الظّلمة (1) ، و أنت واجد منهم خير الخلف ممّن لم يعاون ظالما على ظلمه و لا آثما على إثمه ، ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بمرّ الحق لك (2) و أقلّهم مساعدة في ما يكون منك ممّا كره اللّه لأوليائه واقعا ( ذلك ) من هواك حيث وقع ، و الصق بأهل الورع و الصدق ثم رضهم على أن لا يطروك و لا يبجحوك بباطل لم تفعله (3) .
و لا يكوننّ المحسن و المسيء عندك بمنزلة سواء ، فإنّ في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان ، و تدريبا لأهل الإساءة على الإساءة و ألزم كلاّ منهم ما ألزم نفسه (4) و اعلم أنه ليس شيء بأدعى إلى حسن ظنّ راع برعيّته من إحسانه إليهم (5) و تخفيفه المؤونات عنهم ، و ترك استكراهه إياهم على ما ليس قبلهم (6) ، فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به
---------------------------
(1) الأثمة : جمع آثم ، الظلمة : جمع ظالم .
(2) آثرهم : أفضلهم ، مرارة الحق ، صعوبته ، يقول : ليكن أفضل وزرائك و أعوانك في نظرك أصدقهم و أكثرهم قولا بالحق مهما كان الحق صعبا على نفسك .
(3) رضهم : عوّدهم ، يطروك : يطنبوا في مدحك ، يبجحوك بباطل لم تفعله :
يفرّحوك بأن ينسبوا اليك عملا عظيما لم تكن فعلته .
(4) أي : أحسن الى المحسن بما ألزم نفسه ، و هو استحقاق الإحسان ، و عاقب المسيء بما ألزم نفسه كذلك ، و هو استحقاق العقاب .
(5) ليس هنالك ما يحمل الوالي على الاطمئنان إلى أن قلوب الناس معه كالاحسان اليهم و العدل فيهم و تخفيف الاثقال عن كواهلهم ، و هم في غير هذه الحال أعداء له ينتهزون الفرصة للثورة عليه ، و إذ ذاك يسوء ظنه بهم .
(6) قبلهم ، بكسر ففتح : عندهم .
روائع نهج البلاغة _ 152 _
حسن الظنّ برعيّتك ، و إنّ أحقّ من حسن ظنّك به لمن حسن بلاؤك عنده ، و إنّ أحقّ من ساء ظنّك به لمن ساء بلاؤك عنده (1) .
و أكثر مدارسة العلماء و مناقشة الحكماء (2) في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك ، و إقامة ما استقام به الناس قبلك .
ولّ من جنودك أنصحهم في نفسك للّه و لرسوله و لإمامك ، و أنقاهم جيبا و أفضلهم حلما : ممّن يبطىء عن الغضب ، و يستريح إلى العذر ، و يرأف بالضعفاء ، و ينبو على الأقوياء (3) و ممن لا يثيره العنف ، و لا يقعد به الضعف .
و إنّ أفضل قرّة عين الولاة استقامة العدل في البلاد ، و ظهور مودّة الرعية ، و إنه لا تظهر مودّتهم إلا بسلامة صدورهم ، و لا تصحّ نصيحتهم إلاّ بحيطتهم على ولاة الأمور و قلّة استثقال دولهم (4) .
ثم اعرف لكلّ امرىء منهم ما أبلى ، و لا تضيفنّ بلاء امرىء إلى
---------------------------
(1) البلاء : الصنع ، حسنا أو سيئا .
(2) المنافثة : المحادثة .
(3) ينبو : يشتدّ و يعلو ، يأمر الحاكم بأن يولّي من جنوده من لا يضعف أمام الأقوياء و الأثرياء و النافذين بل يعلو عليهم و يشتدّ ليمنعهم من ظلم الضعفاء و الفقراء و البسطاء .
(4) الحيطة ، بكسر الحاء : مصدر ( حاط ) بمعنى : صان و حفظ ، يقول : ان مودة الرعية لا تظهر و نصيحتهم لا تصحّ إلا بقدر ما يرغبون في المحافظة على ولاتهم و يحرصون على بقائهم و لا يستثقلون مدة حكمهم .
روائع نهج البلاغة _ 153 _
غيره (1) ، و لا يدعونّك شرف امرىء إلى أن تعظّم من بلائه ما كان صغيرا ، و لا ضعة امرىء إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيما .
ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك (2) ممّن لا تضيق به الأمور و لا تمحكه الخصوم (3) و لا يتمادى في الزلّة ، و لا تشرف نفسه على طمع ، و لا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه (4) ،
و أوقفهم في الشّبهات (5) و آخذهم بالحجج ، و أقلّهم تبرّما بمراجعة الخصم ، و أصبرهم على تكشّف الأمور ، و أصرمهم عند اتّضاع الحق ،
ممن لا يزدهيه إطراء ، و لا يستميله إغراء ، و أولئك قليل ، ثم أكثر تعاهد قضائه (6) و أفسح له في البذل ما يزيل علّته و تقلّ معه حاجته الى الناس و أعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصّتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك .
ثم انظر في أمور عمّالك فاستعملهم اختبارا ، و لا تولّهم محاباة
---------------------------
(1) لا تنسبنّ صنيع امرىء إلى غيره .
(2) انتقال من الكلام في الجند الى الكلام في القضاة .
(3) تمحكه : تغضبه .
(4) لا يكتفي بما يبدو له بأول فهم و أقربه ، بل يتأمل و يدرس حتى يأتي على أقصى الفهم و أدناه من الحقيقة .
(5) الشبهات ، جمع شبهة ، و هي ما لا يتضح الحكم فيها بالنص ، فينبغي العمل لردّ الحادثة التي ينظر فيها إلى أصل صحيح .
(6) أي : تتبع قضاءه بالاستكشاف و التعرف .
روائع نهج البلاغة _ 154 _
و أثرة فإنهم جماع من شعب الجور و الخيانة (1) ، ثم تفقّد أعمالهم و ابعث العيون (2) من أهل الصدق و الوفاء عليهم ، فإنّ تعاهدك في السرّ لأمورهم حدوة لهم (3) على استعمال الأمانة و الرفق بالرعية ، و تحفّظ من الأعوان فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه(4) عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدا فبسطت عليه العقوبة في بدنه ، وأخذته بما أصاب به من عمله ، ثم نصبته بمقام المذلّة ، و وسمته بالخيانة ،
و قلّدته عار التهمة .
و تفقّد أمر الخراج بما يصلح أهله ، فإنّ في صلاحه و صلاحهم صلاحا لمن سواهم ، و لا صلاح لمن سواهم إلا بهم ، لأنّ الناس كلّهم عيال على الخراج و أهله ، و ليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأنّ ذلك لا يدرك إلاّ بالعمارة ، و من طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد و أهلك العباد و لم يستقم أمره إلاّ قليلا .
و لا يثقلنّ عليك شيء خفّفت به المؤونة عنهم فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك .
و إن العمران محتمل ما حمّلته ، و إنما يؤتى خراب الأرض من
---------------------------
(1) أي : ولّهم الأعمال بالاختبار و التجربة ، لا ميلا منك لمعاونتهم و لا استبدادا منك برأيك ، فإن المحاباة و الأثرة يجمعان الظلم و الخيانة معا .
(2) العيون : الرقباء .
(3) حدوة : سوق و حثّ .
(4) اجتمعت عليها أخبار عيونك : اتفقت عليها أخبار رقبائك .
روائع نهج البلاغة _ 155 _
إعواز أهلها ، و إنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع (1) و سوء ظننهم بالبقاء و قلّة انتفاعهم بالعبر .
ثم انظر في حال كتّابك فولّ على أمورك خيرهم ، ممّن لا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور ، فإنّ الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل .
ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك و استنامتك (2) و حسن الظنّ منك ، فإنّ الرجال يتعرّفون لفراسات الولاة بتصنّعهم و حسن خدمتهم (3) ،
و ليس وراء ذلك من النصيحة و الأمانة شيء ، و مهما كان في كتّابك من عيب فتغابيت عنه ألزمته (4) .
ثم استوص بالتجّار و ذوي الصّناعات و أوص بهم خيرا : المقيم منهم و المضطرب بماله (5) ، فإنهم موادّ المنافع و أسباب المرافق ، و تفقّد أمورهم بحضرتك و في حواشي بلادك ، و اعلم مع ذلك أنّ في كثير منهم ضيقا فاحشا و شحّا قبيحا و احتكارا للمنافع و تحكّما في البياعات ، و ذلك باب مضرّة للعامّة و عيب على الولاة ، فامنع من الاحتكار فإن رسول اللّه صلى
---------------------------
(1) إشراف انفس الولاة على الجمع : تطلّعهم الى جمع المال و ادّخاره لأنفسهم طمعا و جشعا .
(2) الفراسة : قوة الظن و إدراك الباطن من النظر في الظاهر ، الاستنامة : الاطمئنان إلى حسن الرأي ، أي : لا يكن اختيارك للكتاب متأثرا بميلك الخاص و فراستك التي قد تخطىء .
(3) أي يخدمون الولاء بما يطيب لهم توسّلا إلى حسن ظنّ هؤلاء بهم .
(4) إذا تغابيت عن عيب في كتابك كان ذلك العيب لاصقا بك .
(5) المتردد بأمواله بين البلدان .
روائع نهج البلاغة _ 156 _
اللّه عليه و سلّم منع منه ، و ليكن البيع بيعا سمحا : بموازين عدل ، و أسعار لا تجحف بالفريقين من البائع و المبتاع (1) فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكّل به و عاقبه في غير إسراف (2) .
ثم يتحدّث الإمام في رسالته هذه إلى مالك الأشتر عن الطققة المعوزة فيقول :
و احفظ للّه ما استحفظك من حقّه فيهم ، و اجعل لهم قسما من بيت مالك فإنّ للأقصى منهم مثل الذي للأدنى ، و كلّ قد استرعيت حقّه ،
فلا يشغلنّك عنهم بطر (3) فإنك لا تعذر بتضييعك التافه (4) لإحكامك المهمّ ، فلا تشخص همّك عنهم (5) و لا تصعّر خدّك لهم (6) و تفقّد أمور من لا يصل إليك منهم ممّن تقتحمه العيون (7) و تحقره الرجال ، فإنّ هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم ، و تعهّد
---------------------------
(1) المبتاع : المشتري .
(2) قارف : خالط ، الحكرة : الاحتكار ، نكل به : أوقع به العذاب عقوبة له ، يقول :
من احتكر بعد النهي عن الاحتكار عاقبه لكن من غير إسراف في العقوبة يتجاوز عن حد العدل فيها .
(3) البطر : طغيان النعمة .
(4) يقول : لا عذر لك بإهمالك القليل إذا أحكمت الكثير .
(5) لا تشخص همك عنهم : لا تصرف همك عنهم .
(6) صعّر خده : أماله عن النظر إلى الناس تهاونا و كبرا .
(7) تقتحمه العيون : تكره أن تنظر اليه احتقارا .
روائع نهج البلاغة _ 157 _
أهل اليتم و ذوي الرقّة في السن (1) ممّن لا حيلة له ، و لا ينصب للمسألة نفسه ، و ذلك على الولاة ثقيل ، و الحقّ كلّه ثقيل و اجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرّغ لهم فيه شخصك ، و تجلس لهم مجلسا عاما فتتواضع فيه للّه الذي خلقك ، و تقعد عنهم جندك و أعوانك (2) من أحراسك و شرطك حتى يكلّمك متكلّمهم غير متتعتع (3) فإني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول في غير موطن (4) : ( لن تقدّس أمّة لا يؤخذ للضعيف فيها حقّه من القويّ غير متتعتع ) ثم احتمل الخرق منهم و العيّ (5) و نحّ عنهم الضيق و الأنف (6) .
ثم أمور من أمورك لا بدّ لك من مباشرتها : منها إجابة عمّالك بما يعيا عنه كتّابك ، و منها إصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك بما تحرج به صدور أعوانك (7) ، و أمض لكلّ يوم عمله فإنّ لكلّ يوم ما فيه .
---------------------------
(1) ذوو الرقة في السن : المتقدمون فيه .
(2) أي : تأمر بأن يقعد عنهم جندك و أعوانك و بألا يتعرضوا لهم .
(3) التعتعة في الكلام : التردد فيه من عجز و عيّ ، أو من خوف .
(4) في مواطن كثيرة .
(5) الخرق : العنف ، العي : العجز عن النطق ، أي : لا تضجر من هذا و لا تغضب من ذاك .
(6) الأنف : الاستنكاف و الاستكبار .
(7) تحرج : تضيق ، يقول : إن الأعوان تضيق صدورهم بتعجيل الحاجات ، و يحبون المماطلة في قضائها ، استجلابا للمنفعة أو إظهارا للجبروت .
روائع نهج البلاغة _ 158 _
و لا تطوّلنّ احتجابك عن رعيّتك ، فإنّ احتجاب الولاة عن الرعيّة شعبة من الضيق و قلّة علم بالأمور ، و الاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير و يعظم الصغير ، و يقبح الحسن و يحسن القبيح ، و يشاب الحقّ بالباطل ، و إنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور ، و ليست على الحقّ سمات (1) تعرف بها ضروب الصدق من الكذب ، و إنما أنت أحد رجلين : إمّا امرؤ سخت نفسه بالبذل في الحق ففيم احتجابك (2) من واجب حقّ تعطيه أو فعل كريم تسديه ؟ أو مبتلى بالمنع فما أسرع كفّ الناس عن مسألتك إذا أيسوا من بذلك (3) ، مع أنّ أكثر حاجات الناس إليك مما لا مؤونة فيه عليك من شكاة مظلمة أو طلب إنصاف في معاملة .
ثم إنّ للوالي خاصّة و بطانة فيهم استئثار و تطاول ، و قلّة إنصاف في معاملة ، فاحسم مادّة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال (4) و لا تقطعنّ لأحد من حاشيتك و حامّتك قطيعة (5) و لا يطمعنّ منك في اعتقاد عقدة تضرّ بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك يحملون مؤونته على
---------------------------
(1) سمات : علامات .
(2) لأي سبب تحتجب عن الناس في أداء حقهم ، أو في عمل تمنحهم إياه ؟
(3) يقول : و إن قنط الناس من قضاء مطالبهم منك أسرعوا الى البعد عنك ، فلا حاجة للاحتجاب .
(4) احسم : اقطع ، يقول : اقطع مادة شرورهم عن الناس بقطع أسباب تعدّيهم ، و إنما يكون ذلك بالأخذ على أيديهم و منعهم من التصرّف في شؤون العامة .
(5) الاقطاع : المنحة من الأرض ، القطيعة : الممنوح منها ، الحامة ، كالطّامة : الخاصة و القرابة ، الاعتقاد : الامتلاك ، العقدة : الضيعة .
روائع نهج البلاغة _ 159 _
غيرهم فيكون مهنأ ذلك (1) لهم دونك ، و عيبه عليك في الدنيا و الآخرة .
و ألزم الحقّ من لزمه من القريب و البعيد ، و كن في ذلك صابرا محتسبا ، واقعا ذلك من قرابتك و خاصّتك حيث وقع ، و ابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه ، فإنّ مغبّة ذلك محمودة (2) .
و إن ظنّت الرعيّة بك حيفا فأصحر (3) لهم بعذرك ، و اعدل عنك ظنونهم بإصحارك فإنّ في ذلك رياضة منك لنفسك (4) و رفقا برعيّتك و إعذارا (5) تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق .
و لا تدفعنّ صلحا دعاك إليه عدوّك و للّه فيه رضا ، فإنّ في الصلح دعة لجنودك و راحة من همومك و أمنا لبلادك ، و إن عقدت بينك و بين عدوّك عقدة أو ألبسته منك ذمّة فحط عهدك بالوفاء و ارع ذمّتك بالأمانة و اجعل نفسك جنّة دون ما أعطيت (6) و لا تغدرنّ بذمّتك و لا تخيسنّ بعهدك
---------------------------
(1) المهنأ : المنفعة الهنيئة .
(2) المغبة : العاقبة ، يقول : إن إلزام الحق لمن لزمهم ، و إن ثقل على الوالي و عليهم ،
محمود العاقبة يحفظ الدولةز.
(3) الحيف : الظلم ، أصحر بهم : ابرز لهم .
(4) رياضة منك لنفسك : تعويدا لنفسك على العدل .
(5) الإعذار : تقديم العذر أو إبداؤه .
(6) أصل معنى الذمة : وجدان مودع في جبلة الانسان ينبهه لرعاية حق ذوي الحقوق و يدفعه لأداء ما يجب عليه منها ، ثم أطلقت على معنى العهد ، الجنة : الوقاية .
يقول : حافظ بروحك على ما أعطيت من العهد .
روائع نهج البلاغة _ 160 _
و لا تختلنّ (1) عدوّك ، و لا تعقد عقدا تجوّز فيه العلل (2) و لا تعوّلنّ على لحن قول بعد التأكيد و التوثقة ، و لا يدعونّك ضيق أمر لزمك فيه عهد اللّه إلى طلب انفساخه بغير الحقّ (3) .
و لا تقوّينّ سلطانك بسفك دم حرام ، فإنّ ذلك ممّا يضعفه و يوهنه بل يزيله و ينقله ، و لا عذر لك عند اللّه و لا عندي في قتل العمد و إيّاك و المنّ على رعيّتك بإحسانك ، أو التزيّد في ما كان من فعلك (4) أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك ، فإنّ المنّ يبطل الإحسان ، و التزيّد يذهب بنور الحق ، و الخلف يوجب المقت عند اللّه و الناس .
و إياك و العجلة بالأمور قبل أوانها ، أو التسقّط فيها عند إمكانها (5) أو الوهن عنها إذا استوضحت ، فضع كلّ أمر موضعه ، و أوقع كلّ أمر موقعه .
---------------------------
(1) خاس بعهده : خانه و نقضه ، الختل : الخداع .
(2) العلل : جمع علة و هي في النقد و الكلام بمعنى ما يصرفه عن وجهه و يحوّله الى غير المراد ، و ذلك يطرأ على الكلام عند إبهامه و عدم صراحته .
(3) لحن القول : ما يقبل التوجيه كالتورية و التعريض ، يقول : إذا ريت ثقلا من التزام العهد فلا تركن إلى لحن القول لتتملص منه ، بل خذ بأصرح الوجوه لك و عليك .
(4) التزيّد : إظهار الزيادة في الأعمال و المبالغة في وصف الواقع منها في معرض الافتخار .
(5) التسقط : يريد به هنا : التهاون .
روائع نهج البلاغة _ 161 _
و إياك و الاستئثار بما الناس فيه أسوة (1) ، و التغابي عما تعنى به مما قد وضح للعيون ، فإنه مأخوذ منك لغيرك ، و عمّا قليل تنكشف عنك أغطية الأمور و ينتصف منك للمظلوم ، إملك حميّة أنفك (2) و سورة حدّك و سطوة يدك و غرب لسانك (3) و احترس من كلّ ذلك بكفّ البادرة (4) و تأخير السطوة حتى يسكن غضبك فتملك الاختيار .
و الواجب عليك أن تتذكّر ما مضى لمن تقدّمك من حكومة عادلة أو سنّة فاضلة ، و تجتهد لنفسك في اتّباع ما عهدت إليك في عهدي هذا ،
و استوثقت به من الحجّة لنفسي عليك ، لكي لا تكون لك علّة عند تسرّع نفسك إلى هواها ، و أنا أسأل اللّه أن يوفّقني و إياك لما فيه رضاه من الإقامة على العذر الواضح اليه و إلى خلقه (5) .
---------------------------
(1) احذر أن تخصّ نفسك بشيء تزيد به عن الناس ، و هو مما تجب فيه المساواة من الحقوق العامة .
(2) أي : أملك نفسك عند الغضب .
(3) السورة : الحدة : و الحد : البأس ، و الغرب : الحد ، تشبيها للسان بحدّ السيف و نحوه .
(4) البادرة : ما يبدر من اللسان عند الغضب ، و إطلاق اللسان يزيد الغضب اتقادا ،
و السكون يطفىء من لهبه .
(5) يريد من العذر الواضح : العدل ، فإنه عذر لك عند من قضيت عليه ، و عذر عند اللّه في من أجريت عليه عقوبة أو حرمته من منفعة .
من وصية كان الإمام يكتبها لمن يستعمله على الصدقات ، و هي تزخر بحنان الحاكم الأب على أبنائه ، و تصلح لأن تدخل في دستور الدولة المثالية التي يحلم بها صفوة الخلق إذا قدمت على الحيّ فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم ، ثم امض إليهم بالسكينة و الوقار حتى تقوم بينهم فتسلّم عليهم ، و لا تخدج بالتحية لهم (1) ، ثم تقول :
عباد اللّه ، أرسلني اليكم وليّ اللّه و خليفته لآخذ منكم حقّ اللّه في أموالكم ، فهل للّه في أموالكم من حقّ فتؤدّوه إلى وليّه ؟
فإن قال قائل : لا فلا تراجعه ، و إن أنعم لك منعم (2) فانطلق معه من غير أن تخيفه و توعده أو تعسفه أو ترهقه (3) فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضّة ، فإن كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلاّ بإذنه ، فإذا أتيتها فلا تدخل عليها دخول متسلّط عليه و لا عنيف به ، و لا تنفّرنّ بهيمة و لا تفزّعنّها و لا تسوءنّ صاحبها فيها ، و اصدع المال صدعين (4) ثم خيّره :
---------------------------
(1) أخدجت السحابة : قلّ مطرها .
(2) أنعم لك منعم ، أي : قال لك : نعم .
(3) تعسفه : تأخذه بشدة ، ترهقه : تكلفه ما يصعب عليه .
(4) أي : اقسمه قسمين .
روائع نهج البلاغة _ 163 _
فإذا اختار فلا تعرّضنّ لما اختاره ، فلا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحقّ اللّه في ماله ، فاقبض حقّ اللّه منه ، فإن استقالك فأقله (1) ، ثم اخلطهما ، ثم اصنع مثل الذي صنعت أولا حتى تأخذ حق اللّه في ماله .
من كتاب بعث به الإمام الى أهل مصر مع مالك الاشتر لما ولاّه إمارتها :
إني و اللّه لو لقيتهم واحدا و هم طلاع الأرض كلّها (2) ما باليت و لا استوحشت ، و إني من ضلالهم الذي هم فيه و الهدى الذي أنا عليه لعلى بصيرة من نفسي و يقين من ربّي ، و لكني آسى (3) أن يلي أمر هذه الأمة سفهاؤها و فجّارها فيتّخذوا مال اللّه دولا و عباده خولا (4) و الصالحين حربا و الفاسقين حزبا ، فلو لا ذلك ما أكثرت تأليبكم و تأنيبكم ، و جمعكم و تحريضكم
---------------------------
(1) أي : فإن ظنّ في نفسه سوء الاختيار و أنّ ما أخذت منه من الزكاة اكرم مما في يده ، و طلب الإعفاء من هذه القسمة ، فاعفه منها ، و اخلط ، و أعد القسمة .
(2) الطلاع : ملء الشيء ، يقول : لو كنت واحدا و هم يملأون الأرض للقيتهم غير مبال بهم ، و الضمير يعود هنا على خصومه و محاربيه من وجهاء ذلك الزمان .
(3) آسى : أحزن .
(4) دولا ، جمع دولة ( بالضم ) : أي شيئا يتداولونه بينهم و يتصرفون به في غير حق اللّه ، الخول : العبيد .
روائع نهج البلاغة _ 164 _
المرتشي في الحكم
و من كلام له :
أيتها النفوس المختلفة و القلوب المتشتّتة ، الشاهدة أبدانهم و الغائبة عنهم عقولهم أظأركم على الحق (1) و أنتم تنفرون عنه نفور المعزى من وعوعة الأسد هيهات أن أطلع بكم سرار العدل (2) أو أقيم اعوجاج الحق .
اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان و لا التماس شيء من فضول الحطام ، و لكن لنرد المعالم من دينك و نظهر الإصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك .
و قد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي البخيل فتكون في أموالهم نهمته ،
و لا الجاهل فيضلّهم بجهله ، و لا الجافي فيقطعهم بجفائه ، و لا الحائف للدول (3) فيتّخذ قوما دون قوم ، و لا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق .
---------------------------
(1) أظأركم : أعطفكم .
(2) سرار ، في الأصل : آخر ليلة من الشهر ، و المراد هنا : الظلمة ، أي : أن اطلع بكم شارفا يكشف عمّا عرض على العدل من الظلمة .
(3) الحائف : الجائر الظالم ، و الدول ، جمع دولة بالضم و هي المال ، و قد سمي المال ( دولة ) لأنه يتداول ، أي ينتقل من يد ليد .
روائع نهج البلاغة _ 165 _
مع المظلوم من كلام له :
إني أريدكم للّه و أنتم تريدوني لأنفسكم أيها الناس ، أعينوني على أنفسكم ، و ايم اللّه لأنصفنّ المظلوم من ظالمه ، و لأقودنّ الظالم بخزامته (1) حتى أورده منهل الحق و إن كان كارها المال للنّاس من كلام رائع كلّم به عبد اللّه بن زمعة ،
و هو من أنصاره ، و ذلك انه قدم عليه في خلافته يطلب منه مالا ، فقال :
إن هذا المال ليس لي و لا لك و جناة أيديهم (2) لا تكون لغير أفواههم
---------------------------
(1) الخزامة : حلقة من شعر تجعل في وترة أنف البعير ليشدّ فيها الزمام و يسهل قياده .
(2) أي : جناة أيدي العامة .
روائع نهج البلاغة _ 166 _
امانة
من كتاب له الى الأشعث بن قيس عامله على اذربيجان :
و إنّ عملك ليس لك بطعمة (1) و لكنه في عنقك أمانة .
ليس لك أن تفتات في رعية (2) ، و في يديك مال من مال اللّه عزّ و جلّ ،
و أنت من خزّانه حتى تسلّمه إليّ ، و لعلّي أن لا أكون شرّ ولاتك (3) و السلام .
لاضربنّك بسيفي
من كتاب له إلى بعض عمّاله و قد اختطف ما قدر عليه من أموال الأمة و هرب إلى الحجاز :
فلمّا أمكنتك الشدّة في خيانة الأمّة أسرعت الكرّة و عاجلت الوثبة و اختطفت ما قدرت عليه من أموالهم المصونة لأراملهم و أيتامهم اختطاف
---------------------------
(1) عملك : ما وليت لتعمله في شؤون الأمة ، طعمة : المأكلة و المكسب .
(2) تفتات : تستبد .
(3) يرجو أن لا يكون شر المتسلطين عليه ، و لا يحقّ الرجاء إلا إذا استقام .
روائع نهج البلاغة _ 167 _
الذئب الأزلّ دامية المعزى الكسيرة (1) فحملته إلى الحجاز رحيب الصدر بحمله غير متأثّم من أخذه (2) .
كيف تسيغ شرابا و طعاما و أنت تعلم أنك تأكل حراما و تشرب حراما ؟
فاتّق اللّه و اردد إلى هؤلاء القوم أموالهم ، فإنك إن لم تفعل ثم أمكنني اللّه منك لأعذرنّ الى اللّه فيك (3) و لأضربنّك بسيفي الذي ما ضربت به أحدا إلاّ دخل النار و اللّه لو أن الحسن و الحسين فعلا مثل الذي فعلت ما كانت لهما عندي هوادة (4) و لا ظفرا مني بإرادة حتى آخذ الحقّ منهما و أزيل الباطل عن مظلمتهما
من كتاب له إلى عثمان بن حنيف الأنصاري ، و هو عامله على البصرة ،
و قد بلغه أنه دعي الى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها :
أمّا بعد يا ابن حنيف ، فقد بلغني أن رجلا من فتية أهل البصرة
---------------------------
(1) الأزلّ : السريع الجري ، الكسيرة : المكسورة .
(2) التأثم : التحرّز من الإثم ، و هو الذنب .
(3) اي : لأعاقبنّك عقابا يكون لي عذرا عند اللّه من فعلتك هذه .
(4) الهوادة : الصلح ، أو الاختصاص بالميل .
روائع نهج البلاغة _ 168 _
دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان و تنقل إليك الجفان (1) ،
و ما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفوّ (2) و غنيّهم مدعوّ .
ألا و إنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه (3) ، و من طعمه بقرصيه ألا و إنكم لا تقدرون على ذلك ، و لكن أعينوني بورع و اجتهاد ، و عفّة و سداد ، فو اللّه ما كنزت من دنياكم تبرا ، و لا ادّخرت من غنائمها وفرا ، و لا أعددت لبالي ثوبي طمرا ، و لا حزت من أرضها شبرا ، و لو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفّى هذا العسل و لباب هذا القمح و نسائج هذا القزّ ، و لكن هيهات أن يغلبني هواي ، و يقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة و لعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص (4) و لا عهد له بالشّبع أ و أبيت مبطانا و حولي بطون غرثى و أكباد حرّى (5) ؟ أ و أقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين و لا أشاركهم في مكاره الدهر ؟ و كأني بقائلكم يقول : ( إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران و منازلة الشجعان ؟ ) أ لا و إنّ الشجرة البرّية أصلب عودا ، و الروائع الخضرة أرقّ جلودا ، و النباتات البدوية أقوى وقودا و أبطأ خمودا و اللّه لو تظاهرت العرب على قتالي لما ولّيت عنها
---------------------------
(1) تستطاب : يطلب لك طيّبها ، الألوان : أصناف الطعام ، الجفان ، جمع جفنة ، و هي : القصعة .
(2) عائلهم : فقيرهم و محتاجهم ، مجفو : مطرود من الجفاء .
(3) الطمر : الثوب الخلق .
(4) القرص : الرغيف .
(5) غرثى : جائعة ، حرّى : عطشى .
من كتاب له إلى الأسود بن قطيبة صاحب جند حلوان ، و هي إيالة من إيالات فارس :
أما بعد ، فإنّ الوالي إذا اختلف هواه (1) منعه ذلك كثيرا عن العدل .
فليكن أمر الناس عندك في الحق سواء ، فإنه ليس في الجور عوض من العدل ، فاجتنب ما تنكر أمثاله (2) .
و اعلم أنه لن يغنيك عن الحقّ شيء أبدا ، و من الحقّ عليك حفظ نفسك ، و الاحتساب على الرعية بجهدك (3) . اخفض جناحك
من كتاب له الى بعض عماله :
و اخفض للرعية جناحك و ابسط لهم وجهك و ألن لهم جانبك ،
---------------------------
(1) اختلف الهوى : جرى مع أغراض النفس حيث تذهب ، و وحدة الهوى :
توجّهه الى أمر واحد ، و هو إجراء العدالة .
(2) اي : ما لا تستحسن مثله لو صدر من غيرك .
(3) الاحتساب على الرعية : مراقبة أعمالها و تقويم ما اعوجّ منها و إصلاح ما فسد .
روائع نهج البلاغة _ 170 _
و آس بينهم في اللحظة و النظرة و الإشارة و التحية (1) ، حتى لا يطمع العظماء في حيفك (2) و لا ييأس الضعفاء من عدلك علّم الجاهل
من كتاب له إلى قسم بن العباس ، و هو عامله على مكة :
علّم الجاهل و ذاكر العالم ، و لا يكن لك إلى الناس سفير إلاّ لسانك و لا حاجب إلاّ وجهك ، و لا تحجبنّ ذا حاجة عن لقائك بها فإنها إن ذيدت عن أبوابك في أول وردها لم تحمد فيما بعد على قضائها (3) .
و انظر الى ما اجتمع عندك من مال اللّه فاصرفه إلى من قبلك (4) من ذوي العيال و المجاعة مصيبا به مواضع الفاقة ، و ما فضل عن ذلك فاحمله إليها لنقسمه في من قبلنا .
و مر أهل مكة أن لا يأخذوا من ساكن أجرا .
---------------------------
(1) آس بينهم : شارك و سوّ بينهم .
(2) الحيف : الظلم .
(3) ذيدت : دفعت و منعت ، الورد : الورود ، يقول : إذا منعت الحاجة أول ورودها لا تحمد على قضائها فيما بعد ، لأن حسنة القضاء لا تذكر في جانب سيئة المنع .
(4) قبلك : عندك .
من كتاب له إلى المنذر بن الجارود العبدي ، و قد خان في بعض ما ولاّه من أعماله :
و لئن كان ما بلغني عنك حقّا لجمل أهلك و شسع نعلك خير منك (1) ، و من كان بصفتك فليس بأهل أن يسدّ به ثغر ، أو ينفذ به أمر ، أو يعلى له قدر ، أو يشرك في أمانة أو يؤمن على خيانة (2) فأقبل إليّ حين يصل إليك كتابي هذا إن شاء اللّه .
الاخلاق الكريمة
من كتاب له الى الحارث الهمذاني :
و احذر كلّ عمل يعمل به في السرّ و يستحى منه في العلانية ، و احذر كل عمل إذا سئل عنه صاحبه أنكره أو اعتذر منه ، و لا تحدّث الناس
---------------------------
(1) الجمل يضرب به المثل في الذلة و الجهل ، الشسع : سير بين الإصبع الوسطي و التي تليها في النعل ، كأنه زمام
(2) أي : على دفع خيانة .
ملاحظة : قال الشريف الرضي : و المنذر بن الجارود هذا هو الذي قال فيه أمير المؤمنين عليه السلام : إنه لنظّار في عطفيه ، مختال في برديه
روائع نهج البلاغة _ 172 _
بكلّ ما سمعت به فكفى بذلك كذبا ، و لا تردّ على الناس كلّ ما حدّثوك به فكفى بذلك جهلا ، و تجاوز عند المقدرة و احلم عند الغضب و اصفح مع الدولة (1) .
و إياك و مصاحبة الفسّاق فإن الشرّ بالشرّ ملحق ، و احذر الغضب فإنه جند عظيم من جنود ابليس
اهل الجشع و اهل الفقر
من خطبة له في أهل الجشع و أهل الفاقة :
و قد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلا إدبارا ، و الشرّ فيه إلاّ إقبالا ، و الشيطان في هلاك الناس إلاّ طمعا .
إضرب بطرفك حيث شئت من الناس : هل تبصر إلاّ فقيرا يكابد فقرا ،
أو غنيّا بدّل نعمة اللّه كفرا ؟ أين أخياركم و صلحاؤكم ، و أحراركم و سمحاؤكم ؟ و أين المتورّعون في مكاسبهم ؟ و المتنزّهون في مذاهبهم ؟ أ ليس قد ظعنوا جميعا عن هذه الدنيا ؟ و هل خلقتم إلاّ في حثالة (2) لا تلتقي بذمّهم الشفتان استصغارا لقدرهم و ذهابا عن ذكرهم ، لعن اللّه الآمرين بالمعروف التاركين له ، و الناهين عن المنكر العاملين به
---------------------------
(1) أي عند ما تكون لك السلطة .
(2) الحثالة : الرديء من كل شيء ، و المراد هنا أدنياء الناس و صغار النفوس منهم .
من كلام له في صفة من يتصدّى للحكم بين الناس و هو ليس أهلا لذلك .
حتى إذا ارتوى من آجن و اكتنز من غير طائل (1) جلس بين الناس قاضيا ضامنا لتخليص ما التبس على غيره ) (2) ، فإن نزلت به إحدى المبهمات هيّأ لها حشوا رثّا من رأيه ، ثم قطع به (3) ، فهو من لبس الشّبهات في مثل نسج العنكبوت ، لا يدري أصاب أم أخطأ ، فإن أصاب خاف أن يكون قد أخطأ ، و إن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب (4) .
جاهل خبّاط جهالات (5) ، يذرو الروايات كما تذرو الريح الهشيم (6) .
---------------------------
(1) الماء الآجن : الفاسد المتغير الطعم و اللون ، شبّه الإمام مجهولات القاضي التي يظنها معلومات ، بالماء الآجن ، اكتنز : جمع ما عده كنزا ، غير طائل : دون و خسيس .
(2) التخليص : التبيين ، التبس على غيره : اشتبه عليه .
(3) المبهمات : المشكلات ، الحشو : الزائد الذي لا فائدة فيه ، الرث : الخلق البالي .
(4) الجاهل بالشيء : من ليس على بيّنة منه ، فإذا أثبته عرضت له الشبهة في نفيه ، و إذا نفاه عرضت له الشبهة في إثباته ، فهو في ضعف حكمه في مثل نسج العنكبوت ضعفا ، و لا بصيرة له في وجوه الخطأ و الإصابة ، و قد جاء الإمام في تمثيل حاله بأبلغ ما يكون من التعبير عنه ، كما يقول ابن أبي الحديد .
(5) خبّاط : صيغة مبالغة من خبط الليل ، إذا سار فيه على غير هدى ، و قد شبه الامام الجهالات بالظلمات التي يخبط فيها السائر .
(6) الهشيم : ما يبس من النبت و تفتّت ، تذرو الريح الهشيم : تطيره فتفرقه و تمزقه .
روائع نهج البلاغة _ 174 _
لا يحسب العلم في شيء مما أنكره ، و لا يرى أنّ من وراء ما بلغ مذهبا لغيره ، و إن أظلم أمر اكتتم به لما يعلم من جهل نفسه (1) تصرخ من جور قضائه الدماء و تعجّ منه المواريث (2) ، الى اللّه أشكو من معشر يعيشون جهّالا و يموتون ضلاّلا ليس فيهم سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حقّ تلاوته ، و لا سلعة أنفق بيعا و لا أغلى ثمنا من الكتاب إذا حرّف عن مواضعه (3) ، و لا عندهم أنكر من المعروف و لا أعرف من المنكر .
يحكم برايه
من كلام له في بعض القضاة أيضا :
ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه ، ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلافه ، ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوّب آراءهم جميعا ... (4) و إلهم واحد ، و نبيّهم واحد ، و كتابهم واحد
---------------------------
(1) اكتتم به : كتمه و ستره .
(2) تعجّ : تصرخ ، و صراخ الدماء و عج المواريث تمثيل لحدة الظلم و شدة الجور .
(3) اذا تلي حق تلاوته : إذا أخذ على وجهه و فهم على حقيقته ، و الكتاب هو القرآن الكريم .
(4) استقضاهم : ولاّهم القضاء ، يصوّب آراءهم جميعا : يفتي بأن آراءهم جميعا صائبة . .
روائع نهج البلاغة _ 175 _
و عالمهم منافق
من كلامه في وصف أبناء زمانه :
و اعلموا أنكم في زمان القائل فيه بالحق قليل ، و اللسان عن الصدق كليل ، و اللازم للحق ذليل ، أهله معتكفون على العصيان ، فتاهم عارم (1) و شائبهم آثم و عالمهم منافق ، لا يعظّم صغيرهم كبيرهم و لا يعول غنيّهم فقيرهم
يعملون في الشّبهات
من خطبة له :
و ما كلّ ذي قلب بلبيب ، و لا كلّ ذي سمع بسميع ، و لا كلّ ناظر ببصير ، فيا عجبي ، و ما لي لا أعجب ، من خطإ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها يعملون في الشّبهات و يسيرون في الشهوات .
المعروف عندهم ما عرفوا ، و المنكر عندهم ما أنكروا (2) .
مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم ، و تعويلهم في المهمّات على آرائهم ،
---------------------------
(1) شرس : سي الخلق .
(2) أي : يستحسنون ما بدا لهم استحسانه ، و يستقبحون ما خطر لهم قبحه بدون رجوع الى دليل بيّن أو شريعة واضحة .