المصرع الثالث
  وهو مصرع أميرالمؤمنين (عليه السلام)
  إخواني ، قرّطوا آذان الإيمان بفكّ أقفالها ، وشنّفوا مسامع الإذعان بحلّ أغلالها ، وخففوا ظهور الإيقان بحطّ أثقالها ، وتيقّنوا أنّ الحكيم الأكمل لم يخلق الخلق بلا فائدة ، وتصوّروا أن الحاكم الأعدل لا يظلم في الأحكام النافذة ، واعلموا أنّ الغنيّ الجواد لا يرغب إلى رفد سواه ، وتحققوا أنّ الكريم المتفضّل لا يرجع فيما أسداه ، والطبع السليم أوجب شكر المنعم ، والعقل المستقيم حتّم حمد الرازق المتكرّم ، والشكر على جسيم الفواضل ضروريّ الوجوب ، والحمد لربّ الفضائل أمر مندوب .
   فأعظم منن الله على العباد إرشادهم إلى طريق الرشاد ، وأجسم مواهب الملك الجواد إيصال عبده إلى جادة السداد ، ليفيض عليه نوالَيه ، حيث قد منحه بأصغَريه ، وكشف عن محجّبات عقله حجاب المتشكّكين ، وناداه بعد فتح باب المعرفة : ( ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ ) (1)
.
   وعلة هذه النعمة وأصلها ومعناها وصورتها هي الولاية لأميرالمؤمنين عليه السلام ، وبها يصل العبد إلى غاية المرام ، وذلك لأنّ أميرالمؤمنين عليه السلام أخو النبي ووصيّه ، ونائب الحق تعالى ووليه ، وأسد الله وعليّه ، ومختاره ورضيّه ، الذي واسى النبي وساواه ، وبمهجته في الملّمات وقاه ، وأجابه حين دعاه ولبّاه ، وشيّد الدين بعزمه وبناه ، وكان بيت النبوّة مرباه ومنشاه ، وشمس الرسالة عرشه ومرتقاه ، وغُصنَي الجلالة ولداه ، فكم نصر الرسول وحماه ، وغسّل النبي وواراه ، وقام بدَينه

---------------------------
(1) سورة الحجر : 15 : 46 .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 48 _

  وقضاه ، ولد الحرم وفتاه ، ربيب الكرم ومنشاه ، من أباد جميع الشرك وأفناه .
فـعليّ نـفس مـحمد iiووصـيه      وأمـينه  وسـواه مـأمون iiفـلا
وشـقيق بـنعته وخير من iiاقتفى      مـنهاجه  وبـه اقـتدى وله iiتلا
مـولى  بـه قـبل المهيمن iiآدما      لـمـا دعـا وبـه تـوسل iiأوّلا
وبـه  اسـتقرّ الفُلك من iiطوفانه      لـما دعـا نـوح بـه وتـوسّلا
وبـه خبت نار الخليل iiفأصبحت      بـردا وقـد أذكت ضراما مُشعلا
وبـه  دعـا يعقوب حين iiأصابه      مـن  فقد يوسف ما شجاه وأذهلا
وبه دعا الصديق يوسف إذ iiهوى      فـي هُـوّة وأقـام أسـفل iiأسفلا
وبــه أمـاط الله ضُـرّ iiنـبيه      أيـوب  وهـو المستكين iiالمبتلا
وبه دعا موسى فأوضحت iiالعصا      طُـرقا ولُـجّه بَـحرها طام iiملا
وبـه دعـا عـيسى فـأحيا ميّتا      مـن  قـبره وانشقّ عنه iiالجَندلا
وبـه  دعـا داود حـين iiغشاهم      جـالوت  مـقتحما يقود iiالجَحفلا
لـقّـاه دامـغـة فـغادر شـلوه      مـلقىً  وولّـى جَـمعُه مُستجفلا
الـعالم الـعلمَ الرضيّ iiالمرتضى      نُور الهدي سيف العليّ أخو العُلى
   روى أبو مخنف (1) بإسناده عن جابر بن عبدالله الأنصاري رضي الله عنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وآله عن مولد علي عليه السلام ، قال : « يا جابر ، سألت عجيبا عن خير مولود ، اعلم أنّ الله لما أراد أن يخلقني ويخلق عليا قبل كلّ شيء ، خلق دُرّة عظيمة أكبر من الدنيا عشر مرات ، ثم إن الله تعالى استودعنا في تلك الدرّة ، فمكثنا فيها مئة ألف عام ، نسبّح الله تعالى ونقدّسه ، فلما أراد إيجاد الموجودات نظر إلى الدرّة بعين التكوين فذابت وانفجرت نصفين ، فجعلني ربي في النصف الذي احتوى على النبوة ، وجعل عليّا في النصف الذي احتوى على الإمامة .

---------------------------
(1) ما عثرت على كتاب أبي مخنف ، وما وجدت الحديث في مقتله ، ولأبي مخنف كتب كثيرة لم تصل إلينا ، انظر رجال النجاشي ورجال الشيخ .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 49 _

  ثم إن الله تعالى خلق القلم وقال : اكتب . قال : وما أكتب ؟ قال : اكتب : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، علي ولي الله .
   فلما فرغ القلم من كتابة الأسماء قال : يا رب ، من هؤلاء الذي قرنت اسمهما باسمك ؟
   قال الله تعالى : يا قلم ، محمد نبيي وخاتم الأنبياء ، وعليّ وليّي وخليفتي في عبادي ، لولاهما ما خلقت خلقي ، فمن أحبّهما أحببته ، ومن أبغضهما أبغضته » (1) .
   فلا غرو ولا عجب من ارتقائه مفارق الجلال ، وحلوله في قمم الكمال ، فهو الاسم الأعظم الذي تنفعل به الكائنات ، والحاكم المتصرّف في سائر الموجودات ، وهو الأول بالأنوار ، الظاهر بالأدوار ، الباطن بالأسرار ، الآخر بالآثار ، وذلك مقام الرب العليّ .
   نطقت فيه كلمته ، وظهرت عنه مشيئته ، فهو كهو بوجوب الطاعة وامتثال الأمر والرفعة على الموجودات والحكم على البريّات ، وليس هو هو بالذات المقدسة المنزّهة عن الأشباه والأمثال المتعالية عن الصور والمثال ، اللهم لا فرق بينك وبينه إلا أنه عبدك وخلقك .
سـر الإلـه الذي ما زال يظهر iiبال
آيـات مـع أنـبياء الأعصر iiالاُول
شـمس  الهدى علّة الدنيا التي iiصدر
الـوجود مـن أجـلها من علّة iiالعلل
الـجوهر  الـنبوي الأحـمدي أبـو
الأئـمة الـسادات الـهادين iiلـلسبل
صـنو الـنبيّ حبيب الله أشرف iiمن
يمشي على الأرض من حاف ومنتعل
بـه  يجاب دُعا الداعي وتقبل أعمال
الـعـباد ويـسـتشفى مـن الـعلل

---------------------------
(1) رواه المحدث البحراني في مدينة المعاجز : 2 : 367 برقم 610 مع إضافات كثيرة عن أبي مخنف .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 50 _

  فاقدحوا يا ذوي البصائر زند متواريات الأحزان بين الجوانح ، واستشبّوا متّقدات الأشجان في رؤوس رواسي الجوارح ، واتركوا متموّجات الأجفان في رياض الخدود سوافح ، واقطعوا جرثومات السلوان بباترات هذه الفوادح ، واسقوا ايكات الإطمئنان بمنهمر هذه القوادح ، وصوّحوا روضات الافتتان بسمائم الوجد اللوافح ، وتذكّروا ما وقع على علة الإمكان من الأرزاء الجوائح وما لاقاه من الخطوب التي يحقّ لسماع ذكرها أن تسكن النفوس الضرائح .
   روي في كتاب المناقب مرفوعا إلى فاطمة بنت أسد أم أميرالمؤمنين عليه السلام قالت : لما دخلت الكعبة شرّفها لله تعالى انسدّ الباب وإذا أنا بخمس نسوة كأنهن الأقمار وعليهنّ ثياب الحرير والإستبرق ، فسلّمن عليّ وجلسن إلى جنبي ، فلما وضعت بولدي أميرالمؤمنين عليه السلام خرّ ساجدا لله يتضرّع إلى ربّه ، ثم رفع رأسه الشريف وأذّن وأقام وشهد لله بالوحدانية ولرسول الله بالنبوّة والرسالة ، ولنفسه بالخلافة والولاية ، فبينما أنا كذلك وإذا برسول الله قد دخل ، فلما بصر به ولدي قال : « السلام عليك يا رسول الله ، ورحمة الله وبركاته » ، فقال النبي : « وعليك السلام يا أخي وشقيقي ومن أقرّ الله به عيني » .
   فقال : « يا نبي الله ، أتأذن لي أن أقرأ » ؟ فقال صلى الله عليه وآله : « اقرأ » .
  فابتدأ بصحف آدم فقرأها حتى لو حضر شيث لأقرّ أنه أعلم بها منه ، ثم تلى صحف نوح وصحف إبراهيم والتوراة والإنجيل والزبور ، ثم تلا : ( بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ) (1) ، فقال النبي صلى الله عليه وآله : « قد أفلح المؤمنون بك ، أنت أميرهم ، تميرهم من علمك ، الحمد لله الذي جمع بيننا » . فنطق الإمام بلسان فصيح وقال : « مدّ يدك يا رسول الله ، فإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأنك محمد عبده ورسوله ، بك تختم النبوة ، وبي تختم الولاية » (2) .

---------------------------
(1) المؤمنون : 23 : 1 ـ 2 .
(2) ورواه البرسي في مشارق أنوار اليقين : ص 75 مختصرا .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 51 _

  وكان مولده عليه السلام ليلة الجمعة ثالث عشر من شهر رجب سنة ثلاثين من عام الفيل (1) .
   وروي في كتاب الأربعين عن أنس بن مالك قال : إذا كان يوم القيامة نادى مناد : « يا علي ، يا ولي ، يا ديان ، يا هادي ، يا سيد ، يا صديق ، يا زاهد ، يا فتى ، يا طيب ، يا طاهر ، مرّ أنت وشيعتك إلى الجنة بغير حساب » (2) .
   وروى صاحب كتاب النخب (3) قال : تشاجر رجال في إمامة علي بن أبي طالب ، فجاءوا إلى شريك (4) فسألوه ، فقال لهم : حدثني سليمان الأعمش ، عن حذيفة بن اليمان ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال : « إنّ الله تبارك وتعالى خلق عليّاً قضيباً في الجنة ، فمن تمسك به فهو من أهلها » .
   فاستعظم الرجال ذلك ، فجاءوا إلى ابن دراج (5) فأخبروه ، فقال : لا تعجبوا ، حدثني الأعمش ، عن أبي سعيد الخدري أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال : « إنّ الله خلق قضيبا من نور في بطنان عرشه ، لا يناله إلا عليّ ومن تولاه » .

---------------------------
(1) الإرشاد للشيخ المفيد : 1 : 5 .
(2) ورواه البرسي في مشارق أنوار اليقين : ص 47 و68 ، وابن شاذان في مئة منقبة : ص 138 في المنقبة 83 ، والخوارزمي في مناقب أميرالمؤمنين عليه السلام : ص 319 في الفصل 19 ح 323 مع اختلاف قليل .
(3) أي نخب المناقب لآل أبي طالب ، منتخب من مناقب آل أبي طالب تصنيف محمد بن علي ابن شهر آشوب ، والناخب هو أبو عبدالله الحسين بن جبير تلميذ نجيب الدين علي بن فرج الذي كان تلميذ ابن شهر آشوب . ( الذريعة : ج 24 ص 88 رقم 462 ) .
(4) هو شريك بن عبدالله بن الحارث النخعي الكوفي ، استقضاه المنصور على الكوفة سنة 153 ، وتوفي بها في سنة 177 .
(5) هو أبو محمد نوح بن درّاج النخعي القاضي من أصحاب أبي حنيفة ، كان أبوه حائكا من النبط ، ولي نوح القضاء بالكوفة وأصيبت عيناه فكان يقضي واستمرّ ثلاث لا يعلم أحد بعماه ، توفي سنة 182 .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 52 _

   فقال الرجال : هذا من ذاك ! نمضي إلى وكيع (1) ، فجاؤه وأعلموه ، فقال : لا تعجبوا ، حدثني الأعمش ، عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : « أركان العرش لاينالها إلا عليّ وشيعته » .
   فاعترفوا أولئك الرجال بفضل علي (2) .
   ومن كتاب المناقب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : « إن لله عمودا من نور يضيء لأهل الجنة كالشمس لأهل الدنيا ، لايناله إلا علي وشيعته ، وإنّ حلقة باب الجنة لمن ياقوتة حمراء طولها خمسون عاما ، إذا نقرت طنّت وقالت في طنينها : يا علي » (3) .
   ولله درّ من قال من الرجال الأبدال :
وإذا عـلت شـرفا ومجدا iiهاشم      كـان  الوصي لها المعم المخولا
لا  جـدّه تـيم بـن مرّة لا iiولا      أبـواه مـن نـسل النفيل تنسّلا
ومـكسّر الأصـنام لم يسجد iiلها      مـتعفّرا  فـوق الـثرى iiمتذلّلا
لـكن لـه سـجدت مخافة iiبأسه      لـما  على كتف النبي عليّ iiعلا
تـلك الـفضيلة لم يفز شرفا بها      إلا الـخليل أبوه في عصر iiخلا
إذ  كـسّر الأصنام حين خلا iiبها      سـرّا  وولّـى خـائفا مستعجلا
فـتميّز الـعلمين بـينهما iiوقس      تجد الوصيّ بها الشجاع الأفضلا
وانظر  ترى أزكى البريّة iiمولدا      والـفـعل مـتبع ! أبـاه الأوّلا
وهو القؤول وقوله الصدق iiالذي      لا  عـيب فيه لمن وعى iiوتأملا

---------------------------
(1) هو أبو سفيان وكيع بن الجراح بن مليح الرؤاسي ، ولد بالكوفة سنة 129 وتوفي سنة 197 .
(2) ورواه القاضي النعمان في شرح الأخبار : 2 : 269 رقم 577 ، والبرسي في مشارق أنوار اليقين 47 و 68 ، وابن شهر آشوب في المناقب : 3 : 233 في محبته عليه السلام ، وعنه المجلسي في البحار : 39 : 259 في باب أنّ حبّه إيمان وبغضه كفر .
(3) رواه البرسي في مشارق أنوار اليقين : 48 و 68 ، والديلمي في إرشاد القلوب : 2 : 259 في فضائله عليه السلام .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 53 _

والله لـو أنّ الـوسادة iiاُثـنيت      لي في الذي حضر العليّ وحلّلا
لحكمت في قوم الكليم iiبمقتضى      تـوراتهم  حـكما بليغا iiفيصلا
  في ما من أسدلت عليه ستورها الفضائح ، وتوّجت هامته القبائح ، إلى كم أنت عن مركز الهداية نازح ، وحتى متى تدّعي معرفة الناسخ ، ومن أين لك علم التناسخ ، وقدمك في طريق الحقّ غير راسخ ، أما علمت أنّ اسم الله الأعظم ينزل في كلّ تركيب ، وكلمة الله تظهر في كل صورة وتفعل كلّ عجيب ، فما لك لا تشكّ في قول محمد صلى الله عليه وآله : « أنا الفاتح الخاتم » ؟ وترتاب في قول عليّ : « أنا البصير العالم » ؟
  أليس هما قسيمي النور وواحدي الذات في عالم الظهور ؟!
   روي في كتاب المجالس (1) عن زيد بن علي ، عن أبيه ، عن جده علي بن أبي طالب عليه السلام قال : « كنت عند رسول الله صلى الله عليه وآله في مرضه الذي توفّي فيه وكان رأسه في حجري والعباس يذبّ عن وجه رسول الله صلى الله عليه وآله ، فأغمي عليه إغماءة ثم فتح عينيه فقال : يا عباس ، يا عم رسول الله ، اقبل وصيتي واضمن دَيني وعدَتي .
   فقال له العباس : يا نبي الله ، أنا شيخ ذو عيال كثير غير ذي مال ممدود ، وأنت أجود من السحاب الهاطل والريح المرسلة ، فاصرف عني ذلك إلى من أطوق منّي .
   فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : أما أنّي سأعطيها لمن يأخذ بحقها ومن لا يقول مثل ما تقول ، يا علي ، هاكها لا يخالطك فيها أحد ، يا علي ، اقبل وصيّتي وانجز مواعيدي ، يا علي ، اخلفني في أهلي وبلّغ عنّي من بعدي » .

---------------------------
(1) رواه الشيخ الطوسي في أماليه : المجلس 27 الحديث 1 ، وفي المجلس 22 الحديث 12 .
  وروى نحوه الشيخ الصدوق في باب 131 « العلة التي من أجلها أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله إلى عليّ عليه السلام دون غيره » من علل الشرائع : ص 166 ح 1 وفي ص 168 ح 3 بسندين عن زيد بن علي .
  انظر ترتيب الأمالي : ج 2 ص 560 ح 1051 و 1052 .
  ولاحظ المناقب لابن شهر آشوب : 1 : 293 عنوان : « فصل في وفاته صلى الله عليه وآله » .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 54 _

  فقال علي عليه السلام : « فلما نعى إليّ نفسه وجف فؤادي وألقى عليّ بقوله البكاء فلم أقدر أن أجيبه بشيء ، ثم عاد لقوله فقال : يا عليّ ، أو تقبل وصيّتي » ؟
   قال : « وقلت ـ وقد خنقتني العبرة ولم أكد أن أبِن ـ : نعم يا رسول الله .
   فقال صلى الله عليه وآله : يا بلال ، آتني بسوادي ، آتني بذي الفقار ودرعي ذا الفضول ، آتني بمغفري ذات الجبين ورايتي العقاب ، وآتني بالفترة والممشوق .
   فأتى بذلك إلا درعة كانت يومئذ مرتهنة .
   ثم قال : آتني بالمرتجز والعضباء ، وآتني باليعفور والذلول . فأتى بها وأوقفها بالباب .
   ثم قال : آتني بالأتحميّة والسحاب . فأتاه بهما ، فلم يزل يدعو بشيء شيء ، فافتقد عصابة كان يشدّ بها بطنه ، فطلبها فأتي بها إليه والبيت غاص يومئذ بمَن فيه .
   ثم قال : يا عليّ ، قُم فاقبض هذا في حياة منّي وشهادة من البيت كيلا ينازعك أحد من بعدي . فقمت وما كدت أمشي على قدم حتى استودعت ذلك جميعا منزلي .
   فقال صلى الله عليه وآله : يا علي ، أجلسني ، فأجلسته وسنّدته إلى صدري وإنّ رأسه ليثقل ضعفا وهو يقول : يسمع أقصى أهل بيتي وأدناهم : إن أخي ووصيّي ووزيري وخليفتي في أهلي علي بن أبي طالب ، يقضي دَيني وينجز موعدي .
   يا بني هاشم ويا بني عبدالمطلب ، لا تبغضوه ولا تخالفوا عن أمره فتضلوا ، ولا ترغبوا عنه فتكفروا ، اضجعني يا علي ، فأضجعته .
   فقال : يا بلال ، آتني بولدي الحسن والحسين . فانطلق فجاء بهما ، فأسندهما الى صدره فجعل يشمّهما حتى ظننت أنهما غمّاه وتأهّبت لآخذهما عنه ، فقال :
   دعهما يا علي أشمّهما ويشمّاني ، ويتزوّدان منّي وأتزوّد منهما ، فسيليقيان من بعدي زلزالا وأمورا عضالا ، فلعن الله من يجفيهما ، اللهم إني أستودعكهما وصالح المؤمنين » .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 55 _

   وروي في كتاب المشارق (1) بحذف الإسناد إلى سعيد بن المسيب ، عن عبد الرحمان بن سمرة قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله في مرض الموت فقلت : بأبي أنت وأمّي (2) يا رسول الله أرشدني إلى النجاة .
   قال : فقال لي : « إذا اختلفت الأهواء ، وافترقت الآراء ، فعليك بعلي بن أبي طالب ، فإنه إمام أمتي وخليفتي عليهم بعدي ، والفاروق بين الحق والباطل ، من سأله أجابه ومن استهداه (3) أرشده ، ومن طلب الحق عنده وجده ، ومن التمس الهدى لديه صادفه ، ومن لجأ إليه آمنه ، ومن تمسّك به نجاه ، ومن اقتدى به هداه .
   يابن سمرة ، سلم من سلّم له ووالاه ، وهلك من ردّ عليه وعاداه .
   يابن سمرة ، إن عليا مني وأنا منه ، روحه روحي وطينته طينتي ، وهو أخي وأنا أخوه ، وزوجته سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين ، وإبناه (4) سيدا شباب أهل الجنة الحسن والحسين ، وتسعة من ولد الحسين هم أسباط النبيين ، تاسعهم قائمهم يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا » .
   ولله در من قال من الرجال على الآل :
مـن  معشر عدلوا عن عهد iiحيدرة      وقـابـلوه  بـعُدوان ومـا iiقـبلوا
وبـدّلوا  قـوله يـوم الـغدير iiلهم      غدرا وما عدلوا في الحكم بل عدلوا
وذاك إذ فـيهم الهادي البشير قضى      ومـا  تـهيّا لـه لحد 7 ولا iiغسل
مـالوا إليها سراعا والوصيّ iiبرزء      الـمصطفى  عـنهم لاه iiومـعتزل

---------------------------
(1) مشارق أنوار اليقين : ص 56 .
  ورواه الشيخ الصدوق في أماليه : المجلس 7 الحديث 3 ، وفي كمال الدين : ص 257 باب 24 ح 1 ، وعنه البحار : 36 : 226 باب 41 ح 2 .
(2) من قوله : « دخلت » إلى هنا غير موجود في المصدر . (3) في المصدر : « استرشده » .
(4) في المصدر : « وابناؤه » .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 56 _

وقـلّدوها  عـتيقا لا أبـا iiلـهم      أنّـى  تـسود أسود الغابة iiالهمل
وخـاطبوه أمـيرالمؤمنين iiوقـد      تـيقّنوا أنـه فـي ذاك iiمـنتحل
واجمعوا الأمر فيما بينهم iiوعزت      لـهم أمـانيهم والـجهل iiوالأمل
أن يحرقوا منزل الزهراء iiفاطمة      فـيا لـه حادث مستصعب iiجلل
بـيت لمن كان جبرائيل iiسادسهم      مـن غير ما سبب بالنار iiيشتعل
واُخرج المرتضى من عقر منزله      بـين الأراذل مـحتفّا بـه iiوُكل
يـا  لـلرجال لـدين قلّ ناصره      ودولـة  مـلكت مـلاكها iiالسفل
  فهذه الفادحة التي زعزعت ركون بيت الرسالة ، والجائحة التي صوّحت منابت العلم والدلالة ، والصاعقة التي أبادت أرباب الإيمان ، والبائقة التي أرغمت معاطس حملة القرآن ، والنائبة التي جلبت سحائب البلا على الأكرمين الفضلاء ، والصائبة التي هدّت رواسي الشرف بكربلاء ، فأقسم بربّ الأرباب ، ومن عنده علم الكتاب ، لولا اعتراض ابن الخطاب ، على النبيّ الأوّاب ، في كتابة الكتاب ، والدلالة على الصواب ، لما ذلّت من المسلمين الرقاب ، ولاكرع الحسين من مواضي الحراب كؤس الأوصاب ، ولا هتكت النصاب أستار الصون والاحتجاب عن مخدّرات أبي تراب ، ولا علت صهوات الركّاب من غير أحلاس ولا أقتاب ، ولا شهّرت في الرحاب من غير سجف ولا حجاب ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون .
   روي في كتاب الإكمال عن محمد بن الحنفية رضي الله عنه قال : لما ضرب ابن ملجم أبي طالب عليه السلام على قرنه قال : « احملوني إلى موضع مصلاّي من منزلي » .
   فحملناه وهو مدنف ، والناس من خلفه قد أشرفوا على الهلاك من كثرة البكاء ، فالتفت إليه ابنه الحسين عليه السلام وهو يبكي ، فقال له : « يا أبتاه من لنا بعدك ؟ يا أبتاه ، إن يومك كيوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وآله ، من أجلك تعلّمت البكاء ، فعزيز عليّ أن أراك هكذا » .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 57 _

  فناداه وقال : « ادن منّي يا بُنيّ » .
   فدنا منه وقد قرحت عيناهما بالبكاء ، فمسح دموع الحسين بيده الشريفة ووضع يده على فؤاده وقال : « ربط الله على قلبك بالصبر ، وأجزل لك ولإخوانك عظيم الأجر ، فسكّن يا بُنيّ روعتك واهدا من البكاء ، فإنّ الله قد آجرك على عظيم مصابك » .
   ثم أمر بإدخاله إلى حجرته ، فأدخل إليها فجلس في محرابه ، فأقلبت إليه زينب وأم كلثوم حتى جلستا إلى جانبه على فراشه وهما يندبانه ويقولان : « من للصغير حتى يكبر يا أبتاه ؟ ومَن للكبير بين الملأ يا أبتاه ؟ ومن للضعيف حاميا ومجيرا يا أبتاه ؟ حزننا عليك طويل المدى يا أبتاه ، وعبرتنا عليك لا ترقا (1) يا أبتاه » .
   فضجّ الناس بالبكاء والعويل ، ففاضت دموع أميرالمؤمنين عليه السلام عند ذلك وجعل يقلّب طرفه في أهل بيته وأولاده (2) .
   وفي الكتاب المذكور عن الأصبغ بن نباتة قال : لما ضرب أميرالمؤمنين عليه السلام غدونا نفرا من أصحابنا نريد الإذن عليه ، فقعدنا على الباب ، فسمعنا البكاء من داخل البيت فبكينا ، فخرج إلينا الحسن عليه السلام وقال : « يقول لكم أبي : انصرفوا إلى منازلكم » .
   فانصرف القوم غيري ، فاشتدّ البكاء من منزله عليه السلام ، فبكيت ، فخرج الحسن عليه السلام وقال : « ألم أقل لكم : انصرفوا » ؟ فقلت : والله يا ابن رسول الله إن رجلي لا تتابعني ونفسي لا تطاوعني على أن أنصرف حتى أرى أميرالمؤمنين .
   فدخل الحسن فلم يلبث إذ خرج وقال لي « ادخل » ، فدخلت عليه فإذا هو مسنّد معصّب الرأس بعمامة صفراء قد نزف واصفرّ لونه ، ما أدري وجهه أصفر أم العمامة أصفر ! فانكببت على قدميه أقبّلهما وبكيت ، فقال لي : « لاتبك يا أصبغ ،

---------------------------
(1) رقأ الدمع : جفّ وانقطع .
(2) رواه المجلسي في البحار : 42 : 288 ح 58 عن بعض الكتب القديمة مع اختلاف في بعض الألفاظ .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 58 _

  فوالله إنها الجنة » .
   فقلت : والله يا أميرالمؤمنين جعلت فداك إني أعلم أنك تصير إلى الجنة وإنما أبكي لفقداني إياك يا أميرالمؤمنين (1) .
   وروي عن ابن عباس رضي الله عنه قال : كنت عند أميرالمؤمنين ليلة إحدى وعشرين من أول الليل إلى آخره أريد أن أسأله عن سبعين مسألة ، فرأيته قد ثقل حاله فلم أسأله عن شيء ، فابتدأني وقال : « يا ابن عباس عندك سبعون مسألة تريد أن تسأل عنها ، فلِمَ لا تذكرها » ؟
   فقلت : اشفاقا عليك يا مولاي .
   فقال عليه السلام : إنّ شرح المسألة الفلانيّة كذا ، وشرح المسألة الفلانيّة كذا ، ولم يزل يذكرها إلى آخرها ، ولم أذكر له شيئا منها ، وأوصانا بالأحكام التي أوصاه بها رسول الله صلى الله عليه وآله .
   هذا ونحن ننظر إلى عينيه قد غارتا في أمّ رأسه من شدة السمّ ، فعظم ذلك علينا ، فدعا بالحسن والحسين عليهما السلام وجميع أولاده وأهل بيته وودّعهم وقال : « يا أبا محمد ، ويا أبا عبدالله ، كأنّي بكما وقد خرجت عليكما الفتن من هاهنا وهاهنا من بعدي ، فاصبرا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين » .
   ثم أغمي عليه وأفاق وقال : « هذا رسول الله صلى الله عليه وآله وعمّي حمزة وأخي جعفر وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله كلهم يقولون : عجّل قدومك علينا ، فإنا إليك مشتاقون » .
   ثم أدار عينيه في أهل بيته كلهم وقال : « أستودعكم الله جميعا ، سدّدكم الله جميعا ، الله خليفتي عليكم ، وكفى به خليفة » .

---------------------------
(1) ورواه المفيد في أماليه : المجلس 42 ح 3 ، وعنه الشيخ الطوسي في أماليه : المجلس 5 الحديث 4 مع إضافات في آخره .
  وانظر ترتيب الأمالي للشيخ محمد جواد المحمودي : 4 : 614 .
  ورواه عنهما المجلسي في البحار : 42 : 204 ح 8 .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 59 _

  ثم قال : « وعليكم السلام يا رسل ربّي » . ثم قال : « ( لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُون ) (1) ، ( إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ) (2) » .
   وهناك عرق جبينه فمسحه بيده الشريفة ، فقال له الحسن عليه السلام : « ما لي أراك يا أبت تمسح جبينك » ؟ فقال عليه السلام : « نعم يا بُنيّ ، إنّ المؤمن إذا نزل به الموت عرق جبينه وقلّ أنينه » .
   ثم قرأ : ( إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ) (3) ، وقال : « أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله » ، وما زال يذكر الله حتى قضى نحبه ، صلوات الله وسلامه عليه .
   وكان ذلك ليلة الجمعة ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان المكرّم أربعين من الهجرة (4) .
   ولله در من قال :
ولـيت شعري إذ يقتلون عليّاً      وهـو لـلمحل فـيهم iiقـتّال
ويـسرّون بـغضه وهـو iiلا      تـقبل  إلا بـحبه iiالأعـمال
وتـحال  الأخبار والله iiيدري      كيف  كانت يوم الغدير iiالحال
وبـسبطين  تـابعيه iiفمسموم      عـليه  ثـرى الـبقيع iiيهال
درسوا قبره ليخفى على iiالزوّا      ر  هيهات كيف يخفى iiالهلال
وشهيد بالطفّ أبكى السماوات      وكـادت لـه تـزول iiالجبال
يـا  غليلي له وقد حرّم iiالماء      عـليه  وهو الشراب iiالحلال
قـطعت وصـلة الـنبيّ iiبأن      تقطع  من أهل بيته iiالأوصال

---------------------------
(1) سورة الصافات : 37 : 61 .
(2) سورة النحل : 16 : 128 .
(3) سورة يونس : 10 : 49 .
(4) كما في إرشاد المفيد : 1 : 9 باب 1 .
   وقال أبوالفرج في مقاتل الطالبيين : ص 54 : سنة أربعين في ليلة الأحد لإحدى وعشرين ليلة مضت من شهر رمضان .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 60 _

لهف نفسي يا آل طه عليكم       لهفة كسبها جوىً وخبال

   فإنا لله وإنا إليه راجعون ، أمر تكاد السماوات يتفطّرن منه وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدّا ، فعلى مثل هذا الإمام الأروع ، والهمام السّميدع ، فلتهجر لّذات الصفا ، ويكدر موارد البشر الأصفى ، أو لا تكونون يا أرباب الوفا ، وشركائي في الحزن والأسى ، كمن لبس لهذه الأرزا ، لباس المحنة والعزا ، وهجر خرائد المسرّة والهنا ، فأنشد وأنشأ ، ولله درّه من منشد في الورى .