و قوّة التمثيل ثمّ في قوّة البيان عمّا شاهدوه و وثقوا به ، فمنهم من لحظ هذا التكافؤ في بعض مظاهر الكائنات فأعلن عن ذلك إعلانا فيه بعض البيان عن الحقيقة ، و منهم من رآه في مظاهر الكون الصامت جميعا و لكنه لم يستشعر له نتائج محسوسة في مجرى الوجود و لم يجد له خطّا موازيا في مظاهر الكون الحيّ ، و منهم من لحظه في الطبيعة الصامتة و استشعر له نتائج محسوسة في مجرى الوجود و رأى له خطّا موازيا في الكائنات الحيّة و أعلن عنه بأجلى بيان و أوثق كلام ، من هذا الفريق عليّ بن أبي طالب ، بل قل إنه في طليعة هذا الفريق من المفكرين الأوائل لأنه كاد يثبت هذه النظرية على نهج سليم قويم لا يتعارض و لا يتناقض و لا مهرب لبعضه من بعض ، بل قل إنّه فعل ذلك و أبدع .
و لعلّ موقف ابن أبي طالب ممّا لحظه و رآه من مظاهر التكافؤ في الوجود أجلّ من مواقف زملائه المفكّرين من الناحية العملية ، و ذلك بما ألحّ عليه من تأكيد لهذه الحقيقة ،
توصّلا إلى ما يترتّب عليها من نتائج في حياة الناس أفرادا و جماعة ، و هذا الواقع ينسجم كلّ الانسجام مع محور الفلسفة العلوية الذي هو : الانسان .
قلنا إنّ عليّا يرى الوجود متكافئا ما نقص منه شيء هنا إلا و زاد فيه شيء هناك ، و أن هذا النقص و هذه الزيادة يتساويان لا زيادة إلاّ بمقدار النقص و لا نقص إلا بقدر الزيادة .
فيقول أوّل ما يقول : منبّها الانسان إلى هذه الحقيقة عن طريق ألصق الأشياء به ، أي عن طريق وجوده ذاته :
( و لا يستقبل يوما من عمره إلاّ بفراق آخر من أجله ) و هل من خاطرة في ذهن إنسان يمكنها أن تدحض هذه الحقيقة التي تعرض تعادليّة الوجود بأبسط ما يراه المرء من حال الوجود ؟ ثم هل من قاعدة رياضية من قواعد الهندسة و الجبر ألصق بالحقائق الثابتة ، و أدلّ على الواقع المطلق ، و أوجز في تبيان الثابت و المطلق ،
من هذه الآية التي يصوّر بها ابن أبي طالب تعادليّة الوجود من خلال الكائن الحيّ ، و من أيامه ؟
و إذا قال لي قائل إنّ هذه الفكرة معلومة يعرفها الناس كلّ الناس ، فعن أيّة حقيقة جديدة يكشف ابن أبي طالب في زعمك إذن ؟ قلت : إنّ الكشف عن الحقائق الخافية لا يستلزم السكوت عن الحقائق الظاهرة إذا كانت هذه أصلا لتلك ، أو تلك أصلا لهذه ،
روائع نهج البلاغة _ 52 _
أو إذا كان المنهج العامّ يستلزم ضبط التفاصيل سواء ما خفي منها و ما ظهر ، فإنّ علي بن أبي طالب الذي تتماسك آراؤه في كلّ مذهب ، ثمّ تتماسك مذاهبه جميعا في وحدة فكريّة رائعة ، لم يقل هذا القول ( المعلوم الذي يعرفه الناس كلّ الناس ) ، و لم يقل بمعناه قولا أروع و هو : ( نفس المرء خطاه إلى أجله ) ، إلاّ ليعود و يبني على ما قاله بناء مفصّلا في إثبات نظرية تكافؤ الوجود .
فالذي قال ( لا يستقبل يوما من عمره إلا بفراق آخر من أجله ) ( و نفس المرء خطاه إلى أجله ) ، إنما قال ذلك ليعود الى الكشف عن حقيقة أبعد عن أذهان الناس و أخفى عن ملاحظتهم ، و لكنها تجري من القولين السابقين : ( و لا ينال الانسان نعمة إلا بفراق أخرى ) و أراك استوضحت ما في هذا القول من قوة الملاحظة ، و القدرة على الكشف ، و صراحة الفكر ، و جلاء البيان ، و ضبطا لمضمون هذه العبارة في صور و أشكال تختلف مظهرا و تتحد معنى و جوهرا ، يقول عليّ : ( كم من أكلة منعت أكلات ) و ( من ضيّعه الأقرب أتيح له الأبعد ) و ( ربّ بعيد هو أقرب من قريب ) و ( المودة قرابة مستفادة ) و ( من حمّل نفسه ما لا يطيق عجز ) و ( لن يضيع أجر من أحسن عملا ) و ( ما كسبت فوق قوتك فأنت فيه خازن لغيرك ) ، فإن في هذه العبارات ، و في عشرات غيرها ، إيجازا واضحا لتفاصيل نظرية التكافؤ الوجودي كما يراه عليّ بن أبي طالب ، فهي على اختلاف موضوعاتها القريبة ، تدور في مداها و مأخذها القصيّ على محور واحد من تعادليّة الكون ،
فلا نقص هنا إلا و تعدله زيادة هناك ، و العكس بالعكس .
أدرك ابن أبي طالب هذه الحقيقة الوجودية في قوة و عمق ، و عاشها ، و أعلن عنها في كلّ فصل من حياته أو قول من قوله ، سواء أ كان ذلك بالأسلوب المباشر أو غير المباشر .
و هو لا يدرك هذا الوجه من وجوه العدالة الكونيّة إلاّ ليدرك وجها آخر يعكسه على شكل خاصّ ، أو قل ينبثق عنه انبثاقا ، و هو ما نحن بصدده من الكلام على أنّ الطبيعة تحمل بذاتها المقياس فتعاقب أو تثيب ، و ليس بين مظاهر العدالة الكونية ما هو أبرز من هذا المظهر في الدلالة عليها .
رأى عليّ أنّ شيئا واحدا من أشياء هذا الكون لم يوجد عبثا ، بل إنّ لوجوده غاية
روائع نهج البلاغة _ 53 _
و هدفا ، و رأى أنّ لكلّ من الكائنات وظيفة يقوم بها ، و أنّ على كلّ جارحة من جوارح الانسان فريضة يحتجّ بها الكون العادل عليه ، و يسأله عنها ، و يحاسبه عليها ، و بناء على هذا الواقع ، تكون أشياء الوجود متساوية بحكم وجودها ، أمّا الصغيرة و الكبيرة فشبيهتان بهذا المقياس ، يقول عليّ : ( و يحاسبك على الصغيرة قبل الكبيرة ) ، و إنّما قال ذلك لأن الأكثرية من الناس لا يأبهون ل ( الصغيرة ) ، فإذا به يلفت أنظارهم إلى هذه الصغيرة بتقديمها على الكبيرة في ما تستلزم من عقاب أو ثواب ، لكي يطمئنّ إلى حدوث عمليّة التسوية بينهما في الأذهان و القلوب .
أمّا إذا احتجّ الكون على الانسان بما فرضه على جوارحه ، و سأله عنه ، و حاسبه على الصغيرة و الكبيرة ، و جازاه بما عمل خيرا كان أو شرّا ، فليس من الضروريّ في ملاحظة عليّ و في نهجه أن تتمّ عمليّة الاحتجاج و المحاسبة و المجازاة هذه خارج نطاق الانسان نفسه ، و إنّ هذه العمليّة المركّبة ، الواحدة على ما فيها من تركيب ، لتتمّ أبدا كما يلحظ عليّ في حدود الكائن أيّا كان ، و هكذا تتمّ في ما يتعلّق بالانسان و هو أحد الكائنات ، يقول عليّ :
( إنّ عليكم رصدا من أنفسكم و عيونا من جوارحكم ) ، و الرصد الرقيب ، و هذا الرقيب لا يألو جهدا في أن يرى و يسجّل و يعاقب أو يثيب .
و في لحظات فذّة من تألّق العقل المكتشف و الفكر النافذ ، تبدو لعيني ابن أبي طالب ألوان ساطعة من هذا الوجه من وجوه العدالة الكونية ، لا يسعك إزاءها إلاّ أن تعجب بهذا العقل و هذا الفكر ، أ فلا ينطق ابن أبي طالب بلسان علماء العصر الحديث كما ينطق بلسان هذه العدالة نفسها ساعة يقرّر هذه الحقيقة : ( من أساء خلقه عذّب نفسه ) ثمّ ، ألا ينطق بهذين اللسانين معا إذ يقول : ( يكاد المريب يقول : ( خذوني ) و إذ يقول أيضا : ( فأكرم نفسك عن كلّ دنيّة و إن ساقك رغب فإنّك تعتاض بما ابتذلت من نفسك ) و مثل هذه الآيات كثير كثير ، و منها هذه الروائع : ( موت الانسان بالذنوب أكثر من موته بالأجل ) و ( لا مروءة لكذوب و لا راحة مع حسد ، و لا سؤدد مع انتقام ، و لا صواب مع ترك المشورة ) ، و ( إذا كانت في رجل خلّة رائقة فانتظروا أخواتها )
روائع نهج البلاغة _ 54 _
و هكذا أدرك عليّ بن أبي طالب أنّ الكون واحد ، عادل ، ثابت في وحدته و عدله ،
جاعل في طبيعة الكائنات ذاتها قوّة الحساب و القدرة على العقاب و الثواب ، و هكذا عبّر عمّا أدركه أروع تعبير .
بيد أنّ وجوها غير هذه من وجوه العدالة الكونية تفحّصها عليّ و ضبط أشكالها و ألوانها ، فما هي هذه الوجوه ؟
و آدرك علي ان منطق الحنان أرفع من منطق القانون ، و أن عطف الانسان على الانسان و سائر الكائنات ، إنما هو حجة الحياة على الموت ، و الوجود على العدم و لم يكن موقف عليّ من المرأة ذلك الموقف الذي صوّروه إذا كان من عدالة الكون و تكافؤ الوجود أن تلتقي على صعيد واحد بوارح الصيف و معصرات الشتاء ، و أن تفنى في حقيقة واحدة السوافي و الأعاصير و النّسيمات اللّينات ،
و أن تحمل الطبيعة بذاتها ، بكلّ مظهر من مظاهرها ، قانون الثواب و العقاب ، فمن هذه العدالة أيضا و من هذا التكافؤ أن تتعاطى قوى الطبيعة و تتداخل سواء في ذلك عناصر الجماد و عناصر الحياة ، و سواء في ذلك ما انبثق عن هذه أو انسلخ عن تلك .
و لما كانت صفات الانسان و أخلاقه و ميوله و أحاسيسه منبثقة عن عناصر الحياة التي تتّحد فتؤلّف ما نسميه شخصية الإنسان ، فهي متعاطية متداخلة ، تثبت ذلك الملاحظة الطويلة و الموازنة الدقيقة ثمّ قواعد العلم الحديث الذي لاحظ و وازن و أرسى مكتشفاته على أسس و أركان .
و قد مرّ معنا أنّ الانسان في مذهب عليّ بن أبي طالب هو الصورة المثلى للكون الأمثل .
و ممّا يعزى إليه هذا القول يخاطب به الانسان :
(
و تحسب أنّك جرم صغير
و فيك انطوى العالم الأكبر
روائع نهج البلاغة _ 56 _
فمن الطبيعيّ في مثل هذه الحال أن يلحّ عليّ في طلب كلّ ما يتعلّق بالانسان ممّا يطاله زمانه و إمكانات عصره ، و من الطبيعيّ كذلك أن يلحّ في الكشف عمّا في هذا ( الجرم الذي انطوى فيه العالم الأكبر ) من مظاهر العدالة الكونية و تكافؤ الوجود ضمن الإطار الذي دارت آراؤه فيه .
أحسّ عليّ إحساسا مباشرا عميقا أنّ بين الكائنات روابط لا تزول إلاّ بزوال هذه الكائنات ، و أنّ كلّ ما ينقص هذه الروابط ينقص من معنى الوجود ذاته ، و إذا كان الانسان أحد هذه الكائنات ، فإنّه مرتبط بها ارتباط وجود ، و إذا كان ذلك و هو كائن فإنّ ارتباط الكائن بشبيهه أجدر و أولى ، أمّا إذا كان هذا الكائن من الأحياء ، فإنّ ما يشدّه إلى الأحياء من جنسه أثبت و أقوى ، و أما الانسان رأس الكائنات الحيّة فإنّ ارتباطه بأخيه الانسان هو الضرورة الأولى لوجوده فردا و جماعة .
و حين يقرّر عليّ أنّ المجتمع الصالح هو المجتمع الذي تسوده العدالة الاجتماعية بأوسع معانيها و أشرف أشكالها ، إنّما يسن قانونا أو ما هو من باب القانون ، و لكنّ هذا القانون لا ينجلي في ذهنه و لا يصبح ضرورة ، إلاّ لأنه انبثاق طبيعيّ عمّا أسميناه روح العدالة الكونية الشاملة ، التي تفرض وجود هذا القانون ، لذلك نرى ابن أبي طالب ملحّا شديد الإلحاح على النظر في ما وراء القوانين ، و على رعايتها بما هو أسمى منها : بالحنان الانساني .
و ما يكون الحنان إلاّ هذا النزوع الروحيّ و الماديّ العميق إلى الاكتمال و السموّ ، فهو بذلك ضرورة خلقيّة لأنه ضرورة وجودية .
الصفحة الأولى التي ينشرها عليّ من صفحات الحنان تبدأ بأن يذكّر الناس بأنهم جميعا إخوة فينعتهم ب ( إخواني ) نعتا صريحا و هو أمير عليهم ، ثم يردف ذلك بتذكير الولاة بأنهم إخوان الناس جميع الناس ، و بأنّ هذا الإخاء يستلزم العطف بالضرورة ، قائلا إلى أمرائه على الجيوش : ( فإنّ حقّا على الوالي أن لا يغيّره فضل ناله ، و لا طول خصّ به ، و أن يزيده ما قسم اللّه له من نعمه دنوّا من عباده و عطفا على إخوانه ) ، و ما يذكره لنفسه و للولاة بأنّهم و الناس إخوان بالمودّة و الحنان ، يعود فيقرّره بحكمة شاملة يتّجه بها الى البشر جميعا دون تفرقة أو تمييز ، قائلا : ( و إنما أنتم إخوان ما فرّق بينكم إلاّ خبث السرائر و سوء الضمائر ) .
و هو بذلك يضع خبث السريرة و سوء الضمير في طرف ،
و حنان القلب و مودّة النفس في طرف آخر ، و لمّا كان من الحقّ الوجوديّ للإنسان أن
روائع نهج البلاغة _ 57 _
ينعم بحنان الانسان ، فإنّ الطبيعة التي تحمل بذاتها القيم و المقاييس لا بدّ لها من التعويض على صالح ضيّعه الجيران و الأقربون و الأهل فما لفّوه برداء من حنان ، بعطف و حنان كثيرين يأتيانه من الأباعد ، فيقول عليّ : ( من ضيّعه الأقرب أتيح له الأبعد ) و هو في سبيل رعاية هذه الأخوّة القائمة بالحنان الانساني ، لا يقبل حتى بالهنات الهيّنات لأنّ فيها انحرافا مبدئيا عن كرم الحنان : ( أمّا بعد ، فلو لا هنات كنّ فيك لكنت المقدّم في هذا الأمر ) .
و إذا كانت القوانين المتعارف عليها تسمح لابن أبي طالب بأن يحارب المتآمرين به ،
فإنّه لا يفعل إلاّ بعد أن يراعي كلّ جوانب الحنان في نفسه و قلبه ، و بعد أن يستشير كلّ روابط الإخاء البشريّ في نفوس مقاتليه و قلوبهم ، و هو إن فعل في خاتمة الأمر فإنّما يفعل مكرها لا مختارا ، حزينا باكيا لا فرحا ضاحكا ، فإذا شعوره بالنصر بعد القتال آلم و أوجع من شعور مناوئيه بالهزيمة و إذا كانت القوانين المتعارف عليها تسمح لابن أبي طالب بأن يترك المعتدين عليه ، بعد موته ، بين يدي أنصاره و بنيه يقاتلونهم و يقتصّون منهم لضلال مشوا به و إليه ، فإنّ الرأفة بالانسان و هي لديه وراء كلّ قانون ، تحمله حملا على أن يخاطب أنصاره و بنيه بهذا القول العظيم : ( لا تقاتلوا الخوارج من بعدي ، فليس من طلب الحقّ فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه ) .
و هو بعامل هذا الحنان العميق يربط سعادة المرء بسعادة جاره ، أي بسعادة الانسانية كلّها ، لأنّ لجار المرء جيرانا ، و ما يجوز عليه بالنسبة له يجوز عليهم بالنسبة لسائر الناس .
و من سعادته أيضا أن يطغى عليه هذا الحنان فإذا بأبناء الآخرين يحظون منه بالعطف الذي يحظى به أبناؤه : ( أدّب اليتيم بما تؤدّب به ولدك ) ، و أنّ يستشعر الجميع روح العدالة الأساسية التي تفوق القوانين الوضعية قيمة و جمالا لأنها تحمل الدفء الانسانيّ و تصل الخلق بمنطق القلب لا بمنطق الخضوع لقانون : ( ليتأسّ صغيركم بكبيركم ، و ليرأف كبيركم بصغيركم ) .
و إذا كان العجز عن إتيان المكرمات نقصا ، فإنّ منطق الحنان على لسان عليّ يجعل العاجز
روائع نهج البلاغة _ 58 _
عن اكتساب أخوّة الناس أكثرهم نقصا : ( أعجز الناس من عجز عن اكتساب الإخوان ) .
و يضيف عليّ إلى هذا العجز عجزا آخر هو الميل إلى المراء و الخصومة قائلا : ( إيّاكم و المراء و الخصومة ) بل إنّ الأولى هو لين الكلام لما فيه من شدّ الأواصر بين القلب ، منبع الحنان ،
و القلب : ( و إنّ من الكرم لين الكلام ) ، و ليس بين نزعات القلب ما هو أدعى إلى الراحة من شعور المرء بأنّ له في جميع الناس إخوانا أحبّاء ، فإذا تألّم ابن أبي طالب من سيئات زمانه ، جعل الخبز و هو آلة البقاء ، و الصدق و هو ركيزة البقاء ، و مؤاخاة الناس في منزلة واحدة ، فقال في ناس زمانه : ( يوشك أنّ يفقد الناس ثلاثا : ( درهما حلالا ،
و لسانا صادقا ، و أخا يستراح إليه ) .
و إذا كانت الغربة قساوة كبرى لأنها تستدعي الوحدة ، فإنّ أشدّها يكون ساعة يفقد الانسان إخوانه و أحبّاءه لأنه يفقد إذ ذاك قلوبا يعزّ بعطفها و يحيا بحنانها : ( و الغريب من لم يكن له حبيب ) و ( فقد الأحبّة غربة ) .
و لا بدّ لنا أن نشير إلى موقف ابن أبي طالب من المرأة على هذا الصعيد ، فالمرأة نصف الانسان ، فهل يخلو هذا النصف من العطف على نصفه الآخر ؟ و هل النصف الآخر مدعوّ إلى أن يجور على مقاييس العدالة الكونية القاضية بحنان الانسان على الانسان ؟
لقد أوّل الكثير بعض أقوال عليّ في المرأة تأويلا شاؤوا به الطرافة و الترفيه فوق ما شاؤوا به أن يبرزوا موقف عليّ منها ، فألحّوا على كلمات له قالها في ظروف كان أبرز ما فيها عداء امرأة معيّنة له و هو لم يسىء و لم يأمر إلاّ بمعروف ، و فاتهم أنّ مثل هذه الأقوال الخاضعة لظرف محدود بذاته ، و الرامية إلى إيضاح الأسباب في صراع بين عقليتين مختلفتين كلّ الاختلاف ، إنّما قال في بعض الرجال أشدّ منها و أقسى ، و هو بذلك لا يعني الرجال قاطبة و في كلّ حالاتهم ، كما أنه ، حين أطلق تلك الأقوال في المرأة ، لم يكن ليعني النساء قاطبة و في كل حالاتهن .
فإن مسبّبي الويلات التي ألمّت به و بالخير عن طريقه ،
تعرّضوا لمثل هذه الأقوال سواء أ كانوا رجالا أو نسوة لهنّ قوة الرجال و نفوذهم ، و هو إن هاجم هؤلاء و هؤلاء من نسوة و رجال ، فإنّما كان يهاجم فيهم مواقف معيّنة وقفوها من الحقّ و العدل و أصحابهما ، و في ذلك ما ينفي الادّعاء بالإساءة إلى المرأة من قبل عليّ .
و إنّي لأسأل من يعنيهم الأمر أن يوافوني بكلمة واحدة يسيء بها عليّ إلى المرأة و لم تكن
روائع نهج البلاغة _ 59 _
موجّهة إلى إنسان معيّن في ظرف معيّن ، أو من وحي هذا الانسان في هذا الظرف لقد هاجم المرأة عند ما كانت سببا في الفتنة ، و هاجم الرجل في مثل هذه الحال ، فهو بذلك يهاجم الفتنة و حسب أمّا موقف عليّ من المرأة كإنسان ، فهو موقفه من الرجل كإنسان ، لا فرق في ذلك و لا تمييز ، أ و ليس في حزنه العميق على زوجه فاطمة و قد توفّيت ، دليل على إحساسه بقيمة المرأة كإنسان له كلّ حقوق الانسان و عليه كلّ واجباته ، و في أساس هذه الحقوق و الواجبات أن ينعم بالحنان الانسانيّ و ينعم به الآخرين ؟
أ و لم يكن الناس في الجاهلية و بعد الجاهلية يتفاءلون بمولد الذكر و يفرحون ، و يتشاءمون بمولد الأنثى و يحزنون أ و لم يكن موقف الفرزدق تعبيرا عن نظرة عصره إلى المرأة ، و هو عصر متّصل بزمن ابن أبي طالب ، ساعة ماتت زوجته ، و كان يحبّها على ما زعموا ، فقال فيها هذا القول العجيب : (
و أهون مفقود ، إذا الموت ناله ،
على المرء من أصحابه ، من تقنّعا
أي أنّ أهون فقيد على المرء من أصحابه و معارفه فقيد يلبس القناع ، و يريد به المرأة .
فالمرأة في قلبه و على لسانه لا تستحقّ أن تبكى ، و لا أن يحزن عليها ، لما ذا ؟ لا لشيء إلاّ لأنها امرأة و عليّ ، أ لم يكن من أبناء ذلك الزمان ؟ و لكنّه كان أنفذهم تفكيرا و أشرفهم نظرا و أعمقهم إحساسا ، فقال في جملة ما قال بهذا الشأن متلوّما على أصحاب تلك العقلية الرعناء :
( و إن بعضهم يحب الذكور و يكره الإناث الخ ) ، إذن ، فالذكور و الإناث بمنزلة واحدة عند عليّ تجمعهم صفة الانسان و حسب .
أضف إلى ذلك أن عليا الذي يعطف على الناس عموما ، و على الضعفاء منهم خصوصا ،
يفرض على الخلق الكريم أن يكون أشدّ حنانا على المرأة لأنها مستضعفة إن لم تكن ضعيفة ،
فيقول : ( و انصروا المظلوم و خذوا فوق يد الظالم المريب و أحسنوا إلى نسائكم ) ، و يقول في مكان آخر : ( آمركم بالنهي عن المنكر و الإحسان الى نسائكم ) .
روائع نهج البلاغة _ 60 _
و يتابع ابن أبي طالب حلقات هذا المسلك المتماسك في دعوته إلى أن يلتفّ الناس جميعا ،
ثم الناس و سائر الكائنات ، بدفء الحنان ، فيقول في العلم و قد عرفنا قيمة العلم في مذهبه : ( رأس العلم الرفق ) ، و هو لا يرى في كثرة الذنوب ما يهول أكثر من أنها مدعاة إلى القسوة بحكم تعوّدها ، و من ثمّ فهي سبب في نفور بارد يحلّ في القلوب محلّ حنان دافىء ، فيقول : ( ما جفّت الدموع إلاّ لقسوة القلوب ، و ما قست القلوب إلاّ لكثرة الذنوب ) و إذا لم تكن من أهل الذنوب فأنت من أهل الحنان و من حقك أن تبذل بهذا الحنان كلّ ما تملك لنصرة أخيك الانسان : ( فإن كنت من أخيك على ثقة فابذل له مالك و يدك ، و أعنه ، و أظهر له الحسن ) .
و أخيرا يطلق عليّ مجموعة من الأقوال تدور في مدار الدعوة إلى تفاني الناس في الناس عطفا و حنانا ، و هي تعتبر بحقّ من أسمى ما يملكه الانسان من تراث خلقيّ عظيم ، و منها هذه الروائع : ( صل من قطعك و أعط من حرمك ، أحسن إلى جميع الناس كما تحب أن يحسن إليك ، أحسن إلى من أساء إليك ، عودوا بالفضل على من حرمكم الخ ... ) و إنجازا لهذه الدعوة الكريمة يشرك ابن أبي طالب البهائم و البقاع و الناس في حقّ لها مشترك في الحنان فيقول : ( اتّقوا اللّه في عباده و بلاده فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع و البهائم ) و هكذا ، فإنّ عطف الانسان على الانسان و سائر الكائنات إنّما هو حجّة الحياة على الموت ، بل هو إرادة من إرادة الوجود العادل
روائع نهج البلاغة _ 61 _
صدق الحياة
و هذا الصدق عهد منك و عليك ، لأنه روح الجمال و الحق ، و إرادة الحياة القادرة الغلاّبة لعلّ أبرز مظاهر العدالة الكونية في عالم الجماد و عالم الحياة ، و في كل ما يتّصل بطبيعة الوجود و خصائص الموجودات ، هو الصدق الخالص المطلق ، فعلى الصدق مدار الأرض و الفلك و الليل و النهار ، و بالصدق وحده تتلاحق الفصول الأربعة و يسقط المطر و تسطع شمس ، و به كذلك تفي الأرض بوعدها حين تنبت ما عليها كلاّ في حينه لا تقديم و لا تأخير ، و به تقوم نواميس الطبيعة و قوانين الحياة ، و الريح لا تجري إلا صادقة ، و الدماء لا تطوف العروق إلا بصدق ، و الأحياء لا يولدون إلا بقانون صادق أمين .
هذا الصدق الخالص المطلق الذي تدور عليه قاعدة البقاء ، هو الينبوع الأول و الأكبر الذي تجري منه عدالة الكون و إليه تعود و لمّا كان عليّ بن أبي طالب شديد الملاحظة لصدق الوجود ، شديد التفاعل معه ،
فقد جعل من همّه الأوّل في الناس تهذيب الناس استنادا إل ما يعقل و يحسّ و يرى .
و التهذيب في معناه الصحيح و مدلوله البعيد ليس إلاّ الاحساس العميق بقيمة الحياة و شخصيّة الوجود ، و لمّا كان هذا المعنى هو المعنى الأوحد للتهذيب العظيم ، كان الصدق مع الذات و مع كلّ موجود مادّي أو معنويّ ، هو المحور الذي يدور عليه التهذيب ، كما رأيناه محور العدالة الكونية ، و بذلك ينتفي من التهذيب السليم كثير من القواعد التي تواطأ عليها
روائع نهج البلاغة _62 _
البشر دونما نظر في نواميس الوجود الكبرى ، و هم يحسبون أنّها قواعد تهذيبيّة لمجرّد اتّفاقهم عليها ، و بذلك أيضا ينتفي من التهذيب السليم كلّ ما يخالف روح الحقّ و روح الخير و روح الجمال ، و التهذيب على غير أصوله الكبرى تواطؤ سطحيّ على الكذب القبيح ، و هو على أصوله البعيدة إحساس عميق بالصدق الجميل ، ممّا يجعله اندماجا خالصا بثوريّة الحياة الجارية الفاتحة .
لذلك كان مدار التهذيب عند ابن أبي طالب ، حماية الانسان من الكذب ، أو قل حمايته و هو حيّ من برودة الموت و حماية الانسان من الكذب تستوجب أوّل الأمر تعظيم الصدق نصّا مباشرا في كلّ حال ، و إبرازه ضرورة حياتيّة لا مفرّ منها لكلّ حيّ ، و توجيه الناس نحوه أفرادا يخلون إلى أنفسهم أو يعيشون جماعات ، و في هذا الباب يبرز عليّ بن أبي طالب عملاقا يرى ما لا يراه الآخرون ، و يشير إلى ما يجهلون ، و يعمل ما لا يستطيعونه الآن و يريدهم أن يستطيعوه .
يقول عليّ : ( إيّاكم و تهزيع الأخلاق و تصريفها و اجعلوا اللسان واحدا ) ، و تهزيع الشيء تكسيره ، و تصريفه قلبه من حال إل حال ، يريد بذلك تذكير الصادق بالخطر الذي يتعرّض له صدقه إن هو كذب و لو مرّة واحدة ، فالصادق إذا كذب مرة انكسر صدقه كما ينكسر أيّ شيء وقع على الأرض مرة واحدة ، و كذلك النفاق و التلوّن فهما لونان من ألوان الكذب ، و يقول أيضا : ( و كونوا قوما صادقين ، و اعملوا في غير رياء ، و أعزّ الصادق المحقّ و أذلّ الكاذب المبطل ، و اصدقوا الحديث و أدّوا الأمانة و أوفوا بالعهد .
من طلب عزا بباطل أورثه اللّه ذلا بحق ، إن كنت صادقا كافيناك و إن كنت كاذبا عاقبناك .
إنّ من عدم الصدق في منطقه فقد فجع بأكرم أخلاقه ، ما السيف الصارم في كفّ الشجاع بأعزّ له من الصدق ) ، و ما هذه الآيات في الصدق إلاّ نماذج من مئات أخريات يؤلف ابن أبي طالب بها أساس دستوره الأخلاقي العظيم .
ثم اليك هذه الآية التي يكثر في نسجها نصيب العقل النافذ الواعي ، يقول : ( الكذب يهدي الى الفجور ) ، و لسنا في حاجة الى الإسهاب في إظهار ما تخفي هذه الكلمة من حقيقة تجرّ وراءها سلسلة لا تنتهي من الحقائق ، كما أننا لسنا في حاجة الى الإسهاب في تصوير ما تشير إليه من حقيقة نفسية لا تزيدها الأيام إلا رسوخا ، و مثل هذه الآية آيات ، منها :
( لا يصلح الكذب في جد و لا هزل ، و لا أن يعد أحدكم صبيّه ثم لا يفي له ) أما المعنى
روائع نهج البلاغة _ 63 _
الذي يشير اليه الشق الأول من هذه الآية العلوية ، فقد كان موضوع جدل كثير بين فلاسفة الأخلاق و لا سيما الأوروبيين منهم ، و الواقع أن هؤلاء أجمعوا على أن الصدق حياة و الكذب موت ، غير انهم اختلفوا في هل يجوز الكذب في حالة الضرورة أم لا ؟
فمنهم الموافق و منهم المخالف ، و لكلّ من الفريقين حجته .
أمّا عليّ بن أبي طالب ، فيقف من هذا الموضوع الذي تثيره عبارته ، موقفا حاسما ينسجم مع مذهبه العظيم في الأخلاق ، هذا المذهب الذي نعود فنذكّر القارىء بأنه منبثق عمّا أحسّه عليّ و وعاه من عدالة الكون الشاملة ، فيقول غير متردّد : ( علامة الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرّك على الكذب حيث ينفعك ، و أن لا يكون في حديثك فضل عن عملك ) و من الواضح ان ابن أبي طالب لا يرى أن في الكذب ما ينفع و أن في الصدق ما قد يضرّ ، فيتحدث الى الناس في نطاق من مدى تصوّرهم ليبلغ كلامه منهم مبلغا ذكيا .
و تأكيدا لذلك يقول : ( عليك بالصدق في جميع أمورك ) ، و يقول أيضا : ( جانبوا الكذب فإن الصادق على شفا منجاة و كرامة ، و الكاذب على شفا مهواة و هلكة ) أمّا المعنى الذي يذكره الشقّ الثاني من العبارة : ( و لا أن يعد أحدكم صبيّه ثم لا يفي له ) ،
فالتفاته عظيمة إلى حقيقة تربويّة تقرّرها الحياة نفسها ، كما تقرّرها الأصول النفسية التي ينشأ عليها المرء و يتدرّج ، و يكفيك منها هذه الاشارة إلى أن الطفل يتربّى بالمثل لا بالنصيحة .
و هذا الرأي هو محور فلسفة جان جاك روسّو التربويّة و الصدق مع الحياة يستلزم البساطة و ينفر من التعقيد ، لأن كل حقيقة هي بسيطة بمقدار ما الشمس ساطعة و الليل بهيم ، و دلالة على هذه البساطة الدافئة لأنها انبثاق حيّ و عفوي عن الصدق ، نقول إن ابن أبي طالب كره التكبّر لأنه ليس طبعا صادقا بل الكبر هو الصدق ،
فإذا بالمتكبر في رأيه شخص يتعالى على جبلته ذاتها ، يقول : ( لا تكونوا كالمتكبر على ابن أمه ) ، و هو في الوقت نفسه يكره التواضع إذا كان مقصودا فإنه عند ذاك لا يكون طبعا صادقا بل الشعور بأن الانسان مساو لكل إنسان في كرامته هو الصدق ، لذلك يخاطب من يقوده تواضعه إلى أن يذلّ نفسه ، قائلا له : ( إياك أن تتذلّل للناس ) ، ثم يردف ذلك بقول أروع : ( و لا تصحبنّ في سفر من لا يرى لك من الفضل عليه مثل ما ترى له من الفضل عليك )
روائع نهج البلاغة _ 64 _
و إني لا أعرف في مبادىء المحافظين على كرامة الانسان كإنسان لا يتكبر و لا يتواضع بل يكون صادقا و حسب ، ما يفوق هذه الكلمة لابن أبي طالب أو ما يساويها قيمة :
( الإنسان مرآة الانسان ) و من أقواله الدالّة على ضرورة أخذ الحياة أخذا بسيطا : ( ما أقبح الخضوع عند الحاجة و الجفاء عند الغنى ، الثناء بأكثر من الاستحقاق ملق و التقصير عن الاستحقاق عيّ أو حسد ، لا تقل ما لا تعلم ، لا تعمل الخير رياء و لا تتركه حياء ، يا ابن آدم ، ما كسبت فوق قوتك فأنت فيه خازن لغيرك ، لا ينصت للخير ليفخر به ، و لا يتكلّم ليتجبّر على من سواه ، من حمّل نفسه ما لا يطيق عجز ، لا خير في معين مهين ) ، و كأنّي بابن أبي طالب لا يترك جانبا ممّا وعاه فكره و شعوره و أمور الحياة و الانسان إلاّ أطلق فيه رائعة تختصر دستورا كاملا ، و هذا ما فعله ساعة شاء أن يوجّه الناس إلى أخذ الحياة أخذا صادقا بسيطا ،
فقال هذه الكلمة الدافئة بعفويّة الحياة : ( إذا طرقك إخوانك فلا تدّخر عنهم ما في البيت ،
و لا تتكلّف لهم ما وراء الباب ) .
و إذ يفرغ عليّ من حديثه الكثير الدائر حول ضرورة الصدق مع الحياة بصورة مباشرة ،
ثم حول البساطة التي لا يكون صدق بدونها و لا تكون بغير صدق ، يواصل طريقه في مفاهيم التهذيب التي تتلازم في مذهبه و تترابط حتى لكأنّها صورة عن كلّ موجودات الكون ، و التي يظلّ الصدق مدارها الأوّل و إن تناولت وجوها أخرى من وجوه الأخلاق ، فيوصي بأن يتغافل المرء عن زلاّت غيره فإنّ في ذلك رحمة من المتغافل و تهذيبا للمسيء بالسيرة و المثل أبلغ من تهذيبه بالنصيحة أو بالبغضاء ، يقول : ( من أشرف أعمال الكريم غفلته عمّا يعلم ) ، كما يوصي بالحلم و الأناة لأنهما نتيجة لعلوّ الهمّة ثمّ مدرجة لكرم النفس : ( الحلم و الأناة توأمان ينتجهما علوّ الهمّة ) ، و يكره الغيبة لأنها مذهب من النفاق و الاساءة و الشرّ جميعا : ( اجتنب الغيبة فإنّها إدام كلاب النار ) ، و الخديعة مثل الغيبة و كلتاهما من خبث السرائر : ( إيّاك و الخديعة فإنّها من خلق اللئام ) ، و كما رأى أنّ كذبة واحدة لا تجوز لأنّ الصدق ينكسر بها ، يرى أن كل ذنب مهما كان في زعم صاحبه خفيفا قليل الشأن إنّما هو شديد لأنه ذنب ، بل إنه أشدّ وقعا على كرامة الانسان إذا
روائع نهج البلاغة _ 65 _
استخفّ به صاحبه ، من ذنب عظيم عاد مقترفه إلى الرجوع عنه في الحال : ( أشدّ الذنوب ما استخفّ به صاحبه ) ، و ينهاك عليّ عن التسرّع في القول و العمل لأنه مدعاة إلى السقوط و على الانسان المهذّب ألاّ يبيح نفسه لأيّة سقطة : ( أنهاك عن التسرّع في القول و العمل ) .
و هو يريدك أن تعتذر لنفسك من كلّ ذنب أذنبت إصلاحا لخلقك ، و لكنّه ينبّهك تنبيها عبقريّ الملاحظة و البيان إلى أنّ الانسان لا يعتذر من خير ، فعليه إذن ألاّ يفعل ما يضطرّه إلى الاعتذار : ( إيّاك و ما تعتذر منه فإنه لا يعتذر من خير ) ، و منعا للاشتغال بعيوب الناس و إغفال عيوب النفس ، و في ذلك ما يدعو إلى سوء الخلق و المسلك سلبا و إيجابا ، يقول علي :
( أكبر العيب أن تعيب ما فيك مثله ) و ( من نظر في عيب نفسه اشتغل عن عيب غيره ) .
و إذا أتى القبيح من مصدر عليك أن تنكره أوّلا ، فإن لم تستطع ذلك تحتّم عليك ألاّ تستحسنه لئلاّ تصبح شريكا فيه : ( من استحسن القبيح كان شريكا فيه ) ، و إذا كان التعاطف بين الناس ضرورة أخلاقية لأنه ضرورة وجودية على ما مرّ معنا في الفصل السابق ،
فإنّ منطق العقل و القلب يأمر بأن يكون عطفك على من أنطقك و أحسن إليك أكثر و أوسع ،
و في ذلك يقول عليّ : ( لا تجعلنّ ذرب لسانك على من أنطقك و بلاغة قولك على من سدّدك ) ، ثم يقول : ( و ليس جزاء من عظّم شأنك أن تضع من قدره ، و لا جزاء من سرّك أن تسوءه ) .
و يهاجم الحرص و الكبرياء و الحسد لأنّها سبيل إلى الانحدار الخلقي : ( الحرص و الكبر و الحسد دواع إلى التقحّم في الذنوب ) ، و إذا كان الأخلاقيون القدماء يذمّون البخل فلأنه في نظرهم صفة مذمومة لذاتها ، أمّا عند ابن أبي طالب الذي يرصد الأخلاق بنظرة أشمل و فكر أعمق ، فالبخل ليس مذموما لذاته قدر ما هو مذموم لجمعه العيوب كلّها ، و لدفعه صاحبه إلى كل سوءة في الخلق و المسلك ، فالبخيل منافق ، معتد ، مغتاب ، حاسد ذليل ، مزوّر ، جشع ، أناني ، غير عادل ، يقول علي : ( البخل جامع لمساوىء العيوب ) .
و يطول بنا الحديث و يتّسع إذا نحن شئنا أن نورد تفاصيل مذهب ابن أبي طالب في الأخلاق و تهذيب النفس ، فهي كثيرة لم تترك حركة من حركات الانسان إلاّ صوّرتها و وجّهتها ، و إذا قلت إن مثل هذا العمل طويل واسع شاقّ فإنّي أعني ما أقول ، و ما
روائع نهج البلاغة _ 66 _
على القارىء إلاّ أن يطّلع على الروائع التي أخذناها من أدب ابن أبي طالب في هذا الكتاب ،
حتى يثق بأنّ المجلّدات قد تضيق عن دراسة مذهبه في الأخلاق و تهذيب النفس ، و عمّا تستوجبه هذه المختارات من شرح و تعليق ، و يكفي أن نشير إلى أنّ هذه الروائع العلويّة من أشرف ما في تراث الانسان ، و من أعظمه اتّساعا و عمقا .
على أنه لا بد لنا الآن من التلميح إلى آية الآيات في التهذيب العظيم بوصفه إحساسا عميقا بقيمة الحياة و كرامة النفس و كمال الوجود ، و إنّ نفرا قليلا من المتفوّقين كبوذا و المسيح و بتهوفن و أشباههم هم الذين أدركوا أنّ آية التهذيب إنّما تكون في الدرجة الأولى بين الانسان و نفسه ، و لا تكون بين الانسان و ما هو خارج عنه إلاّ انبثاقا بديهيّا طبيعيّا عن الحالة الأولى ، و قد أدرك ابن أبي طالب هذه الحقيقة إدراكا قويّا واضحا لا غموض فيه و لا إبهام ، و عبّر عنها تعبيرا جامعا ، يقول عليّ في ضرورة احترام الانسان نفسه و أعماله دون أن يكون عليه رقيب : ( اتّقوا المعاصي في الخلوات ) ، و يقول في المعنى ذاته : ( إيّاك و كلّ عمل في السرّ يستحى منه في العلانية ، و إيّاك و كلّ عمل إذا ذكر لصاحبه أنكره ) .
و إليك ما يقوله في الرابطة بين السرّ و العلانية ، أو بين ما أسميناه ( آية التهذيب ) و ما أسميناه ( انبثاقا ) عنها : ( من أصلح سريرته أصلح اللّه علانيّته ) .
و من بدائع حكيم الصين كنفوشيوس في تهذيب النفس هذه الكلمة : ( كل على مائدتك كأنك تأكل على مائدة ملك ) ، و جليّ أنه يريد منك أن تحترم نفسك احتراما مطلقا غير مرهون بظرف أو مناسبة ، حتى ليجدر بك أن تتصرف حين تخلو الى نفسك كما تتصرف و أنت بين يدي ملك ، و مثل هذا المعنى يقوله عليّ بن ابي طالب على هيئة جديدة : ( ليتزيّن أحدكم لأخيه كما يتزيّن للغريب الذي يحب أن يراه في أحسن الهيئة ) و هو يريدك في كلّ حال أن تعظ أخاك لتعينه في الانتقال من حسن إلى أحسن في الخلق و الذوق و المسلك ، و لكنّ روح التهذيب الأصيل يأبى عليك أن تجرحه أو تؤذيه بنصحه علنا ، بل إنّ هذا الروح يقضي عليك أن تكون ليّنا رفيقا فلا تنصح إلاّ خفية و لا تعظ إلاّ سرّا ، يقول عليّ : ( من وعظ أخاه سرّا فقد زانه ، و من وعظه علانية فقد شانه ) .
روائع نهج البلاغة _ 67 _
و أيّة كانت حالك فعليك أن تصدق مع نفسك و الحياة و الناس ، فبهذا الصدق تحيا و بغيره تهلك ، و به تحفظ سلامة روحك و قلبك و جسدك ، و بغيره تفقدها ، و بالصدق تحبّ و تحبّ و يوثق بك ، و بغيره تجلب لنفسك المقت و الكراهية و السيّئات جميعا و ير ذلك الناس تافها حقيرا ، و هذا الصدق عهد منك و عليك لأنه إرادة الحياة القادرة الغلاّبة و هي إرادة تقضي عليك بأنّ تنظر في عهدك كلّ يوم ، و ابن أبي طالب يقول : ( على كلّ إنسان أن ينظر كلّ يوم في عهده )
لشدّ ما رأيناه يجعل ثوريّة الحياة كلاّ من خير الوجود ، و خير الوجود كلاّ من ثورية الحياة و قالت الثورة : ( أنا الهادمة البانية و ليس من حقّ الوجود العادل إلاّ أن يكون خيّرا كريما ، و ليس من طبيعته إلاّ العطاء ، و هو لا يأخذ ما يعطيه إلاّ ليعود إلى بذله طيّبا جديدا ، و خير الوجود كيان من كيانه و جوهر من جوهره ، و عهد عليّ به هو هذا العهد ، و إحساسه بخيره هو إحساسه بعدله لا يقلّ و لا يزيد ، و على ذلك تحدّث عن هذا الخير فأكثر الحديث و قد رويناه من أقواله في خير الوجود شيئا غير قليل ، و لعلّ ما رويناه من تلك الروائع الصادقة نستطيع تلخيصه الآن بكلمة شيئا غير قليل ، و لعلّ ما رويناه من تلك الروائع الصادقة نستطيع تلخيصه الآن بكلمة قالها و كأنّه يوجز بها مذهبه المؤمن بخير الوجود : ( و ليس اللّه بما سئل بأجود منه بما لم يسأل ) ، فإذا عرفنا أنّ لفظة ( اللّه ) تعني في أقصى ما تعينه عند القدماء من أصحاب الأصالة الذهنية و الروحية : ( مركز الوجود و الروابط الكونية ، عرفنا أيّ خير شامل عميم هو خير الوجود الذي يمنحك ما تسأل ضمن شروط ، ثمّ يعطيك فوق ما تسأل ، ثمّ يزيد و لمّا كان الانسان الذي يحسب أنّه جرم صغير ، ممثّلا لهذا العالم الأكبر على ما يقول ابن أبي طالب ، فلا بدّ أن يكون هو أيضا صورة عن الوجود بخيره كما هو صورة عنه بعدله ، فإذا أعطاك الوجود فوق ما تسأله من خيره ، يكون قد بدأك لحاجة في طبيعته إلى أن يكون خيرا ، و إذا كنت صورة عنه ، فأنت أحوج إلى اصطناع الخير من أهل الحاجة
روائع نهج البلاغة _ 69 _
إليه ، و هذا ما يؤكّده عليّ بقوله هذا : ( أهل المعروف إلى اصطناعه أحوج من أهل الحاجة إليه ) و هذا ما يؤكّده أيضا في عبارة يرجع إليها كلّما تحدّث عن اصطناع الخير بين الناس : ( و الفضل في ذلك للبادىء ) .
و إذ ننتقل إلى النظر في الخير و معناه على صعيد العلاقات بين الناس ، أمكننا أن نجري آراء ابن أبي طالب في المجاري التالية : ( أولا ، الخير بين الناس يكمن في أن يتعاونوا و يتساندوا ، و أن يعمل واحدهم من أجل نفسه و الآخرين سواء بسواء ، و ألاّ يكون في هذا العمل رياء من جانب هذا و لا إكراه من جانب ذاك لكي ( يعمل في الرغبة لا في الرهبة ) على حدّ ما يقول عليّ ، ثم أن يضحّي بالقليل و الكثير توفيرا لراحة الآخرين و اطمئنان الخلق بعضهم إلى بعض ، و أن تأتي هذه التضحية مبادرة لا بعد سؤال و لا بعد قسر و إجبار ، و كلّ ما من شأنه أن ينفع و يفيد ،
سواء أ كان ذلك على صعيد مادّي أو روحيّ ، كان خيرا .
ثانيا ، يرى عليّ أنّ الخير لا يأتي إلاّ عملا أولا ، ثم قولا ، لأن الانسان يجب أن يكون واحدا كالوجود الواحد ، و أن يساند بعضه بعضا وفاء لهذه القاعدة ، فإن قال فعل ،
و إن فعل قال .
و من روائع ابن أبي طالب كلمة قالها في رجل يرجو اللّه في أمر و لا يعمل من أجل هذا الرجاء : ( يدّعي بزعمه أنّه يرجو اللّه كذب و العظيم ما باله لا يتبيّن رجاءه في عمله ، فكلّ من رجا عرف رجاؤه في عمله ) أمّا إذا عملت خيرا ، فمن حقك عند ذاك أن تقول خيرا : ( قل خيرا و افعل خيرا ) ثالثا ، يفسح عليّ في المجال أمام قوى الخير لأن تنطلق أبعد ما يكون الانطلاق ، و ذلك بأن يجعل قبول التوبة عن الشرّ قاعدة يعمل بها ، فإذا أثم المرء مسيئا إلى الآخرين ، فإنّ في التوبة بابا يلجه من جديد إلى عالم الخير إذا شاء ، يقول عليّ : ( إقبل عذر من اعتذر إليك ، و أخّر الشرّ ما استطعت ) ، و يعرف التاريخ مقدار الإساءة التي لحقت بعليّ عن طريق أبي موسى الأشعري ، و يعرف كذلك أنّ عليّا لا ينزع إلاّ عن مذهبه أيّة كانت الظروف و الصعوبات ، لذلك نراه يبعث إلى أبي موسى قائلا : ( أمّا بعد ، فإنّك امروء ضلّلك الهوى ، و استدرجك الغرور ، فاستقل اللّه يقلك عثرتك ، فإنّ من استقال اللّه أقاله )
روائع نهج البلاغة _70 _
رابعا ، يؤمن عليّ بأن قوى الخير في الانسان تتداعى و يشدّ بعضها بعضا شدّا مكينا .
فإذا وجد في إنسان جانب من الخير فلا بدّ من ارتباطه بجوانب أخرى منه ، و لا بدّ من ظهور هذه الجوانب عند المناسبات ، و في هذه النظرة إشارة صريحة إلى أنّ الوجود واحد متكافىء عادل خيّر سواء أ كان وجودا عامّا كبيرا ، أو وجودا خاصّا مصغّرا يتمثّل بالانسان : ( إذا كان في رجل خلّة رائقة فانتظروا أخواتها ) خامسا ، و مثل هذه العدوى الخيّرة بين الخلال الرائقة ، عدوى مماثلة تنتقل من الخير الى الشر بين الناس و الناس : ( جالس أهل الخير تكن منهم ) و ( اطلبوا الخير و أهله ) .
سادسا ، الإيمان العميق بأنّ في طاقة الانسان أيّا كان أن ينهج نهج الخير ، و أنّه ليس من إنسان أجدر من إنسان آخر بهذا النهج : ( و لا يقولنّ أحدكم إنّ أحدا أولى بفعل الخير منّي ) سابعا ، على المرء ألاّ يستكثر من فعل الخير كثيرا ، بل إنّ ما يفعله من خير يظلّ قليلا مهما كان كثيرا لأنّ في الاكتفاء بقدر من الخير جحودا بخير الوجود العظيم و إنكارا لطاقة الانسان الذي ينطوي فيه العالم الأكبر ، يقول عليّ في أهل الخير : ( و لا يرضون من أعمالهم القليل ، و لا يستكثرون الكثير ، فهم لأنفسهم متّهمون ، و من أعمالهم مشفقون (1) ) ثامنا ، لا بدّ من الإشارة إلى النظرة العميقة التي يلقيها عليّ على مفاهيم النزوع الانساني إلى ما يجعل الناس ، كلّ الناس ، في نعيم .
فإذا نحن نظرنا في آثار معظم المفكّرين الذين أعاروا شؤون الناس اهتمامهم ، رأينا أنّ لفظة ( السعادة ) هي التي تتردّد في هذه الآثار ، و أنّ مدلول هذه اللفظة إنّما ، هو بالذات ، مدار أبحاثهم و غاية ما يريدون ، أمّا عليّ فقد استبدل بلفظة ( السعادة ) هذه ما هو أبعد مدى ، و أعمق معنى ، و أرحب أفقا ، و أجلّ شأنا في ما يجب أن تتصف به الطبيعة الانسانية و تصبو إليه ، لقد استبدل ب ( السعادة ) هذه ، لفظة ( الخير ) فما كان يوجّه القلوب إليها بل إليه ، لأنّ في السعادة ما هو محصور في نطاق الفرد ، و لأنّ الخير ليس
---------------------------
(1) من أعمالهم مشفقون : ( خائفون من التقصير فيها.
روائع نهج البلاغة _ 71 _
بمحصور في مثل هذا النطاق ، فالخير إذن أعظم ثمّ إنّ الخير يحتوي السعادة و لا تحتويه ،
فهو أشمل أضف إلى ذلك أنّ بعض الناس قد يسعدون بما لا يشرّف الانسان ، و أنّهم قد يسعدون بما يؤذي الآخرين ، و أنّهم قد يتفهون و يترهّلون و هم يحسبون أنّهم بذلك سعداء ، أمّا الخير فهو غير السعادة إذ يكون معدنها هذا المعدن ، فهو السعادة منوطة بسعادة الناس جميعا ، و هو الرضى عن أحوال الجسد و العقل و الضمير لذلك أكثر عليّ من استخدام هذا اللفظ في دعوته الحارّة إلى كلّ ما يرفع من شأن الانسان و لم أعثر في آثار ابن أبي طالب على لفظة ( السعادة ) إلاّ مرّة واحدة ، و لكنّه لا يخرج بمعناها الذي يقصد عن مفهوم الخير بما يحمّلها من حدوده و معانيه ، أمّا العبارة التي وردت فيها لفظة ( السعادة ) فهي هذه : ( من سعادة الرجل أن تكون زوجته صالحة و أولاده أبرارا و إخوانه شرفاء و جيرانه صالحين و رزقه في بلده ) ، فانظر كيف ربط سعادة المرء بسعادة المحيطين به من أفراد عائلته ثم بسعادة إخوانه و جيرانه جميعا ، بعد ذلك ناط سعادة هذا الرجل بسعادة بلاده مستندا إلى أنها بلاد تنتج الرزق لجميع أبنائها و هو واحد منهم تاسعا ، إنّ خير الوجود و خير الانسان يستلزمان ، بالضرورة ، الثقة بالضمير الانسانيّ ثقة تجعله حكما أخيرا في ما يضرّ و ينفع ، و لنا في هذا الموضوع رأي نفصّله نقول :
من روائع ابن أبي طالب ما يخاطب به العقل وحده ، و منها ما يخاطب به الضمير .
و أكثرها ممّا يتوجه به إلى العقل و الضمير مجتمعين ، أمّا تلك التي يخاطب بها العقل ، فقل إنّها الغاية في الاصالة ، و إنّها نتيجة محتومة لنشاط العقل الذي لاحظ و دقّق و تمرّس بخير الزمان و شرّه ، و عرف من التجارب كلّ ما يكشف له عن الحقائق و يجلّيها ، فإذا هي مصوغة على قواعد هندسيّة ذات حدود و أبعاد لشدّة ما ترتبط بالحقائق ، و مظهرة في أروع إطار فنّي لشدّة ما ترتبط بالجماليّة التعبيرية ، مما يجعلها ، من حيث المادة و الشكل ،
في أصول الأدب الكلاسيكي العربي .
و في هذا النوع من الحكم الموجّه إلى العقل ، نرى عليّا يصوّر تاركا للناس أن يحكموا بما يرون ، فيأخذوا إذا شاؤوا أو يتركوا ، لذلك لا نرى في هذا النوع من الحكم صيغ الطلب ، إنّما نرى حكما صيغت بقالب خبريّ خالص جرّد من صور الأمر و النهي جميعا .
روائع نهج البلاغة _72 _
حكما تتبلور فيها طبائع الصديق و العدوّ ، و المحسن و المسيء ، و الأحمق و العاقل ، و البخيل و الكريم ، و الصادق و المنافق ، و الظالم و المظلوم ، و المعوز و المتخم ، و صاحب الحقّ و صاحب الباطل ، و مفهوم الخلق السليم و الخلق السقيم ، و شؤون الجاهل و العالم ، و الناطق و الصامت ، و الأرعن و الحليم ، و صفات الطامع و القانع ، و أحوال العسر و اليسر ،
و تقلّبات الزمان و ما لها من أثر في أخلاق الرجال ، و ما إلى ذلك من أمور لا تحصى في فصل أو باب .
أمّا تلك التي يخاطب بها الضمير ، و العقل و الضمير مجتمعين ، فإليك ما هي و ما حولها :
من الثابت أنّ الذين رأوا في الأنظمة و التشريعات وحدها سلامة الانسان و كفاية المجتمع ، قد أخطأوا خطأ عظيما ، فإنّ هذه الأنظمة و التشريعات التي تعلن عن حقوق الانسان و تأمر برعايتها و المحافظة عليها ، لا يضبطها في النتيجة ، كما لا يخلص في اكتشافها و ابتداعها ، إلاّ عقل سليم و نفس مهذّبة و ضمير راق ، فإنّ دنيا الناس هذه يرتبط كلّ ما فيها ، ضمن حدود معيّنة طبعا ، بأخلاق القيّمين على دساتيرها و انظمتها ، و بمدى الخير الذي يتّسع في نفوسهم أو يضيق ، بقدر ما يرتبط بضمير الجماعة التي تؤلّف ميدان هذه الأنظمة و الدساتير و تبرّر وجودها ، هذا ، مع الاعتراف بأنّ الأنظمة الاجتماعية الحديثة تتفاوت تفاوتا عظيما في سماحها للقيّمين عليها بمسايرتها أو بالخروج عليها ، و ذلك بحكم طبيعتها و بنسبة ما تحويه أصولها من إمكانات التنفيذ ، أمّا الإنظمة و الدساتير القديمة ،
فقد كانت أكثر تأثّرا بأخلاق القيّمين عليها المشرفين على إقامة ما تقتضيه من حدود ،
و لذلك أسباب ليست من موضوع حديثنا هذا .
و بالرغم من أنّ الأنظمة و التشريعات الصالحة من شأنها أن توجّه الناس و تفرض عليهم ما يؤدي إلى نفعهم فرضا ، فإنّ هذا التوجيه و هذا الفرض يظلاّن خارج حدود القيمة الانسانية إن لم يوافقهما العمل النابع من الوجدان بالذات ، و في مذهبنا أنّ كلّ عمل يأتيه الانسان لا بدّ أنه فاقد الدفء الانسانيّ ، و هو أثمن و أعظم ما يوافق الصنيع الانساني ، إن لم يحمل وهج الضمير و عبق النفس و إرادة العطاء على غير قسر و إكراه ، و لا تنجح الأنظمة
روائع نهج البلاغة _ 73 _
و التشريعات في إقامة العلاقات الانسانية إلاّ بمقدار ما يمكنها أن تتوجّه إلى العقل و الضمير فتقنعهما بالخير ، فتخلق الانسجام الرائع بين إتاحة الفرصة للعمل النافع و إرادة العامل في وحدة تكفل للفرد و للجماعة الصعود في طريق الحضارة .
و ما يصدق ، بهذا الصدد ، في نطاق الأفراد و الجماعات ، يصدق كذلك في تاريخ المفكّرين و المتشرعين و العلماء و المكتشفين و من إليهم ، فإنك لترى ، إذا أنت استعرضت تاريخ هؤلاء الذين خدموا الانسان و الحضارة ، أنّ العقل الذي دلّهم على الطريق الصحيح في كلّ ميدان ، لم يكن وحده في تاريخهم ، فالعقل بارد ، جافّ ، لا يتعرف إلاّ إلى الأرقام و الأقسام و الوجوه ذات الحدود ، فهو لذلك يدلّك على الطريق و لكنّه لا يشدّك إلى سلوكه و لا يدفعك في سهله و وعره ، أما الدافع ، فالضمير السليم و العاطفة الحارة ، فما الذي حمل ماركوني على العزلة القاسية و الانفراد الموحش الكئيب ، إن لم يكن الضمير الذي يحسّن له الانصراف عن مباهج الحياة الى كآبة الوحدة في سبيل الحضارة و الانسان ؟
و إن لم يكن العاطفة التي تغمر هذا الضمير السليم بالحرارة و الدفء فلا يفتر أبدا .
و ما يقال في ماركوني يقال في باستور ، و غاليليو ، و غاندي ، و بتهوفن ، و بوذا ،
و أفلاطون ، و غيتي ، و في غيرهم من أصحاب المركّب الانساني القريب من الكمال .
و الدليل الإيجابي على هذه الحقيقة يستتبع دليلا سلبيا لزيادة الايضاح ، فهذا ادولف هتلر ، و جانكيزخان ، و هولاكو ، و الحجاج بن يوسف الثقفي ، و قيصر بورجيا بطل كتاب ( الأمير ) المشؤوم لمكيافيللي (1) ، و بعض علماء الذرة المعاصرين الذين يوافقون
---------------------------
(1) مكيافيللي : ( نابغة ايطالي عاش في عصر الرسام العظيم رافاييل ، و كان صديقا له و معينا .
و قد دفعه عقله الفذّ و خلقه الكريم الى مهاجمة أساليب الظلم و البربرية عند حكام التاريخ ،
فألف كتابه الشهير ( الامير ) الذي يصف فيه وقاحة أولئك الحكام ، و شخصياتهم المبتذلة ،
بطريقة غير مباشرة اذ دفع الى الناس صورة عن شخصية الامير الذي يخلو من كل ضمير و كل عقل و كل ذوق و يلجأ لشتى وسائل العنف في التقتيل و الترويع و التشريد و سائر الفظائع تثبيا لمركزه ... مشيرا إلى أنّ امارات التاريخ و العصر الذي هم فيه انما ( تركزت ) على هذا الاسلوب السمج ، و قد أخذ مكيافيللي صفات ( الامير ) في كتابه هذا من شخصية قيصر بورجيا ابن اسكندر بورجيا ، صاحب المظالم المعروفة ، و يطلق على المبدأ القائل باللجوء الى هذا الاسلوب توسّلا الى الحكم ثم الى تركيزه ، اسم المكيافيلية ، نسبة لمكيافيللي صاحب الكتاب .
روائع نهج البلاغة _ 74 _
على تجربتها على الآدميين ، أ لم يتميز هؤلاء جميعا بعقول واسعة و مدارك قد تهون أمامها مدارك الآخرين ؟ و مع ذلك ، فما كان من شأنهم إلا التقتيل و التدمير و الاعتداء على مقدسات الحضارة و مخلّفات الجهود الانسانية ، و على كرامة الحياة و الأحياء و خير الوجود ذلك أن عقولهم لم تواكبها الضمائر السليمة و العواطف الكريمة فحيث لا ضمير و لا عاطفة ، لا نفع من العقل ، بل قل إنه إلى المضرّة أقرب .
و لا أريد هنا التفصيل بين مختلف قوى الانسان من عاطفة و ضمير و عقل و ما إليها ،
فهي و لا شكّ تتفاعل و تتعاون ، غير أنّ ما أردته بالعقل هو القوّة التي تعقل الأمور على صعيد يربط السبب بالنتيجة و يحكم بين العلّة و المعلول ، فيدور في نطاق من الأرقام و الحدود التي لا تتأثّر ، بحدّ ذاتها ، بالبيئة الانسانية الخاصّة و العامّة ، و على هذا الضوء أجزت هذا التفصيل .
إذن ، فالعقل المكتشف لا بدّ لصاحبه من ضمير و عاطفة يدفعانه في طريق الخير .
و ما يصحّ بهذا الشأن في المشترع يصحّ في المشترع له ، فالأفراد الذين يطلب إليهم أن يسيروا على هذا النظام الخيّر أو ذاك ، لا بدّ لهم من اقتناع وجدانيّ ، إلى جانب الاقتناع العقلي المجرّد ، يدفعهم في طريق التهذيب الانسانيّ الرفيع ، لبناء المجتمع الصالح ، لا بدّ لهم من التمرّس بالفضائل الأخلاقيّة التي تحيط الأنظمة و التشريعات بحصون رفيعة منيعة .
لا بدّ لهم من أن يكونوا خيّرين لذلك راح عليّ يحرّك في الأفراد عواطف الخير على ما رأينا ، و يوقظ فيهم ما غشّته الأيام من الضمائر السليمة ، و يعمل على إنمائها و ينصح برعايتها .
توجّه عليّ إلى الضمائر بتوصياته و خطبه و عهوده و أقواله جميعا ، لأنه لم يفته أنّ لتهذيب الخلق شأنا في رعاية النظم العادلة ، و في بثّ الحرارة في المعاملات بين الناس ، و لم يفته كذلك ، أن هذا التهذيب يطلب لذاته بما هو من القيم الإنسانية ، كما يطلب لحماية العدالة الاجتماعية و سننها بما هو ضبط لنوازع و توجيه لأخرى ، و قد ساعده في ذلك ما أوتي من مقدرة خارقة ينفذ بها إلى أعماق الناس أفرادا و جماعات ، فيدرك ميولهم و أهواءهم ،
و يعرف طباعهم و أخلاقهم ، فيزن خيرها و شرّها ، ثم يصوّر ، و يطوّر ، و يأمر و ينهى ،
على ضوء ثقته الراسخة بالضمير الانساني الذي يتوجه اليه .
روائع نهج البلاغة _ 75 _
كانت ثقة ابن أبي طالب بالضمير الانساني ثقة العظماء الذين تآلف فيهم العقل النيّر و القلب الزاخر بالدفء الانساني ، النابض بالحب العميق الذي لا يعرف حدودا .
كانت ثقته بهذا الضمير ثقة بوذا و بتهوفن و روسّو و غاندي و سائر العظماء الذين مدّهم القلب بنور يخبو لديه كلّ نور ، و على أساس هذه الثقة أرسى ابن أبي طالب حكمه و أمثاله ، و على أساسها تترابط الأفكار و التوجيهات التي يخاطب بها وجدانات الناس .
و إذا كان للإمام علي مثل هذه الثقة بنواحي الخير في الناس ، على ما مني به على أيديهم من نكبات و فواجع ، فإنه يأبى إلاّ أن يلقي بذور هذه الثقة في قلوبهم جميعا ، فهو يعرف ( أنّ في أيدي الناس حقّا و باطلا ، و كذبا و صدقا ) ، و لكنّ الأولى بالمرء أن يفتح عينيه و قلبه على نواحي الخير هذه ، فلعلّها هي التي تنمو دون نواحي الشر ، و لعلّ التعليم بالمثل و السيرة يكون أجلّ و أجدى ، و قد طالما كرّر عليّ وصاياه بضرورة هذه الثقة بالضمير الانساني ، و في جملة ما يقوله : ( من ظنّ بك خيرا فصدّق ظنه ) ، و يقول في مكان آخر :
( لا تظننّ بكلمة خرجت من أحد سوءا و أنت تجد لها في الخير محتملا ) و ( ليس من العدل القضاء بالظنّ على الثقة ) و ( و إذا استولى الصلاح على الزمان و أهله ثمّ أساء رجل الظنّ برجل لم تظهر منه خزية ، فقد ظلم ) و ( أسوأ الناس حالا من لم يثق بأحد لسوء ظنّه ، و لم يثق به أحد لسوء فعله ) و قد أخطأ دارسو الإمام عليّ ساعة رأوا أنه متشائم بالناس شديد التشاؤم ، متبرّم بهم كثير التبرّم ، و ساعة احتجّوا لرأيهم هذا بأقوال له يهاجم بها أبناء زمانه بشدّة و عنف .
أمّا رأينا نحن فعلى العكس من ذلك تماما ، رأينا أنّ عليّا لم ينقض ثقته بالانسان ساعة واحدة و إنّ نقضها ببعض الناس في بعض الظروف ، فمن عرف طاقة ابن أبي طالب على احتمال المكاره تأتيه من الناس ، و جلده العجيب في مقاساة الأهوال الناجمة عن الغدر و الخيانة و الفجور في الكثير من خصومه و أنصاره ، ثم ما كان من أموره معهم جميعا إذ يأخذهم بالرفق و العطف ما أمكنه أن يرفق و أن يعطف ، أقول : ( من عرف ذلك أدرك أنّ عليّا عظيم التفاؤل بحقيقة الانسان ، و بفطرته التي أضلّها المجتمع في بعض أحواله ، لا يختلف في ذلك عن أخيه العظيم روسّو .