تأليف
سماحة الشهيد السيد محمد باقر الصدر ( قدس سره الشريف )
التفسير التجزيئي والتفسير التوحيدي للقرآن الكريم
بسم الله الرحمن الرحيم
وأفضل الصلوات على سيد الخلق محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
ربنا فقهنا في كتابك واكشف عن قلوبنا ظلمات الذنوب لكي نتفهم آياتك وأزح عن بصائرنا غشاوة الدنيا وبريقها الكاذب لكي نملا نفوسنا بهداك واجعلنا من حملة قرآنك
وسنة نبيك والسائرين على طريق طاعتك ، ندعو بلغة القرآن وبلسان القرآن : ( رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )(1)( رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ )(2)( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ )(3).
لاشك في تنوع التفسير واختلاف مذاهبه وتعدد مدارسه والتباين في كثير من الأحيان بين اهتماماته واتجاهاته : فهناك التفسير الذي يهتم بالجانب اللفظي والأدبي
والبلاغي من النص القرآني.
وهناك التفسير الذي يركز على الحديث ويفسر النص القرآني بالمأثور عنهم عليهم السلام أو بالمأثور عن الصحابة والتابعين.
وهناك التفسير الذي يعتلج العقل أيضاً كأداة من عمق التفسير وفهم كتاب اللّه سبحانه وتعالى وهناك التفسير المتحيز الذي يتخذ مواقف مذهبية مسبقة ، يحاول أن يطبق النص القرآني على أساسها ، وهناك التفسير غير المتحيز الذي يحاول أن يستنطق القرآن نفسه ، ويطبق الرأي على القرآن لا القرآن على الرأي إلى غير ذلك من الاتجاهات
المختلفة في التفسير الإسلامي ، إلاّ إن الذي يهمنا بصورة خاصة ونحن على أبواب هذه الدراسة القرآنية ، أن نركز على إبراز اتجاهين رئيسيين لحركة التفسير في الفكر
الإسلامي :
--------------------
(1) سورة التحريم آية : 8 .
(2) سورة البقرة آية : 286 .
(3) سورة الحشر آية : 10 .
المدرسة القرآنية
_ 2 _
ونطلق على أحدهما اسم (الاتجاه التجزيئي في التفسير).
وعلى الآخر اسم (الاتجاه التوحيدي أو الموضوعي في التفسير).
ونعني بالاتجاه التجزيئي المنهج الذي يتناول المفسر ضمن اطاره القرآن الكريم آية فآية وفقاً لتسلسل تدوين الآيات في المصحف الشريف.
والمفسر في إطار هذا المنهج يسير مع المصحف ويفسر قطعاته تدريجاً بما يؤمن به من أدوات ووسائل للتفسير من الظهور أو المأثور من الأحاديث أو بلحاظ الآيات
الأخرى التي تشترك مع تلك الآية في مصطلح أو مفهوم ، بالقدر الذي يلقي ضوءاً على مدلول القطعة القرآنية التي يراد تفسيرها مع أخذ السياق الذي وقعت تلك القطعة ضمنه بعين الاعتبار من كل تلك الحالات.
وطبعاً نحن حينما نتحدث عن التفسير التجزيئي نقدمه في أوسع وأكمل صوره التي انتهى إليها ، وإن التفسير التجزيئي تدرّج تاريخيا إلى أن وصل إلى مستوى الاستيعاب الشامل للقرآن الكريم بالطريقة التجزيئية.
المدرسة القرآنية
_ 3 _
وكان قد بدأ في عصر الصحابة التابعين على مستوى شرح تجزيئي لبعض الآيات القرآنية وتفسير لمفرداتها ، وكلما امتد الزمن ازدادت الحاجة إلى تفسير المزيد من
الآيات إلى أن انتهى إلى الصورة التي قدم فيها ابن ماجة والطبري غيرهما ممن كتب في التفسير في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع ، وكانت تمثل أوسع صورة
للمنهج التجزيئي في التفسير.
فالمنهج التجزيئي في التفسير حيث أنه كان يستهدف فهم مدلول (اللّه) ، وحيث ان فهم مدلول (اللّه) كان في البداية متيسراً لعدد كبير من الناس ثم بدأ اللفظ يتعقد من حيث المعنى بمرور الزمن وازدياد الفاصل وتراكم لقدرات والتجارب ، وتطور الأحداث والأوضاع.
من هنا توسع التفسير التجزيئي تبعاً لما اعترض النص القرآني من غموض ومن شك في تحديد مفهوم (اللّه) تتكامل في الطريقة التي نراها في موسوعات التفسير
حيث ان المفسر يبدأ من الآية الأولى من سورة الفاتحة إلى سورة الناس فيفسر القرآن آية آية ، لان الكثير من الآيات بمرور الزمن أصبح معناها ومدلولها اللفظي بحاجة
إلى إبراز أو تجربة أو تأكيد ونحو ذلك ، هذا هو التفسير التجزيئي.
طبعاً نحن لا نعني بالتجزيئية لمثل هذا المنهج التفسيري أن المفسر يقطع نظره عن سائر الآيات ولا يستعين بها في فهم الآية المطروحة للبحث ، بل انه قد يستعين بآيات أخرى في هذا المجال كما يستعين بالأحاديث والروايات ، ولكن هذه الاستعانة تتم بقصد الكشف عن المدلول اللفظي الذي تحمله الآية المطروحة للبحث ، فالهدف في كل
خطوة من هذا التفسير فهم مدلول الآية التي يواجهها المفسر بكل الوسائل الممكنة أي أن الهدف (هدف تجزيئي) ، لأنه يقف دائما عند حدود فهم هذا الجزأ وذاك من النص القرآني ولا يتجاوز ذلك غالبا ، وحصيلة تفسير تجزيئي للقرآن الكريم كله تساوي على أفضل تقدير مجموعة مدلولات القرآن الكريم ملحوظة بنظرة تجزيئية أيضاً ، أي أنه سوف نحصل على عدد كبير من المعارف والمدلولات القرآنية ، ولكن في حالة تناثر وتراكم عددي دون أن نكتشف أوجه الارتباط ، دون أن نكتشف التركيب العضوي لهذه المجاميع من الأفكار ، دون أن نحدد في نهاية المطاف نظرية قرآنية لكل مجال من مجالات الحياة فهناك تراكم عددي للمعلومات ، إلاّ أن مجموع ما بين هذه المعلومات ، الروابط والعلاقات ما بين هذه المعلومات التي تحولها إلى مركبات نظرية ومجاميع فكرية بالإمكان ان نحضّر على أساسها نظرية القرآن لمختلف المجالات والمواضيع ، أما هذا فليس
المدرسة القرآنية
_ 4 _
مستهدفا بالذات في منهج التفسير التجزيئي وان كان قد يحصل أحيانا ، ولكن ليس هو المستهدف بالذات في منهج التفسير التجزيئي.
وقد أدت حالة التناثر ونزعة الاتجاه التجزيئي إلى ظهور التناقضات المذهبية العديدة في الحياة الإسلامية ، إذ كان يكفي أن يجد هذا المفسر أو ذاك آية تبرر مذهبه لكي يعلن عنه ويجمع حوله الأنصار والأشياع كما وقع في كثير من المسائل الكلامية كمسألة الجبر والتفويض والاختيار مثلا.
بينما كان بالإمكان تفادي كثير من هذه التناقضات لو أن المفسر التجزيئي خطا خطوة أخرى ولم يقتصر على هذا التجميع العددي كما نري ذلك في الاتجاه الثاني.
الاتجاه الثاني : نسميه الاتجاه التوحيدي أو الموضوعي في التفسير.
هذا الاتجاه لا يتناول تفسير القرآن آية فآية بالطريقة التي يمارسها التفسير التجزيئي ، بل يحاول القيام بالدراسة القرآنية لموضوع من موضوعات الحياة العقائدية أو الاجتماعية أو الكونية فيبين ويبحث ويدرس ، مثلا عقيدة التوحيد في القرآن أو يبحث عن النبوة في القرآن أو عن المذهب الاقتصادي في القرآن أو عن سنن التاريخ في القرآن أو عن السماوات والأرض في القرآن الكريم وهكذا.
المدرسة القرآنية
_ 5 _
ويستهدف التفسير التوحيدي الموضوعي من القيام بهذه الدراسات تحديد موقف نظري للقرآن الكريم وبالتالي للرسالة الإسلامية من ذلك الموضوع من موضوعات الحياة
أو الكون.
وينبغي أن يكون واضحا أن الفصل بين الاتجاهين المذكورين ليس حديا على مستوى الواقع العملي والممارسة التاريخية لعملية التفسير لان الاتجاه الموضوعي بحاجة
طبعاً إلى تحديد المدلولات التجزيئية في الآيات التي يريد التعامل معها ضمن اطار الموضوع الذي يتبناه ، كما أن الاتجاه التجزيئي قد يعثر في أثناء الطريق بحقيقة
قرآنية من حقائق الحياة الأخرى ، ولكن الاتجاهين على أي حال يظلان على الرغم من ذلك مختلفين في ملامحهما واهدافهما وحصيلتهما الفكرية.
ومما ساعد على شيوع الاتجاه التجزيئي للتفسير وسيطرته على الساحة قرونا عديدة ، النزعة الروائية والحديثية للتفسير ، حيث أن التفسير لم يكن في الحقيقة وفي
البداية إلاّ شعبة من الحديث بصورة أو بأخرى وكان الحديث هو الأساس الوحيد تقريبا ، مضافا إلى بعض المعلومات اللغوية والأدبية والتاريخية ، كان هو الأساس الوحيد مضافاً إلى بعض هذه المعلومات التي يعتمد عليها التفسير طيلة فترة طويلة من الزمن.
ومن هنا لم يكن بإمكان تفسير يقف عند حدود المأثور من الروايات عن الصحابة والتابعين وعن الرسول والائمة ، الروايات التي كانت تثيرها استفهامات عقلية على الأغلب من قبل الناس ، من قبل السائلين لم يكن بإمكان تفسير يعتمد على هذه الروايات التي تستثار من قبل
المدرسة القرآنية
_ 6 _
أسئلة عقلية من هذا القبيل ، لم يكن بإمكانه أن يتقدم خطوة أخري وأن يحاول تركيب مدلولات القرآن والمقارنة بينها واستخراج النظرية من وراء هذه المدلولات
اللفظية.
التفسير كان بطبعه تفسيرا لفظيا تفسيرا للمفردات لما استبدل من المفردات وشرح بعض المستجد من المصطلحات وتطبيق بعض المفاهيم على أسباب النزول ومثل هذه العملية لم يكن بإمكانها أن تقوم بدور اجتهادي مبدع ، في التوصل إلى ما وراء المدلول اللغوي واللفظي التوصل إلى الأفكار الأساسية التي حاول القرآن الكريم ان يعطيها من خلال المتناثر من آياته الشريفة.
ويمكننا ان نقرب إلى اذهانكم فكرة هذين الاتجاهين المختلفين في تفسير القرآن الكريم بمثال من تجربتكم الفقهية ، فالفقه هو بمعنى من المعاني تفسير للأحاديث الواردة عن النبي والائمة (ع) ونحن نعرف من البحث الفقهي ان هناك كتبا فقهية شرحت الأحاديث حديثا حديثا ، تناولت كل حديث وشرحته ، وتكملت عنه دلالة أو سندا أو
متناً ، أو دلالة وسندا ومتنا ، على اختلاف اتجاهات الشراح.
كما نجد ذلك في شراح الكتب الأربعة وشراح الوسائل ، غير ان القسم الأعظم من الكتب الفقهية والدراسات العلمية في هذا المجال لم تتجه هذا الاتجاه بل صنفت البحث إلى مسائل وفقا لوقائع الحياة وجعلت في إطار كل مسألة الأحاديث التي تتصل بها وفسرتها
بالقدر الذي يلقي ضوءاً على تلك المسألة ويؤدي إلى تحديد موقف الإسلام من تلك الواقعة التي تفترضها المسألة المذكورة وهذا هو الاتجاه الموضوعي على الصعيد الفقهي ، بينما ذاك هو الاتجاه التجزيئي في تفسير الأحاديث على هذا الصعيد.
المدرسة القرآنية
_ 7 _
كتاب الجواهر في الحقيقة شرح كامل شامل لروايات الكتب الأربعة ولكنه ليس شرحا يبدأ بالكتب الأربعة روآية روآية وإنما يصنف روايات الكتب الأربعة وفقا للحياة ،
وفقا لمواضيع الحياة ، كتاب البيع ، كتاب الجعالة ، كتاب إحياء الموات ، كتاب النكاح ، ثم يجمع تحت كل عنوان من هذه العناوين الروايات التي تتصل بذلك الموضوع ويشرحها ويقارن فيما بينها يخرج بنظرية لأنه لا يكتفي بأن يفهم معنى هذه الروآية فقط بصورة متفردة ، ومعنى هذه الروآية بصورة منفردة إذ مع هذه الحالة من الفردية لا يمكن أن يصل إلى الحكم الشرعي ، وإنما يصل إلى الحكم الشرعي عن طريق دراسة مجموعة من الروايات التي تحمل مسؤولية توضيح حكم واحد أو باب واحد من أبواب الحياة ، ثم عن طريق هذه الدراسة الشاملة يستخرج نظرية واحدة التي تعطى من قبل مجموعة من الروايات لا من قبل روآية روآية.
هذا هو الاتجاه الموضوعي عن شرح الأحاديث.
ومن خلال المقارنة بين الدراسات القرآنية والدراسات الفقهية نلاحظ اختلاف مواقع الاتجاهين على الصعيدين فبينما انتشر الاتجاه الموضوعي والتوحيدي على الصعيد
الفقهي وما خطا الفقه والفكر الفقهي خطوات في مجال نموه وتطوره حتى ساد هذا الاتجاه جل البحوث الفقهية ، نجد أن العكس هو الصحيح على الصعيد القرآني حيث سيطر الاتجاه التجزيئي
المدرسة القرآنية
_ 8 _
للتفسير على الساحة عبر ثلاثة عشر قرنا تقريبا ، إذ كان كل مفسر يبدأ كما بدأ سلفه فيفسر القرآن آية آية.
إذن الاتجاه الموضوعي هو الذي سيطر على الساحة الفقهية بينما الاتجاه التجزيئي هو الذي سيطر على الساحة القرآنية.
وأما ما ظهر على الصعيد القرآني من دراسات تسمى بالتفسير الموضوعي أحيانا من قبيل دراسات بعض المفسرين حول موضوعات معينة تتعلق بالقرآن الكريم كأسباب النزول أو القراءات أو الناسخ والمنسوخ أو مجازات القرآن فليست من التفسير التوحيدي والموضوعي بالمعنى الذي نريده فإن هذه الدراسات ليست في الحقيقة إلاّ تجميعا عدديا لقضايا من التفسير التجزيئي لوحظ فيما بينها شي من التشابه وفي كلمة أخرى ليست كل عملية تجميع أو عزل دراسة موضوعية ، وإنما الدراسة الموضوعية هي التي تطرح موضوعا من موضوعات الحياة العقائدية أو الاجتماعية أو الكونية وتتجه إلى درسه وتقييمه من زاوية قرآنية للخروج بنظرية قرآنية بصدده.
واكثر ظني ان الاتجاه التوحيدي والموضوعي في الفقه بامتداده وانتشار ساعد بدرجة كبيرة على تطوير الفكر الفقهي وإثراء الدراسات العلمية في هذا المجال بقدر ما
ساعد انتشار الاتجاه التجزيئي في التفسير على إعاقة الفكر الإسلامي القرآني عن النمو المكتمل وساعد على اكتسابه حالة تشبه الحالات التكرارية حتى نكاد نقول ان قرونا من الزمن متراكمة مرت بعد تفاسير الطبري والرازي والشيخ الطوسي ، لم يحقق فيها الفكر الإسلامي مكاسب حقيقية جديدة ، وظل التفسير ثابتا لا يتغير إلاّ قليلا خلال تلك القرون على الرغم من ألوان التغير التي حفلت بها الحياة في مختلف الميادين وسوف يتضح إن شاء اللّه تعالى من خلال المقارنة بين الاتجاهين : الاتجاه التجزيئي والاتجاه التوحيدي ، السبب والسر الذي يكمن وراء هذه الظاهرة.
المدرسة القرآنية
_ 9 _
لماذا كانت الطريقة التجزيئية عاملاً في إعاقة النمو ؟ ولماذا تكون الطريقة الموضوعية والاتجاه التوحيدي عاملا في النمو والإبداع وتوسيع نطاق حركة الاجتهاد ؟ لكي نعرف لماذا كان هذا ولماذا كان ذاك ؟ يجب أن نكوّن انطباعات أوضح وأكثر تحديدا عن هذين الاتجاهين : الاتجاه التجزيئي ، والاتجاه التوحيدي ، وإنما يتضح ذلك بعد أن نشرح بعض أوجه الاختلاف بين الاتجاهين ، ويمكن توضيح بعض أوجه الاختلاف بين هذين الاتجاهين التفسيريين فيما يلي :
أولاً : إن المفسر التجزيئي دوره في التفسير على الأغلب سلبي فهو يبدأ أولا بتناول النص القرآني المحدد آية مثلا أو مقطعاً قرآنيا دون أي افتراضات أو مطروحات مسبقة ويحاول أن يحدد المدلول القرآني على ضوء ما يسعفه به اللفظ مع ما يتاح له من القرائن المتصلة والمنفصلة ، العملية في طابعها العام ، عملية تفسير نص معين
وكأن دور النص فيها دور المتحدث ودور المفسر هو الإصغاء والتفهم وهذا ما نسميه بالدور السلبي ، المفسر هنا شغله أن يستمع لكن بذهن مضي ، بفكر صاف ، بروح محيطة بآداب اللغة وأساليبها ، في التعبير بمثل هذه الروح ، بمثل هذه الذهنية وبمثل هذا الفكر يجلس بين يدي القرآن ليستمع فهو ذو دور سلبي والقرآن ذو دور إيجابي والقرآن يعطي حينئذ وبقدر ما يفهم هذا المفسر من مدلول اللفظ يسجل في تفسيره.
المدرسة القرآنية
_ 10 _
وخلافا لذلك المفسر التوحيدي والموضوعي فانه لا يبدأ عمله من النص بل من واقع الحياة يركز نظره على موضوع من موضوعات الحياة العقائدية أو الاجتماعية أو
الكونية ويستوعب ما اثارته تجارب الفكر الإنساني حول ذلك الموضوع من مشاكل وما قدمه الفكر الإنساني من حلول ، وما طرحه التطبيق التاريخي من أسئلة ومن نقاط فراغ ثم يأخذ النص القرآني ، لا ليتخذ من نفسه بالنسبة إلى النص دور المستمع والمسجل فحسب ، بل ليطرح بين يدي النص موضوعا جاهزا مشرباً بعدد كبير من الأفكار والمواقف البشرية ويبدأ مع النص القرآني حواراً سؤال وجواب ، المفسر يسأل والقرآن يجيب ، المفسر على ضوء الحصيلة التي استطاع ان يجمعها من خلال التجارب البشرية الناقصة من خلال أعمال الخطأ والصواب التي مارسها المفكرون على الأرض لابد وان يكون قد جمع حصيلة ترتبط بذلك الموضوع ثم ينفصل عن هذه الحصيلة ليأتي ويجلس بين يدي القرآن الكريم لا يجلس ساكتاً ليستمع فقط بل يجلس محاوراً ، يجلس سائلاً ومستفهماً ومتدبراً فيبدأ مع النص القرآني حواراً حول هذا الموضوع ، وهو يستهدف من ذلك ان يكتشف موقف القرآن الكريم من الموضوع المطروح والنظرية التي بإمكانه أن يستلهمها من النص ، من خلال مقارنة هذا النص بما
استوعبه الباحث عن الموضوع من أفكار واتجاهات.
ومن هنا كانت نتائج التفسير الموضوعي نتائج مرتبطة دائما بتيار التجربة البشرية لأنها تمثل المعالم والاتجاهات القرآنية لتحديد النظرية الإسلامية بشأن موضوع من مواضيع الحياة.
المدرسة القرآنية
_ 11 _
ومن هنا أيضاً كانت عملية التفسير الموضوعي عملية حوار مع القرآن الكريم واستنطاق له ، وليست مجرد استجابة سلبية بل استجابة فعالة وتوظيفا هادفا للنص القرآني
في سبيل الكشف عن حقيقة من حقائق الحياة الكبرى.
قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وهو يتحدث عن القرآن الكريم (ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق ولكن أخبركم عنه ، إلاّ ان فيه علم ما يأتي والحديث عن الماضي
ودواء دائكم ونظم ما بينكم) (1) التعبير بالاستنطاق الذي جاء في كلام ابن القرآن ( عليه السلام ) أروع تعبير عن عملية التفسير الموضوعي بوصفها حواراً مع القرآن الكريم وطرحا للمشاكل الموضوعية عليه بقصد الحصول على الإجابة القرآنية عليها.
إذن فأول اوجه الاختلاف الرئيسية بين الاتجاه التجزيئي في التفسير والاتجاه الموضوعي في التفسير ان الاتجاه التجزيئي يكون دور المفسر فيه دورا سلبيا يستمع ويسجل بينما التفسير الموضوعي ليس هذا معناه وليس هذا كنهه وإنما وظيفة التفسير الموضوعي دائما في كل مرحلة وفي كل عصر ان يحمل المقولات التي تعلمها في تجربته البشرية ثم يضعها بين يدي القرآن الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ليحكم على هذه الحصيلة بما يمكن لهذا المفسر ان يفهمه ان يستشفه ان يتبينه من خلال مجموعة آياته الشريفة.
--------------------
(1) نهج البلاغة خطبة : 158
المدرسة القرآنية
_ 12 _
أذن فهنا يلتحم القرآن مع الواقع ، يلتحم القرآن مع الحياة ، لان التفسير يبدأ من الواقع وينتهي إلى القرآن لا انه يبدأ من القرآن وينتهي بالقرآن وينتهي بالقرآن فتكون عملية منعزلة عن الواقع منفصلة عن تراث التجربة البشرية بل هذه العملية تبدأ من الواقع وتنتهي بالقرآن بوصفه القيم والمصدر الذي يحدد على ضوئه الاتجاهات الربانية بالنسبة إلى ذلك الواقع.
ومن هنا تبقى للقرآن حينئذ قدرته على القيمومة دائماً قدرته على العطاء المستجد دائماً قدرته على الإبداع لان المسألة هنا ليست مسألة تفسير لفظ فان طاقات التفسير اللغوي ليست طاقات لا متناهية بينما القرآن الكريم دلت الروايات على انه لا ينفد وصرح القرآن الكريم بأن كلمات اللّه لا تنفد ، القرآن الكريم عطاء لا ينفد بينما التفسير اللغوي ينفد لان اللغة لها طاقات محدودة ، وليس هناك تجدد في المدلول اللغوي ، ولو وجد لغة أخرى بعد القرآن لا معنى لان يفهم القرآن من خلال لغة جديدة أو
مصطلحات جديدة أو ألفاظ تحمل مدلولات وضعية استهدفت بعد القرآن.
إذن هذا العطاء الذي لا ينفد للقرآن ، هذه المعاني التي لا تنتهي للقرآن التي نص عليها القرآن نفسه ، ونصحت عليه أحاديث أهل البيت عليهم الصلاة والسلام ، هذه
الحالة من عدم النفاد ، تكمن في هذا المنهج ، منهج التفسير الموضوعي لأننا نستنطق القرآن وان في القرآن علم ما كان وعلم ما يأتي لان في القرآن دواء دائنا ، لان في
المدرسة القرآنية
_ 13 _
القرآن نظم ما بيننا ، ولان في القرآن ما يمكن ان نستشف منه مواقف السماء تجاه تجربة الأرض.
فمن هنا كان التفسير الموضوعي قادرا على ان يتطور على ان ، ينمو على ان يثرى لان التجربة البشرية تثريه والدرس القرآني والتأمل القرآني على ضوء التجربة
البشرية يجعل هذا الثراء محمولا إلى فهم إسلامي قرآني صحيح.
والحمد لله رب العالمين.
اعوذ باللّه من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وافضل الصلوات على سيد الخلق الميامين من آله الطاهرين محمد وعلى الهداة.
استعرضنا فيما سبق المبررات الموضوعية والفكرية لإيثار التفسير الموضوعي التوحيدي على التفسير التجزيئي التقليدي باعتبار أن التفسير الموضوعي أغنى عطاء
واكثر قدرة على التحرك والإبداع وعلى تحديد المواقف النظرية الشاملة للقرآن الكريم.
الآن أود أن أذكر مبررا عمليا وهو ان شوط التفسير التقليدي شوط طويل جدا لأنه يبدأ يبدأ من الفاتحة وينتهي بسورة الناس وهذا الشوط الطويل بحاجة من أجل اكماله
إلى فترة زمنية طويلة أيضاً.
ولهذا لم يحظ من علماء الإسلام الأعلام إلاّ عدد محدود بهذا الشرف العظيم ، شرف مرافقة الكتاب الكريم من بدايته إلى نهايته.
ونحن نشعر بأن هذه الأيام المحدودة المتبقية لا تفي بهذا الشوط الطويل ولهذا كان من الأفضل اختيار أشواط أقصر لكي نستطيع ان نكمل بضعة أشواط من هذه الجولات
في رحاب القرآن الكريم.
المدرسة القرآنية
_ 15 _
من هنا سوف نختار موضوعات متعددة في القرآن الكريم ونستعرض ما يتعلق بذلك الموضوع وما يمكن أن يلقي عليه القرآن من أضواء ، وسوف نحاول أن يكون البحث مضغوطاً بقدر الإمكان لكي نستطيع أن نصل إلى عدد من المواضيع المهمة ، فنقتصر على الأفكار الأساسية والمبادئ الرئيسية بالنسبة إلى كل موضوع وسوف أحرص على أن لا يستوعب كل موضوع إلاّ عددا محدوداً من المحاضرات.
أرجو أن يكون بين خمس إلى عشر محاضرات لكي نستطيع أن نستوعب مواضيع متنوعة من القرآن الكريم ... الآن نوجه هذا السؤال :
ما هو الموضوع الأول الذي سوف نبدأ به الآن إنشاء اللّه تعالى ؟
الموضوع الأول الذي سوف نختاره للبحث هو (سنن التاريخ في القرآن الكريم) ، هل للتاريخ البشري سنن في مفهوم القرآن الكريم ؟ هل له قوانين تتحكم في مسيرته وفي حركته وتطوره ؟ ما هي هذه السنن التي تتحكم في التاريخ البشري ؟ كيف بدأ التاريخ البشري ؟ كيف نما ؟ كيف تطور ؟ ما هي العوامل الأساسية في نظرية
التاريخ ؟ ما هو دور الإنسان في عملية التاريخ ؟ ما هو موقع السماء أو النبوة على الساحة البشرية ؟ هذا كله ما سوف ندرسه تحت هذا العنوان ، عنوان سنن التاريخ في القرآن الكريم ، وهذا الجانب من القرآن الكريم قد بحث الجز الأعظم من مواده ومفرداته القرآنية لكن من زوايا مختلفة ، فمثلا قصص الأنبياء (ع) التي تمثل الجزء الأعظم من هذه المادة القرآنية.
فحصت قصص الأنبياء من زوآية تاريخية تناولها المؤرخون واستعرضوا الحوادث والوقائع التي تكلم عنها القرآن الكريم.
وحينما لاحظوا الفراغات التي تركها هذا الكتاب العزيز ، حاولوا ان يملؤا هذه الفراغات بالروايات والأحاديث ، أو بما هو المأثور عن أديان سابقة ، أو بالأساطير والخرافات فتكونت سجلات ذات طابع تاريخي لتنظيم هذه المادة القرآنية ، كذلك أيضاً بحثت هذه المادة القرآنية من زاوية أخرى ، من زاوية منهج القصة في القرآن ، مدى ما يتمتع به هذا المنهج من أصالة وقوة وإبداع ، ما تزخر به القصة القرآنية من حيوية ، من حركة ، من أحداث ، هذه أيضاً زاوية أخرى للبحث في هذه المادة تضاف إلى زوايا أخرى ، من زاوية مقدار متلقي هذه المادة من أضواء على سنن التاريخ ، على تلك الضوابط والقوانين والنواميس التي تتحكم في عملية التاريخ إذا كان يوجد في مفهوم القرآن شي من هذه النواميس والضوابط والقوانين.
المدرسة القرآنية
_ 16 _
الساحة التاريخية كأي ساحة أخرى زاخرة بمجموعة من الظواهر كما ان الساحة الفلكية ، الساحة الفيزيائية ، الساحة النباتية زاخرة بمجموعة من الظواهر ، كذلك
الساحة التاريخية بالمعنى الذي سوف يفصل من التاريخ إنشاء اللّه بعد ذلك ، زاخرة بمجموعة من الظواهر ، كما ان الظواهر في كل ساحة أخرى من الساحات لها سنن
ولها نواميس ، من حقنا أن نتسأل :
هل هذه الظواهر أيضاً ذات سنن وذات نواميس ؟ وما موقف القرآن الكريم من هذه السنن والنواميس ؟ وما هو عطاؤه في مقام تأكيد هذا المفهوم ايجابا أو سلبا ، أجمالا أو تفصيلا ؟ وقد يخيل إلى بعض الأشخاص ، إننا لا ينبغي ان نترقب من القرآن الكريم أن يتحدث عن سنن التاريخ ، لان البحث في سنن التاريخ بحث علمي كالبحث في سنن الطبيعة والذرة والنبات.
والقرآن الكريم لم ينزل كتاب اكتشاف بل كتاب هدآية ، القرآن الكريم لم يكن كتابا مدرسيا ، لم ينزل على رسول اللّه (ص) بوصفه معلما بالمعنى التقليدي من المعلم لكي يدرس مجموعة من المتخصصين والمثقفين ، وإنما نزل هذا الكتاب عليه لكي يخرج الناس من الظلمات إلى النور ، من ظلمات الجاهلية إلى نور الهدآية والإسلام ، إذن فهو كتاب هدآية وتغيير وليس كتاب اكتشاف.
ومن هنا لا نترقب من القرآن الكريم ان يكشف لنا الحقائق والمبادئ لعامة للعلوم الأخرى ولا نترقب من القرآن الكريم ان يتحدث لنا عن مبادئ الفيزياء أو الكيمياء أو النبات أو الحيوان ، صحيح أن في القرآن الكريم إشارات إلى كل ذلك ، ولكنها إشارات بالحدود التي تؤكد على البعد الإلهي للقرآن ، وبقدر ما يمكن أن يثبت العمق الرباني لهذا الكتاب الذي أحاط
المدرسة القرآنية
_ 17 _
بالماضي والحاضر والمستقبل والذي استطاع أن يسبق التجربة البشرية مئات السنين في مقام الكشف عن حقائق متفرقة من الميادين العلمية المتفرقة ، لكن هذه الإشارات القرآنية إنما هي لأجل غرض علمي من هذا القبيل لا من أجل تعليم الفيزياء والكيمياء ، القرآن لم يطرح نفسه بديلا عن قدرة الإنسان الخلاقة ، عن مواهبه وقابلياته في مقام الكدح ، الكدح في كل ميادين الحياة بما في ذلك ميدان المعرفة والتجربة ، القرآن لم يطرح نفسه بديلا عن هذه الميادين ، وإنما طرح نفسه طاقة روحية موجهة للإنسان ، مفجرة طاقاته ، محركة له في المسار الصحيح ، فإذا صار القرآن الكريم كتاب هدآية وتوجيه وليس كتاب اكتشاف وعلم فليس من الطبيعي أن نترقب منه استعراض مبادئ عامة لكل واحد من هذه العلوم التي يقوم الفهم البشري بمهمة التوغل في اكتشاف نواميسها وقوانينها وضوابطها.
لماذا ننتظر من القرآن الكريم أن يعطينا عموميات ، أن يعطينا مواقف ، أن يبلور له مفهوما علميا في سنن التاريخ على هذه الساحة من ساحات الكون بينما ليس للقرآن مثل ذلك على الساحات الأخرى ، ولا حرج على القرآن لو صار في مقام استعراض هذه القوانين ، وكشف هذه الحقائق لكان بذلك يتحول إلى كتاب أخر نوعيا ، يتحول من كتاب للبشرية جمعاء إلى كتاب للمتخصصين يدرس في الحلقات الخاصة ، قد يلاحظ بهذا الشكل على اختيار هذا الموضوع إلاّ ان هذه الملاحظة رغم ان الروح العامة فيها صحيحة بمعنى أن القرآن الكريم ليس كتاب اكتشاف ، ولم يطرح نفسه ليجمد في الإنسان طاقات النمو والإبداع والبحث ، وإنما هو كتاب هدآية ، ولكن مع هذا يوجد فرق جوهري بين الساحة التاريخية وبقية ساحات الكون ، هذا الفرق الجوهري يجعل من هذه الساحة ومن سنن هذه الساحة أمرا مرتبط أشد الارتباط بوظيفة القرآن ككتاب هدآية ، خلافا لبقية الساحات الكونية والميادين الأخرى للمعرفة البشرية ، وذلك أن القرآن الكريم كتاب هدآية وعملية تغيير هذه العملية التي عبر عنها في القرآن الكريم بأنها إخراج للناس من الظلمات إلى النور.
المدرسة القرآنية
_ 18 _
وعملية التغيير هذه فيها جانبان :
(الجانب الأول) جانب المحتوى والمضمون ما تدعو إليه هذه العملية التغييرية من أحكام ، من مناهج ، ما تتبناه من تشريعات ، هذا الجانب من عملية التغيير جانب رباني ، جانب إلهي سماوي ، هذا الجانب يمثل شريعة اللّه سبحانه وتعالى التي نزلت على النبي محمد (ص) وتحدث بنفس نزولها عليه كل سنن التاريخ المادية لان هذه الشريعة كانت اكبر من الجو الذي نزلت عليه ، ومن البيئة التي حلت فيها ، ومن الفرد الذي كلف بأن يقوم بأعباء تبليغها.
هذا الجانب من عملية التغيير ، جانب المحتوى والمضمون ، جانب التشريعات والأحكام والمناهج التي تدعو إليها هذه العملية ، هذا الجانب جانب رباني إلهي ، لكن هناك جانب آخر
لعملية التغيير التي مارسها النبي(ص) وأصحابه الأطهار ، هذه العملية حينما تلحظ بوصفها عملية متجسدة في جماعة من الناس وهم النبي والصحابة ، بوصفها عملية
اجتماعية متجسدة في هذه الصفوة ، وبوصفها عملية اجتماعية متجسدة في هذه الصفوة ، وبوصفها عملية قد واجهت تيارات اجتماعية مختلفة من حولها واشتبكت معها في ألوان من الصراع والنزاع العقائدي والاجتماعي والسياسي والعسكري ، حينما تؤخذ هذه العملية التغييرين بوصفها تجسيدا بشريا واقعاً على الساحة التاريخية مترابطا مع الجماعات والتيارات الأخرى التي تكتنف هذا التجسيد والتي تؤيد أو تقاوم هذا التجسيد ، حينما تؤخذ العملية من هذه الزاوية تكون عملية بشرية ، يكون هؤلاء أناسا كسائر الناس تتحكم فيهم إلى درجة كبيرة سنن التاريخ التي تتحكم في بقية الجماعات وفي بقية الفئات على مر الزمن.
المدرسة القرآنية
_ 19 _
إذن عملية التغيير التي مارسها القرآن و مارسها النبي (ص) لها جانبان من حيث صلتها بالشريعة وبالوحي ، هي ربانية ، هي فوق التاريخ ولكن من حيث كونها عملا
قائما على الساحة التاريخية ، من حيث كونها جهدا بشريا يقاوم جهودا بشرية أخرى ، من هذه الناحية يعتبر هذا عملا تاريخيا تحكمه سنن التاريخ وتتحكم فيه الضوابط
التي وضعها اللّه سبحانه وتعالى لتنظيم ظواهر الكون في هذه الساحة المسماة بالساحة التاريخية ولهذا نرى ان القرآن الكريم حينما يتحدث عن الزاوية الثانية ، عن
الجانب الثاني من عملية التغيير يتحدث عن أناس ، يتحدث عن بشر ، لا يتحدث عن رسالة السماء ، بل يتحدث عنهم بوصفهم بشرا من البشر تتحكم فيهم القوانين التي
تتحكم في الآخرين حينما أراد أن يتحدث عن انتصار المسلمين في غزوة أحد بعد ان أحرزوا ذلك الانتصار الحاسم في غزوة بدر ، بعد ذلك انكسروا وخسروا المعركة في غزوة أحد ، تحدث القرآن الكريم عن هذه الخسارة ، ماذا قال ؟ هل قال بأن رسالة السماء خسرت المعركة بعد ان كانت ربحت المعركة ؟ لا ... لان رسالة السماء فوق مقاييس النصر والهزيمة بالمعنى المادي ، رسالة السماء لا تهزم ، ولن تهزم أبدا ، ولكن الذي يهزم هو الإنسان ، الإنسان حتى ولو كان هذا الإنسان مجسداً لرسالة السماء ، لان هذا الإنسان تتحكم فيه سنن التاريخ ، ماذا قال القرآن ؟ قال ( وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ) (1).
هنا أخذ يتكلم عنهم بوصفهم أناسا قال بأن هذه القضية هي في الحقيقة ترتبط بسنن التاريخ ، المسلمون انتصروا في بدر حينما كانت الشروط الموضوعية للنصر بحسب منطق سنن التاريخ تفرض أن ينتصروا ، وخسروا المعركة في أحد حينما كانت الشروط الموضوعية في معركة أحد تفرض عليهم أن يخسروا المعركة ، ( إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ )(2) لاتتخيلوا أن النصر حق إلهي لكم ، وإنما النصر حق طبيعي لكم بقدر ما يمكن أن توفروا الشروط الموضوعية لهذا النصر بحسب منطق سنن التاريخ التي وضعها اللّه سبحانه وتعالى كونيا لاتشريعيا ، وحيث أنكم في غزوة أحد لم تتوفر لديكم هذه الشروط ولهذ
--------------------
(1) سوره آل عمران آية : 140 .
(2) نفس الآية السابقة.
المدرسة القرآنية
_ 20 _
خسرتم المعركة ، فالكلام هنا كلام مع بشر ، مع عملية بشرية لامع رسالة ربانية ، بل يذهب القرآن إلى اكثر من ذلك ، يهدد هذه الجماعة البشرية التي كانت انظف
واطهر جماعة على مسرح التاريخ ، يهددهم بأنهم إذا لم يقوموا بدورهم التاريخي ، وإذا لم يكونوا على مستوى مسؤولية رسالة السماء فإن هذا لا يعني ان تتعطل رسالة
السماء ، ولا يعني أن تسكت سنن التاريخ عنهم بل انهم سوف يستبدلون ، سنن التاريخ سوف تعزلهم وسوف تأتي بأمم أخرى قد تهيأت لها الظروف الموضوعية الأفضل لكي تلعب هذا الدور ، لكي تكون شهيدة على الناس إذا لم تتهياء لهذه الأمة الظروف الموضوعية لهذه الشهادة ( إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )(1)( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ... )(2) إذن فالقرآن الكريم إنما يتحدث مع الجانب الثاني من عملية التغيير ، يتحدث مع البشر في ضعفه وقوته ، في استقامته وانحرافه ، في توفر الشروط الموضوعية له وعدم توفرها.
من هنا يظهر بان البحث في سنن التاريخ مرتبط ارتباطا عضويا شديدا بكتاب اللّه بوصفه كتاب هدى ، بوصفه اخراج للناس من الظلمات إلى النور لان الجانب العملي
من هذه العملية ، الجانب البشري والتطبيقي من جانب هذه العملية جانب يخضع لسنن التاريخ ، فلابد إذن ان نستلهم ، ولابد إذن ان يكون للقرآن الكريم تصورات
وعطاءات في هذا المجال لتكوين إطار عام للنظرة القرآنية والإسلامية عن سنن التاريخ.
--------------------
(1) سورة التوبة آية : 39.
(2) سورة المائدة آية : 54.
المدرسة القرآنية
_ 21 _
إذن هذا لا يشبه سنن الفيزياء والكيمياء والفلك والحيوان والنبات ، تلك السنن ليست داخلة في نطاق التأثير المباشر على عملية التاريخ ولكن هذه السنن داخلة في نطاق التأثير المباشر على عملية التغيير ، باعتبار الجانب الثاني ، إذن لابد من شرح ذلك ولابد ان نترقب من القرآن اعطاء عموميات في ذلك ، نعم لا ينبغي ان نترقب من
القرآن ان يتحول أيضاً إلى كتاب مدرسي في علم التاريخ وسنن التاريخ بحيث يستوعب كل التفاصيل وكل الجزئيات حتى ما لا يكون له دخل في منطق عملية التغيير التي مارسها النبي (ص) وإنما القرآن الكريم يحتفظ دائما بوصفه الأساسي والرئيسي ، يحتفظ بوصفه كتاب هدآية ، كتاب اخراج للناس من الظلمات إلى النور ، وفي حدود هذه المهمات الكبيرة العظيمة التي مارسها في صدور هذه المهمة يعطي مقولاته على الساحة التاريخية ويشرح سنن التاريخ بالقدر الذي يلقي ضوءاً على عملية التغيير التي مارسها النبي (ص) بقدر ما يكون موجها وهاديا وخالقا لتبصّر موضوعي للأحداث والظروف والشروط.
ونحن في القرآن الكريم نلاحظ أن هذه الحقيقة حقيقة ان للتاريخ سنناً ان الساحة التاريخية عامرة بسنن كما عمرت كل الساحات الكونية الأخرى بسنن.
هذه الحقيقة نراها واضحة في القرآن الكريم ، فقد بيّنت هذه الحقيقة في آيات أخرى على مستوى عرض هذه القوانين وبيان مصادق ونماذج وأمثلة من هذه القوانين التي تتحكم في المسيرة التاريخية للإنسان وبيّنت في سياق آخر على نحو تمتزج فيه النظرية أي بيّن المفهوم الكلي وبيّن في إطار مصداق ، وفي آيات أخرى حصل الحث
الأكيد على الاستفادة من الحوادث الماضية وشحذ الهمم لإيجاد عملية استقراء للتاريخ ، وعملية الاستقراء للحوادث كما تعلمون هي عملية علمية بطبيعتها ، تريد أن
تفتش عن سنة ، عن قانون ، وإلا فلا معنى للاستقراء من دون افتراض سنة أو قانون.
إذن هناك السنة متعددة درجت عليها الآيات القرآنية في مقام توضيح هذه
الحقيقة وبلورتها.
المدرسة القرآنية
_ 22 _
اعوذ باللّه من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى اللّه على محمد وآله الميامين الطاهرين.
قلنا ان هذه الفكرة القرآنية عن سنن التاريخ ، بلورت في عدد كثير من الآيات بأشكال مختلفة وألسنة متعددة في بعض هذه الآيات اعطيت الفكرة بصيغتها الكلية ، وفي بعض الآيات اعطيت الفكرة بصيغتها الكلية ، وفي بعض الآيات اعطيت على مستوى التطبيق على مصاديق ونماذج ، في بعض الآيات وقع الحث على الاستقراء وعلى الفحص الاستقرائي للشواهد التاريخية ، من اجل الوصول إلى السنة التاريخية.
وهناك عدد كثير من الآيات الكريمة استعرضت هذه الفكرة بشكل وآخر ، وسوف نقرأ جملة من هذه الآيات الكريمة ، وبعض هذه الآيات التي سوف نستعرضها واضح
الدلالة على المقصود ، والبعض الآخر له نحو دلالة بشكل وآخر أو يكون معززاً ومؤيداً للروح العامة لهذه الفكرة القرآنية.
فمن الآيات الكريمة التي اعطيت فيها الفكرة الكلية ، فكرة ان التاريخ له سنن وله ضوابط مايلي :
المدرسة القرآنية
_ 23 _
( لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ )(1)( لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ )(2).
نلاحظ في هاتين الآيتين الكريمتين ، أن الأجل أضيف إلى الأمة ، إلى الوجود المجموعي للناس ، لا إلى هذا الفرد بالذات أو هذا الفرد بالذات ، إذن هناك وراء الأجل المحدود المحتوم لكل إنسان بوصفه الفردي ، هناك أجل آخر وميقات آخر للوجود الاجتماعي لهؤلاء الأفراد ، للامة بوصفها مجتمعا ينشئ ما بين أفراد العلاقات
والصلاحيات القائمة على أساس مجموعة من الأفكار والمبادي المسندة بمجموعة من القوى والقابليات ، هذا المجتمع الذي يعبر عنه القرآن الكريم بالامة ، هذا له أجل ،
له موت ، له حياة ، له حركة ، كما أن الفرد يتحرك فيكون حيا ثم يموت كذلك الأمة تكون حية ثم تموت ، وكما أن موت الفرد يخضع لأجل ولقانون ولناموس كذلك
الأمم أيضاً لها آجالها المضبوطة.
وهناك نواميس تحدد لكل أمة هذا الاجل ، إذن هاتان الآيتان الكريمتان فيهما عطاء واضح للفكرة الكلية ، فكرة أن التاريخ له سنن تتحكم به وراء السنن الشخصية التي تتحكم في الأفراد ، بهوياتهم الشخصية :
--------------------
(1) سورة يونس آية : 49 .
(2) سورة الاعراف آية : 34 .
المدرسة القرآنية
_ 24 _
( وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ * مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ )(1) ، ( مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ )(2)( أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ )(3) ظاهرة الآية الكريمة أن الأجل الذي يترقب أن يكون قريبا أو يهدد هؤلاء بأن يكون قريباً ، هو الأجل الجماعي لا الأجل الفردي ، لان قوما بمجموعهم لا يموتون عادة في وقت واحد وإنما الجماعة بوجودها المعنوي الكلي هو الذي يمكن ان يكون قد اقترب أجله.
فالأجل الجماعي هنا يعبر عن حالة قائمة بالجماعة ، لاعن حالة قائمة بهذا الفرد أو بذاك ، لان الناس عادة تختلف آجالهم حينما ننظر إليهم بالمناظر الفردي ، لكن حينما ننظر إليهم بالمناظر الاجتماعي بوصفهم مجموعة واحدة متفاعلة في ظلمها وعدلها ، في سرّائها وضرائها ، حينئذ يكون لها أجل واحد فهذا الأجل الجماعي المشار إليه
إنما هو أجل الأمة ، وبهذا تلتقي هذه الآية الكريمة مع الآيات السابقة ( وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا * وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا )(4) ، ( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا )(5) ، في هاتين الآيتين الكريم تحدث القرآن الكريم عن أنه لو كان اللّه يريد أن يؤاخذ لناس بظلمهم ، وبما كسبوا لما ترك على ساحة الناس من دابة ، يعني لاهلك الناس جميعا.
--------------------
(1) سورة الحجر آية : 4 ـ 5.
(2) سورة المؤمنون آية : 43.
(3) سورة الاعراف آية : 185.
(4) سورة الكهف آية : 58 ـ 59.
(5) سورة فاطر آية : 45.
المدرسة القرآنية
_ 25 _
وقد وقعت مشكلة في كيفية تصوير هذا المفهوم القرآني ، حيث ان الناس ليسوا كلهم ظالمين عادة ، فيهم الأنبياء ، فيهم الأئمة فيهم الأوصياء ، هل يشمل الهلاك الأنبياء ، والائمة العدول من المؤمنين ؟ حتى ان بعض الناس استغل هاتين الآيتين لإنكار عصمة الأنبياء (ع) ، والحقيقة ان هاتين الآيتين تتحدثان عن عقاب دنيوي لا عن
عقاب أخروي ، تتحدث عن النتيجة الطبيعية لما تكسبه أمة عن طريق الظلم والطغيان ، هذه النتيجة الطبيعية لا تختص حينئذ بخصوص الظالمين من أبناء المجتمع ، بل
تعم أبناء المجتمع على اختلاف هواياتهم ، وعلى اختلاف أنحاء سلوكهم ، حينما وقع التيه على بني إسرائيل نتيجة ما كسب هذا الشعب بظلمه وطغيانه وتمرده ، هذا التيه لم يختص بخصوص الظالمين من بني إسرائيل ، وإنما شمل موسى ( عليه السلام ) شمل اطهر الناس وازكى الناس ، واشجع الناس في مواجهة الظلمة والطواغيت ، شمل موسى ( عليه السلام ) لأنه جزء من تلك الأمة وقد حلّ الهلاك بتلك الأمة قد قرر نتيجة ظلمهم ان يتيهوا أربعين عاما ، وبهذا شمل التيه موسى ( عليه السلام ) حينما حل البلاء والعذاب بالمسلمين نتيجة انحرافهم فاصبح يزيد بن معاوية خليفة عليهم يتحكم في دمائهم وأموالهم وأعراضهم وعقائدهم ، حينما حلّ هذا البلاء لم يختص بالظالمين من المجتمع الإسلامي ، وقتئذ شمل الحسين ( عليه السلام ) ، أطهر الناس وأزكى الناس واطيب الناس
وأعدل الناس ، شمل الامام المعصوم ( عليه السلام ) قتل تلك القتلة الفظيعة هو واصحابه وأهل بيته.