خاتمة المطاف
  تستجد المآتم بتجدد الأجيال ، وتبقى خالدة مع الأبد لا تبلى جدتها ، ولا تنسى بمر الدهور ، وكر الملوين ، ما دام الإسلام يعلو ، واسم محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يذكر ، وسنته تتبع ، وأعلام الدين ترفرف ، وكتاب الله غير مهجور يتلى ، وفي لسانه الناطق آية محكمة بود عترة المصطفى ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وذي قرباه ، وأجر الرسالة واجب محتم ، وحب الآل فريضة لا منتدح عنها ولا محيص ولا محيد ولا مهرب ، وحقوق محمد وآله ( صلوات الله عليه وعليهم ) لا تخص بجيل دون جيل ، وبفينة دون فينة ، وأجيال الأمة المسلمة فيها سواسية ، والحزن بالحسين الشهيد دائم سرمد ما دامت الجوانح بحبه معمورة ، والأضلاع بولائه مغمورة .
  ومن واجب حملة الكتاب والسنة التأسي بنبيها ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو الأسوة والقدوة ، وقد قضى ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حياته كاسف البال ، خاثر النفس ، حليف الشجى والأسى ، وما رؤي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مستجمعا ضاحكا حتى توفي (1) منذ رأى

---------------------------
(1) أخرجه بهذا اللفظ الحافظ الكبير البيهقي في دلائل النبوة ، والنسخة موجودة عندنا ولله الحمد ، وذكره جمع من الأعلام آخذين منه ، (*)

سيرتنا وسنتنا _ 152 _

  بني أمية ينزون على منبره كما تنزو القردة .
  وكان ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يتأذى من بكاء الحسين السبط ، وقد جاء في الصحيح فيما أخرجه الحافظ أبو القاسم الطبراني في ( المعجم الكبير ) من طريق يزيد بن أبي زياد قال :
  خرج النبي ( صلى الله عليه ) من بيت عائشة ( رضي الله عنها ) فمر على بيت فاطمة فسمع حسينا يبكي ( رضي الله عنه ) فقال : ألم تعلمي أن بكاءه يؤذيني .
  تراه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يتأذى من بكاء ريحانته فما ظنك به ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إذا وجده قتيلا بالقتل الذريع ، مرملا بالدماء ، مجدلا على الرمضاء ، مكبوبا على الثرى ، معفر الخدين ، دامي الوريدين ، محزوز الرأس من القفا ، مسلوب العمامة والرداء ، سفت الريح عليه السفا والعفا .
  ما ظنك به ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لما رآه مذبوحا عطشانا ظاميا وحيدا غريبا ، تفتت كبده من الظمأ ، ورضت أعضاؤه بحوافر الخيول ، آه وألف آه ، يا أسفي عليه .
الجسم منه بكربلاء iiمضرج      والرأس منه على القناة يدار
  يا لهفي عليه ، ويا لهفتاه ؟ سبي أهله كالعبيد ، وصفدوا بالحديد ، يساقون في الفلوات ، فوق أقتاب المطيات ، تلفح وجوههم حر الهاجرات ، آه ، أسفي على بنات محمد ، أصواتها بحت وهن نوادب يندبن قتلاهن بالايماء فكما دام حزن نبينا ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مدى حياته ، وكدر صفو عيشه رزء ولده العزيز ، والأمر بعد لم يقع ، كذلك حقيق علينا وعلى كل من صدقه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وصدق في ولائه ، واستن بسننه ، أن يدوم توجعنا وتفجعنا بالمصاب الفادح ، ويكون

سيرتنا وسنتنا _ 153 _

  البكاء والعويل على بضعة نبينا ( صلى الله عليه وآله وسلم ) سرمدا إلى يوم القيامة، وقد جاء فيما أخرجه الفقيه ابن المغازلي الواسطي في ( المناقب ) ـ وهو موجود عندنا ولله الحمد ـ :
  أن حول قبر الحسين أربعين ألف ملك شعثا غبرا يبكون عليه إلى يوم القيامة ، وفي لفظ الشيخ الفقيه الحافظ أبي بكر الزاغوني (1) سبعين ألف ملك .
  فاتخاذ الله تبارك وتعالى مشهد الحسين الطاهر دار حزن وبكاء لملائكته إلى يوم القيامة ، وادخار دمه في الملأ الأعلى منذ يوم رفعه إليه الحسين المفدى بكفيه يوم عاشوراء ولم تنزل منه قطرة كما يأتي حديثه ، وأخذ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يوم عاشوراء دمه ودم أصحابه في زجاجة ورفعها إلى السماء كما سمعت في مأتم عاشوراء .
  كل هذه تومي إلى أن أمد الحزن والبكاء على الحسين السبط يمتد إلى يوم العرض الأكبر ، والعبرات تسكب إلى يوم يقام للحسين العزيز مأتم عام يوم جمع الله الخلق في صعيد واحد ،يساهم فيه كل البرية ، إذ الرزية رزية محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو سيد البشر ، وذلك لما تحشر الصديقة أم القتيل فاطمة بضعة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومعها ثياب مصبوغة بدم كما جاء فيما أخرجه الفقيه ابن المغازلي في المناقب .
  والحافظ الجنابذي الحنبلي ابن الأخضر (2) في

---------------------------
(1) عبيد الله بن نصر بن السري الزاغوني أبو محمد المؤدب المتوفى 514 ـ وقد جاوز الثمانين ، ترجم له الحافظ ابن الجوزي في المنتظم 9 : 220 وقال : كان من حفاظ القرآن وأهل الثقة والصيانة والصلاح ، رواه عنه الحافظ الخوارزمي في المقتل 2 : 169 .
(2) أبو محمد عبد العزيز بن محمود الجنابذي البغدادي المتوفى 611 كان حافظا ثقة حجة نبيلا ، ما رأينا في شيوخنا سفرا وحضرا مثله في كثرة مسموعاته ، ومعرفته بمشايخه ، =>

سيرتنا وسنتنا _ 154 _

  معالم العترة مرفوعا من طريق أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) : تحشر ابنتي فاطمة ومعها ثياب مصبوغة بدم ، فتتعلق بقائمة من قوائم العرش ، وتقول : يا جبار ، أحكم بيني وبين قاتل ولدي ، فيحكم لابنتي ورب الكعبة .
  وهذا الحديث أخذه السيد محمود الشيخاني المدني في كتابه ( الصراط السوي ) واستشهد به على صحة قول سليمان بن يسار الهلالي (1) : وجد حجر مكتوب عليه : لا بد أن ترد القيامة فاطم وقميصها بدم الحسين ملطخ ويل لمن شفعاؤه خصماؤه والصور في يوم القيامة ينفخ فالتحفظ بدم القتيل وثيابه رمز لدى الأمة العربية وغيرها من الأمم بأنه لم يثأر بعد ، وما أقصه ولي الدم من القاتل ، وبعد الاستئثار والثأر يندمل الجرح بالثأر المنيم ، وبقضاء الحكم العدل يطيب خاطر الملهوف ، وتطمئن نفسه ، وينقشع همه ، وتخمد نايرة الجوى ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .

---------------------------
=> وحسن أصوله ، وحفظه وإتقانه ، وكان أمينا متدينا جميل الطريقة ، إلى آخر ما في الشذرات من الثناء عليه ج 5 : 46 ، 47 .
(1) سليمان بن يسار المدني تابعي عظيم من رجال الصحاح الست ، متفق على ثقته وعلمه وفقهه وإمامته وأمانته ، توفي سنة 107 عن 73 سنة ، راجع تاريخ البخاري الكبير 2 ق 2 : 42 ، طبقات ابن سعد 5 : 130 ، الجرح والتعديل 2 ق 1 : 149 ، تهذيب التهذيب 4 : 228 ـ 230 ، (*)

سيرتنا وسنتنا _ 155 _

وظايف وسنن
  يتفرع على هذه الأصول الثابتة من السنة الصحيحة فروع ، وتستنتج منها وظائف وسنن ، لا منتدح للمسلم الصحيح الصادق في التسنن بسنن نبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن اتخاذها سنة متبعة ، وسيرة جارية ، وإليك جملة منها :
  1 ـ عد رزية أهل البيت الطاهر أعظم وأعظم من رزايا الأهل والولد ، بعد ما ثبت من أن المؤمن لا يكمل إيمانه إلا أن يكون عترة رسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أحب إليه من أهله وعترته ، وبالمحبات تقدر وتقايس المصائب .
  2 ـ البكاء على رزايا أهل البيت مهما مر به فتيان بني هاشم من أبناء السبطين الحسنين وذكر ما جرى عليهم من النوائب .
  3 ـ البكاء على الحسين السبط يوم ميلاده ، ومقتله ، ومهما رأى تربته ، وكلما حل بكربلائه ، ورزية أبكت نبينا ( صلى الله عليه وآله وسلم ) طيلة حياته ، وأبكت أمهات المؤمنين والصحابة الأولين ونغصت عيش رسول الله فتراه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تارة يأخذ حسينا ويضمه إلى صدره ويخرجه إلى صحابته كاسف البال وينعاهم بقتله ، وأخرى يأخذ تربته بيده ويشمها ويقلبها ويقبلها ويأتي بها إلى المسجد مجتمع أصحابه وعيناه تفيضان ،

سيرتنا وسنتنا _ 156 _

  ويقيم مأتما وراء مأتم في بيوت أمهات المؤمنين ، وذلك كله قبل وقوع تلك الرزية الفادحة فيكف به ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد ذلك ، فحقيق على كل من استن بسنته ( صلى الله عليه وآله وسلم ) صدقا أن يبكي على ريحانته جيلا بعد جيل ، وفينة بعد فينة مدى الدهر .
  على أن وصمة هذه الحوبة والعار والشنار على أمة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد شوهت سمعتها ، وسودت صحيفة تاريخها ، وأبقت لها شية المعرة مع الأبد ، ولم تذكر عن أمة من الأمم الغابرة التي أسلمت وجهها لله أنها صدرت منها لدة ما صدر عن أمة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من الجناية الوبيلة على بضعة نبيها ، وتمت هي باسم الأمة في خلق السماوات كما جاء عن جبريل وغيره ممن نعى منهم الحسين السبط ، وصارت الأمة سبة على نبيها بين الأمم ، فترى رأس الجالوت لقي محمد بن عبد الرحمن كما ذكره ابن سعد فقال : إن بيني وبين داود سبعين أبا ، وإن اليهود تعظمني وتحترمني ، وأنتم قتلتم ابن بنت نبيكم ، فعلى الأمة أن تبكي مدى الدهور حتى تغسل درن ذلك الخزي القاتم ، وتزيل دنس تلك المنقصة المخزية بدمعة العين ، وتسلي بها نبي الإسلام ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن المصاب الفادح .
  4 ـ إقامة المأتم في بيوت أهله حينا بعد حين ، وإعلامهم بذلك النبأ العظيم .
  5 ـ شم تربة كربلاء وتقبيلها متى ما أخذها بيده وتقليبها بها .
  6 ـ صر التربة في الثياب ، والتحفظ عليها في البيوت بلسما وذكرى لريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كما فعلت السيدة أم سلمة أم المؤمنين ، ورسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ينظر إليها وإلى صنيعها من كثب .

سيرتنا وسنتنا _ 157 _

  7 ـ اتخاذ يوم عاشوراء يوم حزن وبكاء شعثا غبرا بهيئة حزينة شوهد بها رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يوم ذاك ، ونحن قد أدركنا زعماء الدين ، وأعلام الأمة ، ووجوه الناس ، ورجالات المذهب حتى الملوك والوزراء والأمراء منهم قبل نصف قرن ـ خمسين عاما ـ وكانوا دائبين على رعاية تلك الهيئة أيام عاشوراء ، لم تك ترى أحدا منهم إلا كاسف البال أشعث أغبر باكي العينين حزنا على الحسين الشهيد ، ولما ألقى التمدن المزيف جرانه في المدن راحت تلك السنة الحسنة المرضية لله ولرسوله ضحية الأوهام ، وتغيرت البلاد ومن عليها ، فغدا كل منهم يعز عليه التأسي بالنبي الأعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والجري على سيرته وسنته يوم عاشوراء استحياء من المجتمع المسير بيد الاستعمار الوبيلة ، فتركت ونسيت كأن لم تكن .
  8 ـ الحضور في كربلاء يوم عاشوراء بعين عبرى وقلب مكمد محزون تأسيا بحضور رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيها يوم ذاك بتلك الحالة المشجية التي سمعت حديثها .
  هذا حسيننا ومأتمه وتربته وكربلاؤه وأما :

سيرتنا وسنتنا _ 158 _

  السجدة وما يصح السجود عليه واتخاذ الأرض مسجدا ، فإن الواجب المتسالم عليه على المصلي لدى جميع الأمة المسلمة على بكرة أبيهم أن يسجد على الأرض ، ومرفوعة : جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا .
  من المتفق عليه ، أصفق عليها أئمة المذاهب ، ولا مندوحة لدى الاختيار والامكان من السجود عليها ، أو على ما ينبت منها كما يأتي حديثه ، وأخذ الصحابة الأولين حصاة المسجد عند حرارتها في الظهائر وتبريدها بتقليبها باليد كما سيوافيك حديثه يومي إلى عدم كفاية غيرها مهما يتمكن المصلي من السجود عليها ولو بالعلاج ورفع العذر .
  وكذلك حديث افتراشه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تحت يديه اللباس عند حراة الحصاة وبرودتها والسكوت عن الافتراش على المسجد والسجود عليه يؤيد إيجاب السجدة على التراب فحسب ليس إلا .
  وأما حين عدم تيسر السجود عليها والتمكن منه لحرارة قارصة أو لإيجاب عذر آخر فلا وازع عندئذ من السجود على غيرها ، إذ الضرورات تبيح المحظورات .
  والأحاديث الواردة في الصلاة على الحصير والفحل والخمرة وأمثالها تسوغ جواز السجدة على ما ينبت من الأرض غير المأكول والملبوس .

سيرتنا وسنتنا _ 159 _

  والأنسب بالسجدة التي إن هي إلا التصاغر والتذلل تجاه عظمة المولى سبحانه ، ووجاء كبريائه ، أن تتخذ الأرض لديها مسجدا يعفر المصلي بها خده ويرغم أنفه ، لتذكر الساجد لله طينته الوضيعة الخسيسة التي خلق منها ، وإليها يعود ، ومنها يعاد تارة أخرى ، حتى يتعظ بها ، ويكون على ذكر من وضاعة أصله ، ليتأتى له خضوع روحي ، وذل في الباطن ،وانحطاط في النفس ، واندفاع في الجوارح إلى العبودية ، وتقاعس عن الترفع والأنانية ، ويكون على بصيرة من أن المخلوق من التراب حقيق وخليق بالذل والمسكنة ليس إلا .
  ولا توجد هذه الأسرار قط وقط في المنسوج من الصوف والديباج والحرير ، وأمثاله من وسائل الدعة والراحة ، مما يري للانسان عظمة في نفسه ، وحرمة وكرامة ومقاما لديه ، ويكون له ترفعا وتجبرا واستعلاء وينسلخ عند ذلك من الخضوع والخشوع .
  وها نحن نقدم إلى القارئ جميع ما جاء في الصحاح الست ، وغيرها من أمهات المسانيد والسنن ، من سنة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الواردة فيما يصح السجود عليه ،ونمضي على ضوئها ونتخذها سنة متبعة ، وطريقة حقة لا محيد عنها ، وهي على ثلاثة أقسام : القسم الأول : ما يدل على السجود على الأرض .
  1 ـ جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، وفي لفظ مسلم : جعلت لنا الأرض كلها مسجدا ، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء .
  وفي لفظ الترمذي : جعلت لي الأرض كلها مسجدا وطهورا ، عن علي ، وعبد الله بن عمر ، وأبي هريرة ، وجابر ، وابن عباس ، وحذيفة وأنس ، وأبي أمامة ، وأبي ذر .

سيرتنا وسنتنا _ 160 _

  وفي لفظ البيهقي : جعلت لي الأرض طهورا ومسجدا ، وفي لفظ له أيضا : جعلت لي الأرض طيبة ومسجدا ، وأيما أدركته الصلاة صلى حيث كان (1) .
  2 ـ الأرض لك مسجد فحيثما أدركت الصلاة فصل ، قاله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لأبي ذر (2) .
  3 ـ ابن عباس : إن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) سجد على الحجر . أخرجه الحاكم في المستدرك 3 : 473 وصححه هو والذهبي .
  4 ـ أبو سعيد الخدري قال : أبصرت عيناي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى أنفه وجبهته أثر الماء والطين (3) .
  5 ـ رفاعة بن رافع مرفوعا : ثم يكبر فيسجد فيمكن جبهته من الأرض حتى تطمئن مفاصله وتستوي ، أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 2 : 102 .
  6 ـ ابن عباس ، وأنس ، وبريدة بإسناد صحيح مرفوعا : ثلاثة من الجفاء : يمسح جبهته قبل أن يفرغ من صلاته ، وفي لفظ واثلة بن الأسقع : لا يمسح الرجل جبهته من التراب حتى يفرغ من الصلاة (4) .
  7 ـ جابر بن عبد الله قال : كنت أصلي مع رسول الله ( صلى الله

---------------------------
(1) صحيح البخاري 1 : 86 ، 113 ، صحيح مسلم 2 : 64 ، صحيح النسائي 2 : 32 ، صحيح أبي داود 1 : 79 ، صحيح الترمذي 2 : 114 ، السنن الكبرى 2 : 433 ، 435 .
(2) صحيح النسائي 2 : 32 .
(3) صحيح البخاري 1 : 163 ، 198 ، ج 2 : 253 ، 254 ، 256 ، 258 ، 259 ، سنن أبي داود 1 : 143 ، 144 ، السنن الكبرى 2 : 104 .
(4) أخرجه البزار والطبراني راجع مجمع الزوائد : 83 ، 84 ، (*)

سيرتنا وسنتنا _ 161 _

  عليه وسلم ) الظهر فآخذ قبضة من حصى في كفي لتبرد حتى أسجد عليه من شدة الحر .
  وفي لفظ لأحمد : كنا نصلي مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) صلاة الظهر ، وآخذ بيدي قبضة من حصى فأجعلها في يدي الأخرى حتى تبرد ثم أسجد عليها من شدة الحر .
  وفي لفظ البيهقي : كنت أصلي مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) صلاة الظهر فآخذ قبضة من الحصى في كفي حتى تبرد ، وأضعها بجبهتي إذا سجدت من شدة الحر ، فقال البيهقي :
  قال الشيخ : ولو جاز السجود على ثوب متصل به لكان ذلك أسهل من تبريد الحصى في الكف ووضعها للسجود عليها ، وبالله التوفيق ، مسند أحمد 1 : 327 ، السنن الكبرى 2 : 105 .
  8 ـ أنس بن مالك : كنا نصلي مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في شدة الحر فيأخذ أحدنا الحصباء في يده فإذا برد وضعه وسجد عليه ، السنن الكبرى 2 : 106 .
  9 ـ خباب بن الأرت قال : شكونا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) شدة الرمضاء في جباهنا وأكفنا فلم يشكنا ، السنن الكبرى 2 : 105 ، 107 ، نيل الأوطار 2 : 268 .
  10 ـ عمر بن الخطاب : مطرنا من الليل فخرجنا لصلاة الغداة فجعل الرجل يمر على البطحاء فيجعل في ثوبه من الحصباء فيصلي عليه ، فلما رأى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذاك قال : ما أحسن هذا البساط ، فكان ذلك أول بدء الحصباء .
  وأخرج أبو داود عن ابن عمر : مطرنا ذات ليلة فأصبحت الأرض مبتلة فجعل الرجل يأتي بالحصى في ثوبه فيبسطه تحته ، الحديث .

سيرتنا وسنتنا _ 162 _

  أبو داود 1 : 75 ، السنن الكبرى 2 : 440 .
  11 ـ عياض بن عبد الله القرشي : رأى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رجلا يسجد على كور عمامته فأومأ بيده : ارفع عمامتك ، وأومأ إلى جبهته ، السنن الكبرى 2 : 105 .
  12 ـ علي أمير المؤمنين : إذا كان أحدكم يصلي فليحسر العمامة عن جبهته ، السنن الكبرى 2 : 105 .
  13 ـ نافع : إن عبد الله بن عمر كان إذا سجد وعليه العمامة يرفعها حتى يضع جبهته بالأرض ، السنن الكبرى 2 : 105 .
  14 ـ عبادة بن الصامت إنه كان إذا قام إلى الصلاة حسر العمامة عن جبهته ، السنن الكبرى 2 : 105 .
  15 ـ أبو عبيدة : إن ابن مسعود كان لا يصلي أو لا يسجد إلا على الأرض ، أخرجه الطبراني في الكبير وعنه في المجمع 2 : 57 .
  16 ـ إبراهيم إنه كان يقوم على البردي ويسجد على الأرض ، قلنا : ما البردي ؟ قال : الحصير ، أخرجه الطبراني في الكبير ، وعنه في المجمع 2 : 57 .
  17 ـ صالح بن حيوان السبائي : إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رأى رجلا يسجد بجنبه وقد اعتم على جبهته فحسر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن جبهته ، السنن الكبرى 2 : 105 ، نصب الراية للزيلعي 1 : 386 .

سيرتنا وسنتنا _ 163 _

  القسم الثاني : فيما ورد من السجود على غير الأرض من دون أي عذر :
  1 ـ أنس بن مالك : إن جدته مليكة دعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لطعام صنعته له فأكل منه ثم قال : قوموا فلأصلي لكم ، قال أنس : فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس ، فنضحته بماء ، فقام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ، وصففت ، واليتيم وراءه ، والعجوز من ورائنا ، الحديث .
  أخرجه البخاري في صحيحه 1 : 101 ، وفي صحيح النسائي 2 : 57 بلفظ : إن أم سليم سألت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يأتيها فيصلي في بيتها فتتخذه مصلى فأتاها فعمدت إلى حصير فنضحته بماء فصلى عليه وصلوا معه .
  وفي لفظ ابن ماجة في سننه 1 : 255 قال : صنع بعض عمومتي للنبي طعاما فقال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : إني أحب أن تأكل في بيتي وتصلي فيه قال : فأتاه وفي البيت فحل من هذه الفحول فأمر بناحية منه فكنس ورش فصلى وصلينا معه ، فقال : قال أبو عبد الله بن ماجة : الفحل هو الحصير الذي قد اسود .
  وفي سنن البيهقي 2 : 421 : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقيل (1) عند أم سليم فتبسط له نطعا فتأخذ من عرقه فتجعله في طيبها ، وتبسط له الخمرة ويصلي عليها ، وفي السنن 2 : 436 بلفظ : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أحسن الناس خلقا فربما

---------------------------
(1) من قال يقيل قيلولة ، نام في القائلة أي : منتصف النهار ، (*)

سيرتنا وسنتنا _ 164 _

  تحضره الصلاة وهو في بيتنا فيأمر بالبساط الذي تحته فيكنس ثم ينضح ثم يقوم فنقوم خلفه فيصلي بنا ، قال : وكان بساطهم من جريد النخل .
  وفيه أيضا لفظ : إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) دخل بيتا فيه فحل فكسح ناحية منه ورش فصلى عليه ، قال في هامش السنن : الفحل : حصير معمول من سعف فحال النخل .
  وأخرجه الترمذي في الصحيح 2 : 128 ملخصا : عن أنس قال : نضح بساط لنا فصلى عليه
  2 ـ ابن عباس : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يصلي على الخمرة ، صحيح الترمذي 2 : 126 قال الإمام ابن العربي المالكي : الخمرة : حصير الصلاة .
  3 ـ أبو سعيد الخدري : أنه دخل على البني ( صلى الله عليه وسلم ) ، فرأيته يصلي على حصير يسجد عليه . صحيح مسلم 2 : 62 ، 128 (1) .
  4 ـ ميمونة أم المؤمنين : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يصلي وأنا حذائه وربما أصابني ثوبه إذا سجد ، وكان يصلي على خمرة ، البخاري 1 : 101 ، مسلم 2 : 128 ،
  ابن ماجة 1 : 320 ، النسائي 2 : 57 ، البيهقي 2 : 421 ، وأخرج مسلم 1 : 168 عن عائشة قالت : قال لي رسول الله

---------------------------
(1) وأخرجه ابن ماجة في السنن 1 : 321 ، والترمذي في جامعه 2 : 127 وليس فيها : يسجد عليه ، (*)

سيرتنا وسنتنا ـ 165 ـ

  ( صلى الله عليه وسلم ) : ناوليني الخمرة من المسجد قالت : فقلت : إني حائض فقال : إن حيضتك ليست في يدك .
  5 ـ ابن عمر : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يصلي على الخمرة ويسجد عليها . أخرجه الطبراني في الكبير والأوسط .
  6 ـ أم سلمة أم المؤمنين : كان لرسول الله حصير وخمرة يصلي عليها ، أخرجه أبو يعلى ، والطبراني في الكبير والأوسط ، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح ، وعن أم حبيبة مثله صحيحا كما في المجمع 2 : 57 .
  7 ـ أنس : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يصلي على الخمرة ويسجد عليها ، أخرجه الطبراني في الأوسط والصغير بأسانيد بعضها صحيح ، ورجاله ثقات كما في المجمع 2 : 57
  القسم الثالث : فيما ورد من السجود على غير الأرض لعذر :
  1 ـ أنس بن مالك : كنا إذا صلينا مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض من شدة الحر طرح ثوبه ثم سجد عليه .
  وفي لفظ البخاري : كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم فيضع أحدنا طرف الثوب من شدة الحر في مكان السجود .
  وفي لفظ مسلم : كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم في شدة الحر فإذا لم يستطع (1) أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه .

---------------------------
(1) في لفظ ابن ماجة : لم يقدر ، (*)

سيرتنا وسنتنا _ 166 _

  وفي لفظ : كنا إذا صلينا مع النبي صلى الله عليه وسلم فيضع أحدنا طرف الثوب من شدة الحر مكان السجود (1) .
  قال الشوكاني في النيل : الحديث يدل على جواز السجود على الثياب لاتقاء حر الأرض، وفيه إشارة إلى أن مباشرة الأرض عند السجود هي الأصل ، لتعليق بسط ثوب بعدم الاستطاعة ، وقد استدل بالحديث على جواز السجود على الثوب المتصل بالمصلي ، قال النووي : وبه قال أبو حنيفة والجمهور ، أ ه‍ .
  2 ـ أنس بن مالك : كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالظهائر سجدنا على ثيابنا اتقاء الحر .
  أخرجه ابن ماجة في صحيحه 2 : 216 وقال الإمام السندي في شرحه: الظهائر جمع ظهيرة وهي شدة الحر نصف النهار ( سجدنا على ثيابنا ) الظاهر أنها الثياب التي هم لابسوها ضرورة أن الثياب في ذلك الوقت قليلة ، فمن أين لهم ثياب فاضلة ؟ فهذا يدل على جواز أن يسجد المصلي على ثوب هو لابسه كما عليه الجمهور ، أ ه‍ ، وعلى هذه الصورة يحمل ما جاء عن ابن عباس : رأيت رسول الله يصلي يسجد على ثوبه (2) .
  وأخرج البخاري في الصحيح 1 : 101 في باب السجود على الثوب في شدة الحر ، وقال الحسن : كان القوم يسجدون على العمامة والقلنسوة ويداه في كمه .

---------------------------
(1) البخاري 1 : 101 ، مسلم 2 : 109 ، ابن ماجة 1 : 321 ، أبو داود 1 : 106 ، سنن الدارمي 1 : 308 ، مسند أحمد 1 : 100 ، السنن الكبرى 2 : 106 ، نيل الأوطار 2 : 268 .
(2) أخرجه أبو يعلى ، والطبراني في الكبير ، (*)

سيرتنا وسنتنا _ 167 _

لفت نظر :   هناك حديث حمله الفقهاء على هذه الصورة أيضا مع أنه ليس فيه ذكر عن السجدة على الثوب ألا وهو : عن ابن عباس : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في كساء أبيض في غداة باردة يتقي بالكساء برد الأرض بيده ورجله .
  وفي لفظ أحمد : لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم مطير وهو يتقي الطين إذا سجد بكساء عليه يجعله دون يديه إلى الأرض إذا سجد .
  وعن ثابت بن صامت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يصلي في مسجد بني عبد الأشهل وعليه كساء ملتف به يضع يده عليه يقيه برد الحصى .
  وفي لفظ : رأيته واضعا يديه في ثوبه إذا سجد .
  وفي لفظ ابن ماجة : فرأيته واضعا يديه على ثوبه إذا سجد (1) .
  قال الشوكاني في نيل الأوطار : الحديث يدل على جواز الاتقاء بطرف الثوب الذي على المصلي ولكن للعذر ، إما عذر المطر كما في الحديث ، أو الحر والبرد كما في رواية ابن أبي شيبة وهذا الحديث مصرح بأن الكساء الذي سجد عليه كان متصلا به ، أ ه‍ .
  ونحن لم نر هذا الحمل في محله إذ الحديث لا يدل بظاهره إلا على اتقاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالكساء برد الأرض بيده ورجله فحسب ، وليس فيه إيعاز قط إلى السجدة والجبهة ، وسبيله سبيل حديث السيدة عايشة : كان رسول الله إذا صلى لا يضع تحت قدميه شيئا إلا أنا مطرنا يوما فوضع تحت قدميه نطعا (2) .

---------------------------
(1) سنن ابن ماجة 1 : 321 ، السنن الكبرى 2 : 108 ، نصب الراية 1 : 386 ، نيل الأوطار 2 : 269 ، 270 .
(2) أخرجه الطبراني في الأوسط ، والبيهقي 2 : 436 ، وضعفه الهيثمي في المجمع 2 : 57 ، لمكان إبراهيم بن إسحاق الضبي في أسناده

سيرتنا وسنتنا _ 168 _

  وهناك مرفوعة أخرجها أحمد في المسند 4 / 254 عن محمد بن ربيعة عن يونس بن الحرث الطائفي عن أبي عون عن أبيه عن المغيرة بن شعبة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي أو يستحب أن يصلي على فروة مدبوغة (1) .
  والإسناد ضعيف بالمرة وبمثله لا يستدل في الإحكام ، فيه يونس ابن الحرث ، قال أحمد : أحاديثه مضطربة ، وقال عبد الله بن أحمد : سألته عنه مرة أخرى فضعفه ،وعن ابن معين : لا شئ وقال أبو حاتم : ليس بقوي ، وقال النسائي : ضعيف ، وقال مرة : ليس بالقوي ، وقال ابن أبي شيبة : سألت ابن معين عنه فقال : كنا نضعفه ضعفا شديدا ، وقال الساجي : ضعيف إلا أنه لا يتهم بالكذب ، تهذيب التهذيب 11 : 437 ، وفيه أبو عون عبيد الله بن سعيد الثقفي الكوفي قال أبو حاتم كما في الجرح والتعديل لابنه : هو مجهول ، وقال ابن حجر : حديثه عن المغيرة مرسل ، على أن متن المرفوعة ساكت عن السجدة وحكمها ، والملازمة بين الصلاة على الفروة والسجدة عليها منتفية .
  القول الفصل : هذا تمام ما ورد في الصحاح والمسانيد مرفوعا وموقوفا فيما يجوز السجود عليه برمته ، ولم يبق هناك حديث لم نذكره ، وهي تدل بنصها على أن الأصل في ذلك لدى القدرة والامكان الأرض كلها ، ويتبعها المصنوع مما ينبت منها أخذا بأحاديث الخمرة والفحل والحصير والبساط ، ولا مندوحة عنها عند فقدان العذر ، وأما في حال العذر

---------------------------
(1) وأخرجه أبو داود 1 : 106 ، والبيهقي في السنن 2 : 420 بالإسناد المذكور ، (*)

سيرتنا وسنتنا _ 169 _

  وعدم التمكن منها فيجوز السجود على الثوب المتصل دون المنفصل لعدم ذكره في السنة .
  وأما السجدة على الفراش والسجاد والبسط المنسوجة من الصوف والوبر والحرير وأمثالها والثوب المتصل فلا دليل يسوغها قط ، ولم يرد في السنة أي مستند لجوازها ، وهذه الصحاح الست وهي تتكفل بيان أحكام الدين ولا سيما الصلاة التي هي عماده ، لم يوجد فيها ولا حديث واحد ، ولا كلمة إيماء وإيعاز إلى جواز ذلك .
  وكذلك بقية أصول الحديث من المسانيد والسنن المؤلفة في القرون الأولى الثلاثة ليس فيها أي أثر يمكننا الاستدلال به على جواز ذلك من مرفوع أو موقوف ، من مسند أو مرسل .
  فالقول بجواز السجود على الفرش والسجاد والالتزام بذلك ، وافتراش المساجد بها للسجود عليها كما تداول عند الناس بدعة محضة ، وأمر محدث غير مشروع ، يخالف سنة الله وسنة رسوله ، ( ولن تجد لسنة الله تحويلا ) .
  وقد أخرج الحافظ الكبير الثقة أبو بكر بن أبي شيبة بإسناده في المصنف في المجلد الثاني عن سعيد بن المسيب وعن محمد بن سيرين : أن الصلاة على الطنفسة محدث .
  وقد صح عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قوله : شر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، هذا ، وأما :

سيرتنا وسنتنا _ 170 _

السجدة على تربة كربلاء واتخاذها مسجدا
  فإن الغاية المتوخاة منها للشيعة إنما هي تستند إلى أصلين قويمين ، وتتوقف على أمرين قيمين :
  أولهما : استحسان اتخاذ المصلي لنفسه تربة طاهرة طيبة يتيقن بطهارتها ، من أي أرض أخذت ، ومن أي صقع من أرجاء العالم كانت ، وهي كلها في ذلك شرع سواء سواسية ، لا امتياز لإحداهن على الأخرى في جواز السجود عليها ، وإن هو إلا كرعاية المصلي طهارة جسده وملبسه ومصلاه ، يتخذ المسلم لنفسه صعيدا طيبا يسجد عليه في حله وترحاله ، وفي حضره وسفره ، ولا سيما في السفر، إذ الثقة بطهارة كل أرض يحل بها ، ويتخذها مسجدا لا تتأتى له في كل موضع من المدن والرساتيق والفنادق والخانات وباحات النزل والساحات ، ومحال المسافرين ، ومحطات وسايل السير والسفر ، ومهابط فئات الركاب ، ومنازل الغرباء ، إني له بذلك وقد يحل بها كل إنسان من الفئة المسلمة وغيرها ، ومن أخلاط الناس الذين لا يبالون ولا يكترثون لأمر الدين في موضوع الطهارة والنجاسة ، فأي وازع من أن يستحيط المسلم في دينه ، ويتخذ معه تربة طاهرة يطمئن بها وبطهارتها يسجد عليها لدى صلاته ،حذرا من السجدة على الرجاسة والنجاسة والأوساخ التي لا يتقرب بها إلى الله قط ، ولا

سيرتنا وسنتنا _ 171 _

  تجوز السنة السجود عليها ، ولا يقبله العقل السليم ، بعد ذلك التأكيد التام البالغ في طهارة أعضاء المصلي ولباسه ، والنهي عن الصلاة في مواطن منها : المزبلة ، والمجزرة ، والمقبرة ، وقارعة الطريق ، والحمام ، ومعاطن الإبل (1) والأمر بتطهير المساجد وتطييبها (2) .
  وكأن هذه النظرة الصائبة القيمة الدينية كانت متخذة لدى رجال الورع من فقهاء السلف في القرون الأولى ، وأخذ بهذه الحيطة المستحسنة جدا كان التابعي الفقيه الكبير الثقة العظيم المتفق عليه مسروق بن الأجدع (3) يأخذ في أسفاره لبنة يسجد عليها كما أخرجه شيخ المشايخ الحافظ الثقة إمام السنة ومسندها في وقته أبو بكر بن أبي شيبة في كتابه ( المصنف ) في المجلد الثاني في باب : من كان يحمل في السفينة شيئا يسجد عليه ، فأخرج بإسنادين : أن مسروقا كان إذا سافر حمل معه في السفينة لبنة يسجد عليها .
  هذا هو الأصل الأول لدى الشيعة وله سابقة قدم منذ يوم الصحابة الأولين والتابعين لهم بإحسان ، وأما الأصل الثاني : فإن قاعدة الاعتبار المطردة تقتضي التفاضل بين الأراضي ، بعضها على بعض ، وتستدعي اختلاف الآثار والشؤون والنظرات فيها ، وهذا

---------------------------
(1) سنن ابن ماجة 1 : 252 ، ومسانيد وسنن أخرى .
(2) سنن ابن ماجة 1 : 256 ، ومصادر أخرى .
(3) مسروق بن الأجدع عبد الرحمن بن مالك الهمداني أبو عائشة المتوفى 62 تابعي عظيم من رجال الصحاح الست ، يروي عن أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، كان فقيها عابدا ثقة صالحا ، كان في أصحاب ابن مسعود الذين كانوا يعلمون الناس السنة ، وقال حين حضره الموت كما جاء في طبقات ابن سعد : اللهم لا أموت على أمر لم يسنه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولا أبو بكر ولا عمر ، راجع تاريخ البخاري الكبير 4 ق 2 : 35 ، طبقات ابن سعد 6 : 50 ـ 56 ، الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 4 ق 1 : 396 ، تهذيب التهذيب 10 : 109 - 111 ، (*)

سيرتنا وسنتنا _ 172 _

  أمر طبيعي عقلي متسالم عليه ، مطرد بين الأمم طرا ، لدى الحكومات والسلطات والملوك العالمية برمتهم ، إذ بالاضافات والنسب تقبل الأراضي والأماكن والبقاع خاصة ومزية ، بها تجري عليها مقررات ، وتنتزع منها أحكام لا يجوز التعدي والصفح عنها ، ألا ترى أن المستقلات والساحات والقاعات والدور والدوائر الرسمية المضافة إلى الحكومات ، وبالأخص ما ينسب منها إلى البلاط الملكي ، ويعرف باسم عاهل البلاد وشخصه ، لها شأن خاص ، وحكم ينفرد بها ، يجب للشعب رعايته ، والجري على ما صدر فيها من قانون .
  فكذلك الأمر بالنسبة إلى الأراضي والأبنية والديار المضافة المنسوبة إلى الله تعالى فإن لها شؤونا خاصة ، وأحكاما وطقوسا ، ولوازم وروابط لا مناص ولا بد لمن أسلم وجهه لله من أن يراعيها ، ويراقبها ، ولا مندوحة لمن عاش تحت راية التوحيد والإسلام من القيام بواجبها والتحفظ عليها ، والأخذ بها .
  فبهذا الاعتبار المطرد العام المتسالم عليه انتزع للكعبة حكمها الخاص ، وللحرم شأن يخص به ، وللمسجدين الشريفين : جامع مكة والمدينة أحكامهما الخاصة بهما ، وللمساجد العامة والمعابد والصوامع والبيع التي يذكر فيها اسم الله ، في الحرمة والكرامة ، والتطهير والتنجيس ، ومنع دخول الجنب والحائض والنفساء عليها ، والنهي عن بيعها نهيا باتا نهائيا من دون تصور أي مسوغ لذلك قط خلاف بقية الأوقاف الأهلية العامة التي لها صور مسوغة لبيعها وتبديلها بالأحسن ، إلى أحكام وحدود أخرى منتزعة من اعتبار الإضافة إلى ملك الملوك ، رب العالمين ، فاتخاذ مكة المكرمة حرما آمنا ، وتوجيه الخلق إليها ، وحجهم إياها من كل فج عميق ، وإيجاب كل تلكم النسك ، وجعل كل تلكم الأحكام حتى بالنسبة إلى نبتها وأبها ، إن هي إلا آثار الإضافة ،

سيرتنا وسنتنا _ 173 _

  ومقررات تحقق ذلك الاعتبار ، واختيار الله إياها له من بين الأراضي . وكذلك عد المدينة المنورة حرما إلهيا محترما ، وجعل كل تلكم الحرمات الواردة في السنة الشريفة لها وفي أهلها وتربتها ومن حل بها ومن دفن فيها ، إنما هي لاعتبار ما فيها من الإضافة والنسبة إلى الله تعالى ، وكونها عاصمة عرش نبيه الأعظم صاحب الرسالة الخاتمة ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
  وهذا الاعتبار وقانون الإضافة كما لا يخص بالشرع فحسب ، بل هو أمر طبيعي أقر الإسلام الجري عليه ، كذلك لا ينحصر هو بمفاضلة الأراضي ، وإنما هو أصل مطرد في باب المفاضلة في مواضيعها العامة من الأنبياء والرسل ، والأوصياء ، والأولياء ، والصديقين ، والشهداء ، وأفراد المؤمنين وأصنافهم ، إلى كل ما يتصور له فضل على غيره لدى الإسلام المقدس .
  بل هذا الأصل هو محور دائرة الوجود ، وبه قوام كل شئ ، وإليه تنتهي الرغبات في الأمور ، ومنه تتولد الصلات والمحبات ، والعلائق والروابط ، لدة عوامل البغض والعداء والشحناء والضغائن .
  وهو أصل كل خلاف وشقاق ونفاق ، كما أنه أساس كل وحدة واتحاد وتسالم ووئام وسلام ، وعليه تبنى صروح الكليات ، وتتمهد المعاهد الاجتماعية ، وفي إثره تشكل الدول ، وتختلف الحكومات ، وتحدث المنافسات والمشاغبات والتنازع والتلاكم والمعارك والحروب الدامية ، وعلى ضوئه تتحزب الشعوب والقبائل ، وتتكثر الأحزاب والجمعيات ، وبالنظر إليه تؤسس المؤسسات في أمور الدين والدنيا ، وتتمركز المجتمعات الدينية ، والعلمية والاجتماعية ، والشعوبية ، والقومية ، والطائفية ، والحزبية ، والسياسية ، إلى كل قبض وبسط ، وحركة وسكون ، ووحدة وتفكك ، واقتران وافتراق ، فالحكومة العالمية العامة القوية القهارة الجبارة الحاكمة على الجامعة

سيرتنا وسنتنا _ 174 _

  البشرية بأسرها من أول يومها وهلم جرا إلى آخر الأبد ، من دون شذوذ لأي أحد وخروج فرد عن سلطتها ، ومن دون اختصاص بيوم دون يوم ، إنما هي حكومة ( ياء النسبة ) بها قوام الدين والدنيا ، وإليها تنتهي سلسلة النظم الإنسانية ، وقانون الاجتماع العام ، وشؤون الأفراد البشرية ، والبشر مع تكثر أفراده على بكرة أبيهم مسير بها ، مقهور تحت نير سلطتها مصفد بحبالها ، مقيد في شراكها ، لا مهرب له منها ، هي التي تحكم وتفتق ، وتنقض وتبرم ، وترفع وتخفض ، وتصل وتقطع ، وتقرب وتبعد ، وتأخذ وتعطي ، وتعز وتذل ، وتثيب وتعاقب ، وتحقر وتعظم ، هي التي تجعل الجندي المجهول مكرما ، معظما ، محترما ، وتراه أهلا لكل إكبار وتجليل وتبجيل ، لدى الشعب وحكومته ، وتنثر الأوراد والأزهار على تربته ومقبره ، وتدعه يذكر مع الأبد ، خالدا ذكره في صفحة التاريخ ، هي التي تهون لديها الكوارث والنوازل ، وبمقاييسها يقاسي الإنسان الشدائد والقوارع والمصائب الهائلة ، ويبذل النفس والنفيس دونها .
  هي التي جعلت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقبل الصحابي العظيم عثمان بن مضعون وهو ميت ، ودموعه تسيل على خديه كما جاء عن السيدة عائشة (1) ، هي التي دعت النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى أن يبكي على

---------------------------
(1) أخرجه أبو القاسم عبد الملك بن بشران في أماليه ، وأبو الحسن علي بن الجعد الجوهري في الجزء العاشر من مسنده ، والحاكم النيسابوري في المجلد الثالث من المستدرك ، وحفاظ وأعلام آخرون ، (*)

سيرتنا وسنتنا _ 175 _

  ولده الحسين السبط ، ويقيم كل تلكم المآتم ويأخذ تربة كربلاء ويشمها ويقبلها ، إلى آخر ما سمعت من حديثه ، هي التي جعلت السيدة أم سلمة أم المؤمنين تصر تربة كربلاء على ثيابها .
  هي التي سوغت للصديقة فاطمة أن تأخذ تربة قبر أبيها الطاهر وتشمها . هي التي حكمت على بني ضبة يوم الجمل أن تجمع بعرة جمل عايشة أم المؤمنين وتفتها وتشمها كما ذكره الطبري .
  هي التي جعلت عليا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يأخذ قبضة من تربة كربلاء لما حل بها فشمها وبكى حتى بل الأرض بدموعه ، وهو يقول : يحشر من هذا الظهر سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ، أخرجه الطبراني وقال الهيثمي في المجمع 9 : 191 رجاله ثقات .
 هي التي جعلت رجل بني أسد يشم تربة الحسين ويبكي قال هشام ابن محمد : لما أجري الماء على قبر الحسين نضب بعد أربعين يوما وامتحى أثر القبر ، فجاء أعرابي من بني أسد فجعل يأخذ قبضة قبضة من التراب ويشمه حتى وقع على الحسين فبكى وقال : بأبي وأمي ما كان أطيبك حيا وأطيب تربتك ميتا ، ثم بكى وأنشأ يقول : أرادوا ليخفوا قبره عن عداوة وطيب تراب القبر دل على القبر راجع تاريخ ابن عساكر 4 : 342 ، كفاية الحافظ الكنجي ص 293 .
  فالفرد البشري كائنا من كان ، أينما كان وحيثما كان ، من أي عنصر وشاكلة على تكثر شواكله ، واختلاف عناصره ، في جميع أدوار الحياة هو أسير تلك الحكومة ، ورهين لفظة :
  روحي ، بدني ، مالي ، أهلي ، ولدي ، أقاربي ، رحمي ، أسرتي ، تجارتي ، نحلتي ، ملتي ، طائفتي ، مبدئي ، داري ، ملكي ،

سيرتنا وسنتنا _ 176 _

  حكومتي ، قادتي ، سادتي ، إلى ما لا يحصى من المضاف المنسوب إليه .
  وهذه هي حرفيا بصورة الجمع الإضافي مأكلة بين شدقي الحكومات والدول ، والجمعيات ، والهيئات ، والأحياء ، والشعوب ، والقبائل ، والأحزاب والملل ، والنحل ، والملوك ، والطوائف ، والسلطات الحاكمة إلى كليات لا تتناهى .
  وبمجرد تمامية النسبة وتحقق الإضافة في شئ جزئي أو كلي ، أو أمر فردي أو اجتماعي ، لدى أولئك المذكورين تترتب آثار ، وتتسجل أحكام لا منتدح لأي أحد من الخضوع لها والإخبات إليها ، والقيام دونها ، والتقيد بها .
  وهذا بحث جد ناجع تنحل به مشكلات المجتمع في المبادئ والآراء والمعتقدات ، وعقود الضغينة والمحبة ، وعويصات المذاهب ، ومقررات الشرع الأقدس ، وفلسفة مقربات الدين الحنيف ، ومقدسات الإسلام وشعائره ، والحرمات والمقامات والكرامات ، فبعد هذا البيان الضافي يتضح لدى الباحث النابه الحر سر فضيلة تربة كربلاء المقدسة ، ومبلغ انتسابها إلى الله سبحانه وتعالى ، ومدى حرمتها وحرمة صاحبها دنوا واقترابا من العلي الأعلى ، فما ظنك بحرمة تربة هي مثوى قتيل الله ، وقائد جنده الأكبر المتفاني دونه ، هي مثوى حبيبه وابن حبيبه ، والداعي إليه ، والدال عليه ، والناهض له ، والباذل دون سبيله أهله ونفسه ونفيسه ، والواضع دم مهجته في كفه تجاه إعلاء كلمته ، ونشر توحيده ، وتحكيم معالمه ، وتوطيد طريقه وسبيله .
  فأي من ملوك الدنيا ومن عواهل البلاد من لدن آدم وهلم جرا عنده قائد ناهض طاهر كريم وفي صادق أبي شريف عزيز مثل قائد شهداء الإخلاص بالطف : الحسين المفدى ؟ لماذا لا يباهي به الله ، وكيف لا يتحفظ على دمه لديه ، ولا يدع

سيرتنا وسنتنا _ 177 _

  قطرة منه أن تنزل إلى الأرض لما رفعه الحسين بيديه إلى السماء (1) .
  كيف لا يديم ذكره في أرضه وسمائه ، وقد أخذت محبة الله بمجاميع قلبه ؟
  كيف لا يسود وجه الدنيا في عاشورائه ؟
  ولا يبدي بينات سخطه وغضبه يوم قتله في صفحة الوجود ؟
  ولماذا لم تبك عليه الأرض والسماء ؟ كما جاء عن ابن سيرين فيما أخرجه جمع من الحفاظ .
  ولماذا لم تمطر السماء يوم قتله دما ؟ كما جاء حديثه متواترا .
  ولماذا لم يبعث الله رسله من الملائكة المقربين إلى نبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بتربة كربلائه ؟
  ولماذا لم يشمها رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولم يقبلها ولم يذكرها طيلة حياته ؟
  ولماذا لم يتخذها بلسما في بيته ؟
  فهلم معي أيها المسلم الصحيح ، أفليست السجدة على تربة هذا شأنها لدى التقرب إلى الله في أوقات الصلوات ، أطراف الليل والنهار ، أولى وأحرى من غيرها من كل أرض وصعيد وقاعة وقرارة طاهرة ، أو من البسط والفرش والسجاد المنسوجة على نول هويات مجهولة ؟ ولم يوجد في السنة أي مسوغ للسجود عليها .
  أليس أجدر بالتقرب إلى الله ، وأقرب بالزلفى لديه ، وأنسب بالخضوع والخشوع والعبودية له تعالى أمام حضرته ، وضع صفح

---------------------------
(1) أخرجه الحافظ الخطيب البغدادي بإسناده ، والحافظ ابن عساكر في تاريخ الشام 4 : 338 بإسناده عن الخطيب ، والحافظ الكنجي في الكفاية ص 284 عن الحسن المثنى عن مسلم بن رياح مولى أمير المؤمنين قال : كنت مع الحسين يوم قتل فرمي في وجهه بنشابة فقال لي : يا مسلم أدن يديك من الدم فأدنيتها فلما امتلآ قال : اسكبه في يدي فسكبته في يديه فنفخ بهما إلى السماء وقال : اللهم أطلب بدم ابن بنت نبيك قال مسلم : فما وقع إلى الأرض منه قطرة ، وقد جاء أن الحسين ( عليه السلام ) رمى بدم حنكه إلى السماء لما أصابه السهم ، وأخرج حديثه جمع من الحفاظ ، (*)

سيرتنا وسنتنا _ 178 _

  الوجه والجباه على تربة في طيها دروس الدفاع عن الله ، ومظاهر قدسه ، ومجلى التحامي عن ناموسه ناموس الإسلام المقدس ؟
  أليس أليق بأسرار السجدة على الأرض السجود على تربة فيها سر المنعة والعظمة والكبرياء والجلال لله جل وعلا ، ورموز العبودية والتصاغر دون الله بأجلى مظاهرها وسماتها ؟
  أليس أحق بالسجود تربة فيها بينات التوحيد والتفاني دونه ؟ تدعو إلى رقة القلب ، ورحمة الضمير والشفقة والتعطف .
  أليس الأمثل والأفضل اتخاذ المسجد من تربة تفجرت في صفيحها عيون دماء اصطبغت بصبغة حب الله ، وصيغت على سنة الله وولائه المحض الخالص ؟
  من تربة عجنت بدم من طهره الجليل ، وجعل حبه أجر الرسالة الخاتمة ، وخمرت بدم سيد شباب أهل الجنة حب الله وحب رسوله ، وديعة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لدى أمته المسلمة كما جاء في السنة ؟
  فعلى هذين الأصلين نتخذ نحن من تربة كربلاء قطعا لمعا وأقراصا نسجد عليها كما كان فقيه السلف مسروق بن الأجدع يحمل معه لبنة من تربة المدينة المنورة يسجد عليها ، والرجل تلميذ الخلافة الراشدة ، فقيه المدينة ومعلم السنة بها ، وحاشاه من البدعة ، ففي أي من الأصلين حزازة وتعسف ؟
  وأي منهما يضاد نداء القرآن الكريم ؟
  أو يخالف سنة الله وسنة رسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟
  وأيهما يستنكر ويعد بدعة ؟
  وأيهما خروج عن حكم العقل والمنطق والاعتبار ؟
  وليس اتخاذ تربة كربلاء مسجدا لدى الشيعة من الفرض المحتم ، ولا من واجب الشرع والدين ، ولا مما ألزمه المذهب ، ولا يفرق أي أحد منهم منذ أول يومها بينها وبين غيرها من تراب جميع الأرض في جواز السجود عليها ، خلاف ما يزعمه الجاهل بهم

سيرتنا وسنتنا _ 179 _

  وبآرائهم ، وإن هو عندهم إلا استحسان عقلي ليس إلا ، واختيار لما هو الأولى بالسجود لدي العقل والمنطق والاعتبار فحسب كما سمعت .
  وكثير من رجال المذهب يتخذون معهم في أسفارهم غير تربة كربلاء مما يصح السجود عليه كحصير طاهر نظيف يوثق بطهارته أو خمرة مثله ويسجدون عليه في صلواتهم .
  ونحن نرى أن الأخذ بهذين الأصلين القويمين ، والنظر إلى رعاية أمري الحيطة والحرمة ومراقبتهما ، يحتم على أهالي الحرمين الشريفين : مكة والمدينة ، واللائذين بجنابهما ، والقاطنين في ساحتهما أن يتخذوا من تربتهما أقراصا وألواحا مسجدا لهم ، أخذا بالأصلين وتخلصا من حرارة حصاة المسجد الشريف القارصة أيام الظهائر وشدة الرمضاء ، يسجدون عليها في حضرهم ، ويحملونها معهم مسجدا طاهرا مباركا في أسفارهم سيرة السلف الصالح نظراء الفقيه مسروق بن الأجدع كما سمعت حديثه ، ويجعلونها في يد تناول الزائرين والحجاج والوافدين إلى تلكم الديار المقدسة من الحواضر الإسلامية ، تقتنيها الأمة المسلمة مسجدا لها ، في الحضر والسفر ، وتتخذها تذكرة وذكرى لله ولرسوله ولمهابط وحيه ، تذكرها ربها ونبيها متى ما ينظر إليها ، وتشمها وتستشم منها عرف التوحيد والنبوة ، وتكون نبراسا في بيوت المسلمين تتنور منها القلوب ، وتستضئ بنورها أفئدة أولي الألباب ، ويتقرب المسلمون إلى الله تعالى في كل صقع وناحية في أرجاء العالم بالسجود على تربة أفضل بقعة اختارها الله لنفسه بيت أمن ودار حرمة وعظمة وكرامة ، ولنبيه حرما ومضجعا مباركا ، وفيها وراء هذه كلها دعاية كبيرة قوية عالمية إلى الإسلام ، وإلى كعبة عبادته وعاصمة سنته ، وصاحب رسالته ، ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه .

سيرتنا وسنتنا _ 180 _

  كلمتنا الأخيرة هذا حبنا وهذا حسيننا ، وهذا مأتمه ، وهذه كربلاؤه ، وهذه تربته ، وهي مسجدنا ، والله ربنا ، وسنتنا وسيرتنا سيرة نبينا وسنته ولله الحمد .
  وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ، ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين (1)وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم ، وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم (2) .

---------------------------
(1) سورة المائدة : 84 .
(2) سورة الحج : 54 ، (*)