بسم الله الرحمن الرحيم

  وافضل الصلوات على سيد الخلق محمد و على الهداة الميامين من آله الطاهرين .
  حان الاوان لكي نتعرف على الصيغ المتنوعة التي تتخذها السنة التاريخية القرآنية.
  كيف يتم التعبير موضوعيا عن القانون التاريخي في القرآن الكريم ؟
  ما هي الاشكال التي تتخذها سنن التاريخ في مفهوم القرآن الكريم ؟
  هناك ثالثة أشكال تتخذها السنة التاريخية في القرآن الكريم ، لابد من استعراضها ومقارنتها والتدقيق في أوجه الفرق بينها.

المدرسة القرآنية _ 52 _
  الشكل الاول للسنة التاريخية هو : شكل القضية الشرطية ، في هذا الشكل تتمثل السنة التاريخية في قضية شرطية تربط بين حادثتين او مجموعتين من الحوادث على الساحة التاريخية ، وتؤكد العلاقة الموضوعية بين الشرط والجزاء ، وانه متى ما تحقق الشرط تحقق الجزاء ، وهذه صياغة نجدها في كثير من القوانين والسنن الطبيعية والكونية في مختلف الساحات الاخرى.
  فمثلاً حينما نتحدث عن قانون طبيعي لغليان الماء ، نتحدث بلغة القضية الشرطية ، نقول بأن المائ إذا تعرض إلى الحرارة وبلغت الحرارة درجة معينة مائة مثلا في مستوى معين من الغط ، حينئذ سوف يحدث الغليان ، هذا قانون طبيعى يربط بين الشرط والجزاء ويؤكد ان حالة التعرض إلى الحرارة ، ضمن مواصفات معينة تذكر في طرف الشرط تستتبع حادثد طبيعية معينة ، وهي غليان هذا الماء ، تحول هذا الماء من سائل إلى غاز ، هذا القانون مصاغ على نهج القضية الشرطية ومن الواضح ان هذا القانون الطبيعي لا ينبئنا شيئا عن تحقق الشرط وعدم تحققه ، لاينبئنا هذا القانون الطبيعي عن ان الماء هل سوف يتعرض للحرارة او لا يتعرض للحرارة ؟ هل ان حرارة الماء ترتفع إلى الدرجة المطلوبة ضمن هذا القانون او لا ترتفع ؟ هذا القانون لا يتعرض إلى مدى وجود الشرط وعدم وجوده ، ولا ينبئنا بشٍّ عن تحقق الشرط ايجابا او سلبا ، وإنما ينبئنا عن ان الجزاء لاينفك عن الشرط ، متى ما وجد الشرط بوجد الجزاء ، فالغليان نتيجة مرتبطة موضوعيا بالشرط هذا تمام ما ينبئنا عنه هذا القانون المصاغ بلغة القضية الشرطية.

المدرسة القرآنية _ 53 _
  ومثل هذه القوانين تقدم خدمة كبيرة للانسان في حياته الاعتيادية وتلعب دورا عظيما في توجيه الإنسان ، لان الإنسان ضمن تعرفه على هذه القوانين يصبح بامكانه ان يتصرف بالنسبة إلى الجزاء ، ففي كل حالة يرى انه بحاجة إلى الجزاء يعمل هذا القانون يوفر شروط هذا القانون ، ففي كل حالة يكون الجزاء متعارضا مع مصالحه ومشاعره يحاول الحيلولة دون توفر شروط هذا القانون ، متى ما كان غليان الماء مقصودا للانسان يطبق شروط هذا القانون ، ومتى لم يكن مقصودا للانسان يحاول ان لا تتطّبق شروط هذا القانون.
  اذن القانون الموضوع بنهج القضية الشرطية موجه عملي للانسان في حياته.
  ومن هنا تتجلى حكمة اللّه سبحانه وتعالى في صياغة نظام الكون على مستوى القوانين وعلى مستوى الروابط المضطردة والسنن الثابته ، لان صياغة الكون ضمن روابط مضطردة وعلاقات ثابتة هو الذي يجعل الإنسان يتعرف على موضع قدميه ، وعلى الوسائل التي يجب ان يسلكها في سبيل تكييف بيئته وحياته والوصول إلى اشباع حاجته ، لو ان الغليان في الماء كان يحدث صدفة ومن دون رابطة قانونية مضطربدة مع حادثة اخرى كالحرارة ، اذن لما استطاع الإنسان ان يتحكم في هذه الظاهرة ، ان يخلق هذه الظاهرة متى ما كانت حياته بحاجة اليها ، وان يتفاداها متى ما كانت حياته بحاجة إلى تفاديها ، إنما كان له هذه القدرة باعتبارب ان هذه الظاهرة وضعت في موضع ثابت من سنن الكون وطرح على الإنسان القانون الطبيعي بلغة القضية الشرطية فأصبح ينظر في نور لافي ظلام ويستطيع في ضوء هذا القانون الطبيعي ان يتصرف ، نفس الشي نجده في الشكل الاول من السنن التاريخية القرآنية فان عددا كبيرا من السنن التاريخية في القرآن قد تمت صياغته على شكل القضية الشرطيد التي تربط ما بين حادثتين اجتماعيتين او تاريخيتين فهي لاتتحدث عن الحادثة الأولى انها متى توجد ، ومتى لاتوجد لكن تتحدث عن الحادثة الثانية بأنه متى ما وجدت الحادثة الأولى ، وجدت الحادثة الثانية.

المدرسة القرآنية _ 54 _
  قرأنا في ماسبق استعراضا للايات الكريمة التي تدل على سنن التاريخ في القرآن : جملة من تلك الايات الكريمة مفادها هو السنة التاريخية بلغة القضية الشرطية.
  تتذكرون ما قرأناه سابقا ( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ) (1) ، هذه السنة التاريخية للقرآن والتي تقدم الكلام عنها ويأتي انشاءاللّه الحديث عن شرح محتواها ، هذه السنة التاريخية للقرآن بينت بلغة القضية الشرطية لان مرجع هذا المفاد القرآني إلى ان هناك علاقة بين تغييرين : بين تغيير المحتوى الداخلي للانسان وتغيير الوضع الظاهري للبشرية والإنسانية ، مفاد هذه العلاقد قضيد شرطية ، انه متى ما وجد ذاك التغيير في أنفس القوم وجد هذا التغيير في بناء القوم وكيان القوم ، هذه القضية قضية شرطية بيّن القانون فيها بلغة القضية الشرطية ، ( وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً ) (2).
  قلنا في ما سبق ان هذه الآية الكريمة تتحدث عن سنة من سنن التاريخ ، عن سنة تربط وفرة الانتاج بعدالة التوزيع هذه السنة أيضاً هي بلغة القضية الشرطية كما هو الواضح من صياغتها النحوية أيضاً ، ( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً ) (3).

--------------------
(1) سورة الرعد آية : 11.
(2) سورة الجن آية : 16.
(3) سورة الاسراء آية : 16.

المدرسة القرآنية _ 55 _
  ايضا سنة تاريخية بينت بلغة القضية الشرطية ربطت بين امرين ، بين تأمير الفساق والمترفين في المجتمع ، وبين دمار ذلك المجتمع وانحلاله ، هذا القانون التاريخي أيضاً مبين على نهج القضية الشرطية ، فهو لايبين انه متى يوجد الشرط ، لكن يبين متى ما وجد هذا الشرط يوجد الجزاء ، هذا هو الشكل الاول من اشكال السنة التاريخية في القرآن.
  الشكل الثاني : الذي تتخذه السنن التاريخية شكل القضية الفعلية الناجزة الوجودية المحققة.
  وهذا الشكل أيضاً نجد له امثله وشواهد في القوانين الطبيعية والكونية.
  مثلا : العالم الفلكي حينما يصدر حكما علميا على ضوء قوانين مسارات الفلك بأن الشمس سوف تنكسف في اليوم الفلاني أو أن القمر سوف ينخسف في اليوم الفلانى ، هذا قانون علمي وقضية علمية ، إلاّ أنها قضية وجودية ناجزة ، ليسست قضية شرطية ، لايملك الإنسان اتجاه هذه القضية أن يغير من ظروفها وأن يعدل من شروطها ، لانها لم تبين كلغة قضية شرطية ، وإنما بينت على مستوى القضية الفعلية الوجودية ، الشمس سوف تنكسف ، القمر سوف ينخسف ، هذه قضية فعلية تنظر إلى الزمان الاتي وتخبر عن وقوع هذه الحادثة على أي حال.
  كذلك القرارات العلمية التي تصدر عن الانواء الجوية ، المطر ينهمر على المنطقة الفلانية ، هذا أيضاً يعبر عن قضية فعلية وجودية لم تصغ بلغة القضية الشرطية ، وإنما صيغت بلغة التنجيز ، والتحقيق بلحاظ مكان معين وزمان معين هذا هو الشكل الثاني من السنن التاريخية وسوف اذكر فيما بعد انشاءاللّه تعالى عند تحليل عناصر المجتمع إلى أمثلة هذا الشكل من القرآن الكريم.

المدرسة القرآنية _ 56 _
  هذا الشكل من السنن التاريخية هو الذي أوحى في الفكر الاوروبي بتوهم التعارض بين فكرة سنن التاريخ وفكرة اختيار الإنسان وارادته ، نشاء هذا التوهم الخاطئ الذي يقول بأن فكرة سنن التاريخ لايمكن أن تجتمع إلى جانب فكرة اختيار الإنسان لان سنن التاريخ هي التي تنظم مسسار الإنسان وحياة الإنسان اذن ماذا يبقى لارادة الإنسان ؟ هذا التوهم أدى إلى أن بعض المفكرين يذهب إلى ان الإنسان له دور سلبي فقط حفاظا على سنن التاريخ وعلى موضوعية هذه السنن ، ضحّى باختيار الإنسان من أجل الحفاظ على سنن التاريخ فقال بأن الإنسان دوره دور سلبي وليس دورا ايجابيا ، يتحرك كما تتحركت الالة وفقا لظروفها الموضوعية ، ولعله يأتي بعض التفصيل أيضاً عن هذه الفكرة.
  وذهب بعض آخر في مقام التوفيق ما بين هاتين الفكرتين ولو ظاهريا إلى أن اختيار الإنسان نفسه هو أيضاً يخضع لسنن التاريخ ولقوانين التاريخ ، لانضحي باختيار الإنسان ، لكن نقول بان اختيار الإنسان لنفسه حادثة تاريخية أيضاً ، اذن هو بدوره يخضع للسنن هذه تضحية باختيار الإنسان لكن بصورة مبطنة ، بصورة غير مكشوفة.
  وذهب بعض آخر إلى التضحية بسنن التاريخ لحساب اختيار الإنسان فذهب جملة من المفكرين الاوروبيين إلى أنه ما دام الإنسان مختارا فلابد من أن تستثنى الساحة التاريخية من

المدرسة القرآنية _ 57 _
  الساحات الكونية في مقام التقنين الموضوعي ، لابد وان يقال بأنه لاسنن موضوعية للساحة التاريخية حفاظا على ارادة الإنسان وعلى اختيار الإنسان.
  وهذه المواقف كلها خاطئة لانها جميعا تقوم على ذلك الوهم الخاطئ ، وهم الاعتقاد بوجود تناقض أساسي بين مقولة السنة التاريخية ومقولة الاختيار ، وهذا التوهم نشأمن قصر النظر على السنة التاريخية المصاغة بلغة القضية الفعلية الوجودية الناجزة ، لوكنا نقصر النظر على هذا الشكل من سنن التاريخ ولو كنا نقول بأن هذا الشكل هو الذي يستوعب كل الساحة التاريخية لايبقي فراغا لذي فراغ ، لكان هذا التوهم واردا ، ولكنا يمكننا ابطال هذا التوهم عن طريق الالتفات إلى الشكل الاول من اشكال السنة التاريخية الذي تصاغ في السنة التاريخية بوصفها قضية شرطية ، وكثيرا ماتكون هذه القضية الشرطية في شرطها معبرة عن ارادة الإنسان واختيار الإنسان ، يعني ان اختيار الإنسان يمثل محور القضية الشرطية شرط القضية الشرطية اذن فالقضية الشرطية كالامثلبة التي ذكرناها من القرآن الكريم تتحدث عن علاقة بين الشرط والجزاء ، لكن ما هو الشرط ؟
  الشرط : هو فعل الإنسان ، هو ارادة الإنسان ( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ) (1) ، التغيير هنا أسند اليهم فهو فعلهم ، ابداعهم وارادتهم.
  اذن السنة التاريخية حينما تصاغ بلغة القضية الشرطية وحينما يحتل ابداع الإنسان واختياره موضوع الشرط في هذه القضية الشرطية ، في مثل هذه الحالة تصبح هذه السنة متلائمة تماما مع اختيار الإنسان ، بل إن السنة حينئذ تطغي اختيار الإنسان ، تزيده اختيارا وقدرة وتمكنا من التصرف في موقفه ، كيف أن ذلك القانون الطبيعي للغليان كان يزيد من قدرة الإنسان لانه يستطيع حينئذ ان يتحكم في الغليان بعد أن عرف شروطه وظروفه ، كذلك السنن التاريخية ذات الصيغ الشرطية ، هي في الحقيقة ليست على حساب ارادة الإنسان وليست نقيصا لاختيار الإنسان بل هي مؤكدة لاختيار الإنسان ، توضح للانسان نتائج الاختيار لكي يستطيع أن يقتبس ما يريده من هذه النتائج ، لكي يستطيع ان يتعرف على الطريق الذي يسلك به إلى هذه النتيجة او إلى تلك النتيجة فيسير على ضوء وكتاب منير.

--------------------
(1) سورة الرعد آية : 11.

المدرسة القرآنية _ 58 _
  هذا هو الشكل الثاني للسنة التاريخية.
  الشكل الثالث للسنة التاريخية : وهو شكل اهتم به القرآن الكريم اهتماما كبيرا ، هو السنة التاريخية المضاغة على صورة اتجاه طبيعي في حركة التاريخ لاعلى صورة قانون صارم حدي ، وفرق بين الاتجاه والقانون.
  ولكي تتضح الفكرة في ذلك لابد وان نطرح الفكرة الاعتيادية التي نعيشها في اذهاننا عن القانون.
  القانون العلمي كما نتصوره عادة عبارة عن تلك السنة التي لاتقبل التحدي من قبل الإنسان ، لانها قانون من قوانين الكون والطبيعة فلايمكن للانسان ان يتحداها ، أن ينقضها ، أن يخرج عن طاعتها ، يمكنه ان لا يصلي لان وجوب الصلاة حكم تشريعي وليس قانونا تكوينيا ، يمكنه أن يشرب الخمر لان حرمة شرب الخمر قانون تشريعي وليس قانونا تكوينيا ، لكنه لايمكنه ان يتحدى القوانين الكونية والسنن الموضوعية ، مثلا لايمكنه أن يجعل الماء لايغلي إذا توفرت شروط الغليان ، لايمكنه ان يتحدى الغليان ان يؤخر الغليان لحظة عن موعده المعين لان هذا قانون والقانون صارم والصرامة تأبى التحدي.
  هذه هي الفكرة التي نتصورها عادة عن القوانين وهي فكرة صحيحة إلى حد ما ، لكن ليس من الضروري ان تكون كل سنة طبيعية موضوعية على هذا الشكل بحيث تأبى التحدي ولا يمكن تحديها من قبل الإنسان بهذه الطريقة ، بل هناك اتجاهات موضوعية في حركة التاريخ وفي مسار الإنسان إلاّ ان هذه الاتجاهات لها شي من المرونة بحيث انها تقبل التحدي ولو على شوط قصير ، وان لم تقبل التحدي على شوط طويل ، لكن على الشوط القصير تقبل التحدي أنت لاتستطيع أن تؤخر موعد غليان الماء لحظة ، لكن تستطيع أن تجمد هذه الاتجاهات لحظات من عمر التاريخ لكن هذا لايعني أنها ليست اتجاهات تمثل واقعا موضوعيا في حركة التاريخ ، هي اتجاهات ولكنها مرنة تقبل التحدي لكنها تحطم المتحدي حينما يتحدى هذا المحتدي تحطمه بسنن التاريخ نفسها. ومن هنا كانت اتجاهات :

المدرسة القرآنية _ 59 _
  هناك اشياء يمكن تحديها دون ان يتحطم المتحدي ، لكن هناك اشياء يمكن ان تتحدى على شوط قصير ولكن التحدي يتحطم على يد سنن التاريخ نفسها ، هذه هي طبيعة الاتجاهات الموضوعية في حركة التاريخ.
  لكي أقرّب الفكرة اليكم نستطيع أن نقول بأن هناك اتجاها في تركيب الإنسان وفي تكوين الإنسان اتجاها موضوعيا لاتشريعيا إلى اقامة العلاقات المعينة بين الذكر والانثى في مجتمع الإنسان ضمن اطار من أطر النكاح والاتصال ، هذا الاتجاه ليس تشريعياً ليس تقنينا اعتباريا وإنما هو اتجاه موضوعي اعملت العنآية في سبيل تكوينه في مسار حركة الإنسان ، لانستطيع أن نقول إن هذا مجرد قانون تشريعي ، مجرد حكم شرعي لا وإنما هذا اتجاه ركب في طبيعة الإنسان وفي تركيب الإنسان وهو الاتجاه إلى الاتصال بين الذكر والانثى وادامة النوع عن طريق هذا الاتصال ضمن اطار من أطر النكاح الاجتماعي.
  هذه سنة لكنها سنة على مستوى الاتجاه ، لا على مستوى القانون ، لماذا ؟ لان التحدي لهذه السنة لحظة او لحظات ممكن ، أمكن لقوم لوط أن يتحدوا هذه السنة فترة من الزمن بينما لم يكن بامكانهم ان يتحدوا سنة الغليان بشكل من الاشكال ، لكنهم تحدوا هذه السنة إلاّ ان تحدي هذه السنة يؤدي إلى أن يتحطم المتحدي ، المجتمع الذي يتحدى هذه السنة يكتب بنفسه فناء نفسه لانه يتحدى ذلك عن طريق ألوان اخرى من الشذوذ التي رفضها هذا الاتجاه الموضوعي وتلك الالوان من الشذوذ تؤدي إلى فناء المجتمع والى خراب المجتمع.

المدرسة القرآنية _ 60 _
  ومن هنا كان هذا اتجاها موضوعيا يقبل التحدي على شوط قصير ، لكن لا يقبل التحدي على شوط طويل لانه سوف يحطم يحطم المتحدي نفسه.
  الاتجاه إلى توزيع الميادين بين المرأة والرجل ، هذا الاتجاه اتجاه موضوعي وليس اتجاها ناشئا من قرار تشريعي ، اتجاه ركّب في طبيعة الرجل والمرأة ، ولكن هذا الاتجاه يمكن ان يتحدى ، يمكن استصدار تشريع يفرض على الرجل بأن يبقى في البيت ليتولى دور الحضانة والتربية ، وان تخرج المرأة إلى الخارج لكي تتولى مشاق العمل والجهد ، هذا بالامكان ان يتحقق عن طريق تشريع معين وبهذا يحصل التحدي لهذا الاتجاه.
  لكن هذا التحدي سوف لن يستمر لان سنن التاريخ سوف تجيب على هذا التحدي ، لاننا بهذا سوف نخسر ونجمد كل تلك القابليات التي زودت بها المرأة من قبل هذا الاتجاه لممارسة دور الحضانة والامومة ، وسوف نخسر كل تلك القابليات التي زود بها الرجل من اجل ممارسة دور يتوقف على الجلد والصبر والثبات وطول النفس.
  تماماً ، كما أن من قبيل ان تسلم بنآية تسلم نجارياتها إلى حداد و حدادياتها إلى نجار يمكن ان تصنع هكذا ويمكن ان تنشأ البنآية أيضاً لكن هذه البنآية سوف تنهار ، سوف لن يستمر هذا التحدي على شوط طويل سوف ينقطع في شوط قصير كل اتجاه من هذا القبيل هو في الحقيقة سنة موضوعية من سنن التاريخ ، ومن سنن حركة الإنسان ، ولكنها سنة مرنة تقبل التحدي على الشوط القصير ولكنها تجيب على هذا التحدي.
  وأهم مصداق يعرضه القرآن الكريم لهذا الشكل من السنن ، هذا الشكل من السنن اهم مصداق يعرضه هو الدين ، القرآن الكريم يرى أن الدين نفسه سنة من سنن التاريخ ، سنة موضوعية من سنن التاريخ ، ليس الدين فقط تشريعا وإنما هو سنة من سنن التاريخ ولهذا يعرض الدين على شكلين : تارة يعرضه بوصفه تشريعا كما يقول علم الاصول ، بوصفه ارادة تشريعية مثلا يقول :

المدرسة القرآنية _ 61 _
  ( شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ) (1) ، هنا يبين الدين كتشريع ، كقرار ، كأمر من اللّه سبحانه وتعالى ، لكن في مجال آخر يبينه سنة من سنن التاريخ وقانوناً داخلاً في صميم تركيب الإنسان و فطرة الإنسان : قال سبحانه وتعالى : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) (2).
  هنا الدين لم يعد مجرد تشريع ، مجرد قرار من أعلى وإنما الدين هنا فطرة للناس ، هو فطرة اللّه التي فطر عليها الناس ولا تبديل لخلق اللّه.
  هذا الكلام كلام موضوعي خبري لاتشريعي انشائي ، لاتبديل لخلق اللّه ، يعني كما انك لايمكنك ان تنتزع من الإنسان أي جز من اجزائه التي تقوّمه ، كذلك لا يمكنك ان تنتزع من الإنسان دينه ، الدين ليس مقولة حضارية مكتسبة على مرّ التاريخ يمكن اعطاؤها ويمكن الاستغناء عنها لانها في حالة من هذا القبيل لاتكون فطرة اللّه التي فطر الناس عليها ولا تكون خلق اللّه الذي لاتبديل له ، بل تكون من المكاسب التي حصل عليها الإنسان من خلال تطوراته المدينة والحضارية على مرّ التاريخ.
  القرآن يديد ان يقول بأن الدين ليس مقولة من هذه المقولات بالامكان اخذها وبالامكان عطاؤها ، الدين خلق اللّه ( فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ) هذا الكلام (لا) ليست ناهية بل نافية يعني هذا الدين لايمكن أن ينفك عن خلق اللّه ما دام الإنسان انسانا فالدين يعتبر سنة لهذا الإنسان.
  هذه سنة ولكنها ليست سنة صارمة على مستوى قانون الغليان ، سنة تقبل التحدي على الشوط القصير ، كما كان بامكان تحدي سنة النكاح سنة اللقاء الطبيعي والتزاوج الطبيعي ، كما كان بالامكان تحدي ذلك عن طريق الشذوذ الجنسي ، لكن على شوط قصير كذلك يمكننا أيضاً تحدي هذه السنة على شوط قصير عن طريق الالحاد ، وغمض العين عن هذه الحقيقة الكبري بإمكان الإنسان ان يرى الشمس ، أن يغمض عينه عن الشمس ويلحد ولا يرى هذه الحقيقة ، ولكن هذا التحدي لايكون إلاّ على شوط قصير لان العقاب سوف ينزل بالمتحدي ، العقاب هنا ليس بمعنى العقاب الذي ينزل على من يرتكب مخالفة شرعية على يد ملائكة العذاب في السماء في يوم القيامة ليس هو ذاك العقاب الذي ينزل على من يخالف القانون على يد الشرطي ، يضربه بالعصا على رأسه ، وإنما العقاب هنا ينزل من سنن التاريخ نفسها تقرض العقاب على كل أمة تريد أن تبدل خلق اللّه سبحانه وتعالى ، ولا تبديل لخلق اللّه : ( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ) (3).

--------------------
(1) سورة الشورى آية : 13.
(2) سورة الروم آية : 30.
(3) سورة الحج آية : 47

المدرسة القرآنية _ 62 _
  نحن نقول بأن السنن التاريخية من الشكل الثالث إذا تحداها الإنسان فسوف يأخذ العقاب من السنن التاريخية ، سرعان ما ينزل عليه العقاب من السنن التاريخية نفسها.
  كلمة سرعان هنا يجب أن تؤخذ بمعنى السرعة التاريخية لا السرعة التي نفهمها في حياتنا الاعتيادية.
  وهذا ما أرادت أن تقوله هذه الآية الكريمة.
  هذه الآية الكريمة في المقام تتحدث عن العذاب واقعة في سياق العذاب الجماعي الذي نزل بالقرى السابقة الظالمة ثم بعد ذلك يتحدث عن استعجال الناس في ايام رسول اللّه (ص) الناس يستعجلون رسول اللّه (ص) ويقولون له أين هذا العقاب ؟ اين هذا العذاب ؟ بلماذا لاينزل بنا نحن الان.
  كفرنا تحديناك لم نؤمن بك ، صممنا إذاننا عن قرآنك لماذا لاينزل بنا هذا العذاب ؟ هنا القرَّن يتحدث عن السرعة التاريخية التي تختلف عن السرعة الاعتيادية يقول : ( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ ) (1) ، لانها سنة ، والسنة التاريخية ثابتة ، لكن ( وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ) (2).
  اليوم الواحد في سنن التاريخ عند ربك باعتبار أن سنن التاريخ هي كلمات اللّه كما قرأنا في ماسبق ، كلمات اللّه سنن التاريخ.
  اذن في كلمات اللّه ، في سنن اللّه ، اليوم الواحد ، المهملة القصيرة ، هي ألف سنة ، طبعا في آية أخرى عبر بخمسين الف سنة ، لكن أريد بذلك أيام القيامة لايوم الدنيا وهذ هو وجه الجمع بين الايتين ، الكلمتين ، في آية أخرى قيل : ( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً * يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ) (3).

--------------------
(1) سورة الحج آية : 47.
(2) نفس الآية السابقة.
(3) سورة المعارج آية : 4 ـ 8.

المدرسة القرآنية _ 63 _
  هذا ناظر إلى يوم القيامة ، إلى يوم تكون السماء كالمهل فيوم القيامة قدر بخمسين ألف سنة اما هنا يتكلم عن يوم توقيف نزول العذاب الجماعي وفقا لسنن التاريخ يقول وان يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون.
  اذن فهذا شكل ثالث من السنن التاريخية ، هذا الشكل هو عبارة عن اتجاهات موضوعية في مسار التاريخ وفي حركة الإنسان وفي تركيب الإنسان ، يمكن ان يتحدى على الشوط القصير ، ولكن سنن التاريخ لاتقبل التحدي على الشوط الطويل إلاّ أن الشوط القصير والطويل هنا ليس بحسب طموحاتنا ، بحسب حياتنا الاعتيادية يوم أو يومين لان اليوم الواحد في كلمات اللّه وفي سنن اللّه كألف سنة مما نحسب.
  هذا هو الشكل الثالث ، الدين هو المثال الرئيسي للشكل الثالث.
  من أجل أن نعرف كيف ان الدين ليس سنة من سنن التاريخ ؟ ما هو دوره ؟ ما هو موقعه ؟ لماذا اصبحت سنة من سنن التاريخ ؟ ليس مجرد تشريع وإنما هو سنة ، يعني حاجة اساسية موضوعية حاله حال قانون الزوجية بين الذكر والانثى هو سنة موضوعية لماذا صار هكذا ؟ وكيف صار هكذا؟ وما هو دوره كسنة تاريخية من سنن التاريخ ؟

المدرسة القرآنية _ 64 _
  لكي نعرف ذلك يجب أن نأخذ المجتمع ، نحلل عناصر المجتمع على ضوء القرآن الكريم لنصل إلى مغزى قولنا ان الدين سنة من سنن التاريخ.

كيف نحلل عناصر المجتمع ؟
  نحلل عناصر المجتمع على ضوء هذه الآية الكريمة.
  ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) (1).
  على ضوء هذه الايد التي تعطينا أزوع وادق وأعمق صيغة لتحليل عناصر المجتمع سوف ندرس هذه العناصر ونقارن ما بينها لنعرف في النهآية أن الدين سنة التاريخ وليس مجرد حكم شرعي قد يطاع وقد يعصى.

--------------------
(1) سورة البقرة آية : 30.

المدرسة القرآنية _ 65 _
  وأفضل الصلوات على أفضل النبيين وآله الطيبين الطاهرين.
  كنا بصدد توضيح اوجه الاختلاف الرئيسية بين اتجاهين أساسيين في التفسير أحدهما الاتجاه الموضوعي في التفسير والآخر الاتجاه التجزيئي في التفسير : يمكن ان يستخلص مما ذكرناه بالأمس من التوضيحات انه يوجد هناك فارقان بارزان رئيسيان بين هذين الاتجاهين وتنبع من هذين الفارقين فوارق أخرى ثانوية : الفارق الرئيسي الأول هو ان التفسير الموضوعي كما شرحنا بالأمس يبدأ بالواقع الخارجي بحصيلة التجربة البشرية يتزود بكل ما وصلت إلى يده من حصيلة هذه التجربة ومن أفكارها ومن مضامينها.
  ثم يعود إلى القرآن الكريم ليحكم القرآن الكريم ويستنطق القرآن الكريم على حد تعبير الإمام أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام ويكون دوره دور المستنطق ، دور الحوار ، يكون دور المفسر دورا ايجابياً أيضاً ، دور المحاور ، دور من يطرح المشاكل من يطرح الأسئلة ، من يطرح الاستفهامات على ضوء تلك الحصيلة البشرية على ضوء تلك التجربة الثقافية التي استطاع الحصول عليها ثم يتلقى من خلال عملية الاستنطاق ، من خلال عملية الحوار مع اشرف كتاب يتلقى الأجوبة من ثنايا الآيات المتفرقة.

المدرسة القرآنية _ 66 _
  فهنا الابتداء بالتفسير الموضوعي يكون من الواقع ويعود إلى القرآن الكريم ، بينما التفسير التجزيئي يبدأ من القرآن وينتهي إلى القرآن ليس فيه حركة من الواقع إلى القرآن ومن القرآن إلى الواقع وإنما يبدأ بالقرآن وينتهي بالقرآن ، دور المفسر هنا دور سلبي كما شرحنا بالأمس (5) يخلي ذهنه من أي سوابق من أي طروحات يجلس جلوس المستمع ، لا جلوس المحاور لا جلوس المستفهم بل جلوس من يستمع ويسجل ما ينطبق في ذهنه نتيجة هذا الاستماع.
  هذا هو الأمر الأول الذي شرحناه بالأمس (6).
  والأمر الثاني في المقام هو : ان التفسير الموضوعي يتجاوز التفسير التجزيئي خطوة لان التفسير التجزيئي يكتفي بإبراز المدلولات التفصيلية للآيات القرآنية الكريمة ، بينما التفسير الموضوعي يطمح إلى اكثر من ذلك يتطلع إلى ما هو أوسع من ذلك يحاول ان يستحصل اوجه الارتباط بين هذه المدلولات التفصيلية يحاول ان يصل إلى مركب نظري قرآني وهذا المركب النظري القرآني يحتل في اطاره كل واحد من تلك المدلولات التفصيلية ، موقعه المناسب وهذا ما نسميه بلغة اليوم بالنظرية يصل إلى نظرية قرآنية عن النبوة ، نظرية قرآنية عن المذهب الاقتصادي نظرية قرآنية عن سنن التاريخ وهكذا عن السماوات والأرض فهن

--------------------
(5) الدرس الاول.
(6) الدرس الاول.

المدرسة القرآنية _ 67 _
  التفسير الموضوعي يتقدم خطوة على التفسير التجزيئي بقصد الحصول على هذا المركب النظري الذي لابد ان يكون معبراً عن موقف قرآني تجاه موضوع من موضوعات الحياة العقائدية أو الاجتماعية أو الكونية.
  هذان فارقان رئيسيان بين التفسير والاتجاه التجزيئى في التفسير ونحن ذكرنا بأن البحث الفقهي اتجه اتجاهاً موضوعياً بينما التفسير لم يتجه على الأكثر اتجاهاً موضوعياً بل كان اتجاها تجزيئيا.
  اصطلاح الموضوعية هنا على ضوء الأمر الأول ، بمعنى انه يبدأ من الموضوع ، من الواقع الخارجي ، من الشي الخارجي ويعود إلى القرآن الكريم ويعبر عن التفسير بأنه موضوعي على ضوء الأمر الأول باعتبار انه يبدأ من الموضوع الخارجي وينتهي إلى القرآن الكريم.
  وتوحيدي باعتبار انه يوحد بين التجربة البشرية وبين القرآن الكريم لا بمعنى انه يحمل التجربة البشرية على القرآن ، لا بمعنى انه يخضع القرآن للتجربة البشرية بل بمعنى انه يوحد بينهما في سياق بحث واحد لكي يستخرج نتيجة هذا السياق الموحد من البحث ، يستخرج المفهوم القرآني الذي يمكن ان يحدد موقف الإسلام تجاه هذه التجربة أو المقولة الفكرية التي ادخلها في سياق بحثه.
  إذن التفسير موضوعي وتوحيدي على أساس الأمر الأول ، على أساس الأمر الثاني أيضاً كون التفسير موضوعياً باعتبار انه يختار مجموعة من الآيات تشترك في موضوع واحد.
  وهو توحيدي باعتبار انه يوحد بين هذه الآيات ، يوحد بين مدّلولات هذه الآيات ضمن مركب نظري واحد ، إذن اصطلاح الموضوعية واصطلاح التوحيدية في التفسير ينسجم مع كل من هذين الفارقين بما بيناه.

المدرسة القرآنية _ 68 _
  ولا نقصد بالموضوعية هنا الموضوعية في مقابل التحيز مثلاً ما يقال عادة من ان هذا البحث موضوعي في مقابل ان يكون بحثا متحيزاً أو منحازاً ! طبعاً الموضوعية بذلك المعنى مرفوضة في التفسير التجزيئي والتفسير الموضوعي معاً.
  ليست الموضوعية بذلك المعنى من مزايا التفسير الموضوعي في مقابل التفسير التجزيئي الموضوعية بذلك المعنى عبارة عن الأمانة في البحث ، عبارة عن الاستقامة عل جادة البحث ، تلك الموضوعية مفترضة في كلا الاتجاهين وإنما الموضوعية التي نجعلها في مقابل التجزيئية غير تلك الموضوعية التي تقابل الذاتية والتحيز ، الموضوعية هنا بمعنى ان يبدأ من الموضوع وينتهي إلى القرآن هذا الأمر الأول.
  الأمر الثاني : أن يختار مجموعة من الآيات تشترك في موضوع واحد يقوم بعملية توحيد بين مدلولاتها .
  من أجل أن يستخرج نظرية قرآنية شاملة بالنسبة إلى ذلك الموضوع.
  إن الأبحاث الفقهية سارت في الاتجاه الموضوعي بينما الأبحاث التفسيرية سارت في الاتجاه التجزيئي طبعا لم نكن نعني من ذلك أيضاً ان البحث الفقهي استنفذ طاقة الاتجاه

المدرسة القرآنية _ 69 _
  الموضوعي ، البحث الفقهي سار في الاتجاه الموضوعي ولكنه لم يستنفد أيضاً طاقة الاتجاه الموضوعي والبحث الفقهي اليوم مدعوا أيضاً إلى ان يستنفد طاقة هذا الاتجاه الموضوعي افقيا وعموديا.
  أما أفقيا لابد وأن يستنفد طاقة الاتجاه الموضوعي باعتبار ان الاتجاه الموضوعي كما قلنا عبارة عن ان يبدأ الإنسان من الواقع وينتهي إلى الشريعة.
  هذا كان ديدن العلماء ديدن الفقهاء كانوا بالواقع ، وقائع الحياة تكاد تنعكس عليهم على شكل جعالة ، مضاربة ، مزارعة ، مساقات ، نكاح كانت هذه الحوادث وهذه الوقائع تنعكس عليهم ثم يأخذون هذا الواقع ويأتون إلى مصادر الشريعة ليستنبطوا الحكم من مصادر الشريعة هذا اتجاه موضوعي لأنه يبدأ بالواقع وينتهي إلى الشريعة في مقام التعرف على حكم هذا الواقع.

المدرسة القرآنية _ 70 _
  لكن هنا لابد أن يمتد الفقه أفقيا على هذه الساحة كثر لان العلماء الذين ساهموا في تكوين هذا الاتجاه الموضوعي عبر قرون متعددة كانوا حريصين على ان يأخذوا هذه الوقائع ويحولوها دائماً إلى الشريعة لكي يستنبطوا أحكام الشريعة المرتبطة بتلك الوقائع ولكن وقائع الحياة تتجدد وتتكاثر باستمرار وتتولد ميادين جديدة من وقائع الحياة ، لابد لهذه العملية من النمو باستمرار من ان تنمو من ان تحول كل ما يستجد من وقائع الحياة ، من ان تبدأ من الواقع لكن ذاك الواقع الساكن المحدود الذي كان يعيشه الشيخ الطوسي أو الذي كان يعيشه المحقق الحلي ، ذاك الواقع كان يفي بحاجات عصر الشيخ الطوسي ، كان يفي بحاجات عصر المحقق الحلي.
  لكن كم من باب و باب من أبواب الحياة فتحت بالتدريج لابد من عرض هذه الأبواب على الشريعة إذا أردنا أن يستمر الاتجاه الموضوعي في البحث الفقهي ، لابد وأن نمدده أفقياً على مستوى ما استجد من أبواب الحياة ، كم من باب من أبواب الحياة استجد لم يكن معروفاً سابقاً : التجارة والمضاربة والمزارعة والمساقات كانت تمثل السوق قبل ألف سنة أو قبل ثمانمائة سنة ولكن اليوم السوق المعاملات العلاقات الاقتصادية أوسع من هذا النطاق وأكثر تشابكا من هذا النطاق ، اذن لابد للفقه من أن يكون كما كان على يد هؤلاء العلماء الذين كانوا حريصين على ان يعكسوا كل ما يستجد من وقائع الحياة على الشريعة ليأخذوا حكم الشريعة.
  لابد أيضاً من ان هذه العملية تسير أفقيا كما سارت أفقيا في البدآية.
  هذا من الناحية الأفقية.

المدرسة القرآنية _ 71 _
  من الناحية العمودية أيضاً لابد من ان يتوغل هذا الاتجاه الموضوعي في الفقه ، لابد وان يتوغل ، لابد وان ينفذ عموديا ، لابد وان يصل إلى النظريات الأساسية ، لابد وان يكتفي بالبناءات العلوية وبالتشريعات التفصيلية ، لابد وان ينفذ من خلال هذه البناءات العلوية إلى النظريات الأساسية التي تمثل وجهة نظر الإسلام لأننا نعلم ان كل مجموعة من التشريعات في كل باب من أبواب الحياة ترتبط بنظريات أساسية ، ترتبط بتطورات رئيسية.
  أحكام الإسلام ، تشريعات الإسلام ، في مجال الحياة الاقتصادية ترتبط بنظرية الإسلام بالمذهب الاقتصادي في الإسلام ، أحكام الإسلام في مجال النكاح والطلاق والزوج وعلاقات المرأة مع الرجل ، ترتبط بنظرياته الأساسية عن المرأة والرجل ودور المرأة والرجل.
  هذه النظريات الأساسية التى تشكل القواعد النظرية لهذه الأبنية العلوية ، لابد أيضاً من التوغل إليها ، لا ينبغي أن ينظر إلى ذلك بوصفه عملا منفصلا عن الفقه ، بوصفه ترفا ، بوصفه نوع تفنن ، بوصفه نوع أدب ليس كذلك بل هذا ضرورة من ضرورات الفقه ، لابد من النفاذ لابد من التوغل عمودياً أيضاً إلى تلك النظريات ومحاولة اكتشافها بقدر الطاقة البشرية.
  الآن نعود إلى التفسير بما ذكرناه من اوجه الاختلاف بين التفسير الموضوعي والتفسير التجزيئي ، تبينت عدة افضليات تدعو إلى تفضيل المنهج الموضوعي في التفسير على المنهج التجزيئي في التفسير فان المنهج الموضوعي في التفسير على ضوء ما ذكرناه يكون اوسع افقا وأرحب واكثر عطاءً باعتبار انه يتقدم خطوة على التفسير التجزيئي كما انه قادر على التجدد باستمرار ، على التطور والإبداع باستمرار ، باعتبار ان التجربة البشرية تغني هذا التفسير بما تقدمه من مواد ، ثم هذه المواد تطرح بين يدي القرآن الكريم لكي يستطيع هذا المفسر أن يتحصل الأجوبة من القرآن الكريم وهذا هو الطريق الوحيد للحصول على النظريات الأساسية للإسلام وللقرآن تجاه موضوعات الحياة المختلفة.

المدرسة القرآنية _ 72 _
  وقد يقال : بأنه ما الضرورة إلى تحصيل هذه النظريات الأساسية ؟ ما الضرورة إلى ان نفهم نظرية الإسلام في النبوة مثلا بشكل عام أو ان نفهم نظرية الإسلام في سنن التاريخ وفي التغير الاجتماعي بشكل عام ؟ ان نفهم نظرية الإسلام في الاقتصاد الإسلامي بشكل عام ؟ ان نفهم مفهوم الإسلام عن السماوات والأرض ؟ ما الضرورة إلى ان ندرس ونحدد هذه النظريات ؟ فإننا نجد بان النبي (ص) لم يعط هذه النظريات على شكل نظريات محدودة وبصيغ عامة ، وإنما اعطى القرآن بهذا الترتيب للمسلمين ، ما الضرورة إلى ان نتعب أنفسنا في سبيل تحصيل هذه النظريات وتحديدها بعد ان لاحظنا ان النبي (ص) اكتفى بإعطاء هذا المجموع ، هذا الشكل المتراكم بهذا الشكل ؟ ما الضرورة إلى ان نستحصل هذه النظريات ؟
  الحقيقة بأن هناك اليوم ضرورة أساسية لتحديد هذه النظريات ولتحصيل هذه النظريات ولا يمكن ان يفترض الاستغناء عن ذلك.
  النبي (ص) كان يعطي هذه النظريات ولكن من خلال التطبيق من خلال المناخ القرآني العام الذي كان يبينه في الحياة الإسلامية ، وكان كل فرد مسلم في إطار هذا المناخ ، يفهم هذه النظرية ولو فهما إجماليا ارتكازا لان المناخ والإطار الروحي والاجتماعي والفكري والتربوي الذي وصفه النبي (ص) كان قادرا على ان يعطي النظرة السليمة ، والقدرة السليمة على تقييم المواقع والمواقف والأحداث إذا أردنا ان نقرب هذه الفكرة نقول : حالة بين حالتين : حالة إنسان يعيش داخل عرف لغة من اللغات ، وإنسان يريد ان يفهم بان أبناء هذه اللغة ، أبناء هذه العرف ، كيف تنتقل أذهانهم إلى المعاني من الألفاظ ؟ وكيف يحددون المعاني من الألفاظ ؟

المدرسة القرآنية _ 73 _
  هنا توجد حالتان :
  إحداهما : ان نأتي بهذا الإنسان ونجعله يعيش في أعماق هذا العرف ، في أعماق هذه اللغة إذا جعلته يعيش في أعماق هذه العرف وفي أعماق هذه اللغة واستمرت به الحياة في إطار هذا العرف وهذه اللغة فترة طويلة من الزمن سوف يتكون لديه الإطار اللغوي ، والإطار العرفي الذي يستطيع من خلاله ان يتحرك ذهنه وفقا لما يريده العرف واللغة منه لان مدلولات اللغة وقواعد اللغة تكون موجودة وجودا إجماليا ارتكازا في ذهنه ، اللفظة السليمة ، التقييم السليم للكلمة الصحيحة ، وتمييزها عن الكلمة غير الصحيحة تكون موجودة عنده باعتبار انه عاش عمق اللغة ، عاش وجدانها ، عاش إطارها ، عاش تطبيقها بينما إذا كان الإنسان خارج مناخ تلك اللغة ، خارج عرف تلك اللغة عرفها وأردت أن تنشئ في ذهنه القدرة على التمييز اللغوي الصحيح ، كيف تستطيع ان تنشئ في ذهنه القدرة على التمييز اللغوي الصحيح ؟ يكون ذلك عن طريق الرجوع إلى قواعد تلك اللغة ، حينئذ لابد ان ترجع إلى ذلك العرف الذي تربى في ذلك الإنسان ترجع إلى ذلك العرف ما وقع بالنسبة إلى علوم العربية كيف أن ابن اللغة لم يكن بحاجة إلى أن يتعلم علوم العرب في البدآية ؟ لأنه كان يعيش في أعماق عرف اللغة ، لكن بعد أن ابتعد عن تلك الأعماق بعد ان اختلفت الأجواء بعد ان ضعفت اللغة ، بعد أن تراكمت لغات أخرى إندست إلى داخل حياة هؤلاء ، بدأ هؤلاء يحتاجون إلى علم اللغة ، بدأ هؤلاء يحتاجون إلى نظريات اللغة لان الواقع لا يسعفهم بنظرة سليمة فلابد إذن من علم لابد من نظريات لكي يفكرون ولكي يناقشون ولكي يناقشون ولكي يتصرفون لغويا وفقا لتلك القواعد والنظريات ، هذا المثال مثال تقريبي لأجل توضيح الفكرة.

المدرسة القرآنية _ 74 _
  إذن الصحابة الذين عاشوا في كنف الرسول الأعظم (ص) ، إذا كانوا لم يتلقوا النظريات يصيغ عامة فقد تلقوها تلقيا إجماليا ارتكازيا ، انتقشت في أذهانهم وسرت في أفكارهم ، كان المناخ العام الإطار الاجتماعي والروحي والفكري الذي يعيشونه مساعدا على تفهم هذه النظريات ولو تفهما إجماليا وعلى توليد المقياس الصحيح في مقام التقييم.
  أما حيث لا يوجد ذلك المناخ ، أما حيث لا يوجد ذلك الإطار إذن تكون الحاجة إلى النظريات يعني الحاجة إلى دراسة نظريات القرآن والإسلام ، حاجة حقيقية ملحة خصوصا مع بروز النظريات الحديثة من خلال التفاعل بين إنسان العالم الإسلامي وإنسان العالم الغربي بكل ما يملك من رصيد عظيم ومن ثقافة متنوعة في مختلف مجالات المعرفة البشرية حينما وقع هذا التفاعل بين إنسان العالم الإسلامي وإنسان العالم الغربي وجد الإنسان المسلم نفسه أمام نظريات كثيرة في مختلف مجالات الحياة فكان لابد لكي يحدد موقف الإسلام من هذه النظريات ، كان لابد وان يستنطق نصوص الإسلام ، ويتوغل في أعماق هذه النصوص لكي يكتشف نظريات الإسلام التي تعالج نفس هذه المواضيع التي عالجتها التجارب البشرية الذكية في مختلف مجالات الحياة.
  إذن فالتفسير الموضوعي في المقام هو افضل الاتجاهين في التفسير إلاّ ان هذا لا ينبغي ان يكون المقصود منه الاستغناء عن التفسير التجزيئي ، هذه الأفضلية لا تعني استبدال اتجاه باتجاه وطرح التفسير التجزيئي رأسا والأخذ بالتفسير الموضوعي ، وإنما إضافة اتجاه إلى اتجاه ، لان التفسير الموضوعي ليس إلاّ خطوة إلى الأمام بالنسبة إلى التفسير التجزيئي ولا معنى للاستغناء عن التفسير التجزيئي باتجاه الموضوعي.
  إذن فالمسألة هنا ليست مسألة استبدال وإنما هي مسألة ضم الاتجاه الموضوعي في التفسير إلى الاتجاه التجزيئي في التفسير ، يعني افتراض خطوتين ، خطوة هي التفسير التجزيئي وخطوة أخرى هي التفسير الموضوعي

المدرسة القرآنية _ 75 _
عناصر المجتمع في القرآن الكريم
اعوذ باللّه من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم

  وافضل الصلوات على سيد الخلق محمد وعلى الهداة الميامين من آله الطاهرين .
  قلنا ان القرآن الكريم يقدم الدين لابوصفه مجرد قرار تشريعي ، بل يقدمه بوصفه سنة من سنن الحياة والتاريخ ومقوماً أساسياً لخلق اللّه ولن تجد لخلق اللّه تبديلاً ، ولكنها سنة من الشكل الثالث.
  سنة تقبل التحدي على الشوط القصير ، ولكن المتحدي يعاقب بسنن التاريخ نفسها.
  وقد أشير إلى هذه الخاصية أيضاً بقوله : ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) هذه العبارة التي ختمت بها الآية الكريمة : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) (1).

--------------------
(1) سورة الروم آية : 30.