و إذا كان له في ذمّ أهل الخيانة و الغدر و الظلم قول كثير ، فما ذاك إلاّ لأنه يعترف ، ضمنا ، أنّ الانسان ممكنا إصلاحه و لو طال على ذلك الزمن ، فإنّ المتفائل وحده هو الذي يزجر المسي‏ء كما يثيب المحسن أملا منه بتقويم الاعوجاج في الخلق و المسلك .
   و لو لم يكن لابن أبي طالب مثل هذا الأمل ، لما استطاع احتمال ما لا يحتمل من مكاره الدهر التي جرّها عليه المسيئون ، و لما صبر على ما يكره و هو إن قال في الدنيا و أهلها :
  ( فإنّما أهلها كلاب عاوية و سباع ضارية ، يهرّ بعضها بعضا ، و يأكل عزيزها ذليلها ، و يقهر كبيرها صغيرها ) ، فإنّما يقول ذلك لأنه قاسى من غدر الغادرين و فجور الفاجرين ما آلمه و آذاه ، فوبّخهم هذا التوبيخ الموجع إيثارا منه لمن لا يفجر و لا يغدر و لا يكون كلبا عاويا و لا سبعا ضاريا و لا عزيزا يأكل ذليلا أو كبيرا يقهر صغيرا يقول ذلك ثم يحارب السبع الضاري و العزيز الظالم و الكبير الجائر كما يحارب الطبيب الجراثيم إيثارا منه لسلامة البدن و الروح ، بل إيثارا منه للحياة على الموت ، و تفاؤلا بحسن النجاة إذن ، فالإمام عليّ ، و هو الذي يحترم الحياة : ( أعظم ما خلق اللّه ، و يحترم الناس الأحياء : ( أجمل نماذج هذه الحياة ، عظيم الثقة بالخير الانساني .
   عظيم التفاؤل بالانسان يريده حرّا كما يجب أن يكون و لو لا هذه الثقة و هذا التفاؤل لما كان من أمره من الناس ما كان ، و لما قال : ( لا تظنّنّ بكلمة خرجت من أحد سوءا و أنت تجد لها في الخير محتملا ) ثمّ لما توجّه إلى الضمير الفرديّ و الجماعي بوصاياه التي تجمع عمق الفهم و حرارة العاطفة الى سموّ الغاية و نبل المقصد .
   هذه الوصايا التي أرادها حصنا منيعا للأخلاق العامّة ، و العاطفة الانسانية ، و تركيز العمل النافع على أسس الايجابية في العقل و الضمير ، و استنادا الى هذه الثقة بالضمير الانساني ، و تحصينا للعمل الخيّر الشريف ، نراه يقيم على الناس أرصادا من أنفسهم و عيونا من جوارحهم فيخاطبهم قائلا : ( اعلموا أن عليكم رصدا من أنفسكم و عيونا من جوارحكم و حفّاظ صدق يحفظون أعمالكم و عدد أنفاسكم ) و استنادا إلى هذه الثقة بخير الوجود و عدله ، و إلى عظمة الحياة و الأحياء ، يخاطب عليّ ابن أبي طالب أبناء زمانه بما يوقظهم على أنّ الحياة حرّة لا تطيق من القيود إلاّ ما كان

روائع نهج البلاغة _ 77 _

  سببا في مجراها و واسطة لبقائها و قبسا من ضيائها و ناموسا من نواميسها ، و أنّها لا يطيب لها البقاء في مهد الأمس ، فعليهم ألاّ يحاولوا غلّها و تقييدها و إلاّ أسنت و انقلبت إلى فناء .
  فالحياة جميلة ، كريمة ، حرّة ، خيّرة كالوجود أبيها ، تحفظ نفسها بقوانينها الثابتة لا بما يريد لها المتشائمون من قوانين .
  و هي متجدّدة أبدا ، متطوّرة أبدا ، لا ترضى عن تجدّدها و تطوّرها بديلا و هما أسلوب تنهجه في فتوحاتها التي تستهدف خيرا أكثر و بقاء أصلح ، و ملاحظة ابن أبي طالب الدقيقة العميقة للحياة و نواميسها و هي أعظم موجودات الوجود الخيّر ، مكّنت في نفسه الايمان بثوريّة الحياة المتطلّعة أبدا إلى الأمام ، المتحرّكة أبدا في اتّجاه الخير الأكثر ، و ثورية الحياة أصل تحرّكها و سبب تطوّرها من حسن إلى أحسن ، و لهذا كانت الحياة حرّة غير مقيّدة إلاّ بشروط وجودها ، و ثوريّة الحياة أصل تحرّك المجتمع الانساني و سبب تطوّره ، و لو لا هذه الخاصّة لكانت الحياة شيئا من الموت و الأحياء أشياء من الجماد .
  آمن ابن أبي طالب بثوريّة الحياة إيمانا أشبه بالمعرفة ، أو قل هو المعرفة ، فترتّب عليه إيمان عظيم بأنّ الأحياء يستطيعون أن يصلحوا أنفسهم و ذلك بأن يماشوا قوانين الحياة .
  و يستطيعون أن يكونوا أسياد مصائرهم و ذلك بأن يخضعوا لعبقريّة الحياة ، و قد سبق أن قلنا في حديث مضى إنّ ثوريّة الحياة ألصق مزايا الحياة بها و أعظمها دلالة على إمكاناتها العظيمة ، و هي تستلزم من المؤمنين بها أن يعملوا على أساس من الثقة المطلقة بالتطوّر المحتوم ، و أن ينبّهوا الخواطر إليه ، و أن يستخدموا الدليل و البرهان في زجر المحافظين عن كلّ تصرّف غبيّ يتوهّم أصحابه أنّهم يستطيعون الوقوف في وجه الحياة الثائرة المتطوّرة بثورتها .
  بهذه الثقة و بهذا الايمان خاطب ابن أبي طالب الانسان بقوله : ( فإنك أوّل ما خلقت جاهلا ثمّ علّمت ، و ما أكثر ما تجهل من الأمر ، و يتحيّر فيه رأيك ، و يضلّ فيه بصرك ، ثم تبصره بعد ذلك ) ففي هذا القول اعتراف بأنّ الحياة متطوّرة ، و أنّ التعلّم إنّما هو الانتفاع بما تخزن الحياة من عبقريتها في صدور أبنائها ، على ما قلنا سابقا ، و فيه إيمان بالقابلية الانسانية العظيمة للتقدّم ، أو قل للخير ، و ما دعوته الحارّة إلى المعرفة التي تكشف كلّ

روائع نهج البلاغة _ 78 _

  يوم عن جديد ، و تبني كلّ يوم جديدا ، إلاّ دليل عن الايمان بثوريّة الحياة الخيّرة و إمكانات الأحياء ، فالمعرفة لديه كشف و فتح لا يهدآن .
  و هو بهذا الايمان و هذه الثقة يخاطب أبناء زمانه يقول : ( لا تقسروا أولادكم على أخلاقكم ، فإنّهم مخلوقون لزمان غير زمانكم ) ، فلو لا تفاؤله العظيم بأنّ في الحياة جمالا ، و بأنّ في الناس قابليّة التطوّر إلى الخير ، لما أطلق هذا القول الذي يوجز علمه بثوريّة الحياة ، و يوجز تفاؤله بإمكانات الانسان المتطوّر مع الحياة ، كما يوجز روح التربية الصحيحة ، و يخلّص كلّ جيل من الناس من أغلال العرف و العادة التي ارتضاها لنفسه جيل سابق .
  و لابن أبي طالب في هذا المعنى قول كثير منه هذه الآيات الخالدة التي يمجّد بها العمل بوصفه حقيقة و ثورة و خيرا : ( من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه ) و ( قيمة كلّ امرى‏ء ما يحسنه ) و ( اعلموا أنّ الناس أبناء ما يحسنون ) و ( لكلّ امرى‏ء ما اكتسب ) .
  و من أقواله ما يدفع به المرء إلى أن يطلب التقدّم بالعمل ، و ألاّ يحجم أو يتراجع إذا هو أخفق كثيرا أو قليلا ، لأنّ الوجود الخيّر لا يحرم أبناءه ما يستحقّون ، و إذا هو حرمهم فبعض الحرمان لا كلّه ، و قد يسوّى الأمر في دفعة ثانية من الطلب بواسطة العمل ، و من قوله في ذلك هذه الآية : ( من طلب شيئا ناله أو بعضه ) ، و أظن أن القارى‏ء فطن الى روح هذه العبارة التي تتألق و كأنها انبثاق عن كلمة المسيح الشهيرة : ( إقرعوا إقرعوا يفتح لكم ) .
  و لعلّ أجمل ما في المذهب العلويّ بهذا الشأن ، أنّ صاحبه كان يوحّد ثوريّة الحياة و خير الوجود نصّا كما كان يوحّدهما روحا و معنى ، فلشدّ ما نراه يوحّد معنى التطوّر ، أو ثوريّة الحياة ، بمعنى خير الوجود توحيدا لا يجعل هذا شيئا من تلك ، و لا تلك شيئا من هذا ، بل يجعل ثوريّة الحياة كلاّ من خير الوجود ، و خير الوجود كلاّ من ثورية الحياة ، و إن في آياته هذه لدليلا كريما على صحة ما نقول فليس فيها ما يحتاج إلى شرح أو تعليق ، و إليك نموذجا عنها : ( العاقل من كان يومه خيرا من أمسه ) و ( من كان

روائع نهج البلاغة _ 79 _

  غده شرّا من يومه فهو محروم ) و ( من اعتدل يوماه فهو مغبون ) ، و أخيرا إليك هذه الرائعة التي تجمع كلّ ما نحن بصدده الآن ، إلى دف‏ء الحنان العميق ، إلى جمال الفن الأصيل ، إلى إشراك الأيام بأحاسيس البشر :
  ( ما من يوم يمرّ على ابن آدم إلاّ قال له : ( أنا يوم جديد ، و أنا عليك شهيد ، فقل فيّ خيرا و اعمل خيرا فإنك لن تراني بعد أبد ) و لسوف نسوق في هذا الكتاب روائع لابن أبي طالب ستبقى ما بقي الانسان الخيّر .
  و إنّها لطائفة تؤلّف نهجا في الأخلاق الكريمة ، و الأحلام العظيمة ، و التهذيب الانسانيّ الرفيع الذي أراده انبثاقا عن ثوريّة الحياة و خير الوجود بيروت جورج جرداق

روائع نهج البلاغة _ 83 _

  أ و أقنع من نفسي أن يقال أمير المؤمنين و لا أشاركهم مكاره الدهر ؟ إمنع من الاحتكار .
  إياك و الاستئثار بما الناس فيه أسوة .
  أ لا و إني أقاتل رجلين : ( رجلا ادّعى ما ليس له ، و آخر منع الذي عليه ما جاع فقير إلا بما متّع به غنيّ ما رأيت نعمة موفورة إلاّ و إلى جانبها حقّ مضيّع و إنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها ، و إنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع (1) و ليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج ليس بلد أحق بك من بلد ، خير البلاد ما حملك

---------------------------
(1) إشراف أنفس الولاة على الجمع : ( تطلّعهم الى جمع المال و ادخاره لأنفسهم طمعا و جشعا .

روائع نهج البلاغة _ 84 _

  الفقر في الوطن غربة لو تمثّل لي الفقر رجلا لقتلته يسأل ابن آدم يوم القيامة عن ماله من أين اكتسبه كيف تسيغ طعاما و شرابا و أنت تعلم أنك تأكل حراما و تشرب حراما ظلم الضعيف أفحش الظلم ، و الظلم يدعو الى السيف ، و خاب من حمل ظلما يوم المظلوم على الظالم أشدّ من يوم الظالم على المظلوم العامل بالظلم ، و المعين عليه ، و الراضي به : ( شركاء ثلاثة لا تضيعنّ حقّ أخيك اتّكالا على ما بينك و بينه ، فإنه ليس لك بأخ من أضعت حقه مهما كان في كتّابك موظفيك من عيب فتغابيت عنه ألزمته إن شرّ وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرا ، و من شركهم في الآثام ثم انظر في أمور عمّالك فاستعملهم اختبارا و لا تولّهم محاباة و أثرة فإنهم جماع من شعب الجور و الخيانة إحذر كل عمل يعمل به في السرّ و يستحى منه في العلانية إن اللّه فرض على أئمة العدل ان يقدّروا انفسهم بضعفة الناس قلوب الرعية خزائن راعيها ، فما أودعه فيها من عدل أو جور وجده فيها لا تظهر مودّة الرعية و لا نصيحتهم إلاّ بقلّة استثقال دولهم

روائع نهج البلاغة _ 85 _

  إذا تغيّر السلطان تغيّر الزمان إنّ سخط الخاصة يغتفر مع رضا العامّة إذا غضب اللّه على أمّة غلت أسعارها و غلبها أشرارها و لكنني آسى أن يلي هذه الأمّة سفهاؤها و فجّارها فيتّخذوا المال دولا و عباده خولا (1) العلماء حكّام الملوك ، و البغي آخر مدة الملوك العلم دين يدان به ألأم الناس من سعى بإنسان ضعيف الى سلطان جائر إنها ساعة من الليل لا يدعو فيها عبد إلا استجيب له ، إلاّ أن يكون عشّارا أو عريفا أو شرطيّا (2) ثلاثة يؤثرون المال : تاجر البحر ، و صاحب السلطان ، و المرتشي في الحكم إذا كان الراعي ذئبا ، فالشاة من يحفظها ؟ لعن اللّه الآمرين بالمعروف التاركين له ، و الناهين عن المنكر العاملين به

---------------------------
(1) آسى : ( أحزن ، المال دولا ، جمع دولة ( بالضم ) أي : شيئا يتداولونه بينهم و يتصرفون به في غير حق ، خولا : عبيدا .
(2) العشار : من يتولى أخذ الضرائب من الناس ، العريف : من يتجسس على أحوال الناس و أسرارهم و يكشفها للحاكم ، الشرطة : أعوان الحاكم .


روائع نهج البلاغة _ 86 _

  و اعلموا أنكم في زمان القائل فيه بالحقّ قليل ، و اللسان عن الصدق كليل ، و اللازم للحق ذليل .
  الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له ، و القوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه يأتي على الناس زمان لا يقرّب فيه إلا الماحل ، و لا يظرّف إلا الفاجر ، و لا يضعّف إلا المنصف (1)

---------------------------
(1) الماحل : الساعي في الناس بالوشاية عند الحاكم ، يظرّف : يعدّ ظريفا ، يضعّف يعدّ ضعيفا ...

روائع نهج البلاغة _ 87 _

  طائفة من رسائله و خطبه و عهوده و وصاياه

روائع نهج البلاغة _ 89 _

  عبادة الأحرار
  من كلام رائع له في معنى العبادة :
  إنّ قوما عبدوا اللّه رغبة فتلك عبادة التّجار و إنّ قوما عبدوا اللّه رهبة فتلك عبادة العبيد و إن قوما عبدو اللّه شكرا فتلك عبادة الأحرار ايّها النّاس
  من خطبة له في المدينة :
  الاحتكار مطيّة النّصب ، و الحرص داع للتقحّم في الذنوب ، و الشّره جامع لمساوى‏ء العيوب .
  أيها الناس ، لا كنز أنفع من العلم ، و لا عزّ أرفع من الحلم ، و لا سوأة أسوأ من الكذب ، و لا غائب أقرب من الموت أيها الناس ، من نظر في عيب نفسه شغل عن عيب غيره ، و من سلّ سيف البغي قتل به ، و من حفر بئرا وقع فيها ، و من نسي زلله استعظم زلل غيره ، و من أعجب برأيه ضلّ ، و من استغنى بعقله زلّ ، و من تكبّر على الناس ذلّ .
  في تقلّب الأحوال علم جواهر الرجال ، و الأيام توضح السرائر الكامنة ، و كفاك أدبا لنفسك ما تكرهه من غيرك ، و من استقبل وجوه الآراء عرف

روائع نهج البلاغة _ 90 _

  مواقع الخطأ ، و المودّة قرابة مستفادة ، و عليك لأخيك مثل الذي لك عليه .
  و لا تنال نعمة إلا بزوال أخرى ، و لكل ذي رمق قوت ، و لكلّ حبّة آكل ، و أنت قوت الموت .
  أيها الناس ، إياكم و الخديعة فإنها من خلق اللئام ، تصفية العمل أشدّ من العمل (1) و تخليص النيّة من الفساد أشدّ على العاملين من طول الجهاد ، هيهات لو لا التّقى لكنت أدهى العرب عليكم بكلمة الحق في الرضا و الغضب ، و بالقصد في الغنى و الفقر (2) ، و بالعدل على الصديق و العدوّ ، و بالرضا في الشدة و الرخاء ، و من ترك الشهوات كان حرا ، و إعجاب المرء بنفسه دليل ضعف عقله ، و بئس الزاد إلى المعاد : العدوان على العباد
  يا أبا ذرّ
  من كلام للإمام للصحابي العظيم أبي ذر الغفاري لما أخرجه الخليفة الثالث الى ( الربذة ) و هو موضع قفر على قرب من المدينة ، و بعث من ينادي في الناس : ( أ لا لا يكلّم أحد أبا ذر و لا يشيّعه ) و قد تحاماه الناس إلاّ ابن أبي طالب ، و عقيلا أخاه ، و الحسن و الحسين ولديه ، و عمّارا :
  يا أبا ذرّ ، إنك غضبت للّه فارج من غضبت له ، إن القوم خافوك على

---------------------------
(1) تصفية العمل خالصا لوجه الحق .
(2) القصد الاعتدال .


روائع نهج البلاغة _ 91 _

  دنياهم ، و خفتهم على دينك ، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه ، و اهرب بما خفتهم عليه ، فما أحوجهم إلى ما منعتهم (1) ، و ما أغناك عمّا منعوك لو أن السموات و الأرض كانتا على عبد رتقا ثم اتّقى اللّه لجعل اللّه له منهما مخرجا لا يؤنسنّك إلاّ الحقّ و لا يوحشنّك إلاّ الباطل ، فلو قبلت دنياهم لأحبّوك ، و لو قرضت منها لأمنوك كلّما اطمأنّ
  من كتاب له الى سلمان الفارسي قبل أيام خلافته :
  و كن آنس ما تكون بها الدنيا أحذر ما تكون منها ، فإن صاحبها كلّما اطمأنّ فيها إلى سرور أشخصته عنه إلى محذور
  السّلام عليك يا رسول اللّه
  من كلام روي أنه قاله عند دفن السيدة فاطمة :
  السلام عليك يا رسول اللّه عني و عن ابنتك النازلة في جوارك ، و السريعة اللحاق بك ، قلّ يا رسول اللّه عن صفيّتك صبري و رقّ عنها تجلّدي ،
---------------------------
(1) لو قرضت منها جزءا و خصصت به نفسك و رضيت أن تنال منها مثل ما نالوا هم ، لاطمأنوا اليك .

روائع نهج البلاغة _ 92 _

  إلاّ أنّ لي في التأسّي بعظيم فرقتك و فادح مصيبتك موضع تعزّ (1) .
  أمّا حزني فسرمد ، و أمّا ليلي فمسهّد إلى أن يختار اللّه لي دارك التي أنت بها مقيم .

  من كلام له لما اجتمع الناس عليه و شكوا مما نقموه على عثمان بن عفان ، و سألوه أن يخاطب الخليفة الثالث و يستعتبه لهم ، فدخل عليه فقال :
  إن الناس ورائي ، و قد استسفروني بينك و بينهم (2) ، و اللّه ما أدري ما أقول لك ما أعرف شيئا تجهله و لا أدلك على شي‏ء لا تعرفه .
  إنك لتعلم ما نعلم ، ما سبقناك إلى شي‏ء فنخبرك عنه ، و لا خلونا بشي‏ء فنبلغكه ، و قد رأيت كما رأينا و سمعت كما سمعنا ... فاللّه اللّه في نفسك فإنك و اللّه ما تبصّر من عمى ، و إنّ الطرق لواضحة ، فاعلم أن أفضل عباد اللّه عند اللّه إمام عادل هدي و هدى ، و إنّ شرّ الناس عند اللّه إمام جائر ضلّ و ضلّ به ، و إني سمعت رسول اللّه ( ص ) يقول : ( يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر و ليس معه نصير و لا عاذر ، يلقى في نار جهنّم فيدور فيها كما تدور الرحى ، ثم يرتبط في قعرها و إني أنشدك اللّه أن لا تكون إمام هذه الأمّة المقتول ، فإنه كان يقال : يقتل في هذه الأمّة إمام يفتح عليها القتل و القتال إلى يوم القيامة ، و يلبس أمورها عليها ،

---------------------------
(1) التأسي ، هنا : الاعتبار بالمثال المتقدم .
(2) استسفروني : جعلوني سفيرا و وسيطا .

روائع نهج البلاغة _ 93 _

  و يثبّت الفتن فيها ، فلا يبصرون الحق من الباطل ، يموجون فيها موجا و يمرجون فيها مرجا (1) ، فلا تكوننّ لمروان سيّقة (2) يسوقك حيث شاء بعد جلال السنّ و تقصّي العمر
  استأثر فاساء الاثرة
  من كلام له في معنى قتل عثمان :
  لو أمرت به لكنت قاتلا ، أو نهيت عنه لكنت قاصرا (3) ، غير أن من نصره لا يستطيع أن يقول : خذله من أنا خير منه ، و من خذله لا يستطيع أن يقول : نصره من هو خير مني (4) و أنا جامع لكم أمره : استأثر فأساء

---------------------------
(1) المرج : الخلط و التلبيس .
(2) السيّقة : ما استاقه العدوّ من الدواب ، أما مروان ، فهو ابن الحكيم الشهير ، و كان في عهد عثمان كاتبا له و مشيرا ، و هو صاحب العلل التي نقم الناس من أجلها على الخليفة الثالث .
(3) يقول انه لم يأمر بقتل عثمان و إلاّ كان قاتلا له ، مع أنه بري‏ء من قتله ، و لم يدافع عنه بسيفه و لم يقاتل دونه و إلا كان ناصرا له ، أما نهيه عن قتله بلسانه فهو ثابت ،
و هو الذي أمر ولديه الحسن و الحسين أن يدفعا الناس عنه .
(4) أي ان الذين نصروه ليسوا بأفضل من الذين خذلوه ، لهذا لا يستطيع ناصره أن يقول : اني خير من الذي خذله ، و لا يستطيع خاذله أن يقول : ان الناصر خير مني .
يريد ان القلوب متفقة على أن ناصريه لم يكونوا في شي‏ء من الخير الذي يفضلون به على خاذليه .

روائع نهج البلاغة _ 94 _

  الأثرة (1) ، و جزعتم فأسأتم الجزع (2) و للّه حكم واقع في المستأثر و الجازع (3) انا كأحدكم من خطبة رائعة له لمّا أريد على البيعة بعد قتل عثمان :
  دعوني و التمسوا غيري فإنّا مستقبلون أمرا له وجوه و ألوان ، لا تقوم له القلوب و لا تثبت عليه العقول (4) و إن الآفاق قد أغامت و المحجّة قد تنكّرت (5) ، و اعلموا إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ، و لم أصغ إلى

---------------------------
(1) استأثر بالشي‏ء : استبدّ به و خصّ نفسه به ، أي : انه استبد فأساء الاستبداد و كان عليه أن يخفف منه فلا يؤذيكم .
(2) أي : لم ترفقوا في جزعكم و لم تقفوا عند الحد الأولى بكم ، و كان عليكم أن تقتصروا على الشكوى و لا تذهبوا في الإساءة الى درجة القتل .
(3) أي : و للّه حكمه في المستأثر و هو عثمان ، و في الجازع و هو أنتم .
(4) لا تصبر له و لا تطيق احتماله .
(5) أغامت : غطيت بالغيم ، المحجة : الطريق ، تنكرت : تغيّرت علائمها فصارت مجهولة ، و ذلك أن الأطماع كانت قد تنبهت في كثير من الناس على عهد الخليفة الثالث بما نالوا من تفضيلهم بالعطاء ، فلا يسهل عليهم فيما بعد أن يكونوا في مساواة مع غيرهم ، فلو تناولهم العدل انفلتوا منه و طلبوا الفتنة طمعا في نيل رغباتهم ، و أولئك هم أغلب الرؤساء و الوجهاء في القوم ، فإن أقرّهم الإمام على ما كانوا عليه من الامتياز فقد أتى ظلما ، و هو عدوّ الظلم ، و الناقمون على عثمان قائمون على المطالبة بالعدل : إن لم ينالوه تحرّشوا للفتنة فأين الطريق للوصول الى الحق على أمن من الفتن ؟ و قد كان بعد بيعته ما توقّع حدوثه قبلها .

روائع نهج البلاغة _ 95 _

  قول القائل و عتب العاتب ، و إن تركتموني فأنا كأحدكم و لعلّي أسمعكم و أطوعكم لمن ولّيتموه أمركم ، و أنا لكم وزيرا خير لكم مني أميرا

  من خطبة رائعة له خطب بها الناس ثاني يوم من بيعته بالمدينة ، و هي في ما ردّه على الناس من قطائع (1) الخليفة الثالث ، و في المال الذي كان عثمان قد أعطاه من مال العامة :
  أيها الناس ، إنّما أنا رجل منكم ، لي ما لكم و عليّ ما عليكم ، ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان ، و كل مال أعطاه من مال اللّه ، فهو مردود في بيت المال فإنّ الحق القديم لا يبطله شي‏ء ، و لو وجدته قد تزوّج به النساء و ملك الإماء و فرّق في البلدان لرددته ، فإنّ في العدل سعة ، و من ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق (2) أيها الناس ، ألا يقولنّ رجال منكم غدا قد غمرتهم الدنيا فامتلكوا العقار و فجّروا الأنهار و ركبوا الخيل و اتّخذوا الوصائف المرقّقة ، إذا ما منعتهم ما كانو يخوضون فيه و أصرتهم إلى حقوقهم التي يعلمون : حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا ألا و أيّما رجل من المهاجرين و الأنصار من أصحاب رسول اللّه يرى أن الفضل له على سواه بصحبته ، فإن الفضل غدا عند اللّه ، فأنتم عباد اللّه ، و المال مال اللّه ، يقسّم بينكم بالسويّة و لا فضل فيه لأحد على أحد

---------------------------
(1) ما أعاد للناس من الأراضي .
(2) من عجز عن تدبير أمره بالعدل فهو بالجور أشدّ عجزا .

روائع نهج البلاغة _ 96 _

  اسفلكم اعلاكم
  من كلام له لما بويع بالمدينة :
  ألا و إنّ بليّتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث اللّه نبيّكم صلى اللّه عليه و سلّم (1) ، و الذي بعثه بالحقّ لتغربلنّ غربلة و لتساطنّ سوط القدر (2) حتى يعود أسفلكم أعلاكم و أعلاكم أسفلكم ، و ليسبقنّ سابقون كانوا قد قصّروا ، و ليقصرنّ سبّاقون كانوا قد سبقوا ، و اللّه ما كتمت وشمة (3) و لا كذبت كذبة ألا و إنّ الخطايا خيل شمس (4) حمل عليها أهلها و خلعت لجمها فتقحّمت بهم في النار ألا و إنّ التقوى مطايا ذلل حمل عليها أهلها و أعطوا أزمّتها فأوردتهم الجنّة ، حقّ و باطل ، و لكلّ أهل هلك من ادّعى و خاب من افترى و من أبدى صفحته للحقّ هلك (5) .
  و كفى بالمرء جهلا أن لا يعرف قدره ، فاستتروا في بيوتكم و أصلحوا ذات بينكم ، و التوبة من ورائكم و لا يحمد حامد إلاّ ربّه ، و لا يلم لائم إلاّ نفسه

---------------------------
(1) ان بلية العرب التي كانت محيطة بهم يوم بعث محمد هي بلية الفرقة و التباعد و العصبية و ظلم القوي للضعيف و الغني للفقير ، فتلك الحالة التي هي مهلكة للأمم قد صاروا اليها بعد مقتل عثمان .
(2) لتغربلنّ : لتقطعنّ من ، ساط ، من السوط ، و هو أن تجعل شيئين في القدر و تضربهما بيدك حتى يختلطها و ينقلب أعلاهما أسفلهما و أسفلهما أعلاهما .
(3) الوشمة : الكلمة .
(4) شمس ، جمع شموس ، و هو الجامح الذي يمنع ظهره أن يركب .
(5) من أبدى صفحته للحق ، أي : من كاشف الحق مخاصما له مصارحا له بالعداوة .

روائع نهج البلاغة _ 97 _

  عفا اللّه عمّا سلف
  من خطبة له خطبها بعد مقتل عثمان في أول خلافته :
  أيها الناس ، إن الدنيا تغرّ المؤمّل لها و المخلد إليها (1) ، و لا تنفس (2) بمن نافس فيها ، و تغلب من غلب عليها ، و أيم اللّه ، ما كان قوم قطّ في غضّ نعمة من عيش فزال عنهم إلاّ بذنوب اجترحوها ، لأن اللّه ليس ( بظلاّم للعبيد ) ، و لو أن الناس حين تنزل بهم النّقم و تزول عنهم النّعم ، فزعوا إلى ربّهم بصدق من نيّاتهم و وله من قلوبهم ،
  لردّ عليهم كلّ شارد و أصلح لهم كلّ فاسد ، و إني لأخشى عليكم أن تكونوا في فترة (3) ، و قد كانت أمور مضت ملتم فيها ميلة ، كنتم فيها عندي غير محمودين ، و لئن ردّ عليكم أمركم إنكم لسعداء ، و ما عليّ إلا الجهد ، و لو أشاء أن أقول لقلت : عفا اللّه عمّا سلف
  الرّشوة
  من كتاب له الى أمراء الأجناد لما استخلف :
  أما بعد ، فإنما أهلك من كان قبلكم أنهم منعوا الناس الحقّ

---------------------------
(1) المخلد اليها : الراكن اليها .
(2) تنفس ، مضارع نفس : تضنّ ، و معنى العبارة : ان الدنيا لا تضن بمن يباري غيره في اقتنائها و عدّها من نفائسه ، و لا تحرص عليه بل تهلكه .
(3) الفترة ، هنا ، كناية عن الجهل و الغرور .

روائع نهج البلاغة _ 98 _

  فاشتروه (1) و أخذوهم بالباطل فاقتدوه (2) .
  ان لم تستقيموا
  من كتاب له إلى أمرائه على الثغور :
  أما بعد ، فإنّ حقّا على الوالي أن لا يغيّره على رعيته فضل ناله و لا طول خصّ به (3) و أن يزيده ما قسم اللّه له من نعمه دنوّا من عباده و عطفا على إخوانه .
  ألا و إنّ لكم عندي أن لا أؤخّر لكم حقا عن محلّه ، و أن تكونوا عندي في الحقّ سواء ، فإذا فعلت ذلك وجبت للّه عليكم النعمة و لي عليكم الطاعة ، و أن لا تنكصوا عن دعوة (4) و لا تفرّطوا في صلاح ، و أن تخوضوا الغمرات إلى الحق (5) ، فإن أنتم لم تستقيموا على ذلك لم يكن أحد أهون عليّ ممّن اعوجّ منكم ، ثم أعظم له العقوبة و لا يجد عندي فيها رخصة

---------------------------
(1) أي : حجبوا عن الناس حقّهم فاضطرّ الناس لشراء الحق منهم بالرشوة .
(2) أي كلفوهم بإتيان الباطل فأتوه ، و صار الباطل قدوة يتبعها الأبناء بعد الآباء .
(3) الطول : عظيم الفضل ، أي : من الواجب على الوالي إذا خصّ بفضل أن يزيده ذلك قربا من الناس إخوانه و عطفا عليهم ، و ليس من حقه أن يتغيّر .
(4) أي : ان لا تتأخروا إذا دعوتكم .
(5) الغمرات : الشدائد .

روائع نهج البلاغة _ 99 _

  من كتاب له إلى عمّاله على الخراج :
  أنصفوا الناس من أنفسكم ، و اصبروا لحوائجهم فإنكم خزّان الرعيّة (1) و وكلاء الأمة ، و لا تبيعنّ للناس في الخراج كسوة شتاء و لا صيف و لا دابّة يعتملون عليها (2) ، و لا تضربنّ أحدا سوطا لمكان درهم ، و لا تمسّنّ مال أحد من الناس مصلّ و لا معاهد (3) .
  أ أطلب النّصر بالجور من كلام له لما عوتب على التسوية في العطاء :
  أ تأمروني أن أطلب النصر بالجور في من ولّيت عليه ؟ و اللّه ما أطور به ما سمر سمير و ما أمّ نجم في السماء نجما (4) ، لو كان المال لي لسوّيت

---------------------------
(1) المقصود هو أن الولاة يجب أن يخزنوا أموال الرعية في بيت المال لتنفق في مصالح الرعية و حاجاتها .
(2) يقول : لا تضطروا الناس لأن يبيعوا لأجل أداء الخراج شيئا من كسوتهم ، و لا من الدواب اللازمة لأعمالهم في الزرع و الحمل .
(3) المعاهد : غير المسلم من أهل الكتاب ، يقول : لا تلجأوا الى السوط تحصيلا للمال .
و لا تمسّوا مال أحد من المسلمين أو أهل الكتاب بالمصادرة .
(4) ما أطور به : ما آمر به و لا أقاربه ، و ما سمر سمير ، أي : مدى الدهر .

روائع نهج البلاغة _ 100 _

  بينهم ، فكيف و إنما المال مال اللّه ألا و إنّ إعطاء المال في غير حقّه تبذير و إسراف .
  النّاس متساوون في الحقّ
  من كلام له كلّم به طلحة و الزبير بعد بيعته بالخلافة و قد عتبا من ترك مشورتهما ، و الاستعانة في الأمور بهما :
  لقد نقمتما يسيرا و أرجأتما كثيرا (1) ، ألا تخبراني أيّ شي‏ء لكما فيه حقّ دفعتكما عنه ؟ و أيّ قسم استأثرت عليكما به ؟ أم أيّ حقّ رفعه إليّ أحد من المسلمين ضعفت عنه أم جهلته أم أخطأت بابه ؟ و اللّه ما كانت لي في الخلافة رغبة و لا في الولاية إربة (2) ، و لكنكم دعوتموني إليها ، فلما أفضت إليّ نظرت إلى كتاب اللّه ، فلم أحتج في ذلك إلى رأيكما و لا رأي غيركما ، و لا وقع حكم جهلته فأستشيركما و إخواني المسلمين ، و لو كان ذلك لم أرغب عنكما و لا عن غيركما .
  أمّا ما ذكرتما من أمر الأسوة (3) ، فإنّ ذلك أمر لم أحكم أنا فيه برأيي و لا ولّيته هوى مني ، بل وجدت أنا و أنتما ما جاء به رسول اللّه ( ص ) قد فرغ منه فلم أحتج إليكما في ما قد فرغ اللّه من قسمه ، أخذ اللّه بقلوبنا

---------------------------
(1) أي غضبتما ليسير ، و أخرتما مما يرضيكما كثيرا لم تنظرا اليه .
(2) الإربة : الغرض ، و الطلبة .
(3) الأسوة ، هنا : التسوية بين الناس في قسمة الأموال ، و كان ذلك قد أغضب طلحة و الزبير على ما روي .