المصرع الرابع عشر
  وهو مصرع موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام)
  صفوا بواطن سرائركم أيها العارفون ، واجلوا درن مرآة ضمائركم أيها العاشقون ، وجودوا بنفائس الأعمار أيها الطالبون ، وروضوا شوامس نفوسكم أيها السالكون ، ( لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ) (1)
.
   استوحشوا من الرقباء إن كنتم عشّاقا ، وجانبوا الوشاة إن رمتم من المحبوب وفاقا ، وتذّللوا له تكونوا عنده مكرمين وأطيعوه فيما أمركم تصيروا محترمين ، واعلموا أن المحبوب متى عصي جفا ، ومتى خولف قلى .
ما أنت والقوم ترجو نيل سعيهم     وما شربت من الكأس الذي شربوا

   فشمّروا ذيول الجد والاجتهاد ، وتجافوا عن ناعم الفراش و المهاد ، وانهجوا ملحوب الرضا ، وسلّموا المحتوم القدر والقضاء ، ووالوا أولياء الله وعادوا أعداءه ، وأحبوا أحبّاءه وأبغضوا بغضاءه ، واعتقدوا بنيات صادقة أنّ حب محمد وآله عليهم السلام حب الله ، ورضاهم اختياره ورضاه ، وهم حجته ومحجته ، وأعلام الهدى ورايته ، وفضله ورحمته ، وعين اليقين وحقيقته ، وصراط الحق وعصمته ، ومبدأ الوجود وغايته ، وقدرة الله ومشيئته ، وأم الكتاب وخاتمته ، وفصل الخطاب ودلالته ، وخزنة الوحي وحفظته ، وأمنة الذكر وتراجمته ، ومعدن التنزيل ونهايته .
   فهم الكواكب العلوية ، والأنوار العلوية المشرقة من شمس العصمة الفاطمية في سماء العظمة المحمدية ، والأغصان النبوية النابتة في الدوحة الأحمدية ، والأسرار

---------------------------
(1) سورة آل عمران : 3 : 92 .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 229 _

  الإلهية المودعة في الهياكل البشرية ، والذرية الزكية والعترة الهاشمية المهدية ، أولئك هم خير البرية .
   وهم العترة الطاهرون ، والأئمة المعصومون ، والذرية الأكرمون ، والخلفاء الراشدون ، والكبراء الصديقون ، والأوصياء المنتجبون ، والأسباط المرضيّون ، والهداة المهديون .
   وهم حجة الله على الأولين والآخرين ، وقادة الغرّ المحجّلين ، آل طه ويس ، كتب الله أسماءهم على الأحجار ، وعلى أوراق الأشجار ، وعلى أجنحة الأطيار ، وعلى أبواب الجنة والنار ، وعلى العرش والأفلاك ، وعلى أجنحة الأملاك ، وعلى حجب الجلال ، وسرادقات العز والإجلال ، وباسمهم تسبيح الأطيار ، وتسغفر لشيعتهم الحيتان في لجج البحار ، ولله در من قال ، ولقد أجاد في المقال :
سـادة لا تـريد إلا رضى iiالله      كـمـا لا يـريد إلا iiرضـاها
خـصها مـن كـماله بالمعالي      وبـأعـلى  أسـمائه iiسـماها
لـم يـكونوا للعرش إلا iiكنوزا      خـافيات  سـبحان من iiأبداها
كـم  لـهم ألسن عن الله iiتنبئ      هـي أقـلام حـكمة قد iiبراها
فهم  الأعين الصحيحات iiتهدى      كـل  نـفس مـكفوفة iiعيناها
عـلـماء  أئـمـة iiحـكـماء      يهتدى  النجم باتّباع هواها iiقادة
عـلـمـهم ورأي iiحـجـاهم      مـسمع  كـل حكمة iiمنظراها
مـا  ابالي ولو أهليت على iiالأ      رض السماوات بعد نيلي ولاها
من  يباريهم وفي الشمس معنى      مـجهد  مـتعب لـمن iiباراها
ورثـوا من محمد سبق iiأولاها      وحـازوا  مـا لم تحز iiأخراها
آيـة الله حـكمة الله سيف iiالله      والـرحـمة الـتـي iiأهـداها
   روى كمال الدين في كتاب مطالب السؤول أن مولد الإمام أبي الحسن موسى الكاظم عليه السلام كان ليلة السابع من شهر صفر سنة ثمان وعشرين ومئة .
   وهو الإمام الكبير القدر ، والعظيم الشأن ، والكثير التهجد ، الجادّ في

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 230 _

  الاجتهاد ، المشهود له بالكرامات ، والمواظب على الطاعات ، يبيت الليل ساجدا وقائما ، ويقطع النهار متصدّقا صائما ، ولفرط حلمه عن المتعدّين عليه دعي كاظما .
   كان يجازي المسيء إليه بإحسانه ، ويقابل الجاني عليه بعفوه وغفرانه ، وقد اشتهر بين الفريقين بالعبد الصالح ، وعرف في العراقين بباب الحوائج والمنائح .
   فهذه الكرامات العالية المقدار ، الخارقة للعوائد في كلّ الأعصار ، هي على التحقيق حلية المناقب ، وزينة المزايا والرغائب ، لا يؤتاها إلا من أفاضت عليه العناية الربانية أنوار التأييد ، وهطلت عليه التوفيقات السبحانية رذاذ التقديس والتسديد ، (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) (1) . (2)
   وروي في الكافي عن محمد بن العباس بإسناده عن جميل بن درّاج قال : قلت لأبي الحسن عليه السلام : أتأذن لي أن أحدّث الناس بحديث جابر ؟ (3) قال : « لا تحدّث به السفلة فيذيعـ[و]ه ، أما (4) تقرأ : : (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ) » .
   قلت : بلى .
   قال : « إذا كان يوم القيامة وجمع الله الأولين والآخرين ولانا الله حساب شيعتنا ، فما كان بينهم وبين الله حكمنا على الله فيه ، فأجاز حكومتنا ، وما كان بينهم وبين الناس استوهبناه منهم ، فوهبوه لنا ، وما كان بيننا وبينهم فنحن أولى من عفى وصفح » (5) .

---------------------------
(1) سورة فصلت : 41 : 35 .
(2) مطالب السؤول لابن طلحة الشافعي : ص 289 وفي ط : 292 الباب السابع ، مع اختلاف في بعض الألفاظ .
(3) في المصدر : « قلت لأبي الحسن عليه السلام : أحدّثهم بتفسير جابر » ؟
(4) في المصدر : « قلت لأبي الحسن عليه السلام : أحدّثهم بتفسير جابر » ؟
(5) رواه محمد بن العباس كما في تأويل الآيات للاسترابادي : 2 : 788 ح 7 ، وعنه البحراني في البرهان : 4 : 456 ح 6 ، والمجلسي في البحار : 8 : 50 ح 57 من باب الشفاعة من كتاب =

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 231 _

   وروى في كتاب مشارق الأنوار عن الأصبغ بن نباتة قال : خطب أميرالمؤمنين عليه السلام فقال في خطبته : « أنا أخو رسول الله ، ووارث علمه ، ومعدن حكمه ، وصاحب سره ، وما أنزل الله حرفا في كتاب من كتبه إلا وقد صار إليّ ، وزادني علما منه ، وأعطيت (1) علم الأنساب والأسباب ، وأعطيت ألف مفتاح يفتح كلّ مفتاح ألف باب ، وأمددت (2) بعلم القدر ، وإنّ ذلك يجري في الأوصياء من بعدي ما جرى الليل والنهار ، حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين .
   أعطينا الصراط ، والميزان ، واللواء ، والكوثر .
   نحن المقدّمون على بني آدم يوم القيامة ، نحن المحاسبون للخلق ، نحن منزلوهم منازلهم ، نحن معذّبوا أهل النار » (3) .
   وروي في الكتاب المذكور عن نافع ، عن عمر بن الخطاب ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال : « يا عليّ ، أنت نذير أمّتي و[ أنت ] هاديها ، وأنت صاحب حوضي و[ أنت ] ساقيه ، وأنت يا عليّ ذو قرنيها وصاحب طرفيها (4) ، ولك الآخرة والأولى ، فأنت يوم القيامة الساقي ، والحسن الذائد ، والحسين الأمين (5) ، وعلي

---------------------------
=   العدل والمعاد وفي ج 24 ص 267 ح 34 من باب الآيات الدالة على رفعة شأنهم .
  والفقرة الأخيرة من الحديث ورد نحوها عن الصادق عليه السلام ، كما في تفسير فرات الكوفي : ص 552 ح 707 .
  ورواه فرات باختصار عن الإمام الكاظم عليه السلام في الحديث 706 من تفسيره : ص 551 .
(1) في المصدر : « وزاد لي علم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة ، أعطيت » .
(2) في المصدر : « ومددت » .
(3) مشارق أنوار اليقين للبرسي : ص 164 مع اختلاف في بعض الألفاظ وإضافات كثيرة .
  ورواه البحراني في معالم الزلفى : 1 : 178 .
(4) في المصدر : « ذو قرنيها وكلا طرفيها » .
(5) في المصدر : « الحسين الآمر » .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 232 _

  بن الحسين الفارض ، ومحمد بن علي الناشر ، وجعفر بن محمد السابق (1) ، وموسى بن جعفر محصي المحبين والمنافقين (2) ، وعلي بن موسى مرتّب المؤمنين ، ومحمد بن علي منزل أهل الجنة في منازلهم (3) ، وعلي بن محمد خطيب أهل الجنة ، والحسن بن علي جامعهم [ حيث يإذن الله لمن يشاء ويرضى ] ، والمهدي عجّل الله فرجه شفيعهم يوم القيامة حيث لا يأذن الله إلا لمن يشاء ويرضى » (4) .
   ولله درّ من قال :
أقـرّ الـحاسدون لـهم بفضل      عـوارفه  قـلائد فـي iiالهواد
بـهم  نـال الهداية ذو iiضلال      وهـم  نـهج الدراية iiوالرشاد
وهـم عصم المرجّى ثم iiغوث      يـفوق الغيث في السنة iiالجماد
مـحظتهم الـمودة غـير iiوان      وأرجوا الأجر في صدق الوداد
وكـم  عـاندت فيهم من iiعدوّ      وفـيهم لا أخـاف مـن العناد
ومـن  يـك ذا مراد في أمور      فـإنّ ولاهُـم أقـصى iiمرادي
أرجّـيـهم لآخـرتي وأبـغي      بـهم  نيل المطالب في iiالمعاد
ومـا  قـدّمت من زاد iiسواهم      ونـعم  الزاد يوم البعث iiزادي
   مناقبهم قد طبقت المشارق والمغارب ، وفضائلهم أعجزت الأعاجم والأعارب ، وفواضلهم غمّرت المتفسكل والذاهب ، ونوائلهم عمت البعيد والصاحب ، وتناولت الأهل والأجانب .
   فكم لهم من أياد هطلت بسيوب الإفضال ، ورشحت على رياض الوجود

---------------------------
(1) في المصدر : « السائق » .
(2) في المصدر : « السائق » .
(3) في المصدر : « السائق » .
(4) رواه البرسي في مشارق أنوار اليقين : ص 180 ـ 181 وما بين المعقوفين منه ، وعنه المجلسي في البحار : 27 : 313 .
  ورواه البحراني في معالم الزلفى : 1 : 177 .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 233 _

  بودق النوال ، وكم لهم من ألسن تنبئ عن ذي الجلال ، وأقلام حكمة برتها أيدي الكبير المتعال ، وعلوم لم تحط بها قلوب الرجال ، قد استعذب منها الرحيق الزلال ، وفاض منها العذب السلسال .
   فهم والله الفيوض السجّال ، وهم علل الوجود في القدم والأزال ، وهم المميّزون بين الحرام والحلال ، صلوات الله وسلامه عليهم على ممرّ الأيام والليال .
   روي في كتاب كشف الغمة عن علي بن أبي حمزة البطائني قال : خرج أبو الحسن موسى بن جعفر عليه السلام في بعض الأيام [ من المدينة ] إلى ضيعة له خارجة عن المدينة فصحبته وكان عليه السلام راكبا على بغلة وأنا على حمار [ لي ] ، فلما صرنا في بعض الطريق اعترضنا أسد فأحجمت أنا عنه [ خوفا ] وأقدم أبو الحسن عليه السلام [ غير مكترث به ، فرأيت الأسد يتذلّل لأبي الحسن ويهمهم ، فوقف له أبو الحسن عليه السلام ] عليه كالمصغى [ إلى همهمته ] ، فوضع الأسد يده على كفل بغلته ، فرعبت نفسي من ذلك رعبا عظيما ، فمكثت هنيئة ثم تنحّى عن الطريق ، فحوّل أبو الحسن عليه السلام وجهه إلى القبلة وجعل يدعو ، فحرّك شفتيه بما لم أفهم ، ثم أومأ بيده إلى الأسد أن امض ، فهمهم الأسد همهمة طويلة وأبو الحسن عليه السلام يقول : « آمين آمين » ، فانصرف الأسد حتى غاب عنا ، ومضى أبو الحسن عليه السلام لوجهه ، فلما بعدنا عن الموضع قلت له جعلت فداك ، ما شأن هذا الأسد ؟ فقد خفت منه والله عليك ، وعجبت من شأنك معه !
   قال أبو الحسن عليه السلام : « إنه خرج يشكو إليّ عسر ولادة لبوته (1) وسألني أن أسأل الله [ تعالى ] أن يفرّج عنها ففعلت [ ذلك ] ، فألقى الله في روعي أنها تلد [ له ] ذكرا فخبّرته بذلك ، فقال لي : امض في حفظ الله ، فلا سلّط الله عليك ولا على ذريّتك ولا على [ أحد من ] شيعتك شيئا من السباع ، فقلت آمين » (2) .

---------------------------
(1) في المصدر : « عسر الولادة على لبوته » .
(2) كشف الغمة : 3 : 17 مع اختلاف في الألفاظ ، وما بين المعقوفات منه .
  =

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 234 _

   وروي في الكتاب المذكور عن محمد بن عبدالله السكري (1) قال : قدمت المدينة أطلب دينا فأعياني فقلت : لو ذهبت إلى أبي الحسن موسى عليه السلام فشكوت إليه ، فأتيته [ بنقمى ] (2) في ضيعته ، فخرج إليّ ومعه غلام بيده منسف فيه قديد مجزّع (3) ليس معه غيره ، فوضعه فأكل وأكلت معه ، وسألني عن حاجتي فذكرت له قصّتي ، فدخل فلم يقم إلا يسيرا حتى خرج ، ثم قال لغلامه : « اذهب » ، ومدّ يده فدفع إليّ صُرّة فيها ثلاث مئة دينار ، ثم قام وعاد إلى ضيعته ، وقمت وركبت وانصرفت (4) .
   وروي في الكتاب المذكور أنّ رجلا من ولد عمر بن الخطاب كان بالمدينة يؤذي أبا الحسن موسى عليه السلام ويسبّه إذا رآه ويشتم عليا عليه السلام فقال له أصحابه : دعنا نقتل هذا الفاجر ، فنهاهم عن ذلك وزجرهم أشدّ الزجر ، وسأل عن العمري فأخبر أنه خرج إلى زرع له ، فخرج إليه ودخل المزرعة بحماره ، فصاح به العمري : لا توطئ زرعنا ، فتوطّاه أبو الحسن عليه السلام بالحمار حتى وصل إليه ، فنزل وجلس وباسطه وضاحكه وقال : « كم غرمت على زرعك هذا » ؟

---------------------------
  =
  ورواه المفيد في الإرشاد : 2 : 229 ـ 230 ، والراوندي في الخرائج : 2 : 649 | 1 ، وابن حمزة في الثاقب في المناقب : 456 | 384 ، والفتّال في روضة الواعظين : ص 214 ، وابن شهر آشوب في المناقب : 4 : 323 ثم قال : وقد نظم ذلك :
واذكـر الليث حين ألقى iiلديه      فـسعى  نحوه وزار iiوزمجر
ثـم لـما رأى الإمـام iiأتـاه      وتـجافى  عنه وهاب iiوأكبر
وهو طاو ثلاث هذا هو الحق      ومـا لـم أقـله أوفى iiوأكثر
(1) في بعض نسخ المصدر : « البكري » .
(2) قال الحموي في مادة « نقم » من معجم البلدان : نَقمى ـ بالتحريك والقصر ـ : موضع من أعراض المدينة كان لأبي طالب .
(3) مجزع : أي مقطع .
(4) كشف الغمّة : 3 : 18 وما بين المعقوفين منه .
  ورواه المفيد في الإرشاد : 2 : 233 ، والخطيب في تاريخ بغداد : 13 : 28 وعنه المزي في تهذيب الكمال : 29 : 45 .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 235 _

   قال : مئتي دينار .
   قال : « فكم ترجو أن تحصل فيه (1) » ؟
   قال : لست أعلم الغيب .
   قال : « إنما قلت لك : كم ترجو » ؟
   قال : أن تجيء فيه مئتي دينار .
   فاخرج له أبو الحسن عليه السلام صرّة فيها ثلاث مئة دينار وقال : « هذا زرعك على حاله ، والله يرزقك ما ترجوه » .
   قال : فقام العمري وقبّل رأس الإمام وسأله أن يصفح عما فرط منه ، فتبسّم إليه أبو الحسن وانصرف إلى بيته ، ثم خرج إلى المسجد فوجد العمري جالسا هناك ، فلما نظر إليه قال : الله أعلم حيث يجعل رسالته .
   قال : فوثب إليه أصحابه وقالوا : ما قصّتك ؟ قد كنت تقول غير هذا .
   فقال لهم : قد سمعتم ما قلت الآن ، وجعل يدعو إلى أبي الحسن عليه السلام ، فخاصموه ، فلما رجع أبو الحسن عليه السلام إلى داره قال لأصحابه الذين أشارو بقتل العمري : « كيف رأيتم ؟ أصلحت أمره وكفيتكم (2) شره » (3) .
   ولله درّ من قال من الرجال الأبدال على الآل :
نوّهت باسمه السماوات والأرض      كـما  نـوّهت بـصبح iiذكـاها
وغـدت تـنشر الـفضائل iiعنه      كـلّ قـوم عـلى اختلاف لغاها

---------------------------
(1) في المصدر : « أن يحصل منه » .
(2) في المصدر : « وكفيت » .
(3) كشف الغمة : 3 : 18 .
  ورواه المفيد في الإرشاد : 2 : 233 ، وأبو الفرج في مقاتل الطالبيين : 413 ، والخطيب في تاريخ بغداد : 13 : 28 وعنه الذهبي في سير أعلام النبلاء : 6 : 271 ، والطبري في دلائل الإمامة : 311 ، والفتّال في روضة الواعظين : 215 ، وابن شهر آشوب في المناقب : 4 : 344 ، والطبرسي في إعلام الورى : 2 : 26 .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 236 _

وصـفوا ذاتـه بـما كان فيها      مـن  صفات كمن رأى مرآها
وتـمـنّوه بـكـره iiوأصـيلا      كـلّ  نـفس مـشغوفة بمناها
طربت باسمه الثرى فاستطالت      فـوق عـلويّة السماء iiسفلاها
ثـم أثـنت عـليه إنس iiوجنّ      وعـلى  مـثله يـحقّ ثـناها
   روي في كتاب كشف الغمة عن أحمد بن عبدالله (1) بن عمار يرفعه إلى مشايخه قالوا : جعل الرشيد ابنه في حجر جعفر بن محمد بن الأشعث ، فحسده يحيى بن خالد بن برمك على ذلك وقال : إن أفضيت إليه الخلافة تزول دولتي ودولة ولدي ، فاحتال على جعفر بن محمد ـ وكان يقول بالإمامة ـ حتى داخله [ وأنس به ] وكان يكثر غشيانه في منزله [ فيقف على أمره ] ويرفعه إلى الرشيد ويزيد عليه في ذلك بما يقدح به قلبه ، ثم قال لبعض ثقاته : تعرفون لي رجلا من آل أبي طالب ليس بواسع الحال يعرّفني ما أحتاج إليه ؟ فدلّ على عليّ بن إسماعيل بن جعفر بن محمد ، فحمل إليه يحيى بن خالد مالا ، وكان موسى عليه السلام يأنس بعليّ بن إسماعيل ويصله ويبرّه ، ثم أنفذ إليه يحيى بن خالد يرغّبه في قصد الرشيد لعنه الله ويعده بالإحسان إليه ، فعمل على ذلك ، فأحسّ به موسى عليه السلام فدعا به فقال : « إلى أين يا ابن أخي » ؟
   قال : إلى بغداد .
   قال : « وما تصنع » .
   قال : عليّ دين وأنا مملق .
   فقال له موسى عليه السلام : « أنا أقضي دينك وأفعل بك وأصنع » .
   فلم يلتفت إلى ذلك وعمل على الخروج ، فاستدعاه أبو الحسن عليه السلام فقال له : « أنت خارج » ؟
   قال : نعم ، لابدّ لي من ذلك .

---------------------------
(1) في المصدر : « عبيد الله » .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 237 _

   فقال له : « انظر يا ابن أخي واتّق الله ولا تُؤتَم أطفالي (1) » .
   وأمر له بثلاث مئة دينار وأربعة آلاف درهم .
   فلما قام من بين يديه ، قال أبو الحسن عليه السلام لمن حضره : « والله ليسعينّ في دمي وليؤتمنّ (2) أولادي » !
   فقالوا : جعلنا الله فداك ، وأنت تعلم هذا من حاله وتعطيه وتصله ؟!
   قال : « نعم ، حدثني أبي ، عن آبائه ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله : إن الرحم إذا قطعت فوصلت فقطعت قطعها الله ، وإني (3) أردت بذلك أن أصله بعد قطعه حتى إذا قطعني قطعه الله » .
   قالوا : فخرج عليّ بن إسماعيل حتى أتى يحيى بن خالد ، فتعرّف منه خبر موسى بن جعفر عليه السلام ورفعه إلى الرشيد لعنه الله ، فسأله عن عمه فسعى به إليه وقال : إن الأموال تحمل إليه من المشرق والمغرب ، وإنه اشترى ضيعة سماها اليسيرية بثلاثين ألف دينار ، فقال له صاحبها وقد أحضره المال : لا آخذ هذا النقد ولا آخذ إلا نقد كذا وكذا ، فأمر بذلك المال فردّ ، وأعطاه ثلاثين ألف دينار من النقد الذي سأل بعينه .
   فسمع ذلك منه الرشيد فأمر له بمئتي ألف درهم تثبّت (4) على بعض النواحي ، فاختار بعض كور المشرق ، ومضت رسله لقبض المال وأقام ينتظرهم ، فدخل في بعض تلك الأيام إلى الخلا فزحر زحرة (5) خرجت منها حشوته كلها ، فسقطت وجهدوا في ردّها فلم يقدروا ، فوقع لما به وجاءه المال وهو نزع ، فقال : ما أصنع به وأنا في الموت ؟!

---------------------------
(1) المثبت من المصدر ، وفي النسخة : « أولادي » .
(2) في المصدر : « ويؤتمنّ أولادي » .
(3) في المصدر : « إنني » .
(4) في المصدر : « تسبب » .
(5) زحر : أخرج صوته أو نفسه بأنين من عمل أو شدة . ( المعجم الوسيط ) .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 238 _

   وخرج الرشيد لعنه الله في تلك السنة إلى الحج وبدأ بالمدينة فقبض على أبي الحسن عليه السلام (1) .
   وروي عن محمد بن الحسن المعروف بالورّاق ، عن محمد بن أحمد بن السمط قال : حدثني الرواة المذكورون أنّ موسى بن جعفر عليهما السلام كان في حبس هارون الرشيد بمسجد المسيّب من الجانب الغربي بباب الكوفة ، لأنه قد نقل إليه من دار السندي بن شاهك وهي الدار المعروفة بدار ابن عمرويه ، وكان قد فكّر الرشيد في قتله بالسم ، فدعا بالرطب وأكل منه ، ثم أخذ صينيّة ووضع فيها عشرين رطبة وأخذ سلكا ففركه (2) بالسم وأدخله في سم الخياط وأخذ رطبة من تلك الرطب ، وجعل يردّد ذلك السلك المسموم فيها حتى علم أنه قد مكن السمّ منها ، واستكثر من ذلك ، ثم أخرج السلك منها وقال لخادم له : احمل هذه الصينيّة لموسى بن جعفر وقل له : إن أميرالمؤمنين أكل من هذا الرطب وتنغّص لك ، وهو يقسم عليك بحقّه لما أكلته عن آخر رطبة لأني اخترته لك بيدي ، ولا تتركه يبقي منه شيئا ولا يطعم منه أحدا .
   فأتاه الخادم وأبلغه الرسالة ، فقال له موسى : « آتني بخلالة » .
   فأتاه بها ، وناوله إياها ، وقام بإزائه وهو يأكل الرطب ، وكان للرشيد كلبة أعزّ عليه من كل ما في مملكته ، فجذبت نفسها وخرجت تجرّ سلاسلها من ذهب وفضة وجواهر منظومة حتى عادت إلى موسى بن جعفر عليه السلام فبادر بالخلالة إلى الرطبة المسمومة فغرزها (3) ورمى بها إلى الكلبة ، فأكلتها الكلبة فلم تلبث أن ضربت بنفسها الأرض وعوت وتقطّعت قطعا ، واستوفى موسى باقي الرطب ، وحمل الخادم

---------------------------
(1) كشف الغمة : 3 : 20 في سبب شهادته عليه السلام .
  ورواه المفيد في الإرشاد : 2 : 237 ـ 243 ، وأبو الفرج في مقاتل الطالبيين : 414 ـ 418 ، والشيخ الطوسي في الغيبة : 26 ـ 31 ح 6 .
(2) أخذ سلكا ففركه : أي أخذ خيطا فدلكه .
(3) غرزها : أي فأدخلها .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 239 _

  الصينية وصار بها إلى الرشيد ، فقال له : أكل الرطب عن آخره ؟ قال : نعم .
   قال : فكيف رأيته ؟ قال : ما أنكرت منه شيئا .
   ثم ورد عليه خبر الكلبة وأنها تهرّت وماتت ، فقلق هارون الرشيد لعنه الله لذلك قلقا شديدا واستعظمه ، فوقف على الكلبة فوجدها متهرّية بالسم ، فأحضر الخادم ودعا بالسيف وقال : أصدقني عن خبر الرطب وإلا قتلتك .
   فقال : يا أميرالمؤمنين ، إني حملت الرطب إلى موسى بن جعفر فأبلغته كلامك وقمت بإزائه ، فطلب خلالة فأعطيته ، فأقبل يغرز رطبة رطبة ويأكلها حتى مرّت به الكلبة ، فغرز رطبة ورمى بها إلى الكلبة فأكلتها وأكل هو باقي الرطب وكان ما ترى .
   فقال الرشيد لعنه الله : ما ربحنا من موسى إلا أن أطعمناه جيد الرطب وضيّعنا سمّنا وقتل كلبتنا ، ما في موسى في حيلة !
   ثم إن موسى بن جعفر عليه السلام بعد ثلاثة أيام دعا بمسيّب الخادم وكان به موكّلا ، فقال له : « يا مسيّب » .
   فقال : لبيك يا مولاي .
   قال : « اعلم أني ظاعن (1) في هذه الليلة إلى المدينة مدينة جدي رسول الله صلى الله عليه وآله لأعهد إلى من فيها يعمل بعدي به » (2) .
   قال المسيب : قلت : يا مولاي ، كيف تأمرني والحرس معي على الأبواب أن أفتح لك الأبواب وأقفالها ؟!
   فقال عليه السلام : « يا مسيب ، أضعفت نفسك في الله عزوجل وفينا »(3) .
   قال : لا يا سيدي .
   قال : « فمه » .

---------------------------
(1) الظعن : السير والسفر .
(2) الظعن : السير والسفر .
(3) في المصدر : « يا مسيب ، ضعف يقينك بالله عزوجل وفينا » .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 240 _

   قال المسيب : فقلت : متى يا مولاي ؟
   فقال عليه السلام : « يا مسيّب ، إذا مضى من هذه الليلة المقبلة ثلثاها فقف وانظر » .
   قال المسيّب : فحرّمت على نفسي الاضطجاع تلك الليلة ، ولم أزل راكعا وساجدا ومنتظرا ما وعدني ، فلما مضى من الليلة ثلثاها نعست وأنا جالس ، وإذا أنا بمولاي يحرّكني برجله ، ففزعت وقمت قائما ، فإذا أنا بتلك الجدران المشيّدة والأبنية وما حولها من القصور والحجر قد صارت كلها أرضا والدنيا من حواليها فضاء ، وظننت مولاي أنه قد أخرجني من الحبس الذي كان فيه ، فقلت : مولاي ، أين أنا من الأرض ؟ قال عليه السلام : « في محبسي يا مسيب » .
  فقلت : يا مولاي ، فخذ لي من ظالمي وظالمك .
  فقال عليه السلام : « أتخاف من القتل » .
  فقلت : يا مولاي ، معك لا .
   فقال عليه السلام : « يا مسيّب ، فاهدأ على جملتك فإني راجع إليك بعد ساعة واحدة ، فإذا ولّيت ذلك فسيعود محبسي إلى بنيانه » .
   فقلت : يا مولاي ، فالحديد لا تقطعه ؟!
   فقال عليه السلام : « يا مسيب ، ويحك الان الله الحديد لعبده داود عليه السلام ، فكيف يتصعّب علينا الحديد » ؟!
   قال المسيب : ثم خطا بين يديّ خطوة ، فلم أدر كيف غاب عن بصري ، ثم ارتفع البنيان وعادت القصور إلى ما كان عليه ، واشتدّ اهتمامي بنفسي ، وعلمت أن وعده الحقّ ، فلم يمض إلا ساعة كما حدّ لي حتى رأيت الجدران قد خرّت إلى الأرض سجودا وإذا أنا بسيّدي عليه السلام قد عاد إلى محبسه في الحبس وعاد الحديد إلى رجله ، فخررت ساجداً لوجهي بين يديه ، فقال : « ارفع رأسك يا مسيب ، واعلم أن سيدك راحل إلى الله جل اسمه ثالث هذا اليوم الماضي » .
   قلت له : يا مولاي : وأين سيدي علي الرضا عليه السلام ؟

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 241 _

   قال : « يا مسيب ، شاهد عندي غير غائب ، وحاضر غير بعيد » .
   قلت : يا سيدي ، فإليه قصدت ؟
   فقال عليه السلام :« قصدت والله كل منتجب لله عز وجل على وجه الأرض شرقها وغربها حتى محبّي من الجن في البراري والبحار ومخلصي الملائكة في مقاماتهم وصفوتهم » .
   فبكيت ، فقال عليه السلام : « لا تبك يا مسيب ، إننا نور لا يطفيء ، إن غبت عنك فهذا عليّ ابني بعدي هو أنا » .
   فقلت : الحمد لله .
   ثم إن سيدي عليه السلام في ليلة يوم الثالث دعاني وقال : « يا مسيّب إن سيّدك يصبح في ليلة يومه على ما عرّفتك من الرحيل إلى الله عز وجل مولاه الحقّ تقدّست أسماؤه ، فإذا دعوت بشربة ماء فشربتها ورأيتني قد انتفخ بطني واصفرّ لوني واحمرّ واخضرّ وتلوّن ألوانا فخبّر الطاغية بوفاتي ، وإياك أن تظهر على الحديث أحدا إلا بعد وفاتي » .
   قال المسيب : فلم أزل أترقّب وعده حتى دعا بشربة ماء فشربها ، ثم دعاني وقال : « إن هذا الرجس السندي بن شاهك يقول إنه يتولّى أمري ويدفنني ، لا يكون ذلك أبدا ، فإذا حملت إلى المقبرة المعروفة بمقابر قريش فألحدني بها ولا تعلو على قبري علوّا ، وتجنّبوا زيارتي ، ولا تأخذوا من تربتي لتبرّكوا بها ، فإن كل تربة لنا محرمة ما خلا تربة جدي الحسين عليه السلام ، فإني الله عزوجل جعلها شفاءا لشيعتنا وموالينا » (1) .
   وتوفّي صلوات الله عليه لخمس بقين من رجب .
   وقيل : لخمس خلون من رجب ، سنة ثلاث وثمانين ومئة من الهجرة (2) .

---------------------------
(1) ورواه الصدوق في عيون أخبار الرضا عليه السلام : 1 : 94 ح 6 من الباب 8 وفي ط المحقق : ص 252 ح 102 مع مغايرات .
(2) رواه الطبرسي في إعلام الورى : ص 286 في تاريخ مولده ومبلغ سنه ووقت وفاته عليه السلام .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 242 _

   لعن الله قاتليه والمتؤازرين عليه ، ولله درّ من قال من الرجال على الآل ، ولقد أجاد :
لهفي  على النفس iiالزكية      أزهـقـت والله iiنـاظر
لهفي  على قمر المعارف      نـكرته يـدي iiالـمناكر
لـهفي لـشمس iiهـداية      غارت  بأطراف iiالمغاور
لـهفي  لقطب سما iiالعلا      دارت عليه رحى الدوائر
لـهـفي لـبيت iiمـحمد      أقـوى وفيه اليوم iiصافر
   فالويل لهارون الرشيد ، من الإمام الشهيد ، في يوم الوعد والوعيد ، بين يدي العلي الحميد ، يوم يقول لجهنم هل امتلأت ، وتقول هل من مزيد .
   ثبّتنا الله وإياكم يا إخواني على ولاهم ، ووفّقنا للبراءة من عداهم ، وحشرنا تحت لواهم ، أولا تكونون كمن هدّ ركن صبره بلاهم ، وقام بواجب عزاهم ، وأجاد في رثاهم .