الفهرس العام



العلامة المجدد
الشيخ محمد رضا المظفر
‏ويليه على هامش السقيفة
تقديم الدكتور محمود المظفر
تقديم
الدكتور محمود المظفر
الاستاذ في كلية الفقه بالنجف الاشرف

   يعد موضوع « السقيفة » الذي يدور البحث حوله في هذا الكتاب : من اهم الموضوعات وابعدها اثرا في تاريخنا الاسلامي حيث تشابكت حوله آراء المؤرخين والباحثين العقائديين ، وامتد فيها الجدل واسعا بينهم . . . باعتباره ( فتنة ) وقى الله المسلمين شرها ـ على حد قول بعض اطرافها ـ أو باعتباره ( انقلابا ) تطبيقا لما جاء في قوله تعالى : « أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ » .
   ولذلك كان لهذا الموضوع الخطير الذي عالجه عمنا الراحل ( الرضا ) قدس الله نفسه الزكية في كتابه الفريد المذكور آثاره وصداه البعيد في حينه بحيث صار محورا للنقد والتعليق ومثارا للمناظرات :

العقائد السقيفة _ 2 _

   فقد صدر على اثره عن مطابع مصر كتاب « رد على السقيفة » منسوبا إلى عبدالله الحضرمي . . . تناول فيه بالرد على كتاب ( السقيفة ) بشكل جانب فيه الموضوعية واصول البحث والمناظرة .
   ثم صدر ردا عليه الكتاب الموسوم ب‍ ( رد على السقيفة ) لمؤلفه السيد القزويني احد اعلام البصرة الذي تولى فيه باسهاب مناقشة الرد المذكور ومعالجة موضوعاته المختلفة .
   كما ظهر بعدئذ « كراس » بعنوان ( على هامش السقيفة ) وهو الذي احتوى ما قدمه السيد عبدالله الملاح البحاثة الموصلي إلى الشيخ المؤلف من اسئلة وملاحظات ، وما توفر عليه المؤلف من اجابات وايضاحات لها .
   لقد كان من رغبتنا ان نقوم بجمع الاصل والردود المذكورة مع ما كتب من ايضاحات أو تعليقات رددتها بعض الكراريس والمجلات في مجلد زضخم واحد ، يعرض المشكلة محررة باقلام اطرافها . . . بيد ان محالوة تستر مؤلف كتاب ( رد على السقيفة ) وراء اسم عبدالله الحضرمي المذكور الذي لاواقع له فيما ظهر لنا ، الامر الذي يتطلب استجاازة صاحبه الحقيقي في اعادة نشره ، مضافا إلى ان المؤلف نور الله ضريحه لم يشأ في حينه ان يعلق على واحد من تلك الردود أو التعليقات خلا تلك الاسئلة والاستفسارات التي وجهها إليه الاستاذ الملاح والتي اثرنا الحاقها مع اجوبتها في اخر الكتاب .

العقائد السقيفة _ 3 _

   ان هذا ونحوه دعانا بالفعل إلى العدول عن تحقيق فكرة المجمع هذه ، مفضلين اعادة نشر الكتاب ملحوقا به الهامش المذكور وحده لما احتواه هذا الهامش من اسئلة واجوبة قد تساعد كثيرا على توضيح وتعميق بعض مسائل الكتاب .
   على اني لا أجد في هذا الحين اكثر ثمرة وعطاءا من التوسع في نشر هذا الكتاب نفسه وتعميمه بين الفئات المتطلعة إلى هذا النوع من الدراسات التحليلية والموضوعية لذلك بوادر باعطاء الاجازة لنشره هذه المرات العديدة التي جاوزت السبع ـ بما فيها هذه الطبعة . . . سواء ما نشر منه في لغته الاصلية أو فيما ترجم إلى اللغات الاخرى من فارسية واوردية .
   هدانا الله تعالى جميعا سواء السبيل وشد من أزرنا كامة اسلامية واحدة تسعى وراء الحقيقة . النجف الاشرف 17 ربيع الاول 1400 هـ .
محمود الشيخ محمد حسن المظفر

العقائد السقيفة _ 4 _


  كـان المجمـع الثقافي الديني لمنتدى النشر قد اشرف علـى نشر الكتـاب فـي طبعته الثـانية ، وقد سجـل هـذه الكلمـة القيمة التـي نعيد نشرها في هذه الطبعة معتزين بها .
1 ـ موضوع هذا البحث قديم جدا وقد سبق ان عالجته عشرات الاقلام في مختلف العصور وكان مسرحا لكثير من عواطف الكتاب تلاعبت فيه بأساليبها الخطابية التي لا يراد بها غير تركيز عقيدة اصحابها من طريق اللف والدوران ولم يسلم من آفاتها الا القليل .
   وعلى كثرة من كتب فيه في عصرنا الحاضر لم اجد ـ في الغالب ـ من اخضعه للتطور فغير في مناهج البحث ، وجدد في طريقة الاستنتاج وبدل في اساليب العرض إلى ما يلائم اذواق العصر فكانت حاجته كبيرة إلى من يعالجه معالجة موضوعية مجردة من ناحية ، ويأخذ بيده إلى حيث يرجى له من التطور الذي تقتضيه مناهجنا العلمية الحديثة من ناحية اخرى .
   واشتدت الحاجة قبل عدة من سنين حين كثر البحث في هذا الموضوع كثرة تلفت إليها الانظار وحين ازدحمت عليه العواطف فأساءت استغلاله وتركته عرضة لاحداث ومشاكل اجتماعية يذكر الكثير من القراء مدى مفعولها في هذه الاوساط وكان لابد لهذا الطغيان العاطفي من احداث رد فعل في نفوس بعض الباحثين المجردين ممن تهمهم رسالتهم العلمية قبل كل شيء .
   وكان سماحة شيخنا العلامة المظفر ـ مؤلف هذا الكتاب ـ في طليعة اولئك الباحثين كما كان كتابه هذا نتيجة لرد الفعل الذي احدثه ذلك الطغيان .

العقائد السقيفة _ 5 _

2 ـ اما الكتاب فقد وفق في عدة نواحي وفق في نظرته لبحثه نضرة موضوعية خالصة لا يلمس فيها للمؤلف أية عاطفة ولا يدرك فيها أي تحيز وإذا قدر له ان ينتهي في بحثه إلى حيث تنتهي عقيدته المذهبية فليس ذلك الا لان منهجه العميق انتهى به إلى هذه النهاية .
   ووفق في منهجه العلمي الدقيق القائم على التماس ملابسات شتى القت كثيرا من الاضواء على هذه الحادثة التاريخية بالاضافة إلى ما عرض من النصوص الواردة فيها خاصة ناقدا لها جميعا نقدا دلاليا دقيقا مجليا مفاهيمها على حسب ما يقتضيه الفن معتمدا في ذلك اصح الطرق الموصلة إليها مختارا من الاحاديث ما اتفق عليه الثقات من ائمة الحديث لدى الطائفتين المسلمتين ، ووفق اخيرا في اسلوبه في العرض وتنظيمه لبحثه تنظيما فنيا ينتهي بك إلى نتائجه من اقرب الطرق وايسرها ببيان رائع جذاب .
   والحق ان الكتاب يعتبر مرحلة تطورية مهمة اوصل بها المؤلف هذا البحث إلى عصره الذي يعيش فيه وهو من الكتاب القلائل في هذا الموضوع التي ادت وظيفتها كاملة .
3 ـ ولعل القارئ الكريم يود ان يعرف مدى اثر هذا الكتاب في نفوس الباحثين والمعنيين بهذه الشؤون وكيف استقبلوا بحوثه الحرة والى اي مدى كان اقبالهم عليه أو اعراضهم عنه .
   والحقيقة ان الناس لم يتفقوا عليه بحال فقد انقسموا حوله طائفتين رضيت عنه اولاهما وحمدت لمؤلفه اسلوبه المجرد واطرته اطراء عاطرا وخير من يمثلها من الاعلام سيد هذا الفن في عصرنا الحاضر سماحة اية الله العلامة الكبير السيد عبد الحسين شرف الدين مؤلف كتاب المراجعات وغيره مما يعتبر فتحا في البحوث الكلامية التي خضعت للمنهج العلمي في عصرنا الحاضر فقد كتب حفظه الله إلى مؤلفه كتابا يعرب فيه عن رأيه فيه وفي مؤسسته التي يرأسها .

العقائد السقيفة _ 6 _

   نذكره هنا بنصه اعتزازا بثقته بالكتاب واكبارا لرأيه بالمؤسسة التي احتضنها المؤلف واعتبر بحق ، رائدها الاول وحافظ سيرها وتوازنها منذ تأسيسها حتى اليوم وهذا نص الكتاب :
بسم الله الرحمن الرحيم

   السلام على امير المؤمنين وسيد الوصيين ورحمة الله وبركاته .
   ايد الله شيخنا العلامة البحاثة المجاهد الشيخ محمد رضا المظفر واعز اقطاب مجمعه الثقافي الديني لمنتدى النشر وسلام الله عليه وعليهم وحي الله منهم ارواحا طيبة طاهرة تصدع بالحق في منتداه الكريم .
   وبعد فقد اخذت هديتكم القيمة كتاب « السقيفة » بعين الشكر ثم استشففت فيه اثر الجهد النبيل الجدير بالمؤسسة العلمية الطالعة بما انتظمه من سلامة البحث وسمو التفكير وحسن الاداء على وجه سد فراغا في المطبعة النجفية .
   وكنا فيمن عقد الامل « بالمنتدى » يوم تأسيسه وناط به الرجاء ان يكون له الاثر المحمود في توجيه الناشئة الدينية وبناء الجيل الطالع وتجديد ميراث النجف في بعث يلائم التطور الحاضر ويماشيه في مداه الطويل ووسائله المنوعة وذلك اني رايت من قديم ان الهدى لا ينتشر الا من حيث ينتشر الضلال وعلى هذا رجوت ان تكون المطبعة وتنويع المنهج الدراسي واحياء العلوم الاسلامية المذخورة كل هذا من رسالة منتداكم المرجو ولم تخلفوا الظن ولله الحمد .
   فان الذي يبلغنا من اخباركم السارة واثاركم النافعة يثلج الصدر وينعش الامل وليس شيء كأثركم الاخير هذا السفر الجليل داعيا إلى الاطمئنان والاستبشار بمستقبل نير يضع النجف الاشرف في مكانه الاسمى ومحله الارفع والسلام عليكم ورحمة الله .
عبد الحسين شرف الدين

العقائد السقيفة _ 7 _

   ولهذا الكتاب الكريم نظائر من الكتب من اعلام الباحثين الذين يألفون هذا النمط من التفكير تركنا ذكرها الان اكتفاء بهذه الرسالة الجليلة .
   أما الطائفة الاخرى التي لم يبد انها ارتاحت لهذا الاسلوب من البحث واعتادت على مواجهة مثله بأعصاب متوترة توجهها العاطفة حسبما تريد فخير من يمثلها مؤلف كتاب « رد على السقيفة » وهذا الرد إذا استثنينا منه ما حشد فيه مؤلفه من الفاظ السباب الخارجة على اداب البحث والتي يفزع إليها العاطفيون عادة إذا اعوزتهم الحجة لم يخلص لنا منه الا القليل .
   وهذا القليل وضع في حضرته للنقد والجدل مقياسا لا نتفق عليه معه بوجه وما ادري إلى أي حد يتفق معه الاخرون من باحثي قومه عليه فهو يرى كما يبدو من مجمع الكتاب ـ ان المقياس لديه في كل شيء يتعلق بالموضوع هو ميوله الخاصة ، فالاحاديث التي لا تتفق معها احاديث موضوعة وان اجمع ثقات المحدثين من الطرفين على تصحيح اسانيدها مع ان بعضها متواتر لا يشك بصدوره عن النبي ( ص ) بحال ، والاحاديث التي توافق هواه صحيحة وان حكم ارباب الجرح والتعديل من قومه بوضعها وشخصوا الواضع وعينوه .
   ومداليل الاحاديث يجب ان تصرف عن ظواهرها إذا لم تؤيده وان خرج الكلام على الاصول الموضوعة في هذا الفن إلى اخر ما هنالك مما لا يقتضي التعرض له في صدور هذا الكتاب على ان هذا ليس غريبا على حضرته ما دام يواجه التأريخ بهذه الذهنية .
   ولكن الغريب من مجلة مصرية تنطق بلسان هيئة محترمة قرأ محرروها الرد ولم يقرؤا الاصل فاستعاروا منه اسلوبه في الشتم ونحوا على الكتاب وصاحبه باللوم والتقريع مع ان ( التبين ) كان اليق بهم وبمكانتهم العلمية لئلا يصيبوا قوما بجهالة فيصبحوا على ما فعلوا نادمين .
ـ 4 ـ وعلى أي حال فأن لجنة المجمع الثقافي الديني لمنتدى النشر لم تجد ما يصلح للرد على هذا وامثاله اكثر من السماح للناشر الفاضل الشيخ محمد كاظم الكتبي باعادة طبعته للمرة الثانية وتمكين القارئ الذي لم يقدر له الحصول على نسخة منه من الاطلاع عليه تاركة للقراء وحدهم حق الحكم له أو عليه ، ولا يفوتنا ان نشكر الناشر على ما بذل في شره من جهد ونسأله تعالى اخيرا ان يلهمنا جميعا الصواب والسداد .
5 رمضان سنة 1372 هـ

العقائد السقيفة _ 8 _

بسم الله الرحمن الرحيم
وله الحمد على سوابغ آلائه . والصلاة والسلام على نبيه وآله وصحبه النجباء .

   من اشق الفروض على المؤرخ ان نفض عن ردائه غبار التعصب لنزعاته الشخصية من دينية أو قومية أو وطنية ونحوها .
   بل لعله من شبه المستحيل ان ينزع من قلمه لحاء عقائده وأهوائه ، فان النفس تلهم عقل صاحبها التصديق بميولها وعواطفها ، وكثيرا ما تقف سدا منيعا بين بصيص عقله والحقيقة ، وإن حاول ان يخرج من نفسيته التي ورثها ونشأ عليها .
   ويتحلل فكره من أسرها وسجنها ليحلق في جو الحق الطليق ، وإذا رأيت طائرا أسعده الحظ فتحرر من سجنه فالحقه إذا كنت حرا مثله ، فستجد ان جناحه مثقل بغبار السجن ، وارجله لا تزال متأثرة بالقيود ، فيختلج في رفيفه ويتثاقل في طيرانه ، وقد يهوي أحيانا إلى الهوة غير مختار .
   هذا من حاول ان يتحرر من شخصيته الاعتقادية وتأثيرها عليه .
   اما من يؤرخ لاجل غذاء عقيدته ، أو يؤلف ارضاء نفسه أو محيطه ، فاقرأه ألف سلام ! وأرجو من الله تعالى أن يوفقني لئلا أكونه .
   وأظنني غير مبالغ إذا قلت : إن المؤرخين من السلف على الاكثر ـ وأقول « على الاكثر » إذا أردت الاحتياط في القول كانوا من النوع الثاني .
   بل حتى المؤرخين النوع الثاني . بل حتى المؤرخين في عصرنا لا يخرجون عن هذه الطريقة على الغالب ، وإن تظاهروا بحرية الرأي وانصاف الواقع والحق ، فظهر جليا ـ بالرغم على المؤرخ ـ نزعته على قلمه ويتماشى تأريخه وتأليفه مع الروح التي يحملها ، فيختار من الاحاديث مالا يفسد عليه رأيه ، ولا يصدق إلا بما يجري على هواه .
   فكم يكون الرجل عنده كذابا وضاعا ، لانه نقل مالا يتفق ومبادءه ، وكم يكون ثقة صدوقا لانه لم يرو إلا أحاديث تؤيد طريقته .

العقائد السقيفة _ 9 _


   وهناك بلاء مني به التاريخ الاسلامي خاصة حماه بالغموض والشك عن الباحثين المنصفين .
   ذلك كثرة ما لفقه الوضاعون والدساسون في القرون الاولى من الهجرة ، لاسيما القرن الاول فاشاحوا بوجه الحقائق وقلبوها رأسا لعقب .
   وليس أدل على ذلك من التناقض والاضطراب الموجود في اكثر احاديث الوقائع التاريخية ، فضلا عن الاحكام الشرعية ، ما عدا الاختلاف في خصوصيات الحوادث والاحكام مما يذهب بالاطمئنان إلى كل حديث .
   ولا اظن ناظرا في التاريخ لا يصطدم بهذه الحقيقة المرة ، ولا يمكن ان يحمل كل ذلك على الغلط في النقل والغفلة في ارواية .
   ولنعتبر بأهم حادثة يجب اتقانها عادة ، مثل يوم وفاة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، فانك تعلم كيف وقع الاختلاف في تعيين اليوم من الشهر بل في تعيين الشهر .
  ٍ وهذا أمر شهده جميع المسلمين وهزهم هزا عنيفا فلا يمكن ان يفرض فيه النسيان أو الغفلة .
   فماذا ننتظر بعد هذا من تاريخ حروبه واحواله ، ومن نقل اقواله واحاديثه لاسيما فيما يتعلق بالشئون التي اختلف فيها المسلمون فتحاربوا عليها ، أو تشاتموا لاجلها فكفر بعضهم بعضا .

العقائد السقيفة _ 10 _

   ولعل اسباب الوضع ثلاثة اشياء :
1 ـ حب تأييد النزاعات والعقائد ، فيغري على الكذب ولعل ذلك يخدعه بأن الرأي الذي يعتقده حقا يسوغ له الوضع ، مادام الموضوع في اعتقاده هو أو شبيه به .
2 ـ حب الظهور والتفوق فقد كان للمحدث في العصور الاولى المنزلة العظيمة بين العامة ، وبالحديث كان التفاخر والتقدم ، ويمتاز من كان عنده من الحديث ما ليس عند الناس ، فأغرى ذلك ضعفاء العقول وعبدة الجاه وعبدة الجاه ، فاحتالوا للحديث من كل سبيل ، حتى من طريق الوضع والتزوير .
3 ـ ما بذله الامويون واشياعهم من كل غال ورخيص للمحدثين على وضع ما يؤيد دستهم وملكهم واهواءهم ، ولا سيما فيما يحط من كرامة آل البيت ، وفيما يرفع من شأن اعدائهم وخصومهم ، فكثرت القالة يومئذ واتسع الخرق ، حتى طعن الاسلام طعنة نجلاء لم يبرأ منها إلى يوم الناس هذا .

   فلذا وذاك أصبحت ، وانا كثير الشك والتحفظ في جملة مما ينقله المؤرخون والمحدثون ، وأقف حائرا عند كل حديث يتعلق بالخلافات المذهبية خاصة .
   فكيف بي ، وانا اقحمت نفسي في البحث عن اول حادث في الاسلام نشب فيه الخلاف بعد الرسول وانشق فيه المسلمون طائفتين ذلك حادث ( السقيفة ) ! .

العقائد السقيفة _ 11 _

   كيف بي ، وقد وقفت بين نفس تطالبني بأن ارضيها في عقيدتها ، وبين تأريخ هذا حاله قد احيط بالشكوك والشبهات وقد كتب في الحادثة الطرفان ، فشرقت طائفة وغربت اخرى .
   ولكني اريد الآن ان أتحرر من عقيدتي واتمرد على نفسي فأقف حرا على نشز من الانصاف والتروي ، وأمسح عن عيني غبار التعصب لارى تلك الحقيقة الواحدة وهي واحدة في كل شيء ـ فهل اراني استطيع علاج ما بي ؟ هذا ما أشكه في نفسي وواجب علي الا اثق بها ، فما السبيل إذن ؟ ثم ماذا سأصنع في علاج الناحية الاخرى : ناحية التاريخ المظلم ؟ ـ انها لمزلة للقدم ، ولها ما بعدها ؟ .
ـ دعني أرجع ادراجي ؟ .
ـ لكنه الهوى في النفس وعزيمة صحت من عهد المعمي من عهد ليس بالقريب لا كشف لنفسي ، أو لغيري ـ إذا جاء لي ـ ذلك اللغز المعمى ، ومن يستطيع ان يدافع ذلك من نفسه .
   على اني اجد في بحثي سلوة ومتعة يلذ لي فيه ان المس بعض الحقائق عن بصيرة ومتعة اخرى ان اسجله انتاجا باقيا للناس .
   وايضا لما كنت احاول ـ ان صدقتني المحاولة ـ ان احيط باسرار الحادثة وفلسفتها ونتائجها ، فلا يكون ما اكتبه تأريخا مجردا جافا واحدوثة خالية من ذوق ، فان ذلك يستحثني على المضي في البحث ويشجعني على اخراجه للناس .

العقائد السقيفة _ 12_

   وان كان فيه صعوبة اخرى قد تقحمتها وجب الي عبؤها الثقيل .
   وبعد التفكير والمحاولات مدة طويلة هديت إلى شيء واحد بالاخير ارجوا ان ابتعد بسببه عن تأثير العواطف ولعبها بالعقول واقترب من الحق والصدق ، هو ان اكثر من مراجعاتي لمؤلفات من اخالفه في الرأي من ناحية مذهبية .
   بل اجعلها هي المصدر في البحث وظني ان بهذا سيحصل التفاعل من الجانبين : عقيدتي وهذه المصادر ، لينتج ما قد يسمونه ( الوسط في الرأي ) أو تكون الحقيقة قد اهتديت إليها بهذه الحيلة ، إن طاوعتني .
   وقد اخذت على نفسي في هذا الكتاب ان اسجل خلاصة مطالعاتي ومحاكماتي التاريخية ، بعد ان سبرت كثيرا من المصادر القديمة التي اشرت إليها آنفا ، فإذا كنت اذكر حديثا أو حادثا تأريخيا توافرت المصادر على ذكره وتوقيقه ، فاني لا اذكر معه تلك المصادر توفيرا على القارئ خشية إعناته بدون جدوى ، الا بعض الاحاديث التي ينفرد بها مصدر أو مصدران ، فاني اضطر اضطرارا إلى ذكر المصدر في التعليقة تنويرا لذهن القارئ غير المتتبع .
   وكل جهدي ان اضع بين يدي القراء صورة مصغرة مما اهتديت إليه من افكار ، ارجو ان تكون خالصة من تأثير العواطف والنزعات حرة هي الحق كله أو قريبة من الحق ، وبالله التوفيق ومنه التسديد .
شهر رمضان 1353 هجرية
المؤلف محمد رضا المظفر

العقائد السقيفة _ 13_

بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
   في عام 11 للهجرة يفعل الدهر فعلته الاولى ، فيقلب صفحة من صفحات التاريخ الاسلامي المجيدة كتبت بأحرف من النور الالهي ، كلها ايمان وصدق ، جهاد وتضحية ، فخر وقوة ، عز ومجد ، عدل ورحمة ، اخوة وانسانية .
   يقلب الدهر هذه الصفحة الناصعة بالخيرات والفضائل ، بأفول ذلك النور المقدس من الارض ، فيستقبل بالمسلمين صفحة من كتابه التكويني مشوشة الخط قال عنها الكتاب التشريعي : ( أفان مات أو قتل انقلبتم على اعقابكم . . . ) .
   لاشك عند من يعترف بالقرآن الكريم وحيا إلهيا لا ينطق صاحبه عن الهوى ، في ان هذا الحادث التاريخي العظيم بموت منقذ الانسانية ، كان حدا فاصلا بين عهدين يختلفان كل الاختلاف : ذاك اقبال بالنفس والنفيس على الحق تعالى ، وهذا انقلاب عنه على الاعقاب .
   إذن نحن الآن أمام أمر واقع : مات النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ! ولا بد أن يكون المسلمون ( ـ كلهم ؟ ـ لا أدري الآن ) قد انقلبوا على اعقابهم .
ولكن . . . بأي حادث كان مظهر هذا الانقلاب ؟ .

العقائد السقيفة _ 14_

   اعطني من نفسك ـ أيها القارئ ـ وفكر بحرية ، والتمس لي حادثا ذا بال وقع بعد وفاة صاحب الرسالة مباشرة ، فنضح برذاذه جميع المسلمين ، فهل تجد غير حادث « السقيفة » ؟ ما أعظمه من حادث ! وهل تدري ان الشيعة تفسر الآية الكريمة به ؟ .
فإذا أردنا الآن أن نبحث عن « السقيفة » ، فانما نبحث عن أعم حدث في الاسلام ، واول حوادثه بعد الوفاة ، له علاقتة الخاصة بالآية الكريمة ، أتفسر به أم لا ؟ .
   وعلى هذا الاساس قلت في المقدمة شرق فيها قوم وغرب آخرون فدخلت العقائد والاهواء في سرد الحادثة ، فكانت ذات ألوان ووجوه يكد فيها الباحث ، ويجهد مستهدف الحقيقة .
   وما علي لو أدعي قبل الدخول في بحث السقيفة ان الآية الكريمة تفسر بحوادث الردة التي وقعت في خلافة ابي بكر .
   ولكني لا اطمئن إلى هذا الاحتمال ، ما دامت الآية تشعرنا بأن الانقلاب يقع بعد موت النبي مباشرة ، وما دامت هي خطابا لجميع المسلمين ، واهل الردة ـ كيفما فرضناهم ـ هم اقل القليل من المسلمين ، بل في العدوة القصوى منهم .
   وفوق ذلك نجد ان عمدة من نسميهم بأهل الردة هم المتنبؤن واشياعهم ، كمسيلمة واتباعه ، وطليحة واوليائه . وهؤلاء كانوا في عهد النبي واستغلظ امرهم بعده ، ما عدا سجاح التميمية ، وما كان لها كبير شأن وقد اندمجت بمسيلمة .
   اما الاسود العنسي فقد قتل في حياة الرسول ولازم انصاره طريقته بعده .
   وعلقمة بن علاثة ارتد في زمانه ( صلى الله عليه وآله ) .
   ومثله ام رفل سلمى بنت مالك وتابعوها .
   أفيصح ان نقول : إن هؤلاء انقلبوا على الاعقاب بعد النبي ، وكان الخطاب بالآية لهم ؟ اللهم ان هذا يأبى الانصاف ان يصدق به ، عند من كان له شيء من حرية الرأي وصحة التفكير .
ومالك بن نويرة (1).
ـ مالك وادع سجاح ( والموادعة . المتاركة والمسالمة على ترك الحرب كما كان كعب القرضي موادعا لرسول الله ) .
   وليست الموادعة من الردة في شيء واكثر من ذلك إنما كانت

---------------------------
(1) وبه يضرب المثل المشهور : « فتىً ولا كمالك » .

العقائد السقيفة _ 15_

   منه لمصلحة المسلمين ، ليرد سجاح عن غزوهم في تلك الاصقاع النائية عن مركز المسلمين .
   وكان الذي أراد ، وإن كانت تلك الموادعة ذنبا ، فقد اظهر هو وقومه التوبة بعد ذلك ، كما صنع وكيع وسماعة ، وهما وادعا سجاح ايضا ، وقبل المسلمون المحاربون توبتهما .
   وهذا ابو بكر يدي مالكا إذ قتله خالد بن الوليد وخلا بزوجته ليلة قتله ، فهل تفسر بهذا آية الانقلاب ؟ .
   ولا ذنب لمالك ـ إذ عد من اهل الردة ـ إلا أن قاتله بطل المسلمين يومئذ وقائدهم ، وحقيق عليهم ان يدافعوا عن فعلته ويبرروا عمله .
   فليكن مالك مرتدا يستحق القتل ! وما يهمنا ان نشين مالكا بما يستحق وبما لا يستحق ، ما دامت كرامة خالد محفوظة مصونة من النقد ! .
   عمر بن الخطاب يريد ان يؤخذ خالد بقتله لمالك ونزوه على زوجته وابو بكر يعتذر عنه ( انه اجتهد فأخطأ ) . وما الخطأ على المجتهدين بعزيز . وهذا من اوليات ابي بكر ، إذ يجعل الاجتهاد عذرا للمخالفة الصريحة للقانون الاسلامي .
   وابو بكر لم يقل لمتمم اخي مالك انه ارتد فقتل بل قال له : ما دعوته وما قتلته ، لما قال له متمم من ابيات : ادعـوته بـالله ثـم قتلته لو هو دعاك بذمة لم يغدر

العقائد السقيفة _ 16_

   نعم ! التاريخ ينزه مالكا . وقضى الدفاع عن خالد ان يحكم بعض الكتاب في هذا العصر بكفر مالك وارتداده ! .
ومن هم أهل الردة غير هؤلاء ؟ .
ـ مانعوا الزكاة .
ـ مانعوا الزكاة ؟ .
   من هؤلاء بأسمائهم وقبائلهم ! ليت احدا يرشدني إليهم ! فقد وجدت التأريخ يجمجم في ذكرهم فيحصر ، ويروح ويغدو فلا يجد غير المتنبئين واشياعهم .
وأبو بكر لما قال كلمته المشهورة : ( لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه ) ، فانما قالها عندما جاء وفد طليحة المتنبئ المتقدم ذكره يطلبون الموادعة على الصلاة وترك الزكاة ، لا في قوم غير المتنبئين .
   وإذا كانوا ـ وربما كانت بعض القبائل المجهولة امتنعت عن الزكاة ـ فهل العصيان بترك واجب ، وهم يقيمون الصلاة يكون كفرا وارتدادا ؟ بأي مذهب وبأي دين ؟ فليتأول المتأولون ما شاؤا .
   ولم يعرف عنهم انهم أنكروا وجوب الزكاة بقول ، حتى يكونوا من منكري ضروريات الدين الذين يعدون في الكافرين المرتدين .
   وأكثر ما عرف عنهم إذا كان لهم من منكري ضروريات الدين الذين يعدون في الكافرين المرتدين .
   وأكثر ما عرف عنهم إذا كان لهم وجود غير المتنبئين انهم امتنعوا عن أدائها .

العقائد السقيفة _ 17_

    وتغلق دعوى المدعي أن هؤلاء أنكروا بيعة ابي بكر التي كانت عن غير مشورة من المسلمين كما صرح به عمر بن الخطاب ، فلم يعترفوا له بامامة وولاية حتى يؤدوا له الزكاة .
   ولعلهم كانوا يطالبون بخلافة من كان النص من النبي على خلافته ، فأهمل مطالبتهم التأريخ .
   هذه احتمالات لا يفندها التأريخ والاعتبار ، وادعتها الشيعة فيهم ، فما لنا بتكذيبها من برهان ، فالاحسن لنا ألا نعترف بوجودهم كما أهمل التأريخ أسماءهم وقبائلهم .
   ومهما كان الامر ، فان استطاع الكاتب ان يثبت الانقلاب بأول حدث في الاسلام ، فلا يهمه ماذا سيكون شأن الحوادث اللاحقة ، بل يستعين على تفسيرها بتفسير الحادث الاول ، وكفى ! وأجدني مضطرا قبل كل شيء إلى ان أقف مع القارئ على ما صنعه النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، من حل للخلاف بعده .
   إما في وصية باستخلاف أحد ، أو في قاعدة مضبوطة يرجعون إليها ، أو انه اهمل الامر وتركهم وشأنهم ، لان هذا البحث له علاقة قوية في موضوع بحثنا ، يتوقف عليه تفسير كثير من الحوادث .

العقائد السقيفة _ 18_


1 ـ هل كان يعلم بأمر الخلافة ؟.
   هل تجد من نفسك الميل إلى الاعتقاد بأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان لا يعلم بما سيجري بعده : من خلافات وحوادث من اجل الخلافة ؟ وهل تراه كان غافلا عما يجب في هذا السبيل ؟ .
   إذا كان لك هذا الميل فلا كلام لي معك ، وارجو منك ـ يا قارئي العزيز علي ـ أن تلقي الكتاب عندئذ عنك ولا تتعب نفسك بالاستمرار معي إلى اخر الحديث ، لاني افرض قارئي مسلما يؤمن بالنبي ورسالته ، ويعرف من تأريخه ما يكفيه في طرد هذا الوهم .
   فان من يمت إلى الاسلام بصلة العقيدة لابد ان يثبت عنده على الاقل ان صاحبه صرح في مقامات كثيرة بما ستحدثه امته من بعده فقد قال غير مرة : ( ستفترق امتي على ثلاث وسبعين فرقة فرقة ناجية والباقون في النار ) .
   واكثر من ذلك انه لم يستثن من اصحابه إلا مثل همل النعم ، ثم هم يدخلون النار بارتدادهم بعده على ادبارهم القهقرى ، أو يردون عليه الحوض فيختلجون بما احدثوا بعده .

العقائد السقيفة _ 19_

   وفي بعض الاحاديث : ( فيقال لي : إنهم لم يزالوا مرتدين على اعقابهم منذ فارقتهم )(1).
   واخبرهم انهم يتبعون سنن من قبلهم شبرا بشبر وذراعا بذراع ، حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعوهم .
و ( الخلافة ) امر كانت تحدثه به نفسه الشريفة ، ويشير إليها انها ستكون ملكا عضوضا بعد الثلاثين سنة .
   وثبت انه قال : ( هذا الامر لا ينقضي حتى يمضي اثنا عشر خليفة كلهم من قريش ) . وقال : ( من لم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية ) ، وقال . . . وقال . . . إلى ما لا يحصى .
   وسيرته والاحاديث عنه ـ وما اكثرها ـ تشهد شهادة قطعية على ما كان من اختلاف امته ، وعلى أن الخلافة والامامة من اولى القضايا التي كانت نصب عينيه .
2 ـ هل وضع حلا للخلاف ؟ إذن كان صلى الله عليه وآله عالما بأن الدهر سيقلب لامته صفحة مملؤة بالحوادث والفتن ، والخلافات والمحن ، وان لابد لهم من خلافة وإمارة .

---------------------------
(1) صحيح مسلم 8 : 107 وغيره .

العقائد السقيفة _ 20_

   فلا بد ان نفرض انه قد وضع حلا مرضيا لهذا الامر يكون حدا للمنازعات وقاعدة يرجع إليها الناس ، لتكون حجة على المنافقين والمعاندين ، وسلاحا للمؤمنين ، ما دمنا نعتقد انه نبي مرسل جاء بشيرا ونذيرا للعالمين إلى يوم يبعثون ، فلم يكن دينه خاصا بعصره ، ليترك امته من بعده سدى من غير راع أو طريقة يتبعونها ، مع علمه بافتراق امته في ذلك .
   ولا يصح من حاكم عادل ان يحكم بنجاة فرقة واحدة على الصدفة من دون بيان وحجة تكون سببا لنجاتهم باتباعها ، وسببا لهلاك باقي الفرق بتركها .
   لنفرض ان الحديث والتأريخ لم يسجلا لنا الحل الذي نطمئن إليه ، فهل يصح ان نصدقهما بهذا الاهمال ، ونوافقهما على ان النبي ترك امته سدى ، وفي فوضوية لاحد لها يختلفون ويتضاربون ، ثم يتقاتلون ، وتراق آلاف آلاف الدماء السلمة ، ساكتا عن اعظم امر مني به الاسلام والمسلمون ، مع انه كان على علم به ؟ .
   ولو كنا نصدقها مستسلمين لكذبنا عقولنا وتفكيرنا ، فان الاسلام جاء رحمة لينقذ العالم الاسلامي من الهمجية والجاهلية الاولى ، فكيف يقر تلك المجازر البشرية في اقصى حدودها ، تلك المجازر التي لم يحدث التأريخ عن مثلها ولا عن بعض منها في عصر الجاهليين .

العقائد السقيفة _ 21_

   فما علينا إلا ان نتهم التأريخ والحديث بالكتمان وتشويه الحقيقة بقصد أو بغير قصد . ولئن لم يكن محمد نبيا مرسلا يعلم عن وحي ويحكم بوحي فليكن ـ على الاقل ـ اعظم سياسي في العالم كله لا اعظم منه ، فكيف يخفى عليه مثل هذا الامر العظيم لصلاح الامة بل العالم بأسره مدى الدهر ، أو يعلم به ولا يضع له حدا فاصلا ؟ .
   وهل يرضى لنفسه عاقل يتولى شئون بلده فضلا عن امة ، ان يتركها تحت رحمة الاهواء واختلاف الآراء ولو لامد محدود ، وهو قادر على اصلاحها أو التنويه عن اصلاحها ، إلا ان يكون مسلوبا من كل رحمة وانسانية ؟ حاشا نبينا الاكرم من جاء رحمة للعالمين ومتمما لمكارم الاخلاق وخاتما للنبين ! وقد قال الله تعالى على لسانه بعد حجة الوداع : ( اليوم اكملت لكم دينكم ) .
   وقد وجدناه نفسه لا يترك حتى المدينة المنورة ، إذا خرج لحرب أو غزاة ، من غير امير يخلفه عليها ، فكيف نصدق عنه انه اهمل امر هذه الامة العظيمة بعده إلى اخر الدهر ، من دون وضع قاعدة يرجعون إليها أو تعيين خلف بعده .
3 ـ ايكال الامر إلى اختيار الامة لنختار الان لحل هذه المشكلة انه ( صلى الله عليه واله وسلم ) أو كل امته إلى اختيارهم ، أو إلى اختيار اهل الحل والعقد منهم خاصة في تقرير شئون الخلافة . فهل يصح هذا الفرض للحل ؟ .

العقائد السقيفة _ 22_

   اما انا ـ ايها القارئ ـ لا استطيع ان اقتنع بأن هذا الفرض يكون حلا مرضيا لهذه المشكلة ، ولعلك انت ترى مع من يرى ان تعيين الرئيس بالانتخاب من ارقى التشريعات الحديثة وقد سبق إليه الاسلام ، فهذا من مفاخره .
   فوجب علينا ان نبحث هذه الناحية العلمية بدقة ، واملي ـ كما هو مفروض ـ انك تعطيني من نفسك النصف وتفكر معي تفكيرا حرا ، بعيدا عن تأثير العاطفة التي تقضي علينا ان نتمسك بهذه المفخرة للاسلام .
   ولا ينبغي لنا ان نحاول هذه المحاولة ، فربما نلصق به ما ليس له ، ولعلها لا تثبت للبحث مفخرة يمتدح بها ، فنكون قد نقضنا غرضنا الذي نريده من إثبات الفضيلة للاسلام بالسبق إلى هذا التشريع .
   والذي ادعيه الآن ان إرجاع الامة مدى الدهر إلى اختيارها في تعيين الرئيس لها هو عين الفوضوية التي اردنا التخلص منها في البحث السابق ، وليس معناه إلا إلقاء الامة في اعظم هوة من الخلاف لاحد لها ولا قعر .

العقائد السقيفة _ 23_

   وسر ذلك ان الناس مختلفون متباينون ، ليس بينهم اثنان يتفقان في فكر أو عاطفة أو ذوق أو عادة أو عمل ، حتى التؤمين ، إلا من التشابه القريب أو البعيد من غير اتفاق حقيقي ، كاختلافهم في أجسامهم وسحنات وجوههم ، وتشابههم في ذلك .
   بل الناس مختلفون في كل شيء من دقائق أجسادهم وأخلاقهم ونفوسهم وعاداتهم فلم يتفق لشخصين أن يتفقا تحقيقا حتى في بصمة الاصابع ، حتى قيل ان كل فرد من الانسان نوع برأسه .
   وعليه ، فيستحيل أن تتفق أهل بلدة واحدة على حكم واحد أو عمل واحد ، فضلا عن أمة كبيرة كالامة الاسلامية على توالي الزمان ، وبالاخص إذا كان الحكم مسرحا للعواطف والاغراض الشخصية والتحيزات كالحكم في الزعامة العامة .
   ومن هذا نستنتج ان الرأي العام الحقيقي غير موجود أبدا ، بل يستحيل وجوده لاية امة في العالم ، ومن خطل الرأي أن يطلب الانسان تكوين الرأي العام ، وتوحيد اختيار الامة بأسرها لامر من الامور ، على ان محاولة ذلك يستحيل أن تسلم من منازعات دموية واضطرابات شديدة إذا كان تكوينه يراد لامر ذي شأن ، إلا أن يكون هنا حاكم يفصل بين المتنازعين بماله من القوة القاهرة لمخالفيه ، كما هو موجود فعلا في الانتخابات الجارية عند الامم المتمدنة ، فان تحكيم الاكثرية ذات القوة الطبيعة خير علاج على منازعاتهم في الامور العامة .

العقائد السقيفة _ 24_

   وتحكيم الاكثرية في الحقيقة فرار من محاولة تكوين الرأي العام الحقيقي ، بل هو اعتراف باستحالته ، ومع ذلك لم يسغن غالبا الرجوع إلى الاكثرية ليكون لها الفصل عن ملطفات ومؤثرات اخرى تنضم إلى قوته الطبيعية ، أهمها سلطة الحكومة والقانون العام القاضي بتحكيم الاكثرية الذي أصبح بحكم التقليد لا مسيطرا على معتنقيه .
   وبتوسيط أمثال هذه الامور تمكن التسوية بين الاكثرية على راي متوسط ، وإلا فالاتفاق الحقيقي على تفاصيل الامور يستحيل حتى في الاكثرية .
   وهذا الرجوع إلى الاكثرية اخر ما توصل إليه الانسان بعد العجز عن تحصيل االاتفاق الحقيقي وبعد أن فشل البشر على ممر تلك القرون الطويلة التي انهكته بالتجارب القاسية ، فوجد ذلك خير ضمان للسلام في الامم .
   وليس معنى ذلك ان الاكثرية لا تخطأ ، كيف والجماعات دائما تفكر بأحط فكرة فيها ، ومن مزاياها انها خاضعة لسلطان العاطفة ، فهي علاج لفض المنازعات ليس إلا ، لا لضمان تحصيل الرأي المصيب .
   وبهذا البيان نخرج إلى فكرة ان تعيين الرئيس أو غيره بالانتخاب الذي هو من أرقي التشريعات الحديثة معناه الرجوع إلى الاكثرية دائما التي أصبحت من التقاليد المرعية عند الناس في هذا العصر ، وهذا لم يسبق إليه الاسلام ، ومن يدعي ان النبي صلى الله عليه وآله أوكل أمته إلى اختيارهم في تقرير شئون الخلافة لا يدعي انه شرع قانون الاكثرية لانه ليس لهذه الدعوى شاهد في زبر الاولين ، على انه ـ كما ذكرنا ـ لا يسلم من الخطأ ، فلا يسوغ لنا أن ننسبه إلى من لا ينطق إلا عن وحي ولا يريد إلا الحق .

العقائد السقيفة _ 25_

   وإذا ادعى انه أوكل الامر إلى اتفاق أمته واختيارهم جميعا ، فمن خطل الرأي ، إلا إذا جوزنا عليه ان يطلب المستحيل أو تعمد ايقاع أمته في منازعات دائمية تفضي إلى ازهاق النفوس واضعاف القوي المادية والادبية ، ثم إلى ضعف كلمة الاسلام في الارض .
   فتلخص ان هذا التشريع أعني تشريع تعيين الامام بالانتخاب لا يصح لنا ان ننسبه إلى منقذ البشرية من الضلالة إلى الهدى الذي لا ينطق إلا عن وحي ، سواء فسرناه بالاكثرية أو باتفاق الجميع .
   ومهما حاولنا اصلاح هذا التشريع بتفسير الامة بأهل الحل والعقد منها خاصة ، فلا اجد هذه المحاولة تسلم من ذلك النقص البارز فان اهل الحل والعقد وكبار الامة هم بؤرة الخلاف والنزاع .
   فان الخاصة مع اختلاف نفوسهم وتباين نزعاتهم كسائر الناس ، لا ينفكون عن تحيزات فيهم اعظم منها في غيرهم . ويندر ان يتجردوا من اهواء نفسية واغراض شخصية ، تجعل كل فرد يشرئب إلى هذا المنصب الرفيع ما هيء له ووجد مجالا لارتقائه ، ولو عن غير قصد ، بل عن رغبة نفسية كامنة هي غريزية لا يفطن لها صاحبها أو لا يعدها باطلا وخروجا عن محجة الصواب ، بل حب النفس قد يحمله على الاعتقاد بأن زعامته اصلح للامة واجدى ، فيوحي الهوى للنفس البرهان المقنع على صحة رأيه .