( صلى الله عليه وآله وسلّم ) يقول لها : « يا حميدة هبي نجمة لابنك موسى فإنه سيولد له منها خير أهل الأرض » (1) .
   فكما أن بئر زمزم ـ التي كانت تسمى تكتم ـ خير نبع على وجه الأرض لأنه ينبعُ منها خير ماء وهو شفاء من كل داء (2) ، ودواء لما شرب له (3) .
   كذلك السيدة نجمة سميت بـ « تكتم » لأنّها ستلد خير اهل الارض بعد أبيه ، ومنه سيولد أربعة من أنوار أهل بيت العصمة والطهارة ، آخرهم إمامنا وسيدنا صاحب العصر والزمان ـ عجل الله ظهوره الشريف ـ ، والخير كل الخير يكون ممن « بيمنه رزق الورى ، وبوجوده ثبتت الأرض والسما » .

الوجه الثاني :
   إنّ زمزم كانت خافية ومكتومة عن الجميع فأظْهَرَها عبد المطَّلب ( عليه السّلام ) ، كذلك السيدة نجمة كانت مكتومة وخافية فأظهَرَها الإمام ( عليه السلام ) ، إذ البائع كَتَمَ أمرها ، وأراد أن يدخرَها لنفسه لولا أنّ الإمام ( عليه السلام ) أظهرها .

الوجه الثالث :
   قد تكون تسميتها بـ « تكتم » كناية عن العفة والطهارة ، فهي امرأه مكتومة وخافية عن الرجال ، ويؤيد هذا الوجه ما ذكره الشيخ الصدوق في عيون أخبار الرضا : « . . . كانت نجمة بكراً لمّا

---------------------------
(1) عيون أخبار الرضا : ج1 ص 17 .
(2) فعن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « ماء زمزم شفاءٌ من كل داء » .
(3) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله ) : ماء زمزم دواء مما شرب له » .

سَيِّدةُ عُشِّ آل مُحمَّد _ 27 _

  اشترتها حميدة » (1) .
   ولا مانع من الوجوه كلّها .

   نعم . . . هذه السيدة تكتم والدة السيدة فاطمة المعصومة ( عليها السلام ) وقد عرفتم كيفية انتخاب الإمام الكاظم ( عليه السلام ) لها لتكون أما لأولاده ، فولدت له خير أهل الأرض بعده ، وهو الإمام الرضا ( عليه السلام ) .

---------------------------
(1) عيون أخبار الرضا : ج1 ص 17 .

سَيِّدةُ عُشِّ آل مُحمَّد _ 29 _

(ج) متى ولدت السيدة المعصومة (عليها السلام)
   إن السيدة فاطمة بنت الإمام الكاظم ( عليه السلام ) هي أختُ الإمام الرضا لأمّه ، فأمّهما واحدة ، وهي من قد عرفت فضلها وعقلها ودينها .
   وأبوها مثله كمثل الشمس في وسط ا لسماء ، فهو « مَعدن التنزيل ، وصاحب التأويل ، وحامل التوارة والإنجيل » (1) ، « وصي الأبرار ، وإمام الأخيار ، وعيبة (2) الأنوار ، ووارث السكينة والوقار ، والحكم والآثار ، الذي كان يحيي الليل بالسّهر إلى السٌحر بمواصلة الإستغفار ، حليف السجدة الطويلة ، والدموع الغزيرة ، والمناجاة الكثيرة ، والضرّاعات المتصلة .
   ومقر النهي والعدل ، والخير والفضل ، والندى والبذل ،ومألف البلوى والصبر ... » (3) .
   فالسيدة المعصومة ( عليها السلام ) قد وُلدت في بيت لا يتنفس فيه إلا عبير التقى ، ولا يُرتضعُ فيه إلا بلبان الإيمان ، ولا يتربى فيه إلا بتربية القرآن ، ولا ينهل فيه إلا من رواء العلم ، ولا يُطعم فيه إلا من رياض

---------------------------
(1) هذا شطر من زيارة للإمام الكاظم ( عليه السلام ) .
(2) عيبة الشيء خاصته وموضع سره .
(3) شطر من زيارة أخرى للإمام الكاظم ( عليه السلام ) .

سَيِّدةُ عُشِّ آل مُحمَّد _ 30 _

  الخلق والأدب والطهر والعفة .
   وأمّا تاريخ ولادتها : ذكروا أنّها ( سلام الله عليها ) قد ولدت في المدينة المنورة في غرة ذي القعدة من سنة 173 هـ (1) .
   وعلى هذا التاريخ يكون عمرها الشريف حين وفاتها ثمان وعشرين سنة حيث توفيت في عام 201 هـ .
   وعلى كل تقدير لا يمكن أن يتصور عمرها الشريف أقل من إثنين وعشرين عاماً ، أي ولادتها لا تتصور بعد عام 179 هـ .
   لماذا ؟ وكيف ؟
   الجواب : في أصول الكافي : « . . . قبض ( عليه السلام ) (2) ببغداد في حبس السندي بن شاهك ، وكان هارون حمله من المدينة لعشر ليال بقين من شوال سنة تسع وسبعين ومائة ، وقد قدم هارون المدينة منصرفة من عمرة شهر رمضان ، ثم شخص هارون إلى الحج وحمَله معه ، ثم انصرف على طريق البصرة فحبسه عند عيسى بن جعفر (3) ، ثم أشخصه إلى بغداد ، فحسبه عند السندي بن شاهك ، فتوفي ( عليه السلام ) في حبسه . . . » (4) .
   فالإمام الكاظم ( عليه السلام ) قد فارق بيته ومدينة جدّه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم) في شوال سنة 179 هـ ، وعليه فولادة السيدة

---------------------------
(1) مستدرك سفينة البحار : ج8 ص 257 مادة « فَطَم » .
(2) أي الإمام الكاظم ( عليه السلام ) .
(3) أي عيسى بن جعفر المنصور الدوانيقي والي هارون على البصرة ، وهو الذي حبس الإمام ( عليه السلام ) لمدة سنة . راجع الإرشاد : ج2 ص 239 .
(4) أصول الكافي : ج1 ص 476 .

سَيِّدةُ عُشِّ آل مُحمَّد _ 31 _

  المعصومة ( عليها السلام ) كان قبل هذا التاريخ (1) ، فيكون عمرها الشريف ـ على أقل التقادير ـ حين وفاتها إثنتين وعشرين سنة ، ولكن الأقرب أن عمرها كان اكثر من ذلك ، وخاصة إذا عرفنا أنها كبرى الفاطمتين أو الفواطم (2) ، فالظاهر أن عمرها الشريف ثمان وعشرون سنة .

---------------------------
(1) وعلى هذا فلا يصح ما ذكر من أن ولادتها ( عليها السلام ) كانت في المدينة المنورة سنة 183 هـ ـ أي سنة وفاة أبيها ( عليه السلام ) الذي كان رهين السجون ـ .
(2) ذكر سبط بن الجوزي في تذكرة الخواص : ص 351 أن للإمام ( عليه السلام ) اربعاً كل منهن تسمى فاطمة .

سَيِّدةُ عُشِّ آل مُحمَّد _ 33 _

(د) إخوتها
   ذكر الشيخ المفيد في الإرشاد أنه كان لأبي الحسن موسى ( عليه السلام ) سبعة وثلاثون ولداً ذكراً وأنثى .
   فالذكور : الإمام الرضا ( عليه السلام ) ، وإبراهيم ، والعباس ، والقاسم ، لأمّهات أولاد (1) .
   وإسماعيل ، وجعفر ، وهارون ، والحسين لأم ولد .
   وأحمد ، ومحمّد ، وحمزة ، لأمّ ولد .
   وعبدالله ، وإسحاق ، وعبيد الله ، وزيد ، والحسن ، والفضل ، وسليمان ، لأمهات أولاد .
   والإناث :
   فاطمة الكبرى ، وفاطمة الصغرى ، ورقيّة ، ورقيّة الصغرى ، وأم أبيها ، وحكيمة وكلثم ، وأم جعفر ، ولبابة ، وزينب ، وخديجه ، وعليّة ، وآمنة ، وحسنة ، وبريهة ، وعائشة ، وأم سلمة ، وميمونة ، وأم كلثوم ، لأمهات أولاد (2) .

---------------------------
(1) أم ولد : هي الجارية التي أولدها مالكها ، فتصبح حرة وتعتق من نصيب ولدها .
(2) الإرشاد : ج2 ص244 .

سَيِّدةُ عُشِّ آل مُحمَّد _ 34 _

   وذكر النوبختي أنّ للإمام ( عليه السلام ) ثلاثة وثلاثين ولداً : ثمانية عشر ذكراً وخمس عشرة بنتا (1) .
   وفي تاريخ اليعقوبي أنّ له ( عليه السلام ) واحداً وأربعين ولداً : ثمانية عشر ذكراً ، وثلاث وعشرين بنتاً (2) .
   وفي عمدة الطالب أن له ( عليه السلام ) ستين ولداً : ثلاثة وعشرين إبنا ، وسبع وثلاثين بنتاً (3) .
   فهذه أربعة أقوال ، ولعل الاقرب هو المروي عن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) نفسه في الخبر الذي ذكره الشيخ الصدوق في عيون الأخبار ، الموافق لما ذكره الشيخ المفيد والنوبختي ، أن هارون العباسي سأل الإمام الكاظم ( عليه السلام ) عن عياله فقال : « . . . أما الولد فلي نيف (4) وثلاثون . . . » (5) .

---------------------------
(1) فرق الشيعة : ص 87 .
(2) تاريخ اليعقوبي : ج2 ص 415 .
(3) عمدة الطالب في انساب آل أبي طالب : ص 226 .
(4) نيف : هو ما زاد على العشرات من أعداد الآحاد ، فيشمل من واحد إلى تسعة .
(5) عيون أخبار الرضا : ج1 باب 7 الحديث 11 ص 89 .

سَيِّدةُ عُشِّ آل مُحمَّد _ 35 _

2 ـ ألقابها

سَيِّدةُ عُشِّ آل مُحمَّد _ 37 _

  للسيدة فاطمة بنت الإمام الكاظم ( عليهما السلام ) عدة القاب ، منها :

(1) المعصومة :
   وهي أكثر ما تعرف به ، وقد نقل عن الإمام الرضا ( عليه السلام ) أنّه قال : « من زار المعصومة بقم [ كان ] كمن زارني » (1) .

(2) كريمة أهل البيت :
   ينقل عن آية الله السيد محمود المرعشي ( قدس سره ) انه كان قد توسل بالأئمة الطاهرين ( صولات الله وسلامه عليهم ) ، كي يبينوا له موضع قبر الصديقة الطاهرة سيدة النساء فاطمة الزهراء ( سلام الله عليها ) .
   وبعد توسّلات كثيرة تلقى الجواب منهم ( صلوات الله عليهم ) أن لا تطلب منّا هذا الشيء فإنه ليس من المقدر أن نظهر قبرها المخفي ، لكن لاجل أن لا تُحرم شيعتنا ومحبونا من فيض زيارة قبرها عليكم بزيارة كريمة أهل البيت . .
   فاستفسر السيد : ومن هي كريمة أهل البيت ؟

---------------------------
(1) ناسخ التواريخ : ج7 ص 337 .

سَيِّدةُ عُشِّ آل مُحمَّد _ 38 _

   أجابوه : فاطمة بنت موسى بن جعفر ( عليهما السلام ) المدفونة بقم .
   فهذه وإن كانت رؤيا صالحة ، ولكنٌ الواقع الخارجي يصدقها ، فما نسمعه ونراه من كبير كرم ، وحسن استضافة هذه السيدة الجليلة لدليل واضح على ذلك ، ولا عجب فهي سليلة أصل الجود والكرم .
   ويكفي في كرمها احتضانها لحوزة التشيع في العصر الأخير ، بل منذ العصور الغابرة ، حيث كانت قم بلد التشيع ، ومركز حفظة أحاديث وعلوم أهل البيت ( عليهم السلام ) ، حتى أنه دفن في جوارها مائة الف محدث كما هو المعروف .
   فببركة التمسك بحبل ولائهم ( عليهم السلام ) أفاضوا على قم وأهلها ما أفاضوا ، وذلك عبر سليتهم الكريمة ، فاطمة المعصومة .

(3) اُخت الرضا :
   . . . قال أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي (1) للإمام الجواد ( عليه السلام ) : إن قوماً من مخالفيكم يزعمون أباك إنّما سمّاه المأمون الرضا لما رضيه بولاية عهده .
   فقال ( عليه السلام ) : كذبوا والله وفجروا ، بل الله تبارك وتعالى سمّاه الرضا ، لأنّه كان رضى لله عز وجل في سمائه ، ورضى لرسوله والأئمة من بعده ( صلوات الله عليهم ) في أرضه .

---------------------------
(1) أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي : من أصحاب الإمام الكاظم ( عليه السلام ) ، وكان من خواص أصحاب الإمام الرضا ( عليه السلام ) ، كما وأنه أدرك الإمام الجواد ( عليه السلام ) و(بزنط) موضع في العراق .

سَيِّدةُ عُشِّ آل مُحمَّد _ 39 _

   قال الراوي : ألم يكن كل واحد من آبائك الماضين ( عليهم السلام ) رضى لله تعالى ولرسوله والأئمة ( عليهم السلام ) ؟
   فقال ( عليه السلام ) : بلى .
   قال الراوي : فلم سمي أبوك من بينهم الرضا ؟
   قال : لانّه رضي به المخالفون من أعدائه كما رضي به الموافقون من اوليائه ، ولم يكن ذلك لأحد من آبائه ( عليهم السلام ) ، فلذلك سمي من بينهم الرضا ( عليه السلام ) » (1) .
   فلأن الإمام رضي به المخالف والمؤالف ، كان كل من يتصل به نسباً يُنسب إليه ، فالإمام الجواد ( عليه السلام ) عرف بابن الرضا ، وكان من القابه (2) ، كما أن الإمام الهادي والعسكري ( عليهم السلام ) كان يعرف كل منهما في زمانه بابن الرضا (3) .
   ولذلك أيضاً كانت السيدة المعصومة ( عليها السلام ) تعرف بـ ( اخت الرضا ) .
   وهذا وإن لم يذكر في كتاب معتبر ، ولكن الشواهد السالفة كافية لإثبات هذا اللقب لها .
   فهي كانت ( عليه السلام ) اخت الرضا حقيقة ، كما عرفت به القبا .

---------------------------
(1) عيون أخبار الرضا : ج1 ص13 .
(2) مناقب آل ابي طالب : ج4 ص 379 .
(3) المصدر السابق : ج4 ص 421 .

سَيِّدةُ عُشِّ آل مُحمَّد _ 41 _

3 ـ هل تزوجت السيدة المعصومة ( عليها السلام ) ؟

سَيِّدةُ عُشِّ آل مُحمَّد _ 43 _

   حتى نحصل على إجابة هذا السؤال ، لا بدّ لنا من قراءة متأنّيه في وصيٌتين لأبيها الإمام الكاظم ( عليه السلام ) وفي روايات اُخرى .
   فتعالوا نستطلع الروايات والتأريخ لنحصل على الجواب ، ونعرف حقيقة الأمر .
   قال اليعقوبي ـ المؤرِّخ ـ : « أوصى موسى بن جعفر ألا تتزوج بناته ، فلم تتزوّج واحدة منهن إلا اُم سلمة ، فإنها تزوجت بمصر ، تزوجها القاسم بن محمد بن جعفر بن محمد ، فجرى في هذا بينه وبين أهله شيء شديد حتى حَلَف أنّه ما كشف لها كنفاً ، وأنّه ما أراد إلا أن يحج بها (1) » (2) .
   ولكن عند الرجوع إلى وصية الإمام الكاظم ( عليه السلام ) التالية نرى أنّ الإمام لم يوص بذلك وإنّما اوصى أن يكون أمر زاجهن بيد أخيهن الإمام الرضا ( عليه السلام ) حيث إنه قال : « . . . وإلى علي أمر نسائي دونهم (3) . . . وإن أراد رجل منهم (4) أن يزوج أخته فليس له

---------------------------
(1) أي ، الظاهر أن يكون لها محرماً فيستطيع أن يحجٌ بها ـ وليس بواجب عندنا ـ .
(2) تاريخ اليعقوبي : ج2 ص 415 .
(3) أي دونه بقية إخوته .
(4) أي من إخوته .

سَيِّدةُ عُشِّ آل مُحمَّد _ 44 _

  أن يزوجها إلا بإذنه وأمره ، فإنه أعرف بمناكح قومه . . . » (1) .
   ثم إنه ( عليه السلام ) يؤكد على ذلك في موضع آخر من نفس الوصية : « ... ولا يزوج بناتي أحد من إخوتهن من أمهاتهن ، ولا سلطان ، ولا عمّ ، إلا برأيه ومشورته (2) ، فإن فعلوا غير ذلك فقد خالفوا الله ورسوله ، وجاهدوه في ملكه ، وهو أعرف بمناكح قومه ، فإن أراد أن يزوج زوج ، وإن أراد أن يترك ترك » (3) .
   فالإمام ـ بحسب الوصية ـ لم يمنع بناته من الزواج ـ كما ادّعى اليعقوبي ـ وإنما جعل أمر زواجهن بيد أخيهن الإمام الرضا ( عليه السلام ) .
   وفي وصية أخرى له ( عليه السلام ) لتعيين أوقافه وصدقاته وكيفيّة تقسيمها ، قال : « . . . يقسم في مساكين أهل القرية من ولد موسى بن جعفر للذكر مثل حظ الانثيين ، فإن تزوجت امرأه من ولد موسى بن جعفر فلاحق لها في هذه الصدقة حتى ترجع اليها بغير زوج ، فإن رجعت كان لها مثل حظ التي لم تتزوج من بنات موسى . . . » (4) .
  ويبدوا أنّ هذه الوصيّة هي التي جعلت اليعقوبي يقول بأنّ الإمام أوصى أن لا تتزوج بناته من بعده ، ولكن الظاهر منها أن التي تتزوج تكون في كفالة زوجها ، وهو ينفق عليها ، فإن مات أو طلقها رجعت وكان لها مثل حظ التي لم تتزوج .

---------------------------
(1) أصول الكافي : ج1 ص 316 ، وعيون اخبار الرضا : ج1 ص33 .
(2) أي الا براي ومشورة الإمام الرضا ( عليه السلام ) .
(3) أصول الكافي : ج1 ص 317 .
(4) عيون أخبار الرضا : ج1 ص37 .

سَيِّدةُ عُشِّ آل مُحمَّد _ 45 _

   ومع ذلك كله فانه لقائل أن يقول : يشم من هذه الوصية ومن سابقتها عدم رغبة الإمام في تزويج بناته ، بل إن الواقع الخارجي يصدق ذلك ، فلا الإمام الكاظم نفسه في زمان حياته زوج واحدة منهن ، ولا الإمام الرضا ، بل كان هذا سائراً في بناتهم ، وقد أوقف الإمام الجواد ( عليه السلام ) عشر قرى في المدينة أوقفها على أخواته وبناته اللاتي لم يتزوجن ، وكان يرسل نصيب الرضائية (1) من منافع هذه القرى من المدينة إلى قم (2) .
   فيستوقفنا ـ هنا ـ سؤال وهو : ـ
   رغب الشرع المقدس في الزواج المقدس في الزواج وحث عليه ونفر من العزوبة وحذر منها ، وقد وردت في ذلك روايات كثيرة فكيف أوصى الإمام الكاظم ( عليه السلام ) بعدم زواج بناته مع العلم أن الزواج سنة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم) ومن المستحبات الأكيدة ؟
   قد يجاب عن هذا السؤال بأحد الأوجه التالية :
   الوجه الأول :
   أنّ العزوبة وإن كانت مكروهة عند الشرع المقدس ، لكنها قد ترجح في بعض الأزمنة .
   فعن إبن مسعود قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم ) : « ليأتين على الناس زمان لا يسلم لذي دينه إلا من يفر من شاهق ، ومن جُحر إلى جُحر كالثلب بأشباله .
   قالوا : ومتى ذلك الزمان ؟

---------------------------
(1) أي بنات وحفيدات الإمام الرضا ( عليه السلام ) ، فهنٌ ينسبن إليه فيقال : الرضائية .
(2) تاريخ قم ـ المترجم ـ ص 221 .

سَيِّدةُ عُشِّ آل مُحمَّد _ 46 _

   قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إذا لم ينل المعيشة إلا بمعاصي الله ، فعند ذلك حلٌت العزوبة » (1) .
   فالعزوبة تحل في بعض الأزمنة ، وعليه قد يكون الإمام ( عليه السلام ) قد مر بما يماثل تلك الأزمنة ، فلا تنافي بين ترغيب الإسلام في الزواج ، وبين عدم تزويج الإمام ( عليه السلام ) لبناته .
   فالحكم الاولي للعزوبة هو الكراهة ، ولكن الحكم الثانوي المستفاد من هذه ا لرواية هو حليّة العزوبة في بعض الأوقات .
   الوجه الثاني :
   أنه ( عليه السلام ) لم يزوجهن لعدم الكفؤلهن ، فإنهن ودائع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكريماته ، فينبغي أن لا تزوجن إلا بمؤمن تقي يعرف مكانتهن ، ويقدر منزلتهن ، فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : « أنكحوا الأكفاء وانكحوا فيهم واختاروا لنطفكم » (2) .
   فلو أنّ الإمام ( عليه السلام ) قد زوجهن من غير الاكفاء لما عرفت مكانتهن ، ولهدرت حقوقهن ، وما في ذلك من المهانة والإذلال لودائع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) ، وحاشا الإمام أن يفعل ذلك .
   بل قد يكون تزويجهن من غير الأكفَاء عامل ضغط على الإمام ( عليه السلام ) تمارسهُ الحكومة العباسيّة لتكلبيل أشد للإمام ، وتقييد أكثر لحريّته .

---------------------------
(1) بحار الانوار : ج14 ص 351 .
(2) فروع الكافي : ج2 ص5 .

سَيِّدةُ عُشِّ آل مُحمَّد _ 47 _

   ولذا نجد أن الإمام ( عليه السلام ) في وصيته قد جعل أمر تزويج بناته بيد الإمام الرضا ( عليه السلام ) معللا ذلك بأنه أعرف بمناكح قومه .
   الوجه الثالث :
   ما أجاب به الإمام ( عليه السلام ) هارون عندما سأله : « . . . قال : فلم لا تزوج النسوان من بني عمومتهن واكفائهن ؟ قال : اليد تقصر عن ذلك .
   قال : فما حال الضيعة (1) ؟
   قال : تعطي في وقت ، وتمنع في آخر . . . » (2) .
   فالإمام ( عليه السلام ) علل عدم تزويجهن لقصر ذات اليد ، وضعف الإمكانات الماديّة .
   الوجه الرابع :
   نتيجة الضغوطات العنيفة ، والممارسات لتعسفية التي كانت السلطة العبّاسية تنتهجها تجاه الامام ( عليه السلام ) وشيعته ، ما كان أحد ليجرأ أن يتقدم من الإمام ليطلب كريمته أو أخته .
   بل إن الشيعة ـ في فترات مختلفة من الزمن ـ ما كانوا ليتقربوا من دار المعصومين ( عليهم السلام ) في إستفتائاتهم ، ولذا كان بعضهم يلجأ إلى الحيلة فيلبس ثياب بائع خيار ويحمل سلة الخيار حتى يتمكن من دخول دار الإمام ، فيستفتيه ويخرج .
   فإذا كان أتباع أهل البيت ( عليهم السلام ) لا يستطيعون استفتاء

---------------------------
(1) الضيعة : العقار ، والأرض ذات الغلة .
(2) عيون أخبار الرضا : ج1 ص 88 ح11 .

سَيِّدةُ عُشِّ آل مُحمَّد _ 48 _

  الإمام ، فما ظنك بمن يريد مصاهرة الامام ؟ !
   إنّ الراغبين لشرف مصاهرة الإمام ـ سواء أكانوا من أولاد العمومة أم من خيار الشيعة ـ كان أمرُهم دائراً بين مقتول بأيدي الغدر والعدوان ، وبين معتقل معذب في قعر السجون ، وبين مطارد من جلاوزة السلطة قد استخفى عن أعينهم . . . ! !
   فمن ذا الذي يجرأ ـ بعد هذا ـ أن يطلب الوصلة بالإمام ( عليه السلام ) ؟
   النتيجه :
   إنّ السيدة المعصومة ( عليها السلام ) ـ كسائر أخواتها ـ لم تتزوج ، وعدم تزويج الإمام لهن لا ينافي الترغيب والأمر بالزواج .
   وظاهرة عدم تزويج اكثر من إمام لبناته أو اخواته لهي ظاهرة تستحق دراسة أكثر ، وبحثاً أعم ، للتعرف على أسباب وملابسات هذه الظاهرة وتحليلها ، فهي حلقة من حلقات معناناة ومعايشة المعصومين ( عليهم السلام ) لظروف عصيبة ومختلفة .
   فعسى الله أن يفيض من يبحثها ويكشف عن غوامضها .

4 ـ معاناتها
  1 ـ فقد أبيها
  ب ـ الجلودي يرعب ودائع آل محمد (صلى الله عليه وآله)
  ج ـ السيدة تعايش ترحيل أخيها