التعادلية التي أدركها الإمام بحدسه و عقله و حسّه على السواء ، إدراكا عجيبا لشدة ما فيه من الوضوح ثم لكثرة ما يمدّ صاحبه بالقوة على الكشف ، فإذا به يعبّر عن هذا الإدراك بكلمات تؤلف قواعد رياضية تتناول المظاهر و تنفذ منها الى ما وراءها من أصول وجودية عميقة ثابتة .
و هكذا يستوي ابن أبي طالب و قمم الوجود على صعيد واحد من النظرة الى الحياة الواحدة ،
و الاحساس العميق بالوجود الواحد ، فإذا بأدبه صرخات متلاحقة تنطلق من قلب عبقريّ يريد أن ينفذ إلى الأشياء حتى يرى أغوارها فيطمئن الى هذا الإدراك ، و حتى يعقل ما تباين منها ثابتا على قاعدة ، و ما اختلف منها نابعا من أصل ، و ما تباعد منها مضموما في وحدة طرفاها الأزل و الأبد
بيان لو نطق بالتقريع لانقضّ على لسان العاصفة انقضاضا و لو هدّد الفساد و المفسدين لتفجّر براكين لها أضواء و أصوات و لو دعا إلى تأمّل لرافق فيك منشأ الحسّ و أصل التفكير فساقك الى ما يريده سوقا و وصلك بالكون وصلا و يندمج الشكل بالمعنى اندماج الحرارة بالنار و الضوء بالشمس و الهواء بالهواء ،
فما أنت إزاءه إلا ما يكون المرء قبالة السيل إذ ينحدر و البحر إذ يتموّج و الريح إذ تطوف أما إذا تحدّث اليك عن بهاء الوجود و جمال الخلق ، فإنما يكتب على قلبك بمداد من نجوم السماء و من اللفظ ما له وميض البرق ، و ابتسامة السماء في ليالي الشتاء ، هذا من حيث المادة ، أما من حيث الأسلوب ، فعليّ بن أبي طالب ساحر الأداء ، و الأدب لا يكون إلاّ بأسلوب ، فالمبنى ملازم فيه للمعنى ، و الصورة لا تقلّ في شيء عن المادة .
و أيّ فنّ كانت شروط الإخراج فيه أقل شأنا من شروط المادة
روائع نهج البلاغة _28 _
و إن قسط علي بن أبي طالب من الذوق الفني ، أو الحسّ الجمالي ، لممّا يندر وجوده .
و ذوقه هذا كان المقياس الطبيعي الضابط للطبع الأدبي عنده ، أما طبعه هذا فهو طبع ذوي الموهبة و الاصالة الذين يرون فيشعرون و يدركون فتنطلق ألسنتهم بما تجيش به قلوبهم و تنكشف عنه مداركهم انطلاقا عفويا ، لذلك تميّز أدب عليّ بالصدق كما تميّزت به حياته .
و ما الصدق إلا ميزة الفن الأولى و مقياس الأسلوب الذي لا يخادع .
و إن شروط البلاغة ، التي هي موافقة الكلام لمقتضى الحال ، لم تجتمع لأديب عربي كما اجتمعت لعليّ بن أبي طالب ، فإنشاؤه مثل أعلى لهذه البلاغة ، بعد القرآن .
فهو موجز على وضوح ، قويّ جيّاش ، تامّ الانسجام لما بين ألفاظه و معانيه و أغراضه من ائتلاف ،
حلو الرنّة في الأذن موسيقيّ الوقع ، و هو يرفق و يلين في المواقف التي لا تستدعي الشدة .
و يشتدّ و يعنف في غيرها من المواقف ، و لا سيما ساعة يكون القول في المنافقين و المراوغين و طلاّب الدنيا على حساب الفقراء و المستضعفين و أصحاب الحقوق المهدورة ، فأسلوب عليّ صريح كقلبه و ذهنه ، صادق كطويته ، فلا عجب أن يكون نهجا للبلاغة .
و قد بلغ أسلوب عليّ من الصدق حدّا ترفّع به حتى السجع عن الصنعة و التكلّف .
فإذا هو على كثرة ما فيه من الجمل المتقاطعة الموزونة المسجّعة ، أبعد ما يكون عن الصنعة ، و أقرب ما يكون من الطبع الزاخر .
فانظر الى هذا الكلام المسجّع و الى مقدار ما فيه من سلامة الطبع : ( يعلم عجيج الوحوش في الفلوات ، و معاصي العباد في الخلوات ، و اختلاف النينان في البحار الغامرات ، و تلاطم الماء بالرياح العاصفات ) أو إلى هذا القول من إحدى خطبه :
( و كذلك السماء و الهواء ،
و الرياح و الماء ، فانظر الى الشمس و القمر ، و النبات و الشجر ، و الماء و الحجر ، و اختلاف هذا الليل و النهار ، و تفجّر هذه البحار ، و كثرة الجبال ، و طول هذه القلال ، و تفرّق هذه اللغات ، و الألسن المختلفات الخ ... ) و أوصيك خيرا بهذا السجع الجاري مع الطبع :
( ثم زيّنها بزينة الكواكب ، و ضياء الثواقب (1) و أجرى فيها سراجا مستطيرا (2) و قمرا
---------------------------
(1) الثواقب : المنيرة المشرقة .
(2) سراجا مستطيرا : منتشر الضياء ، و يريد به الشمس .
روائع نهج البلاغة _29 _
منيرا ، في فلك دائر ، و سقف سائر الخ ) ، فإنك لو حاولت إبدال لفظ مسجوع في هذه البدائع جميعا ، بآخر غير مسجوع ، لعرفت كيف يخبو إشراقها ، و يبهت جمالها ، و يفقد الذوق فيها أصالته و دقّته و هما الدليل و المقياس .
فالسجع في هذه الأقوال العلوية ضرورة فنية يقتضيها الطبع الذي يمتزج بالصناعة امتزاجا حتى لكأنهما من معدن واحد يبعث النثر شعرا له أوزان و أنغام ترفق المعنى بصور لفظية من جوّها و من طبيعتها .
و من سجع الإمام آيات تردّ النغم على النغم ردّا جميلا ، و تذيب الوقع في الوقع على قرارات لا أوزن منها على السمع و لا أحبّ ترجيعا ، و مثال ذلك ما ذكرناه من سجعاته منذ حين ، ثم هذه الكلمات الشهيات على الأذن و الذوق جميعا : ( أنا يوم جديد ، و أنا عليك شهيد ، فاعمل فيّ خيرا ، و قل خيرا ) و إذا قلنا إن أسلوب عليّ تتوفّر فيه صراحة المعنى و بلاغة الأداء و سلامة الذوق ، فإنما نشير إلى القارىء بالرجوع الى ( روائع نهج البلاغة ) هذا ليرى كيف تتفجّر كلمات عليّ من ينابيع بعيدة القرار في مادّتها ، و بأيّة حلّة فنيّة رائعة الجمال تمور و تجري .
و إليك هذه التعابير الحسان في قوله : ( المرء مخبوء تحت لسانه ) و في قوله : ( الحلم عشيرة ) أو في قوله : ( من لان عوده كثفت أغصانه ) أو في قوله : ( كلّ وعاء يضيق بما جعل فيه إلاّ وعاء العلم فإنّه يتّسع ) أو في قوله أيضا : ( لو أحبّني جبل لتهافت ) ، أو في هذه الأقوال الرائعة : ( العلم يحرسك و أنت تحرس المال ، ربّ مفتون بحسن القول فيه ، إذا أقبلت الدنيا على أحد أعارته محاسن غيره ، و إذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه ، ليكن أمر الناس عندك في الحق سواء ، افعلوا الخير و لا تحقروا منه شيئا فإنّ صغيره كبير و قليله كثير .
هلك خزّان المال و هم أحياء ، ما متّع غنيّ إلاّ بما جاع به فقير ) .
ثمّ استمع إلى هذا التعبير البالغ قمّة الجمال الفنّي و قد أراد به أن يصف تمكّنه من التصرف بمدينة الكوفة كيف شاء ، قال : ( ما هي إلاّ الكوفة أقبضها و أبسطها ... ) فأنت ترى ما في أقواله هذه من الأصالة في التفكير و التعبير ، هذه الأصالة التي تلازم الأديب الحقّ بصورة مطلقة و لا تفوته إلاّ إذا فاتته الشخصية الأدبية ذاتها .
روائع نهج البلاغة _30 _
ويبلغ أسلوب عليّ قمّة الجمال في المواقف الخطابية ، أي في المواقف التي تثور بها عاطفته الجيّاشة ، و يتّقد خياله فتعتلج فيه صور حارّة من أحداث الحياة التي تمرّس بها ، فإذا بالبلاغة تزخر في قلبه و تتدفّق على لسانه تدفّق البحار . و يتميّز أسلوبه ، في مثل هذه المواقف ، بالتكرار بغية التقرير و التأثير ، و باستعمال المترادفات و باختيار الكلمات الجزلة ذات الرنين ، و قد تتعاقب فيه ضروب التعبير من إخبار الى استفهام الى تعجّب الى استنكار ، وتكون مواطن الوقف فيه قويّة شافية للنفس ، و في ذلك ما فيه من معنى البلاغة و روح الفن ، و اليك مثلا على هذا خطبة الجهاد المشهورة ، و قد خطب عليّ بها الناس لما أغار سفيان بن عوف الأسدي على مدينة الأنبار بالعراق و قتل عامله عليها :
( هذا أخو غامد (1) قد بلغت خيله الأنبار و قتل حسّان بن حسّان البكري و أزال خيلكم عن مسالحها و قتل منكم رجالا صالحين .
( وقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة ، و الأخرى المعاهدة ،
فينزع حجلها ، و قلبها ، و رعاثها ، ثم انصرفوا وافرين ما نال رجلا منهم كلم ،
ولا أريق لهم دم ، فلو أن امرءا مسلما مات من بعد هذا أسفا ، ما كان به ملوما ، بل كان به عندي جديرا .
( فيا عجبا و اللّه يميت القلب و يجلب الهمّ اجتماع هؤلاء على باطلهم و تفرّقكم عن حقكم ، فقبحا لكم حين صرتم غرضا يرمى : يغار عليكم و لا تغيرون ، و تغزون ولا تغزون ، و يعصى اللّه و ترضون ) فانظر الى مقدرة الإمام في هذه الكلمات الموجزة ، فإنه تدرّج في إثارة شعور سامعيه حتى وصل بهم الى ما يصبو اليه ، و سلك الى ذلك طريقا تتوفّر فيه بلاغة الاداء و قوة التأثير .
فإنه أخبر قومه بغزو سفيان بن عوف الأنبار ، و في ذلك ما فيه من عار يلحق بهم ، ثم أخبرهم بأن هذا المعتدي إنما قتل عامل أمير المؤمنين في جملة ما قتل ، و بأن هذا المعتدي لم يكتف بذلك بل أغمد سيفه في نحور كثيرة من رجالهم و أهليهم .
---------------------------
(1) اذا شئت شرحا للمفردات و التعابير الغريبة الواردة في هذه الخطبة ، فارجع اليها في مكانها من هذا الكتاب .
روائع نهج البلاغة _ 31 _
وفي الفقرة الثانية من الخطبة توجّه الإمام إلى مكان الحميّة من السامعين ، الى مثار العزيمة و النخوة من نفس كل عربي ، و هو شرف المرأة ، وعليّ يعلم أن من العرب من لا يبذل نفسه إلاّ للحفاظ على سمعة امرأة و على شرف فتاة ، فإذا هو يعنّف هؤلاء القوم على القعود دون نصرة المرأة التي استباح الغزاة حماها ثم انصرفوا آمنين ، ما نالت رجلا منهم طعنة و لا أريق لهم دم .
ثم إنه أبدى ما في نفسه من دهش و حيرة من امر غريب : ( فإنّ أعداءه يتمسكون بالباطل فيناصرونه ، و يدينون بالشر فيغزون الأنبار في سبيله ، فيما يقعد أنصاره حتى عن مناصرة الحق فيخذلونه و يفشلون عنه .
و من الطبيعي ان يغضب الإمام في مثل هذا الموقف ، فإذا بعبارته تحمل كل ما في نفسه من هذا الغضب ، فتأتي حارّة شديدة مسجّعة مقطّعة ناقمة : فقبحا لكم حين صرتم غرضا يرمى : يغار عليكم و لا تغيرون ، و تغزون و لا تغزون ، و يعصى اللّه و ترضون ) و قد تثور عاطفته و تتقطّع فإذا بعضها يزحم بعضا على مثل هذه الكلمات المتقطّعة المتلاحقة : ( ما ضعفت ، و لا جبنت ، و لا خنت ، و لا وهنت ) و قد تصطلي هذه العاطفة بألم ثائر يأتيه من قوم أراد لهم الخير و ما اردوه لأنفسهم لغفلة في مداركهم و وهن في عزائمهم ، فيخطبهم بهذا القول الثائر الغاضب ، قائلا : ( ما لي أراكم أيقاظا نوّما ،
وشهودا غيّبا ، و سامعة صمّاء ، و ناطقة بكماء الخ ) و الخطباء العرب كثيرون ، و الخطابة من الأشكال الأدبية التي عرفوها في الجاهلية و الاسلام و لا سيّما في عصر النبي و الخلفاء الراشدين لما كان لهم بها من حاجة .
أمّا خطيب العهد النبويّ الأكبر فالنبيّ لا خلاف في ذلك ، أمّا في العهد الراشدي ، و في ما تلاه من العصور العربية قاطبة ، فإنّ أحدا لم يبلغ ما بلغ إليه عليّ بن أبي طالب في هذا النحو ، فالنطق السهل لدى عليّ كان من عناصر شخصيته و كذلك البيان القويّ بما فيه من عناصر الطبع و الصناعة جميعا ، ثم إنّ اللّه يسّر له العدّة الكاملة لما تقتضيه الخطابة من مقوّمات أخرى على ما مرّ بنا ، فقد ميّزه اللّه بالفطرة السليمة ، و الذوق الرفيع ، و البلاغة الآسرة ، ثم بذخيرة
روائع نهج البلاغة _ 32 _
من العلم انفرد بها عن أقرانه ، و بحجّة قائمة ، و قوّة إقناع دامغة ، و عبقريّة في الارتجال نادرة ، أضف إلى ذلك صدقه الذي لا حدود له و هو ضرورة في كلّ خطبة ناجحة ، وتجاربه الكثيرة المرّة التي كشفت لعقله الجبّار عن طبائع الناس و أخلاقهم و صفات المجتمع و محرّكاته ، ثم تلك العقيدة الصلبة التي تصعب مداراتها و ذلك الألم العميق الممزوج بالحنان العميق ، و بطهارة القلب و سلامة الوجدان و شرف الغاية .
و إنّه من الصعب أن تجد في شخصيات التاريخ من اجتمعت لديه كلّ هذه الشروط التي تجعل من صاحبها خطيبا فذّا ، غير عليّ بن أبي طالب و نفر من الخلق قليل ، و ما عليك إلاّ استعراض هذه الشروط ، ثم استعراض مشاهير الخطباء في العالمين الشرقي و الغربي ، لكي تدرك أنّ قولنا هذا صحيح لا غلوّ فيه .
و ابن أبي طالب على المنبر رابط الجأش شديد الثقة بنفسه و بعدل القول ، ثم إنه قويّ الفراسة سريع الإدراك يقف على دخائل الناس و أهواء النفوس و أعماق القلوب ، زاخر جنانه بعواطف الحريّة و الانسانية و الفضيلة ، حتّى إذا انطلق لسانه الساحر بما يجيش به قلبه أدرك القوم بما يحرّك فيهم الفضائل الراقدة و العواطف الخامدة .
أمّا إنشاؤه الخطابي فلا يجوز وصفه إلاّ بأنه أساس في البلاغة العربية ، يقول أبو الهلال العسكري صاحب ( الصناعتين ) : ليس الشأن في إيراد المعاني وحدها و إنّما هو في جودة اللفظ ، أيضا ، و صفائه و حسنه و بهائه و نزاهته و نقائه و كثرة طلاوته و مائه مع صحة السبك و التركيب و الخلوّ من أود النظم و التأليف .
من الألفاظ ما هو فخم كأنه يجرّ ذيول الأرجوان أنفة و تيها ، ومنها ما هو ذو قعقعة كالجنود الزاحفة في الصفيح ، ومنها ما هو كالسيف ذي الحدّين ، ومنها ما هو كالنقاب الصفيق يلقى على بعض العواطف ليستر من حدّتها و يخفّف من شدّتها ، ومنها ما له ابتسامة السماء في ليالي الشتاء من الكلام ما يفعل كالمقرعة ، و منه ما يجري كالنبع الصافي .
كل ذلك ينطبق على خطب عليّ في مفرداتها و تعابيرها ، هذا بالإضافة إلى أنّ الخطبة تحسن إذا انطبعت بهذه الصفات اللفظية على رأي صاحب الصناعتين ، فكيف بها إذا كانت ،
روائع نهج البلاغة _ 33 _
كخطب ابن أبي طالب ، تجمع روعة هذه الصفات في اللفظ إلى روعة المعنى و قوّته و جلاله وإليك شيئا مما قلناه في الجزء الثالث من كتابنا ( الإمام عليّ صوت العدالة الإنسانية ) بصدد بيان الإمام ، لا سيما ما كان منه في خطبه :
نهج للبلاغة آخذ من الفكر و الخيال و العاطفة آيات تتّصل بالذوق الفنّي الرفيع ما بقي الانسان و ما بقي له خيال و عاطفة و فكر ، مترابط بآياته متساوق ، متفجّر بالحسّ المشبوب و الإدراك البعيد ، متدفّق بلوعة الواقع و حرارة الحقيقة و الشوق إلى معرفة ما وراء هذا الواقع ، متآلف يجمع بين جمال الموضوع و جمال الإخراج حتى ليندمج التعبير بالمدلول ، أو الشكل بالمعنى ، اندماج الحرارة بالنار و الضوء بالشمس و الهواء بالهواء ، فما أنت إزاءه إلاّ ما يكون المرء قبالة السيل إذ ينحدر و البحر إذ يتموّج و الريح إذ تطوف ، أو قبالة الحدث الطبيعي الذي لا بدّ له أن يكون بالضرورة على ما هو كائن عليه من الوحدة لا تفرّق بين عناصرها إلاّ لتمحو وجودها و تجعلها إلى غير كون بيان لو نطق بالتقريع لانقضّ على لسان العاصفة انقضاضا و لو هدّد الفساد و المفسدين لتفجّر براكين لها أضواء و أصوات و لو انبسط في منطق لخاطب العقول و المشاعر فأقفل كلّ باب على كلّ حجّة غير ما ينبسط فيه و لو دعا إلى تأمّل لرافق فيك منشأ الحسّ و أصل التفكير ، فساقك إلى ما يريده سوقا ، و وصلك بالكون وصلا ، و وحّد فيك القوى للاكتشاف توحيدا .
و هو لو راعاك لأدركت حنان الأب و منطق الأبوّة و صدق الوفاء الانساني و حرارة المحبّة التي تبدأ و لا تنتهي أمّا إذا تحدّث إليك عن بهاء الوجود و جمالات الخلق و كمالات الكون ، فإنّما يكتب على قلبك بمداد من نجوم السماء بيان هو بلاغة من البلاغة ، و تنزيل من التنزيل ، بيان اتّصل بأسباب البيان العربي ما كان منه و ما يكون ، حتى قال أحدهم في صاحبه ان كلامه دون كلام الخالق و فوق كلام المخلوق
روائع نهج البلاغة _ 34 _
وخطب علي جميعا تنضح بدلائل الشخصية حتى لكأنّ معانيها و تعابيرها هي خوالج نفسه بالذات ، و أحداث زمانه التي تشتعل في قلبه كما تشتعل النار في موقدها تحت نفخ الشمال ، فإذا هو يرتجل الخطبة حسّا دافقا و شعورا زاخرا و إخراجا بالغا غاية الجمال .
و كذلك كانت كلمات عليّ بن أبي طالب المرتجلة ، فهي أقوى ما يمكن للكلمة المرتجلة أن تكون من حيث الصدق ، و عمق الفكرة ، و فنّية التعبير ، حتى انها ما نطقت بها شفتاه ذهبت مثلا سائرا .
فمن روائعه المرتجلة قوله لرجل أفرط في مدحه بلسانه و أفرط في اتّهامه بنفسه : ( أنا دون ما تقول و فوق ما في نفسك ) .
و من ذلك أنه لمّا اعتزم أن يقوم وحده لمهمّة جليلة تردّد فيها أنصاره و تخاذلوا ، جاءه هؤلاء و قالوا له و هم يشيرون إلى أعدائه : يا أمير المؤمنين نحن نكفيكهم ، فقال من فوره :
( ما تكفونني أنفسكم فكيف تكفوني غيركم ؟ إن كانت الرعايا قبلي لتشكو حيف رعاتها ، فإنني اليوم لأشكو حيف رعيّتي ، كأنّي المقود و هم القادة ) .
و لمّا قتل أصحاب معاوية محمد بن أبي بكر فبلغه خبر مقتله قال : ( إن حزننا عليه قدر سرورهم به ، ألا إنّهم نقصوا بغيضا و نقصنا حبيبا ) .
و سئل : أيهما أفضل : العدل أم الجود ؟ فقال : ( العدل يضع الأمور مواضعها ،
و الجود يخرجها من جهتها ، و العدل سائس عامّ ، و الجود عارض خاصّ ، فالعدل أشرفهما و أفضلهما ) .
و قال في صفة المؤمن ، مرتجلا :
( المؤمن بشره في وجهه ، و حزنه في قلبه ، أوسع شيء صدرا ، و أذلّ شيء نفسا .
يكره الرفعة ، و يشنأ السمعة ، طويل غمّه ، بعيد همّه ، كثير صمته ، مشغول وقته ،
شكور صبور ، سهل الخليقة ، ليّن العريكة ) و سأله جاهل متعنّت عن معضلة ، فأجابه على الفور : ( اسأل تفقّها و لا تسأل تعنّتا فإنّ الجاهل المتعلم شبيه بالعالم ، و إنّ العالم المتعسّف شبيه بالجاهل المتعنّت )
روائع نهج البلاغة _ 35 _
و الخلاصة أنّ عليّ بن أبي طالب أديب عظيم نشأ على التمرّس بالحياة و على المرانة بأساليب البلاغة فإذا هو مالك ما يقتضيه الفنّ من أصالة في شخصية الأديب ، و من ثقافة خاصّة تنمو بها الشخصية و تتركز الأصالة .
أمّا اللغة ، لغتنا العربية الحبيبة التي قال فيها مرشلوس في المجلد الأول من كتابه ( رحلة الى الشرق ) هذا القول الذكيّ : ( اللغة العربية هي الأغنى و الأفصح و الأكثر و الألطف وقعا بنى سائر لغات الأرض ، بتراكيب أفعالها تتبع طيران الفكر و تصوّره بدقّة ، و بأنغام مقاطعها الصوتية تقلّد صراخ الحيوانات و رقرقة المياه الهاربة و عجيج الرياح و قصف الرعد ) ، أمّا هذه اللغة ، بما ذكر مرشلوس من صفاتها و بما لم يذكر ، فإنّك واجد أصولها و فروعها ، و جمال ألوانها و سحر بيانها ، في أدب الامام عليّ و كان أدبا في خدمة الإنسان و الحضارة
و أحسّ عليّ أنّ هذا الكون العظيم متعاون متكافل فكان من ذلك أن الريح إذا اشتدّت حرّكت الأغصان تحريكا شديدا ، و إذا أجفلت قلعت الأشجار و هاجت لها العناصر ، و أنها إذا لانت و جرت فويق الأرض جريا خفيفا سكرت بها صفحات الماء و سكنت تحتها الأشياء و أدرك كذلك أن قوة الوجود الشاملة ترعى هشيم النبت بقانون ترعى به الورق الأخضر و الزرع الذي استوى على سوقه و اهتزّ للريح و أسقط ابن أبي طالب نظرية التجّار بقول تناوله من روح الوجود و كأنه يشارك به الكون في التعبير عمّا في ضميره نظرة واحدة يلقيها المرء على الكون الخارجي و أحواله : على النجوم الثابتة في سعة الوجود و الكواكب السابحة في آفاق الأبد ، و على الشمس المشرقة و السحاب العارض و الريح ذات الزفيف ، و على الجبال تشمخ و البحار تقصفها القواصف أو يسجو على صفحاتها الليل ،
روائع نهج البلاغة _ 40 _
تكفيه لأن يثق بأنّ للكون قانونا و أنّ لأحواله ناموسا واقعا كلّ منهما تحت الحواسّ و قائما بكل مقياس .
و نظرة واحدة يلقيها المرء على ما يحيط به من الطبيعة القريبة و أحوالها : على الصيف إذ يشتدّ حرّه و تسكن ريحه ، و الخريف إذ يكتئب غابه و تتناوح أهواؤه و تعبس فيه أقطار السماء ، و الشتاء إذ ترعد أجواؤه و تضطرب بالبروق و تندفع أمطاره عبابا يزحم عبابا و تختلط غيومه حتى لتخفي عليك معالم الأرض و السماء ، و الربيع يبسط لك الدنيا آفاقا نديّة و أنهارا غنيّة و خصبا و رواء و جنانا ذات ألوان ، كافية لأن تجعله يثق بأنّ لهذه الطبيعة قانونا و أنّ لأحوالها ناموسا واقعا كلّ منهما تحت الحواسّ و قائما بكل مقياس .
و نظرة فاحصة واحدة يلقيها المرء على هذي و ذاك ، كافية لتدلّه على أنّ هذه النواميس و القوانين صادقة ثابتة عادلة ، يقوم منطقها الصارم بهذه الصفات ، و فيها وحدها ما يبرّر وجود هذا الكون العظيم ألقى ابن أبي طالب تلك النظرة على الكون فوعى وعيا مباشرا ما في نواميسه من صدق و ثبات و عدل ، فهزّه ما رأى و ما وعى ، و جرى في دمه و مشى في كيانه و اصطخب فيه إحساسا و فكرا ، فتحرّكت شفتاه تقولان : ( ألا و إنه بالحق قامت السماوات و الأرض ) .
و لو حاولت أن تجمع الصدق و الثبات و العدل في كلمة واحدة ، لما وجدت لفظة تحويها جميعا غير لفظة ( الحق ) . ذلك لما يتّحد في مدلولها من جوهر الكلمات الثلاث و أدرك ابن أبي طالب في أعماقه أنّ المقايسة تصحّ أصلا و فرعا بين السماء و الأرض اللتين قامتا بالحقّ و استوتا بوجوده المتلازمة الثلاثة : الصدق و الثبوت و العدل ، و بين الدولة التي لا بدّ لها أن تكون صورة مصغّرة عن هذا الكون القائم على أركان سليمة ثابتة ، فإذا به يحيا في عقله و ضميره هذه المقايسة على صورة عفوية لا مجال فيها لواغل من الشعور أو لغريب من التفكير ، ثم لا يلبث أن يقول :
( و أعظم ما افترض من تلك الحقوق حقّ الوالي على الرعية ، و حقّ الرعيّة على الوالي فريضة فرضها اللّه لكلّ على كلّ ، فجعلها نظاما لألفتهم ، فليست تصلح الرعيّة إلاّ بصلاح الولاة ، و لا يصلح الولاة إلاّ باستقامة الرعيّة ، فإذا أدّت الرعيّة إلى الوالي حقّه ،
روائع نهج البلاغة _ 41 _
و أدّى الوالي إليها حقّها ، عزّ الحقّ بينهم ، و اعتدلت معالم العدل و جرت على أذلالها السّنن (1) فصلح بذلك الزمان و طمع في بقاء الدولة ، و إذا غلبت الرعيّة واليها ،
أو أجحف الوالي برعيّته ، اختلفت هنالك الكلمة و ظهرت معالم الجور و تركت محاجّ السّنن فعمل بالهوى و عطّلت الأحكام و كثرت علل النفوس ، فلا يستوحش لعظيم حقّ عطّل (2) و لا لعظيم باطل فعل فهنالك تذلّ الأبرار و تعزّ الأشرار و تعظم تبعات اللّه عند العباد ) و أوصيك خيرا بهذا الإحكام للروابط العامة الكبرى بين عناصر الدولة على لسان علي ،
ثم بين الأعمال الخيّرة المنتجة و بين ثبوت هذه العناصر على أسس من الحق ، أو قل من الصدق و الثبوت و العدل : وجوه الحق الثلاثة التي تقوم بها السماوات و الأرض .
و أحسّ عليّ أن هذا الكون العظيم متعاون متكافل فكان من ذلك أنّ الريح إذا اشتدّت حرّكت الأغصان تحريكا شديدا ، و إذا أجفلت قلعت الأشجار و هاجت لها العناصر ،
و أنّها إذا لانت و جرت فويق الأرض جريا خفيفا سكرت بها صفحات الماء و سكنت تحتها الأشياء .
و أحسّ أن الشمس إذا ألقت على الأرض نورها بدت معالم الأرض للعيون و الأذهان ،
و إذا خلّتها خلّت عليها من الظلمة ستارا ، و أنّ النبتة تنمو و تزهو و تورق و قد تثمر ، و هي شيء يختلف في شكله و غايته عن أشعّة النهار و جسم الهواء و قطرة الماء و تراب الأرض ،
و لكنها لا تنمو و لا تورق إلاّ بهذه الأشعّة و هذا الجسم و هذه القطرة و هذا التراب .
و أحسّ أنّ الماء الذي ( تلاطم تيّاره و تراكم زخّاره ) كما يقول ، إنّما ( حمل على متن الريح العاصفة و الزعزع القاصفة ) ، و أنّ الريح التي ( أعصف اللّه مجراها و أبعد منشأها ) مأمورة على بعد هذا المنشأ ( بتصفيق الماء الزخّار و إثارة موج البحار ، تعصف به
---------------------------
(1) أذلال ، جمع ذل بكسر الذال و ذل الطريق : محجّته ، و هي جادته ، أي وسطه ، و جرت السنن أذلالها ، أو على أذلالها : جرت على وجوهها .
(2) أي ، اذا عطل الحق لا تأخذ النفوس وحشة أو استغراب لتعوّدها تعطيل الحقوق و أفعال الباطل ، و لاستهانتها بما تفعل .
روائع نهج البلاغة _ 42 _
عصفها بالفضاء و تردّ أوّله إلى آخره ، و ساجيه إلى مائره (1) حتى يعبّ عبابه ) ، و من زينة الأرض و بهجة القلوب هذه النجوم و هذي الكواكب ، و ضياء الثواقب (2) و السراج المستطير (3) و القمر المنير أحسّ ابن أبي طالب من وراء ذلك جميعا أنّ هذا الكون القائم بالحقّ ، إنّما ترتبط عناصره بعضها ببعض ارتباط تعاون و تساند ، و أنّ لقواه حقوقا افترضت لبعضها على بعض ، و أنّها متكافئة في كلّ وجوهها متلازمة بحكم وجودها و استمرارها .
فأدرك في أعماقه أنّ المقايسة تصحّ أصلا و فرعا بين هذه العناصر المتعاونة المتكافئة ،
و بين البشر الذين لا بدّ لهم أن يكوّنوا متعاونين متكافئين بحكم وجودهم و استمرارهم ،
فهم من أشياء هذا الكون يجري عليهم ما يجري على عناصره جميعا من عبقريّة التكافل الذي يراه عليّ فرضا عليهم لا يحيون إلاّ به و لا يبقون ، فإذا به يلفّ عالم الطبيعة الجامدة و عالم الإنسان بومضة عقل واحدة ، و انتفاضة إحساس واحدة ، ليستشفّ عدالة الكون القائم على وحدة من الصدق و الثبات و العدل ، مطلقا هذا الدستور الذي يشارك به الكون في التعبير عن ضميره ، قائلا :
( ثم جعل من حقوقه حقوقا افترضها لبعض الناس على بعض ، فجعلها تتكافأ في وجوهها ، و يوجب بعضها بعضا ، و لا يستوجب بعضها إلاّ ببعض ) و من هذا المعين أيضا قول له عظيم يقرّر به أنّ دوام نعمة من النعم مرهون بما فرض على صاحبها من واجب طبيعيّ نحو إخوانه البشر ، و أن عدم القيام بهذا الواجب كاف وحده لأن يزيلها و يفنيها :
( من كثرت النّعم عليه كثرت الحوائج إليه ، فمن قام فيها بما يجب عرّضها للدوام و البقاء ، و من لم يقم فيها بما يجب عرّضها للزوال و الفناء ) .
---------------------------
(1) الساجي : الساكن ، و المائر : الذي يذهب و يجيء ، أو المتحرك مطلقا ، و عبّ عبابه : ارتفع علاه .
(2) الثواقب : المنيرة المشرقة .
(3) المستطير : المنتشر الضياء ، و الشراج المستطير : الشمس .
روائع نهج البلاغة _ 43 _
ففي هذين القولين من التعبير عن عدالة الكون ، و الناس من موجوداته ، ما لا يحتاج إلى كثير من الايضاح ، فحقوق العباد على لسان عليّ يكافىء بعضها بعضا ، فهي أشبه ما تكون بحقّ الماء على الريح ، و النبتة على الماء ، و الماء على الشمس ، و الشمس على قانون الوجود ، و هذه السنّة التي تفرض على الإنسان ألاّ يستحقّ شيئا من الحقوق إلاّ بأدائه حقوقا عليه ، ليست إلاّ سنّة الكون العادلة القائمة بهذا العدل .
و لينظر القارىء في هذا الأمر نظرا سديدا ثم ليقل رأيّه في ما رأى ، فإنّه إن فعل أدرك لا شكّ أنّ هذه القاعدة التي بلغ ابن أبي طالب بها الى جذور العدالة الكونية ، ثابتة لا تغيّر نفسها و لا شذوذ ينقضها .
فعناصر هذا الكون لا تأخذ إلا قدر ما تعطي ، و لا يكسب بعضها إلاّ ما يخسره بعضها الآخر ، فإذا أخذت الأرض من الشمس نورا و دفءا ، أعطت الوجود من عمرها قدر ما أخذت ، و كذلك إذا أخذت من الليل ظلاّ يغمرها ، و إذا تناولت الزهرة من عناصر الكون الكثيرة ما يحييها و ينميها و يعطيها عبيرا شهيّا ، فلسوف يأخذ النور و الهواء من لونها و عطرها بمقدار ما أعطياها ، حتى إذا تكامل انعقادها و بلغت قمة حياتها ، تعاظم مقدار ما تدفعه من عمرها ، فإذا بالحياة و الموت يتنازعانها حتى تسلم إليه أوراقها و جذعها .
أما الأرض فتبتلع منها كل ما كانت قد منحتها إياه .
و البحر لا يستعيد الى جوفه إلاّ ما أعطى السماء من غيوم و البرّ من أمطار .
و كذلك الانسان في حياته الخاصة ، فهو لا يحظى بلذة إلاّ بفراق أخرى يدفعها ، قاصدا أو غير قاصد ، عوضا عمّا أخذ ، و هو لا يولد إلا و قد تقرّر أنه سيموت . يقول عليّ :
( و مالك الموت هو مالك الحياة ) و عن هذا التوازن الحكيم في قانون الكون برحابه و أفلاكه ، و أرضه و سمائه ، و جامداته و أحيائه ، يعبّر ابن أبي طالب بهذه الكلمة التي تجمع سداد الفكر الى عنف الملاحظة إلى عبقرية البساطة : ( و لا تنال نعمة إلاّ بفراق أخرى ) و لينظر الناظرون في هذا القول فإنّهم إن فعلوا وثقوا بأنّه الواقع الذي يرتسم كلمات هي أشبه بالقاعدة الرياضية التي لا يمكن الخروج عليها .
روائع نهج البلاغة _ 44 _
أمّا في الحياة العامّة ، فليس بين شؤون الانسان شأن واحد يشذّ عن هذه القاعدة التي انتزعها عليّ بن أبي طالب من مادّة الكون العظيم ، فحقّك على مجتمعك هو أن يقيّم هذا المجتمع ما تعطيه ، كميّة و نوعا ، ثم أن تأخذ منه بمقدار ما أعطيت ، أمّا إذا حصلت من المكافأة على أقلّ ممّا أعطيت ، فإنّ نصيبك عند ذاك ذاهب إلى سواك ، و إن سواك يتمتّع بخير أنت صاحبه و لا شكّ ، و إنك في النتيجة مغصوب مظلوم .
و أمّا إذا أخذت من المكافأة فوق ما أعطيت ، فإنّ نصيب غيرك منها ذاهب إليك ، و إن سواك من الخلق يجوع بما أكلت ،
و إنك بذلك غاصب ظالم . و وجود المظلوم و الظالم في المجتمع مفسدة له و منقصة في موازين العدالة الاجتماعية التي لا تستقيم إلاّ إذا دخلت في نطاق مريح من العدالة الكونية .
و البطل لا يمكن أن يكون قاعدة بل الحقّ هو القاعدة ، و ( الحقّ لا يبطله شيء ) في قانون الكون و هو كذلك في مذهب ابن أبي طالب .
و النظر في الساطع العظيم من مظاهر العدالة الكونية ، لم يكن ليلهي عليّا عن النظر في ما خفي منها و دقّ ، و شأنه في ذلك شأن عباقرة الشعراء الذين تولّف دقائق الأشياء لديهم ،
في المادّة و المعنى ، ما تولّفه عظائمها فهم لا يفرقون فيها بين كبير و صغير ، فهي بالمنشأ واحدة و هي كذلك بالدلالة .
و ليس للذي يبهر الأنظار حساب في عقولهم و قلوبهم يعلو على حساب ما ينزوي في المخابىء و بين الظلال ، و ربّ نظرة تجري من الأحاسيس في كيان هؤلاء ما لا تجريه ينابيع الكلام و ربّ إشارة يدركون فيها من التصريح ما لا يرونه بألف إعلان و ربّ زهرة في كنف صخرة ينعمون لديها من الشعور بعظمة الوجود بما لا ينعمون به لدى الدوحة العاتية ، بل ربّ صغير في نظرهم أجلّ من كبير ، و قليل أكثر من كثير و أرى من الموافق أن أذكر في هذا المجال نتفة من حديث طويل سقته بصدد الكلام على موقف صاحب الإحساس العظيم و الفكر المحيط من الكون الذي يستوي خفيّه و ظاهره في الدلالة على ما فيه من جليل ، قلت :
( و كأنّي بهذه الطبيعة تمثّل للشاعر جمال الحريّة التي يشتهي ، إذ ترسل الريح حين تشاء و كيف تشاء لا يهمّها أسخط الناس عليها أم رضوا قانعين و تفجّر الينابيع من
روائع نهج البلاغة _ 45 _
الصخر ، حين تروم ، و من رخيّ التراب ، و تجريها هادئة في السهل أو تقذف بها من أعالي الجبال . و تبرز من صدرها أشجارا و صخورا و قمما و وديانا على طريقتها التي تريد ،
لا يعنيها أن تنبت الزنابق إلى جانب الشوك أو تعلق إبر السمّ وردا أخضر العود طيّب الريح ، و لا تتقيّد بمعرفة تقوم بتحقير الهشيم اليابس و تعظيم الأخضر الفينان ، و بالسخرية من صغار الهوامّ تطلّ من ثقوب الصخور ، تمجيدا لشراسة القويّ من الوحش يفترس الضعيف (1) ) .
بهذه النظرة و بهذا الشعور واجه ابن أبي طالب مظاهر الوجود الواحد في الطبيعتين الصامتة و الحيّة ، و أحسّ إحساسا بديهيّا و عميقا معا بأنّ قوّة الوجود الشاملة ترعى هشيم النبت بقانون ترعى به الورق الأخضر و الزرع الذي استوى على سوقه و اهتزّ للريح .
و أنّها تعنى بالفسيل (2) الضئيل من شجر الأرض كما تعنى بالعتيّ من الدوح العظيم .
أمّا البهم و الحشرات و الغوغاء (3) و صغار الطير ، فإنّ الطبيعة لم تبذل في رعايتها نصيبا أقلّ مما تبذله في رعاية الهائل من الوحش و نسر الفضاء ، فلكلّ من المخلوقات مكانه في سعة الوجود و لكلّ حقّه بهذا الوجود ، لذلك لم يمنع الطود الشامخ عن ابن أبي طالب رؤية الحصاة و ذرّة التراب ، و لم يفته و هو ينظر الى الطاووس أن يلتفت الى النملة المتواضعة الدابّة في خفايا الأرض بين حطامها و حصاها ، فإذا هي في الوجود خلق جليل و شيء كثير .
و ما كان عليّ ليرى في الطاووس و النملة اللذين يبسطهما النهار ، شيئا يزيد في معنى الوجود و في قيمته عمّا كان يراه في الخفافيش (4) التي جعل لها الليل نهارا و قبضها الضياء الباسط لكلّ شيء ، و إنما كان يريد من غوامض الحكمة فيها ما يراه في عظائم المخلوقات .
و يكفي هذا المخلوق ، في نهج عليّ ، أن يكون ذا رمق أي أن يكون حيّا لتكفل له قوّة الوجود الشاملة كفلا أساسيّا ما يقيه خطر الموت قبل حينه ، فإنّ العدالة الكونية ما أقامت حيّا من الأحياء إلاّ و عدلت وجوده بما يمسك عليه مدّة بقائه ، و هذا ما يعنيه عبقريّ
---------------------------
(1) باختصار عن كتاب ( فاغنر و المرأة ) للمؤلف صفحة 163 164 .
(2) الفسيل : صغار الشجر .
(3) البهم : صغار أولاد الضأن و المعز ، الغوغاء : صغار الجراد .
(4) راجع ، في هذا الكتاب ، روائع علي في وصف الطاووس و الخفاش .
روائع نهج البلاغة _ 46 _
الملاحظة الدقيقة الضابطة عليّ بن أبي طالب بقوله : ( و لكلّ ذي رمق قوت ، و لكل حبة آكل ) .
أمّا إذا حيل بين ذي الرمق و قوته ، و الحبّة و آكلها ، فإنّ في هذا المنع اعتداء على موازين العدالة الكونية و افتراء على قيمة الحياة و معنى الوجود ، يقول عليّ : ( و اللّه لو أعطيت الأقاليم السبعة على أن أعصي اللّه في نملة أسلبها لبّ شعيرة ، ما فعلت ) أما الاعتداء على موازين العدالة الكونية ، فإن العقاب عليه قائم بطبيعة هذه العدالة العامّة نفسها التي تقاضي الفاعل مقاضاة لا لين فيها و لا قسوة ، و إنما عدل و مجازاة .
و من ثمّ كانت النظرة العلوية الجليلة إلى معنى الحياة الواحدة بكثيرها و قليلها ، بكبيرها و صغيرها ، فالعدالة الكونية التي وازنت بين الأحياء و رعتهم في مختلف حالاتهم و أقامت بينهم أعمالا مشتركة و حقوقا متبادلة و واجبات متعادلة ، لم تفرّق بين مظهر من مظاهر الحياة و آخر ، و لم تأمر بأن يعتد قويّ على ضعيف لما خصّ به القويّ من أداة العتوّ ، و لم تأذن للكثير بأن يغبن القليل حقّه بما خصّ به من صفات الكثرة ، و هي من ثمّ لا تغتفر ظلم القليل بحجّة مصلحة الكثير ، فالذي يغبن كائنا حيّا في نهج ابن أبي طالب فكأنّما غبن الكائنات الحيّة جميعا ، و من قتل نفسا بغير حقّ فكأنّما قتل النفوس جملة ، و من آذى ذا رمق فكأنّما آذى كلّ ذي رمق على وجه الأرض ، فالحياة هي الحياة في نهجه و احترامها هو الأصل و عليه تنمو الفروع .
ففي نظريات عدد كبير من المفكرين و المتشرعين ، و في ( آراء ) معظم هؤلاء الذين يسمون أنفسهم رجال سياسة ، يجوز الاعتداء على العدد القليل من الناس في سبيل العدد الكثير .
و في حساب هؤلاء ، لا يقاس الخير إلاّ بسلامة العدد الكثير ، ثم في بلوغه ما يصبو إليه من حال ، فإذا قتل بحادث اعتداء ألف من الخلق ، فالأمر فظيع ، و إذا قتل ألفان فالأمر أفظع ، و هكذا دواليك ، أمّا إذا قتل إنسان واحد ، بمثل هذا الحادث ، فالقضيّة هيّنة و الأمر بسيط ، فإنّ دفاتر تجّار الأرواح عند ذاك لا يسقط منها الكثير ، أمّا جداول الضرب و عمليّات الجمع و القسمة ، فن الميسور تعديلها بعمليّة حساب بسيطة .
أمّا ابن أبي طالب فيسحق نظريات هؤلاء التجّار ، بقول يتناوله مباشرة من روح الوجود الذي لا قيمة لديه للأرقام في معنى الحياة ، بل للحياة نفسها :
روائع نهج البلاغة _ 47 _
( فو اللّه لو لم يصيبوا من الناس إلاّ رجلا واحدا معتمدين (1) لقتله ، بلا جرم جرّه ،
لحلّ لي قتل ذلك الجيش كلّه ) .
و الواضح هنا أنّ الموضوع ليس ( قتل الجيش كلّه ) بل تمكين فكرة احترام الحياة في أذهان أصحاب السلطة ، و لفت أنظارهم إلى أنّ قتل نفس واحدة ، قصدا و اعتمادا ،
إنما يساوي قتل الخلق جميعا .
ولو أنّنا قسنا نظرة عليّ بن أبي طالب في هذا المجال بنظرات كثير من المفكرين الذين رأوا أنّ موازين العدالة لا تتحرك إلاّ بالقوّة و الكثرة ، لبدا لنا كيف ينحدرون حيث يسمو ، و كيف يتزمّتون و يغلظون حيث يرحب أفقه و تعلو على يديه قيم الحياة ، ففيما يطبّل بعض هؤلاء و يزمّرون لما ( اكتشفوه ) من آراء و نظريات تبيح للقويّ أن يعتزّ بقوّته و حسب ، و للكثير أن تتّسع آماله بهذه الكثرة وحدها و في كلّ ذلك اعتداء على قانون الحياة العادل ، و على إرادة الانسان القادرة المطوّرة الخيّرة نرى ابن أبي طالب يكشف عمّا هو أسمى بمقياس الحياة نفسها لأنه حقيقة ، و بمقياس الارادة الانسانية لأنه خير ،
فيقول ببساطة العظيم : ( و ربّ يسير أغنى من كثير ) ثم يوضح بقول أجلّ و أجمل :
( و ليس امرؤ ، و إن عظمت في الحقّ منزلته ، بفوق أن يعان على ما حمّله اللّه من حقّه (2) و لا امرؤ ، و إن صغّرته النفوس و اقتحمته العيون (3) بدون أن يعين على ذلك أو يعان عليه ) و في هذين القولين ينقل ابن أبي طالب للناس مظهرا من مظاهر العدالة الكونية البادية حيث أمعنت النظر ، و يقرّر حقيقة طالما خفيت عن العقول التي تحصر نفسها في أضيق نطاق .
يقرّر عليّ أنّ المظاهر البرّاقة الفضفاضة ليست في حكم الواقع الوجوديّ إلاّ غثّا من الوجود تافها لا قيمة له و لا شأن ، و قد يبهر بها العاديّون من الخلق و أهل الحماقات و الأغبياء
---------------------------
(1) معتمدين : قاصدين .
(2) بفوق أن يعان : أي بأعلى من ان يحتاج الى الإعانة .
(3) اقتحمته العيون : حقرته ، بدون أن يعين : بأعجز من أن يساعد غيره .
روائع نهج البلاغة _ 48 _
و المصفّقون لكلّ لمّاع تافه فارغ ، و لكنّ هذا الانهيار لا يلبث ، أن يتلاشى فجأة حين تطلّ شمس الحقيقة ، و حين يكنس نورها العظيم ما خاله العاديّون نورا و هو غشّ للعيون ،
و حين تعصف رياح الوجود العادل بعصافة التبن الخفيف ، و من التاريخ و الحاضر دلائل لا تحصى على هذا الاضطراب في المقاييس لدى الأفراد و الجماعات ، و هو اضطراب يستلزم نتائج تؤذي الحضارة و الحياة و الانسان لما فيها من انحراف عن موازين العدالة الكونية .
فلو كنت تعيش في فترة من العصور الوسطى بأوروبا ، مثلا ، لشاهدت في بعض أيامك مواكب من الناس تتلوها مواكب بإحدى الساحات العامّة من هذه المدينة أو تلك ، و ذلك قصد التهليل و التصفيق لمخلوق من الناس مزركش الألبسة عاصب الرأس بالزمرّد و الزبرجد و الحجارة الكريمة المنظومة ، و لشاهدت رجلا يسير على الرصيف وحيدا ، عصبيّ الخطوة عنيف النظرة ، لا يعنيه أمر المهلّلين و لا يعنيهم أمره ، فهم يهتفون بحياة ( عظيم ) و هو إذ ذاك ( ليس بعظيم ) ، ثم أشرقت الشمس بعد زمن فطغت على الظلمة و أبرزت الأشياء في مواضعها الحقيقية .
فما ذا ترى عند ذاك ؟ ترى أنّ هؤلاء الناس المهلّلين المصفّقين و هم بهذا المقام بمنزلة اللاشيء إنّما كانوا يهتفون لمخلوق تافه يدعى لويس الرابع عشر مثلا ،
أو لنذل من الأنذال يدعى شارل الخامس ، أو لصغير كلّ الصغارة يدعى شارل الأول ،
أو لغيرهم ممّن يحملون أسماء تليها أرقام ... دلالة على الصغارة ، ثم ما ذا يتّضح لك بعد ذاك ؟ يتّضح أنّ رجل الرصيف الذي لم يهلّل له القوم و لم يهتفوا بحياته ، إنّما هو عظيم حقّ يدعى موليير ، أو ملتون ، أو غاليليو ، و تجري الأيام ، فإذا بأصحاب الأسماء التي تليها الأرقام ، ليسوا إلاّ التفاهة كلّها ، و إذا بالمشاة على الرصيف و لا أرقام لأسمائهم ، و لا مهلّلين لهم ، ليسوا إلاّ العظمة كلّها .
ويطوي النسيان التافهين ، و يطوي معهم أولئك ( اللاشيء ) من المصفّقين الهاتفين ، و يبرز هؤلاء على هامة الوجود ، و تنزلهم الإنسانية من نفسها منازل الشموس من الظلمات ، و يبرز معهم نفر قليل من الخلق هم الذين فهموهم ،
و قدروهم قدرهم العظيم ، و تدفّأوا بحرارتهم كما تتدفأ الأرض بنور الظهيرة ، و أدركوا ما أدركه عليّ بن أبي طالب إذ قال : ( ربّ يسير أنمى من كثير ) إنها العدالة الكونية التي تزن كلّ حيّ بميزانها العظيم ، و تضعه موضعه ، لا غشّ في ذلك و لا خداع ، و لا مجاملة العدالة الكونية التي لا تهون لديها قيمة و لا تعلو تفاهة
روائع نهج البلاغة _ 49 _
و إن ابن أبي طالب لم يسمّ هذا ( اليسير ) يسيرا إلاّ لأنه هكذا كان في أنظار الناس بزمانه و في آرائهم ، و لم يسمّ هذا ( الكثير ) كثيرا إلاّ للعلّة ذاتها ، و هو يعلم أنهم مخطئون ، و أن ما يرونه يسيرا قد لا يكون كذلك ، و أن ما يرونه كثيرا قد يخف في ميزان الحق .
أما هو ،
فقد كان يستشعر قيمة الحياة في قوة و جلاء ، و يستشعر إمكاناتها العظيمة بجميع الأحياء ،
و يستشعر أن للكون إرادة عادلة في تقييم الحياة حيث كانت ، و في احترام الأحياء حيث هم ، فيطلق العبارات الحكيمة التي أشرنا اليها ، و يطلق الكثيرات غيرها ، حتى إذا غالى المغالون و أنكروا أن لليسير مثل هذه القيمة و هذه الإمكانات على النموّ ، توجّه اليهم يقول : ( و إن أكثر الحق في ما تنكرون ) ثم إن حقيقة أخرى يقررها عليّ بكلمته هذه : ( ... و ليس امرؤ و إن صغرته النفوس و اقتحمته العيون ، بدون أن يعين على ذلك أو يعان عليه ) ، هي أن كل إنسان يمكنه أن ينفع مجتمعه و ينتفع به ، أيّة كانت موهبته ، و بالغة إمكاناته ما بلغت من الضآلة .
و في هذه النظرة الى الانسان الضئيل الحظ من المواهب ، توضيح لما في خاطر عليّ من الايمان العميق بالعدالة الكونية التي تجعل من قطرات الماء بحرا خضمّا و من ذريرات الرمال صحارى و فلوات ، كما تجعل كلّ قليل داخلا في الكثير ، و كلّ صغير مستندا للكبير .
و فيها توضيح لطبيعة الحياة الخيّرة تحنو على أبنائها و تجعل كلا منهم في إطار من خيرها فلا تغبنه و لا تقسو عليه .
و فيها الدليل على هذا الحنان العميق الذي كان عليّ يغمر به الأحياء فلا يرى فيهم إلاّ بشرا جديرين بأن يحيوا الحياة كلّها ، و يفيدوا من خيرها ، و يعاونوا و يعانوا .
و إنّك واجد صورة لهذه النظرة العلوية الواثقة بعدالة الكون و خير الحياة ، المؤمنة بإمكانات الانسان أيّا كان على أن يكون شيئا كريما ، في أدب جان جاك روسّو الذي يدور حول محور من الثقة بعدالة الطبيعة و خير الحياة .
و كأني بابن أبي طالب قد خصّ هؤلاء الذين ( تصغرهم النفوس و تقتحمهم العيون ) بالسهم الأوفر من اهتمامه ساعة خاطب الناس قائلا : ( إنّ اللّه لم يخلقكم عبثا ) أو ساعة
روائع نهج البلاغة _ 50 _
أبدع في وصف ثقته بالطبيعة البشرية الخيّرة مواجها الخلق بهذا الرأي الكريم : ( و خلاكم ذمّ ما لم تشردوا ) ، أي أنكم ، جميعا ، خيّرون و نافعون أصلا و فرعا ، ما لم تميلوا عن الحقّ عامدين .
و تأكيدا لثبوت هذا الجانب من العدالة الكونية في مذهب ابن أبي طالب ، و أعني به التسوية التامّة في كلّ حقّ و واجب بين من قلّ و من كثر ، و من صغر و من كبر ،
يشير إلى أنّ مركز هذه العدالة إنّما يتساوى لديه الجميع لا فرق فيهم بين إنسان و إنسان .
فصفتهم الانسانية واحدة ، و قضيّتهم بميزان الوجود واحدة كذلك ، و هم لا يتمايزون إلاّ بما يعملون و ما ينفعون ، أمّا من عمل و نفع فإنّ قانون الوجود نفسه يثيبه ، و أمّا من تبطّل و بطر و اغتصب ، فإنّ هذا القانون نفسه يعاقبه بما يستحقّه ، يقول عليّ : ( و لا يلويه شخص عن شخص ، و لا يلهيه صوت عن صوت ، و لا يشغله غضب عن رحمة ،
و لا تولهه رحمة من عقاب ) .
و بهذا الصدد نعود بشيء من التفصيل على ما ذكرناه من أنّ عليّ ابن أبي طالب كشف النقاب عن العبقريّة الوجودية التي تجعل من طبيعة الأشياء ذاتها حاكما أعلى يعطي و يمنع و يعاقب و يثيب ، فإذا الكائنات تحمل ، بطبيعة تكوّنها ، القدرة على أن تقاضي نفسها بنفسها امتثالا لإرادة الكون العادلة .
يرى عليّ بن أبي طالب أنّ الوجود متكافىء ما نقص منه شيء هنا إلاّ و زاد فيه شيء هناك ، و كلا النقص و الزيادة متساويان لا زيادة إلاّ بمقدار النقص و لا نقص إلا بقدر الزيادة ، و جدير بالقول أنّ النظريّة القائلة بهذا التكافؤ في أشياء الوجود ، إنّما هي إحدى النتائج الكبرى التي بلغ إليها نشاط الفكر البشري في زحفه العظيم إلى اكتشاف أسرار الكون ، كما أنّها نقطة انطلاق في هذا المجال .
و جدير بالقول أيضا أنّ عددا من المفكرين الأوائل لم يتمكّنوا من الالتفات إلى هذه الحقيقة ،
و أنّ عددا أنكروها ، و أنّ هنالك فريقا من هؤلاء المفكّرين رأوها و أدركوا كثيرا من تفاصيلها و آمنوا بها و دعوا إليها ، و أبناء هذا الفريق يتفاوتون هم أيضا في قوّة الملاحظة