العلامة الشيخ الأميني

المقدمة
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ


  ولله الحجة البالغة ربما يستعصي على الإنسان درك ما يقاسيه رجال الفكر والقادة ، من حملة العلم والفقاهة ، من الشدائد والنوازل والدواهي الفادحة ، دون سعيهم وراء صالح الأمة ،وسيرهم في مناهج رقيها وتقدمها ، وإحيائهم تراثها العلمي ودعوتهم إلى العلم الناجع وجهادهم المثابر في حث الناس على المهيع اللاحب من الحق ، وإيقاظهم شعور الشعب الإسلامي ،وإيقافهم رواد العلم والفضيلة على الحقائق الراهنة ، وتوجيههم إلى ما فيه الصلاح والفلاح والنجاح .
  أنى ؟ ثم أنى ؟ يتأتى لمن نأى عن تلكم الميادين ، وبعد عن ذاك العالم بعد المشرقين أن يتصور ما هنالك من كوارث ونوائب ومواقف خطرة ، ودواه مدلهمة ومجاهدات ومناضلات ومحاماة .
  فترى في كل قرن من أدوار الإسلام أفذاذا عباقرة من تلكم الفئة الصالحة ، والشخصيات البارزة قيضهم المولى سبحانه في غابر الزمن وحاضره لإعادة جدة الدين الحنيف ، ساروا سيرا لحبا ركضا قسيا بهمة قعساء ، وعزم راسخ ، يزحزح الرواسي ، وكابدوا وعثاء السفر، وارتحلوا مرة بعد أخرى ، بين آونة وآونة ، وتجولوا في أرجاء العالم ، وساحوا في الأرض أربعة أشهر ، وأربعة وأربعة ، ابتغاء لمعالم العلم والدين ، وإعلاء لكلمة العدل والصدق ، ودحضا على معرة الباطل ، وإقامة للحجة البالغة .

سيرتنا وسنتنا _ 6 _

  فهلم معي ننظر من كثب إلى مثال فذ بذ أوحدي من أولئك الفئام ، وإلى أشواطه البعيدة ، وخطواته الواسعة ، ونهضته العلمية بمفرده كأنه أمة واحدة .
  ليس على الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد ألا وهو شيخنا الأكبر حجة الشيعة ، وآية الشريعة ، المدافع الوحيد عن ناموس الدين والمذهب ، مولانا الأجل الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي صاحب ( الغدير ) الأغر ، حياه المولى سبحانه وبياه .
  تراه منذ ردح من الزمن تتوالى رحلاته إلى أرجاء العالم الإسلامي لا يطمئن له قرار ولا يستقر له مبوأ ، تلتف عليه أينما حل ، وحيثما نزل ، زمر من أبناء الدين الحنيف من أي فرقة كان ، وبأي مذهب اعتنق ، فيستفيدون من علمه الجم وفضله الكثير ، كأنه مدرسة سيارة تحوي صنوف علوم المذهب ، وصفوف معالم أهل البيت الطاهر ، ودروس الولاية الكبرى العالية المتخذة من الكتاب والسنة .
  ومقالاته وخطاباته المبثوثة في بلاد إيران : عاصمتها طهران ، وخراسان ، وأصفهان ، وكرمانشاهان ، وغيرها مما قرطت به آذان عشرات آلاف من رجال العلم والدين ، ومواقفه المشكورة الخالدة في صفحة التاريخ ، وخطواته الواسعة في بث الدعاية الدينية في بلاد الهند وعواصمها دوخ صيتها الأقطار ، وشاعت وذاعت في تلكم الديار . وحديث رحلته الأخيرة إلى أرباض سورية سنة ( 1384 ه‍ ) لو جمعت نوادره وشتاته وألفت مقالاته ومقاماته ، وسجلت رسالاته وخطاباته ، ليأتي كتابا مفردا مفعما بالطرائف والظرائف .
  أقام شيخنا الأعظم في أرجاء سورية أربعة أشهر ، مستفيدا من مكتبات دمشق وحلب الشهباء الضخمة الفخمة ، وقد أخذ أبناء تلك الأمة العربية المسلمة وأساتذتها ورجالها النبلاء ، دروسا عالية ناجعة

سيرتنا وسنتنا _ 7 _

  من علمه المتدفق ، ومحاضرات طائلة حول أبحاث قيمة تقصر عنها باع كثيرين من حملة العلم والدين ، أخذت بمجامع قلوب سامعيها وولدت في نفوسهم رغبة عظيمة في علوم الولاية المطلقة العامة خصيصة آل الله ، أهل البيت الطاهر ، ومن تلكم المحاضرات هذه المحاضرة الرائعة الرائقة التي نعيد جدة طبعها ، وهي بمفردها تعرب عن قيم ما سواها مما ألقاه سماحة شيخنا الأكبر وأهمية مواضيعه .
  وهذه المحاضرة التي بين يدي القارئ هي من أغلى الدروس المذهبية وأعلاها لم نجد قط بيانا ضافيا حول ذلك الموضوع القيم في تآليف السلف ، ولم نر منة لبحاثة يميط الستر عن وجهه والملأ الإسلامي اليوم في أمس حاجة إلى تحقيق هذا البحث الخطير وتحليله ، إذ الجهل بذلك شتت صفوف المسلمين ، وفرق جمعهم ، وبدد كلمتهم وقد وقع القوس بيد باريها ، ونشب المنزع المرمى السحيق ، وتبين الرشد من الغي ، فلم يبق في المقام معضلة إلا وقد انحلت ، ولا مستغلقة مشكلة إلا وقد زاحت الشبه عنها ، وبدا بصورة بهية ، سافرة الوجه ، تصفق عليها الأمة المسلمة الماضية وراء ضوء سنة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبها تتأتى بينها الوحدة ، والوئام ، والسلام .
  وقد أقيمت حفلات تكريمية حافلة لسماحة شيخنا الأميني في دمشق ، وحلب ، ومعرة مصرين ، والفوعة ، وكفريا ، ونبل ، وساهم فيها جل رجال تلكم الديار الأماجد .
  نزل في ( حلب ) بدار ضيافة الوجيه المحسن الحاج سعيد رسول ، الفخمة المعمورة .
  وفي ( معرة مصرين ) بدار الزعيم الصالح الحاج جميل رحال .
  وفي ( الفوعة ) بدار الشريف الحاج سيد محمد حسين راغب آل زهرة .
  وفي ( كفرية ) بدار الوجيه الزعيم الحاج محمد عزو .

سيرتنا وسنتنا _ 8 _

  وفي ( نبل ) بدار الوجيه الكبير الحاج عباس التقي .
  كل ذلك كان بدعوة ملحة من أولئك الأكارم وغيرهم من أهالي تلكم الديار وقد أحسنوا القرى بكل حفاوة وتبجيل وتكريم ، تذكر تلكم العواطف الروحية ، والملكات الفاضلة ، والنفسيات الكريمة ، في صفحة التاريخ الخالدة مع الأبد وتشكر .
  وقد ألقيت في تلكم الحفلات التكريمية كلمات عسجدية نظما ونثرا في الثناء على شيخنا الأجل ، والإعراب عن مبلغه من المقامات والكرامات منها : مقطوعة أنشدها العلامة المتضلع الشيخ موسى شمس الدين (1) في حلب لما وفد إليه زائرا من الفوعة ، وهي :

إلى  ( الشهباء ) جئنا لا iiلقصد      سـوى  تقبيل راحات iiالأميني
إمـام  الـمرشدين بـلا iiمراء      وقـطب  رحاهم العالي iiالمكين
لـمسنا مـنه آيـات iiعـظاما      بـطي  غديره الصافي iiالمعين
حوى ما راق من صافي اللئالي      مـا  قـد عـز مـن در ثمين
بـك الـشهباء قد زادت iiجمالا      ولـكن  مـوطني شبه iiالحزين
إذا  لـم تـأته سـيظل دومـا      يـجود بـدمع ناظره iiالغضون
أدام الله عــزك فـي iiهـناء      وجـنبك  الـمكاره كـل iiحين
تـقبل  هـذه الأبـيات iiمـني      وحـاشا  أن تخيب بكم ظنوني

  ومنها : قصيدة الشيخ المفضال الشاعر المفلق الشيخ جواد الست ، ألقاها عنه راويته بالفوعة في حفلة تاريخية بدار الشريف السيد محمد حسين راغب من سادات بني زهرة الأكرمين ، ألا وهي :
لام فـي صـفا الماء iiالنمير      وفي نشر الأزاهر في البكور
وإجـلال  وإعـجاب iiوحب      مكين بات يزخر في الضمير

---------------------------
(1) أحد أعلام الأسرة الكريمة العريقة في الفقه والعلم والأدب ، بيت شمس الدين آل الفقيه الأكبر الشهيد الأول شيخنا محمد بن مكي العاملي المترجم له ولكثيرين من رجالات بيته في شهداء الفضيلة لشيخنا الأميني ، (*)

سيرتنا وسنتنا _ 9 _

وبـعـد  فـيـا إمـاما قـد iiتـسامى      عـلـى  فـاحتل أوسـاط iiالـصدور
لـيـهنك  مــا حـبـاك الله iiربـي      مــن الإلـهـام والـعـلم iiالـغزير
بــذذت فـطـاحل الـعلماء iiعـلما      وفـقـت الـكـل بـالـجد iiالـمرير
فـمالك  فـي اطـلاعك مـن iiشـبيه      ومـالك  فـي فـضالك مـن iiنـظير
وحـسـب الـمرء بـرهانا عـلى ذا      مـؤلـفك الـمـسمى ( بـالـغدير ii)
فــذاك  الـسـفر مـعجزة iiالـليالي      يـظل  الـوتر فـي كـتب iiالعصور
بــه حــارت عـبـاقرة iiالـبرايا      وأعـجـب  كـل أربـاب iiالـشعور
يـفـوق  الـبـحر عـمقا iiواتـساعا      ومـــن  عــجـب ( غـديـر ii)
كالبحور به أثبت حادثة الغدير العظيمة      فـهـي شـمـس فــي الـظـهور
وقــد  حـقـقت مـا لـمقال iiطـه      بــذاك  الـيوم مـن مـعنى iiكـبير
كـمـا  أثـبـت مـا لأبـي تـراب      مــن الآيــات والـشأن iiالـخطير
أبـنـت  فـضـائل الـكرار iiحـتى      بــدت  لـلـمبصرين بـلا سـتور
وسـلـطت الـضـياء عـلى كـثير      مـن  الـمروي عـن طـه iiالـبشير
بـشـأن مـنـاقب وسـمات iiفـضل      إذا هــو مــن أسـاطير iiالـغرور
وكـنـت بـكـل بـحث لا iiتـبارى      بـتمحيص  الـصواب وكـشف زور
فـريـدا  فـي الإحـاطة iiوالـتقصي      بـعـيد الـغور فـي سـبر الأمـور
فـلـم  تـتـرك لـمعترض iiمـجالا      ولا لأخـي ارتـياب من عذير فبورك
سـعـيـك الـمـحـمود iiدومـــا      وجــوزي بـالـمثوبة iiوالـشـكور
ودمــت  مـؤيـدا بـعزيز iiنـصر      وتـسـديـد  مـــن الله iiالـقـدير
يـصـونك ربـنـا مـن كـل شـر      لـتـبقى  لـلـحقيقة خـيـر iiنـور
وأهــلا  فــي خـتام ثـم iiسـهلا      بـمـولانـا الأمـيـنـي iiالـشـهير

  ومنها قصيدة للشاعر الشهير شاعر أهل البيت صاحب ديوان ( سوانح الأفكار ) المطبوع ، الحاج أحمد رشيد مندو ، ألقاها بنفسه في حفلة السيد الشريف ، وهي :
أخـلاي هذا اليوم عيد مؤكد      وفيه بدى طير السرور يغرد

سيرتنا وسنتنا _ 10 _

ولاحـت بـه الأفراح من كل iiجانب      وراحـت بـه الأشـعار تتلى iiوتنشد
وهـب  نـسيم الـكون فـيه معطرا      وشــع  بـه نـور الـعلا iiيـتوقد
وألـوية  الإقـبال والـبشر iiحـلقت      تـرفرف فـي جـو المعالي iiوتصعد
وحـلت  عـلى الفوعا وكل iiربوعها      مـن  الـبركات الـغر مـا لا iiتحدد
بـمقدم  مـن في الكون زينة iiعصره      ومـن  هـو فـي كل الفضائل أوحد
وآيــة  ديــن الله والـعلم الـذي      يــؤم لـحل الـمشكلات iiويـقصد
ونبراس هذا العصر في العلم iiوالهدى      وذو الفضل في الدنيا الذي ليس يجحد
وذو  الإطـلاع الـواسع الثاقب الذي      أبــى مـثله بـين الـبرية iiيـوجد
وإنــا نـحـييه ونـهـديه iiدائـما      سـلاما  جـزيلا كـل يـوم iiيـجدد
تـحـية تـرحـيب بـطلعته الـتي      بـأنـوارها  كــل الـظلام iiيـبدد
وإنـا بـهذا الـيوم شـرقا iiومـغربا      نـنـادي ولا نـخـشى ولا iiنـتردد
عـلى الـطائر الميمون يا خير iiزائر      عـلينا  بـه حـل الـفلاح iiالـمؤبد
وأفـضل  نـحرير بـفضل iiاجتهاده      وتـألـيفه كــل الأفـاضل iiتـشهد
وعـلامة  الأعـلام والأصـيد iiالذي      عـلى رأسـه تـاج الـفضائل iiيعقد
ومـن  هـو فـي دنياه نابغة iiالورى      ومـنـزله  فــوق الـعلاء iiمـشيد
وقــدوة كـتـاب الأنـام جـميعهم      ومـرجعهم  بـين الـورى iiوالـمقلد
ومـن أذعـنوا طـرا لـفضل iiيراع      ويـكفيهم مـنه ( الـغدير ) iiالـمخلد
فـقد كـان فـي الإسلام أعظم iiمنهل      لأهـل الـنهى والـرشد فـيه iiمؤكد
وأحـرفـه  كـانت نـجوما iiمـنيرة      إذا  غـاب مـنها فـرقد لاح iiفـرقد
وقـد عـقم الـتأليف بـعد iiوجـوده      وآلـى  بـأن يـبقى بـه وهو iiمفرد
ويـكفيه  فـي مـولى الأنـام حديثه      ومــن  بـعـده ولاه طـه iiمـحمد
ولا شـك مـن يـنصر عـليا iiوحقه      وأبـنـاءه  فـهـو الـولي الـمسدد
وأيـن  لـهم مثل ( الأميني ) iiناصر      وسـيف عـلى كـل الأعادي iiمجرد
ويـكفيه  بـالتعريف عـنه iiغـديره      ومـنه لأهـل الـفهم يـكفي iiمـجلد

سيرتنا وسنتنا _ 11 _

وإن شيد من بعض الأفاضل في الثرى      لـرفع  كـيان الـدين نـاد ومـسجد
وفـي  كـل قـطر ( للأميني ) iiمنبر      وجـامـعة مـن كـل عـلم ومـعهد
ويـا  أيـها الضيف الكريم الذي iiأبت      فـضائله فـي الـدهر تحصى iiوتعدد
فـمني  عـلى قـدري تـقبل iiهديتي      وإنـي عـلى طـول المدى لك iiأحمد
ويـا أهـل فـوعانا اهـنأوا iiبوجوده      بـدولـة  سـوريـا ونـادوا iiورددوا
بـحضرته  أهـلا وسـهلا iiومـرحبا      ودام عـلـى الأيــام وهـو iiمـؤيد

  هذه نبذة من تلكم المواقف الكريمة ، ولا يسعنا في هذه العجالة سرد ما جرى هنالك كله ولا جله .
  وقد بعث كثيرون من أعلام السنة ، ورجال الطائفة كتبا إلى سماحة شيخنا الأميني بعد أوبته من سورية تعرب عما أثرت رحلته الكريمة في نفوس أهليها ، نقتصر منها على ذكر ما أتاه من جمعية الإعمار والإحسان بحلب بقلم رئيسها العلامة الورع الصالح فضيلة الشيخ إبراهيم الحاج حسين الضرير ، وإليك نصه :

سيرتنا وسنتنا _ 12 _

بسم الله الرحمن الرحيم

  منار العلم ، ومشكاة الفضل ، العلامة البحاثة ، الإمام الحجة الأميني ( دام ظله آمين ) .
  السلام عليك أيها البحر الذي جمع في غديره ما تفرق في غيره من اللئالئ اليتيمة والجواهر الثمينة ، مع تقبيل يدكم الكريمة ورحمة الله وبركاته .
  وصلني كتابكم الكريم الذي ملؤه محبة ووداد ، وإيمان وجهاد ، نسأل العلي القدير أن يمدكم بطول الحياة ، ويجعلكم للمسلمين باب هداية وإرشاد ، ويبارك الله لكم في هذا العيد السعيد ، ويجعله الله عيد نصر وألفة واجتماع لكلمة المسلمين ، إنه سميع الدعاء ، وبعد :
  أقدم إليك أيها المولى الكريم الرحالة الذي فرض الله عليه أن يكون مدرسة سيارة ، وظيفتها التبليغ والإرشاد والدعاية إليه تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة ونشر العلوم والمعارف ، وذلك شأن المبشرين والمنذرين ، وقد عمت رحلاتكم الكريمة أكثر بلاد المسلمين ، وخلدت لكم الذكر الجميل ، والأجر العظيم ، وكان الله معكم والتقوى زادكم ، وقد شملنا اللطف الإلهي بأنه كان لنا منها الحظ الأوفر ، والسهم الأسمى ، بقدومكم الشريف المبارك ربوع سورية ، مما خرجته تلك المدرسة من العلوم العقلية والنقلية ، وعلى الأخص في تلك الأيام

سيرتنا وسنتنا _ 13 _

  المعدودة التي نزلتم بحلب دار رجل الإخلاص والولاء لأهل البيت الكرام ( عليهم السلام ) الحاج سعيد رسول ، كثر الله أمثاله وحفظه وحماه من كيد الأعداء ، ومضت علينا تلك السهرات والحفلات الدينية التي تزاحمت إليها الوفود من حلب ونواحيها لاجتناء ذلك الثمر الطيب والوقوف على تلك الحقايق والكنوز التي كانت في زوايا الخمول ، وكانت دروسا إسلامية صحيحة في أصولها وفروعها ، فتنورت منها القلوب ، وانكشف عنها الغطاء ، وأحراها بالذكر تلك الليالي الأربعة المباركة التاريخية التي قضيناها بحضرتكم في الحواضر الأربعة التي هي من قديم الزمان ولا تزال إلى الأبد ـ بفضل الله تعالى ـ مؤمنة بولاء أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، مع ما كانت تتحمله من وصمات كاذبة ونسب غير صحيحة ، وهي ثابتة على عقيدتها وولائها الخالص لأهل البيت، ( عليهم السلام ) مع قيامها بشعائرها الدينية .
  الأولى منها : كفرية ، شرفتموها بدعوة العالم العلامة الشيخ إسماعيل الحاج حسين آل الضرير ، والمجاهد النشيط والمثقف بالثقافة الدينية عبد العزيز جحجاح ابن الرجل البار أحد زعمائها العاملين على إصلاحها وإرشادها الحاج محمد عزو ، وكانت ليلتنا تلك في محله العامر ليلة سعيدة تذكر في التاريخ ، لما كان قد جرى فيها من وعظ وإرشاد وأبحاث دينية قيمة .
  الثانية منها : الفوعة ، كانت الدعوة من رجالها المؤمنين الكرام وعلى طليعتهم العلامة الشيخ موسى تقي آل شمس الدين ، والسيد الحاج محمد حسين راغب آل زهرة وكان المجتمع حافلا في محله العامر الذي أعده لضيافة الوافدين من السادة والعلماء كثر الله أمثاله وحفظه وذويه ، وقد تناول الدرس مواضيع عديدة ، وبحوثا جليلة ، ومساءلات كثيرة جمة من الأصول المذهبية والفقه والعلوم الراقية من

سيرتنا وسنتنا _ 14 _

  رجال لهم المكانة العظمى من الثقافة وفنون المعقول والمنقول ، فسمعنا أجوبة ضافية قيمة ببيان رصين فعمت الفائدة للحضور على اختلاف طبقاتهم وتشتت عقائدهم .
  وفي الغد غادرناها إلى ناحية ، معرة مصرين ، ونزلنا بدار الزعيم الجعفري ، والقائم على مصالح الأمة الشيعية الدينية ، والمتولي على أوقافها : المجاهد الكبير الحاج جميل رحال بدعوة والده الزعيم الأكبر .
  ومن أوقاف تلك الناحية مشهد منسوب لمولانا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، مكتوب على نجفة بابه بالخط الكوفي اسم الإمام واسم المشهد والمشيد .
  وقد كثرت أسئلة هامة في ذلك المحفل الكريم من سيادة محافظ إدلب ، والأستاذ السيد توفيق يوسف مدير الناحية ، وآخرين من الحضور ، ومما أفضتم القول حوله : آية التطهير النازلة في أهل البيت الطاهر ، ومسألة المتعة التي تعد ـ جهلا بها ـ من آفات الشيعة .
  ومن معرة مصرين توجهنا إلى حلب الشهباء ، ومنها إلى قرية ( نبل ) بدعوة من العالم الفاضل الشيخ عباس الحاج خليل ، ورجالها المؤمنين ، على رأسهم عمدة الأخيار المصلحين الحاج عباس التقي ، ونجله الحاج إبراهيم التقي ، زاد الله في تقاهم وبارك لهم في مسعاهم ، وأول الاجتماع كان في جامع القرية ، وتناول الحديث والدرس حول الخلافة والإمامة بعد إقامة فريضة الظهرين ، وقد تزاحمت أقدام الناس على المسجد لاستماع الدرس ، وبيان وجوب حب أهل البيت وموالاتهم والتمسك بهم .
  وبعد ذلك كان الاجتماع في دار الحاج عباس التقي المذكور ، وقد تناول البحث والتنقيب في تلك الليلة المباركة مواضيع شتى هامة من الأصول والفروع على سنة أهل بيت الرسول الأعظم ( عليهم السلام ) ،

سيرتنا وسنتنا _ 15 _

  وتأييد تشييد مشروع المشهد الكائن بحلب الشهباء الذي قمنا بإعادة جدته ، يقع في مقربة من مزار الشريف محسن السقط ابن الإمام السبط الشهيد الحسين ( عليه السلام ) في جبل الجوشن غربي حلب .
  وإن هذا المشهد الأثري التاريخي المشيد قبل ألف عام من المشاريع التي يحسن المسارعة إلى بذل المال في توطيدها ، وإنه من ( بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ) وإنه من مشاهد آل البيت الذين هم وديعة الله ورسوله لدى الأمة الإسلامية الواجب حفظها وتأدية حقها ، وإنما بني على صخرة وضع عليها رأس الشهيد الطاهر الحسين بن علي ( عليه السلام ) ، يوجد تفصيل ذلك في غير واحد من كتب التاريخ .
  فهنيئا لك أيها المولى على جهودك الجبارة ، وجهادك المقدس ، وأجزل الله لك الأجر والثواب ، وحشرك مع محمد وآله الأطهار ، ( صلوات الله عليهم ) والسلام عليك يوم ولدت ويوم تموت ويوم تبعث حيا .
  مولانا الكريم : إن مما يهمنا أمره ، ويعنينا شأنه ، إنما هو إتمام تعمير المشهد الشريف المذكور ، وقد أثر عليه مر الدهور واحتاج جدا إلى إعادة جدته ، وسماحتكم رأيتم ضخامته ،واطلعتم على جل الأمور وسير العمل ، وشاهدتم العب ء الفادح الذي تصدينا لحمله ، وهذا المشروع الخيري يتطلب المساعدة مادية ومعنوية من أهل الخير والصلاح ، ونحن كما تعلمون نروم إنشاء مدرسة لطلاب العلوم الدينية في ذلك المشهد ونحتاج إلى توسعة المكتبة التي أسسناها في الجمعية فنرجوكم الآن بالإيعاز إلى الوجوه المحسنين الكرام أن يتبرعوا لهذه المشاريع على حسب إمكانياتهم ، والأمر لكم يا سيدي والسلام عليكم وعلى أنجالكم الأفاضل ، جمعية الإعمار والإحسان إبراهيم الحاج حسين

سيرتنا وسنتنا _ 16 _

  هذه جملة خاطفة من تفصيل رحلة سماحة شيخنا الأميني إلى ربوع سورية ، ولعلنا نفرد في المستقبل العاجل كتابا في رحلته تلك مشفوعة ببقية رحلاته الكريمة ، قائمين بنشر بقية محاضراته القيمة الناجعة التي تربو عدتها على عشرين .
  وما التوفيق إلا بالله عليه توكلت ، والحمد لله أولا وآخرا .

سيرتنا وسنتنا _ 17 _

  سيرتنا وسنتنا
  محاضرة ألقاها الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي
  صاحب الغدير بسورية

سيرتنا وسنتنا _ 19 _

بسم الله الرحمن الرحيم

  رحلة مباركة فسيحوا في الأرض أربعة أشهر
  قال الأميني : أتيحت لنا في سنتنا هذه ( 1384 ه‍ ) زيارة ديار الجمهورية العربية السورية ، وقمنا بها أربعة أشهر ، واستفدنا من مكتباتها العامرة القيمة المشحونة بالنوادر والنفائس من التراث العلمي الإسلامي من الكتب المخطوطة بخطوط حفاظ الحديث ، وأئمة الفقه والتفسير ، ورجال العلم والفضيلة والأدب ، واتصلنا من أساتذتها ورجالها الأفذاذ بأناس لم نفارقهم إلامعجبين بملكاتهم الفاضلة ، ونفسياتهم الكريمة ، وحسن طويتهم ، وجميل عشرتهم ، ومحاسن أخلاقهم ، ولهم منا الشكر المتواصل غير مجذوذ .
  ونزلنا بحلب الشهباء اثنين وعشرين يوما ، وكنا نسهر في كل تلكم الليالي محتفلين ، والحفل مكتظ بوجوه البلد والأساتذة ، ورواد الفضيلة ، وأبناء الدين ، وكانت ترد علينا أسئلة هامة في مواضيع دينية ، وأبحاث علمية ناجعة ، نبحث عنها بصورة ضافية بجميع نواحيها ، وربما كان يستوعب البحث من الساعة الثامنة الزوالية إلى الساعة الواحدة أو أكثر بعد نصف الليل.
  وفي خلال تلك الأيام زرنا في صحبة رجل الفضيلة الأستاذ المفضال الشيخ محمد سعيد دحدوح إمام مسجد النوحية أسعد الله حظه من العلم والدين ، مكتبة دار الكتب الوطنية بحلب ، فلما استقر بنا

سيرتنا وسنتنا ـ 20 ـ

  القرار في غرفة المدير ، وألهتني عن الصحبة مطالعة فهارس المكتبة ، دخل إلينا أستاذ جسيم بسيم ، وجلس على يمين الشيخ السعيد ، وطفق يناجيه ، ويتكلم معه همسا ، فاسترقنا السمع بقول الشيخ للأستاذ : قدم إشكالك إلى سماحة الحجة ، فقال الأستاذ : هو مشغول عنا ، فولى فضيلة الشيخ وجهه إلى شطري فقال : سماحة الحجة إن الأستاذ له إشكال يحب إصاختكم إليه وحله ، فرحبت به وأهلت وأدنيته مني ، واقترب الشيخ السعيد منا ، فتفضل الأستاذ بقوله : كنت أقول : غلو الشيعة في حب أهل بيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وفيهم علماء أمثالكم ، لماذا ؟
  والمسلمون كلهم على بكرة أبيهم يحبون عليا وأولاده ، ونحن أيضا نحبهم ، ما هذه المآتم للعزاء ، والدؤوب بالتأبين كل يوم ؟
  ما سيرتهم هذه : حسين حسين ؟
  ما هذا التعبد بتربته ، والالتزام بالسجدة عليها ؟
  هكذا كان مقال الأستاذ ، وكنا نسمع ذات المرار جمل النقد والاعتراض هذه أو ما يؤدي مؤداها من رجال سورية ، كأنها صيغت بيد تلك الدعاية الممقوتة والأثيمة التي تفرق صفوف المسلمين ، وتشتت شملهم ، وتمزق جمعهم ، بمثل هذه الشبهة التي هي وليدة الجهل المبير ، فبثتها بين تلكم الحواضر ، ودبت البلاد ، وعمت البلية وشاعت ، وأخذها الإنسان الظلوم الجهول كحقائق جهلا منه بالآراء والمعتقدات .
  يهمنا عندئذ جدا إجابة لطلبة فئة من إخواننا أن نفرد جوابنا لأولئك الرجال عن تلكم الأسئلة ببيان ضاف في رسالة تحدو الأمة المسلمة إلى حقيقتها ، وتميط الستر عن مبادئنا تلك في الملأ الديني ، حتى تتجلى سافرة الوجه ، ناصعة الجبين ، ويتأتى للسائلين عنها مقنع كما وجدناهم لدى مساءلتهم ومشافهتهم بذلك مخبتين إليه ، متسالمين

سيرتنا وسنتنا _ 21 _

  عليه متلقين إياه بحسن القبول ، ( والذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب ) .
  رماديفستقيتريكوازرمادي وسطبيجبرونزيأبيض - سيرتنا وسنتنا - الشيخ الأميني ص 21 :
  إليك البيان الحب والبغض خلتان تتواردان على الخواطر ، يعبر بهما عن إقبال النفس وميلها إلى الشئ ، وعن إدبارها عنه وتوليه ، فإن الأشياء برمتها وحذافيرها ماديا ومعنويا ، جزئيا وكليا ، أمريا وخلقيا ، غيبيا وشهوديا ، ملكيا وملكوتيا ، سفليا وعلويا ، نوريا وناريا ، جوهريا وعرضيا ، فرديا واجتماعيا ، شخصيا ونوعيا ، ماديا ومعنويا ، جسميا وروحيا ،دنيويا وأخرويا ، إلى جميع ما يقع مورد تصور الإنسان وتصديقه ، لما عرضت على محكمة القضاء في النفس تصورا وتصديقا ، المنعقدة لدى عرض كل شئ عليها في أقصر آن لمحة البرق بصورة يقصر الفهم عن إدراكها ، فلا يخلو من انعكاس الشئ في عدسة القلب ومرآته ، وميل النفس إليه ورغبته فيه بعد تمامية تصوره وتصديقه ، وإذعان النسبة بينها وبينه ، أو عدم انعكاسه في صفح القلب ، وإعراض النفس ورغبتها عنه ، وهذه هي حقيقة الحب والبغض .
  والأمران كما يتبعان كلاهما في أصل تحققهما البواعث والدواعي لهما الموجودة في الشئ ، كذلك يتبعانها في مدارجهما ومقاديرهما ومراتبهما ، ويحدان بعدها وحدها ، ويوصفان من الكثرة والقلة والضعف والشدة بقدر ما يوجد من البواعث وزنتها ، فبميزان المسببات تعاير المحبات وتوزن .
  فالذات الوحيد الذي يستأهل للحب أولا وبالذات قبل كل شئ إنما هو الله تبارك وتعالى نظرا إلى ذاته وأفعاله ، فكل صفة من صفات جلاله وجماله وكماله ، وكل سمة من مظاهر قدسه ، وسبحات وجهه ،

سيرتنا وسنتنا _ 22 _

  وبينات عظمته وكبريائه ، ودلائل عواطف رحمته ولطائف بره مع تكثرها بمفردها باعثة قوية للحب الذي لا انتهاء له وأسماؤه التي تناهز ألفا أو تزيد ، وتنبئ كل منها عن المسمى بصفة مطابقة ، وبصفات التزاما وتضمنا ، هي بواعث وموجبات للحب له تعالى من ألف ناحية وناحية ، تستقل كل واحدة منها رأسا في استعباد الإنسان ، واحتلال حبة قلبه بالحب .
  ولله تعالى الأولية والأولوية في الحب ، والذي يوجد لدى غيره من دواعي الحب وأسبابه فمن رشحة فضله ، وغيث جوده ، ونفحة عطفه ولطفه ، وإليه تنتهي حلقات الوجود ، وإلي عوارف رحمته تمتد سلاسل الحياة ، ومنه جل وعلا سوابغ النعم ، وصفو المنائح والمنن ، وما بكم من نعمة فمن الله ، فمن قدم غيره تعالى عليه في الحب فقد شذ عن حكم العقل ، وقدم الممكن على الواجب، وآثر المعلول على العلة، وعلى الله أن يؤاخذه بذلك ويعاقبه كما جاء في قوله تعالى : ( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين ) ( سورة التوبة / 24 ) .
  ومهما لم تك تحد تلكم الصفات صفات الواجب تعالى ، ولا تقف دون حد موصوف ، فالحب الذي تستتبعه هي ، وهو وليدها ، وينبعث هو منها ، لا بد من أن يكون غير محدود ، ولا يتصور فيه قط غلو وإن بلغ ما بلغ ، إذ الغلو إنما هو التجاوز عن الحد ، والخروج عن القياس المعين المعروف بحدوده ومقاديره ، فما لا حد له لا غلو فيه .
  وإنما يختلف الناس في مراتب الحب لله على عدد رؤوسهم لاختلافهم في العلم ببواعثه ، وذلك أن الحب المنتزع من بواعثه وموجباته يستتبعه العلم بها ، وينشأ ويقدر بقدر الإطلاع عليها ،

سيرتنا وسنتنا _ 23 _

  وليس جميع أفراد الفئة المسلمة في معرفة الله وصفاته على حد سواء ، بل : لكل امرئ منهم نصيب يخص به ، وحظ لا يشاركه فيه غيره ، ومبلغ من العلم بذلك لا يدانيه أحد ، ولكل فرد شأن يغنيه .
  والحب لله جل وعلا إنما يثمر وينتج للعبد عندما يتحقق التحابب من الطرفين ، ولا يتأتى ذلك إلا بعد ما يوجد لدى العبد أيضا بواعث ودواعي يحبه الله بها ، وإليها يومي قوله تعالى :
  ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) (1) ومن أجلى أفراد تلك الفئة الصالحة عباد الله المخلصين مولانا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وقد عرفه بذلك رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في حديث الراية الصحيح الثابت المتواتر المتفق عليه بقوله : ( لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ) (2) .
  وإذا تم التحابب وحصلت الصلة من الطرفين يترتب عندئذ على الحب كل فضيلة ، ويستأهل العبد بذلك لكل عناية من الله تعالى وكرامة ، وتحصل له القربى والزلفى لديه حتى يكون عنده مشرفا بما جاء في صحيح البخاري (3) من الحديث القدسي : ما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، وإن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه ، الحديث .
  وهذا الوسيط في الحب الذي هو رمز الصلة بين الله وبين من آمن به ، ووسيلة العباد إليه ، وباتباعه تدرك سعادة الدارين ، وبه يفوز المؤمنون في

---------------------------
(1) سورة آل عمران ، آية 31 .
(2) ذكرناه بطرقه وأسانيده وألفاظه مع تراجم رجالها في مسند جابر بن عبد الله من كتابنا الكبير الغدير .
(3) صحيح البخاري ج 7 : ص 190 في باب التواضع من كتاب الرقاق ، وأخرجه آخرون من أئمة الحديث ، (*)

سيرتنا وسنتنا _ 24 _

  النشأتين ، وتنزل لهم البركات في العاجل والآجل ، له الأولية والأولوية في الحب ثانيا وبالعرض ، وله السبق في ذلك إلى كافة الموجودات ، وإلى جميع ما صورته يد القدرة في عالم الوجود ، وإلي هذا يوعز ما جاء في الصحيح من قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أحبوا الله لما يغذوكم ، وأحبوني بحب الله ، وأحبوا أهل بيتي لحبي (1) وهذه هي قاعدة الاعتبار في النسب والاضافات التي سيوافيك تفصيلها ، هذه ناحية واحدة من بواعث حب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهناك نواح شتى لا تعد ولا تستقصى نظرا إلى صلته الوثيقة بالله ، وانتسابه الأكيد إلى المولى سبحانه تارة ، وإلى ما جعل الله له من مناقب وفضائل ، وإلى شخصيته الفذة العظيمة وما يحمله بين جوانحه من محاسن ومحامد ، وملكات ونفسيات ، يستدعي كل منها حبه والتعشق به قبل كل شئ بعد الله تبارك وتعالى ، فهو ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مع قطع النظر عن فضائل طينته وعنصره ومحتده ، وما في خلقه وخلقه ، ومولده ونشأته ، ومكارم أخلاقه ونفسياته الكريمة ،وكراماته ومقاماته ، ونعوته وصفاته المتكثرة التي تخص به ، لو لم يك فيه إلا كونه غاية للوجود ، ولولا هو ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يكن الإنسان شيئا مذكورا ، وما وهدت له الأرض ، ولم ترفع سماء ، وإنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أولى بالبرية من أنفسهم بولايته العامة الكبرى التي قورنت بولاية الله تعالى في كتابه ، لكان أجدر وأحرى وأولى وأحق بأن يكون أحب لكل امرئ آمن به وصدقه ، من نفسه وما

---------------------------
(1) أخرجه جمع من الحفاظ وأئمة الحديث بأسانيد صحيحة رجالها كلهم ثقات ، راجع صحيح الترمذي 13 : 201 ، الجزء الأول والثالث من المعجم الكبير للطبراني مستدرك الحاكم 3 : 149 ، تاريخ بغداد 4 : 160 ، إلى مصادر أخرى تناهز ثلاثين ، ذكرناها في مسند ابن عباس من كتابنا الغدير تحت رقم 26 ، (*)

سيرتنا وسنتنا _ 25 _

  تحواه ، ومن ذاته وممن يمت به من أهله وولده ووالده وذويه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه والناس أجمعين .
  وليست الأمة المؤمنة في ذلك شرعا سواء ، بل هم فيه على اختلاف درجات عرفانهم به كاختلافهم في حب الله تعالى ، قال الإمام القرطبي : كل من آمن بالنبي ( صلى الله عليه )إيمانا صحيحا لا يخلو عن وجدان شئ من تلك المحبة الراجحة ، غير أنهم متفاوتون ، فمنهم : من أخذ من تلك المرتبة بالحظ الأوفى ، ومنهم : من أخذ منها بالحظ الأدنى ، كمن كان مستغرقا في الشهوات ، محجوبا في الفضلات في أكثر الأوقات ، لكن الكثير منهم إذا ذكر النبي ( صلى الله عليه ) اشتاق إلى رؤيته بحيث يؤثرها على أهله وولده وماله ووالده ، ويبذل نفسه في الأمور الخطيرة ، ويجد مخبر ذلك من نفسه وجدانا لا تردد فيه ، وقد شوهد من هذا الجنس من يؤثر زيارة قبره ورؤية مواضع آثاره على جميع ما ذكر ، لما وقر في قلوبهم من محبته ، غير أن ذلك سريع الزوال بتوالي الغفلات ، والله المستعان (1) .
  وعلى هذا الأصل المتسالم عليه قد جاء في الصحيح (2) مرفوعا من طريق أنس بن مالك : فوالذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين .
  وفي الصحيح من طريق أبي هريرة : فوالذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده (3) ، وفي لفظ من طريق أبي هريرة : لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين .

---------------------------
(1) فتح الباري لابن حجر 1 : 50 ، 51 .
(2) صحيح البخاري 1 : 9 ، صحيح مسلم 1 : 49 ، مسند أحمد 3 : 177 ، 207 ، 275 ، ج 4 : 11 .
(3) صحيح البخاري 1 : 9 ، (*)