المصرع التاسع
  من مصارع الحسين (عليه السلام)
   ضعوا أقدام التوكل في ركاب اليقين ، واثنوا أعنّة التأمل على قرابيس الحقيقة والتعيين ، وامتشقوا لوامع الثكل من أجفان الأسف والتهوين ، وأسرعوا وثبة الوجل واستحضروا نوائي الحنين ، وأغرخوا شكائم النياحة والزجل في مضامير الوصب والأنين ، وتصوروا أقدام الغطارفة الكمّل والأماجد الميامين ، على مشتبكات الوشيج الأسل والتثام كلّ باتر سنين وشاركوهم في المقام الأنبل والمسكن الأمين ، فلقد والله فازوا بغاية الأمل ، وجادوا بالنفيس الثمين ، تجرّعوا كاساة حرارة النكل فبردت غللهم من ضرام التوهين ، وصبروا على اقتحام لجج الخوف والوجل ، واطمأنّوا في القرار المكين ، ولله در من قال من الأبدال ولقد أجاد :
قوم   كأولهم  في  الفضل  iiآخرهم      والفضل  أن يتساوى البدء iiوالعقب
فمنذر  مصطفى  بالوحي  iiمنتجب      ومرتضى  مجتبى  بالهدي iiمنتخب
الواهبون  لدى  البأساء  ما iiوجدوا      والطالبون  بصدر الرمح ما iiطلبوا
والمدركون   إذا  ما  أزمة  iiبخلت      بصرفها  وتخلت  عندها  الصحب
وكم  لهم  حين جد الخطب من iiقدم      رست عُلا والجبال القود تضطرب
ولا   كيومهم   في   كربلاء   وقد      جدّ  البلا وارجحنّت عندها iiالكرب
وفتية   وردوا   ماء   المنون  iiبها      ورد المضاضة ظمآن الحشا iiسغب
من  كل  ابيض  وضّاح الجبين له      نوران  من جانبيه الفضل iiوالنسب
تجلو  العفاة  لهم  تحت القنا iiغررا      تلاعب  البيض  فيها والقنا iiالسلب

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 120 _

أمة   !   أميّة  أن  تعلو  لها  iiشرف      ويصبح  الرأس  مخدوما  له  iiالذنب
ودون   ما   يممّت   هند   iiوجارتها      هند  السيوف  وحرب  دونه iiالحرب
جاءت   ليستعبد   الحر  اللئيم  iiوفي      عود العلا عند عجم الضيم مضطرب
فشمّرت    للوغى   فرسانها   iiطربا      وامتاز  بالسبك  عن ما دونها iiالذهب
  روي في كتاب « الملهوف على قتلى الطفوف » : أنه لما استشهد الحر رضي الله عنه برز من بعده برير بن خضير الهمداني ، فلما حاذ الحسين عليه السلام قال : السلام عليك يا ابن رسول الله ، أستودعك الله .
   فأجابه الحسين : « وعليك السلام ، ونحن خلفك » . وقرأ عليه السلام : ( فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ) (1) .
   ثم نادى برير : اقتربوا مني يا قتلة المؤمنين ، اقتربوا مني يا قتلة أولاد البدريين ، اقتربوا مني يا قتلة أولاد رسول رب العالمين وذريته الباقين .
   وكان برير زاهدا عابدا ، وكان أقرأ أهل زمانه ، فحمل على القوم وهو يقول :
أنـا بـرير وأبو خــضير     ليث يروع الأسد عن الزير
يعرف فينا الخير أهل الخير     ذلك فــعل الخير من برير

   فلم يزل يقاتل حتى قتل عشرين فارسا وثلاثين راجلا ، فخرج إليه يزيد بن معقل واتفقا على المباهلة إلى الله تعالى بأن يلعن الكاذب منهما وأن يقتل المحقّ المبطل منهما ، فتلاقيا فقتله برير وقتل معه عدّة من الرجال ، فتكاثروا عليه فقتلوه رحمة الله عليه ، فلما قتل برير عظم ذلك على الحسين عليه السلام (2) .
   قال : فخرج من بعده وهب بن حباب الكلبي ، فأحسن في الجلاد وبالغ في الجهاد ، وكانت امرأته ووالدته معه ، فقالت له أمه : جاهد بين يدي ابن بنت

---------------------------
(1) سورة الأحزاب : 33 : 23 .
(2) رواه السيد مختصرا في الملهوف : ص 160 .
  ورواه الطبري في تاريخه : 5 : 432 مع إضافات ، وابن الأثير في الكامل : 4 : 66 ، والمجلسي في البحار : 45 : 15 .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 121 _

  رسول الله . فقال : أفعل يا أماه ولا أقصّر .
   ثم إنه شدّ على قلب الجيش واقتحم المعمعة وهو يقول :
إن  تنكروني  فأنا  ابن iiالكلب      سوف تروني إذ ترون iiضربي
وحملني  وصولتي في iiالحرب      أدرك  ثاري  بعد ثار iiصحبي
ليس جهادي في الوغى باللعب      وأدفع   الكرب   أمام  iiالكرب
   فلم يزل يقاتل حتى قتل عشرين فارسا ، ثم رجع إلى أمه وامرأته فقال : يا أماه ، ارضيت عنّي بنصرتي للحسين ؟
   فقالت له : والله ما أرضي عنك إلا أن أراك قتيلا بين يدي الحسين .
   فقالت له امرأته : بالله لا تفجعني بنفسك .
   فقالت له أمه : يا بنيّ ، اعزب عن قولها وارجع فقاتل بين يدي ابن بنت نبيك تنل شفاعته يوم القيامة .
   فرجع فلم يزل يقاتل حتى قطعت يداه ، فلما رأته زوجته أخذت عمودا وأقبلت نحوه وهي تقول : قاتل يا وهب فداك أبي وأمي ، قاتل دون الطيبين ، قاتل دون حرم رسول ربّ العالمين .
   فاقبل كي يردّها إلى النساء ، فأبت وقالت : لن أعود حتى أموت معك .
   فاستغاث زوجها بالحسين ، فأتاها الحسين عليه السلام وقال لها : « جزيتم من أهل بيت خيرا ، ارجعي رحمك الله » .
   فقاتل بعلها حتى قتل ـ على ما نقل ـ من القوم خمسين رجلا ما بين فارس وراجل ، ثم قتل رحمه الله ، فجاءت إليه إمرأته وجعلت تمسح الدم عن وجهه ، فأمر عمر بن سعد غلاما له فضربها بعمود من حديد ، فشدخ راسها فماتت رحمة الله عليها ، وكانت أول امرأة قتلت في عسكر الحسين عليه السلام (1) .
   ثم برز خالد بن عمر وقاتل قتال المشتاقين إلى لقاء رب العالمين ، ثم كرّ على

---------------------------
(1) رواه السيد في الملهوف : ص 161 مع إضافات .
  ورواه المجلسي في البحار : 45 : 16 .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 122 _

  القوم كرة الليث الجريء وهو ينشد ويقول :
صبرا على الموت بني iiقحطان      كيما تكونوا في رضى الرحمان
ذي   المجد  والعزة  iiوالبرهان      وذي  العلا  والطول iiوالإحسان
يا   أبتا   قد   صرت  iiللجنان      في  قصر  فضل حسن iiالبنيان
  ولم يزل يحمل فيهم حتى قتل ، رحمة الله عليه (1) .
  ثم برز من بعده عمر بن خالد الأزدي وقاتل قتال الأبطال وجدّل بسيفه الرجال وهو يقول :
إليك  يا نفسي إلى iiالرحمان      وأبشري  بالروح iiوالريحان
اليوم  تجزين على iiالإحسان      ما  كان  منك غابر iiالأزمان
ما خطّ في اللوح لدى الديان      لا  تجزعي  فكل  حي iiفان
   ثم قاتل حتى قتل رحمة الله عليه(2) .
   وبرز من بعده سعد بن حنظلة التميمي ، فودّع الحسين عليه السلام وحمل على القوم وهو ينشد ويقول :
صبرا على الأسياف والأسنّة     صبرا عليها لدخول الجنة
وحـور  عـين ناعمات هنّة     لمن يريد الفوز لا iiبالظنّة

   ثم اقتحم القلب وقاتل قتالا شديدا حتى قتل رحمة الله عليه (3) .
   ثم برز من بعده مسلم بن عوسجة فبالغ في قتال الأعداء ، وصبر على أهوال البلاء ، وهو يرتجز يقول :
إن تسألوا عنّي فإنّي ذو لبد * من فرع قوم من ذرى بني أسد

---------------------------
(1) ورواه الخوارزمي في المقتل 2 : 14 .
(2) ورواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 14 مع اختلاف قليل في بعض ألفاظ الأبيات ، وأضاف :
ما خط باللوح لدى الديّان     فاليوم زال ذاك iiبالغفران
لا تجزعي فكل حيّ فان     والصبر أحضى لك بالأمان

  (3) ورواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 14 مع إضافة بيت :
يا نفس للراحة فاطرحنّة      وفي طلاب الخير فارغبنّه

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 123 _

فمن بغانا حائدا عن الرشد      وكافرا بدين جبار صمد

   فقاتل حتى سقط عن فرسه إلى الأرض وبه رمق فمشى إليه الحسين ومعه حبيب بن مظاهر ، فقال له الحسين : « رحمك الله يا مسلم » . ثم قال عليه السلام : ( فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا ) (1) ، ودنا منه حبيب وقال : يعزّ عليّ مصرعك يا مسلم ، فأبشر بالجنة .
   فقال له قولا ضعيفا : بشرّك الله بخير .
   فقال له حبيب : لولا أعلم أني في الأثر لأحببت أن توصي إليّ بجميع ما أهمّك .
   فقال له مسلم : إني أوصيك بهذا خيرا ـ واشار بيده إلى الحسين عليه السلام ـ فقاتل دونه حتى تموت .
   فقال له حبيب : لأنعمنّك عينا . ثم مات رحمه الله .
   قال : وصاحت جاريته : يا سيّداه ، يا ابن عوسجاه . فنادى أصحاب ابن سعد مستبشرين : قتلنا مسلم بن عوسجة .
   فقال شبث بن ربعي لبعض من حوله : ثكلتكم أمهاتكم ، أما إنكم تقتلون أنفسكم بأيديكم وتذلّون عزّكم ، أتفرحون بقتله ؟ ولقد رأيته يوم آذربيجان قتل ستة من المشركين قبل أن تلتئم خيول المسلمين (2) .
   ثم برز من بعده عمرو بن قرظة الأنصاري واستأذن الحسين عليه السلام ، فأذن له فقاتل قتال المشتاقين إلى الجزاء ، وبالغ في خدمة سلطان السماء ، حتى قتل جمعا كثيرا من اللعناء ، وجمع بين سداد وتقى ، وكان لا يأتي إلى الحسين عليه السلام سهم إلا اتّقاه بصدره ، ولا سيف إلا تلقّاه بنحره ، فما وصل إلى الحسين سوء حتى أثخن

---------------------------
(1) سورة الأحزاب : 33 : 23 .
(2) ورواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 15 مع اختلاف في بعض الألفاظ .
  ورواه الطبري في تاريخه : 5 : 435 ، وابن الأثير في الكامل : 4 : 68 ، والسيد في الملهوف : ص 161 .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 124 _

  بالجراح ، فالتفت إلى الحسين عليه السلام وقال : أوفيت يا ابن رسول الله ؟
   قال : « نعم ، أنت أمامي في الجنة ، فاقرأ رسول الله مني السلام وأعلمه أني في الأثر » .
   ثم قاتل حتى قتل ، رحمة الله عليه (1) .
   ثم تقدم جون مولى أبي ذر الغفاري ، وكان عبدا أسودا ، فقال له الحسين عليه السلام : « أنت في حلّ من بيعتي ، فإنما تبعتنا طلبا للعافية ، فلا تبتلي ببلائنا » .
   فقال : يا ابن رسول الله ، أنا في الرخاء ألحس قصاعكم وفي الشدة أخذلكم ؟! والله إن ريحي لنتن ، وحسبي للئيم ، ولوني لأسود ، فتنفّس عليّ بالجنة ، حتى يطيب ريحي ، ويشرف حسبي ، ويبيضّ وجهي ، والله لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود بدمائكم ، فلم يزل كذلك حتى أذن له الحسين ، فبرز للقتال وهو يقول :
كيف ترى الفجار ضرب الأسود      بالمشرفي     القاطع     iiالمهند
بالسيف   ذدنا  عن  بني  iiمحمد      أذبّ    عنهم    بالسنان   iiواليد
أرجو  بذاك  الفوز  عند iiالمورد      من     الإله    الأحد    iiالموحد
إذ    لا   شفيع   عنده   iiكأحمد
   فقاتل حتى قتل (2) ، فوقف عليه الحسين عليه السلام . وقال : اللهم بيّض وجهه ، وطيّب ريحه ، واحشره مع الأبرار ، وعرف بينه وبين محمد وآله الأطهار » (3) .

---------------------------
(1) ورواه السيد في الملهوف : ص 162 ، وعنه المجلسي في البحار : 45 : 22 .
  ورواه ملخصا الخوارزمي في المقتل : 2 : 22 ، والطبري في تاريخه : 5 : 434 ، والسماوي في كتاب ابصار العين في أنصار الحسين : ص 92 .
(2) ورواه السيد في الملهوف : ص 163 ، والخوارزمي في المقتل : 2 : 19 ، والسماوي في إبصار العين في أنصار الحسين : ص 105 .
  ورواه المجلسي في البحار : 45 : 22 نقلا عن محمد بن أبي طالب .
(3) ورواه السيد في الملهوف : ص 163 ، والخوارزمي في المقتل : 2 : 19 ، والسماوي في إبصار العين في أنصار الحسين : ص 105 .
  ورواه المجلسي في البحار : 45 : 22 نقلا عن محمد بن أبي طالب .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 125 _

  وروي عن الباقر عليه السلام ، عن علي بن الحسين عليهما السلام : « أن الناس كانوا يحضرون المعركة ويدفنون القتلى ، فوجدوا جونا بعد عشرة أيام يفوح منه رائحة المسك والعنبر ، رضوان الله عليه » (1) .
   قال : وبرز من بعده عمرو بن خالد الصيداوي (2)وقال للحسين عليه السلام : يا أبا عبدالله جعلت فداك ، قد هممت بأن ألحق بأصحابي وكرهت أن أتخلّف وأراك وحيدا من أهلك أو قتيلا .
   فقال له الحسين : « تقدم فإنا لاحقون بك بعد ساعة » .
   فتقدم وقاتل حتى قتل ، رحمة الله عليه (3) .
   قال : وجاء حنظلة بن سعد الشامي (4) ووقف بين يدي الحسين عليه السلام يقيه السهام والرماح والسيوف بوجهه ونحره ، وأخذ ينادي : ( يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ * يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ ) (5) ، يا قوم لا تقتلوا حسينا فيسحتكم بعذاب منه وقد خاب من افترى (6) .
   ثم التفت إليه الحسين عليه السلام وقال له : « يا ابن سعد رحمك الله ، إنهم قد استوجبوا العذاب حين ردّوا عليك ما دعوتهم من الحق ونهضوا إليك يشتمونك وأصحابك ، فكيف بهم الآن وقد قتلوا إخوانك الصالحين » ؟

---------------------------
(1) ورواه السماوي في إبصار العين : ص 105 ، والمجلسي في البحار : 45 : 23 عن محمد بن أبي طالب .
(2) هذا هو الظاهر ، وفي النسخة : « خالد بن عمر الصيداوي » .
(3) رواه السيد في الملهوف : ص 164 ، وعنه المجلسي في البحار : 45 : 23 .
  ورواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 24 ، والسماوي في إبصار العين : ص 66 .
  ورواه مختصرا الطبري في تاريخه : 5 : 446 .
(4) في الإرشاد : 2 : 105 وتاريخ الطبري : 5 : 443 : « الشبامي » . وهم بطن من همدان .
(5) سورة الغافر : 40 : 30 ـ 32 .
(6) اقتباس من سورة طه : 20 : 61 .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 126 _

   فقال للحسين عليه السلام : أفلا نروح إلى ربنا ونلحق بإخواننا ؟
   فقال : « بلى ، رح إلى ما هو خير لك من الدنيا وما فيها وإلى ملك لا يبلى » .
   فتقدم فقاتل قتال الأبطال وصبر على احتمال الشدائد والأهوال حتى قتل ، حرمة الله عليه (1) .
   قال الراوي : وحضرت صلاة الظهر ، فأمر الحسين عليه السلام زهير بن القين وسعيد بن عبدالله الحنفي أن يتقدما أمامه بنصف من تخلف من رجاله ، ثم صلى بهم صلاة الخوف ، فوصل إلى الحسين سهم فوقاه سعيد بن عبدالله بنفسه ، فما زال لا يتخطّاه حتى سقط إلى الأرض وهو يقول : اللهم العنهم لعن عاد وثمود ، اللهم أبلغ نبيك محمدا عني السلام وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح ، فإني أردت ثوابك في نصرة ذرية نبيك . ثم قضى نحبه ، رحمة الله عليه ، فوجد به ثلاثة عشر سهما سوى النبل بالأحجار والسيوف والرماح (2) .
   ثم برز من بعده سويد بن عمرو بن أبي مطاع وتقدم أمام الحسين عليه السلام واستأذنه إلى الحرب ، فخرج فقاتل قتال الأسد الباسل ، وصبرعلى مصالات نار الخطب النازل ، حتى أثخن بالجراح وسقط بين القتلى ، فلم يزل كذلك وليس به حراك حتى سمعهم يقولون : قتل الحسين ، فتحامل وأخرج سكّينا من خُفّه وجعل يقاتلهم بها حتى قتلوه ، رحمة الله عليه (3) .
   قال : وخرج شابّ قتل أبوه في المعركة وكانت أمه معه ، فقالت له : اخرج يا بنيّ وقاتل بين يدي ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله ، فخرج ، فقال الحسين عليه السلام : « هذا شابّ قتل أبوه ، ولعلّ أمه تكره خروجه » .

---------------------------
(1) ورواه السيد في الملهوف : ص 146 ، وعنه وعن المناقب المجلسي في البحار : 45 : 23 .
  ورواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 24 مع اختلاف في الألفاظ ، والطبري في تاريخه : 5 : 443 ، والمفيد مختصرا في الإرشاد : 2 : 105 .
(2) رواه السيد في الملهوف : ص 165 .
  ورواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 17 ، والطبري مختصرا في تاريخه : 5 : 441 .
(3) الملهوف : 165 ـ 166 .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 127 _

   فقال الشاب : أمي أمرتني بذلك ، فبرز وهو يقول :
حـسين أميري ونعم iiالأمير      سـرور فؤاد البشير iiالنذير
عـلـيّ  وفـاطمة والـداه      فـهل  تعلمون له من iiنظير
له طلعة مثل شمس الضحى      لـه غـرّة مـثل بدر iiمنير
   وقاتل حتى قتل ، واحتزوا رأسه ورموا به إلى نحو عسكر الحسين ، فأخذت أمه رأسه وقالت : أحسنت يا ولدي ، ويا سرور قلبي ، ويا قرة عيني . ثم رمت برأس ولدها فأصابت رجلا فقتله ، وأخذت عمودا وحملت عليهم وهي تقول :
أنا عجوز سيدي ضعيفة      خاويــة بالية iiنحيفة
أضربكم بضربة عنيفة       دون بني فاطمة الشريفة

   وضربت رجلين فقتلتهما ، فأمر الحسين بصرفها ودعا لها (1) .
   قال : وبرز من بعده زهير بن القين وهو يرتجز ويقول :
أنـا زهـير وأنـا ابـن iiالقين      أذود بـالسيف عـن iiالـحسين
إن حـسـينا أحـد iiالـسبطين      مـن  عـترة البرّ التقي iiالزّين
أضـربكم  ولا أرى مـن iiشين      يا ليت نفسي قسّمت قسمين (2)
   فقاتل قتالا يشيب الوليد ، ويرعب من هوله قلب الصنديد ، حتى قتل كما روي مئة وعشرين فارسا وستين راجلا ، فشدّ عليه كثير بن عبدالله ومهاجر بن أوس التميمي فقتلاه ، فقال الحسين عليه السلام حين صرع زهير : « لا أبعدك الله يا زهير ، ولعن الله قاتلك ، لعن الذين مسخوا قردة وخنازير » (3) .
   ثم برز من بعده حبيب بن مظاهر الأسدي فشدّ شدّة السرحان وأدخل نفسه

---------------------------
(1) ورواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 21 ـ 22 .
(2) زاد في المقتل للخوارزمي :
ذاك رسول الله غير المين      أضربكم ولا أرى من شين
  (3) رواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 20 .
  وانظر وقعة الطف لأبي مخنف : ص 232 .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 128 _

  في حلق الطعان ، وهو ينشد مرتجزا ويقول :
أنـا حبيب وأبي مظاهر      وفارس قوم ونار تسعر
وأنتم  عند العديد أكثر      ونحن أعلى حجة iiوأظهر
وأنتم عند الوفاء أغدر      ونحن أوفى منكم وأصبر

  فلم يزل يقاتل حتى شد عليه رجل من تميم فطعنه ، فذهب ليقوم فضربه الحصين بن نمير لعنه الله على رأسه بالسيف فوقع ونزل التميمي فاحتزّ رأسه (1) .

---------------------------
(1) رواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 18 .
  وروى أبو مخنف في وقعة الطف : ص 230 ، وعنه الطبري في تاريخه : 5 : 439 وفيه : فلا يزال الرجل من أصحابه الحسين قد قتل ، فإذا قتل منهم الرجل والرجلان تبيّن فيهم ، وأولئك كثير لا يتبيّن فيهم ما يقتل منهم .
  قال : فلما رأى ذلك أبو ثمامة عمرو بن عبدالله الصائدي قال للحسين : يا أبا عبدالله ، نفسي لك الفداء ، أرى هؤلاء قد اقتربوا منك ، ولا والله لا تقتل حتى أقتل دونك إن شاء الله ، وأحبّ أن القى ربّي وقد صلّيت هذه الصلاة التي دنا وقتها .
  قال : فرفع الحسين رأسه ثم قال : « ذكرت الصلاة ، جعلك الله من المصلين الذاكرين ، نعم هذا أوّل وقتها » . ثم قال : « سلوهم أن يكفّوا عنا حتى نصلّي » .
  فقال لهم الحصين بن تميم : إنها لا تقبل ! فقال له حبيب بن مظاهر : لا تقبل زعمت !الصلاة من آل رسول الله صلى الله عليه وآله لا تقبل وتقبل منك يا حمار ؟!
  قال : فحمل عليهم حصين بن تميم ، وخرج إليه حبيب بن مظاهر فضرب وجه فرسه بالسيف ، فشبّ ووقع عنه وحمله أصحابه فاستنقذوه ، وأخذ حبيب يقول :
أقسم لو كنّا لكم أعدادا      أو شطركم ولّيتم الأكتادا
يا شرّ قوم حسبا وآدا
  قال : وجعل يقول يومئذ :
أنـا حـبيب وأبي iiمظاهر      فارس هيجاء وحرب تسعر
أنـتم أعـد عـدة وأكـثر      ونـحن أوفى منكم iiوأصبر
ونـحن أعلى حجة iiوأظهر      حـقا وأتـقى منكم iiوأعذر
  وقاتل قتالا شديدا ، فحمل عليه رجل من بني تميم فضربه بالسيف على رأسه فقتله ، وكان يقال =

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 129 _

  ثم برز من بعده غلام تركي للحسين عليه السلام وكان قارئا للقرآن ، موحدا للعلي الديّان ، فبرز وهو ينشد ويقول :
البحر من طعني وضربي يصطلي      والجو من سهمي ونبلي يمتلي
إذا حـسامي فـي يـميني يـنجلي      لـيشف قلب الماجد iiالمبجّل

   فقتل جماعة منهم ثم خرّ صريعا ، فشدّ الحسين على قاتله وقال له : « قتلني الله إن لم أقتلك » ، فضربه بالسيف على هامته أخرجه من شرايف صدره (1) ، ثم وقف على الغلام وبكى ، ووضع خدّه على خدّه ، ففتح الغلام عينيه فرأى الحسين عليه السلام

---------------------------
=   له : « بديل بن صُرَيم » من بني عُقفان ، وحمل عليه آخر من بني تميم فطعنه فوقع ، فذهب ليقوم فضربه الحصين بن تميم على رأسه بالسيف فوقع ، ونزل إليه التميمي فاهتزّ رأسه ، فقال له الحصين : إني لشريكك في قتله ، فقال الآخر : والله ما قتله غيري . فقال الحصين : أعطنيه أعلّقه في عنق فرسي كيما يرى الناس ويعلموا أني شركت في قتله ، ثم خذه أنت بعد فامض به إلى عبيدالله بن زياد ، فلا حاجة لي فيما تعطاه على قتلك إياه .
  قال : فأبى عليه ، فأصلح قومه فيما بينهما على هذا ، فدفع إليه رأس حبيب بن مظاهر فجال به في العسكر قد علّقه في عنق فرسه ، ثم دفعه بعد ذلك إليه ، فلما رجعوا إلى الكوفة أخذ الآخر رأس حبيب فعلقه في لبان فرسه ، ثم أقبل به إلى ابن زياد في القصر ، فبصر به ابنه القاسم بن حبيب وهو يومئذ قد راهق ، فأقبل مع الفارس لا يفارقه كلما دخل القصر دخل معه ، وإذا خرج خرج معه ، فارتاب به فقال : ما لك يا بُنيّ تتبعني ؟ قال : لا شيء . قال بلى يا بُنيّ ، أخبرني . قال له : إن هذا الرأس الذي معك رأس أبي ، أفتعطينيه حتى أدفنه ؟ قال : يا بُنيّ ، لا يرضى الأمير أن يدفن وأنا أريد أن يصيبني الأمير على قتله ثوابا حسنا . قال له الغلام : لكنّ الله لا يثيبك على ذلك إلا أسوأ الثواب ، أما والله لقد قتلت خيرا منك . وبكى .
  فمكث الغلام حتى إذا أدرك لم يكن له همة إلا اتّباع أثر قتل أبيه ليجد منه غِرّة فيقتله بأبيه ، فلما كان زمان مصعب بن الزبير وغزا مصعب باجُميرا ، دخل عسكر مصعب ، فإذا قاتل ابيه في فسطاطه ، فأقبل يختلف في طلبه والتماس غِرّته فدخل عليه وهو قائل نصف النهار ، فضربه بسيفه حتى برد .
  قال أبو مخنف : حدثني محمد بن قيس قال : لما قتل حبيب بن مظاهر هدّ ذلك حسينا وقال عند ذلك : « أحتسب نفسي وحماة أصحابي » .
(1) الشراسيف : أطراف أضلاع الصدر التي تشرف على البطن . ( لسان العرب )

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء _ 130 _

  فتبسم ثم صار إلى ربه (1) .
  قال : وجعل أصحاب الحسين عليه السلام يتسارعون إلى القتل بين يديه ويبذلون الأرواح لديه ، ولله درّ من قال :
يبرزون الوجوه تحت ظلال      الموت والموت منهم يستظلّ
كـرماء  إذ الـضبا غشيتهم      منعتهم أحسابهم أن iiيولّوا

   فوا لهف نفسي لتلك الأقمار المنيرة على التراب ، كيف كسفتها مواضي السيوف والحراب ، ولتلك الأنوار الساطعة كيف طمست أشعتها أكف النصّاب ، وواحرّاه لهاتيك الأجسام الزاكيات ترضّ متونها سنابك العاديات ، والجثث الصاحيات تعفّرها فراعل (2) الفلوات ، وواكرباه لتلك الرؤوس القمرية تشال على اليعاسيب القعضبيّة ، ولتلك النفوس الشريفة تزهقها الأبدان الخبيثة ، فالأمر لله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، أو لا تكونون يا أولى النهى ، كمن أورثه مصابهم الأرزا داء الوجد والأسى (3) ، فرثاهم بما أحرق الضمائر ، وأشجى ، وهو من بعض شيعتهم الأتقياء .

---------------------------
(1) رواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 24 .
(2) الفرعل : ولد الضبع ، والجمع : فراعل وفراعلة .
(3) الوجد والأسى : الحزن . ( المعجم الوسيط )