طالب انفراج الرأس (1) ، و اللّه إن أمرأ يمكّن عدوّه من نفسه يعرق لحمه (2) و يهشم عظمه و يفري جلده ، لعظيم عجزه ضعيف ما ضمّت عليه جوانح صدره (3) ، أنت فكن ذاك إن شئت (4) فأمّا أنا فو اللّه دون أن أعطي ذلك ضرب بالمشرفية تطير منه فراش الهام (5) و يفعل اللّه بعد ذلك ما يشاء
  بقاء الدّولة
  من خطبة له خطبها بصفين :
  أما بعد ، فقد جعل اللّه سبحانه لي عليكم حقّا بولاية أمركم ، و لكم عليّ من الحقّ مثل الذي لي عليكم ، فالحقّ أوسع الأشياء في التواصف و أضيقها في التناصف (6) ، لا يجري لأحد إلاّ جرى عليه ، و لا يجري عليه إلا جرى له .

---------------------------
(1) حمس : اشتد و صلب ، استحر : بلغ في النفوس غاية حدّته ، و قوله ( انفراج الرأس ) يعني انفراجا لا التئام بعده ، فإن الرأس اذا انفرج عن البدن أو انفرج أحد شقيه عن الآخر لم يعد للالتئام .
(2) يأكل لحمه حتى لا يبقى منه شي‏ء على العظم .
(3) الجوانح : الضلوع تحت الترائب ، يريد ضعيف القلب .
(4) يمكن ان يكون خطابا عاما لكل من يمكّن عدوّه من نفسه ، و يروى انه خطاب للأشعث بن قيس عند ما قال له : ( هلاّ فعلت فعل عثمان ) فأجابه الإمام بقوله هذا .
(5) فراش الهام : العظام الرقيقة التي تلي القحف .
(6) يتسع القول في وصفه حتى إذا وجب الحقّ على الانسان الواصف له ، فرّ من أدائه و لم ينتصف من نفسه كما ينتصف لها .

روائع نهج البلاغة _ 127 _

  ثم جعل ، سبحانه ، من حقوقه حقوقا افترضها لبعض الناس على بعض ، فجعلها تتكافأ في وجوهها ، و يوجب بعضها بعضا ، و لا يستوجب بعضها إلا ببعض (1) ، و أعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق حقّ الوالي على الرعية و حقّ الرعية على الوالي ، فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة و لا يصلح الولاة إلا باستقامة الرعية ، فإذا أدّت الرعية إلى الوالي حقه و أدّى الوالي اليها حقّها عزّ الحقّ بينهم ، و اعتدلت معالم العدل ، فصلح بذلك الزمان و طمع في بقاء الدولة و يئست مطامع الأعداء ، و إذا غلبت الرعية واليها ، أو أجحف الوالي برعيته ، اختلفت هنالك الكلمة و ظهرت معالم الجور فعمل بالهوى و عطّلت الأحكام و كثرت علل النفوس فلا يستوحش لعظيم حقّ عطّل و لا لعظيم باطل فعل فهنالك تذلّ الأبرار و تعزّ الأشرار .
  و ليس امرؤ و إن عظمت في الحقّ منزلته بفوق أن يعان على ما حمّله اللّه من حقّه ، و لا امرؤ و إن صغّرته النفوس و اقتحمته العيون بدون أن يعين على ذلك أو يعان عليه .

---------------------------
(1) أي : لا يستحق أحد شيئا إلا بأدائه مكافأة ما يستحقه .
(2) أي : إذا عطل الحق لا تأخذ بالنفوس وحشة أو استغراب لتعوّدها على تعطيل الحقوق و أفعال الباطل .
(3) بفوق ان يعان : بأعلى من أن يحتاج إلى الإعانة ، أي : بغنى عن المساعدة .
(4) اقتحمته : احتقرته .

روائع نهج البلاغة _ 128 _

  هنا أجابه رجل من أصحابه بكلام طويل يكثر فيه الثناء عليه و يذكر سمعه و طاعته له .
  فقال الإمام هذا القول الرائع :
  و إنّ من أسخف حالات الولاة عند صالح الناس أن يظنّ بهم حبّ الفخر و يوضع أمرهم على الكبر ، و قد كرهت أن يكون جال في ظنّكم أني أحبّ الإطراء و استماع الثناء ، و لست بحمد اللّه كذلك ، فلا تكلّموني بما تكلّم به الجبابرة ، و لا تتحفّظوا مني بما يتحفّظ به عند أهل البادرة (1) و لا تخالطوني بالمصانعة ، و لا تظنّوا بي استثقالا في حقّ قيل لي ، فإنه من استثقل الحقّ أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه فلا تكفّوا عن مقالة بحقّ أو مشورة بعدل ، فإني لست في نفسي بفوق أن أخطى‏ء ؟
  السّلم اولى من كلام له و قد استبطأ أصحابه إذنه لهم في القتال بصفّين :
  أمّا قولكم : أ كلّ ذلك كراهية الموت ؟ فو اللّه ما أبالي أدخلت إلى الموت أو خرج الموت إليّ و أمّا قولكم شكّا في أهل الشام فو اللّه ما

---------------------------
(1) البادرة : الحدة و الغضب .

روائع نهج البلاغة _ 129 _

  ما دفعت الحرب يوما إلا و أنا أطمع أن تلحق بي طائفة فتهتدي بي و تعشو إلى ضوئي (1) ، و ذلك أحبّ إليّ من أن أقتلها على ضلالها ، و إن كانت تبوء بآثامها .

  من وصية له لعسكره قبل لقاء العدو بصفّين :
  لا تقاتلوهم حتى يبدأوكم ، فإنكم بحمد اللّه على حجّة ، و ترككم إياهم حتى يبدأوكم حجة أخرى لكم عليهم ، فإذا كانت الهزيمة بإذن اللّه فلا تقتلوا مدبرا و لا تصيبوا معورا (2) و لا تجهزوا على جريح ، و لا تهيجوا النساء بأذى و إن شتمن أعراضكم و سببن أمراءكم اللّهمّ جنّب المنتصر البغي من خطبة له لما عزم على لقاء القوم بصفّين :
  اللهمّ ربّ هذه الأرض التي جعلتها قرارا للأنام ، و مدرجا

---------------------------
(1) تعشو الى الضوء : تستدل عليه في الظلام فتهتدي اليه .
(2) المعور : الذي أمكن من نفسه و عجز عن حمايتها .

روائع نهج البلاغة _ 130 _

  للهوامّ و الأنعام ، و ما لا يحصى ممّا يرى و ممّا لا يرى و ربّ الجبال الرواسي التي جعلتها للأرض أوتادا و للخلق اعتمادا (1) ، إن أظهرتنا (2) على عدوّنا فجنّبنا البغي و سدّدنا للحقّ ، و إن أظهرتهم علينا فارزقنا الشّهادة و اعصمنا من الفتنة اللهم اصلح ذات بيننا و بينهم من كلام له بصفّين و قد سمع قوما من أصحابه يسبّون أهل الشام ردا على سب أهل الشام إياه :
  إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين ، و لكنكم لو وصفتم أعمالهم و ذكرتهم حالهم ، كان أصوب في القول و أبلغ في العذر ، و قلتم مكان سبّكم إياهم :
  اللهمّ احقن دماءنا و دماءهم ، و أصلح ذات بيننا و بينهم ، و أهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحقّ من جهله و يرعوي عن الغيّ و العدوان من لهج به (3) .

---------------------------
(1) اعتمادا : معتمدا ، أي ملجأ يعتصمون به إذا طردتهم الغارات من السهول ، و كما ان الجبال الرواسي هي ملجأ يعتصم به الانسان ، هي ايضا للحيوانات تعتصم بها
(2) أظهرتهم : نصرتهم و جعلت لهم الغلبة
(3) الارعواء : النزوع عن الغي و الرجوع عن وجه الخطأ ، لهج به : أولع به فثابر عليه .

روائع نهج البلاغة _ 131 _

  و نطق بالسنتهم و من خطبة له اتّخذوا الشيطان لأمرهم ملاكا (1) و اتّخذهم له أشراكا ، فباض و فرّخ في صدورهم ، و دبّ و درج في جحورهم ، فنظر بأعينهم و نطق بألسنتهم ، فركب بهم الزلل و زيّن لهم الخطل (2) فعل من قد شرّكهم الشيطان في سلطانه و نطق بالباطل على لسانه .
  جعلوهم حكّاما على الرّقاب سأل الإمام سائل عن أحاديث البدع و عمّا في أيدي الناس من اختلاف الخبر ، فقال في جملة ما قال :
  إنّ في أيدي الناس حقا و باطلا ، و صدقا و كذبا ، و قد أخبرك اللّه عن المنافقين بما أخبرك و وصفهم بما وصفهم به لك ، ثم بقوا بعده يعني النبي فتقرّبوا إلى أئمة الضلالة و الدّعاة إلى النار بالزّور و البهتان ، فولّوهم الأعمال و جعلوهم حكّاما على رقاب الناس و أكلوا بهم الدنيا ، و إنما الناس مع الملوك إلاّ من عصم اللّه

---------------------------
(1) ملاك الشي‏ء : قوامه الذي يملك به .
(2) الخطل : أقبح الخطأ .

روائع نهج البلاغة _ 132 _

  صنفان و من كلام له في محبّيه و مبغضيه :
  و سيهلك فيّ صنفان : محبّ مفرط يذهب به الحب إلى غير الحقّ ، و مبغض مفرط يذهب به البغض الى غير الحق ، و خير الناس فيّ حالا النمط الأوسط فالزموه ، و الزموا السواد الأعظم فإن يد اللّه مع الجماعة و من كلامه في هؤلاء :
  هلك فيّ رجلان : محبّ غال ، و مبغض قال .
  و من كلامه أيضا و قد توفي سهل بن حنيف الانصاري بالكوفة بعد رجوعه معه من صفين ، و كان من أشد أنصار الإمام اندفاعا في سبيل الحق :
  لو أحبّني جبل لتهافت (1) .

---------------------------
(1) تهافت : تساقط بعد ما تصدّع .

روائع نهج البلاغة _ 133 _

  عاد الإمام العلاء بن زياد الحارثي بالبصرة ، و هو من أصحابه ، فلما رأى سعة داره قال له :
  ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا ؟ أما أنت اليها في الآخرة كنت أحوج ؟ و بلى ، إن شئت بلغت بها الآخرة : تقري فيها الضيف ، و تصل فيها الرحم ، و تطلع منها الحقوق مطالعها (1) فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة فقال له العلاء : يا أمير المؤمنين ، أشكو اليك أخي عاصم بن زياد ، قال : و ما له ؟
  قال : لبس العباءة و تخلّى عن الدنيا ، قال :
 عليّ به ، فلما جاء قال :
  يا عديّ نفسه (2) لقد استهام بك الخبيث ، أما رحمت أهلك و ولدك أ ترى اللّه أحلّ لك الطيّبات و هو يكره أن تأخذها ؟ أنت أهون على اللّه من ذلك (3) .

---------------------------
(1) أطلع الحق مطلعه : أظهره حيث يجب أن يظهر .
(2) عدي : تصغير عدو .
(3) في هذا الكلام بيان أن أطايب الدنيا لا تبعد الإنسان عن اللّه لطبيعتها ، و لكن لسوء القصد منها .

روائع نهج البلاغة _ 134 _

  قال عاصم : يا أمير المؤمنين ، ها أنت في خشونة ملبسك و جشوبة مأكلك قال الإمام :
  ويحك ، إني لست كأنت ، إن اللّه فرض على أئمّة العدل أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس كي لا يتبيّغ بالفقير فقره (1) .
  لو اعطيت الاقاليم السّبعة من كلام رائع له في صفة نفسه حافظا لأموال العامة ، و ذلك بعد أن أملق أخوه عقيل بن أبي طالب فاستعطاه :
  و اللّه لأن أبيت على حسك السّعدان (2) مسهّدا ، و أجرّ في الأغلال مصفّدا ، أحبّ إليّ من أن ألقى اللّه و رسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد و غاصبا لشي‏ء من الحطام .
  و اللّه لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي اللّه في نملة أسلبها جلب شعيرة (3) ما فعلت ، و إنّ دنياكم عندي لأهون

---------------------------
(1) يقدروا أنفسهم الخ : يقيسوا أنفسهم بالضعفاء ليكونوا قدوة للغني في الاقتصاد و صرف الأموال في وجوه الخير و منافع المجتمع ، يتبيّغ بالفقير فقره : يهيج به ألم الفقر فيهلكه .
(2) يريد من الحسك : الشوك ، و السعدان : نبت شائك ترعاه الإبل .
(3) جلب : قشرة .

روائع نهج البلاغة _ 135 _

  من ورقة في فم جرادة تقضمها (1) ما لعلي و لنعيم يفنى و لذة لا تبقى ، نعوذ باللّه من سبات العقل و قبح الزلل و به نستعين .

  من كلام له يجري مجرى الخطبة :
  و كنت كالجبل لا تحرّكه القواصف و لا تزيله العواصف : لم يكن لأحد فيّ مهمز (2) و لا لقائل فيّ مغمز ، الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحقّ له ، و القويّ عندي ضعيف حتى آخذ الحقّ منه لو لا تخمة الظّالم و جوع المظلوم
  من خطبة له معروفة بالشقشقية :
  إلى أن قام ثالث القوم نافجا حضنيه (3) ، و قام معه بنو أبيه يخضمون مال اللّه خضمة الإبل نبتة الربيع (4) ، ألى أن أجهز عليه

---------------------------
(1) تقضمها : تكسرها بأطراف أسنانها .
(2) الهمز و الغمز : الوقيعة ، أي : لم يكن فيّ عيب أعاب به .
(3) يشير إلى عثمان ، نافجا حضينه : رافعا لهما ، و الحضن : ما بين الإبط و الكشح .
يقال للمتكبر : جاءنا نافجا حضينه ، و يقال مثله لمن امتلأ بطنه طعاما .
(4) الخضم : الأكل مطلقا ، أو بأقصى الأضراس .

روائع نهج البلاغة _ 136 _

  عمله و كبت به بطنته ، فما راعني إلاّ و الناس ينثالون عليّ (1) من كل جانب ، حتى لقد وطي‏ء الحسنان (2) و شقّ عطفاي (3) ، مجتمعين حولي كربيضة الغنم (4) ، فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة ، و مرقت أخرى ، و قسط آخرون (5) كأنهم لم يسمعوا كلام اللّه حيث يقول :
  ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّا في الأرض و لا فسادا و العاقبة للمتقين ) بلى ، و اللّه لقد سمعوها و وعوها ، و لكنهم حليت الدنيا في أعينهم و راقهم زبرجها (6) ، أما و الذي فلق الحبّة و برأ النسمة ، لو لا حضور الحاضر (7) و قيام الحجّة بوجود الناصر ، و ما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم و لا سغب مظلوم (8) ، لألقيت حبلها على غاربها (9) ، و لسقيت آخرها بكأس أولها ، و لألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز .

---------------------------
(1) البطنة : البطر و الأشر و التخمة و الإسراف في الشبع ، كبت به ، من كبا الجواد إذا سقط لوجهه ، ينثالون : يتتابعون مزدحمين .
(2) ولداه الحسن و الحسين .
(3) شق عطفاه : خدش جانباه من الاصطكاك .
(4) ربيضة الغنم : الطائفة الرابضة من الغنم .
(5) الناكثة : أصحاب الجمل ، و المارقة : أصحاب النهروان من الخوارج ، القاسطون : الجائرون ، و هم أصحاب صفين .
(6) الزبرج : الزينة من وشي أو جوهر .
(7) يقصد من حضر لبيعته ، و لزوم البيعة لذمة الإمام بحضوره .
(8) الكظة : ما يعتري الآكل من امتلاء البطن بالطعام ، و المراد استئثار الظالم بالحقوق .
السغب : شدة الجوع ، و المراد منه هضم حقوق المظلوم .
(9) الغارب : الكاهل ، و الكلام تمثيل للترك و إرسال الأمر .

روائع نهج البلاغة _137 _

  من خطبة له :
  إن الوفاء توأم الصدق و لا أعلم جنّة أوقى منه (1) ، و لا يغدر من علم كيف المرجع ، و لقد أصبحنا في زمان قد اتّخذ أكثر أهله الغدر كيسا (2) و نسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة ما لهم ؟
  قاتلهم اللّه قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة (3) و دونه مانع من أمر اللّه و نهيه فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها و ينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين (4) .
  انت و اخوك الانسان من وصية له كتبها لابنه الحسن من صفين :
  يا بنيّ ، اجعل نفسك ميزانا فيما بينك و بين غيرك ، فأحبب لغيرك

---------------------------
(1) الجنة : الوقاية .
(2) الكيس : العقل .
(3) الحوّل القلّب : البصير بتحويل الأمور و تقليبها .
(4) يقول : أهل هذا الزمان يعدّون الغدر من العقل و حسن الحيلة ، و لكن ما لهم يزعمون ذلك مع أن البصير بتحويل الأمور و تقليبها قد يرى وجه الحيلة في بلوغ مراده ، لكنه يجد دون الأخذ به مانعا من أمر اللّه و نهيه ، فيدع الحيلة و هو قادر عليها ، خوفا من اللّه و وقوفا عند حدوده

روائع نهج البلاغة _ 138 _

  ما تحب لنفسك ، و اكره له ما تكره لها ، و لا تظلم كما لا تحب أن تظلم ، و أحسن كما تحب أن يحسن إليك ، و استقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك ، و ارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك ، و لا تقل ما لا تعلم و إن قلّ ما تعلم ، و لا تقل ما لا تحبّ أن يقال لك .
  يا بني ، إياك أن تغترّ بما ترى من إخلاد أهل الدنيا اليها و تكالبهم عليها (1) فقد نبّأ اللّه عنها و نعت لك نفسها و تكشّفت لك عن مساويها ، فإنما أهلها كلاب عاوية و سباع ضارية يهرّ بعضهم بعضا و يأكل عزيزها ذليلها و يقهر كبيرها صغيرها .
  و اعلم أنّ من كانت مطيّته الليل و النهار فإنه يسار به و إن كان واقفا ، و يقطع المسافة و إن كان مقيما وادعا (2) .
  أكرم نفسك عن كلّ دنيّة و إن ساقتك الى الرغائب ، فإنك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضا ، و لا تكن عبد غيرك و قد جعلك اللّه حرا ، و ما خير خير لا ينال إلاّ بشرّ (3) و يسر لا ينال إلاّ بعسر قارن أهل الخير تكن منهم ، و باين أهل الشرّ تبن عنهم ، بئس الطعام الحرام ، و ظلم الضعيف أفحش الظلم .
 إحمل نفسك من أخيك عند صرمه على الصلة (4) ، و عند صدوده

---------------------------
(1) إخلاد اهل الدنيا اليها : سكونهم اليها ، التكالب : التواثب .
(2) وادعا : ساكنا مستريحا .
(3) يريد : أي خير في شي‏ء سماه الناس خيرا و هو مما لا يناله الانسان إلا بالشر ، فإن كان طريقه شرا فكيف يكون هو خيرا ؟
(4) الصرم : القطيعة ، أي : ألزم نفسك بصلة أخيك الانسان إذا قطعك .

روائع نهج البلاغة _139 _

  على اللطف و المقاربة ، و عند جموده على البذل (1) ، و عند تباعده على الدنوّ ، و عند شدّته على اللين ، و عند جرمه على العذر ، حتى كأنه ذو نعمة عليك ، و لن لمن غالظك (2) فإنه يوشك أن يلين لك ، و خذ على عدوّك بالفضل ، و إن أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقيّة يرجع إليها إن بدا له ذلك يوما ما (3) ، و من ظنّ بك خيرا فصدّق ظنه ، و لا تضيعنّ حقّ أخيك اتّكالا على ما بينك و بينه فإنه ليس لك بأخ من أضعت حقّه ، و لا يكوننّ أخوك على مقاطعتك أقوى منك على صلته (4) و لا يكوننّ على الإساءة أقوى منك على الإحسان ، و ليس جزاء من سرّك أن تسوءه .
  ما أقبح الخضوع عند الحاجة و الجفاء عند الغنى ، و إن جزعت على ما تفلّت من يديك ، فاجزع على كل ما لم يصل إليك ، استدلّ على ما لم يكن بما كان ، فإن الأمور الأشباه ، و لا تكوننّ ممن لا تنفعه العظة إلاّ إذا بالغت في إيلامه .

---------------------------
(1) الجمود : البخل .
(2) لن : أمر من ( لان ) .
(3) اي : استبق بقية من الصلة يسهل له معها الرجوع اليك إذا هو شاء ذلك .
(4) أي : اذا أتى اخوك الانسان بأسباب القطيعة فقابلها بموجبات الصلة حتى تكون الغلبة للمودّة ، و لا يصح أن يكون أخوك أقدر على ما يوجب القطيعة منك على ما يوجب الصلة ، و هذا أبلغ قول في لزوم حفظ المودة بين الناس .

روائع نهج البلاغة _ 140 _

  من ترك القصد جار (1) ، و الصديق من صدق غيبه (2) ، ربّ قريب أبعد من بعيد ، و ربّ بعيد أقرب من قريب ، و الغريب من لم يكن له حبيب ، سل عن الرفيق قبل الطريق ، و عن الجار قبل الدار .
  إذا تغيّر السلطان تغيّر الزمان انصتوا لقولى من كلام له قاله للخوارج و قد خرج إلى معسكرهم :
  أ كلّكم شهد معنا صفّين ؟
  فقالوا : منّا من شهد و منّا من لم يشهد .
  قال : فامتازوا فرقتين ، فليكن من شهد صفّين فرقة ، و من لم يشهدها فرقة ، حتى أكلّم كلا منكم بكلامه .
  و نادى الناس :
  أمسكوا عن الكلام و أنصتوا لقولي و أقبلوا بأفئدتكم إليّ ، فمن نشدناه شهادة فليقل بعلمه فيها .
 ثم كلّمهم بكلام طويل ، من جملته أن قال :
  أ لم تقولوا عند رفعهم المصاحف حيلة و غيلة ، و مكرا و خديعة :

---------------------------
(1) القصد : الاعتدال ، جار : مال عن الصواب .
(2) الغيب : ضد الحضور ، أي : من حفظ لك حقك و هو غائب عنك .

روائع نهج البلاغة _ 141 _

  إخواننا و أهل دعوتنا استقالونا و استراحوا الى كتاب اللّه سبحانه ، فالرأي القبول منهم و التنفيس عنهم ؟ فقلت لكم : هذا أمر ظاهره إيمان و باطنه عدوان ، و أوّله رحمة و آخره ندامة ، فأقيموا على شأنكم و الزموا طريقكم و لا تلتفتوا إلى ناعق نعق : إن أجيب أضلّ و إن ترك ذلّ ؟
  و قد كانت هذه الفعلة ، و قد رأيتكم أعطيتموها ، و اللّه لئن أبيتها ما وجبت عليّ فريضتها ، و لا حمّلني اللّه ذنبها و و اللّه إن جئتها إني للمحقّ الذي يتّبع ، و إنّ الكتاب لمعي ، ما فارقته مذ صحبته :
  فلقد كنّا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ، و إن القتل ليدور على الآباء و الأبناء و الإخوان و القرابات ، فما نزداد على كلّ مصيبة و شدّة إلا إيمانا و مضيّا على الحقّ و صبرا على مضض الجراح ، و لكنّا إنّما أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزّيغ و الاعوجاج ، و الشبهة و التأويل ، فإذا طمعنا في خصلة (1) يلمّ اللّه بها شعثنا و نتدانى بها إلى البقية فيما بيننا ، رغبنا فيها و أمسكنا عمّا سواها تركا الحقّ و هما يبصرانه من كلام له يكشف به للخوارج الشبهة و ينقض حكم الحكمين :
  فإن أبيتم إلاّ أن تزعموا أني أخطأت و ضللت ، فلم تضلّلون عامّة أمة محمد صلى اللّه عليه و آله بضلالي ، و تأخذونهم بخطئي ،

---------------------------
(1) الخصلة ، يراد بها هنا : الوسيلة .

روائع نهج البلاغة _ 142 _

  و تكفّرونهم بذنوبي سيوفكم على عواتقكم تضعونها مواضع البرء و السّقم ، و تخلطون من أذنب بمن لم يذنب .
  لم آت ، لا أبا لكم ، بجرا ، و لا ختلتكم عن أمركم و لا ليّسته عليكم (1) ، إنّما اجتمع رأي ملئكم على اختيار رجلين أخذنا عليهما ألاّ يتعدّيا القرآن ، فتاها عنه ، و تركا الحقّ و هما يبصرانه ، و كان الجور هواهما فمضيا عليه ، و قد سبق استثناؤنا عليهما ، في الحكومة بالعدل و الصّمد للحق ، سوء رأيهما و جور حكمهما (2) .
  انا نذيركم من خطبة له في تخويف أهل النهروان (3) قبل أن يبدأوه القتال :
  فأنا نذيركم أن تصبحوا صرعى بأثناء هذا النهر و بأهضام هذا الغائط (4) على غير بيّنة من ربكم و لا سلطان مبين معكم : قد طوّحت بكم الدار

---------------------------
(1) البجر : الشر و الأمر العظيم و الداهية ، ختلتكم : خدعتكم ، لبّسته عليكم :
خلطته و شبّهته حتى لا يعرف
(2) الصمد : القصد .
(3) النهروان : اسم لأسفل نهر على مقربة من الكوفة ، و أهل النهروان هم الخوارج .
(4) صرعى ، جمع صريع ، أي : طريح ، الأهضام ، جمع : هضم و هو المطمئن من الوادي ، و الغائط : ما سفل من الأرض ، و المراد هنا منها المنخفضات ، يقول :
إني أحذركم من اللجاج في العصيان فتصبحوا مقتولين مطروحين ، بعضكم في أثناء هذا النهر ، و بعضكم في هذا الوادي و هذه المنخفضات .

روائع نهج البلاغة _ 143 _

  و احتبلكم المقدار (1) ، و قد كنت نهيتكم عن هذه الحكومة فأبيتم عليّ إباء المخالفين المنابذين حتى صرفت رأيي إلى هواكم ، و أنتم معاشر أخفّاء الهام (2) سفهاء الأحلام و لم آت ، لا أبا لكم ، بجرا و لا أردت لكم ضرّا .
  اين العمالقة
  من خطبة خطب الإمام بها الناس بالكوفة و هو قائم على حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومي ، و عليه مدرعة من صوف و حمائل سيف ليف ، و في رجليه نعلان من ليف :
  أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه الذي ألبسكم الرياش و أسبغ عليكم المعاش ، فلو أن أحدا يجد إلى البقاء سلّما ، أو لدفع الموت سبيلا ، لكان ذلك سليمان بن داود عليه السلام ، الذي سخّر له ملك الجنّ و الإنس ، مع النبوّة و عظيم الزّلفة ، فلمّا استوفى طعمته و استكمل

---------------------------
(1) يقال ( تطاوحت به النوى ) أي : ترامت ، احتبلهم : أوقعهم في حبالته ، المقدار :
القدر ، يقول : لقد صرتم في متاهة لا يدع الضلال لكم سبيلا إلى مستقرّ من اليقين ، فأنتم كمن رمت به داره و قذفته ، و انتم مقيّدون للهلاك لا تستطيعون منه خروجا .
(2) الهام : الراس ، و خفة الرأس كناية عن قلة العقل .

روائع نهج البلاغة _144 _

  مدّته ، رمته قسيّ الفناء بنبال الموت ، و أصبحت الديار منه خالية ، و المساكن معطّلة ، و ورثها قوم آخرون ، و إنّ لكم في القرون السالفة لعبرة أين العمالقة و أبناء العمالقة أين الفراعنة و أبناء الفراعنة أين أصحاب مدائن الرّسّ الذين قتلوا النبيّين و أطفأوا سنن المرسلين ، و أحيوا سنن الجبّارين أين الذين ساروا بالجيوش ، و هزموا بالألوف ، و عسكروا العساكر ، و مدّنوا المدائن
  اين عمّار و من الخطبة السابقة نفسها :
  ألا إنه قد أدبر من الدنيا ما كان مقبلا ، و أقبل منها ما كان مدبرا ، و أزمع التّرحال عباد اللّه الأخيار ما ضرّ إخواننا الذين سفكت دماؤهم و هم بصفّين أن لا يكونوا اليوم أحياء يسيغون الغصص و يشربون الرّنق (1) ؟ أين إخواني الذين ركبوا الطريق و مضوا على الحقّ ؟ أين عمّار ؟
  و أين ابن التّيهان ؟ و أين ذو الشّهادتين (2) ؟ و أين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على النيّة ، و أبرد برؤوسهم إلى الفجرة (3) ؟

---------------------------
(1) الرنق : الكدر .
(2) عمار : عمار بن ياسر ، و كان ممّن عذّب هو و أبوه و أخوه و أمه في بدء الدعوة .
و ابن التيهان : ابو الهيثم مالك بن التيهان ، من أكابر الصحابة ، ذو الشهادتين :
خزيمة بن ثابت الانصاري ، من الصحابة ، و هؤلاء الثلاثة شهدوا صفين و استشهدوا بها .
(3) أبرد برووسهم : أرسلت رؤوسهم مع البريد بعد قتلهم إلى البغاة للتشفّي منهم .

روائع نهج البلاغة _ 145 _

  من خطبة له طويلة تسمّى ( القاصعة (1) ) :
  و لا تكونوا كالمتكبّر على ابن أمّه من غير ما فضل جعله اللّه فيه سوى ما ألحقت العظمة بنفسه من عداوة الحسد ، و قدحت الحميّة في قلبه من نار الغضب ، و نفخ الشيطان في أنفه من ريح الكبر الذي أعقبه اللّه به الندامة .
  فاللّه اللّه في كبر الحميّة و فخر الجاهلية ، فإنه منافخ الشيطان التي خدع بها الأمم الماضية و القرون الخالية .
  و لا تطيعوا الأدعياء الذين شربتم بصفوكم كدرهم ، و أدخلتم في حقكم باطلهم ، و هم أساس الفسوق اتّخذهم إبليس مطايا ضلال و جندا بهم يصول على الناس ، و تراجمة ينطق على ألسنتهم استراقا لعقولكم و دخولا في عيونكم و نفثا في أسماعكم ، فجعلكم مرمى نبله و موطى‏ء قدمه و مأخذ يده ، فاعتبروا بما أصاب الأمم المستكبرين من قبلكم من بأس اللّه ، و اتّعظوا بمثاوي خدودهم (2) و مصارع جنوبهم ، و استعيذوا باللّه من لواقح الكبر (3) كما تستعيذون به من طوارق الدهر

---------------------------
(1) قصع فلان فلانا : حقّره ، و قد سميت هذه الخطبة ( القاصعة ) لأن ابن أبي طالب حقّر فيها حال المتكبرين و أهل البغي .
(2) مثاوي ، جمع مثوى ، بمعنى المنزل ، و منازل الخدود : مواضعها من الأرض بعد الموت ، و مصارع الجنوب : مطارحها على التراب .
(3) لواقح الكبر : محدثاته في النفوس .

روائع نهج البلاغة _ 146 _

  و لقد نظرت فما وجدت أحدا من العاملين يتعصّب لشي‏ء من الأشياء إلاّ عن علّة تحتمل تمويه الجهلاء أو حجّة تليط بعقول السفهاء ، غيركم ، فإنكم تتعصبون لأمر لا يعرف له سبب و لا علّة : أما إبليس فتعصّب على آدم لأصله ، و طعن عليه في خلقته ، فقال : ( أنا ناريّ و أنت طينيّ ) و أمّا الأغنياء من مترفة الأمم فتعصّبوا لآثار مواقع النّعم فقالوا : ( نحن أكثر أموالا و أولادا و ما نحن بمعذّبين ) فإن كان لا بدّ من العصبيّة فليكن تعصبكم لمكارم الخصال و محامد الأفعال و محاسن الأمور التي تفاضلت فيها المجداء و النّجداء بالأخلاق الرغيبة و الأحلام العظيمة ، فتعصّبوا لخلال الحمد : من الحفظ للجوار و الوفاء بالذمام ، و الطاعة للبرّ ، و المعصية للكبر ، و الكفّ عن البغي ، و الإعظام للقتل ، و الإنصاف للخلق ، و الكظم للغيظ ، و اجتناب الفساد في الأرض .
  و احذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات (1) بسوء الأفعال و ذميم الأعمال ، فتذكّروا في الخير و الشرّ أحوالهم و احذروا أن تكونوا أمثالهم .
  أ لا و قد أمرني اللّه بقتال أهل البغي و النكث (2) و الفساد في الأرض :
  فأمّا الناكثون فقد قاتلت ، و أما القاسطون فقد جاهدت (3) ، و أمّا المارقة

---------------------------
(1) المثلات : العقوبات .
(2) النكث : نقض العهد .
(3) القاسطون : الجائرون على الحق .

روائع نهج البلاغة _ 147 _

  فقد دوّخت ، و أمّا شيطان الرّدهة (1) فقد كفيته بصعقة سمعت لها وجبة قلبه و رجّة صدره ، و بقيت بقيّة من أهل البغي ، و لئن أذن اللّه في الكرّة عليهم لأديلنّ منهم (2) إلاّ ما يتشذّر في أطراف البلاد تشذّرا (3) .
  و إني لمن قوم لا تأخذهم في اللّه لومة لائم : سيماهم سيما الصدّيقين ، و كلامهم كلام الأبرار ، عمّار الليل و منار النهار (4) لا يستكبرون و لا يعلون و لا يغلّون (5) و لا يفسدون : قلوبهم في الجنان و أجسادهم في العمل .
  الدّنيا تطوى من خلفكم
  من عهد له إلى محمد بن أبي بكر حين قلّده مصر ، و فيه تذكير بأحوال الدنيا و ترغيب للولاة في أن يعدلوا و يرحموا لئلاّ يعذّبوا ، و ذلك بأروع ما تجري به ريشة العبقرية من بيان :
  و أنتم طرداء الموت : إن أقمتم له أخذكم ، و إن فررتم منه أدرككم .

---------------------------
(1) الردهة : النقرة في الجبل قد يجتمع فيها ، و شيطانها ذو الثدية من رؤساء الخوارج وجد مقتولا في ردهة .
(2) لأديلن منهم : لأمحقننهم ثم أجعل الدولة لغيرهم .
(3) يتشذّر : يتفرق ، أي : لا يفلت مني إلاّ من يتفرّق في أطراف البلاد .
(4) عمار ، جمع عامر ، أي : يعمرون الليل بالسهر للفكر و العبادة .
(5) يغلون ، يخونون .

روائع نهج البلاغة _ 148 _

  و هو ألزم لكم من ظلّكم الموت معقود بنواصيكم (1) ، و الدنيا تطوى من خلفكم ، فاحذروا نارا قعرها بعيد ، و حرّها شديد ، و عذابها جديد ، ليس فيها رحمة و لا تسمع فيها دعوة
  دستور الولاة
  من رسالة كتبها للأشتر النخعي لما ولاّه على مصر و أعمالها في عهد خلافته ، و هي من جلائل رسائله و وصاياه ، و أجمعها لقوانين المعاملات المدنية و الحقوق العامة و التصرّفات الخاصة في نهج الإمام . كما انها من أروع ما أنتجه العقل و القلب جميعا في تقرير علاقة الحاكم بالمحكوم ، و في مفهوم الحكومة ، حتى أن الإمام سبق عصره أكثر من ألف سنة بجملة ما ورد في هذه الرسالة الدستور ، من إشراق العقل النيّر و القلب الخيّر .
  ثم اعلم يا مالك أني قد وجّهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل و جور ، و أن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك ، و يقولون فيك ما كنت تقول فيهم ، و إنّما يستدلّ على الصالحين بما يجري اللّه لهم على ألسن عباده ، فليكن أحبّ الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح ، فاملك هواك و شحّ بنفسك عمّا لا يحلّ لك

---------------------------
(1) النواصي ، جمع ناصية ، و هي : مقدّم شعر الرأس .

روائع نهج البلاغة _ 149 _

  فإنّ الشّحّ بالنفس الإنصاف منها في ما أحبّت أو كرهت (1) ، و أشعر قلبك الرحمة للرعية ، و المحبّة لهم ، و اللطف بهم ، و لا تكوننّ عليهم سبعا ضاريا تغنتم أكلهم فإنهم صنفان : إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق ، يفرط منهم الزلل (2) ، و تعرض لهم العلل ، و يؤتى على أيديهم في العمد و الخطأ (3) ، فأعطهم من عفوك و صفحك مثل الذي تحبّ أن يعطيك اللّه من عفوه و صفحه ، فإنك فوقهم و والي الأمر عليك فوقك ، و اللّه فوق من ولاّك و لا تندمنّ على عفو ، و لا تبجحنّ بعقوبة و لا تسرعنّ إلى بادرة وجدت منها مندوحة (4) .
  أنصف اللّه و أنصف الناس من نفسك و من خاصّة أهلك و من لك فيه هوى من رعيّتك (5) ، فإنك إلاّ تفعل تظلم و من ظلم عباد اللّه كان اللّه خصمه دون عباده ، و ليس شي‏ء أدعى إلى تغيير نعمة اللّه و تعجيل نقمته من إقامة على ظلم ، فإنّ اللّه سميع دعوة المضطهدين و هو للظالمين بالمرصاد .
  و ليكن أحبّ الأمور إليك أوسطها في الحقّ ، و أعمّها في العدل و أجمعها لرضا الرعية ، فإنّ سخط العامّة يجحف برضا الخاصة ،

---------------------------
(1) الشح : البخل ، يقول : انتصف من نفسك في ما أحبت و كرهت ، أي ابخل بها و لا تمكّنها من الاسترسال في ما أحبّت ، و احرص على صفائها كذلك بأن تحملها على ما تكره إن كان ذلك في الحق .
(2) يفرط : يسبق ، الزلل : الخطأ .
(3) يؤتى على أيديهم : تأتي السيئات على أيديهم .
(4) بجح بالشي‏ء : فرح به ، البادرة : ما يبدر من الحدة عند الغضب في قول أو فعل .
المندوحة : المتّسع الذي يمكّن المرء من التخلّص .
(5) من لك فيه هوى ، أي : من تميل اليه ميلا خاصا .

روائع نهج البلاغة _ 150 _

  و إن سخط الخاصّة يغتفر مع رضا العامّة (1) ، و ليس أحد من الرعيّة أثقل على الوالي مؤونة في الرّخاء و أقلّ معونة له في البلاء ، و أكره للإنصاف ، و أسأل بالإلحاف (2) ، و أقلّ شكرا عند الإعطاء ، و أبطأ عذرا عند المنع ، و أضعف صبرا عند ملمّات الدهر ، من أهل الخاصة (3) .
  أطلق عن الناس عقدة كلّ حقد ، و اقطع عنك سبب كلّ وتر (4) ، و لا تعجلنّ إلى تصديق ساع فإنّ الساعي غاشّ و إن تشبّه بالناصحين .
  إن شرّ وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرا ، و من شركهم في الآثام ، فلا يكوننّ لك بطانة (5) فإنهم أعوان الأثمة و إخوان

---------------------------
(1) يحجف : يذهب ، يقول للحاكم : إذا رضي عليك الخاصة و سخط عليك العامة ، فلا ينفعك رضا أولئك مع سخط هؤلاء ، أما إذا رضي عليك العامة ، و هؤلاء لا يرضيهم إلا العدل ، فسخط الخاصة مغتفر .
(2) الإلحاف : الإلحاح .
(3) يقول : ليس هنالك من هم أثقل على الحاكم ، و أقل نفعا له و أكثر ضررا عليه من خاصته و المتقربين اليه من ذوي الثروة و الوجاهة يلازمونه و يلحون عليه في قضاء حاجاتهم و يرهقونه بالمسائل و الشفاعات و يغنمون عن سبيله المغانم و يثرون على حساب العامة ، ثم يجحدون كل ذلك و لا يساندون الحاكم أو الجمهور في نائبة أو أزمة ، فهم لذلك فئة يجب على الحاكم الصالح أن ينبذها و يعتمد على العامة دون سواهم .
(4) الوتر : العداوة : يقول : احلل عقدة الأحقاد من قلوب الناس بالعدل فيهم و حسن السيرة معهم ، و اقطع السبب في عداء الناس لك بالإحسان اليهم قولا و عملا .
(5) البطانة : الخاصة .