ولما حملته على البيعة قسراً اندفع إلى محاججتك وهو رابط الجأش ثابت الجنان قائلاً لك :« أنا أحق بالأمر منكم ، لا أبايعكم ، وأنتم أولى بالبيعة لي ، أخذتم هذا الأمر من الأنصار ، واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي (صلى الله عليه وآله) وتأخذونه منّا أهل البيت غصباً ، الستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر لما كان محمد منكم فاعطوكم القيادة ، وسلموا إليكم الامارة ، وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار نحن أولى برسول الله حياً وميتاً فانصفونا إن كنتم تؤمنون والا فبوؤا بالظلم وانتم تعلمون ».
فلم تصغ لاحتجاجه ، ولم تذعن لدليل ، ومضيت مزهواً لتقمصك بالخلافة واستبدادك بالأمر ، وكان ذلك في أعظم الكوارث والخطوب التي حلت بأمتي ، وقد اندفع عتبة بن أبي لهب وهو يذرف الدموع ، ويقول:

مـا  كـنت أحسب أن الأمر iiمنصرف      عـن  هـاشم ثـم منها عن أبي iiحسن
عــن  أول الـناس إيـماناً iiوسـابقة      وأعـلـم  الـناس بـالقرآن iiوالـسنن
وآخـر الـناس عـهداً بـالنبي ومـن      جـبريل عـون لـه في الغسل iiوالكفن
مـن فـيه مـا فـيهم لا يـمترون iiبه      وليس في القوم ما فيه من آل حسن (1)
  وانطلق اليك ولدي الحسن وأنت على منبري موجه إليك لاذع النقد قائلاً لك :« أنزل . . أنزل عن منبر أبي وأذهب إلى منبر أبيك » .

---------------------------
(1) تأريخ أبي الفداء 1 ـ 156 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _ 27_

  فبُهتَ وتحيرت ، وخاطبته بناعم القول قائلاً ؟« صدقت والله إنه لمنبر أبيك لا منبر أبي » (1) .
  ومع اعترافك بأنه منبر أبيه لا منبر أبيك فكيف احتللته واستبحت مقامه ؟ واحتج عليك صاحبي ، وصديقي ، ومن الحقته بأسرتي وهو سلمان الفارسي فقد قال لك أمام جمع حاشد من المهجارين والأنصار : « يا أبا بكر . . إلى من تسند أمرك إذا نزل بك ما لا تعرفه ؟ ! وإلى من تفزع إذا سئلت عما لا تعلمه ؟ وما عذرك في تقدم من هو أعلم منك ، وأقرب الى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأعلم بتأويل كتاب الله عزّ وجلّ ، وسنّة نبيه ، ومن قدّمه النبي في حياته ، وأوصاكم به عند وفاته ، فنبذتم قوله ، وتناسيتم وصيته ، وأخلفتم الوعد ، ونقضتم العهد ، وحللتم العقد الذي كان عقده عليكم من النفوذ تحت راية أسامة بن زيد » (2) .
  وانطلق الطيب ابن الطيب عمار بن ياسر وهو يحتج عليك وعلى من قدّمك لهذا المنصب الخطير قائلاً : « يا معاشر قريش ، ويا معاشر المسلمين ، إن كنتم علمتم وإلا فاعلموا أن أهل بيت نبيكم أولى وأحق بإرثه ، وأقوم بامور الدين ، وآمن على المؤمنين ، وأحفظ لملته ، وانصح لأمته ، فمِروا صاحبكم فليرد الحق إلى أهله قبل أن يضطرب حبلكم ، ويضعف أمركم ، ويظهر شقاقكم ، وتعظم الفتنة بكم ، وتختلفون فيما بينكم ، ويطمع فيكم عدوكم ، فقد علمتم أن بني هاشم أولى بهذا الأمر منكم ، وعلي أقرب الى نبيكم ، وهو من بينهم وليكم بعهد الله ورسوله ، وفرق ظاهر قد عرفتموه في حال بعد حال عند سد النبي (صلى الله عليه وآله) أبوابكم التي كانت إلى المسجد كلها غير بابه ، وإيثاره إياه بكريمته فاطمة ورد من خطبها إليه منكم ، وقوله صلى الله عليه وآله « أنا مدينة العلم وعلي بابها ، ومن أراد الحكمة فليأتها من بابها » وإنكم جمعياً مضطرون فيما أشكل عليكم من أمور دينكم إليه وهو مستغن عن كل أحد منكم إلى ما له من السوابق التي ليست لافضلكم عند نفسه ، فما بالكم تحيدون عنه ، وتبتزون علياً على حقه ، وتؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة ، بئس للظالمين بدلاً اعطوه ما جعله الله ، ولا تولوا عنه مدبرين ، ولا ترتدوا على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين » .

---------------------------
(1) الرياض النضرة 1 ـ 139 ، شرح النهج لابن ابي الحديد 2 ـ 17 .
(2) احتجاج الطبرسي ص 42 ـ 43 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _ 28 _

مواهـب علـي وملـكاته:
  واحتج عليك غيرهم من اعلام الصحابة من الذين سبقوا الى الاسلام ولكنك أعرت حديثهم أُذناً صمّاء ، وأخذت تلتمس المعاذير الى استبدادك بالأمر .

ولادة علي :
  وتميز علي عن سائر البشر بمولده ، فقد ولد في أشرف بقعة على الأرض وهي الكعبة التي جعلها الله قبلة للأنام (1) ولم يختص أحد بهذا   الفضل سواه ، فقد ولد مسلماً ، مركز الايمان ، قد فتح عينيه على الاسلام فلم يعرف قط عبادة الأصنام ، والأوثان ، فياله من مولود مبارك محظوظ ، فقد ولد في بيت الايمان والعبادة والهدى .

نشـأتـه :
  ونشأ علي في بيتي ، متغذياً بعلمي ، ومرتوياً بفضائلي ، أرسم له في كل يوم أمثلة للهدى والصلاح ، وكان يشاهد صلاتي ويسمع مناجاتي لربي .
  لقد استأذنت عمي أبا طالب أن يترك لي علياً ليعيش معي فأذن لي بذلك (2) فتأدب عل يدي ، وتأثر بهديي ، وارتسمت في أعماق نفسه ودخائل ذاته جميع نزعاتي ، ولم يعرف في طفولته لهو الأطفال ولا صبوة الشباب وهفواتهم ،فقد قضى بواكير حياته النضرة يبهرها نوري وعلمي وهداي وتقاي ، ألا بوركت تلك النشأة التي ليس لها نظير .

---------------------------
(1) جاء في مستدرك الصحيحين 3 ـ 483 أنه قد تواترت الأخبار أن فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في جوف الكعبة .
(2) مستدرك الصحيحين 3 / 576 .

الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله مع خلفائه _29_

سبقه الى الاسلام :
وعلي أول من أجاب دعوتي وآمن برسلاتي فهو « أول الناس إسلاماً وأسبقهم إيماناً » فكان اللبنة الأولى في بناء صرح الاسلام ، كما كان المنجد الأول لي والمشاطر الوحيد لي بالشدائد والأخطار لقد سبق إلى الاسلام وآمن بالأهداف والمثل التي جاء هذا الدين ليقيمها ، وقد سمع آيات القرآن ، وتعاليم السماء ، وهي مشرقة متألقة ، فوعاها قلبه ، ووقف على أسرارها ، وهو القائل : « سلوني عن كتاب الله ما شئتم ، فوالله ما من آية من آياته إلا وأنا أعلم أنها نزلت في ليل ، أم في نهار » هذا هو علي التلميذ الأول للقرآن ، والسابق الأول للاسلام .

نسبه الوضّاء :
  نسب وضّاء ، ومجد تليد فاق جميع بيوتات قريش ، إنه ابن أبي طالب مؤمن قريش ، وأوسعهم أفقاً ، وأذكاهم قلباً ، وأوفرهم إيماناً ناصر الإسلام في أيام محنته وغربته ، وثبت ثباتاً باهراً أمام الزعزاع والعواصف .
  وينطلق الرسول ( صلى الله عليه وآله ) في بيان فضائل عمه ، وما أسداه عليه من الاحسان والتاريخ، والحماية ، لقد قال عمي لقريش ،بصلابة وإيمان:
ولـقد علمت بأن دين iiمحمد      مـن  خير أديان البرية iiدينا
واللّه لن يصلوا إليك بجمعهم      حتى  أوسد في التراب iiدفينا
  ولقد ظل يناصرني ، ويحمي جانبي ، ويرد عني الإعتداء فما أعظم ألطافه ، علي ، ولما حضرته الوفاة ، وجّه بوصيته إلى بني هاشم قائلا لهم : « وأنتم يا معشر بني هاشم ، أجيبوا محمداً وصدّقوه ، تفلحوا وترشدوا » .

الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله مع خلفائه _30_

  وبعد وفاته فقدت الناصر والمحامي ، فاشتدت وطأة المشركين عليَّ ، وعظمت محنتي ، وكثر بلائي ، فقلت « ما نالت مني قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب » ويلتفت النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى أهل المحشر فيقول لهم : إن هذا العملاق العظيم الذي أُتُرعت نفسه بالإيمان والتقوى ، ونصر الاسلام ووقف كالطود في حمايتي ، انظروا أن قوماً من أمتي يزعمون أنه مات مشركاً ، انه في ضحضاح من نار ويعلو الضحك من الجميع ، وتسود السخرية والاستهزاء من هؤلاء الذين لا رشد لهم .
  ويستمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) في تعداد فضائل عمه ثم يقول : إن علياً ابن هذا الفذ العظيم ، وقد ورث فضائله الأصلية ، وورث إيمانه العميق ، وعلي هو حفيد لعظيم آخر من عظماء الانسانية وأبطالها ذلك هو عبد المطلب « شيبة الحمد » وقد وصفوه فقالوا : « إنه كان يطعم الناس في السهل والوحوش في الجبال » وهو صاحب الايمان الوثيق الذي لم تؤثر فيه الروح الوثنية السائدة في عصره وبلاده .
  وقد ورث عبد المطلب المكارم والمآثر من أبيه عمروالعلا هاشم الذي أطعم الناس في أيام سغبهم وجوعهم ، وهو ابن عبد مناف أعف الناس لساناً ، وأعلاهم بياناً ، وأقواهم جناناً ، وهو ابن قصي صاحب البيت ، واللواء ، وسادن الحرم ، ومعزّ الجوار ،وقد ورث علي فضائل آبائه ، ومكرماتهم ، وورث عنهم قوة الايمان ، والسخاء ، والشجاعة ، والعزم ، وقد ظهرت بوادر هذه الصفات في باكورة حياته بما فاق أقرانه .

الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله مع خلفائه _31_

بـطولـته :
  إنها طاقات جبارة من البطولة تمثلت في ابن أبي طالب فبلغ بها القمة ، وتجاوز إلى أعلى مسئولياتها في نبل واستقامة وشرف ، لقد كان مكين البنيان في شبابه وكهولته ، وشيخوخته ، قد تساوت في ذلك جميع أدوار حياته ، كان يقدم مهرولاً للحرب لا يلوي على شيء . . . وقد مكنته قوته الجسدية البالغة في المكانة والصلابة من رفع الفارس ، وجلّهِ الأرض به غير جاهد ولا حافل ، وبلغ من عظيم قوته أنه كان يزحزح الحجر الذي لا يزحزحه إلا رجال ، إن بطولة علي من البطولات النادرة فلم يتهيب من مبارزة أحد مهما بلغ من الشجاعة ، وذيوع الأسم فقد بارز عمرو بن ود فارس الجزيرة والذي يُعد بألف فارس ، وطرحه أرضاً يتخبط بدمه ، وازدانت بطولته بالاستقامة ، والعدالة ، والشرف والنبل والورع عن البغي ، والمروءة مع الخصم قوياً كان أو ضعيفا ، وسلامة نفس من البغي والحقد ، فلم يبدأ أحداً بقتال ، ولا مندوحة عنه ، وقد أوصى ولده الحسن فقال له : « لا تدعو إلى مبارزة ، فإن دُعيت إليها فأجب ، فإن الداع إليها باغ ، والباغي مصروع » ، إن بطولة الامام لم تكن مشفوعة بدافع الأغراض المادية ، ولم تمثل عدواناً على أي إنسان ، وإنما كانت بدافع الحق ونصرة القيم العليا التي جاء بها الاسلام، ومن شهامته التي تحكي عن مدى رحمته أنه أوصى أصحابه في حرب الجمل أن لا يقتلوا مُدبراً ، أو يجهزوا على جريح ، أو ستراً ، أو يأخذوا مالاً ، إنها بطولة يقودها العقل ، وليس للعاطفة فيها أي مجال ، إنه الشرف الذي تحلّى به سليل هاشم .

الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله مع خلفائه _32_

  ومن أروع صور البطولة إعراضه عن عمرو بن العاص عدوه اللدود حينما كشف عن سوءته فغض بصره عنه ، وأرجع سيفه إلى غمده ، وتركه ينجو بحياته ، وهو أخطر عليه من جيش مجهز . إن شرف هذه البطولة من أخلاق علي الذي لا ينشد إلا النصر الشريف ، لقد كانت ظاهرة البطولة من الخصائص الذاتية لابن أبي طالب وقد عُرف بها منذ نعومة أظفاره فقد كان عمره الشريف عشر سنين ، فتحدى جبابرة قريش وطغاتها عندما بلغتهم أمر ربي وطلبت منهم العون والنجدة لينصرونني على أداء رسالة الله ، فاستهزأوا بي ، وسخروا مني ، فهب علي غير مكترث بهم قائلا : « أنا نصيرك » ، إنها البطولة الرائعة التي ليس لها نظير .

مبيته على فراش الرسول :
  وتضحية فذّة قام بها ربيب الوصي ، في رباطة جائش ، وإيمان وثيق وذلك في مبيته على فراشي ليُعمّيَ على قريش خروجي من مكة .
  لقد قدم علي على هذه التضحية الرائعة ، وجعل نفسه قرباناً للوصي ، فأي فداء عظيم يكون مثل هذا الفداء ؟ !! وينبري الرسول ( صلى الله عليه وآله ) فيتلو على أهل المحشر ما قام به وصيه في تلك اللحظة الحاسمة من التضحية في سبيله يقول ( صلى الله عليه وآله ) : لقد طلبت منه المبيت على فراشي حينما تجمعت قوى الشرك والإلحاد لوءدت ، فاستبشر فرحاً ، ونظر إليّ نظرة عطف وحب فقال لي : « أو تسلمن يا رسول الله ؟ » فأجبته نعم ، فقال مسروراً أفتديك بنفسي يا رسول الله، وبات مثلوج الفؤاد ، مبتهج النفس ، مرتاح الضمير ، قرير العين ، غير خائف ولا وجِل ، مع أن مصيره بحسب العادة هو القتل ، إذ لا ينجو من الوحوش الكاسرة التي صممت على قتلي .

الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله مع خلفائه _33_

  ويبهر هذه البطولات الرائعة جميع أهل المحشر فينبري شاعر موهوب قد استولى عليه الإعجاب والإكبار فيستأذن من النبي ليتلوا ما نظمه في هذه المناسبة فيأذن له فاندفع مخاطباً للإمام :
وعلى الفراش مبيت ليلك والعدى      تُـهدي  إلـيك بـوارقاً iiورعودا
فـرقدت  مـثلوج الـفؤاد iiكأنما      تُـهدي الـقراع لسمعك iiالتغريدا
  فيقابله الرسول بابتسامته الفياضة ، ويدعو له الجميع بالمغفرة والرضوان .

اعتراض أبي بكر :
  وينبري أبو بكر فيقول : يا رسول الله ـ ألم أصاحبك حينما هاجرت من مكة وآويت معك إلى الغار حينما صممت قوى قريش ، وقد فديتك بنفسي ، فلماذا شِدتَ بابن أبي طالب وأهملت مقامي ودفاعي عنك ؟ وينبري إليه الرسول قائلا : « وأنت يا أبا بكر عندما صحبتني إلى الغار بلغ بك الخوف إلى قرار سحيق ، وقد بذلت جميع جهودي لمحو الخوف عن نفسك ، وقد ضمنت لك السلامة وعدم إصابتك بأي شيء ، مما تخاف منه فلم يؤثر ذلك فيك حتى نزل فيك قول الله سبحانه « ألا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا هي السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم » .
  فخصّني اليه بسكينته ، وبقيت انت بحزنك ووجلك وخوفك .
  ويسكت أبو بكر ، ويسود وجم رهيب على الجميع فينبري الأزري يشق الصفوف ، فيستأذن من النبي لينشد قصيدته الغراء فأذن له ، فيقول :
أو  مـا يـنظرون ماذا iiدهتهم      قـصة الغار من مساوي iiدهاها
يوم طافت طوائف الحزن حتى      أوهـنت من جني عتيق iiقواها

الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله مع خلفائه _34_

  إلى أن يقول :
اين هذا من راقد في فراش الم      صـطفى يسمع العدى iiويراها
فـاستدارت  بـه عتاة iiقريش      حيث دارت بها رحى iiبغضاها
وأرادت بــه مـكائد iiسـوء      فـشفى  الـلّه داءهـا iiبدواها
ورأت قسوراً لو اعترضته iiالإ      نـس  والجن في وغما iiأفناها
  ويعلو التكبير والتهليل من جميع جنبات القيامة ، وترفع الأيدي بالدعاء له ، ويمنح الشاعر الكبير ، وسام الشرف لمواهبه الفذة التي صرفها في خدمة أهل البيت عليهم السلام .

علـمه :
  ومما أمتاز به الامام أمير المؤمنين على بقية الصحابة سعة علمه ، ووفور فقهه ، ودرايته باحكام التنزيل ، وأحاطته باسرار التشريع ، فهو وارث علمي وقد فتق أبواب العلوم ، ودلل على قواعدها وأصولها بعد ما كان الناس يجهلون منها كل شيء ، ويلتفت النبي ( صلى الله عليه وآله ) الى المجموعة الهائلة من الناس فيقول لها : لقد خلّفت علياً في أمتي ليوضح لها معالم الدين , ويبني لها أحكام التنزيل ، ولو ثنيت له الوسادة من بعدي لأفتى أهل الإنجيل بانجيلهم ، واهل الزبور بزبورهم ، واهل الفرقان بفرقانهم ، وساد العلم ، وانتشرت آفاق المعرفة ، ولكن الصدر الأول من امتي حرموا أنفسهم ، وحرموا الاجيال الصاعدة من بعدهم من الانتهال من غدير علمه ، والاستفادة من مكنونات فضائله التي حباه الله بها ، وقد أعلنت لجميع المسلمين ، وقلت لهم : « أنا مدينة العلم وعلي بابها ، فمن أراد المدينة فليأت الباب . » (1) .

-------------------------
(1) مستدرك الصحيحين 3 / 126 ، تأريخ الخطيب 4 ـ 348 ، تهذيب التهذيب 6 ـ 320 ، فيض القدير 3 ـ 46 ، مجمع الزوائد 9 ـ 114 .

الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله مع خلفائه _35_

  وأشدت بمواهبه وفضائله فقلت في حقه « أنا دار الحكمة وعلي بابها » (1) ، وقد عهدت إليه أن يبين لأمتي ما اختلفت فيه من بعدي فقلت له : « أنت تبين لأمتي ما اختلفوا فيه بعدي . . . »(2) ، وهو أعلم أمتي بشؤون القضاء وأحكامه ، وأدرى منهم بغوامضه ، وقد قلت فيه : « علي أقضى أمتي » (3) ، وقد رجع إليه أبو بكر في كثير من المسائل التي لا دراية له بها (4) ، وكذلك رجع إليه عمر حتى قال : « لولا علي لهلك عمر » (5) وقال : ( اللهم لا تنزل بي شدة إلا وأبو الحسن إلى جنبي ) (6) ، وكذلك رجع إليه عثمان فيما خفي عليه من أمور القضاء وغيره (7) ، ومع توفر علمه ، وإحاطته بشؤون الدين ، وأحكام الله ، فهل يصح لي أن أرشح غيره لمنصب الخلافة والإمامة ، والله تعالى يقول : « هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون » .

زهـده :
  وعلي أمير المؤمنين أزهد أمتي ، وأكثرهم إعراضاً عن مباهج الحياة وملاذّها وفتنها ، فإنّه حينما آل إليه أمر المسلمين لم يستأثر شيء من أموالهم ، ولم يضع لبنة على لبنة ، ولم يعد لبالي ثوبه اهتماماً ، قد اكتفى من دنياه بطمريه ، ومن طعامه بقرصيه ، وهو في جميع أدوار حياته على سمت واحد في الاستقامة والزهد وقد خاطب دنياه بقوله : « إليكِ عني يا دنيا فحبلك على غاربك ، قد انسللت من مخالبك وأفلت من حبائلك ، وأجتنبت الذهاب في مداحضك » .

-----------------------
(1) صحيح الترمذي 2 ـ 96 ، الحلية 1 ـ 64 ، كنز العمال 6 ـ 401 ، تأريخ الخطيب 11 ـ 204 .
(2) مستدرك الصحيحين 3 ـ 122 ، كنوز الحقائق ص 188 ، الحلية 1 ـ 63 .
(3) الاستيعاب 1 ـ 28 ، الرياض النضرة 2 ـ 88 .
(4) الرياض النضرة 2 ـ 224 ، كنز العمال 3 ـ 301 .
(5) فيض القدير 4 ـ 356 .
(6) كنز العمال 3 ـ 53 ، الرياض النضرة 2 ـ 194 .
(7) موطأ الإمام مالك ص 36 ، سنن البهيقي 7 ـ 419 .

الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله مع خلفائه _36_

  وقد صمم على أن لا ينقاد لدواعي الهوى والغرور فقال : « وأيم الله يميناً استثنى فيها ـ بمشيئة الله ـ لأروضن نفسي رياضة تهش معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوماً ، وتقنع بالملح مأدوماً ، ولأدعن مقلتي كعين ماء نَضبَ معينها مستفرغة دموعها . . . » (1)لقد عاش أمير المؤمنين عيشة الفقراء البائسين مقتدياً بهداي ومستناً بسنتي لم يتحل من دنياه بطائل إلا بغمر الناهل (2) وروعة سورة الساغب (3) فهل من العدل أن أُرشح غيره لمنصب الخلافة ؟ وهل من المنطق أن يؤتمن على دماء المسلمين ، وأموالهم وسائر إمكانياتهم غير الاعفِاء المتحرجين في دينهم الزاهدين في دنياهم ؟ وقد علم المسلمون ما حل بهم من الأحداث والخطوب من جراء ما آل اليه أمر الخلافة إلى اللصوص والسفاكين من ملوك بني أمية وبني العباس ،لقد احتطت لأمتي ، ووضعت لها المنهاج السليم الذي يقيها من الفتن والإنحراف ، ويحميها من الإنقلاب والزيغ فجعلت عترتي ولاة الأمر من بعدي ، ودللت عليهم فقلت : « إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم لن تضلّوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ولن يفترقاحتى يردا عليَّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما » .

-----------------------------
(1) نهج البلاغة محمد عبده 3 ـ 82 ـ 83 .
(2) غمرة الناهل : أي ري الظمآن .
(3) روعة سورة الساغب : كسر شدة الجوع .

الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله مع خلفائه _37_

  وقلت فيهم :(1) « إنما مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق ، وإنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حِطة في بني اسرائيل من دخله غفر له . . » (2) ، وقلت : « من سرّه أن يحيا حياتي ، ويموت مماتي ، ويسكن جنة عدن غرسها ربي فليوالي علياً من بعدي ، وليوال وليه ، وليقتد بأهل بيتي من بعدي فإنّهم عترتي ، خلقوا من طينتي ، ورزقوا فهمي وعلمي فويل للمكذبين بفضلهم من أمتي ، القاطعين فيهم صلتي لا أنالهم الله شفاعتي » (3) .
وقلت أكثر من ذلك في حقهم ، ولكن القوم قد أعاروا قولي أُذناً صماء ، فقد خدعتهم الدنيا إلى قهر أهل بيتي وظلمهم .

عـدلـه :
  والإمام أمير المؤمنين من أروع مظاهر العدل ، فهو أول حاكم في المسلمين صمد في وجه الأعاصير لم تخدعه السلطة ، ولم يغره السلطان عن تطبيق العدل حتى قال كلمته الخالدة : « ولا تزيدني كثرة الناس حولي عزّة ، ولا تفرقهم عنّي وحشة ، وما أكره الموت على الحق » ، ـ لقد طبّق العدل ، ورفع مناره في أيام حكمه ومن مظاهر عدله أن أخاه عقيل قد جائه من يثرب تحف به صبيته ، قد كساهم الفقر بروداً من ألبسته البغيضة فتركتهم أشباحاً علاهم الأسى والذبول كأنما سودت وجوههم بالعظلم ، قد قادوا أباهم وقد أحاطت به الهواجس وألّمت به الشجون ، وقل ظن أن امير المؤمنين سوف ينفق عليه من اموال المسلمين ويملأ جيوبه بالأموال ويزخر له بالعطاء ، فما كان من ابن ابي طالب رائد العدالة الكبرى الا ان احمى له حديدة جعلته يئن من ألمها ويضجر من حدها ، فخار تحتها كما يخور الثور تحت جازره ، وهرب عقيل تاركاً أخاه يفتش عن مغنم يحوز به الثراء .

------------------------
(1) صحيح الترمذي 2 ـ 308 ، أسد الغابة 2 ـ 12 .
(2) مجمع الزوائد 9 ـ 168 ، مستدرك الحاكم .
(3) كنز العمال 6 ـ 217 .

الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله مع خلفائه _38_

  لقد تنكر امير المؤمنين لجميع العواطف والأهواء التي يخضع لها الناس في سبيل إقامة العدل ، وتشييد صروحه ، وقد قصده عبد الله بن جعفر ختنه على زينب ابنة فاطمة الزهراء حبيبتي وبضعتي قاصداً من يثرب لأجل ان يوفر له في العطاء ، ويمنحه الأموال فزجره ، ولم يعن به ، إن امير المؤمنين ينبوع العدل ، ومفجر طاقاته ، وليس في تأريخ الإسلام حاكم مثله في عدله ومساواته ، وقد اراد ان ينعش القلوب البائسة الحزينة بمساواته ، وينصف المظلومين بعدله ، ويقيم حكم الله في ارضه ،لم يكن يبغي السلطة لذاتها ولا لاطماعها ، واندفاعتها ، وإنما كان يرومها ليؤسس معالم العدل ، ويقيم معاهد التربية الصالحة للانسان ، إن ابن ابي طالب صديق المحرومين والبائسين ، وملجأ المظلومين والمضطهدين ، ورفيق المثكولين ، وحميم المعذبين ، وملاذ المنكوبين ، يقول النبي ( صلى الله عليه وآله ) : وقد نصبته على امتي خليفة من بعدي لتزدهر به حياة المسلمين ، ويأمن المظلومون ، وتقام به حدود الله على المعتدين ، وليس في امتي شخص احرص من ابن ابي طالب على إقامة العدل وتوطيد اركان المساواة ، ورفع مستوى الأمة في جميع مجالاتها .

مواقفـه المشرفـة :
  ووقف الإمام أمير المؤمنين يدافع عن الاسلام ، ويحمي جانبي وليس في عموم اصحابي مثله في اندفاعه ، وانطلاقه في ميادين الجهاد ، فقد قذف نفسه في لهوات الحروب ، وخوض الغمرات لرفع كلمة الله ، فما من راية رُفِعَت للجاهلية إلا حطّمها علي بسيفه ، وما من جيش انبرى ليطفىء نور الإسلام إلا انبرى إليه أمير المؤمنين ففل عروشه ، وجندل أبطاله ، ويتلو النبي ( صلى الله عليه وآله ) المواقف الرائعة التي وقفها الإمام في الذب عن حياض الاسلام وهي.

الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله مع خلفائه _39_

واقعـة بـدر :
  وكان للإمام أمير المؤمنين عليه السلام في وقعة بدر القدح المعلى ، والنصيب الأوفى ، وكان لي نصيراً ، وللاسلام عزّاً وللمسلمين وقاية وجُنًة ، فكان الفتح على يده وكانت أكثرية القتلى بسيفه، لقد أظهر أمير المؤمنين في واقعة بدر من البطولة والجلد ، ما يبهر الألباب ، فقد أذل قريشاً ، وأعز الاسلام ، وأبلى بلاء حسناً فكان المسلمون في هذه المعركة ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، ومعهم فرسان ، وسبعون بعيراً ، وكان المشركون تسعمائة وخمسين مقاتلا يقودون معهم مائتي فرس وسبعمائة بعير ، فجندل على أصحاب الألوية ، وقتل من المشركين خمسة وثلاثين وشارك المسلمين وأعانهم على قتل من قتلوه ، وقد قتل من الأمويين حنظلة بن أبي سفيان ، والعاص بن سعيد بن العاص بن أمية ، والوليد بن عتبة صهرهم أخي هند زوج أبي سفيان ، وعقبة بن أبي معيط أبي الوليد أخي عثمان لأمه ، وقتل من بني مخزوم سيدهم وزعيمهم أبا جهل الحكم بن هشام ، يقول النبي ( صلى الله عليه وآله ) : وقد أبصرت جماعة من مشركي قريش فقلت له : احمل عليهم فحمل عليهم ففرق جمعهم ، وقتل عمرو بن عبد الله الجهمي ، وأبصرت جماعة آخرين من مشركي قريش فقلت له : احمل عليهم فحمل عليهم وفرقهم وقتل شيبة بن مالك ، فقال جبرائيل مبتهراً : « يا رسول الله إن هذه المواساة » فقلت له : « إنه مني ، وأنا منه » ، فقال جبرائيل : ( وأنا منكما ) .

الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله مع خلفائه _40_

  ونادى ملك في السماء « لا سيف إلا ذو الفقار ، ولا فتى إلا علي » (1) ، لقد نازل علي أقوى قرومهم ، وثل عروشهم ، وحطم جبروتهم ، وأنصرفوا يجرون رداء الخيبة والخسران منهزمين قد عراهم الذل ، وعلاهم الخزي والأنكسار ، ويقوم الازري فيتلو على أهل المحشر مقطوعته الرائعة التي يصف بها بطولة الأمام ودفاعه المشرف عن الاسلام في هذه المعركة الحاسمة من تاريخه ، فيقول :
وبـه  اسـتفتح الهدى يوم بدر      مـن  طغاة أبت سوى iiطغواها
صب صوب الردى عليهم هُمام      ليس  يخشى عُقبى التي iiسواها
يـوم جاءت وفي القلوب iiغليل      فـسقاها حـسامه مـا iiسـقاها
جـاء بـالسيف هـادياً iiللبرايا      حـيث لـم يثنها الهدى iiفهداها
مـن  تـلقي يد الوليد iiبضرب      حـيدري  بـرى اليراع iiبراها
  ويدعو الجميع للشاعر العظيم ، ويقابل بالإكبار والتقدير ويمنح وسام الحب لآل البيت عليهم السلام .

-----------------------
(1) تاريخ الطبري 2 ـ 197 ، الرياض النضرة 2 ـ 190 .

الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله مع خلفائه _41 _

معركـة أحـد :
  وواجه الاسلام بعد معركة بدر قوى قريش الحاقدة على الاسلام فقد خفت لتثأر لقتلاها في يوم بدر ، وتمحو عنها عار الهزيمة التي أصابتها ، ويقص النبي ( صلى الله عليه وآله ) صورة موجزة عن تلك الواقعة الرهيبة ، فيقول لهم : كنت نزلت يوم أحد بأصحابي وهم سبعمائة في عدوة الوادي وجعلت ظهري الى الجبل ، وكان المشركون ثلاثة آلاف فيهم سبعمائة دارع ، ومائتا فارس ، وكان معهم خمسة عشر أمرأة ، وفي المسلمين مائتا دارع وفارسان ، وقبل أن يتهيأ الجيشان للقتال صنعت خطة حكيمة فيها النصر للمسلمين والهزيمة للقوى الغادرة ، فقد تركت أحداً خلف ظهري ، وجعلت ورائي الرماة وهم خمسون رامياً ، وقلت لهم : انضخوا عنا الخيل بالنبل لا يأتونا من خلفنا . واثبتوا مكانكم ، إن كانت لنا أو كانت علينا فإنا إنما نؤتى من هذا الشعب .
  وخرج صاحب لواء المشركين ينادي : يا أصحاب محمد إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار ، ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة فلم يجيبه أحد من المسلمين سوى علي فانبرى إليه ، فضربه فقطع رجله ، وانكشفت عورته ، فناشده الله ، فتركه ، فصار يخور بدمه ، حتى هلك ، ولما رأيت ذلك كبّرت وقلت : ( كبش الكتيبة ) وكبّرالمسلمون بتكبيري وقلت لعلي ـ ما منعك أن تجهز عليه ؟ ـ ناشدني الله والرحم فاستحييت منه ، واندفع شجعان المشركين حاملين اللواء فأبادهم علي واحداً بعد واحد ، وبقي اللواء مطروحاً لا يدنو منه أحد فانطلقت إليه امرأة حارثية فرفعته ، فاجتمعت قريش حوله ، وأخذه عبد لبني عبد الدار كان من أشد الناس قوة ، وفتكاً ، فبرز إليه علي فضربه ضربة تركه يعالج مصرعه ومنيته ، واقتتل الناس قتالاً شديداً ، وقد أبلى علي وعمي حمزة ، وأبو دجانة الأنصاري بلاء حسناً ، وأنزل الله نصره على المسلمين ، وكانت الهزيمة الساحقة للمشركين ، وانعطف عليهم المسلمون ينهبون أمتعتهم ، فلما نظر إليهم إخوانهم المجاهدون الذين أقمتهم في الجبل وألزمتهم أن لا يريحوا عنه ، آثروا النهب على البقاء ، ونسوا ما أمرتهم به .

الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله مع خلفائه _42_

  وحينما رأى خالد بن الوليد قلة من بقي من الرماة حمل عليهم فقتلهم ، وشد بمن معه على أصحابي من خلفهم ، وتبادر المنهزمون من المشركين بنشاط بالغ مستأنفين للقتال يحاولون أن يمحوا عنهم عار الهزيمة ، فحملوا على المسلمين فقتلواسيداً من أبطالهم وهو أسد الله وأسد رسوله عمي حمزة بن عبد المطلب ، وانهزم المسلمون شر هزيمة ، ولم أجد بداً من ان أقاتل بنفسي فرميتُ بالنبل حتى فني ، وانكسرت سجنة قوسي ، وانقطع وتره ، واصبت بجرح في وجنتي ، وآخر في جبهتي ، وكسرت رباعيتي السفلى ، وشقت شفتي ، وعلاني ابن قمئة بالسيف ، وكنت ادعو المسلمين إلى الثبات وعدم الفرار قائلاً لهم : « من كرَ فله الجنة » ولكنهم لا يلوون على احد وكان من المنهزمين عثمان بن عفان ، وجاشت نفس عمر من الوجل والرعب ، ومعه طلحة ، فرغبا ان يأتيهم عبد الله بن ابي سلول بأمان من ابي سفيان قبل ان يقتلوهم فقال لهم انس بن النضر ، وهو من خِيار أصحابي : « يا قوم إن كان محمد قد قتل ، فإن رب محمد لم يقتل ، فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد ، اللهم إني اعتذر إليك مما يقول هؤلاء » .
  ثم قاتل حتى استشهد ، ومضى القتال حامياً عنيداً ، وقد أحيط بي ، فانبرى علي ومعه خمسة من خيار الأنصار يذبون عني ، وقد استشهدوا ، وتترسني أبو دجانة بنفسه ، وجعل نفسه وقاية دوني فكان يقع النبل على ظهره وهو منحني عليَّ ، وقاتل دوني مصعب بن عمير فاستشهد ، قتله ابن قمئة الليثي ، هو يظنه إياي فرجع إلى قريش رافعاً عقيرته ، وهو يقول : قُتل محمد . . . قُتل محمد ، فلما سمع المسلمون أوغلو في الهرب على غير هدى ورشد ، وكان أول من عرفني كعب بن مالك فنادى بأعلى صوته « يا معشر المسلمين : هذا رسول الله حي لم يقتل » ، فأشرت إليه بالسكوت مخافة أن يسمع العدو فيهجم عليَّ ونهض سليل هاشم وفتى الاسلام علي ، ومعه جماعة حتى خلصوا بي إلى الشعب ، فتحصنت به ، وهم يحيطون بي ، ويدافعون عني .

الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله مع خلفائه _43_

  وأبصرت وأنا في الشعب جماعة من المشركين يترقبون الوقيعة بي فقلت : لعلي احمل عليهم فحمل عليهم ، وفرقهم ، وقتل منهم جماعة ، وأبصرت جماعة أخرى تريد الوقيعة بي فقلت لعلي اكفنيهم فحمل عليهم فانهزموا ، وقتل منهم جماعة ، وبهر جبرائيل بهذه المواساة الهائلة التي أبداها بطل الإسلام ، فقال : « يا رسول الله هذه المواساة ! ! » فقلت له : « إنه مني ، وأنا منه . . » ، فقال جبرائيل : وأنا منكما ، وسمع صوت يهتف : « لا سيف إلا ذو الفقار ، ولا فتى إلا علي »، وقد أصابت علياً في تلك الوقعة ست عشرة ضربة كل ضربة تلزمه إلى الأرض فما كان يرفعه إلا جبرائيل ، وبعد ما وضعت الحرب أوزارها تقدمت النساء المسلمات يداوين الجرحى ، فاحطن به يداوين جراحاته الصعبة ، وقلن لي : « يا رسول الله لا نعالج منه جرحاً إلا انفتق جرح آخر » ، فاقتربت منه فرأيت جراحاته تشخب دما، فقلت فيه : « إن رجلا لقي هذا كله في سبيل الله لقد أبلى وأعذر » ، لقد وقف علي في موقعة أُحد بجأش ثابت ، وبنفس جياشة لم يدخله خوف ولا رعب ، مشمراً كادحاً ، قد وهب حياته لله ، ولنصرة هذا الدين ، ولما انتهت الحرب فتشت عن عمي حمزة ، فأخبرت بأنه قد استشهد ، فهرعت إليه فرأيته ، وقد مثلت به هند فأخذت من أذنيه ، وأنفه ، وأصابع يديه ، ورجليه ، ومذاكيره فجعلتها قلائد ، ومعاضد ، وبقرت كبده فلاكتها إلا أنها لم تسغها ، وكذلك فعلن صويحباتها مع الشهداء ، وقد أظهر أبو سفيان خبث سريرته ، فقد طعن أسد الله وهو ميت .

الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله مع خلفائه _44_

  ويعم البكاء والأسى جميع أهل المحشر ، وتعلو الصرخة على ما لاقاه سيد الشهداء من التمثيل والتنكيل ، وينطلق الأزري ، وهو رافع عقيرته ليتلو على أهل المحشر رائعته التي يصف بها جهاد أمير المؤمنين ، وعظيم بلائه في موقعة أُحد فيقول :
وبـأحد  كـم فـل آحاد iiشوس      كـلما أوقـدوا الـوغى iiأطفاها
يـوم  دارت بـلا ثـوابت iiإلا      أسـد الله كـان قـطب iiرحاها
كـيف  لـلأرض بالتمكن iiلولا      أنـه  قـابض عـلى أرجـاها
ربّ سمر القنا وبيض المواضي      سـبَّحت بـاسم بـأسه iiهيجاها
يـوم  خـانت نبالة القوم iiعهداً      لـنبي  الـهدى فـخاب iiرجاها
وتـراءت لـهم غـنائم iiشـتى      فـاقتفى  الأكـثرون إثر iiثراها
وجـدت  أنـجم الـسعود عليه      دائـرات  ومـا دَرَت iiعـقباها
فـئة  ما لوت من الرعب iiجيداً      إذ دعـاها الـرسول في اخرها
وأحـاطت بـه مذاكي iiالأعادي      بـعدما أشـرفت على iiاستيلاها

الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله مع خلفائه _45_

فـترى ذلك النفير كما iiتخب      ط  في ظلمة الدجى iiعشواها
يـتمنى الـفتى ورود iiالمنايا      والمنايا لو تشترى لا شتراها
قد أرتها في ذلك اليوم iiضربا      لو  رأته الشبان شابت iiلحاها
وكـساها العار الذميم iiبطعن      من  حلى الكبرياء قد أعراها
يوم سالت سيل الرمال iiولكن      هـب فـيها نـسيمه فذراها
ذاك يـوم جـبريل أنشد فيه      مـدحاً  ذو الـعلى له iiأثناها
لا فـتى في الوجود إلا iiعلي      ذاك شـخص بمثله الله iiباها
لا تـرم وصـفه ففيه iiمعان      لـم يـصفها إلا الذي iiسوّها
  وتعلو عاصفة من التهليل ، وترفع الأكف بالدعاء إلى الشاعر الكبير ، وتضاف إلى أوسمته وسام آخر .

الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله مع خلفائه _46_

واقعـة الخندق :
  لقد خرجت قريش بعد واقعة أُحد وهي ظافرة منتصرة ، وقد طمعت في محاربة المسلمين حرب إبادة وقضاء لتقلع جذور العار الذي لاحقها يوم بدر ، وتضيف إلى انتصارها إنتصاراً آخر . وقد صممت على قلع جذور الاسلام ومحو سطوره ، فقد تجمعت أحزاب قريش وأحابيشها ، وانضم إليها أحلافها من يهود يثرب فكان عدد الجميع أربعاً وعشرين ألفاً تحت قيادة أبي سفيان ، وحينما علمت بتوجههم إلى يثرب جمعت أصحابي وعرضت عليهم الخطر المحدق بنا فأشار سلمان الفارسي وهو من خيرة أصحابي ورعاً وتقوى ، واصالة رأي وعمق في التفكير فأشار عليَّ بحفر الخندق ، ولم تكن هذه الوسيلة معروفة في الجزيرة العربية ، فشرع أصحابي في حفر الخندق ، وقد أنجزوا هذا العمل المجهد الشاق في ستة أيام ، وكان علي من أكثرهم عناء وجهداً في هذا العمل العظيم .
  ولما انتهى المسلمون من عملهم أقبلت قريش بأحلافها وأحزابها ، فنزلت بمجتمع الأسيال ، ونزلت غطفان ومن تَبِعهم من أهل نجد في جانب أحد ، وكان الخندق أمامهم ، وقد استحال عليهم عبور الخندق ، وقد نقض اليهود عهدهم معي ، وقد حوصرت المدينة ، وطال الحصار ، وقد ضاق بعض فرسان المشركين طوال البقاء فانبرت طائفة من شجعانهم لعبور الخندق ، ومناجزة المسلمين ، وكان أول من عبر الخندق عمرو بن عبد ود فارس المشركين ، وبطلهم المعُلّم ، ومعه عكرمة بن أبي جهل ، ونوفل بن عبد الله بن المغيرة ، وهبيرة بن أبي وهب ، ومنية بن عثمان ، وضرار بن الخطاب الفهري ، وقد اختاروا من الخندق موضعاً ضيقاً فأكرهوا خيولهم على اقتحامه فلما صاروا إلى ساحة المعركة ، أخذوا يجولون فيها وينادون : « يا أصحاب محمد هل من مبارز » ؟وكان من أشدهم حماساً واندفاعاً إلى الحرب عمرو بن ود ، فقد ملأ الفضاء بصوته يطلب المبارزة من المسلمين فكانت كلماته كنداء الموت فما سمعها أحد إلا رجف قلبه وانهارت قواه ، ولم يلبّ نداءه إلا ربيب الوحي ، والسابق للاسلام الأمام أمير المؤمنين ، وكان حدث السن في غضارة الشباب ، ولما برز إليه علي قلت : « برز الإيمان كله إلى الشرك كله » .

الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله مع خلفائه _47_

  وانطلق إليه علي فقال له : قد كنت تعاهد الله لقريش أن لا يدعوك رجل إلى خصلتين إلا قبلت أحدهما،فأجابه عمرو : أجل ، فأجابه أمير المؤمنين إني أدعوك إلى الله عزّ وجلّ ، وإلى رسوله ، وإلى الاسلام، فأخذته العزّة بالاثم فرد على أمير المؤمنين قائلا : ولا حاجة لي في ذلك » ، فطلب منه علي الخصلة الثانية فقال له : فإني أدعوك إلى البراز ، ـ يا ابن أخي لمَّ ؟ فوالله ما أحب أن أقتلك ،ـ ولكني والله أحب أن أقتلك وتصاول أسد الله وربيب الوحي مع بطل الجزيرة ، فضرب عمرو علياً فأتقاها بدرقته فضرب الدرقة ففلقها وأثبت فيها وأصاب رأسه فشجه ، وضربه علي على حبل العاتق فأرداه صريعاً يخور بدمه ، وعلا صوت علي بالتكبير والتهليل وتلاه هتاف آلاف من معسكر المسلمين ، وقلت في تلك المبارزة الخالدة التي كُتِبت فيها الهزيمة لجيش المشركين ، واندحار قواهم : « لمبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن ود يوم الخندق أفضل من أعمال أمتي إلى يوم القيامة . . » (1) وعندئذ فرَّ المشركون ناكصين لم يلووا على شيء متلفعين بعار الهزيمة والخزي ، ويقوم الأزري فيتلو على المجتمع ما نظمه في هذه المناسبة الخالدة يقول :

-------------------------
(1) تاريخ الطبري 2 ـ 197 ، الرياض النضرة 2 ـ 190 .

الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله مع خلفائه _48_

يـوم غصت بجيش عمرو بن ود      لـهوات  الـفلا وضـاق iiفضاها
وتـخطى  إلـى الـمدينة iiفـرداً      بـسـرايا عـزائـم iiسـاراهـا
فـدعاهم  وهـم ألـوف iiولـكن      يـنظرون  الـذي يـشب iiلظاها
أي  أنـتم عـن قـسور iiعامري      تـتقي  الأسـد بـأسه في شراها
فـابتدى  الـمصطفى يُحدّث iiعما      يـؤجر الـصابرون فـي iiأخرها
قـائـلا  إن لـلـجليل جـنـاناً      لـيس  غـير الـمجاهدين iiيراها
أيـن  من نفسه تتوق إلى الجنات      أو  يــورد الـجـحيم iiعـداها
مـن لعمرو وقد ضمنت على iiالله      لــه مــن جـنـانه iiأعـلاها
فـالتووا  عـن جـوابه iiكـسوام      لا تـراها مـجيبة مـن iiدعـاها
وإذا  هــم بـفـارس iiقـرشي      تـرجف  الأرض خيفة إذ iiيطاها
قـائلا مـا لـها سـواي iiكـفيل      هــذه ذمــة عـلـى iiوفـاها
ومـشى  يـطلب الـصفوف كما      تمشي خماص الحشى إلى مرعاها
فـانـتضي  مـشـرفيه iiفـتلقى      سـاق  عـمرو بـضربة iiفبراها
وإلـى  الـحشر رنة السيف iiمنه      يـملأ  الـخافقين رجـع iiصداها
يـا  لـها ضربة حوت iiمكرمات      لـم يـزن ثـقل أجـرها iiثقلاها
هـذه  مـن علاها إحدى iiالمعالي      وعـلى هـذه فـقس مـا iiسواها
  وتقابل هذه الرائعة بكثير من الاستحسان ، ويدعو له الجميع بالمغفرة والرضوان .

الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله مع خلفائه _49_

غزوة خيـبر :
  وتجمع اليهود بعد الهزمات التي لاحقتهم في حصن خيبر ، وهو من أقوى حصونهم ، وأمنعها ، ففيه البساتين ، والزروع ،وفيه الأبطال والأفراس ، وأخذوا يكيدون للمسلمين ، وينفقون الأموال سراً للمشركين على مناهضة الاسلام ، فهبط الوحي عليَّ بدك هذا الحصن ، وبغزو اليهود . حتى تفلل هذه القاعدة التي هي من أخطر القواعد العسكرية على الإسلام ، ويأخذ الرسول ( صلى الله عليه وآله ) يتلو على أهل المحشر كيفية فتح هذا الحصن على يد بطل الاسلام ، وأسد الله الإمام أمير المؤمنين عليه السلام فيقول : لقد بعثت أبا بكر ومعه الجند لفتح هذا الحصن فلم يلو أن رجع منهزماً لم يستطع أن يثلم في أسواره ثلمة ، ورجع ملىء إهابه الخوف والفزع ، فندبت في اليوم الثاني عمر بن الخطاب ، وعقدت له لواء الحرب ، فرجع منهزماً قد استولى عليه الذهول والفزع ، ولم يُصب من الحصن شيئا ، فقلت للجيوش الحافلة من المسلمين: « لأُعطين الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله ، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه . . » فتطلع المسلمون إلى أي فتى أو بطل تعطى الراية ، ولم يدُر في خلَدِهم أني سأعطيها إلى علي لأنه كان أرمد العين .
  ولما أصبح الصبح هرع المسلمون يتطلعون إلى معرفة ذلك البطل الذي أمنحه الراية ، ويكون الفتح على يده ، وبعد أن تم عدد الجيش واستوت صفوفهم قلت : « أين علي بن أبي طالب ؟ »، فانبرى إليّ قائلاً : « ها أنا ذا يا رسول الله » ،وأقبل علي وهو يشكو رمد العين ، فبللت يدي من ريقي ومسست بها عينه ، ودعيت بالراية ، وقلت له : « خذ هذه الراية فامض بها حتى يفتح الله عليك » ، وانطلق علي نحو الحصن تحف به جنود المسلمين ، فلما رأته اليهود دخلوا الحصن ، وأغلقوه باحكام ، وقد تركوا خارج الحصن أبطالهم وحماتهم يحمونه ، وفي طليعتهم مرحب فارسهم المعُلّم فشدَّ عليهم علي ، وصار ينثر الموت بينهم ، وهم يهوون صرعى بين يديه ، ورأى علي أن لا درع معه ، فاندفع نحو باب الحصن ، وكانت من حجر الرحى يغلقها ويفتحها أربع وأربعون فاقتلعها ، وجعلها ترساً له .

الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله مع خلفائه _50_

  وقد قتل مرحباً ، وقتل الحارث من قبل ، وقد جعل باب خيبر جسراً يعبر عليه المسلمون ، وقد تم الفتح على يديه ، وجعل الله النصر بقيادته ، وقد انكسرت شوكة الكفر ، وانحسرت روح الوثنية بفتح هذا الحصن ، ودخل الرعب والفزع على جميع المشركين ، وكان من أقوى الأسباب لدخول المسلمين غازين وفاتحين لملكه، وانطلق الشاعر الموهوب الازري ، وكان قريباً من النبي فطلب منه الاذن ليتلو رائعته التي وصف بها هذا الحادث الخطير .
ولـه  يـوم خـيبر iiفـتكات      كـبرت منظراً على من iiرآها
يـوم قـال الـنبي iiلأعـطي      رايـتي لـيثها وحامي iiحماها
فـاستطالت  أعناق كل iiفريق      لـيروا  أي مـاجد iiيـعطاها
فـدعا أين وارث العلم iiوالحلم      مـجير  الأيـام مـن iiبأساها
أيـن  ذو النجدة الذي iiلودعته      فـي  الـثريا مـروعة iiلباها
فـأتاه  الـوصي أرمـد عين      فـسقاه مـن ريـقه iiفـشفاها
ومضى يطلب الصفوف فولّت      عـنه  عـلماً بـأنه iiأمضاها
ويـرى  مـرحباً بكف اقتدار      أقـوياء الأقـدار من iiضعفاها
ودحـا  بـابها بـقوة iiبـأس      لـو حمتها الأفلاك منه iiدحاها

الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله مع خلفائه _51_

غزوة بني قريظة :
  لقد استطاع الإسلام بعد واقعة الخندق أن يسير إلى الأمام قد دخل الرعب والفزع في جميع نفوس الحاقدين عليه من اليهود والمشركين ، لقد كانت بنو قريظة قد نقضت العهد الذي كان بينها وبيني وذلك لتحريض من « حي بن أخطب » ، وأخذ النبي ( صلى الله عليه وآله ) يتلو بايجاز تفصيل هذه الغزوة فيقول : لما انتهت معركة الخندق ، وعاد المشركون قد أذلهم الله وأخزاهم ، ولما رجعت إلى يثرب أوحي إلي أن أسير إلى بني قريظة ، أمرت أن ينادي المنادي بين المسلمين « من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة » ، فسرت إليهم بجميع من كان معي ، وكان عددهم ثلاثة آلاف ، وقد عقدت الراية لعلي ، والمسلمون يتوسمون خطاه في أفواجهم الزاخرة ، فلما بلغ حصونهم سمع منهم سباً ، وقذفاً لي ، فبادر علي إلي وطلب مني أن أعسكر بعيداً عن السور إشفاقاً عليّ من سماع سبّهم وهجائهم لي، وحاصرهم علي خمسة عشر يوماً فأجهدهم الحصار ففتحوا الأبواب ، وأستولى عليهم الإمام ، ورجع وهو منتصر ظافر ، وقدأرجَعتُ أمر بني قريظة إلى سعد بن معاذ فحكم بقتل رجالهم ، وتقسيم ذراريهم ونسائهم ، وأن تكون ديارهم للمهاجرين دون الأنصار ، فأمرت علياً أن يضرب أعناقهم ، فأخرج اليهود زمراً فقتلهم ، وفيهم كعب بن أسد رئيس بني قريظة ، وحي بن أخطب رئيس بني النضير ، وقد أبادهم علي ببتاره فكانوا ستمائة شخص ، وهكذا كان أمير المؤمنين سيفاً من سيوف الله ، قد استقام به أمر الاسلام ، وبنيت قواعده ، وأسست أركانه فإنه لم يصمد أحد في تلك المعارك الرهيبة غيره ، ولم يبل احد بمثل ما ابلى به ، فقد كان دفاعه عن الاسلام مشفوعاً بروح الايمان والاخلاص لله .