب : 4 : 277 .
(10) سورة البقرة : 2 :74 و85 و 140 و 149 ، وسورة آل عمران : 3 : 99 .
(11) المثبت من المصدر ، وفي النسخة : « الحسن بن المفضّل » .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 219 _

  أضرب يدي على الأخرى ، فإذا رأيتني فعلت ذلك فاضرب عنقه .
   فدخل جعفر بن محمد عليهما السلام المجلس ، فلما نظر إليه أبو جعفر الدوانيقي من بعيد تحرّك من مكانه وقال : مرحبا وأهلا بك يا أبا عبدالله ، إنما أرسلنا إليك لرجاء قضاء دينك ، ونقضي ذمامك ، ثم سأله مساءلة لطيفة عن أهل بيته ، ثم قال له : يا أبا عبدالله ، قد قضى الله دينك وأجزل جائزتك .
   ثم قال : يا ربيع ، امض مع جعفر حتى توصله إلى أهله .
   قال الربيع : فخرجت معه فسألته في الطريق عن حاله وقلت له : يا أبا عبدالله ، أرأيت النطع والسيف ؟ إنما وضعا لك ، فأيّ شيء قلت عند دخولك ؟
   قال عليه السلام : نعم يا ربيع ، إني لما دخلت على هذا الطاغية رأيت الشرّ في وجهه يلوح ، فقلت : حسبي الربّ من المربوبين ، حسبي الخالق من المخلوقين ، حسبي الرازق من المرزوقين ، حسبي من لم يزل حسبي ، لا إله إلا الله ، عليه توكّلت ، وهو ربّ العرش العظيم » (1) .

---------------------------
(1) عيون أخبار الرضا عليه السلام : 1 : 273 ح 64 وفي ط المحقق : ص 563 ح 286 قال : حدثنا أبوالحسن أحمد بن محمد بن صقر الصائغ وأبوالحسن علي بن محمد بن مهرويه قالا : حدثنا عبدالرحمان بن أبي حاتم قال : حدثنا أبي قال : حدثنا الحسن بن الفضل أبو محمد مولى الهاشميين بالمدينة ، قال : حدثنا علي بن موسى بن جعفر بن محمد ، عن أبيه عليهم السلام قال : « أرسل أبو جعفر الدوانيقي إلى جعفر بن محمد عليهما السلام ليقتله وطرح له سيفا ونطعا ، وقال : يا ربيع إذا أنا كلمته ثم ضربت بإحدى يدي على الأخرى ، فاضرب عنقه .
  فلما دخل جعفر بن محمد عليه السلام ونظر إليه من بعيد تحرك أبو جعفر على فراشه وقال : مرحبا وأهل بك يا أبا عبدالله ، ما أرسلنا إليك إلا أن نقضي دينك ، ونقضي ذمامك .
   ثم ساءله مساءلة لطيفة عن أهل بيته ، وقال : قد قضى الله حاجتك ودينك وأخرج جائزتك .
  [ ثم قال : ] يا ربيع ، لا تمضين ثلاثة حتى يرجع جعفر إلى أهله .
  فلما خرج قال له الربيع : يا با عبدالله ، رأيت السيف ؟ إنما كان وضع لك والنطع ، فأيّ شيء رأيتك تحرّك به شفتيك ؟
  قال جعفر بن محمد عليه السلام : نعم يا ربيع ، لما رأيت الشرّ في وجهه قلت : حسبي الربّ من =

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 220 _

   وروى عن عبدالله بن سنان أنه قال : سألت أبا عبدالله عليه السلام عن عظم حوض النبي صلى الله عليه وآله ، فقال لي : « يا ابن سنان ، حوض ما بين بُصرى إلى صنعاء ، أتحبّ أن تراه يا ابن سنان » ؟
   قلت : نعم فداك أبي وأمي .
   قال : فأخذ بيدي وأخرجني إلى ظاهر المدينة ، ثم ضرب رجله على الأرض ، فانشقّت وظهر نهر يجري لا تدرك حافتاه إلا أنه شبيه بالجزيرة ، فكنت أنا وهو واقفين ، فنظرت إلى نهر آخر بجانبنا يجري كأنه الثلج ومن جانبنا الآخر نهر من لبن أبيض من الثلج ، وفي وسطه نهر من خمر أحسن من الياقوت نورا ، فما رأيت أبهج للنظر من ذلك الخمر بين اللبن والماء ، فقلت له : جعلت فداك ، من أين يخرج هذا ، ومن أين يجري ذاك ؟
   فقال عليه السلام : « هذه العيون التي ذكرها الله تعالى في كتابه بقوله تعالى ، عين من ماء وعين من لبن وعين من خمر (1) ، وكلها تجري في هذا النهر » .
   ورأيت على حافة النهر شجرا فيهنّ الحور معلقات برؤوسهنّ ما رأيت أحسن منهنّ وجها ، وبأيديهنّ أواني ليست بمثل أواني الدنيا ، فدنا عليه السلام من إحداهنّ وأومأ بيده فنظرت إلى تلك الحورية فمالت من الشجرة إلى النهر فغرفت في تلك الآنية وناولته فشرب ، ثم ناولها وأومأ إليها بيده فمالت لتغرف ثانية فمالت تلك الشجرة معها ، ثم غرفت وناولته فناولنيه فشربت ، فما رأيت شرابا مثله كان

---------------------------
=   المربوبين ، وحسبي الخالق من المخلوقين ، وحسبي الرازق من المرزوقين ، وحسبي الله ربّ العالمين ، حسبي من هو حسبي ، حسبي من لم يزل حسبي ، حسبي الله لا إله إلا هو ، عليه توكلت وهو رب العرش العظيم » .
  ورواه عنه في البحار : 47 : 162 ح 2 باب ما جرى بينه وبين المنصور وولاته .
(1) في الآية 15 من سورة محمد : 47 : ( مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ) .
  وفي رواية الإختصاص كما سيأتي : هذه العيون التي ذكرها الله في كتابه أنهار في الجنة عين من ماء وعين من لبن وعين من خمر ، يجري في هذا النهر .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 221 _

  ألين ولا ألذّ ولا أذكى رائحة منه .
   ثم إني نظرت في الكأس فإذا فيه ثلاثة ألوان من الشراب لم تختلط ، فقلت له : جعلت فداك ، ما رأيت كاليوم قطّ ، ولا ظننت أنّ الأمر يبلغ هكذا !
   فقال عليه السلام لي : « هذا أقلّ ما أعدّه الله لشيعتنا ، إن المؤمن إذا توفي صارت روحه إلى هذا النهر ، فرعت في رياضه ، وشربت من شرابه ، وإن عدونا إذا مات صارت روحه إلى برهوت فأخلدت في عذابه ، وأطعمت من زقّومه ، وأسقيت من حميمه ، فاستعذ بالله من ذلك الوادي » (1).

---------------------------
(1) رواه المفيد في الاختصاص : ص 321 عن الحسن بن أحمد بن سلمة اللؤلؤي ، عن الحسن بن علي بن بقّاح ، عن عبدالله بن جبلة ، عن عبدالله بن سنان قال : سألت أبا عبدالله عليه السلام عن الحوض ؟ فقال لي : « هو حوض ما بين بصرى إلى صنعاء ، أتحبّ أن تراه » ؟ فقلت له : نعم .
  قال : فأخذ بيدي وأخرجني إلى ظهر المدينة ، ثم ضرب برجله فنظرت إلى نهر يجري من جانبه ، هذا ماء أبيض من الثلج ومن جانبه هذا لبن أبيض من الثلج ، وفي وسطه خمر أحسن من الياقوت ، فما رأيت شيئا أحسن من تلك الخمر بين اللبن والماء ، فقلت له : جعلت فداك ، من أين يخرج هذا ، ومن أين مجراه ؟
  فقال : « هذه العيون التي ذكرها الله في كتابه أنهار في الجنة ، عين من ماء وعين من لبن وعين من خمر ، يجري في هذا النهر » .
  ورأيت حافتيه عليهما شجر فيهنّ جوار معلقات برؤوسهنّ ما رأيت أحسن منهنّ ، وبأيديهنّ آنية ما رأيت أحسن منها ، ليست من آنية الدنيا ، فدنا من إحداهنّ فأومأ إليها بيده لتسقيه ، فنظرت إليها وقد مالت لتغرف من النهر ، فمال الشدر فاغترفت ثم ناولته فشربت ، ثم ناولها وأومأ إليها ، فمالت الشجرة معها فاغترفت ، ثم ناولته فناولني فشربت ، فما رأيت شرابا كان ألين منه ولا ألذّ ، وكانت رائحته رائحة المسك .
  ونظر في الكأس فإذا فيه ثلاثة ألوان من الشراب ، فقلت له : جعلت فداك ، ما رأيت كاليوم قطّ ، وما كنت أرى الأمر هكذا !
  فقال : « هذا من أقلّ ما أعدّه الله تعالى لشيعتنا ، إنّ المؤمن إذا توفّي صارت روحه إلى هذا النهر ، ورعت في رياضه وشربت من شرابه ، وإن عدونا إذا توفي صارت روحه إلى وادي برهوت فأخلدت في عذابه وأطعمت من زقّومه وسقيت من حميمه ، فاستعيذو بالله من ذلك =

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 222 _

   ولله در من قال من الرجال الأبدال ، ولقد أجاد في المقال :
الفريد الذي مفاتيح علم الواحد      الـفرد  غـيره مـا حـواها
وهـو الـجوهر الم،جرّد منه      كـلّ  نـفس مـليكها iiزكّاها
لـم تـكن هـذه العناصر إلا      مـن  هيولاه حيث كان iiأباها
من يلج في جنان جدوى iiيديه      يـجد  الـحور من أقل iiإماها
مـا  حـباه الـشفاعة الله إلا      لـكنوز  مـن جـاهه iiزكّاها
ثـق  بـمعروفه تجده iiزعيما      بـنجاة  الـعصاة يـوم iiلقاها
كيف تظما حشى المحبين iiمنه      وهـو من كوثر الوداد iiسقاها
شـربـة أعـقبتهم iiنـشوات      رقّ  نـشوانها وراق iiانتشاها
مـا رأت وجـهه الغمامة iiإلا      وأراقـت  مـنه حياءا iiحياها
   روي في الكافي عن ظريف بن ناصح قال : لما بعث أبو جعفر الدوانيقي إلى ابي عبدالله ليشخصه إليه ، رفع يده إلى السماء وقال : « اللهم إنك حفظت الغلامين لصلاح أبويهما ، فاحفظني لصلاح آبائي محمد وعلي والحسن والحسين وعلي [ بن الحسين ومحمد بن علي ] عليهم السلام ، اللهم إني أدرأ بك في نحره ، وأعوذ بك من شرّه » .
   ثم قال عليه السلام للجمّال : « سر ( بنا حيث أمرت ) (1) » .
   قال : فلما ورد الحضرة استقبله الربيع وقال له : يا أبا عبدالله ، لقد تركت باطن هذا الطاغية يتلظّى عليك ويقول : والله لا أترك لأهل هذا البيت نخلا إلا عقرته ولا مالا إلا نهبته ، ولا ذرية إلا سبيتها !
   قال : فهمس بشيء خفي وحرّك شفتيه ودخل وسلم وقعد ، فردّ عليه السلام وقال له : أما والله لقد هممت أن لا أترك لك نخلا إلاّ عقرته ، ولا مالا إلاّ أخذته .

---------------------------
=   الوادي » .
  ورواه عنه في البحار : 47 : 88 .
  ورواه الصفار في بصائر الدرجات : ص 403 ج 10 ب 13 .
(1) ما بين القوسين ليس في المصدر .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 223 _

   فقال أبو عبدالله عليه السلام : « يا أميرالمؤمنين ، إن الله ابتلى أيوب فصبر ، وأعطى داود فشكر ، وقدر يوسف فغفر ، وأنت من ذاك (1) النسل ، ولا يأتى ذلك النسل إلا بما يشبهه » .
   فقال : صدقت ، قد عفونا عنك .
   فقال عليه السلام : « والله يا أميرالمؤمنين ، إنه لم ينل منا [ أهل البيت ] أحد [ دما ] إلا سلبه الله ملكه » .
   فغضب لذلك واستشاط ، فقال عليه السلام له : « على رسلك يا أميرالمؤمنين ، إن هذا الملك كان في آل أبي سفيان ، فلما قتل يزيد حسينا سلبه الله ملكه فورثه آل مروان ، فلما قتل هشام زيدا سلبه الله ملكه ، [ فورثه مروان بن محمد ، فلما قتل مروان إبراهيم سلبه الله ملكه ] » . فأعطاكموه » .
   فقال له : صدقت ، هات ارفع حوائجك .
   فقال عليه السلام : « ( حاجتي ) (2) الإذن » .
   فقال : هو بيدك . فخرج .
   فقال الربيع : قد أمر لك بعشر آلاف درهم .
   فقال عليه السلام : « لا حاجة لي فيها » .
   فقال له الربيع : إذا تغضبه ، خذها فتصدّق بها على الفقراء والمساكين (3) .

---------------------------
(1) في المصدر : « ذلك » .
(2) ما بين القوسين ليس في المصدر .
(3) الكافي : 2 : 562 كتاب الدعاء : ح 22 من باب الدعاء للكرب والهم والحزن والخوف ، وجميع ما بين المعقوفات منه .
  ورواه عنه في البحار : 47 : 208 ح 51 من باب ما جرى بينه وبين المنصور .
  والخبر ونحوه رواه يحيى بن الحسين الشجري في أماليه : 1 : 227 ـ 228 ، والتنوخي في الفرج بعد الشدة : ص 70 ـ 71 ، والكنجي في كفاية الطالب : ص 455 ـ 456 ، وابن عبد ربّه في العقد الفريد : 2 : 130 ـ 131 وج 3 ص 222 ـ 223 ، وابن شهر آشوب في =

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 224 _

   وروي في كتاب كشف الغمّة مرسلا عن بعض أصحاب الصادق عليه السلام قال : دخلت على سيدي جعفر بن محمد وعنده ابنه موسى عليه السلام وهو يوصيه بهذه الوصية ، فكان مما حفظت منها أن قال : « يا بنيّ ، اقبل وصيتي واحفظ مقالتي ، فإنك إن حفظتها تعش سعيدا وتمت حميدا .
   يا بني ، من قنع بما قسم له استغنى ، ومن مَدّ عينه إلى ما في يد غيره مات فقيرا ، ومن لم يرض بما قسم [ الله ] له اتهم الله في قضائه ، ومن استصغر زلّة غيره استعظم زلّة نفسه ، ومن استصغر زلّة نفسه استعظم زلّة غيره .
   يا بني ، من كشف [ عن ] حجاب غيره انكشفت(1) عورات بيته ، ومن سل سيف البغي قتِل به ، من احتفر بئرا لأخيه وقع فيه (2) ، ومن داخل السفهاء حُقّر ، ومن خالط العلماء وُقّر ، ومن دخل في مداخل السوء اتُّهم .
   إياك أن تزري بالرجال فيزرى بك ، وإياك والدخول فيما لا يعنيك فتذلّ . يا بنيّ ، قل الحقّ لك وعليك ، تستشار من بين أقرانك .
  يا بُنيّ ، كن لكتاب الله تاليا ، وللسلام (3) فاشيا ، وبالمعروف آمرا ، وعن المنكر ناهيا ، ولمن قطعك واصلا ، ولمن سكت عنك مبتدئا ، ولمن سألك معطيا .

---------------------------
=   المناقب : 4 : 252 نقلا عن كتاب الترهيب والترغيب لأبي القاسم الإصفهاني والعقد الفريد لابن عبد ربّه ، وسبط ابن الجوزي في التذكرة : ص 344 ، وابن طاوس في مهج الدعوات : ص 189 ـ 196 ، وابن طلحة في مطالب السؤول : 2 : 58 ـ 59 ، والذهبي في السير : 6 : 266 ـ 267 ، والإربلي في ترجمة الإمام الصادق عليه السلام من كشف الغمة مع زيادات واختلافات ، وعنه في البحار : 47 : 182 .
  ورواه الجزري في أسنى المطالب : ص 96 ـ 98 بطريقين ثم قال : هذا حديث غريب عزيز ، رواه من الأئمة المعتمد عليهم الحافظ الكبير إسماعيل التيمي في كتابه الترغيب والترهيب من الطريق الأولى كما رويناه ، والحافظ أبوبكر بن أبي الدنيا من الطريق الثانية كما أخرجناه ، وهو مجرّب في الشدائد .
(1) في المصدر : « تكشّفت » .
(2) في المصدر : « ومن احتفر لأخيه بئرا سقط فيه » .
(3) في المصدر : « للإسلام » .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 225 _

   وإياك والنميمة فإنها تزرع الشحناء في قلوب الرجال ، وإياك والتعرض في عيوب الناس ، فمنزلة المتعرض لعيوب الناس بمنزلة (1) الهدف .
   يا بني ، إذا طلبت الجود فعليك بمعادنه ، فإن للجود معادنا وللمعادن أصولا وللأصول فروعا [ وللفروع ثمرا ] ، ولا يطيب ثمر إلا بفرع ، ولا فرع إلا بأصل ، ولا أصل ثابت إلا بمعدن طيّب .
   يا بني ، إذا زرت فزر الأخيار ، ولا تزر الفجار فإنهم صخرة لا ينفجر (2) ماؤها وشجرة لا يخضرّ ورقها وأرض لا يظهر عشبها » .
   [ قال علي بن موسى عليهما السلام : « فما ترك أبي هذه الوصية إلى أن توفي » ] (3) .
   وما زال صلوات الله عليه يذكر ربه حتى مات شهيدا ، سمه المنصور لعنه الله .
   وكانت وفاته يوم الاثنين خامس عشر شهر رجب سنة ثمان وأربعين ومئة من الهجرة (4) .
   فوا لهف نفسي على تلك المناقب الفاضلة ، والصفات الكاملة ، والمنن الشاملة والغرر التي لم تزل على جباء الأيام سايلة .
   وواحزناه على صاحب الأمرة والدعامة ، وعلى مركز دائرة الرسالة والإمامة ، كيف كوّرت شمس حياته أكفّ الجور والعدوان ، وخسفت قمر صفاته أيدي الفجور والطغيان ، ( قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ) (5) ، ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا

---------------------------
(1) في المصدر : « كمنزلة » .
(2) في المصدر : « لا يتفجّر » .
(3) كشف الغمّة للإربلي : 2 : 396 ، ومختصرا في ص 369 في فضائل الإمام الصادق عليه السلام .
  ورواه أبو نعيم في حلية الأولياء : 3 : 195 ، وابن طلحة في مطالب السؤول : 2 : 57 ، وابن الجوزي في المنتظم : 8 : 111 ، والذهبي في السير : 6 : 263 .
(4) قال بهذا التاريخ الطبرسي في كتاب تاج المواليد : ( مجموعة نفيسة : ص 125 ) ، وفي إعلام الورى : ص 266 ، ولكنّ المعروف أنه عليه السلام توفّي في الخامس والعشرين من شوال المكرم كما رواه أيضا الطبرسي في تاج المواليد وإعلام الورى .
(5) سورة البقرة : 2 : 156 .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 226 _

  أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) (1) .
   ولله در من قال من الرجال الأبدال :
يـا  ابن الهداة الأكرمين iiومن      شـرف الـكتاب بهم ولا iiفخر
قـسما  بـمثواك الشريف iiوما      ضـمّت منى والخيف iiوالحجر
فـهم  سـواء فـي الحقيقة iiإذ      بـهم  الـتمام يـحلّ iiوالقصر
تـعـنو لـه الألـباب iiتـلبية      ويـطوف ظاهره حجر iiالحجر
مـا طـائر فـقد الـفراخ iiفلا      يـأويه  بـعد فـراخه iiوكـر
بـأشدّ  مـن حزني عليك iiولا      الخنساء جدّد حزنها صخر (2)
ولـقد  وددت بـأن أراك iiوقد      قـلّ  الـنصير وفاتك iiالنصر
حـتى أكـون لـك الفداء iiكما      كـرمـا أبـاك فـداله الـحرّ
   فتبوّءوا رفيع المراتب بإسالة المدامع ، وزاحموا أئمّتكم الأطائب في سمّي المقاصر والمجامع ، ونوحوا نوح الحمام النواعب ، ونادوا بالويل والفجائع ، وتصوروا خلّو تلك المضارب ، وخويّ هاتيك المرابع ، من أرباب النوافل والرواتب ، فلا دافع ولا مانع ، أولا تكونون يا إخواني كمن أورده رزؤهم الراتب موارد البلاء والفضائح (3) ، وأحرمه لذيذ المطاعم والمشارب ، ونفى عن

---------------------------
(1) سورة البقرة : 2 : 156 .
(2) الخنساء هي بنت عمرو بن الشريد بن ثعلبة بن عُصية بن خفاف بن امرئ القيس ؛ الشاعرة المشهورة ، قدمت على النبي صلى الله عليه وآله مع قومها من بني سليم فأسلمت معهم ، فذكروا أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله كان يستنشدها ويعجبه شعرها ، وكانت تنشده وهو يقول : « هيه يا خُناس » ، ويؤمي بيده .
  قالوا : وكانت الخنساء تقول في أول أمرها البيتين أو الثلاثة ، حتى قتل أخوها شقيقها معاوية بن عمرو وقتل أخوها لأبيها صخر ؛ وكان أحبهما إليها ؛ لأنه كان حليما جوادا محبوبا في العشيرة ، كان غزا بني أسد فطعنه أبو ثور الأسدي طعنة مرض منها حولا ثم مات ، فلما قتل أخواها أكثرت من الشعر . ( الإصابة : 7 : 613 رقم 11106 ، وأسد الغابة : 5 : 441 ) .
(3) الفضيحة : الشهرة بما يُعاب ، والعيب ، والجمع : فضائح ، ( المعجم الوسيط ) .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 227 _

  جفنه لذة النائم الهاجع ، فأقام العزاء والنوادب ، على خمود تلك الأنوار اللوامع ، ولله درّه من راث ونادب .