وفي هذا البيان الشيء المدهش من اطفاء نار عواطفهم المتأججة ضد المهاجرين ، واشباع نهمة نفوسهم الفخورة المتطاولة بفضلهم ، وجهادهم ونصرتهم ، وتقريبها إلى المهاجرين للاعتراف بفضلهم عليهم ، لانه ليس اقوى على تخدير أعصاب الجماعة الهائجة من الذهاب مع تيار روحهم المندفعين بها ، فأعطى لهم ما يسألون بلسان حالهم من الاعتراف بالفضل والجهاد وكل فخر يشعرون به متطاولين .
حقا لقد صدق وصدقوا ، فان لهم الفضل الذي لا ينكر ، ولكنهم أخطأوا بزعمهم ان لهم بذلك حق الامارة ، وهنا نجد أبا بكر يريد أن يحولهم عن هذا الزعم ، فيحذر أن يخدش عواطفهم بما ينقص منزلتهم ويحط من مقامهم ، فعدل عن التصريح بكلمة الخطأ أو ما ينسق عليها من معناها ، واتبع اسلوبا آخر من البيان وانه لمن السحر المأثور فلم يزد على كلمة : « فليس بعد المهاجرين الاولين عندنا بمنزلتكم فنحن الامراء وأنتم والوزراء » .
وفيها تنبيه على خطأهم من طرف خفي من دون التجاء إلى الكلمة التي بها تجرح عواطفهم وتثير الحزازات مع الثناء عليهم في نفس الوقت ثم اثبات الوزارة لهم .
العقائد السقيفة
_ 105 _
وإذا أردت التدقيق في هذه الكلمة ترى الشيء الاعجب : فهو الآن يريد أن يفضل المهاجرين الاولين « الاولين بالخصوص ! » عليهم ، ليثبت لهم استحقاق الخلافة ، ولو كان وضعهما في طرفين وفضل المهاجرين لاثار ذلك بحفيظتهم وحرش بين خصمين متطاولين من القديم ، فعدل عن منطوق مقصوده والتاف إليهم من طريق تفضيل الانصار أنفسهم على الناس والقى في الطريق كلمة « بعد المهاجرين الاولين » ، فتضاهر انه يريد ان يقول : ليس أحد بمنزلة الانصار .
وأن مقصوده ليس غير ، وإنما استثنى المهاجرين كأمر ثابت مقرر لا يتطرق إليه الشك وليس محلا للنقاش لا لانه المقصود في البيان .
وهنا إذ تهدأ تلك النفوس الجامحة في الجماعة راضية بما قيل لها وفق شعورها تتفكك أوصالها وترجع من حيث جاءت كأنما حصل لها كل ما تصبو إليه .
وهذا من انحطاط نفسية الجماعات ، فلا تشعر بالنتيجة التي يراد أخذها منها وان خالفت تفكيرها عند التأمل ، لان عادة الجماعة في الافكار ان تقبلها جملة أو تردها جملة ، ولا طاقة لها على التأمل والتفكيك بين الافكار ولا صبر لها على التمييز .
مضافا إلى ان الوعد بجعلهم الوزراء لا يفتاتون بمشورة ولا تقضي الامراء دونهم الامور يطمن من رغباتهم واطماعهم ، ويذهب بخوفهم من الاستبداد عليهم وأخذ الثأر منهم ، ويسدل على ما حاولوه ستارا كثيفا من النسيان .
العقائد السقيفة
_ 106 _
وبعبارة أصح ، يأخذ أثره الوقتي وتلهو الجماعة عن صدق الوفاء ولا تحتاج إلى التدليل عليه ، ولا يكلف قائله إلا الوعد وبهرجة الكلام .
وهناك كلمتان أخريان في تلك العبارة التي حللناها لا يفوتنا أن نتعرف اليهما والى ما فيهما من معنى أخاذ
الاولى ـ كلمة ( الاولين ) ـ فأبعدهم بها عن شعور الخصومة الموجودة للمهاجرين عامة .
والمهاجرون والانصار حزبان متطاولان وقد كان تنافسهما أمرا واضحا للعيان في زمن الرسول وبعده حتى قال لهم النبي يوما : « ما بال دعوى اهل الجاهلية » ، وذلك عندما قال الانصاري : « يا للانصار ! » وقال المهاجري : « يا للمهاجرين ـ » فأقبل جمع من الجيشين وشهروا السلاح حتى كاد ان تكون فتنة عظيمة ، في قصة مشهورة
(1) ـ فتجد ابا بكر بتخصيص المهاجرين بالاولين كيف اتقى شعور الانصار بخصومتهم لعامة المهاجرين ، وهم لا ينكرون ما للاولين من فضل وقد سبقوهم إلى الاسلام وعبادة الرحمن على انه بهذا التخصيص قرب نفسه وصاحبيه إلى هذا الامر .
الثانية : كلمة ( عندنا ) ـ فانظر إلى ما فيها من قوة سحرية إذ رفع بها عن مقام القرن المنازع للانصار ، وأخرجها عن الحزبين : الانصار والمهاجرين ، ونصب نفسه بها كحكم بينهما يفضل هذا على ذاك ثم يختار لهم ما فيه الصلاح .
---------------------------
(1) راجع البخاري ( 2 : 165 و3 : 126 ) .
العقائد السقيفة
_ 107 _
وهذا له الاثر البليغ في اخماد نار عاطفة التعصب عليه ، ويعطيه ايضا منزلة في نفوسهم هي أعلى وأرفع تجعل له نفوذ الحكم المستشار والزعيم للفريقين وعلى العكس فيما لو نصب نفسه مزاحما لهم مطالبا بحق يعود له ولحزبه . وشأن الجماهير انها لا تنتظر الدليل على الدعاوي البراقة المبهرجة ، لان التصوير ولو بالالفاظ له الحكم الفصل على نفسياتها .
فارجع الآن إلى تلك العبارة ودققها ! وهي جعجعة تسحن الجماعات من غير طحن ، وإلا فمن المقصود بضمير ( عندنا ) يتكلم عنه ابو بكر غير جماعة المهاجرين وهو منهم ، وعلى تقديره فمن الذي خوله ان يمثل المهاجرين بشخصه ؟ . . . ولكنه جرد من نفسه « ومعه غيره » حكما مفضلا ، عنده المهاجرون أفضل من الانصار وليس بمنزلة الانصار أحد بعدهم .
فلا نعجب بعد عرفاننا هذه الاساليب التي لها القوة السحرية على الجماعات ان يأخذ ابو بكر بناصية الحال ، ويستهوي المجتمعين لينظروا إليه بقلوبهم لا بعقولهم ، فيصرفهم كيف يريد . فانتظر نتيجة تأثيره عليهم .
العقائد السقيفة
_ 108 _
8 ـ نقاش المهاجرين والانصار
قرأنا في الفصل السابق خطبة ابي بكر وما فيها من الاساليب فلنر مدى تأثيرها على المجتمعين وكيف كانت النتيجة ؟ :
لم يرد عليه إلا الحباب بن المنذر في كلامه المتقدم في البحث رقم (2) وقد رأيناه لم يأت بشيء وكان اول منخذل امام المهاجرين وإن ظهر بالقوة التي تلاشت في آخر كلامه كما شرحناه ، ففتح على نفسه باب الحجة الظاهرة إذ قال : « فمنكم أمير ومنهم أمير » ، على أنه ظهر جليا بمظهر المتعصب المغالب ، فاستهل كلامه بقوله : « املكوا عليكم أمركم . . . » وهذا مردود عليه معكوس الاثر ، وسيأتي .
وهنا ، جاء دور عمر بن الخطاب فقال : « هيهات ! لا يجتمع اثنان في قرن . والله لا ترضى العرب ان يؤمروكم ونبيها من غيركم ، ولكن العرب لا تمتنع ان تولي أمرها من كانت النبوة فيهم وولي امورهم منهم ، ولنا بذلك من أبى من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين ،
من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ونحن اولياؤه وعشيرته إلا مدل بباطل أو متجانف لا ثم أو متورط في هلكة » .
فتجد كلام عمر هذا ـ وان كان هادئا ـ لا يبلغ كلام ابي بكر ، إذ ظهر بمظهر الخصم المدعي بحق الامارة .
العقائد السقيفة
_ 109 _
وكأن ابا بكر فسح له المجال لان يكون هو المدعي العام عن المهاجرين بعد ان نصب نفسه كحكم للمتنازعين .
كما نلاحظ ايضا انه لم يشر إلى قضية النص على قريش أو على خصوص واحد منهم ، وإنما القضية قضية رضى العرب وابائها وان المهاجرين اولياء محمد وعشيرته ، ولذا قال علي عليه السلام بعد ذلك : « احتجوا بالشجرة واضاعوا الثمرة » .
فقام الحباب بعد عمر فقال : « يا معشر الانصار املكوا عليكم امركم ولا تسمعوا مقالة هذا واصحابه ، فيذهبوا بنصيبكم من هذا الامر ، فان ابوا عليكم ما سألتموه فاجلوهم عن هذه البلاد ، وتولوا عليهم هذه الامور ، فأنتم ـ والله ـ احق بهذا الامر منهم فانه بأسيافكم دان لهذا الدين من دان ممن لم يكن يدين . انا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب . انا شبل في عرينة الاسد ، اما والله لو شئتم لنعيدنها جذعة . والله لايرد أحد على ما أقول إلا حطمت أنفه بالسيف » .
وهذه عصبية جاهلية وسوء قصد ظاهر . فقال له عمر : « إذا يقتلك الله » فانتحى به الناحية الدينية إذ نسب القتل إلى الله تعالى ولم يقل يقتلك الناس .
وهذا اسلوب من الرد فيه التهديد والتنديد على تلك دعوى الجاهلية منه . فقال الحباب : « بل إياك يقتل » .
وهذه مهاترة يلتجأ إليها ضعف الحجة وشدة الغضب ، فترى الحباب في كل ذلك كان قلق الوضين يرسل من غير سدد ، وتتضوع من فمه رائحة نفسه ، ولا يعرف ان يسر حسوا في ارتغاء .
فاقتحم في الميدان بجنان الفارس المدله المدل بقوته ونفسه ، ومن سيفه ولسانه تنطف دعوى الجاهلية الاولى البشعة في الاسلام ، تأباها عليه الصبغة الدينية المصطبغ بها المجتمع يومئذ ، وهو في الدرجة الاولى متأثر بالاسلام وتعاليمه ، وللشعور الديني المكان الاول في تأثر الجماعات الدينية وانفعالاتها ، فما لم يستخدم هذا الشعور لا يرجى ان يحدث في الجماعة التعصب الذي يجعل الانسان يرى سعادته في التضحية بنفسه وبكل عزيز فداء للمقصد الذي يوجه إليه .
العقائد السقيفة
_ 110_
فالحباب ان تولى الدفاع عن سعد وقومه نصرة لهم فهو الذي أفسد عليهم أمرهم أكثر من أي شخص آخر من حيث يظن الصلاح وبدلا من ان يقود المجتمعين للغرض الذي اجتمعوا لاجله قد خسرهم واعطى القيادة ـ من حيث لايشعر ـ لغيره الذي عرف كيف تؤكل الكتف في استمالتهم واستعمال نفوذه فيهم .
وكان اول ظهور هذه الخسارة قيام ابن عمه بشير بن سعد الخزرجي ، فنقض على الخزرج ما اجمعوا عليه فقال :
« يا معشر الانصار انا والله لئن كنا اولى فضيلة في جهاد المشركين وسابقة في هذا الدين ما اردنا إلا رضى ربنا ، نبينا والكدح لانفسنا ، فما ينبغي لنا ان نستطيل على الناس بذلك ولا نبتغي من الدنيا عرضا فان الله ولي المنة علينا بذلك ، ألا إن محمدا من قريش وقومه أحق به وأولى ، وايم الله لا يراني الله انازعهم هذا الامر ابدا فاتقوا الله ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم » .
انظر إلى الشعور الديني كيف أخذ بأطراف كرم هذا الرجل ، متأثرا بدعوة ابي بكر وصاحبه ، خارجا على قومه بل على نفسه ، وكان بعد ذلك اول مبايع من القوم .
ولا اعتقد ان ذلك كله عن نفاسة لسعد كما رماه به الحباب لما مد يده للبيعة فناداه : « يا بشير بن سعد عققت عقاق ! ما أحوجك إلى ما صنعت ؟ أنفست على ابن عمك الامارة ! » .
فقال بشير : « لا والله ولكن كرهت ان انازع قوما حقا جعله الله لهم » .
بل اعتقد انه كان صادقا بعض الصدق أو كله فيما ادعاه عن نفسه فان سير الحادثة كما وصفناه يدل دلالة واضحة على تأثر الجماعة بكلام ابي بكر وانقيادها إلى دعوته ولا سيما بعد ما صدر من الحباب ما يبعد النفوس عن دعوة قومه ، نعم ! وإنما كان مبدأ ظهور ذلك التأثير في بشير بن سعد ، فيصح ان نجعله ممثلا لشعور قومه تلك الساعة .
العقائد السقيفة
_ 111 _
9 ـ المهاجرون يربحون الموقف
إن الحقيقة هي التي وصفناها لك ، إن القوم قد تكهربوا بدعوة المهاجرين وتهيئوا لبيعة واحد منهم بالرغم من وجود التنافس بين الحزبين كما أشرنا إليه وصرح به أبو بكر في خطبته التي تقدمت في البحث « 3 » إذ قال : « فقد جلس بين لحي اسد يقضمه المهاجري ويجرحه الانصاري » وزاد في تهيئهم هذا منافسة الاوس للخزرج وحسدهم لسعد .
وطبيعي ان تنافس القريب اكثر أثرا من منافسة البعيد مهما كانت ، ولذلك نرى ابا بكر لما سمع مقالة بشير لم يتأخر عن تقرير النتيجة من هذا النقاش ، فلا بد انه علم بانقلاب الجمع تأثرا بدعوتهم كيف وهو قد هيمن عليهم ونومهم تنويما مغناطيسيا ، فيعرف كيف سخره وقاده فقدم للبيعة أحد الرجلين اللذين معه : عمر بن الخطاب وابي عبيدة الجراح ، وقال : « قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فأيهما شئتم فبايعوا » .
وقد جرى في هذا الكلام هنا على نفس تلك الطريقة التي سلكها في خطبته المتقدمة في البحث « 7 » من ترفعه عن مقام المعارضة ، وتجريده من نفسه حكما للحزبين يختار لهما ما هو الصالح باجتهاده ، فاختار لهم احد هذين الرجلين .
ولكن الجمهور كما قلنا ضعيف الرأي والاختيار ، لايعرف ان يختار ولا يعرف ان يعين ما يختار ، ويبقى في مثل هذا الحال منتظرا اشارة من سخرة ونومه التنويم المغاطيسي أو لاي شخص آخر يفاجئه بارادة قوية حازمة ، فلو ان احدا من الحاضرين قام فبايع احدا منهما عمر أو أبا عبيدة لبويع وانتهى كل شيء .
العقائد السقيفة
_ 112 _
ولو ان ابا بكر عين واحدا لما تأخروا عن بيعته ، ولكن هذا الترديد بين الرجلين يظهر انه كان مقصودا تمهيدا لارجاع الامر إليه ، ولعله عن تفاهم سابق واتفاق بين الثلاثة ليتعاقبوا هذا الامر .
ولذلك تمنى عمر عند الموت ان يكون ابو عبيدة حيا ليعهد إليه ، اما هما فقد أبيا عليه وقال عمر : « لا والله لا نتولى الامر عليك ابسط يدك نبايعك ! » قال هذا القول ولم يترك فرصة تستغل للرد والحجاج ، فحقق القول بالعمل ، وأقدم بارادة جازمة لا تعرف التردد يتطلبها الموقف الدقيق ، فذهب ليبايع ابا بكر ، ولم يتمنع ابو بكر فمد يده ، ولكن بشير بن سعد هذا الذي تقدمت خطبته سابق عمر بن الخطاب إليها فوضع يده بين يديهما مبايعا ، كأنما اراد بذلك ان يحرز الفضيلة في السبق أو ليبرهن على اخلاصه للمهاجرين ، بل هذا من اندفاعات الجمهور المدهشة بنتيجة انفعالهم بالمؤثرات التي تطرأ عليهم .
وهو من ابلغ الشواهد على ما قلنا من تكهرب نفوس جمهور السقيفة بتلك المؤاثرات التي استعملها ابو بكر بتلك الحذاقة واللباقة ، فان لبعض الالفاظ والجمل سلطانا لا يضعفه العقل ولا يؤثر فيه الدليل ، الفاظ وجمل يفوه بها الخطيب خاشعا أمام الجمهور ، فلا تكاد تخرج من فيه حتى تعلو الوجوه هيبتها وتعنو القلوب لها احتراما كأن فيها قوة إلهية أو موجة سحرية ، فتثير تارة في النفوس أشد الصواعق من الغضب ، وتسكنها تارة إذا جاشت فتمزق اشلاءها وتقودها إلى حيث يريد المتكلم راضية قانعة
(1).
---------------------------
(1) راجع كتاب « روح الاجتماع » المعرب لغستاف لبون ص 113 .
العقائد السقيفة
_ 113 _
ويظهر ان عمر ايضا أدرك حقيقة الموقف وكيف قد ربحه المهاجرون فلم يبق إلا أن يصدر أحدهم الحكم الفاصل في تعيين من يبايع منهم ، فأقدم على بيعة ابي بكر ـ كما رأيناه ـ غير متردد ولا متخوف ولا مستشير ، ومد يده مسرعا .
وإلا فان الامر أعظم من أن يتم بهذه السرعة والسهولة التي كانت : باقدام شخص واحد يعقد البيعة لشخص آخر الظاهر ظهور الشمس انه صاحبه المنحاز إليه في وقت هو احد ثلاثة أو أربعة من الحزب المعارض لقوم في عقر دارهم معتزين بقوتهم يريدون أن يملكوا أعظم سلطان لاعظم أمة ، وهو لم يأخذ رأيهم وتصديقهم على ما أراد
(1).
وإنما اقدم كأن الامر لا يدور إلا بينه وبين ابي بكر كأمر ثابت لاشك فيه . وهذه مغامرة خطيرة لها ما بعدها ، ولم تكن منه إلا لانه أدرك نضج القوم وتهيئهم لبيعة أحد المهاجرين .
ولذلك لم نجد معارضة من القوم ، بل الاوس ذهبت جميعها مسرعة للبيعة من غير تردد ولا تلكؤ يقدمها أسيد بن حضير بعد ان قالت ما قالت كما تقدم في البحث « 3 » ، ثم تبعهم جميع الانصار ما عدا سعدا ومن كان شديد التعصب له كأبنه قيس والحباب .
ولا شك ان للعدوى أثرها الفعال في الجماعات فتسري سريان النار في الهشيم ، أو تيار الكهرباء في سلكه ، فقد وجدنا كيف كان هلعهم في تزاحمهم على البيعة وتسابقهم إليها ، كأنما تفوت دونها الفرصة ، فأقبلوا من كل جانب يبايعون ابا بكر ، حتى ازدحموا على سعد بن عبادة السيد المطاع في الخزرج بل الانصار كلهم ، هذا الزعيم الذي كان قبل ساعة مرشحا للبيعة خليفة للنبي وأميرا على جميع المسلمين ، وكادوا يطأونه فيقتلونه وهو مزمل وجع ، فحمل إلى داره صفر اليدين .
---------------------------
(1) على انه قال بعد ذلك في خلافته : « فمن بايع اميرا من غير مشورة المسلمين فلا بيعة له ولا بيعة للذي بايعه تغرة يقتلا » راجع كنز العمال الجزء الثالث رقم الحديث 2323 .
العقائد السقيفة
_ 114 _
وهذا ألطف شيء في تناقض أفعال الجمهور وعدم ثباته وتطرفه في اعماله وآرائه وشدة نزقه ، فانه لا يعرف الحلم والصبر ولا قمع النفس عن الاسترسال في نزعاتها ، ولا المحافظة على الآداب العامة المصطلح عليها ، وهو مع ذلك كثير النسيان لاحواله السابقة .
أما الحباب ـ ولا ينبغي أن ننساه ـ لما رأى اقبال الناس على البيعة انتضى سيفه ، فحامله عمر فضرب يده ، فندر السيف ، فأخذ منه .
فجعل يضرب بثوبه وجوههم حتى فرغوا من البيعة ، ولكن من المعلوم أنه لم يصنع شيئا ولم يستطيع رد جماح أي شخص من قومه حتى تمت البيعة مرغما ، وصدق فيه وفي قومه المثل المشهور « رب ساع لقاعد » .
وليتني أراه في تلك الساعة كيف كان حاله فتزبد شدقاه ويتميز غيظا ويعض على أنامله وقد ملكت حواسه سورة الغضب ، وماذا كان يقول لقومه ولنفسه بعد ذلك الذي مضى منه من التهديد والوعيد ثم ذهب هباء وخار ضعفا ؟ لا شك انه لو كان من ابناء هذه المدينة الحديثة متشبعا بعاداتها ، لكان ـ هو على مثل هذه الحال ـ ضحية الانتحار ليتخلص من شنارها ويستر عارها .
10 ـ النتيجة
نستنتج من سير الحادثة ان طريقة بيعة ابي بكر لم تكن طريقة اختيار بالمعنى الصحيح
(1).
ويحقق معنى أنها كانت « فلتة » وقى الله شرها على حد تعبير عمر بن الخطاب .
---------------------------
(1) فنصدق كلمة الاستاذ محمد فريد أبي حديد في مقاله « نظرة في نظام بيعة الخلفاء » المنشور في مجلة الرسالة المصرية العدد 10 .
العقائد السقيفة
_ 115 _
وقد رأينا السرعة التي جرت بالحادث لم تبق مجالا للمفكر ان يشحذ فكره ولا للمعارض ان يقيم حجته ، فكانت مفاجأة في مفاجأة ، مع ان العاطفة العدائية عند الاوس المهيجة من ابي بكر كان لها الاثر الفعال في تقريب النتيجة ، وساعدها بل اشعل أوارها ان المجتمعين انطبعت فيهم اوصاف الجماعة الاجتماعية ، مما يذهب عنهم صحة الاختيار والحكم .
فلا بدع إذا لم يثق الباحث المفكر باختيار جماعة السقيفة ، ولا يغتر به دليلا على صحة هذه الطريقة من البيعة في الاسلام .
وقد اشرنا في الفصل الاول إلى ان عمر نفسه قال عنها : « فمن دعا إلى مثلها فهو الذي لا بيعة له ولا لمن بايعه » .
ولا غرابة ايضا إذا لم يدافع احد عن النص على علي بن ابي طالب ، وقد اندفع المجتمعون بتيار جارف لا يقف في سبيله شيء ، ونحن نعرف رأي المهيمنين على الاجتماع في علي ، وهم يبتعدون ان يتم له شيء من ذلك ، أفتراهم يدعون إليه في هذا المجتمع الذي اسس على الاعراض عن النص فيه .
وإذا قال بعد ذلك بعض الانصار أو كلهم « لا نبايع إلا عليا » كما سبق فقد قلنا ان ذلك بعد خراب البصرة ، فان هذا الجمهور اصبح لا يملك اختياره وتفكيره وشعوره بواجبه الديني لما قلناه من تكهربه بتيار تلك القوة السحرية قوة الاجتماع التي تجعل اعماله اعمالا لا شعورية ، على ان اساس الاجتماع ارتكز على طمع الانصار من جهة تخوفهم من جهة اخرى « على ما شرحناه فيما تقدم » .
العقائد السقيفة
_ 116 _
وهذان لم يتركاهم يفكرون في واجبهم الديني فبعد أن افحموا وغلبوا واندفعوا مع الغالبين ، وتلك هي فطرة البشر .
ويشهد على ما نحسه من الضعف الديني في تلك الاحكام العاجلة والقرارات الخاطفة في اجتماع السقيفة ، انه مما تقرر في تلك النهزة أمران عامان :
1 ـ ان الانصار لا حق لهم في هذا الامر .
2 ـ انهم الوزراء لمن كانت له الامارة .
مع ان الاول شك فيه أبو بكر نفسه بعد ذلك إذ تمنى فيما تمنى لو سأل النبي عنه ، والثاني هذا المنصب المزعوم ـ وزارة الخليفة ـ لم يعط لاحد منهم لا في عهد ابي بكر ولا بعده ، بل هذا المنصب لم يحدث لاحد إلا في عهد العباسيين .
وبهذه النتيجة التي حصلنا عليها من سير حوادث السقيفة وملابساتها يسهل علينا ان نفسر بها الآية الكريمة « أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ . . . » .
فان الاجتماع كان ـ على كل حال ـ انقلابا على الاعقاب حتى لو لم نؤمن بالنص من قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على من سيكون خليفة من بعده ، لان الاجتماع كما قلنا من اصله كان افتياتا على المسلمين ولم يكن مستندا إلى قاعدة اسلامية أو تصريح من الرسول .
العقائد السقيفة
_ 117 _
وكذلك ما قرره الاجتماع لم يكن إلا قرارا خاطفا تحكمت فيه العواطف في المبدأ والمنتهى ، وليس فيه مجال الرجوع إلى النص ، والى هنا نستطيع ان نرجع إلى ما قلناه في التمهيد انه كيف تفسر الآية بحوادث السقيفة وأرجو من القارئ ان يرجع من جديد إلى بحث السقيفة ليأخذ بأطراف الموضوع على ضوء هذه النتيجة .
ومن نفس الحادثة نستطيع ايضا ان نؤيد النص على الامام علي عليه السلام ، لان ما ورد فيه من تلك النصوص لو لم تكن لتعيينه خليفة وكانت لمجرد الثناء وبيان فضله ولم يكن الاجتماع لاستغلال الفرصة لمخالفة النص وكان اجتماعا طبيعيا شرعيا ـ لو لم يكن كل ذلك لوجب أن يكون هذا الرجل الذي هو من النبي بمنزلة هارون من موسى في مقدمة المجتمعين وعلى رأسهم ومعه أهل بيته ولما كان ينعقد الاجتماع ولا يقرر فيه شيء من دون مشورته وموافقته ولكن ـ كما سبق ـ كل ذلك لم يقع .
بل الحادثة من مبدأها إلى منتهاها اخذت على أن تقع على غفلة منه ومن بني هاشم إلى آخر لحظة منها واهمل شأنهم وكأنهم لم يكونوا من المسلمين أو لم يكونوا من الحاضرين إلا بعد أن تم كل شيء .
العقائد السقيفة
_ 118 _
7 ـ الفصل الرابع : علي مع الخلفاء :
1 ـ الافتيات على الامام
لا يشك التأريخ ان عليا عليه السلام ـ كما قدمنا ـ لم يكن على علم من اجتماع الانصار في سقيفتهم ، حتى بعد ذهاب الثلاثة من حزب المهاجرين متكتمين ، وهم ابو بكر وعمر إذ ذهبا يتقاودان ـ على حد تعبير الطبري في تاريخه ـ وتبعهما ابو عبيدة ، بل لم يعلم الامام بما تم في السقيفة إلا بعد خروجهم إلى المسجد في ضجيجهم « وفي مقدمتهم عمر بن الخطاب وبيده عسيب نخل وهو محتجز يحث الناس على البيعة » ، فبلغه تكبيرهم ، وهو مشغول ـ لا يزال ـ في جهاز النبي . ولم يخرج إليهم إلا في اليوم الثاني .
واول شيء يبدو دليلا على افتيات القوم عليه بالمشهورة ، وهم يشعرون بأنهم في مقام الخصومية له انهم لم يخبروه بحادث اجتماع الانصار عندما أسر عمر إلى ابي بكر وهو في بيت الرسول بالخبر ، وهما ايضا لم يخبرا احدا غير ابي عبيدة الذي تبعهما وحده حيث الاجتماع السري ، مع ان مثل الامام اولى الناس بتدارك هذا الموقف الدقيق ان كان في اجتماع الانصار خطر على الاسلام أو فتنة ، والامور جارية على ظواهرها الطبيعية بين الامام وبين هذه الجماعة . ثم الاغرب انهم لم يدعوه للمشاورة بل حتى للبيعة قبل أن يتم كل شيء ينتظر لبيعة أبي بكر .
ولا ينتهي التساؤل عما إذا ينبغي ان يرسلوا إليه من يخبره بالامر على الاقل ! اما كانوا على حسن نية معه أو ثقة بموافقته لهم ورضاه ؟ .
العقائد السقيفة
_ 119 _
نعم ! لقد وجدناهم قد قضوا أمرهم بينهم ، ودعوا الناس إلى البيعة اشتاتا ومجتمعين ، مستشعرين الكفاح والخصومة بل الخوف امام حزب علي .
ولذا انتهزوا فرصة انشغاله وانشغال اصحابه وبني هاشم بجهاز سيدهم . ويشهد لهذا قول الطبري في تاريخه : « وجاءت اسلم فبايعت فقوي بهم جانب ابي بكر وبايعه الناس » ، تأمل كلمة ( فقوي بهم جانب أبي بكر ) ، لتفهم ان هناك جانبين متخاصمين يقوى احدهما ويضعف الآخر ، وليس المراد بالجانب الآخر الانصار لانهم قد بايعوا في السقيفة ولم يبق إلا سعد بن عبادة وابنه ، وليس له كبير اهتمام وقد اهملت بيعته حسب اشارة بعض ابناء عمه .
أما علي فقد قلنا انه جاءه الخبر عفوا لما سمع تكبير القوم في المسجد وهو حول النبي مشغول بجهازه . ولما بلغته حجتهم على الانصار لم يكتم نقدها ، فقال كما في نهج البلاغة : « احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة » .
2 ـ رأيه في بيعة السقيفة
قلنا في آخر الفصل الاول انه لماذا لم يطالب الامام صراحة بالنص عليه بالخلافة ، وهنا نقول : انه مع ذلك لم يكتم رأيه في بيعة السقيفة ، فان التأريخ لا يشك ، عند من ينظر إليه نظرة فحص وتمحيص ، أنه كان ناقما على ما اسرعوا إليه من بيعة ابي بكر ، وكان يعدها غضبا لحقه ، فلم يلاق الحادث إلا بالاستغراب والاستنكار كما يبدو من كلمته السابقة التي قرأتها أخيرا ، ومن كلمات كثيرة منبثة في نهج البلاغة وغيره وأهمها الخطبة الشقشقية .
العقائد السقيفة
_ 120 _
وأقل ما يقال في انكاره تخلفه عن البيعة حتى ماتت فاطمة الزهراء عليها السلام ، على ان من الظلم نقول : ان الامام تخلف عن البيعة ، وهو صاحب الامر الذي يجب أن يؤتى إليه ، وإنما الحق أن نقول : إن الناس هم الذين تخلفوا عنه .
وأول اعلان له عن رأيه كان عند خروجه في اليوم الثاني من السقيفة بعد البيعة العامة ـ كما في مروج الذهب ـ فقال لابي بكر : « أفسدت علينا أمرنا ولم تستشر ولم ترع لنا حقا » .
وهذا القول صرخة في وجه الاستئثار عليه ، وتصريح بعدم الرضى بما تم ، وليس علي ممن يداجي أو يخاتل ولا ممن تأخذه في الله لومة لائم . ولذلك هم كانو يفرون من التحرش به قبل تمام البيعة خوف اعلان خصومتهم ، فنرى ابا بكر في جواب كلامه السابق يعترف له ويقول : « بلى ! ولكن خشيت الفتنة » .
ويسكت التأريخ عن ذكر جواب الامام ، أفتراه اقتنع بكلمة ابي بكر أو أغضى عن جوابها أو التأريخ أهمل الجواب ، ولكن عليا نفسه يقول من خطبة له عن هذه الحادثة : « فلما قرعته بالحجة في الملا الحاضرين هب كأنه لا يدري ما يجيبني به » .
العقائد السقيفة
_ 121 _
ولئن فرض انه سكت هذه المرة فانه لم يترك الدعوة إلى نفسه واستنكار حادث السقيفة ، وان بايع بعد ذلك فلم يبايع عن طيبة خاطر واطمئنان إلى الوضع ، وهو الذي يقول بالصراحة في الشقشقية : « فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجى أرى تراثي نهبا » .
ثم التأريخ يحدثنا انه لم يبايع إلا بعد أن صرفت عنه وجوه الناس بموت فاطمة الزهراء . وكم تذمر وتظلم من دفعه عن حقه مثل قوله من كلام له في النهج : « فو الله ما زلت مدفوعا عن حقي مستأثرا علي منذ قبض نبيه صلى الله عليه وآله وسلم حتى يوم الناس هذا » ويشير بهذا اليوم إلى عصره في خلافته .
هذا هو الصريح الواضح من رأي الامام في بيعة السقيفة وما وقع بعدها . ويكفي النظر في الشقشقية وحدها ، غير ان التأريخ قد يحاول ان يكتم هذه الصراحة ، لانه لا ينكر على كل حال ان عليا مع الحق والحق مع علي ، فلا يمكنه ان يتهمه بالحيدة عن طريق الحق إذا اعترف بهذا الرأي منه ، وهو ـ أعني التأريخ ـ يريد ان يصحح ما وقع يوم السقيفة الذي لا يصح من دون رضى صاحب الحق وموافقته ، فيركن إلى المداورة .
ولكن في الحقيقة لابد ان تتم على نفسها ، فانه جاء في صحيحي البخاري ومسلم عدا كتب التأريخ والسير ما لا يخرج عن هذا القول : « ان وجوه الناس كانت إليه وفاطمة باقية فلما ماتت انصرفت وجوه الناس عنه وخرج من بيته فبايع ابا بكر وكانت مدة بقائها بعد أبيها ستة أشهر » .
العقائد السقيفة
_ 122 _
وجاء ما هو أصرح من كل ذلك في جوابه لكتاب لمعاوية ، إذ يتهمه معاوية بالبغي على الخلفاء والابطاء عنهم وكراهية أمرهم ، فيقول الامام منكرا لبعض التهم ومعترفا بالبعض الآخر : « فأما البغي فمعاذ الله أن يكون واما الابطاء والكراهية لامرهم فلست اعتذر إلى الناس في ذلك »
(1).
3 ـ الموقف الدقيق
يظهر للمتتبع ان الامام كان يرى ـ عطفا على رأيه السابق ـ وجوب مناهضة القوم حتى يأخذ حقه منهم .
ويستشعر ذلك من سيرته معهم ومن كثير من أقواله التي منها قوله في الشقشقية عن حربه لاهل الجمل ومعاوية : « أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر ، وما أخذ الله على العلماء ألا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم ؛ لالقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها » .
فانظر إلى موقع كلمته : « لسقيت آخرها بكأس أولها » ، فانه يريد أن يقول : ان زهدي بالدنيا يدعو إلى أن أترك حقي في المرة الاخيرة كما تركته في المرة الاولى ، ولكن الفرق كبير بين الحالين : ففي الاولى لم تقم علي الحجة في القتال لفقدان الناصر دون هذه المرة ، فلا يسعني ان اعرض عنها هذه المرة واسقيها بالكأس الذي سقيت به اولها يوم طويت عنها كشحا وصبرت على القذى .
وأصرح من ذلك ما كان يقوله : « لو وجدت اربعين ذوي عزم منهم لناهضت القوم » وهذا ما عده معاوية من ذنوبه ، وذلك فيما كتب إليه من قوله : « فمهما نسيت فلا أنسى قولك لابي سفيان لما حركك وهيجك لو وجدت اربعين ذوي عزم منهم لناهضت القوم ، فما يوم المسلمين منك بواحد » ، ولم ينكر امير المؤمنين عليه السلام هذا القول في جوابه على هذا الكتاب .
---------------------------
(1) راجع شرح النهج ( 3 : 409 ) .
العقائد السقيفة
_ 123 _
وفي التاريخ مقتطفات تؤيد ذلك ، كما في تأريخ اليعقوبي : إن اصحابه الذين كانوا يجتمعون إليه طالبوه بمناهضة القوم وتعهدوا بالنصرة ، وكأنهم ظنوا ان قد بلغوا العدد المطلوب « 40 ذوي عزم » فقال لهم : اغدوا على هذا محلقي الرؤس ، وهو إنما يريد ان يريهم انهم لم يبلغوا المنزلة التي تقام بها الحجة ، فلم يعد عليه إلا ثلاثة نفر .
وإذا كان هذا رأيه في المناهضة للقوم يبلغ ـ يا سبحان الله ـ هذه الشدة والصرامة فماذا تراه صانعا ؟ لنتركه الآن يحدثنا هو عن نفسه وموقفه الدقيق ، إذ يقول من الشقشقية : « وطفت ارتئي بين أن أصول بيد جذاء أو اصبر على طخية عمياء يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه » ، ثم يبين لنا كيف ان يده جذاء من خطبة ثانية ، « فنظرت فإذا ليس لي معين إلا أهل بيتي فضننت بهم على الموت » .
فهو إذن بين امرين لا ثالث لهما : اما المغامرة بما عنده من اهل بيته ، واما الرضوخ للامر الواقع ، اما الحالة الاولى ففيها خطر على الاسلام لا يتدارك فانه إذا قتل هو وآل بيته ارتفع الثقل الثاني من الارض « عترة الرسول » وافترق عن عديله القرآن الكريم وهناك الضلالة التي لا هداية معها ، وقد قال النبي : « لا تضلوا ما ان تمسكتم بهما أبدا » أو« لن يفترقا حتى يردا علي الحوض » واما الحالة الثانية فان في الصبر على هضم حقوقه اضاعة لوصية النبي ، وتعطيل لنصبه اياه اماما وخليفة من بعده .
العقائد السقيفة
_ 124 _
فأي الامرين هو اولى بالرعاية لحفظ بيضة الاسلام ؟ وأنٌٌى لنا ان نتحكم في ترجيح أحد الامرين ، ونعرف الامام واجبه في هذا الامر ؟ ! .
وما بالنا نذهب بعيدا ، فانا نعرف ما صنع الامام ، انه استسلم للقوم وبايع كما بايع الناس بالاخير ، وقد قرر الرأي الاخير بعد ان طفق يرتئي بين ان يصول بيد جذاء أو يصبر على طخية عمياء عندما قال : « فرأيت الصبر على هاتا احجى » فسدل دونها حينئذ ثوبا وطوى عنها كشحا .
على انه لا يضيع وجه الرأي على الناظر في هذا الامر ليعرف كيف كان الصبر أحجى ، لانه لو نهض في وجه القوم مع قلة الناصر وحسد العرب له وترات قريش عنده ، لكان المغلوب على أمره ، وعندئذ يصبح نسيا منسيا ، ولربما لا يحفظه التأريخ إلا باغيا بغى على الدين كأولئك اصحاب الردة ، فقتل « بسيف الاسلام » واضيع مع ذلك النص على خلافته . وقد رأيناه مع بقائه حيا وانتهاء الامر إليه بعد ذلك كيف غمط حقه وأعلن سبه وبقي الشك فيه إلى يوم الناس هذا ! .
وقد أشار إلى ذلك في كلامه لعمه العباس وابي سفيان لما طلبا بيعته ، إذ قال لهما : « أفلح من نهض بجناح أو استسلم فأراح . . . ثم قال : ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه » .
العقائد السقيفة
_ 125 _
حقا ، لا ينهض في هذا الموقف إلا من لا يبالي إلا بالحرص على الملك ومطاولة الناس مهما كانت النتائج على الدين والصالح العام ، وأمير المؤمنين أحرص على الاسلام من ان يغرر به لامر يقول عنه : « انه ماء آجن ولقمة يغص بها آكلها » ، ولا يساوي عنده نعله التي لاتسوى درهما ، إلا إذا كان يقيم حقا أو يدحض باطلا .
ولذلك ، ينصح الناس في كلامه الذي أشرنا إليه مع العباس وابي سفيان ، وهما يحثانه على قبول البيعة ، فيقول : « شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة وعرجوا عن طريق المناظرة ، وضعوا عن تيجان المفاخرة » .
وكأنه في كلامه هذا يحس منهما إذ دعواه لهذا الامر الانفة من الخضوع لاخي تيم ، و ( تيم ) على حد تعبير أبي سفيان أقل حي في قريش ، فهما ينظران إلى الامر من ناحيته القبلية ، والعصبية الجاهلية .
أما فقهه هو فكما قال من كتاب له في جواب معاوية في خصوص هذا الامر : « وما على المسلم من غضاضة في ان يكون مظلوما ما لم يكن شاكا في دينه » ، وهو غير فقههما فان العباس مشى إليه أبو بكر وجماعة ليلا ، لما عرفوا موقفه ، فأطمع في الخلافة له ولولده ، بعد نقاش انتهي بالاعراض عن النزاع .
واما ابو سفيان فقد نقل ابن أبي الحديد ( 1 : 30 ) وغيره ان عمر كلم ابا بكر فقال إن ابا سفيان قد قدم وانا لا نأمن شره ، فدفع له ما في يده فتركه ، وكان أبو سفيان قد بعث قبل وفاة النبي على الصدقات .
العقائد السقيفة
_ 126 _
ثم لنفترض ثانيا أنه ما كان ليقتل لو ناهض القوم ولكن مع ذلك فالصبر على ترك حقه كان أحجى وأجدر لان منازعتهم كانت ـ لاشك ـ تجر إلى الفتنة وتبعث على الفرقة ، والاسلام بعد لم يتغلغل في نفوس العرب ولم يضرب جرانه في الجزيرة ، وقد أشرأبت الاعناق للانتقاض عليه .
فهو إذ وطن نفسه على ما هو أمر من طعم العلقم كما يقول بالتنازل عن حقه ، كان يخاف ويخشى ، ولكن لا على الحياة ـ وهو هو إبن أبي طالب في شجاعته واستهانته بالحياة ، الذي كان يقول : والله لو تظاهرت العرب على قتالي لما وليت عنها ـ بل كان خوفه على الدين من التصدع وعلى جامعته من التفرق ، فسالم إبقاء لكلمة الاسلام واتقاء للخلاف والشقاق في صفوف المسلمين فيرتدوا جميعا على أعقابهم ، والمفروض ليس عنده القوة الكافية لاظهار كلمة الحق وإقامة السلطان .
وهو يشير إلى هذا الخوف فيما يقول في هذا الصدد من خطبته في النهج : « ما شككت في الحق مذ رأيته . لم يوجس موسى عليه السلام خيفة على نفسه ، اشفق من غلبة الجهال ودول الضلال ، اليوم توافقنا على سبيل الحق والباطل من وثق بماء لم يظمأ » .
فهو في هذه الكلمة يتأسى بموسى عليه السلام إذ رموه بالخيفة ولكن فرقا بين الخوف على الحياة والخوف من غلبة الباطل : وهذا أفضل تفسير لقوله تعالى : « فأوجس في نفسه خيفة » وفيه تبرئة لنبي الله من الوهن والشك وما أدق معنى كلمة « من وثق بماء لم يظمأ » بعد تقديم قوله : « ما شككت في الحق مذ رأيته » وقد رأى الحق وهو إبن عشر سنين ! .
العقائد السقيفة
_ 127 _
ويوضح لنا ذلك جوابه المشهور لابي سفيان لما جاءه مستفزا على أبي بكر وهو يقول : « فو الله لئن شئت لاملؤها خيلا ورجلا » وأنت تعرف ما قال له الامام أنه قال : « أنك والله ما أردت بهذا إلا الفتنة وأنك والله طالما بغيب للاسلام شرا لا حاجة لنا في نصيحتك » ما أعظم هذه الصرامة والصراحة منه لمن يريد أن يبذل نفسه وقومه في ظاهر الحال ناصرا ومعينا على خصومه وهو يشكو فقد الناصر .
نعم أن الدين الذي بذل له مهجته كان عنده فوق جميع الاعتبارات ، وإن استهان به غيره ، وقد رأينا أبا سفيان كيف أسرع في الرجوع عن وعده ووعيده لما تركوا له ما في يده . وأمير المؤمنين قد صرح بغرضه هذا بعد ذلك في جوابه الذي أشرنا إليه عن كتاب معاوية كما في النهج والعقد الفريد إذ قال عن إبائه على أبي سفيان : « حتى كنت أنا الذي أبيت لقرب عهد الناس بالكفر مخافة الفرقة بين أهل الاسلام » .
4 ـ سلوكه مع الخلفاء اما وقد تركنا الامام يغضي عن حقه ويقرر بالاخير خطة الصبر على ما فيها من قذى وشجى فماذا تراه يتخذ من خطة في سياسته وسلوكه مع الخلفاء : أيستسلم فيسرع إلى بيعتهم كسائر الناس ويعمل لهم كما يعمل باق المسلمين أم يسلك بقدر ما تسمح به الضرورة وتقتضيه المصلحة للدين ؟.
العقائد السقيفة
_ 128 _
قد ابى بعض المؤرخين من القدماء والمحدثين إلا ان يصور الامام مسالما إلى أبعد حدود المسالمة ، فيسرع إلى البيعة عن طيبة خاطر ورضى بمن نصب لها ، ولكن البحث الصحيح يأبى علينا أن نسلم بهذا التسرع في النقل أو الحكم : فقد ثبت تأريخيا ان عليا لم يبايع ابا بكر إلا بعد موت فاطمة بضعة الرسول ، وفي تقدير ابن الاثير في تاريخه والبخاري ومسلم في صحيحهما وغيرهم انه ستة أشهر ، وفي كل هذه المدة هو جليس بيته لم يشترك في جماعة ولا جمعة ولا أمر ولا نهي ولم يسمع له صوت في حروب الردة وغيرها .
واكثر من ذلك كان يطرق ابواب الانصار واهل السوابق ليلا حاملا معه فاطمة والحسنين يدعوهم إلى نفسه ويذكرهم عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وهذا ما جعله معاوية من ذنوبه في كتابه السابق الذكر ، ثم انه كان يقرعهم بالحجة وينير لهم طريق المحجة ذلك قوله المتقدم : « فلما قرعته بالحجة » .
وهل يظن الظان انه كان يحاول في هذا العمل ان يتحولوا في البيعة وان يتركوا ما ابرموه وهو الذي اسدل دونها ثوبا وطوى عنها كشحا ورأى الصبر على ذلك احجى وهو الذي يدعوه العباس وابو سفيان إلى البيعة فيأبي ؟ ان هذا الاباء وذاك الصبر لا يجتمعان مع تلكم المحاولة والدعوة إلى نفسه ما لم يكن يرمي الامام من وراء ذلك إلى غرض أسمى مما يظن ، انه كان يقيم الحجة في عمله على اولئك الناس ويفهمهم خطأهم فيما ارتكبوا وتنكبهم عن الحق فيما اسرعوا والى ذلك يشير فيما قال : « اللهم انت تعلم انه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان ولا التماس شيء من فضول الطعام ولكن لنرد المعالم في دينك ونظهر الصلاح في بلادك » .
العقائد السقيفة
_ 129 _
ويؤخذ من طيات التأريخ انه لم تأخذه هوادة في الدعاية والدعوة إلى مبدئه اظهارا لحقه واقامة للحجة على سواه ، فلا ينكر التأريخ اجتماع اصحابه عنده طيلة ايام انعزاله ، فيعتبره الطرف الآخر كمؤامرة يحاول ابطالها خشية توسعها ، فيرسل من يفرق القوم المجتمعين فيجتمعون .
ولا ينكر التأريخ ايضا تطوافه على الانصار واهل السوابق كما قدمنا .
ولا ينكر عدم اشتراكه في جمعة ولا جماعة ، وهو احرص على الشعائر الدينية والواجبات الالهية من أن يجرأ مجترئ على اتهامه بالمسامحة فيها .
وهذه المقاطعة وما إليها اعلان صريح برأيه فيما عليه القوم ولذا نرى الخليفة ابا بكر يتذمر من موقف الامام
فعرض فيه من خطبة : « يستعينون بالضعفة ويستنصرون بالنساء كأم طحال احب اهلها إليها البغي إلا اني لو اشاء ان أقول لقلت ولو قلت لبحت ، اني ساكت ما تركت » .
وفي هذا تخوف مما يظن انه سيقع وتهديد باذاعة أمر مكتوم . ما أدري ـ ولا أظن أحد يدري اليوم ـ أي شيء هذا الامر الذي يهدد الخليفة بافشائه ، والظنون تذهب ولا تقف على شيء معين !
وزبدة المخض : انا نفهم من كل ذلك ان خطة الامام في حياة فاطمة كانت المقاطعة والدعوة إلى مبدئه وان يقعد حجزة الضنين ـ على تعبير فاطمة نفسها ـ معتزا بوجودها ، وقد جاهدت معه في هذا المضمار جهادا له الاثر فيما بعد في تركيز مقام الامام في ذهنية المجتمع الاسلامي .
ولا ننسى خطبتها البليغة التي يرن صداها إلى اليوم .