وعند عودتها إلى المدينة قابلت علياً وهي تبكي أمرّ البكاء قائلة له : لولا أني أعصي الله عزّ وجلّ ، وأنك لا تقبله لخرجت معك ، فكيف رأيت أن تغريها وتخدعيها بالخروج إلى حرب وصيي وأخي وقلت لها : يا بنت أبي أمية : أنت أول مهاجرة من أزواج النبي ، وأنت أكبر أمهات المؤمنين ، وكان رسول الله يقسم لنا في بيتك ، وكان جبرئيل أكثر ما يكون في بيتك ، ولم يخف على أم سلمة خداعك فقالت لك : « لأمرّ ما قلتِ هذه المقالة ؟ » ، فصارحتيها بما أنطوت عليه نيتك قائلة لها : « إن القوم استتابوا عثمان ، فلما تاب قتلوه صائماً في الشهر الحرام ، وقد عزمت على الخروج إلى البصرة ، ومعي الزبير وطلحة ... فاخرجي معنا لعل الله يصلح هذا الأمر على أيدينا » ، فانبرت اليك أم سلمة تسدي اليك بالنصح ، وتزيف منطقك قائلة : « إنت كنت بالأمس تحرضين على قتل عثمان ، وتقولين فيه اخبث القول ، وما كان اسمه عندك إلا نعثلا ، وإنّك تعرفين منزلة علي عند رسول الله أفأذكرك ؟ ـ نعم ـ أتذكرين يوم اقبل رسول الله ، ونحن معه . . . حتى اذا هبط من قديد ذات الشمال فخلا بعلي يناجيه ، فأطال فأردت أن تهجمي عليهما فنهيتك ، فعصيتيني ، وهجمت عليهما ، فما لبثتِ أن رجعت باكية ، فقلت لكِ : « ما شأنك ؟ » .
  فقلت أتيتهما وهما يتناجيان ، فقلت لعلي : ليس لي من رسول الله إلا يوم من تسعة أيام ، أفما تدعني يابن أبي طالب ويومي ؟ فاقبل رسول الله عليَّ وهو محمر الوجه غضباً ، فقال : إرجعي وراءك والله لا يبغضه أحد إلا وهو خارج من الإيمان ، فرجعت نادمة ساخطة ، ـ نعم أذكر ذلك ـ أو أذكرك ـ نعم ـ كنت أنا وأنت مع رسول الله فقال لنا : أيتكن صاحبة الجمل الأدب (1) تنبحها كلاب الحوأب فتكون ناكبة عن الصراط ؟ فقلنا نعوذ بالله وبرسوله من ذلك ، فضرب على ظهرك ، فقال : إياك أن تكونيها يا حميراء ـ نعم أذكر ذلك ـ أو أذكرك ـ نعم ، وساقت لك حديث خصف النعل فأقررت به فقالت لك بعد ذلك : فأي خروج تخرجين بعد هذا ؟ فقلت لها : أخرج للاصلاح بين الناس (2) ، وتبالغ أم سلمة في نصحك وإرشادك إلى طريق الحق والصواب فتقول لك : يا عائشة : إن عمود الاسلام لا يستتب بالنساء إن مال ، ولا يرأب بهن إذا صدع . هاديات النساء غض الأطراف ، خضر الأعراض ، . .ما كنت قائلة لرسول الله لو عارضك باطراف الفلوات والجبال ، على قعود من الابل من منهل إلى منهل ؟ ما كنت قائلة : وقد هتكتِ حجابه الذي ضربه عليك ؟ ألا إني لو أتيت الذي تريدين ثم قيل لي : ادخلي الجَنة لا ستحييت أن ألقى الله .

----------------------------
(1) الأدب : الجمل الكثير الشعر .
(2) شرح النهج 2 ـ 79 ، وذكر الزمخشري في الفائق 1 ـ 290 ما يقرب ذلك .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _204_

  وخرجت من مكة الى يثرب ، فلما انتهيت الى سرف (1) لقيك عبيد بن ابي سلمة ، وكان قادماً من يثرب فاستعجلتِ قائلة له : ـ مهيم (2) ،ـ قتلوا عثمان ،ـ ثم صنعوا ماذا ؟ ـ اجتمعوا على بيعة علي فجازت بهم الامور الى خير مجاز فانهارت أعصابك وخارت قواك ، وبلغ بك الحزن الى قرار سحيق ، وهتفتِ وانت حانقة مغيظة ، وبصرك يشير الى السماء ثم ينخفض فيشير الى الأرض قائلة : « ليت هذه انطبقت على هذه إن تم الأمر لابن أبي طالب ، قُتل عثمان مظلوماً والله لأطلبن بدمه » ، فذهل عبيد من منطقك الرخيص المتنافض ورد عليك باستهزاء وسخرية قائلاً : « ولم ؟ فوالله إن اول من أمال حرفه (3) لأنتِ ولقد كنتِ تقولين : اقتلوا نعثلاً فقد كفر ، فقلت له : « إنهم استتابوه ثم قتلوه ، وقد قلت وقالوا ! وقولي الاخير خير من قولي الأول . . » ، وهل كنت حاضرة حينما استتابوه ، وهل لك دراية بكيفية توبته ، وانبرى اليك عبيد فأنشدك قوله :

مـنك الـبداء ومـنك iiالغير      ومـنك  الرياح ومنك iiالمطر
وانـت  أمـرت بقتل iiالإمام      وقـلت  لـنا إنّـه قـد iiكفر
فـهبنا أطـعناك فـي قـتله      ولـم  تنكسف شمسنا iiوالقمر
وقـد  بـايع الناس ذا iiتدرؤ      يزيل الشبا ويقيم الصعر (4)
ويـلبس  لـلحرب iiأثـوابها      وما من وفي مثل من قد غدر
---------------------
(1) سرف : موضع على ستة أميال من مكة ، وقيل اكثر من ذلك وقال البخاري هو شرف ، معجم البلدان 5 / 71 .
(2) مهيم : كلمة استفهام من معانيها ما وراءك .
(3) أمال حرفه : اي أزاله عن مكانه .
(4) ذو تدرؤ : أي ذو عزيمة ومنعة : الشبا المكروه . الصعر : ميل في الوجه او في أحد الشقين : والمراد انه يقيم الشيء الملتوي .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _205_

  فأعرضت عنه وانصرفت راجعة الى مكة مكة تثيرين الأحقاد ، وتلهبين نار الثورة في النفوس ، وتدعين الى نقض بيعة علي . يا أم المؤمنين ما أدهاك كيف استطعت ان تبرئي القتلة طلحة والزبير ونفسك من دم عثمان ، وتجعلين القاتل مطالباً بثأر القتيل ؟.

اعتراف عائشة :
  ولم تجد عائشة بداً من الاعتراف بزيف اعتذراها بالمطالبة بدم عثمان ، وقد ادلت بالأسباب الواقعية التي دفعتها الى إعلان التمرد على حكومة الامام فتقول : يا رسول الله تعلم اني امرأة قوية العاطفة شديدة الغيرة ، ضعيفة الارادة ، كثيرة الانفعال ، وقد غلبت عاطفتي عقلي ، فسلكت غير الجادة ، وصممت على الانتقام من علي ، وذلك لأمور وهي :
1ـ اني لا أنسى ما أبداه من رأي عند انتشار حديث الإفك فقد أشار عليك بطلاقي ، وفكاكي عنك وقد أثار كوامن الحقد والبغضاء في نفسي ، واني لأكن له في أعماق قلبي من البغض والعداء له ما لا يعلم به إلا الله ، وكلما حاولت ان أكبس نار الوجد عليه فلم أجد لذلك سبيلاً .
2 ـ إنه مما هيج غضبي عليه شدة غيرتي على خديجة أم فاطمة زوجه ، فإني طالما كنت أقول : ما غرِت على امرأة كما غرت على خديجة ، وذلك لكثرة ذكرك لها ، وثنائك عليها ، وعندما كنت تذكرها أقول لك : « ما تذكر من عجوز حمراء الشدقين هلكت في الدهر قد أبدلك الله خيراً منها » فيتغير وجهك تغييراً ما كنت أراه إلا عند نزول الوحي فتقول لي : « ما أبدلني الله خيراً منها ، آمنت بي إذ كفر بي الناس ، وصدقتني أذ كذبني الناس ، وواستني بمالها أذ حرمني الناس ، ورزقني منها الولد ، وقد حرمته من غيرها » ، وقد دفعني حبك العارم لخديجة على كراهيتها وكراهية ابنتها التي هي أعز الناس عندك ، إنه ليس شيء أدعى لإثارة حقد المرأة من أن تجد أحداً أثيراً عند زوجها ، ومقدماً عليها ، فقد دعتني طبيعة المرأة إلى ما قدمت عليه .
3 ـ ومما كان يواري نار غضبي على علي حبك له ولا بنتك فاطمة فقد كانا يقاسماني ثلثي أوقاتي . . وكان على عريم أبي القديم ، ومنازعة سلطانه ، فلذا كانت خلافته من أثقل الأمور عليَّ ولم أستطع على أن أسكن جام غضبي عليه .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _206_

4 ـ وكنت أتوقع أن ترجع أُبّهة الخلافة والسلطان إلى ابن عمي طلحة ، حتى يؤثرني بالمال ، والجاه ، ويجعل كلمتي هي الفصل في جميع شؤون الخلافة والحكم فلذا شدت به وكانت دعوتي له .
5 ـ إني عارفة بسيرة علي وواقعه ، وهو من دون شك لا يرى لي ميزة على غيري من نساء المسلمين ، وإنه يساوي في العطاء بيني وبين غيري ، فليس عنده أحد أثيراً ولا مقدماً ، وان سياسته لا أطيقها فلذا ثرت عليه ، وأعلنت التمرد على حكومته .

استنكار النبي :
ويعلن النبي ( صلى الله عليه وآله ) إنكاره على عائشة فيقول لها : لقد سمعنا دفاعك ، وهو عار من المنطق ، وليس لتمردك أي مبرر ، فقد اسلت الدماء ، وهتكت الأعراض وأضعت الأموال ، وأيتمتِ الأطفال ، ورملت النساء ، وأوقعت الفتنة بين المسلمين ، فقد أعقب تمردك حرب صفين ، والنهروان ، وما ذنب علي حتى يستحق عندك هذا الجفاء ، وتحملين له في طيات نفسك هذا البغض والعداء ، أي عائشة لقد ظللت عن الرشاد في كراهيتك لعلي فما الذي حداك إلى التشفّي وإظهار المسرة بعد مقتله فقد سجدت شكراً لله وأنشدت :
فالقت عصاها واستقر بها النوى      كـما قـر عينا بالإياب المسافر
  أي عائشة ما الذي حداك أن تمنعين سبطي الأول وريحانتي الإمام الحسن من الدفن في جواري ، وقد كان ذلك من أغلى أمانيه وأعزّها ، فقد خدعك شياطين بني أمية فأخرجوك من دارك التي أمرك الله أن تقري فيه ، وأركبوك بغلة شهباء ، وأنت تنادين بلا اختيار، « لا تدخلوا بيتي من لا أحب !! إن دفن الحسن في بيتي لتجز هذه ـ وأومأت إلى ناصيتك » (1).

--------------------------
(1) شرح ابن أبي الحديد 4 / 18 ، تاريخ أبي الفدا ، 1 / 192 ، تاريخ اليعقوبي 1 / 200 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _207_

  وقد احتف بك بنو أمية ، وهم مدججون بالسلاح يريدون الفتنة بين المسلمين ، وعلى رأسهم مروان بن الحكم وهو ينادي :« يارب هيجاء هي خير من دعة ، أيدفن عثمان بأقصى المدينة ويُدفن الحسن عند جده لا كان ذلك أبداً . . » وما علمت أن كلامك سيؤدي إلى إراقة الدماء ، وإلى تفريق صفوف المسلمين ، وأنت ـ من دون شك ـ لا يهمك ذلك فقد أرقت يوم الجمل سيلاً عارماً من دمائهم استجابة لعواطفك المترعة بالحقد والعداء لعلي وأبنائه ، يا عائشة : متى كان بيتي بيتك أبنحلة أم بميراث ملكتيه ؟ فلماذا منع ابوك فاطمة من التصرف في فدك ، وزعم اني قلت : « نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ذهباً ولا فضة ولا داراً ولا عقاراً . . » ، إن كنت تملكتيه بالميراث فما هو مقدار حصتك منه ، إنه تسع من الثمن من نفس البناء دون الأرض لأن الزوجة لا ترث من الأرض شيئاً ، وكان الباقي وهو السبعة اثمان الباقية مع جميع الأرض لابنتي فاطمة ، فحصتك من مجموع السهام واحد من اثنين وسبعين سهماً ، وكذلك تكون نسبة سهام ضراتك ، وتكون حصة الزهراء ثلاثة وستين سهماً ، ولماذا لا تحبين ريحانتي وسبطي الأول الم تسمعِ اني قلت في حقه « اللهم اني احبه واحب من يحبه » (1)
، وقلت : « اللهم إن هذا ابني ، وانا احبه فأحبه ، واحب من يحبه » (2)
، وقلت : « من سره ان ينظر الى سيد شباب اهل الجنة فلينظر الى الحسن »(3)
، وقلت فيه : « الحسن ريحانتي من الدنيا » (4)
، يا عائشة : الم تسمع ذلك مني فلماذا لا تحبيه ، وتحقدين عليه ؟ وحلت بينه ، وبين الدفن في جواري ، فلو كان لموسى بن عمران ولد أما كان يدفن مع ابيه ، والأمر لله وهو الحاكم العدل الذي لا يجوزه ظلم ولا اعتداء معتدي ، يا عائشة أسوق اليك بعض مخالفاتك لي وهي كما يلي :
1 ـ التشكيك برسالتي :ومن غريب امرك تشكيكك برسالتي ، وذلك حينما اغضبتك فقد جابهتيني بقولك « انت الذي تزعم انك نبي » (5).

--------------------
(1) صحيح البخاري في كتاب بد ، الخلق ، صحيح الترمذي 2 ـ 307 .
(2) كنز العمال 7 ـ 104 ، مجمع الزوائد 9 ـ 176 .
(3) البداية والنهاية 8 ـ35 ، فضائل الأصحاب ص 165 .
(4) الاستيعاب 2 ـ 369 .
(5) إحياء العلوم 2 ـ 35 ، مكاشفة القلوب ص 238 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _208_

2 ـ مطالبتي بالعدل :وتعلمين اني في جميع ادوار حياتي لم اجد ، ولم اظلم ، ولم اخرج عن موازين العدل ، وقد هاجمتيني الى ابيك فقلتِ لي « يا رسول الله اقصد » (1).
  فلطمك ابوك على خدك حتى سالت الدماء من انفك وذلك لجرأتك عليَّ (2).
3 ـ تغريرك باسماء بنت النعمان : وغررت اسماء بنت النعمان الجونية ، ومكرت بها انت وصاحبتك حفصة ، عندما تزوجتها فقد دخلت عليها تخضبيها ، وحفصة تمشطها ، فقالت احداكن لها « ان النبي يعجبه من المرأة اذا دخلت ان تقول له : ( اعوذ بالله منك ) فاتخذت ذلك نصيحة وحباً لها ، فلما دخلت عليها بادرتني بذلك القول فقلت لها : « عُذت بمعاذ » وخرجت فالحقتها باهلها فماتت كمداً وحزناً (3).
4 ـ نسبة الافك لابني ابراهيم وامه : ونسبت الإفك والزور الى ابني ابراهيم وامه ، وذلك حينما دخلت عليك بولدي ابراهيم ، وكان يشبهني ، فسألت عن ذلك ، فقلت : ما رايت شبهاً ، وقد برأ الله ابراهيم وامه على يد أمير المؤمنين عليه السلام (4).
5 ـ تظاهرك وحفصة عليَّ : وتظاهرت انت وضرتك حفصة عليَّ فكشف الله سركما بقوله : « وان تظاهرا عليه فإنّ الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهيرا عسى ربه ان طلقكن ان يبدله ازواجاً خيراً منكن مسلمات مؤمنات » (5).

---------------------
(1) اقصد : أي اعدو .
(2) كنز العمال .
(3) مستدرك الحاكم 4 ـ 37 ، طبقات ابن سعد 1 ـ 104 .
(4) مستدرك الحاكم 4 ـ 39 .
(5)يرجع في تفصيل القصة الى صحيح البخاري 3 ـ 136 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _209_

6 ـ الاجتهاد بالراي :يا عائشة ما عذرك ، وما كنت تبغينه من الاجتهاد بالراي والتأوّل لكتاب الله وسنّتي ، وهي كثيرة منها اتمامك الصلاة الرباعية في السفر ، وقد شرع الله قصرها ، فلم تعن بذلك ، فقد صليتيها اربع ركعات (1) فما هي الفائدة التي جنيتيها من التلاعب باحكام الله ، اتريدين ان تكوني نبيّة ، وصاحبة شرع ، ومؤسسة احكام ؟ فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، وهو تعالى الحاكم بين عباده بالحق والعدل ، وينتهي بذلك المطاف حديث عائشة ، ونستمع الى شكوى علي .

شكوى علي:
  ويقوم صاحب الحق المغتصب أمير الله في أرضه ، وحجته على عباده سيد الوصيين ، وإمام المتقين الإمام أمير المؤمنين فيرفع شكواه إلى الحاكم العدل القوي القاهر الذي لا يجوزه ظلم ظالم ، ويسود الصمت على جميع أهل المحشر فيلقي الإمام خطبته الشقشقية : « أما والله لقد تقمّصها ابن أبي قحافة ، وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلُّ القطب من الرّحى ، ينحدر عني السيل ، ولا يرقى إليّ الطَّير ، فسدلت دونها ثوباً وطويت عنها كشحاً ، وطفقت أَرتئي بين أن أصول بيد جذَّاء أو أصبر على طخية عمياء يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربّه . . فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجى أرى تراثى نهباً . . حتى مضى الأول لسبيله فأدلى بها إلى فلان بعده ، وتمثل بقول الأعشى :
شتان ما يومي على كورها      ويـوم  حـيّان أخي جابر
---------------------------
(1) صحيح مسلم 1 ـ 258 طبع دار المكتبة العربية بمصر .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _210_

  فيا عجبا !! بيناهو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته . . لشدّ ما تشطّرا ضرعيها فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها ، ويخشن مسّها ، ويكثر العثار فيها ، والاعتذار منها فصاحبها كراكب الصعبة ، إن أشنق لها خرم ، وأن أسلس لها تقحّم ، فمني الناس لعمر الله بخبط وشماس ، وتلّون واعتراض ، فصبرت على طول المدّة ، وشدة المحنة ، حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أني أحدهم . . فيالله وللشورى متى اعترض الريب فيَّ مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النضائر لكني أسففت إذ أسفّوا ، وطرت إذ طاروا ، فصغى رجل منهم لضغنه ، ومال الآخر لصهره ، مع هن وهن ، إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه بين نثيله ومعتلفه ، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع إلى أن انتكث عليه فتله ، وأجهز عليه عمله ، وكبت به بطنته ، فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إليّ ، ينثالون عليَّ من كل جانب ، حتى لقد وطىء الحسنان ، وشق عطفاي مجتمعين حولي كربيضة الغنم ، فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة ، ومرقت أخرى ، وقسط آخرون كأنهم لم يسمعوا كلام الله تعالى حيث يقول : « تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين » بلى والله لقد سمعوها ووعوها ، ولكنهم حليت لهم الدنيا ، وراقهم زبرجها ، أما والذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر ، وقيام الحجة بوجود الناصر . وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أولها ، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز . . » .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _211_

  يا رسول الله : لقد طافت الأزمات بعد فقدك ، وتتابعت عليَّ المحن والآلام فقد انتهكت كرامتي ، والصقت خدي بالتراب ، فلم ترع حرمتي ، ولم يلحظ مقامي ، وأجمعت قريش على حربي كما أجمعت على حربك ، لقد جحد القوم بيعة الغدير ، وتنكّروا جميع ما أوصيتهم به من الود لعترتك والحب لها ، فلم تمض ثلاثة أيام على وفاتك وإذا بالقوم يحملون قبساً من النار يريدون حرق بيتي وفي البيت بضعتك فاطمة ، وأخرجوني كما يقاد البعير المغشوش لبيعة أبي بكر ، وخرجت خلفي بضعتك وهي تتعثر بأذيالها قد علاها الأسى والحزن ، فأنقذتني من شرهم ، ونجّتني من مكرهم .
  يا رسول الله : لقد لاقينا بعدك من الهوان والأسى ما لا يعلم بفضاعته ومرارته إلا الله ، فقد تقمص الخلافة شرار الخلق من بني أمية وبني العباس فصبّوا على عترتك ألواناً قاسية من المحن والنكبات ، فقد تقطعت اوصال سبطك الحسين على صعيد كربلاء ، وذبحت أطفاله ، وأبناؤه ، وأهل بيته وأصحابه ، وحملت رؤوسهم على أطراف الرماح ، ومعها حرائر النبوة وكرائم الوحي سبايا من بلد إلى بلد ، وقد شقت بنو أمية أضغانها وأخذوا بثارات بدر وحنين ، ولم ترع حرمتك ، ولا حرمتي ولا حرمة الاسلام ، وأخذت المصائب والمحن تتابع على عترتك فبين مسموم وبين سجين يطاردهم الرعب والفزع والخوف كأنهم قد جنوا ما ليس يغتفر ، وسيلقون عليك يا رسول الله سجلاً حافلاً من مصائبهم ورزاياهم ويتحدثون إليك عن أليم المصاب وفاجع الخطب الذي حل بهم فأحفهم السؤل واستخبرهم الحال فستجد قلوبا مروعة ، ونفوساً مفجوعة فنعم الحكم الله ، والزعيم محمد وعند الساعة ما يخسر المبطلون ، وينهي الإمام خطابه ، وينظر في شكايته الحاكم المطلق الذي لا يجوزه ظلم ظالم ليوفي كل نفس جزاء ما عملت « اليوم تجزى كل نفس ما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب » .