وقوله: اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد ، وارحم محمدا وآله، وهذا التعظيم لم يوجد في حق غير الآل ، فكل ذلك يدل على أن حب آل محمد واجب ، إلى أن قال : أهل بيته ( صلى الله عليه وسلم ) ساووه في خمسة أشياء : في الصلاة عليه وعليهم في التشهد ، وفي السلام ، وفي الطهارة ، وفي تحريم الصدقة ، وفي المحبة وقد جاءت لدة هذه الكلمة عن أمة كبيرة من رجال المذاهب وأئمة الفقه والتفسير والحديث ذكرنا منها جملة كبيرة في مجلدات كتابنا الغدير ، فيتلو حب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في الرتبة ويرادفه حب أهل بيته الطاهر بحكم الكتاب والسنة والعقل والمنطق والاعتبار ، ولا يفارق حبهم وولائهم حب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وولاءه كما لا ينفك حبه وولاؤه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن حب الله وولائه ، وقد تضافرت السنة في ذلك وتواترت ، وإليك جملة منها :
1 ـ من كنت مولاه فعلي مولاه ، من مائة طريق وزائدا .
2 ـ علي مني وأنا منه ، وهو ولي كل مؤمن بعدي ، عمران بن حصين .
3 ـ من كان الله وأنا مولاه فهذا علي مولاه .
4 ـ من كنت مولاه فعلي وليه ، سعد بن أبي وقاص .
5 ـ من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما كان معي في درجتي يوم القيامة . علي ، وأبو هريرة .
6 ـ شفاعتي لأمتي من أحب أهل بيتي وهم شيعتي ، علي ( عليه السلام ) .
7 ـ يرد الحوض أهل بيتي ومن أحبهم من أمتي كهاتين ، علي ( عليه السلام ) .
8 ـ أدبوا أولادكم على ثلاث : حب نبيكم ، وحب أهل بيتي ، وعلى قراءة القرآن ، علي ( عليه السلام ) .
9 ـ من أحب هذا فقد أحبني ـ يعني الحسين ـ علي ( عليه السلام ) .
10 ـ أنا وعلي وفاطمة والحسن والحسين مجتمعون ومن أحبنا ، علي ( عليه السلام ) .
11 ـ اللهم إني أحبه فأحبه ، وأحب من يحبه ، قاله للحسن ـ أبو هريرة .
12 ـ من أحبهما فقد أحبني ، ومن أبغضهما فقد أبغضني ـ الحسنين ـ أبو هريرة .
13 ـ اللهم إني أحبهما فأحبهما ، وأحب من يحبهما ـ الحسنين ـ أبو هريرة .
14 ـ من أحبني فليحب هذين ـ يعني الحسنين ـ أبو هريرة .
15 ـ الله مولاي أولى بي من نفسي لا أمر لي معه ، وأنا مولى المؤمنين أولى بهم من أنفسهم لا أمر لهم معي ، ومن كنت مولاه أولى به من نفسه لا أمر له معي ، فعلي مولاه ، أولى به من نفسه لا أمر له معه ، من عدة طرق .
16 ـ من أحب عليا فقد أحبني ، ومن أحبني فقد أحب الله ، أم سلمة .
17 ـ لا يحبنا أهل البيت إلا مؤمن تقي .
18 ـ إن مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق وإنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني إسرائيل من دخله غفر له ، أبو سعيد الخدري ، أبو ذر ، الزبير .
19 ـ من فارقني فقد فارق الله ، ومن فارقك يا علي فقد فارقني ، أبو ذر ، عبد الله بن عمر .
سيرتنا وسنتنا
_ 29 _
20 ـ يا علي من أحبك فقد أحبني ، ومن أبغضك فقد أبغضني ، أبو ذر الغفاري .
21 ـ لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن أربع : عن عمره ما عمل به ، وعن ماله مما اكتسبه ، وفيما أنفقه ، وعن حبنا أهل البيت ، أبو ذر ، أبو برزة .
22 ـ أيها الناس من أحب عليا فقد أحبني ، ومن أحبني فقد أحب الله ، ومن أبغض عليا فقد أبغضني ، ومن أبغضني فقد أبغض الله ـ أنس بن مالك .
23 ـ من أحب هؤلاء فقد أحبني ، ومن أبغضهم فقد أبغضني ـ يعني عليا وفاطمة والحسنين ـ زيد بن أرقم .
24 ـ إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، جمع كثير .
25 ـ اللهم إني أحبهما فأحبهما ، ومن أحبهما فقد أحبني ـ يعني الحسنين ـ عبد الله بن مسعود .
26 ـ بأبي هما وأمي ، من أحبني فليحب هذين ـ يعني الحسنين ـ عبد الله بن مسعود .
27 ـ إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي . جابر بن عبد الله الأنصاري .
28 ـ لا يحبك إلا مؤمن ، ولا يبغضك إلا منافق . قاله لعلي ( عليه السلام ) .
29 ـ ألا إن علي بن أبي طالب من نسبي ، من أحبه فقد أحبني ، ومن أبغضه فقد أبغضني ، عبد الله بن عمر .
30 ـ آخر ما تكلم به رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أخلفوني في أهل بيتي . عمر بن الخطاب ، عبد الله بن عمر .
31 ـ أوصي من آمن بي وصدقني بولاية علي بن أبي طالب ، من
سيرتنا وسنتنا
_ 30 _
تولاه فقد تولاني ، ومن تولاني فقد تولى الله عز وجل ، ومن أحبه فقد أحبني ، ومن أحبني فقد أحب الله ، عمار بن ياسر .
32 ـ إن عليا راية الهدى ، وإمام أوليائي ، ونور من أطاعني ، وهو الكلمة التي ألزمتها المتقين ، من أحبه أحبني ، ومن أبغضه أبغضني ، أبو برزة الأسلمي .
33 ـ حسين مني وأنا من حسين ، أحب الله من أحب حسينا ، يعلى بن مرة .
34 ـ من أراد التوسل إلي ، وأن يكون له عندي يد أشفع له بها يوم القيامة ، فليصل أهل بيتي ، ويدخل السرور عليهم ، محمد بن علي .
35 ـ لا يؤمن رجل حتى يحب أهل بيتي بحبي ، فقال عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) : وما علامة حب أهل بيتك ؟ قال : حب هذا ، وضرب بيده على علي ( رضي الله عنه ) . سلمان الفارسي .
36 ـ محبك محبي ، ومبغضك مبغضي ، ومبغضي مبغض الله ، قاله لعلي ، سلمان .
37 ـ أنزلوا آل محمد منزلة الرأس من الجسد ، وبمنزلة العينين من الرأس ، فإن الجسد لا يهتدي إلا بالرأس ، وإن الرأس لا يهتدي إلا بالعينين ، سلمان .
38 ـ والذي نفسي بيده لا يدخل قلب امرئ الإيمان حتى يحبهم لله ولقرابتي ، عباس بن عبد المطلب .
39 ـ يا أيها الناس أوصيكم بحب ذي قرنيها : أخي وابن عمي علي بن أبي طالب ، فإنه لا يحبه إلا مؤمن ، ولا يبغضه إلا منافق ، من أحبه فقد أحبني ، ومن أبغضه فقد أبغضني . عبد الله بن حنطب .
40 ـ ما بال رجال يؤذوني في أهل بيتي ، والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحبني ، ولا يحبني حتى يحب في ذوي ، ابن عباس .
سيرتنا وسنتنا
_ 31 _
أبو سعيد الخدري ، درة بنت أبي لهب
(1) .
إلى أحاديث كثيرة تعطينا خبرا بما نرتئيه من أهمية حب أهل البيت الطاهر في الإسلام ، وضرورته من الدين ، وفرضه بحكم العقل ، وكونه ردف حب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
وأما تحديد ذلك بحد معلوم معين يقف لديه المسلم ولا يعدوه فهو أمر غير معقول يشذ عن المنطق الصحيح ، إذ الحب كما عرفت إنما يتبع في بدئه وأصله وحده ومبلغه ورتبته ، العلم بحدود ما في أهل البيت من بواعث الحب وموجباته وعوامله ، وعرفان قيم ما يتصور فيهم من دواعيه لدى الاعتبار ، وأنى ثم أنى لنا الإحاطة بذلك والخبرة به من جميع نواحيه وجوانبه وجهاته ، والناس ليسوا في العلم بذلك سواسية ، واستكناه كل ذلك خارج عن نطاق الإمكان ، ولا نهتدي إليه قط سبيلا ، ولا ينتهي إليه مبلغ علم ذي علم أبدا ، ويعجز عن إدراكه والبلوغ إلى مداه كل إنسان نابه بصير ، فإن اتخذت جملة من تلكم النواحي المتكثرة التي توجب حبهم وولاءهم الخالص ، وأعطيت كل واحدة منهن حقها ، ووزنتها بميزان القسط الذي لا عيل فيه ، تتجلى لديك جلية الحال ، وترجع عند ذلك إلى ورائك من تحديد حبهم القهري ، ولن تجد له مهيعا .
---------------------------
(1) هذه الأحاديث أخرجناها بأسانيدها وطرقها في مسانيد كتابنا الكبير - الغدير - وصححناها ، وذكرنا ترجمة رجالها في مسند كل صحابي أشرنا إليه ها هنا ، (*)
سيرتنا وسنتنا
_ 31 _
فهلم معي واقض ما أنت قاض بماذا يقدر ويسوى سوق الاعتبار ، وأي مقدار يقتضي ويستوجب من الحب ؟ وما ظنك بحبهم مثلا تجاه ما يلي ؟ :
1 ـ إنتسابهم إلى صاحب الرسالة الخاتمة ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نسبا وصهرا ، وهو أعظم خلق الله من الأولين والآخرين ، وقد
سيرتنا وسنتنا
_ 32 _
صح عنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وثبت وتواتر : كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي ، ومعلوم لدى كل شعب حرمة ذي قربى الملوك والسلاطين والزعماء وكرامتهم.
2 ـ حب الله وحب رسوله إياهم ، وكونهم أحب خلق الله إليهما ، كما جاء في حديث الراية والطير وغيرهما .
3 ـ انتفاع المؤمن بدعاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لمن أحبهم بمثل قوله : اللهم وال من والاه ، وانصر من نصره ، وأعن من أعانه ، وأحب من أحبه ، إلى أمثالها من الكثير الطيب الوارد في السنة .
4 ـ كون حبهم أجر الرسالة الخاتمة بنص من الكتاب بإجماع من المسلمين على بكرة أبيهم : ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى )
(1) .
5 ـ كون حبهم مسؤولا عنه يوم القيامة لدى قدم وقدم كما جاء في قوله تعالى : ( وقفوهم إنهم مسؤولون )
(2) وقد جاء فيها من طريق أبي سعيد الخدري مرفوعا : عن ولاية علي .
وقال المفسر الكبير الواحدي : روي في قوله تعالى : ( وقفوهم إنهم مسؤولون ). أي عن ولاية علي وأهل البيت ، لأن الله أمر نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) أن يعرف الخلق أنه لا يسألهم على تبليغ الرسالة أجرا إلا المودة في القربى ، والمعنى أنهم يسألون هل والوهم حق الموالاة كما أوصاهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أم أضاعوها وأهملوها ، فتكون عليهم المطالبة والتبعة ، ا ه .
وذكر الحافظ ابن حجر في الصواعق ( ص : 89 ) مرفوعة أبي سعيد الخدري ، وأردفها بكلمة الواحدي هذه ، فقال : وأشار بقوله : كما
---------------------------
(1) سورة الشورى : 23 .
(2) سورة الصافات : 24 ، (*)
سيرتنا وسنتنا
_ 33 _
أوصاهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى الأحاديث الواردة في ذلك وهي كثيرة . وذكر المرفوعة وكلمة الواحدي جمع من المؤلفين الأعلام ، واستشهد بعدهما غير واحد منهم بقوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الصحيح الوارد المتواتر في ذيل حديث الثقلين : والله سائلكم كيف خلفتموني في كتابه وأهل بيتي .
وقال أبو المظفر السبط في تذكرته ص 10 : قال مجاهد : ( وقفوهم إنهم مسؤولون ) عن حب علي ( عليه السلام ) .
وذكر السيد الآلوسي في تفسيره ( 23 / 80 ) عند الآية الشريفة أقوالا فقال : وأولى هذه الأقوال أن السؤال عن العقايد والأعمال ، ورأس ذلك لا إله إلا الله ، ومن أجله ولاية علي ( كرم الله وجهه ) ، الخ .
وذكر جمال الدين الزرندي الحنفي في ( نظم الدرر ) ص 109 ( توجد عندنا منه نسخة بخط يد المؤلف ـ ولله الحمد ـ ) كلمة أبي الحسن الواحدي برمتها ، فقال : ولم يكن أحد من العلماء المجتهدين والأئمة المحدثين إلا وله في ولاية أهل البيت الحظ الوافر ، والفخر الزاهر ، كما أمر الله عز وجل بذلك في قوله : ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) وتجده في التدين معولا عليهم ، متمسكا بولايتهم ، منتميا إليهم ، ثم ذكر مواقف الأئمة من حب أهل البيت وكلماتهم في ولائهم .
6 ـ كونهم أعدال القرآن الكريم كما في حديث الثقلين المتفق عليه ، ولن يتفرقا حتى يردا على النبي الحوض ، فهم أئمة الهداية ، ومثلهم مثل القرآن في إنقاذ البشر من تيه الضلالة ، وحيرة الجهالة ، إلى الحياة السعيدة .
7 ـ كون حبهم شارة الإيمان كما في الصحيح الثابت : لا يحبك إلا مؤمن ، ولا يبغضك إلا منافق ، قاله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لعلي
سيرتنا وسنتنا
_ 34 _
( عليه السلام )، إلى صحاح وحسان كثيرة في مفاده، وهذه هي الولاية التي هنأ بها الصحابة الأولون عليا وهم مائة ألف أو يزيدون ، يوم هنأه عمر بن الخطاب بقوله : بخ بخ يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة .
وهذه هي التي جاءت فيما أخرجه الحفاظ : الدارقطني ، وابن السمان ، والمحب الطبري وآخرون من حديث : جاء عمر أعرابيان يختصمان فقال لعلي : إقض بينهما يا أبا الحسن ، فقضى علي بينهما ، فقال أحدهما : هذا يقضي بيننا ؟ فوثب إليه عمر وأخذ بتلبيبه وقال : ويحك ما تدري من هذا ؟ هذا مولاي ومولى كل مؤمن ، ومن لم يكن مولاه فليس بمؤمن .
8 ـ إطلاق ولايتهم وعمومها الشامل على كافة الناس من دون استثناء أي أحد منها ، وفيهم من فيهم من الأولياء والعلماء والصديقين والشهداء والأئمة والصالحين ، وينبئك عن خطورة الموقف وعظمة الأمر ما أخرجه الحاكم النيسابوري في كتاب المعرفة بإسناده من طريق ابن مسعود قال : قال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : يا عبد الله أتاني ملك فقال : يا محمد ، سل من أرسلنا من قبلك من رسلنا على ما بعثوا ؟ قال : قلت : على ما بعثوا ؟ قال : على ولايتكم وولاية علي بن أبي طالب .
وأخرج الحافظ أبو نعيم الإصبهاني بالإسناد بلفظ : لما عرج بي إلى السماء انتهى بي السير مع جبريل إلى السماء الرابعة، فرأيت بيتا من ياقوت أحمر فقال جبرئيل : هذا البيت المعمور قم يا محمد فصل الله ، قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : جمع الله النبيين فصفوا ورائي صفا فصليت بهم ، فلما سلمت أتاني آت من عند ربي فقال : يا محمد ربك يقرؤك السلام ويقول لك : سل الرسل على ما أرسلتم من قبلك ؟ فقلت : معاشر الرسل على ماذا بعثكم ربي قبلي ؟ فقالت الرسل : على
سيرتنا وسنتنا
_ 35 _
نبوتك وولاية علي بن أبي طالب ، وهذه الولاية كما تعم الأمة المسلمة على بكرة أبيهم كذلك تعم جميع الأحوال والشؤون من غير استثناء حال لأي إنسان ، ومن دون تخلف شأن من الشأن عن ذلك الحكم البات المطلق ، مع كثرة اختلاف الحالات والساعات والشؤون نظرا إلى عوامل الحب والبغض لدى الطبيعة ، فكل تلكم العوامل ملغاة لا يعبأ بها تجاه تلك الولاية .
9 ـ كون حبهم عنوان صحيفة المؤمن كما جاء فيما أخرجه من المرفوعة الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد .
10 ـ كونهم ( سلام الله عليهم ) سفينة نجاة الأمة كما في حديث السفينة الصحيح الثابت : مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق .
11 ـ توقيف إجابة دعوة الداعين من عامة الناس بالصلاة عليهم كما ورد فيما صح مرفوعا : ما من دعاء إلا وبينه وبين السماء حجاب حتى يصلي على النبي وعلى آل محمد ، فإذا فعل ذلك انخرق ذلك الحجاب ، ودخل الدعاء ، وإذا لم يفعل ذلك رجع الدعاء .
أخرجه أبو عبد الله الحسين بن يحيى القطان البغدادي المتوفى ( 334 ه ) ، في جزء له يوجد عندنا - ولله الحمد - عن شيخه الصدوق الثقة الحسن بن عرفة البغدادي ، إسناد رجاله كلهم ثقات .
وأخرجه أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح المتوفى ( 392 ه ) ( الأحاديث المائة ) له الموجود عندنا ولله الحمد ، عن شيخه الثقة أبي علي إسماعيل الوراق البغدادي المتوفى ( 323 ه ) .
وأخرجه أبو الحسن علي بن غنايم الخرقي المالكي في ( الجزء الأول من فوائده ) الموجود لدينا ولله الحمد ، وذكره جمع من المؤلفين الأعلام في تآليفهم محتجين به ، مخبتين إليه .
12 ـ شرطية اقتران الصلاة على آل محمد لدى الصلاة عليه ( صلى
سيرتنا وسنتنا
_ 36 _
الله عليه وآله وسلم ) مطلقا في كل حال ، وعدم الفصل والفرقة فيها بينه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبين آله ، سواء في ذلك الصلاة عليه في تشهد الصلوات المفروضة أو في غيرها من مواطن تستحب فيها الصلاة عليه ، وقد صح في الصحاح والمسانيد والسنن من طريق كعب ابن عجرة وغيره
(1) تعليم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الصحابة الأولين كيفية الصلاة عليه ، قارن في جميع تلكم الأحاديث ذكر الآل بذكره ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقل حكم في شرعة الإسلام جاء فيه من الحديث مثل ما جاء في كيفية الصلاة على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وقد جمع بعض الأعلام ما ورد فيها وفي ألفاظها وصورها وهي تربو على خمسين لفظا ، وفي ستة وأربعين منها قورنت الصلاة على الآل في جميع فصولها بالصلاة عليه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، على أنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد نهى عن الصلاة البتراء وقال : لا تصلوا علي الصلاة البتراء فقالوا : وما الصلاةالبتراء ؟ قال : تقولون : اللهم صلى على محمد وتمسكون ، بل قولوا ، اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد . هذا فما تداول لدى الناس من الصلاة البتراء في صلواتهم وخطبهم وكتبهم ،وفي مواطن يستحب الصلاة فيها على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهي تربو على خمسين موطنا ودؤوبهم بقولهم :( صلى الله عليه وسلم ) فهو من البدعة الممقوتة الشائنة ،تخالف ما سنه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأمر به ، ونص عليه ، وعلمه أصحابه ، وأكد وبالغ فيه ، وحث أمته عليه ، وحضها على اتخاذه سنة
---------------------------
(1) نظراء أمير المؤمنين ، أبي مسعود الأنصاري ، عبد الله بن مسعود ، أبي سعيد الخدري ، أبي هريرة ، طلحة بن عبيد الله ، زيد بن خارجة ، عبد الله بن العباس ، جابر بن عبد الله ، زيد بن ثابت ، أبي حميد الساعدي ، عبد الله بن عمرو ، ( * )
سيرتنا وسنتنا
_ 37 _
متبعة ، ولم يك كلامه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) سدى ، ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ، علمه شديد القوى ) من اتبعه فقد اهتدى ، ومن حاد عنه فقد هلك . والخطب الفظيع الإصرار على المخالفة ، والدؤوب في ترك السنة الثابتة المؤكدة ، دائبين في الصلاة البتراء ، آخذين البدعة سنة جارية ، وهذا مما يستاء منه محمد نبينا الأعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أي استياء والعياذ بالله .
13 ـ كون حب أهل البيت وولائهم شرطا عاما في قبول مطلق الأعمال والطاعات والقربات من الصلاة والصلات والحج والصوم وغيرها كما جاء منصوصا عليه في جملة من الأحاديث ، وقد فصلنا القول حول ذلك في الجزء الثاني ص 301 - 305 ط 2 من كتابنا ( الغدير ) .
14 ـ ثناء الله تعالى وثناء رسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عليهم في الكتاب والسنة بما خص بهم ولا يضاهيهم أي إنسان ، وقد ورد فيهم جمعا ووحدانا من الفضائل والمناقب ما يعد بالآلاف ، وعلى ما يؤثر عن ابن عباس : أنها إلى ثلاثين ألف أقرب .
15 ـ بواعث الحب الذاتية الموجودة فيهم من طهارة المحتد ، وقداسة الأرومة ، وشرف الحسب والنسب ، وما يمتازون به من الحكمة والعلم والخلق السامية ، والزهد ، والورع ، والتقوى ، إلى ملكات كريمة ، ونفسيات فاضلة .
وفضائل وفواضل لا تحصى ، ومزايا من الإنسانية التي لا يدرك شأوها ، إلى بواعث ودواعي وموجبات ، كل منها بمفرده عامل قوي في أخذ حبهم بمجامع القلوب ، وتعطف النفوس عليهم بكلها ، وقبل هذه كلها كونهم أمان أهل الأرض من الاختلاف ومن اقتراب ما يوعدون ، فيا لها من فضيلة رابية ما أعظمها ؟ ويا لها من منقبة جليلة ما أجلها ؟
سيرتنا وسنتنا
_ 38 _
فالإنسان بجميع طبقاته يعيش تحت راية أمنهم وأمانهم ، مرتهنا بفيض وجودهم ، وغيث فضلهم ، وبركات حياتهم ، وبهم ثبتت الأرض والسماء ، وبيمنهم رزق الورى ، ومهما خلت الأرض منهم إذا لساخت وماجت ويأتي على أهلها ما يوعدون .
إقرأ ثم إقرأ : أخرج الحفاظ : مسدد ، وابن أبي شيبة ، وأبو أحمد الفرضي ، وأبو عمرو بن أبي عرزة ، وأبو يعلى الموصلي ، وأبو القاسم الطبراني ، والحكيم الترمذي ، والمحب الطبري ، وابن عساكر ، وآخرون من طريق سلمة بن الأكوع مرفوعا : النجوم أمان لأهل السماء ، وأهل بيتي أمان لأمتي .
قال العزيزي في ( السراج : 3 / 416 ) لدى شرحه : أراد بأهل بيته علماءهم ، ويحتمل الإطلاق لأن الله تعالى لما خلق الدنيا لأجله ( صلى الله عليه وسلم ) جعل دوامها بدوام أهل بيته ، وقال الحفني : وأهل بيتي أي ذريتي ، فبسبب وجودهم يرفع البلاء عن الأمة ، أ ه .
وأخرج إمام الحنابلة أحمد بإسناده من طريق أنس بن مالك مرفوعا: النجوم أمان لأهل السماء ، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض ، فإذا ذهب أهل بيتي جاء أهل الأرض من الآيات ما كانوا يوعدون ، فقال : إن الله خلق الأرض من أجل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فجعل دوامها بدوام أهل بيته وعترته ( صلى الله عليه وسلم ) .
وأخرج أحمد أيضا من طريق علي ( عليه السلام ) مرفوعا : النجوم أمان لأهل السماء ، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض ، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض .
وأخرج الحاكم من طريق ابن عباس مرفوعا : النجوم أمان لأهل
سيرتنا وسنتنا
ـ 39 ـ
الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف ، وقد صححه الحاكم وذكره جمع آخذين منه ، وأقروا تصحيحه إياه .
وقال الصبان في الاسعاف بعد ذكره : وقد يشير إلى هذا المعنى قوله تعالى : ( وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم )
(1) أقيم أهل بيته مقامه في الأمان لأنهم منه وهو منهم كما ورد في بعض الطرق .
وعد الحافظ ابن حجر في الصواعق من الآيات النازلة في أهل البيت قوله تعالى : ( وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ) ، فقال : أشار ( صلى الله عليه وسلم ) إلى وجود ذلك المعنى في أهل بيته ، وأنهم أمان لأهل الأرض كما كان هو ( صلى الله عليه وسلم ) أمانا لهم ، وفي ذلك أحاديث كثيرة ، أ ه .
وأخرج الحاكم من طريق أبي موسى الأشعري مرفوعا : النجوم أمان لأهل السماء ، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض ، فإذا ذهبت النجوم ذهب أهل السماء ، وإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض .
وأخرج الحاكم أيضا بلفظ : النجوم أمان لأهل السماء فإذا ذهبت أتاها ما يوعدون وأنا أمان لأصحابي ما كنت ، فإذا ذهبت أتاهم ما يوعدون ، وأهل بيتي أمان لأمتي فإذا ذهب أهل بيتي أتاهم ما يوعدون .
وأخرج شيخ الإسلام الحمويني من طريق أبي سعيد الخدري مرفوعا : أهل بيتي أمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء ، وقال الحافظ ابن حجر في الصواعق لدى حديث السفينة : قال بعضهم : يحتمل أن المراد بأهل البيت الذين هم أمان علماؤهم ، لأنهم الذين يهتدى بهم كالنجوم ، والذين إذا فقدوا جاء أهل الأرض من
---------------------------
(1) سورة الأنفال آية 33 ، (*)
سيرتنا وسنتنا
_ 40 _
الآيات ما يوعدون وذلك عند نزول المهدي لما يأتي في أحاديثه : أن عيسى يصلي خلفه ، ويقتل الدجال في زمنه ، وبعد ذلك تتابع الآيات ، إلى أن قال : ويحتمل وهو الأظهر عندي أن ، المراد بهم سائر أهل البيت ، فإن الله لما خلق الدنيا بأسرها من أجل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) جعل دوامها بدوامه ودوام أهل بيته ، لأنهم يساوونه في أشياء مر عن الرازي بعضها
(1) ولأنه قال في حقهم : اللهم إنهم مني وأنا منهم ، ولأنهم بضعة منه بواسطة أن فاطمة أمهم بضعته ، فأقيموا مقامه في الأمان ، أ ه .
ولعل أمير المؤمنين عليا ( عليه السلام ) يومي إلى هذا المعنى في خطبة له بقوله : إنا صنائع ربنا ، والناس بعد صنائع لنا .
قال ابن أبي الحديد في شرحه 3 : 451 : هذا كلام عظيم عال على الكلام ، ومعناه عال على المعاني ، وصنيعة الملك من يصطنعه الملك ويرفع قدره ، يقول : ليس لأحد من البشر علينا نعمة ، بل الله تعالى هو الذي أنعم علينا فليس بيننا وبينه واسطة ، والناس بأسرهم صنائعنا ، فنحن الواسطة بينهم وبين الله تعالى ، وهذا مقام جليل ، ظاهره ما سمعت ، وباطنه أنهم عبيد الله وأن الناس عبيدهم .
وربما يستفاد هذه المأثرة من قول عمر بن الخطاب للحسين السبط : هل أنبت الشعر على الرأس غيركم ؟ وفي لفظ الدارقطني : هل أنبت الشعر في الرأس بعد الله إلا أنتم ؟ وقوله في حديث ابن سعد : هل أنبت على رؤوسنا الشعر إلا أنتم ؟ وفي لفظ : إنما أنبت الشعر في رؤوسنا ما ترى الله ثم أنتم
(2) .
---------------------------
(1) إيعاز إلى كلمة الرازي في تفسيره وقد أسلفناها ص 11 .
(2) أخرجه ابن سعد ، والدارقطني ، وابن عساكر ، والحافظ الكنجي وآخرون وصححه ابن حجر في الإصابة 2 : 15 وقال : سنده صحيح ، (*)
سيرتنا وسنتنا
_ 41 _
ولو لم يكن لأهل البيت إلا هذه الخاصة لكفت في حبهم داعيا وباعثا ، وهي بوحدتها تربو على جميع ما يحبه الإنسان ، وترجح بمفردها عامة ما يترتب على الحياة ويتولد منها ، وبها تمت لهم الأولوية بالمؤمنين من أنفسهم ، وهي التي جعلتهم أحب إليهم من النفس والمال والأهل والولد والوالد ، وهي إحدى وجوه اقتران ولاية علي أمير المؤمنين في الكتاب الكريم بولاية الله وولاية رسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بكلمة الحصر في قوله تعالى : ( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون )
(1) وقد أصفق أئمة التفسير والفقه والحديث على أنها نزلت في علي ( عليه السلام ) كما فصلنا القول لديها في كتابنا الغدير ( 3 : 156 ـ 163 ) .
فذلك القول : الأخذ بمجاميع تلكم الجهات الداعية إلى حب أهل البيت وولائهم يعطينا خبرا بأن حبنا لهم يقصر عن مدى تلكم الدواعي ، ويشذ ويبعد عن حدود تلك الجهات المختصة بهم بمراحل ومراحل إلى ألف مرحلة ، نظرا إلى قصور مبلغنا من العلم بجوهريتها وحاقها ، وقلة الاستطلاع عليها والإحاطة بها ، والبون الشاسع بيننا وبين النيل إلى معرفة كنهها ومنتهاها .
وأنى ثم أنى لنا أن نقف نحن على حقيقة ما هم عليه من الصفات وهم هم ، ونحن نحن ، فهل يسع للجاهل الأمي مثلا أن يعرف العلم وحقيقته ومبدأه ومبلغه ومنتهاه ، وأصوله وفروعه ،وأصنافه وطرقه ومناهجه وأبحاثه ودروسه ومواضعه وفنونه وأقسامه ومعالمه ، وتكوينه وتشريعه ، وكمه وكيفه ، وعرضه وطوله ، وعده وحده ، وتعلقه بما كان وبما يكون وبما هو كائن أو بالإضافة إلى هذا العالم السفلي
---------------------------
(1) سورة المائدة ، آية 55 .
سيرتنا وسنتنا
_ 42 _
الملكي ، وإلى العوالم العلوية الملكوتية ؟ علم من عنده علم الكتاب ، علم من ينتهي علمه إلى أم الكتاب ، إلى مصدر الوحي المبين ، إلى عين اليقين ، إلى الواقع الذي لا يتطرق إليه قط وهم ، ولا شك ، ولا ظن ، ولا خيال ، علم من يحدثه الملك نكتا في القلوب ، أو نقرا في الآذان ، ( وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم )
(1) وهم هم ( عليهم السلام )
(2).
هذه النسبة بيننا وبينهم في العلم ، وهي تطرد إلى جميع ما لهم من الملكات والنفسيات والمقامات والكرامات .
ونحن لم نعرف ، وأم الدنيا أيضا لم تعرف ، إنسانا في أطراف العالم أعطاه الله تعالى الإحاطة كل الإحاطة بهاتيك الجهات ، والعلم بجميع ما منح الله أهل بيت نبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من عوامل الود وأصول الولاية وشؤون الخلافة والإمامة بأسرها وبرمتها ، والاطلاع على قيمها ومقاديرها حتى يسع له تحديد لازمها من الحب والوقوف على حده .
فلما لم تك تعرف كل واحدة واحدة من تلكم الجهات المذكورة الخاصة بهم أهل البيت الطاهر وعشرات وعشرات أمثالها مما لم تذكر على حقيقتها ومقاييسها ، ولم تبين بقدرها وخصوصياتها ، فالقول بالغلو فيما يتبعها وينبعث منها من الحب تافه سرف جزاف من القول لا مغزى له .
وإنما الغلو كما مر آنفا هو التجاوز عن الحد وذلك لا يتصور إلا بعد عرفان الحد والقياس وأنى لنا بذلك ، قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا ، على أن القول فيما توصف به العترة الطاهرة من العلم والإرادة
---------------------------
(1) سورة الأعراف آية : 46 .
(2) يوجد بيان كل هذه الجمل بصورة ضافية وافية في غضون مجلدات كتابنا ( الغدير ) من طريق السنة الثابتة ، (*)
سيرتنا وسنتنا
_ 43 _
والقدرة والتصرف والرضى والغضب والحلم والعفو والرحمة والتفضل والتكرم إلى ما سواها وإن بلغ ما بلغ ، وبالغ فيها الواصف ما بالغ ، فإنما هو واقف لدى حدود الإمكان لا محالة ،ولا مماثلة ولا مشاكلة قط بينها وبين صفات الواجب تعالى ، والسنخية بينهما منتفية من أصلها ، فمتى ثم متى يتصور المقايسة بين الذاتي المطلق ، وبين العرضي المحدود المقيد ؟
وكذلك بين ما لا يكيف بكيف ولا يؤين بأين ، وبين ما يقترن بألف كيف وأين ؟
وهكذا بين التأصلي الاستقلالي ، وبين التبعي المكتسب من الغير ؟
ومثل ذلك بين الأزلي الأبدي ، وبين الحادث المتغير ؟
فمع هذه الفوارق اللازمة لصفات الممكن لا يتصور شئ من الشرك والغلو قط .
نعم يتأتى الغلو بأحد الأمرين : القول باتصافهم بما لم يجعل الله لهم مثل الاعتقاد بالتفويض والتأله بهم ، والقول بنفي قيود الإمكان وسلبها عما فيهم من الصفات ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا ، ونعوذ بالله من أن نكون من الجاهلين .
هذا حبنا طبقا على سنة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يوافقها حتى قيد الشعرة ، ويرادف العقل والمنطق الصحيح ، والعلم الناجع ، ولا غلو فيه ولا فرطا ، لو لم نك فرطنا منه في شئ .
وأما حسيننا ومأتمه وكربلاؤه :
فإن من المتسالم عليه لدى الأمة المسلمة نظرا إلى النبوة الخاتمة وشؤونها الخاصة ، الإذعان بعلم النبي الأقدس ( صلى الله عليه وآله
سيرتنا وسنتنا
_ 44 _
وسلم ) بالملاحم والفتن ، وما جرى على أهل بيته وعترته وذي قرباه وذويه قلة وكثرة من المصائب الهائلة ، وطوارق الدهر المدلهمة ، والنوازل الشديدة ، والنوائب الفادحة ، والدواهي والكوارث ، والقتل الذريع ، إلى جميع ما دهمهم من العذاب والنكال والسوء والاسر والسباء .
وعلمه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هذا من شؤون ولايته الكبرى المطلقة العامة الشاملة على كافة البرية ، كما أن ترك العمل بذلك العلم ، وجعله وراء الصفح والصبر كأن لم يكن أمرا مقضيا ، وعدم ترتب أي أثر عليه من أخذ أولئك الرجال ، رجال الجور والظلم ، رجال العيث والفساد بما يعلمه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) منهم ، وإقامة الحد قبل الاعتداء ،والقصاص قبل الجناية ، والعقوبة قبل الإساءة ، أو قطع الصلات عن الفئة الباغية ، وعدم حسن المعاشرة مع الزمرة العادية ، وطرد من علم منه البغي والعسف والعداء لأهله وعترته عن ساحته ، وإبعاده عن جنابه ، أيضا من شؤون الولاية ولا يتحمل هذا العب ء الفادح بشر قط ، ولا يجتمع هذا العلم وهذا الصفح في أحد من أولاد آدم ، ولا يتصور هذا الشأن في أي إنسان سوى من له الولاية .
وهذا موضوع هام واسع النطاق جدا من علوم الدين لو فصلنا القول فيه لأتى كتابا ضخما مفردا ، فالحالة هذه تقتضي أن يكون رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ناظرا طيلة حياته إلى كل تلكم الحوادث والرزايا والمصائب الحالة بساحة أهل بيته وأعزائه ، وأفلاذ كبده ، وجلدة ما بين عينيه ، من حبيبته وبضعته وابن عمها الصديق الأكبر وما ولدا من الذرية الطيبة ، كأنه كان ينظر إليها من وراء ستر رقيق ، وكان مهما ينظر إلى أحد منهم من كثب يتجسم بطبع الحال بين عينيه ما كان تحويه هواجسه ، فكان
سيرتنا وسنتنا
_ 45 _
مدى حياته يبدو الحزن والكآبة في أساريره بحكم الطبيعة ، والشجو والأسى لا يفارقانه ، كان منغص العيش يسر الزفرة ، ويخفي الحسرة ، ويجرع الغصة .
ومهما وجد جوا صافيا يعالج لوعة فؤاده ، ويطفي لهفة قلبه ، ويخمد نائرة الحزن بأن يضم أحدا من أهله على صدره ، ويشمه ويقبله ، ساكبا عبرته ، باكي العينين ، وفي لسانه ما يتسلى به خاطره . فتراه يلتزم عليا سيد عترته وابن عمه وأبا ولده في قارعة الطريق ويقبله ويكرر قوله : بأبي الوحيد الشهيد ، كما أخبرت بذلك السيدة عائشة أم المؤمنين فيما أخرجه عنها الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده ، وأخذه عنه جمع من الأعلام ، وقد ذكرناهم في كتابنا الغدير .
وأخرج الحفاظ بأسانيدهم الصحيحة عن ابن عباس قال : خرجت أنا والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعلي ( رضي الله عنه ) في حيطان المدينة ، فمررنا بحديقة فقال علي ( رضي الله عنه ) : ما أحسن هذه الحديقة يا رسول الله ؟ فقال : حديقتك في الجنة أحسن منها . ثم أومأ بيده إلى رأسه ولحيته ، ثم بكى حتى علا بكاه ، قيل : ما يبكيك ؟ قال : ضغاين في صدور قوم لا يبدونها لك حتى يفقدوني .
وفي لفظ عن أنس بن مالك : ثم وضع النبي رأسه على إحدى منكبي علي فبكى ، فقال له : ما يبكيك يا رسول الله ؟ ( صلى الله عليك ) قال : ضغائن في صدور أقوام لا يبدونها حتى أفارق الدنيا ، الحديث .
وفي لفظ عن أمير المؤمنين : فلما خلا لي الطريق ، اعتنقني ثم أجهش باكيا ، قلت : يا رسول الله ما يبكيك ؟ قال : ضغائن في صدور أقوام لا يبدونها لك إلا من بعدي ، الحديث
(1) .
---------------------------
(1) أخرجه بالطرق الثلاث ، البزار في مسنده ، والطبراني في الكبير ، وأبو يعلى في المسند ، وابن عساكر في تاريخ الشام ، والهيثمي في المجمع ، وجمع آخر ذكرناهم في =>
سيرتنا وسنتنا
_ 46 _
وكان ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يستحفيه عن صبره وجلدة ويقول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : كيف صبرك إذا خضبت هذه من هذه ؟ وأهوى بيده إلى لحيته ورأسه ، فقال علي : أما بليت ما بليت فليس ذلك من مواطن الصبر ، وإنما هو من مواطن البشرى والكرامة
(1) في تسلى ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بذلك الكلام الطيب المعرب عن عظمة نفسيات علي ( عليه السلام ) ومبلغ تفانيه في الله تعالى ، وتراه يضم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أبا محمد الحسن السبط إلى صدره ويقبله من فمه وسرته لما يتذكر بأن أحشاءه من فمه إلى سرته ستقطع بالسم النقيع ، ويضم الحسين السبط إليه ويشمه ويقبله ويقبل منه مواضع السيوف والرماح والطعون ويخص من جوارحه بالقبلة شفتيه ، علما منه بأنهما ستضربان بالقضيب .
يقيم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على حسينه وريحانته مأتما حينا بعد حين في بيوت أمهات المؤمنين ، ومهما اشتد عليه حزنه يأخذ حسينه على حضنه ويأتي به إلى المسجد إلى مجتمع الصحابة وهو يبكي ، وعيونه تدمع ، ودموعه تسيل ، فيريهم الحسين الرضيع وتربة كربلائه في يده ويقول لهم إن أمتي يقتلون هذا ، وهذه تربة كربلاء ، أو يأخذ تربته : تربة كربلاء ويشمها ويبكي وفي لسانه ذكر مقتله ومصرعه ، وهو يقول : ريح كرب وبلاء ، أو يقول : ويح كرب وبلا ، أو يقول : كربلاء ، أرض كرب وبلاء .
---------------------------
=> كتابنا الغدير لدى مسند أمير المؤمنين ، وابن عباس ، وأنس .
(1) أخرجه الحافظ الطبراني في المعجم الكبير الموجود لدينا ولله الحمد ، (*)
سيرتنا وسنتنا
_ 47 _
أو يقول : والذي نفسي بيده إنه ليحزنني ، فمن هذا يقتل حسينا بعدي ؟ أو يأخذ حسينا على حجره وفي يده تربته الحمراء وهو يبكي ويقول : يا ليت شعري من يقتلك بعدي ؟
(1) .
وترى الصديقة الطاهرة لما يخبرها أبوها ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأنها أسرع لحوقا به من أهل بيته يسرها هذا النبأ وتأنس به
(2) ، وإن هو إلا لعلمها بأن حياة آل محمد حفت بالمكاره والقوارع والطامات ، ولولا الحذر والجزع من تلكم المصائب الهائلة النازلة بساحتهم فأي مسوغ للزهراء فاطمة في استيائها من حياتها ؟ وحياتها السعيدة هي أحسن حياة وأحلاها وأسعدها وأجملها وأعظمها فخرا ، زوج هو شاكلة أبيها في فضائله وفواضله ، وأولاد من البنين مثل الحسنين ريحانتي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، سيدي شباب أهل الجنة ، لا يمثلان بنظير ، ويقصر عن بلوغ نعتهما وصف كل بليغ طلق ذلق ، ومن البنات مثل العقيلة زينب ، جوهرة القدس والكمال والشرف والمنعة .
فلماذا تستاء عندئذ فاطمة من الحياة وهي بعد في عنفوان شبيبتها الغضة لم تبلغ مناها ، ولم تنل آمالها من الحياة ؟
ولماذا تدعو وتسأل ربها أن يعجل لها وفاتها ، وهي بعد لم تدرك من أولادها ما تتمناه الأمهات ، وتهون دون تلكم الأماني عليهن المصائب ، وتحلو لديهن مرارة الدنيا ، وتفدي دونها كل تليد وطارف ؟
---------------------------
(1) ستوافيك أحاديث هذه كلها بأسانيدها ومصادرها ونصها وفصها بعيد هذا .
(2) أخرج حديثه أحمد في المسند ، وأبو يعلى في المسند ، وابن أبي شيبة في المصنف ، والنسائي في الخصائص والترمذي في الصحيح ، وأبو الحسن الحربي في جزء له ، والطحاوي في مشكل الآثار ، والدارقطني في العلل ، وأبو نعيم في الحلية ، والبيهقي في الدلائل وآخرون كثيرون بأسانيدهم الصحيحة عن السيدة عايشة أم المؤمنين ، (*)
سيرتنا وسنتنا
_ 48 _
ولماذا ترفع اليد عن حضانة أولادها ، وتفرغ منهم حجرها ، وترضى بيتمهم ، وهم بعد ما شبوا وما زهوا ؟
ولماذا تأنس بذبول أورادها أوراد آل محمد وهي في بدو النضارة ولم تحظ بعد من تلكم الأزهار ؟
ولماذا تعيف أنوار حقلها الزاهي ولم تفتح بعد أكمامها ؟
ولماذا تحب فراق بعلها ، وتدع حبيبها أليف الأسى والهم والجوى ، حزنه بعدها سرمد ، وليله في فراقها مسهد ؟
ولماذا ذلك الفرح والجذل من اقتراب الأجل ودنو الموت ؟
إن كل هذه إلا تخلصا من هول تلكم النوائب التي كانت تعلمها أخذا من أبيها الصادق المصدوق ، ولم تك فاطمة ( سلام الله عليها ) تتصور لنفسها منجى ومرتجى وملجأ تثق بالطمأنينة لديها ، وسكون الخاطر في حماها غير جوار ربها الكريم ، والغض عن هذه الحياة ومرارتها وحلاها ، ماذا تصنع فاطمة بالحياة وهي ترى أباها ( صلى الله عليه وآله وسلم ) طيلة حياته حليف الشجون ؟
قد قضى حياته بعين عبرى ، وقلب مكمد محزون ، وزفرة وحسرة ولهفة دفينة بين جوانحه كمدا على أهل بيته ، يقيم لحسينه السبط المأتم من لدن ولادته وهلم جرا يوم كان رضيعا وفطيما وفتيا ، وقد اتخذ الله بيوت نبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) دار حزن وبكاء منذ ولد ريحانة رسول الله الحسين العزيز ، يأتي إليه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ملائكة ربه أفواجا زرافات ووحدانا ، حينا بعد حين ، مرة بعد أخرى ، بين فينة وفينة ، ينعون الحسين ، ويأتون إليه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بتربته الحمراء ممثلين بذلك مصرعه ومقتله .
هذه مواقف تاريخية إسلامية هامة سجل لنا التاريخ منها شطرا وإن لم تبق لنا الظروف الغابرة منها إلا النزر اليسير ، فإليك نبذة منها :
سيرتنا وسنتنا
_ 49 _
(1) مأتم الميلاد
أقيم هذا المأتم في أول ساعة من ولادة الشهيد المفدى أخرج الحافظ أحمد بن الحسين البيهقي قال : أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد المفسر ، أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله الحفيد ،حدثنا أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن عامر الطائي بالبصرة ، حدثني أبي ، حدثني علي بن موسى ، حدثني أبي موسى بن جعفر ، حدثني أبي جعفر بن محمد ، حدثني أبي محمد بن علي ، حدثني أبي علي بن الحسين قال : حدثتني أسماء بنت عميس قالت قبلت جدتك فاطمة بالحسن والحسين فلما ولد الحسن ، الحديث بطوله إلى قولها : فلما ولد الحسين فجاءني النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال : يا أسماء هاتي ابني فدفعته إليه في خرقة بيضاء ، فأذن في أذنه اليمنى ، وأقام في اليسرى ، ثم وضعه في حجره وبكى ، قالت أسماء : فقلت فداك أبي وأمي مم بكاؤك ؟ قال : على ابني هذا ، قلت : إنه ولد الساعة ، قال : يا أسماء تقتله الفئة الباغية لا أنالهم الله شفاعتي ، ثم قال : يا أسماء لا تخبري فاطمة بهذا ، فإنها قريبة عهد بولادته ، الحديث .
وأخرجه الحافظ أبو المؤيد الخوارزمي
(1) خليفة الزمخشري في مقتل
---------------------------
(1) ترجمنا له في الجزء الرابع من كتابنا الغدير ص 398 ـ 407 ، (*)
سيرتنا وسنتنا
_ 50 _
الحسين ( 1 / 87 ـ 88 ) بإسناده عن الحافظ البيهقي .
وذكره الحافظ محب الدين الطبري في ( ذخاير العقبى : ص 119 ) نقلا عن مسند الإمام أبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) ، والسيد محمود الشيخاني المدني في ( الصراط السوي ) الموجود عندنا بخط السيد المؤلف عن المحب عن المسند .
ونحن فصلنا القول في مسند الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من كتابنا الغدير في مبلغ اعتبار مسند الإمام أبي الحسن الرضا لدى أعلام السلف وأخذ أمة من الحفاظ ومشايخ الحديث عنه ، وثقتهم واحتجاجهم به ، وتعاطيهم نسخته بالمال .
قال الأميني : لعل هذا أول حفل تأبين أقيم للحسين الطهر الشهيد في الإسلام المقدس بدار رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ولم تسمع أذن الدنيا قبل هذا أن ينعقد لمولود غير
وليد الزهراء الصديقة في بسيط الأرض مأتم حين ولدته أمه بدلا من حفل السرور والحبور والتباشير ، ولم يقرع قط سمعا نبأ وليد ينعى به منذ استهلاله ، حين قدم مستوى الوجود ، بدل نشيد التهاني ، ويذكر من أول ساعة حياته حديث قتله ومقتله ومصرعه . ولم ينبئ التاريخ من لدن آدم إلى الخاتم عن وليد يهدى إلى أبيه عوض هدايا الأفراح تربة مذبحه حتى يتمكن منه الحزن في أعماق قلبه ، وحبة فؤاده .
فكأن يوم ولادة الحسين له شأن خاص لدى الله العلي العظيم ، ذلك تقدير العزيز العليم ، لم يقدره يوم سرور لآل الله ، أهل البيت الطاهر ، وكأن الأسى توأمه في الولادة ، فكدر عليهم صفو العيش ، ونغص طيب حياتهم ، واجتث من تلكم البيوت التي أذن الله أن ترفع