الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).
   هو إمام البلغاء و المتكلمين ، كما هو إمام المتّقين ... و آيته في ذلك ( نهج البلاغة ) الذي يمثّل ، في أسس البيان العربي ، مكانة تلي مكانة القرآن الكريم ... وتتصل به أساليب العرب ، في نحو ثلاثة عشر قرنا ، فتبني على بنائه ، و تقبس منه جذوتها ، و يحيا جيّدها في نطاق من بيانه السّاحر .
  كان الإمام علي (عليه السلام ) يرتجل كلماته ، يلقيها ، في مجالس القوم ، خلاصات تأمّل ، و في محافلهم ، خطبا تجيش في داخل الذات ، فينطق بها اللّسان عفو الخاطر ، فتأتي محكمة ( دون كلام الخالق و فوق كلام المخلوق ) .
  اختار الشريف الرضيّ أواخر القرن الرابع الهجري نماذج من خطبه و رسائله و كلماته القصار ، و جمعها في كتاب سمّاه ( نهج البلاغة ) ، و الإسم يدلّ على أن هذه النّماذج المختارة تمثل نهجا في البيان و الأداء ، يوصل ، إن اتّخذ مثالا ، إلى البلاغة ، بوصفها كشفا عمّا في الذات و الواقع و إيصالا إلى المتلقي ، و هذه هي غاية الأدب الخلاّق العظيم .
  و منذ ذلك اليوم الذي جمع فيه الكتاب عكف العلماء و الأدباء على قراءته و شرحه ، فتعدّدت الشروح و تنوّعت ، و بلغ بعضها مجلّدات عديدة ، يقتضي الاطلاع عليها وقتا و جهدا قد لا يملكهما المرء في هذا العصر . و من هنا جاءت الحاجة إلى كتاب ييسّر للإنسان العاديّ معرفة ( النهج ) ، من طريق اختيار نماذج منه و شرحها .
  و قد سعى الأديب المعروف جورج جرداق إلى أداء هذه المهمة ، فاشتغل سنوات طوالا ، ليسهّل الصعوبات أمام القارى‏ء ، فيجمع بين دفّتي كتاب روائع ( نهج البلاغة ) و يبوّبها وفق موضوعاتها من جهة ، و وفق زمن صدورها من جهة ثانية ، و يشرح الغريب و الصعب من مفرداتها .

روائع نهج البلاغة _ 6 _

  ثم زاد على ذلك ، فقدّم بين يدي الروائع التي اختارها و رتّبها و شرحها ، دراسة جديدة في نوعها عن الشخصية العلوية من خلال نهج البلاغة ، أضافها إلى سلسلة دراساته الخمس الشهيرة ( الإمام علي صوت العدالة و الإنسانية ) .
  يلبّي هذا الكتاب حاجة للقارى‏ء العاديّ و لطلاب المدارس و الجامعات ، و للقارى‏ء المختصّ ، أيضا ، في هذا الزمن الذي لا يجد فيه المرء فرصة للقراءة ، وسط المشاغل العديدة ، و طغيان وسائل الاعلام المسموعة و المرئيّة .
  ويسرّ مركز الغدير للدرسات أن يقدّم هذا الكتاب في حلته الجديدة هذه بعد نفاد طبعته ، راجيا أن تتحقق به الفائدة التي توخّاها .
  مركز الغدير للدرسات الإسلامية

روائع نهج البلاغة _ 9 _

  حدود العقل و القلب
  و كان شديدا ، قاصفا ، مزمجرا ، كالرعد في ليالي الويل و الينبوع هو الينبوع لا حساب في جريه لليل أو نهار من تتبّع سير العظماء الحقيقيين في التاريخ لا فرق بين شرقيّ منهم أو غربي ، و لا قديم و محدث ، أدرك ظاهرة لا تخفى و هي أنهم ، على اختلاف ميادينهم الفكرية و على تباين مذاهبهم في موضوعات النشاط الذهني ، أدباء موهوبون على تفاوت في القوة و الضعف .
  فهم بين منتج خلاّق ، و متذوّق قريب التذوّق من الإنتاج و الخلق . حتى لكأنّ الحس الأدبي ، بواسع دنيواته و معانيه و أشكاله ، يلزم كل موهبة خارقة في كل لون من ألوان النشاط العظيم فنظرة واحدة الى الأنبياء ، مثلا ، تكفي لتقرير هذه الظاهرة في الأذهان . فما داود و سليمان و أشعيا و أرميا و أيوب و المسيح و محمد إلا أدباء أوتوا من الموهبة الأدبية ما أوتوا من سائر المواهب الخاصة بهم .
   و هذا نابوليون القائد ، و أفلاطون الفيلسوف ، و باسكال الرياضي ، و باستور العالم الطبيعي ، و الخيّام الحسابي ، و نهرو رجل الدولة، و ديغول السياسي ، و ابن خلدون المؤرخ ، إنهم جميعهم أدباء لهم في الأدب ما يجعلهم في مصافّ ذوي الشأن من أهله . فلكلّ منهم لون من ألوان النشاط الفكري حدّده الطبع و الموهبة ، ثم رعت النزعة الجمالية ما دخل منه في نطاق التعبير ، فإذا هو من الأدب الخالص .
  هذه الحقيقة تتركز جلية واضحة في شخصية علي بن أبي طالب ، فإذا هو الإمام في الأدب ، كما هو الإمام في ما أثبت من حقوق و في ما علّم و هدى ، و آيته في ذلك ( نهج البلاغة ) الذي

روائع نهج البلاغة _10 _

  يقوم في أسس البلاغة العرب في ما يلي القرآن من أسس ، و تتّصل به أساليب العرب في نحو ثلاثة عشر قرنا فتبني على بنائه و تقتبس منه و يحيا جيّدها في نطاق من بيانه الساحر .
  أما البيان فقد وصل عليّ سابقه بلاحقه ، فضمّ روائع البيان الجاهلي الصافي المتّحد بالفطرة السليمة اتحادا مباشرا ، الى البيان الإسلامي الصافي المهذب المتحد بالفطرة السليمة و المنطق القويّ اتحادا لا يجوز فيه فصل العناصر بعضها عن بعض ، فكان له من بلاغة الجاهلية ، و من سحر البيان النبويّ ، ما حدا بعضهم إلى أن يقول في كلامه إنه ( دون كلام الخالق و فوق كلام المخلوق ) .
  و لا عجب في ذلك ، فقد تهيّأت لعليّ جميع الوسائل التي تعدّه لهذا المكان بين أهل البلاغة ، فقد نشأ في المحيط الذي تسلم فيه الفطرة و تصفو ، ثم إنه عايش أحكم الناس محمد بن عبد اللّه ، و تلقّى من النبي رسالته بكل ما فيها من حرارة و قوة ، أضف الى ذلك استعداداته الهائلة و مواهبه العظيمة ، فإذا بأسباب التفوّق تجتمع لديه من الفطرة و من البيئة جميعا أما الذكاء ، الذكاء المفرط ، فتلقى له في كل عبارة من ( نهج البلاغة ) عملا عظيما .
  و هو ذكاء حيّ ، قادر ، واسع ، عميق ، لا تفوته أغوار ، إذا هو عمل في موضوع أحاط به بعدا فما يفلت منه جانب و لا يظلم منه كثير أو قليل ، و غاص عليه عمقا ، و قلّبه تقليبا ، و عركه عركا ، و أدرك منه أخفى الأسباب و أمعنها في الاختفاء كما أدرك أصدق النتائج المترتّبة على تلك الأسباب : ما قرب منها أشدّ القرب ، و ما بعد أقصى البعد .
  و من شروط الذكاء العلويّ النادر هذا التسلسل المنطقي الذي تراه في النهج أنّي اتجهت .
  و هذا التماسك بين الفكرة و الفكرة حتى تكون كلّ منها نتيجة طبيعية لما قبلها و علّة لما بعدها ، ثم إن هذه الأفكار لا تجد فيها ما يستغنى عنه في الموضوع الذي يبحث فيه ، بل إنك لا تجد فيها ما يستقيم البحث بدونه ، و هو ، لاتّساع مداه ، لا يستخدم لفظا إلا و في هذا اللفظ ما يدعوك لأن تتأمل و تمعن في التأمل ، و لا عبارة إلا و تفتح أمام النظر آفاقا وراءها آفاق .
  فعن أيّ رحب وسيع من مسالك التأمّل و النظر يكشف لك قوله : ( الناس أعداء ما جهلوا ) أو قوله : ( قيمة كل امرى‏ء ما يحسنه ) ، أو ( الفجور دار حصن ذليل ) .

روائع نهج البلاغة _ 11 _

  و أيّ إيجاز معجز هو هذا الايجاز : ( من تخفّف لحق ) و أيّ جليل من المعنى في العبارات الأربع و ما تحويه من ألفاظ قلائل فصّلت تفصيلا ، بل قل أنزلت تنزيلا ثم عن أي حدّة في الذكاء و استيعاب للموضوع و عمق في الإدراك ، يشفّ هذا الكشف العجيب عن طبع الحاسد و صفة نفسه و حقيقة حاله : ( ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من الحاسد : نفس دائم و قلب هائم و حزن لازم ، مغتاظ على من لا ذنب له ، بخيل بما لا يملك ) و يستمرّ تولّد الأفكار في ( نهج البلاغة ) من الأفكار ، فإذا أنت منها أمام حشد لا ينتهي .
  و هي مع ذلك لا تتراكم ، بل تتساوق و يترتّب بعضها على بعض ، و لا فرق في ذلك بين ما يكتبه عليّ و ما يلقيه ارتجالا ، فالينبوع هو الينبوع و لا حساب في جريه لليل أو نهار .
  ففي خطبه المرتجلة معجزات من الأفكار المضبوطة بضابط العقل الحكيم و المنطق القويم .
  و إنك لتدهش ، أمام هذا المقدار من الإحكام و الضبط العظيمين ، حين تعلم أن عليّا لم يكن ليعدّ خطبه و لو قبيل إلقائها بدقائق أو لحظات .
  فهي جائشة في ذهنه منطلقة على لسانه عفو الخاطر لا عنت و لا إجهاد ، كالبرق إذ يلمع و لا خبر يأخذه أو يعطيه قبل وميضه ، و كالصاعقة إذ تزمجز و لا تهيّ‏ء نفسها لصعق أو زمجرة .
  و كالريح إذ تهبّ فتلوي و تميل و تكسح و تنصبّ على غاية ثم إلى مداورها تعود و لا يدفعها إلى أن تروح و تجي‏ء إلاّ قانون الحادثة و منطق المناسبة في حدودها القائمة ، لا قبل و لا بعد و من مظاهر الذكاء الضابط القويّ في نهج البلاغة تلك الحدود التي كان عليّ يضبط بها بها عواطف الحزن العميق إذ تهيج في نفسه و تعصف ، فإن عاطفته الشديدة ما تكاد تغرقه في محيط من الأحزان و الكآبات البعيدة ، حتى يبرز سلطان العقل في جلاء و مضاء ، فإذا هو آمر مطاع .
  و من ذكاء علي المفرط الشامل في نهجه كذلك أنه نوّع البحث و الوصف فأحكم في كل موضوع و لم يقصر جهده الفكري على واحد من الموضوعات أو سبل البحث ، فهو يتحدث بمنطق الحكيم الخبير عن أحوال الدنيا و شؤون الناس ، و طبائع الافراد و الجماعات ، و هو يصف البرق و الرعد و الأرض و السماء ، و يسهب في القول في مظاهر الطبيعة الحية فيصف

روائع نهج البلاغة _ 12 _

  خفايا الخلق في الخفاش و النملة و الطاووس و الجرادة و ما إليها ، و يضع للمجتمع دساتير و للأخلاق قوانين ، و يبدع في التحدث عن خلق الكون و روائع الوجود ، و إنك لا تجد في الأدب العربي كله هذا المقدار الذي تجده في نهج البلاغة من روائع الفكر السليم و المنطق المحكم ، في مثل هذا الأسلوب النادر .
  أما الخيال في نهج البلاغة فمديد وسيع ، خفّاق الجوانح في كل أفق ، و بفضل هذا الخيال القويّ الذي حرم منه كثير من حكماء العصور و مفكري الأمم ، كان عليّ يأخذ من ذكائه و تجاربه المعاني الموضوعيّة الخالصة ، ثم يطلقها زاهية متحركة في إطار تثبت على جنباته ألوان الجمال على أروع ما يكون اللون ، فالمعنى مهما كان عقليا جافا ، لا يمرّ في مخيّلة عليّ إلاّ و تنبت له أجنحة تقضي فيه على صفة الجمود و تمدّه بالحركة و الحياة .
  فخيال عليّ نموذج للخيال العبقري الذي يقوم على أساس من الواقع ، فيحيط بهذا الواقع و يبرزه و يجلّيه ، و يجعل له امتدادات من معدنه و طبيعته ، و يصبغه بألوان كثيرة من مادته و لونه ، فإذا الحقيقة تزداد وضوحا ، و إذا بطالبها يقع عليها أو تقع عليه و قد تميّز عليّ بقوة ملاحظة نادرة ، ثم بذاكرة واعية تخزن و تتّسع ، و قد مرّ من أطوار حياته بعواطف جرّها عليه حقد الحاقدين و مكر الماكرين ، و مرّ منها كذلك بعواطف كريمة أحاطه بها وفاء الطيبين و إخلاص المخلصين ، فتيسّرت له من ذلك جميعا عناصر قوية تغذّي خياله المبدع ، فإذا بها تتعاون في خدمة هذا الخيال و تتساوق في لوحات رائعة حيّة ، شديدة الروعة و الحيوية ، تتركز على واقعية صافية تمتدّ لها فروع و أغصان ، ذات أوراق و أثمار و من ثمّ يمكنك ، إذا أنت شئت ، أن تحوّل عناصر الخيال القويّ في نهج البلاغة الى رسوم مخطوطة باللون ، لشدّة واقعيّتها و اتّساع مجالها و امتداد أجنحتها و بروز خطوطها ، أ لا ما أروع خيال الإمام إذ يخاطب أهل البصرة و كان بنفسه ألم منهم بعد موقعة الجمل ، قائلا :
  ( لتغرقنّ بلدتكم حتى كأنني أنظر الى مسجدها كجؤجؤ طير في لجّة بحر (1) )

---------------------------
(1) الجؤجؤ : الصدر .

روائع نهج البلاغة _ 13 _

  أو في مثل هذا التشبيه الساحر : ( فتن كقطع الليل المظلم ) .
  أو هذه الصورة المتحركة : ( و إنما أنا كقطب الرحى : تدور عليّ و أنا بمكاني ) أو هذه اللوحة ذات الجلال التي يشبّه فيها امتدادات بيوت أهل البصرة بخراطيم الفيلة ، و تبدو له شرفاتهن كأنها أجنحة النسور : ( ويل لسكككم العامرة ، و الدور المزخرفة التي لها أجنحة كأجنحة النسور و خراطيم كخراطيم الفيلة ) و من مزايا الخيال الرحب قوة التمثيل ، و التمثيل في أدب الإمام وجه ساطع بالحياة ، و إن شئت مثلا على ذلك فانظر في حال صاحب السلطان الذي يغبطه الناس و يتمنون ما هو فيه من حال ، و لكنه أعلم بموضعه من الخوف و الحذر ، فهو و إن أخاف بمركوبه إلاّ أنه يخشى أن يغتاله ، ثم انظر بعد ذلك الى عليّ كيف يمثّل هذا المعنى يقول : ( صاحب السلطان كراكب الأسد : يغبط بموقعه ، و هو أعلم بموضعه ) و إن شئت مثلا آخر فاستمع اليه يمثّل حالة رجل رآه يسعى على عدوّ له بما فيه إضرار بنفسه ، فيقول : ( إنّما أنت كالطاعن نفسه ليقتل ردفه ) و الرّدف هو الراكب خلف الراكب ، ثم إليك هذا النهج الرائع في تمثيل صاحب الكذب : ( إياك و مصادقة الكذّاب فإنه كالسراب : يقرّب عليك البعيد و يبعد عنك القريب ) أما النظرية الفنيّة القائلة بأن كل قبيح في الطبيعة يصبح جميلا في الفن ، فهي إن صحّت فإنما الدليل عليها قائم في كلام ابن أبي طالب في وصف من فارقوا الدنيا ، فما أهول الموت و ما أبشع وجهه ، و ما أروع كلام ابن أبي طالب فيه و ما أجمل وقعه ، فهو قول آخذ من العاطفة العميقة نصيبا كثيرا ، و من الخيال الخصب نصيبا أوفر ، فإذا هو لوحة من لوحات الفن العظيم لا تدانيها إلاّ لوحات عباقرة الفنون في أوروبا ساعة صوّروا الموت و هوله لونا و نغما و شعرا .
  فبعد أن يذكّر عليّ الأحياء بالموت و يقيم العلاقة بينهم و بينه ، يوقظهم على أنهم دانون من منزل الوحشة بقول فيه من الغربة القاسية لون قائم و نغم حزين : ( فكأنّ كل امرى‏ء منكم قد بلغ من الأرض منزل وحدته ، فيا له من بيت وحدة ، و منزل وحشة ، و مفرد غربة ) ثم يهزّهم بما هم مسرعون إليه و لا يدرون ، بعبارات متقطّعة متلاحقة و كأنّ فيها دويّ طبول تنذر تقول ( ما أسرع الساعات في اليوم ، و أسرع الأيام في الشهر ، و أسرع

روائع نهج البلاغة _14 _

  الشهور في السنة ، و أسرع السنين في العمر ) بعد ذلك يطلق في أذهانهم هذه الصورة الرائعة التي يأمر بها العقل ، و تشعلها العاطفة ، و يجسّم الخيال الوثّاب عناصرها ثم يعطيها هذه الحركات المتتابعة و هي بين عيون تدمع و أصوات تنوح و جوارح تئنّ ، قائلا :
  ( و إنما الأيام بينكم و بينهم بواك و نوائح عليكم ) ، ثم يعود فيطلق لعاطفته و خياله العنان فإذا بهما يبدعان هذه اللوحة الخالدة من لوحات الشعر الحيّ :
  ( و لكنهم سقوا كأسا بدّلتهم بالنطق خرسا ، و بالسمع صمما ، و بالحركات سكونا .
  فكأنهم في ارتجال الصفة صرعى سبات (1) .
  جيران لا يتآنسون ، و أحبّاء لا يتزاورون ، بليت بينهم عرى التعارف ، و انقطعت منهم أسباب الإخاء ، فكلّهم وحيد و هم جميع ، و بجانب الهجر و هم أخلاّء ، لا يتعارفون لليل صباحا ، و لا لنهار مساء ، أيّ الجديدين (2) ظعنوا فيه كان عليهم سرمدا (3) ) .
  ثم يقول هذا القول الرهيب : ( لا يعرفون من أتاهم ، ولا يحفلون من بكاهم ، ولا يجيبون من دعاهم ) فهل رأيت الى هذا الإبداع في تصوير هول الموت و وحشة القبر و صفة سكّانه في قوله : ( جيران لا يتآنسون و أحبّاء لا يتزاورون ) ثم هل فطنت إلى هذه الصورة الرهيبة لأبدية الموت التي لا ترسمها إلا عبقرية عليّ : ( أيّ الجديدين ظعنوا فيه كان عليهم سرمدا ) و مثل هذه الروائع في ( النهج ) كثير .
  هذا الذكاء الخارق وهذا الخيال الخصب في أدب الإمام يتحدان اتحاد الطبيعة بالطبيعة ، مع العاطفة الهادرة التي تمدّهما بوهج الحياة ، فإذا الفكرة تتحرك و تجري في عروقها الدماء سخيّة حارّة ، و إذا بها تخاطب فيك الشعور بمقدار ما تخاطب العقل لانطلاقها من عقل تمدّه العاطفة بالدف‏ء ، و قد يصعب على المرء أن يعجب بأثر من آثار الفكر أو الخيال في

---------------------------
(1) ارتجال الصفة : وصف الحال بلا تأمل ، فالواصف لهم بأول النظر يظنهم صرعى من السبات ، أي النوم .
(2) الجديدان : الليل و النهار .
(3) سرمد : أبدي .

روائع نهج البلاغة _ 15 _

  ميادين الأدب و سائر الفنون الرفيعة ، إن لم تكن للعاطفة مشاركة فعّالة في إنتاج هذا الأثر ، ذلك ان المركّب الإنساني لا يرضيه ، طبيعيا ، إلا ما كان نتاجا لهذا المركّب كله ، و هذا الأثر الأدبي الكامل ، هو ما نراه في نهج البلاغة ، و إنك لتحس نفسك مندفعا في تيّار جارف من حرارة العاطفة و انت تسير في نهج البلاغة من مكان إلى آخر .
  أفلا يشيع في قلبك الحنان و العطف شيوعا و أنت تصغي إلى عليّ يقول : ( لو أحبّني جبل لتهافت ) أو ( فقد الأحبّة غربة ) أو ( اللهم إني أستعديك على قريش ، فإنهم قد قطعوا رحمي و أكفأوا إنائي ، و قالوا : ( أ لا إنّ في الحق أن تأخذه و في الحق أن تمنعه ، فاصبر مغموما أو مت متأسفا فنظرت فإذا ليس لي رافد و لا ذابّ و لا مساعد إلاّ أهل بيتي ) و اليك كلاما له عند دفن السيدة فاطمة ، يخاطب به ابن عمّه الرسول :
  ( السلام عليك يا رسول اللّه عني و عن ابنتك النازلة في جوارك ، و السريعة اللحاق بك قلّ ، يا رسول اللّه ، عن صفيّتك صبري ، و رقّ عنها تجلّدي ، إلاّ أن لي في التأسّي بعظيم فرقتك و فادح مصيبتك موضع تعزّ ) و منه ( أمّا حزني فسرمد ، و أمّا ليلي فمسهّد ، إلى أن يختار اللّه لي دارك التي أنت بها مقيم ) ثم إليك هذا الخبر :
  روى أحدهم عن نوف البكالي بصدد إحدى خطب الإمام علي قال :
  خطبنا هذه الخطبة بالكوفة أمير المؤمنين عليه السلام ، و هو قائم على حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومي ، و عليه مدرعة من صوف ، و حمائل سيفه ليف ، و في رجليه نعلان من ليف ، فقال عليه السلام ، في جملة ما قال :
  ( ألا إنه أدبر من الدنيا ما كان مقبلا ، و أقبل منها ما كان مدبرا . و أزمع الترحال عباد اللّه الأخيار ، و باعوا قليلا من الدنيا لا يبقى بكثير من الآخرة لا يفنى ما ضرّ إخواننا الذين سفكت دماؤهم و هم بصفّين أن لا يكونوا اليوم أحياء يسيغون الغصص ، و يشربون الرّنق ؟ قد ، و اللّه ، لقوا اللّه فوفّاهم أجورهم و أحلّهم دار الأمن بعد خوفهم أين إخواني الذين ركبوا الطريق و مضوا على الحق ؟ أين عمّار ؟ و أين ابن التيهان ؟ و أين ذو الشهادتين ؟ و أين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على النيّة ؟ )

روائع نهج البلاغة _ 16 _

  قال : ثم ضرب بيده على لحيته الشريفة فأطال البكاء و أخبر ضرار بن حمزة الضابى‏ء قال : فأشهد لقد رأيته يقصد الإمام في بعض مواقفه ، و قد أرخى الليل سدوله و هو قائم في ظلامه قابض على لحيته يتململ و يبكي بكاء الحزين و يقول : ( يا دنيا يا دنيا ، اليك عني أ بي تعرّضت ؟ أم إليّ تشوّقت ؟ لا حان حينك ، هيهات غرّي غيري ، لا حاجة لي فيك ، قد طلّقتك ثلاثا لا رجعة فيها فعيشك قصير ، و خطرك يسير ، و أملك حقير آه من قلّة الزاد و طول الطريق و بعد السفر و عظيم المورد ) هذه العاطفة الحارّة التي عرفها الإمام في حياته ، تواكبه أنّي اتّجه في نهج البلاغة ، و حيث سار .
   تواكبه في ما يحمل على الغضب و السخط ، كما تواكبه في ما يثير العطف و الرضا .
  حتى إذا رأى تخاذل أنصاره عن مساندة الحق فيما يناصر الآخرون الباطل و يحيطونه بالسلاح و بالأرواح ، تألّم و شكا ، و وبّخ و أنّب ، و كان شديدا قاصفا ، مزمجرا ، كالرعد في ليالي الويل و يكفيك أن تقرأ خطبة الجهاد التي تبدأ بقوله : ( أيها الناس المجتمعة أبدانهم ، المختلفة أهواؤهم ، كلامكم يوهي الصمّ الصّلاب الخ ) ، لتدرك أية عاطفة متوجّعة ثائرة هي تلك التي تمدّ هذه الخطبة بنبض الحياة و جيشانها و إنه لمن المعيي أن نسوق الأمثلة على تدفّق العاطفة الحية التي تبث الدف‏ء في مآثر الإمام .
  فهي في أعماله ، و في خطبه و أقواله ، مقياس من المقاييس الأسس ، و ما عليك إلاّ أن تفتح هذا الكتاب ، كي تقف على ألوان من عاطفة ابن أبي طالب ، ذات القوة الدافقة و العمق العميق

روائع نهج البلاغة _ 17 _

  و كان ما تباعد منها مضموما في وخدة طرفاها الأزل و الأبد الأدب اصالة في الفكر و الحس و الخيال و الذوق ، تربط بين صاحبها و جملة الكائنات في وحدة وجودية مطلقة .
   ثم تعبّر عن نفسها بحياة تحيا على أصول من هذه الوحدة ، و بأسلوب جماليّ هو تجسيم حيّ للتفاعل بين الأديب و الكون .
  و لما كان العلم تجزئة كان الفنّ توحيدا ، و لما كان العلم ينظر إلى الأشياء من حيث هي كائنات وجب فكّها و تذريرها ، كان الفن ينظر إلى الأشياء من حيث هي كائنات مجزّأة في ظاهرها ، موحّدة في أصولها و حقيقتها ، مما يؤول الى فكرة الشمول الكوني و الارتباط الكامل بين مختلف مظاهر الوجود و ما كان الأدب إلا بهذا الشمول و إذا كان الفلاسفة قد فطنوا الى وحدة الوجود في العصور المتأخرة ، فإن الأديب قد فطن لها منذ كان الانسان و كانت في أعماقه بذور الفن و أحاسيس الأدب .
  ذلك لأن دليل الفيلسوف عقله و قياسه ، و كلاها محدود بالنسبة للمركّب الانساني الحيّ ، و دليل الأديب شعوره و إلهامه ، و هما انبثاق عاجل و امض عن جملة كيانه .
  ثم إن نظرة الفيلسوف الى الكون كوحدة متفاعلة متكاملة ، إن هي إلاّ نظرة تظلّ سطحية إذا ما قيست بنظرة الأديب ، فالفيلسوف يشاهد و يراقب و يقيس ثم يسجّل ، و أداته في ذلك العقل وحده ، و العقل شي‏ء من الانسان الحي بل قل هو جانب منه ، و الأديب

روائع نهج البلاغة _ 18 _

  يتفاعل مع الكون و الحياة تفاعلا مباشرا مستمرا إذ يحس و يستلهم بعقله و شعوره و خياله و مزاجه و ذوقه جميعا ، أي بجملة كيانه . و هو ، إلى ذلك ، أسبق و أعمق . فالأديب أستاذ الفيلسوف : أستاذه و دليله منذ كان ، و أستاذه و دليله إلى الأبد و إذا كان هذا هو الأمر ، و هو كذلك ، فإنّ عليّ بن أبي طالب عظيم من عظماء هذه الطائفة من حيث النظرة و الأسلوب : طائفة الأدباء الخالدين الذين ينظرون إلى نجوم السماء و رمال الصحراء و مياه البحار و كساء الطبيعة فإذا هي أشياء من نفوسهم ، هذه النفوس التي تستشعر في الكون قوة وجودية واحدة جامعة كانت منذ الأزل و تبقى الى الأبد .
  يقول ميخائيل نعيمة الذي يمثل طاقة الفنان على الاحساس العميق بوحدة الوجود في أدبنا العربي المعاصر : ( بل كيف يكون أديبا من لا يحسّ جذوره في الأزل و الأبد ، و لا يحسّ ما مضى و ما سيأتي ) إن هذا الإحساس بالجمال الأسمى الذي يلف الكائنات جميعا ، على تباين مظاهرها ، بوشاح واحد ، هو ما تراه في آثار عباقرة الأدب مهما تنوّعت موضوعات هذه الآثار ، و مهما اختلفت ظروفها ، فإذا أنت سمعت صوت الشاعر العظيم ينطق بلسان المسيح قائلا :
  ( تأملوا زنابق الحقل كيف تنمو ، و لكن أقول لكم إنه و لا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها ) سمعت صوتا من أعظم ما سمع الكون ، و أدركت أمتع نظرة تخترق أعماق الجمال الكلّي ، و تساءلت : أنّى للتراب و الصخر و سحب السماء أن تأتي بمثل هذه الروعة و هذا الجمال ، جمال زنابق الحقل و هي تنمو ، لو لم تكن وحدة الوجود هذه و لو لم يكن الجمال مدار الوجود الواحد ، و رابطة أجزائه منذ البداية حتى النهاية ؟ و هو ،
  في الوقت ذاته ، مدار الفكرة و الشعور لدى الفنان : الخالق الصغير و من ذلك قول المسيح الرائع و قد جاؤوه بزانية جعلت على نفسها سبيلا بحكم شرائعهم :
  ( من كان منكم بلا خطيئة فليرجم هذه الزانية بحجر ) و إذا أنت سمعت قول الشاعر العظيم ينطق بلسان سليمان بن داود :
  ( جيل يمضي و جيل يأتي و الأرض قائمة مدى الدهر ، و الشمس تشرق و الشمس تغرب

روائع نهج البلاغة _ 19 _

  ثم تسرع الى موضعها الذي طلعت منه . تذهب الريح الى الجنوب و تدور الى الشمال ، تدور و تطوف في مسيرها ثم الى مداورها تعود الريح جميع الأنهار تجري الى البحر و البحر ليس بملآن ثم الى الموضع الذي جرت منه الأنهار الى هناك تعود لتجري أيضا ) و إذا سمعته أيضا يقول :
  ( أنا وردة الشارون و سوسنة الأودية ، كالسوسنة بين الشوك كذلك خليلتي بين البنات .
  كالتفاحة في أشجار الغابة كذلك حبيي بين البنين ، قد اشتهيت فجلست في ظله و ثمره حلو في حلقي ، قد ظهرت الزهور في الأرض و وافى أوان القضب و سمع صوت اليمامة في أرضنا .
  ( يا حمامتي التي في نخاريب الصخر و في خفايا المعاقل أريني محيّاك ، أسمعيني صوتك فإن صوتك لطيف و محيّاك جميل ، إلى أن ينسم النهار و تنهزم الظلال ، عد يا حبيي و كن كالظبي أو كغفر الأيلة على جبال باتر .
  ( جميلة أنت يا خليلتي جميلة أنت و عيناك كحمامتين من وراء نقابك ، و شعرك كقطيع معز يبدو من جبل جلعاد .
  شفتاك كسمط من القرمز و نطقك عذب . خدّاك كفلقة رمانة من وراء نقابك .
  عنقك كبرج داود المبني للسلاح الذي علق فيه ألف مجنّ ، جميع تروس الجبابرة ، الى أن ينسم النهار و تنهزم الظلال أنطلق إلى جبل المرّ و الى تلّ اللبّان ، هلمّي معي من لبنان أيتها العروس ، معي من لبنان انظري من رأس أمانة من رأس حرمون من مرابض الأسود من جبال النمور ، شفتاك تقطران شهدا أيتها العروس و تحت لسانك عسل و لبن و عرف ثيابك كعرف لبنان .
  ( عين جنّات و بئر مياه حية و أنهار من لبنان ، هبّي يا شمال و هلمّي يا جنوب انسمي على جنّتي فتنسكب أطيابها ) إذا أنت سمعت ذلك و وعيته وعيا صحيحا ، أدركت ان سليمان ينهل شعره من المنهل ذاته الذي ارتوى منه المسيح و إن اختلف الموضوع .
  و من ذلك قول فيكتور هيغو ، أحد عظماء الفنانين الذين نبغوا بعد الثورة الفرنسية ، و هو

روائع نهج البلاغة _20 _

  حوار بين الكواكب يرينا الشاعر به الانسان و قد ضاع و كاد يختفي هو و الأرض التي يسكنها ، لضآلتهما في سعة الكون الواحد العجيب :
  ما هذا الصوت التافه الضعيف الذي يهمس ؟
  أيتها الأرض ، ما الغاية من دورانك ، في أفقك الضيق المحدود ؟
  و هل أنت سوى حبّة من الرمل مصحوبة بذرّة من رماد ؟
  أما أنا ، ففي السماء الزرقاء الشاسعة أرسم إطارا هائلا فترى المسافة المكانية ، و هي فزعة مرعوبة ، جمالي مشوّها و هالتي ، التي تحيل شحوب الليالي الى حمرة قانية ككرات من الذهب تعلو و تهبط متقاطعة في يد الحاوي ، تبعد ، و تجمع ، و تمسك سبعة من الأقمار الضخمة الهائلة و ها هي الشمس تجيب :
  سكوتا ، هناك في زاوية من السماوات ، ايتها الكواكب ، أنتم رعاياي هدوءا أنا الراعي و أنتم الرعية .
  إنكما كعربتين تسيران جنبا الى جنب للدخول من الباب .
  في أصغر بركان عندي ، المريخ مع الأرض يدخلان دون أن يلمسا جوانب المدخل و ها هي ذي نجوم الدب الأصغر تضي‏ء مثل سبع أعين حيّة لها بدل الحبّات شموس و ها هو ذا طريق المجرّة يرسم غابة ناضرة جميلة مليئة بنجوم السماء أيتها الكواكب السفلى ، إن مكاني من مكانكم في درجة من البعد حتى أن نجومي المضيئة الثابتة الشبيهة بمجاميع الجزائر المتناثرة في الماء ، و شموسي الكثيرة ، ليست بالنسبة لنظركم الضعيف القاصر .

روائع نهج البلاغة _ 21 _

  في زاوية بعيدة من السماء شبيهة بصحراء حزينة يتلاشى الصوت فيها ، سوى قليل من الرماد الأحمر قد انتثر في جوف الليل ) و ها هي ذي نجوم مجرّة أخرى تصوّر عوالم لا تقلّ عن تلك العوالم ، متناثرة في الأثير ، ذلك المحيط الذي لا رمال فيه و لا حصباء في جوانبه ، تذهب أمواجه و لكن لا تعود أبدا إلى شواطئه .
  و أخيرا ها هو الإله يتحدث :
  ( ليس لديّ إلا أن أنفخ ، فيصبح كل شي‏ء ظلاما (1) ) و إليك ما يقوله عليّ بن أبي طالب في صفة الطاووس (2) :
  ( و من أعجبها خلقا الطاووس الذي أقامه في أحكم تعديل ، و نضّد ألوانه في أحسن تنضيد ، بجناح أشرح قصبه ، و ذنب أطال مسحبه ، إذا درج إلى الأنثى نشره من طيّه ، و سما به مظلاّ على رأسه ، تخال قصبه مداري من فضّة ، و ما أنبت عليه من عجيب داراته و شموسه خالص العقيان و فلذ الزبرجد ، فإن شبّهته بما أنبتت الأرض قلت : جنى جني من زهرة كل ربيع ، و إنّ ضاهيته بالملابس فهو كموشّى الحلل أو مونق عصب اليمن .
   و إن شاكلته بالحليّ فهو كفصوص ذات ألوان قد نطّقت باللجين المكلّل : يمشي مشي المرح المختال ، و يتصفّح ذنبه و جناحيه فيقهقه ضاحكا لجمال سرباله و أصابيغ و شاحه ( فإذا رمى ببصره الى قوائمه زقا معولا يكاد يبين عن استغاثته ، و يشهد بصادق توجّعه ، لأن قوائمه حمش كقوائم الدّيكة الخلاسية ، وله في موضع العرف قنزعة خضراء موشّاة .
  و مخرج عنقه كالإبريق ، و مغرزها الى حيث بطنه كصبغ الوسمة اليمانية ، أو كحريرة ملبسة مرآة ذات صقال

---------------------------
(1) نظرية الأنواع الادبية ، ترجمه عن الفرنسية الدكتور حسن عون .
(2) ما تحتاج اليه من شرح المفردات و التعابير الواردة في هذه القطعة ، تجده في فصل ( خلقة الطاووس ) بهذا الكتاب .


روائع نهج البلاغة _ 22 _

  ( و مع فتق سمعه خطّ كمستدقّ القلم في لون الأقحوان أبيض يقق ، فهو ببياضه في سواد ما هنالك يأتلق ، وقلّ صبغ إلاّ و قد أخذ منه بقسط و علاه بكثرة صقاله و بصيص ديباجه و رونقه فهو كالأزاهير المبثوثة لم تربّها أمطار ربيع و لا شموس قيظ ، و قد ينحسر من ريشه و يعرى من لباسه فيسقط تترى ، و ينبت تباعا ، فينحتّ من قصبه انحتات أوراق الأغصان ثم يتلاحق ناميا حتى يعود كهيئته قبل سقوطه : لا يخالف سالف ألوانه ، و لا يقع لون في غير مكانه ، إذا تصفّحت شعرة من شعرات قصبه أرتك حمرة وردية ، و تارة خضرة زبرجدية ، و أحيانا صفرة عسجدية ، فكيف تصل الى صفة هذا عمائق الفطن ، أو تبلغه قرائح العقول ، أو تستنظم وصفه أقوال الواصفين ) و إليك قليلا من قوله في خلق السماء و الأرض :
  ( فطر الخلائق بقدرته ، و نشر الرياح برحمته ، و وتّد بالصخور ميدان أرضه ، ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء ، و شقّ الأرجاء ، و سكائك الهواء ، فأجرى فيها ماء متلاطما تياره متراكما زخّاره ، حمله على متن الرياح العاصفة ، و الزعزع القاصفة .
   ثم أنشأ سبحانه ريحا أعتق مهبّها ، و أعصف مجراها ، و أبعد منشأها ، فأمرها بتصفيق الماء الزخّار ، و إثارة موج البحار ، فمخضته مخض السقاء و عصفت به عصفها بالفضاء تردّ أوله إلى آخره ،
  و ساجيه الى مائره ... ) و أوصيك خيرا بهذه الآيات الروائع التي تتحدث بها عبقرية الإمام الى المركّب الانساني جميعا فتصوّر له كيف يستوي الجليل و اللطيف من الكائنات ، و الشمس و القمر ،
  و الماء و الحجر ، و الكبير و الصغير ، و الهيّن و الصعب ، في معنى الوجود ، و كيف تشترك جميعا في صفة الكون فإذا هي متساوقة متعاونة في النشيد الأعظم : نشيد الوجود الواحد الذي لا يجوز فيه تعظيم الدوحة العاتية على حساب النبتة النامية ، و لا يصحّ فيه تمجيد البحر الواسع و احتقار الساقية التي تضيع مياهها بين العشب و الحصى .
  يقول عليّ :
  ( لو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته ما دلّتك الدلالة إلاّ على أن فاطر النملة هو فاطر النخلة ، و ما الجليل و اللطيف ، و الثقيل و الخفيف ، و القوي و الضعيف ، في خلقه إلاّ سواء

روائع نهج البلاغة _ 23 _

  و كذلك السماء و الهواء ، و الرياح و الماء . فانظر إلى الشمس و القمر ، و النبات و الشجر ، و الماء و الحجر ، و اختلاف هذا الليل و النهار ، و تفجّر هذه البحار ، و كثرة هذه الجبال ، و طول هذه القلال الخ ... ) ثم استمع اليه يقول :
  ( لا تنالون نعمة إلا بفراق أخرى ، و لا يعمّر معمّر منكم يوما من عمره إلا بهدم آخر من أجله ، و لا تجدّد له زيادة في أكلة إلا بنفاد ما قبلها من رزقه ، و لا يحيا له أثر إلا مات له أثر ، و لا يتجدّد له جديد إلاّ بعد أن يخلق له جديد ، و لا تقوم له نابتة إلا و تسقط منه محصورة ، وقد مضت أصول نحن فروعها ) إنه الوجود الواحد يتكلم عن نفسه ، بلسانه و في خاطري هذه المشابهة بين مقطع من معلّقة امرى‏ء القيس ، و مقاطع كثيرة من أدب ابن أبي طالب ، و هي تصبّ جميعا في معنى الوحدة الوجودية الكاملة . ثم تزيد عن ذلك بانطلاقه فذة إلى قهر الظالم و المعتدي ، و إلى نصرة الضعيف في النبت و الأرض و البهيمة و الأرض الواطئة حتى يستوي الوجود قويا بهيّا .
  يقول الشاعر الكوني امرؤ القيس أولا ما خلاصته :
  لقد قعدت لذلك البرق أرقب من أين يجي‏ء المطر ، و يا لروعة ما رأيت لقد أقبل المطر من جهات أربع سيولا سيولا رأيته من بعيد فكان يمينه في تقديري على جبل ( قطن ) و يساره على جبلي ( الستار ) و ( يذبل ) ، و راح الماء ينبجس شديدا هنا و هناك فتقلب سيوله الأشجار قلبا عتيّا ، و مرّ على جبل ( القنان ) برشاشه فأكره الوعول على النزول عنه ، بعد ذلك يقول الشاعر :
و تـيماء لم يترك بها جذع iiنخلة      و لا أطـما إلاّ مـشيدا iiبـجندل
كـأنّ ثـبيرا فـي عرانين iiوبله      كـبير أنـاس فـي بجاد iiمزمّل
كـأن  ذرى رأس المجيمر غدوة      مـن  السيل و الغثّاء فلكة مغزل
و ألـقى بصحراء الغبيط iiبعاعه      نزول اليماني ذي العياب المحمّل

روائع نهج البلاغة _ 24 _

كــأنّ  مـكاكيّ الـجواء iiغـديّة      نـشاوى سـلاف من رحيق iiمفلفل
كـأنّ  الـسباع فـيه غرقى iiعشيّة      بأرجائه القصوى ، أنا بيش عنصل

  فأنت ترى الى امرى‏ء القيس كيف يلحظ أن المطر قد أسقط نخل تيماء كلّه ، و جرف أبنيتها فلم يبق منها إلا المشيد بالجنادل و الصخور ، أما جبل ( ثبير ) المعتز بشموخه على ما حوله من الأرض الواطئة ، فقد غطاه المطر إلاّ رأسه ، فبدا كشيخ قوم ملتفّ بكساء مخطط ، و تتابع الأمطار طوفانها حول الجبال ثم تلقي أثقالها جميعا في الصحارى التي ظلّت زمنا قاحلة لا نبت فيها و لا رواء ، فإذا بها تنبت عشبا و زهرا ملوّنا يشبه الثياب الملونة الحسناء التي ينشرها التاجر اليماني امام أعين الناس ، و قد أحسن المطر إلى هذه الصحارى المجدبة فإذا هي رياض زاهية تغنّي بها الطير طربة سكرى أمّا الوحوش الضارية التي كانت تستبيح لنفسها افتراس الضعيف من الحيوان و الطير ، فقد ذلّها المطر و أغرقها فطفت على الماء كأنها جذور البصل البرّي .
  و هكذا يبدو المطر في خاطر الشاعر الجاهلي الكبير ، الذي يتابع رحلته حتى النهاية ، و كأنه يمثّل قوة الوجود المدبّرة . فهو قويّ عادل كريم ينصر الصعفاء الممثّلين بالأرض الواطئة و صغار الطير ، فيملأ الوادي بالنبت و الزهر و اللون و يدخل الفرحة على قلوب العصافير فتطرب و تغنّي ، و يداعب الأقوياء الممثّلين بالجبال التي يضايقها من كل جانب و يضعف من شأنها ، و يفتك بذوي البطش الممثلين بالسباع الضارية فيقهرها و يغرقها و يجعلها تافهة و هذا عليّ يحسّ أمام الغيث ما أحسّه امرؤ القيس من تمثيله القوة العادلة الكريمة ، فيقول في خاتمة حديث طويل :
  ( فلما ألقت السحائب بعاع ما استقلّت به (1) من العب‏ء المحمول عليها ، أخرج به من هوامد الأرض النبات (2) و من زعر الجبال الأعشاب (3) فهي تبهج بزينة رياضها


---------------------------
(1) البعاع : ثقل السحاب من الماء ، و ألقى السحاب بعاعه : أمطر كل ما فيه .
(2) الهوامد من الأرض : ما لم يكن بها نبات .
(3) زعر ، مجمع أزعر ، و هو : الموضع القليل النبات .


روائع نهج البلاغة _ 25 _

  و تزدهي بما ألبسته من ريط أزاهيرها (1) و حلية ما سمطت به (2) من ناضر أنوارها ، و جعل ذلك بلاغا للأنام و رزقا للأنعام ) ثم إن عليّا يوجز الفكرة البعيدة في ما شاهده امرؤ القيس من عمل المطر في الجبال و السباع ، بهذه الكلمة : ( من تعظّم على الزمان أهانه ) و إن هذه الروائع التي عبرت بنا في هذا الفصل ، لتنبع كلّها من معين واحد بالرغم من اختلاف موضوعاتها و تباين أغراضها و تباعد ظروفها ، ففيها جميعا هذه الاصالة في الفكر و الحس و الخيال و الذوق ، التي تربط بين صاحبها و جملة الكائنات في وحدة وجودية مطلقة و أراك حيث رحت في أدب عليّ بن أبي طالب ، شاعرا بهذه الاصالة التي تحدوه أبدا إلى اكتناه الروابط الخفية الكامنة وراء مظاهر الحياة و الموت ، و وراء الأشكال التي تختلف على الحقيقة الواحدة الثابتة التي لا تختلف .
  وما نزعته التوحيدية الجامحة إلا نزعة الأديب الحق يريد أن يركّز الوجود ، في عقله و قلبه على السواء ، على أصول لا يجوز فيها قديم و لا جديد و يتبيّن من نهج البلاغة ان نظريات ابن أبي طالب الاجتماعية و الأخلاقية ، تنبع بصورة مباشرة أو غير مباشرة من هذه النظرة الواحدة الشاملة الى الوجود ، فما أقرب الموت من الحياة في سنّة الوجود ، و ما أقرب طرفي الخير و الشر ، و ما أكثر ما يجتمع الحزن و السرور في قلب واحد في وقت معا ، و الكسل و النشاط في جسد واحد ، ( فربّ بعيد هو أقرب من قريب في أدب ابن أبي طالب و ربّ رجاء يؤدي الى الحرمان ، و تجارة تؤول الى الخسران ) ، و ليس عجيبا أن يجوز في الناس قول ابن أبي طالب : ( من حفر لأخيه بئرا وقع فيها ، و من هتك حجاب غيره انكشفت عورات بيته ، و من تكبّر على الناس ذلّ ) فالدائرة الوجودية الواحدة تقضي على الناس و الأشياء و الكائنات جميعا بالخضوع لقاعدتها


---------------------------
(1) ريط ، جمع ريطة بالفتح وهي كل ثوب رقيق ليّن .
(2) سمط الشي‏ء : علقت عليه السموط و هي : الخيوط تنظم في القلادة .