المصرع الثامن
  من مصارع أبي عبدالله (عليه السلام)
  تسنّموا صهوات صواهل الأحزان في مواقف المواساة ، وقوّموا واردات عواسل الأشجان في مراكز الموالاة ، وجرّدوا صوارم الدموع من أغمادها ، واتقوا بجنن الخشوع وهيج النار وضرام اتّقادها ، وعضّوا بأسنان الندم على نواجذ الحسرة ، وصبوا من الأماق العندم على فوات النصرة ، ومثّلوا أمامكم الحسين عليه السلام وقد أحاط به الكفرة اللئام مع قليل من أحبابه ، ونزر من شيعته واصحابه ، بعد أن ذادوه عن المناهل والموارد ، وضيّقوا عليه فسيح المصادر والموارد ، وأبادوا أنصاره ورجاله ، وقتلوا شبّانه وأطفاله ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ )(1)
( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ )(2) .
سل كربلا كم حوت منهم هلا دجى      كأنها     فلك     للأنجم    iiالزهر
لم   أنس   حامية  الإسلام  منفردا      صفر  الأنامل  من  حام  ومنتصر
يرى  قنا  الدين  من بعد iiاستقامتها      مغموزة   وعليها   صدع   منكسر
فقام   يجمع   شملا  غير  iiمجتمع      منها   ويجبر  كسرا  غير  iiمنجبر
لم  أنسه  وهو  خوّاض  iiعجاجتها      يشق  بالسيف  منها  سورة iiالسور
كم    طعنة   تتلظّى   من   أنامله      كالبرق  يقدح من عود الحيا iiالنظر
وضربة    تتجلى    من   iiبوارقه      كالشمس  طالعة  من  جانبي  iiنهر

---------------------------
(1) سورة إبراهيم : 14 : 42 .
(2) سورة البقرة : 2 : 156 .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 110 _

إذا انتضى بردة التشكيل عنه تجد      لاهوت قدس تردّى هيكل البشر

   روي أنه لما كان اليوم العاشر من المحرم ـ وما أدراك ما اليوم العاشر ، يوم لا سؤدد إلا وانقضى ، وحسام للعلى إلا وفُلا ـ أمر الحسين عليه السلام بفسطاطه فضرب ، وأمر بجفنة فيها مسك ، كثير وجعل عندها نورة ، وجعل يطلي وبرير بن خضير الهمداني وعبدالرحمان الأنصاري واقفان بباب الفسطاط ليطليا بعده ، فجعل برير يضاحك عبدالرحمان ، فقال له عبدالرحمان : يا برير ، ما هذه بساعة ضحك ولا باطل !
   فقال له برير : « لقد علم قومي أني ما أحببت الباطل كهلا ولا شابا ، وإنما أفعل ذلك استبشارا لما نصير إليه ، والله ما هو إلا أن تميل القوم علينا بأسيافهم فنعانق الحور العين » ، قال : فسرّه كلامه(1) .
   ثم إن عمر بن سعد لعنه الله رتّب عسكره ميمنة وميسرة وقلبا وجناحين ، فجعل ابنه حفصا على ميمنته ، وعمرو بن الحجاج على ميسرته ، وحميد بن مسلم على [الـ]جناح الأيمن ، والشمر على [الـ]جناح الأيسر ، ووقف هو في القلب ومعه صناديد الكوفة(2) .
   ثم أمر النبالة أن تتقدم أمام القوم وأمرهم أن يرشقوا عسكر الحسين بالسهام ، فتقدم اثنا عشر ألف نبّال وأوتروا ، فأقبلت السهام كأنها قطر السماء فقال الحسين عليه السلام لأصحابه : « قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لابد منه ، فهذه السهام رسل القوم إليكم »(3) .
   ثم إنه رفع يده إلى السماء وقال : « اللهم أنت ثقتي في كل شدة ، ورجائي في كل

---------------------------
(1) ورواه السيد بن طاووس في الملهوف : ص 154 مع اختلاف لفظي قليل ، وعنه في البحار 45 : 1 .
  ورواه الطبري في تاريخه : 5 : 423 .
(2) انظر إرشاد المفيد : 2 : 95 ، وتاريخ الطبري : 5 : 422 .
(3) ورواه السيد ابن طاوس في الملهوف : ص 158 .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 111 _

  كرب ، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة ، [ إلهي ] كم من كرب يضعف عنه الفؤاد ، وتقل فيه الحيلة ، ويخذل فيه الصديق ، ويشمت به العدو ، أنزلته بك ، وشكوته إليك ، رغبة مني إليك عن من سواك ، ففرّجته وكشفته ، فأنت وليّ كلّ نعمة ، وصاحب كل حسنة ومنتهى كل رغبة » .
   واقبل القوم يجولون حول بيت الحسين عليه السلام فيرون النار تتقد في الخندق في ظهر البيوت ، فنادى الشمر بن ذي الجوشن بأعلى صوته : يا حسين ، ويا أصحاب حسين ، استعجلت بالنار قبل يوم القيامة .
   فقال الحسين عليه السلام : « من هذا كأنه شمر بن ذي الجوشن » ، ثم قال الحسين له : « يا ابن راعية المعزى ، أنت أولى بها صليّا » .
   ورام مسلم بن عوسجة يرميه بسهمهم فمنعه الحسين عليه السلام من ذلك ، فقال له : « دعني أرميه ، فإنه الفاسق من أعداء الله وعظماء الجبارين وقد أمكن الله منه » .
   فقال الحسين عليه السلام : « إني أكره أن أبدأهم بقتال »(1) .
   ثم إنه عليه السلام صف أصحابه ورتبهم ميمنة وميسرة في مراتبهم ، فجعل ابنه علي بن الحسين في ميمنته ، وحبيب بن مظاهر في ميسرته ، وزهير في جناحه الأيمن ، ومسلم بن عوسجة في جناحه الأيسر ، ووقف هو في القلب ، وأعطى رايته أخاه العباس(2) .
   ثم إنه تقدم قبالة القوم ونظر إلى صفوفهم كأنهم السيل ، فقال : « الحمد لله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال متصرفة بأهلها حالا بعد حال ، فالمغرور من غرّته والشقيّ من فتنته ، فلا تغرّنكم هذه الدنيا فإنها تقطع رجاء من ركن إليها

---------------------------
(1) انظر الإرشاد : 2 : 96 ، وتاريخ الطبري : 5 : 423 .
(2) في الإرشاد للمفيد : 2 : 95 ، وتاريخ الطبري : 5 : 422 ، والمقتل للخوارزمي : 2 : 4 : « فجعل زهير بن القين في ميمنة أصحابه ، وحبيب بن مظاهر في ميسرة أصحابه ، وأعطى رايته العباس بن علي أخاه ... » .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 112 _

  وتخيّب [ طمع ](1) من طمع فيها ، وأراكم قد اجتمعتم على أمر أسخطتم الله فيه عليكم وأعرض بوجهه الكريم عنكم وأحل بكم نقمته وأحرمكم(2) رحمته ، فنعم الرب ربنا وبئس العبيد أنتم ، أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرسول محمد صلى الله عليه وآله ثم إنكم زحفتم إلى ذريته وعترته تريدون قتلهم ، لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم ، فتبا لكم ولما تريدون ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم ، فبُعدا للقوم الظالمين » .
   فقال عمر بن سعد : كلموه فإنه ابن أبيه ، فوالله إن وقف فيكم موقفا بعد موقف لما انقطع ولما حصر ، فكلموه(3) .
   ولله در من قال :
يقول   والسيف  لولا  الله  iiيمسكه      أبى  بأن  لا  يرى راس على iiبدن
ياجيرة  الغدر  إن أنكرتموا iiشرفي      فإن    واعية    الهيجاء   iiتعرفني
لا   تفخروا  بجنود  لا  عداد  iiلها      إن  الفخار  بغير  السيف  لم iiيكن
ومذ   رقى   منبر  الهيجا  أسمعها      مواعظا من فروض الطعن والسنن
لله   موعظة   الخطّي  كم  iiوقعت      من  آل  سفيان  في قلب وفي iiأذن
كأنّ    أسيافه    إذ   تستهلّ   iiدما      صفائح  البرق  حلت  عقدة iiالمزن
لله    حملته   لو   صادفت   iiفلكا      لخرّ   هيكله  الأعلى  على  iiالذقن
يفري الجسوم بعضب غير ذي iiثقة      على  النفوس  ورمح  غير iiمؤتمن
   فعزيز على جده النبي الأواب ، وأبيه أبي تراب داحي الباب ، وأمه زكية الجناب ، بل عزيز على السنة والكتاب ، أن تثب عرج الضباع على الأسد المنّاع ، وتتحكّم الأجلاف الأجشاع في السيد المطاع ، وتنشب أظفارها طلس الذئاب في منحر ليث الغاب ، وتظفر جرب الكلاب بالهزبر المهاب ، وتهدى رؤوس

---------------------------
(1) من البحار .
(2) في البحار : « وجنّبكم » .
(3) ورواه المجلسي في البحار : 45 : 5 نقلا عن كتاب محمد بن أبي طالب .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 113 _

  أولاد أبي تراب على موائد الحراب لابن مرجانة وابن آكلة الذباب ، وتهتك عن مصونات الأنجاب أسجاف الصون والحجاب ، أمر ( تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا )(1) .
   روي أن الحسين عليه السلام يوم الطف نادى : « يا شبث بن ربعي ، يا حجار بن أبجر ، يا قيس بن الأشعث ، يا يزيد بن الحارث ، ألم تكتبوا إليّ أنه قد اينعت الثمار واخضرّ الجناب ، وإنما تقدم على جند لك مجنّدة » .
   فقال له قيس بن الأشعث : ما ندري ما تقول ، ولكن أنزل على حكم بني عمك ، فإنهم ما يرونك إلا ما تحبّ .
   فقال عليه السلام : « لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ لكم إقرار العبيد »(2) .
ثنا عطفه عن حذر جان وقد خبا     إلى الموت دامي الصفحتين كليم
أخـو الحرب أمـا جلده فممزّق      كـلــيم وأما عرضه iiفسليم

   ثم إنه عليه السلام دعا بفرسه فركبه وتقدم إليهم فاستنصتهم فأبوا أن ينصتوا له حتى قال لهم : « ويلكم ، ما عليكم أن تنصتوا إليّ فتسمعوا منّي ، وإنما أدعوكم إلى سبيل الرشاد ، فمن أطاعني كان من الراشدين ، ومن عصاني كان من الهالكين ، وكلّكم عاص لأمري ، غير مستمع قولي ، قد ملئت بطونكم من الحرام ، وطبع على قلوبكم ، ويلكم ألا تنصتون ، ألا تسمعون » ؟
   فتلاوم أصحاب ابن سعد بينهم وقال بعضهم : انصتوا له ، فأنصتوا ، فحمد الله وأثنى عليه وذكره بما هو أهله ، وصلى على الملائكة والأنبياء(3)وأبلغ في المقال ، ثم قال : « تبا لكم أيتها الجماعة وترحا وبؤسا ، حين استصرختمونا والهين ،

---------------------------
(1) سورة مريم : الآية 90 .
(2) ورواه المفيد في الإرشاد : 2 : 98 ، وعنه في البحار : 45 : 7 . ورواه الطبري في تاريخه 5 : 425 .
(3) في الملهوف : « والرسل » .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 114 _

  فأصرخناكم موجفين(1) ، شحذتم علينا سيفا كان في أيدينا ، وحششتم(2) علينا نارا أضرمناها على عدوكم وعدونا ، فأصبحتم ألبا(3) على أوليائكم ويدا لأعدائكم ، من غير عدل أفشوه فيكم ، ولا أمل أصبح لكم فيهم ، ولا ذنب كان منا إليكم ، فمهلا لكم الويلات إذ كرهتمونا والسيف مشيم والجأش(4) طامن والرأي لما يستصف ، ولكنكم أسرعتم إلى بيعتنا كطيرة الدبا وتهافتمّ إليها كتهافت الفراش ، ثم نقضتموها سفها وضلة ، فبعدا وسحقا لطواغيت هذه الأمة ، وبقية الأحزاب ، ونبذة الكتاب ، ومطفئ السنن ، ومخالفي الملل ، ومؤاخي المستهزئين الذين جعلوا القرآن عضين ، وعصاة الايمان ، وملحقي العهرة بالنسب ، لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ، فهؤلاء تعضدون وعنا تتخاذلون .
   أجل والله الخذل فيكم معروف ، نبتت عليه أصولكم ، وتآزرت عليه عروقكم ، فكنتم أخبث شجرة للناظر ، وأكلة للغاصب ، ألا لعنة الله على الظالمين الناكثين ، الذين ينقضون الأيمان بعد توكيدها وقد جعلوا الله عليهم كفيلا .
   ألا وإن الدعي ابن الدعي قد تركني بين السلّة والذلة ، وهيهات له منا الذلة ، أبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون ، وحجور طهرت ، وبطون طابت ، أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام .
   ألا وإني زاحف بهذه الأسرة مع قلة العدد وكثرة العدوّ وخذلة الناصر » .
   وتمثّل صلوات الله عليه بهذه الأبيات :
فإن نهزم فهزّامون قدما     وإن نغلب فغير مغلّبينا
فـما  إن طبنا جبن ولكن     منايانا ودولة iiآخرينا

---------------------------
(1) المثبت من المصدر ، وفي النسخة : « مرجفين » .
(2) في الملهوف : « سللتم علينا سيفا لنا في ايمانكم وحششتم » .
(3) الألب : القوم يجتمعون على عداوة إنسان . ( المعجم الوسيط ) .
(4) الجأش : النفس أو القلب ، ويقال هو رابط الجأش ثابت عند الشدائد . ( المعجم الوسيط ) .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 115 _

إذا ما الموت رفّع عن أناس      كلاكله     أناخ     iiبآخرينا
فأفنى  ذلكم  سروات iiقومي      كما  أفنى  القرون  iiالأولينا
فلو  خلد  الملوك  إذا iiخلدنا      ولو  بقي  الكرام  إذا  iiبقينا
فقل   للشامتين   بنا  iiأفيقوا      سيلقى  الشامتون  كما  لقينا
   ثم قال عليه السلام لهم : « وأيم الله إنكم لا تلبثون بعدها إلا ريث ما يركب الفرس حتى تدور بكم دوران الرحى ، وتقلق بكم قلق المحور ، عهد عهده إليّ جدّي ، (فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ )(1) ، ( إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (2) .
   اللهم احبس عنهم قطر السماء ، وابعث عليهم سنين كسنين يوسف ، وسلّط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأسا مصبّرة(3) ما منهم إلا قتله » .
   ثم ضرب بيده الشريفة على لحيته وجعل يقول : « اشتد غضب الله على اليهود إذ جعلوا له ولدا ، واشتدّ غضبه على النصارى إذ جعلوه ثالث ثلاثة ، واشتد غضبه على المجوس إذ عبدوا الشمس والقمر دونه ، واشتدّ غضبه على قوم اتّفقت كلمتهم على قتل ابن بنت نبيهم .
   أما والله لا أجيبهم إلى شيء مما يريدون حتى ألقى الله وأنا مخضب بدمي مغصوب عليّ حقّي »(4) .
   ولله در من قال :
يوم سرى فيه ابن فاطم موقظا      عزما يحك به مناط الأنجم

---------------------------
(1) سورة يونس : 10 : 71 .
(2) سورة يونس : 10 : 71 .
(3) الصبر : عصارة شجرّ مرّ ، واحدته صَبرة ، ج صبور . ( المعجم الوسيط ) .
(4) ورواه السيد في الملهوف : ص 155 ـ 158 مع اختلافات لفظية كثيرة .
  ورواه المجلسي في البحار : 45 : 8 نقلا عن المناقب لابن شهر آشوب .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 116 _

يرمى   الطغاة  بفيلق  من  نفسه      جمّ   العديد   طويل  باع  iiالمغنم
وكتائب   ترمي   الجبال  iiبمثلها      بأسا  وتزهق  من  دويّ iiعرمرم
من   كلّ   شين   اللبدتين  كأنما      عرفت  يداه السيف قبل iiالمعصم
ومضيّق  عند  الحفاض  ! iiلثامه      متطلّع     عنه     تطلع    أرقم
يغشى    الوغا    متهلّلا   iiفكأنه      تحت   العجاجة  غرّة  في  iiأدهم
وشمردل  عبل المرافق لو iiسرى      أنسى   السراة  ربيعة  بن  iiمكدّم
حيّ  من  الأقران  لم  iiيتسامروا      إلا     بذكر    مثقف    iiومطهّم
وإذا  تنادوا آل غالب في iiالوغى      نسفوا    متالع    يَذبل    iiفيلملم
يقتادهم   ضخم   الدسيعة  iiأصيد      ثبت  الجنان  بعيد مهوى iiالمخذم
بطل يرى الهندي أصدق صاحب      ومخيّم    الهيجاء   خير   iiمخيّم
  فبخ بخ لهم فازوا بالوصال إذ بذلوا ما أراد المحبوب ، وتنعّموا ببديع الجمال حيث مالت منهم القلوب ، فكان متن السيوف الصقال صقال الخدود ، وكأنّ حطيم القنا العسّال في أكفّهم غداير الجعود ، كرعوا قرقف الحقيقة فثملوا بصهباء العرفان ، وسلكوا ملحوب الطريقة وقطعوا السهول والأحزان .
   روي أن الحسين عليه السلام لما لقى العسكر نادى : « أما من مغيث يغيثنا لوجه الله ، أما من ذابّ يذبّ عن حرم رسول الله » .
   فإذا الحر بن يزيد الرياحي قد أقبل إلى عمر بن سعد لعنه الله فقال له : أمقاتل أنت هذا الرجل ؟
   فقال : إي والله ، قتالا ايسره أن تطير فيه الرؤوس وتطيح الأيدي .
   قال : فمضى الحر ووقف موقفا من أصحابه وأخذه مثل الأفكل ، فقال له مهاجر بن أوس : والله إن أمرك لمريب ، ولو قيل لي : من أشجع أهل الكوفة ؟ لما عدوتك ، فما هذا الذي أراه منك ؟!
   فقال : والله إنّي أخيّر نفسي بين الجنة والنار ، فوالله لا أختار على الجنة شيئا ، ولو قطّعت وأحرقت .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 117 _

   ثم ضرب فرسه واجتاز إلى عسكر الحسين عليه السلام ، واضعا يده على رأسه وهو يقول : اللهم إليك أتيت تائبا فتُب عليّ ، فقد أرعبت قلوب أوليائك وأولاد أنبيائك .
   فقال للحسين : جعلت فداك يا ابن رسول الله ، أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع ، وسايرتك في الطريق ، وجعجعتك في هذا المكان ، وما كنت أظنّ أنّ القوم يبلغون منك ما أرى ، وأنا تائب إلى الله ، فهل ترى لي من توبة يا أبا عبدالله ؟
   فقال له الحسين عليه السلام : « نعم يتوب الله عليك » . ثم قال له : « انزل » .
   فقال الحر : أنا لك فارسا خير مني لك راجلا ، أقاتلهم على فرسي ساعة وإلى النزول يصير آخر أمري .
   ثم قال : إذ كنت أول خارج خرج عليك ، فأذن لي أن أكون أوّل قتيل بين يديك ، لعليّ أكون أول من يصافح جدك صلى الله عليه وآله وأباك عليا في عرصات القيامة .
   فأذن له الحسين عليه السلام ، فتقدم الحر إلى عساكر الكوفة ، ثم نادى : يا أهل الكوفة ، لأمكم الهبل ، دعوتم هذا الرجل المؤمن حتى إذا أتاكم خرجتم لقتاله ومنعتموه الماء الذي تشربه الكلاب والخنازير ، لا سقاكم الله يوم الظمأ .
   ثم إنه همز جواده ، وقوّم سنانه بين أذن حصانه وقاتل قتالا يسرّ الأحرار ، ويرضي الجبار ، وهو ينشد ويقول :
إني  أنا الحرّ ومأوى الضيف     أضرب في أعناقكم iiبالسيف
     أضربكم ولا أرى من حيف     عن خير من حلّ بأرض الخيف (1)

  وروي أن الحر لما لحق بالحسين قال رجل من تميم يقال له يزيد بن سفيان : أما

---------------------------
(1) ورواه المفيد في الإرشاد : 2 : 99 مع اختلاف في بعض الألفاظ ، وعنه البحار : 45 : 10 .
  ورواه الطبري في تاريخه : 5 : 428 ، وابن الأثير في الكامل : 4 : 64 ، والسيد ابن طاوس في الملهوف : 159 مع اختلافات لفظية .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 118 _

  والله لو لحقت بالحر لأتبعته السنان . فبينما هو يقاتل وإن فرسه لمضروب على أذنه وحاجبيه والدماء تسيل منه ، فالتفت الحصين إلى يزيد وقال له : هذا الحر الذي كنت تتمناه .
   قال : فخرج إليه ، فما لبث الحرّ أن قتل يزيد وقتل معه أربعين فارسا وثلاثين راجلا ، فعرقب فرسه فبقي راجلا ويقول :
إني أنا الحر ونجل الحر    اشجع من ذي لبد هزبر
ولست  بالجبان عند الكر    لكنني الوثّاب عند iiالفر

   فلم يزل يجال الشجعان ، ويقطر الأقران ، ويبلي الأعذار ، في نصرة قرة عين المختار ، حتى قتل وانتقل إلى جوار الملك الغفار ، في دار القرار ، فلما قتل مشى إليه الحسين وجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول : « أنت حر كما سمّتك أمّك » .
   ورثاه رجل من أصحاب الحسين عليه السلام بهذا الأبيات ، وقيل : عليّ بن الحسين عليه السلام :
فنعم  الحر حر بني iiرياح      صبور عند مشتبك الرماح
ونعم  الحر إذ واسا iiحسينا      فجاد  بنفسه  عند iiالصباح
فأقرره   إلهي   دار  iiخلد      وزوّجه من الحور iiالملاح
   واشترك في قتله أبو أيوب الغنوي ورجل من فرسان أهل الكوفة(1) .
   فهنيئا للحر حيث فاز بفضيلة الإنتصار ، وجاد بنفسه بين بتّار وخطّار ، وعرض مهجته للتلف والبوار ، وخرج من رقّ الذلّ والصغار ، وتوّج هامته بتاج العزّ والفخار ، أوَ لا تكونون يا أرباب العقول والأبصار ، كمن تصور مصائب ساداته الأطهار ، وتذكّر نوائب أئمّته ذوي المراتب والأقدار ، فرثاهم بنفائس المراثي والأشعار ، وهو من الخلص الأبرار .

---------------------------
(1) ورواه الطبري في تاريخه : 5 : 434 .
  ورواه المجلسي في البحار : 45 : 14 نقلا عن محمد بن أبي طالب .
  وروى القسم الأول منه مختصرا ابن الأثير في الكامل : 4 : 67 .