فأين أنتما عن هذه الرسائل التي ألهبت نار الثورة على عثمان ؟ حتى أحاط به الثوار وأردوه قتيلاً يتخبط بدمائه ، فلم يكن دم عثمان هو الذي دفعكما إلى الثورة على علي وإنما أطماعكم في الولاية والامرة وحبكما للثراء العريض هو الذي دفعكما الى اعلان التمرد والعصيان على علي ، واما تميزكما على سائر المسلمين واشراكه لكما في الحكم ، فإنه لم يكن له ان ينهج غير سنّتي وسياستي ، وقد عرفتم أني هدمت الحواجز بين الناس ، والغيت التمايز عملاً بقوله تعالى : « ان اكرمكم عند الله اتقاكم » وقد سار علي على نهجي في سياسته المالية والاجتماعية ، وقد عرفتماه شاباً وكهلاً لا يؤثر رضاء الناس على رضاء الله كما لم يؤثر على رضاء غيره ، فالله هو الحاكم الفصل بيننا وبينكم ، فأنتما مسؤلان عما حدث في المسلمين من النكبات والويلات ، فلولا تمردكما لما وجد معاوية الى اعلان العصيان سبيلا ، وقد اغرقتما البلاد بالفتن والخطوب والويلات واشعتم الحزن والحداد بين المسلمين ، وفرّقتما الكلمة ، وافسدتما امر الأمة .
يوجّه النبي ( صلى الله عليه وآله ) خطابه الى عائشة ، وهو حزين النفس قائلاً لها بنبرات تقطر أسى ،يا أم المؤمنين ! ،
يا من حفظت أربعين ألف حديث ! ،لماذا خرجت على أخي ووصيي ، وباب مدينة علمي ، وأبي سبطيّ ، ومن هو مني بمنزلة هارون من موسى هل استأثر علي بأموال المسلمين حتى يصلح لك الخروج على حكومته ؟
ل منح أحداً من أقربائه وابنائه بشيء من خزينة الدولة حتى يكون لك وجه في الخروج عليه ؟ كيف جاز لك أن تخرجي من بيتك ؟ وتقودين الجماهير والعساكر الى حرب عالمِي ، وقد قلت في حقه : « ان حربه حربي وسلمه سلمي » ، لقد تناسيت قول الله تعالى لنسائي : « يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى »
، كيف ساغ لكِ الخروج من بيتك ، لحرب علي وقتل ابنائك ، فقد قتل منهم يوم الجمل الأكبر في البصرة ثلاثة عشر الف من ابنائك وتابعيك فيهم طلحة والزبير ، واستشهد من اولياء علي وشيعته حوالي الألف.
فمن هو المسؤول عن تلك الدماء التي أريقت غيرك ؟ يا عائشة ما كنت تريدين بخروجك هذا ؟ أتريدين الله ورسوله والدار الآخرة ؟ أتريدين الأجر والثواب الذي أعده الله للمحسنات من نسائي إذ يقول تعالى : « وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا »
(1)، هل كنت تظنين أن بينك وبين الله هوادة فيبيح لك ما حرم على العالمين ؟ وقد ضاعف تعالى العقاب على نسائي إذا اقترفن إثماً أو أتين بفاحشة قال تعالى : « يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا »
(2)، هل رأيت أن خروجك على علي ، وشق عصا المسلمين عبادة لله ، وقنوتا له ولرسوله ، فعملت عملاً صالحاً كما قال تعالى : « وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا »
(3)، هل أردتِ بخروجكِ أن تمثلين التقوى والورع ، وتستأثرين بالعمل الصالح دون بقية نسائي حتى تكونين كما قال الله تعالى في كتابه : « يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ »
(4)، فهل خروجك على علي من التقوي والصلاح ؟ يا عائشة : هل رأيت قيادتك للجيوش سرادقاً ضربه عليك طلحة والزبير ليصوناك عن تبرج الجاهلية الاولى ، وتكونين بذلك نصب أمر الله ونهيه إذ يقول تعالى : « وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ»
(5) .
----------------------------
(1) سورة الاحزاب : آية 29 .
(2) سورة الاحزاب : آية 30 .
(3) سورة الاحزاب : آية 31 .
(4) سورة الاحزاب : آية 32 .
(5) سورة الاحزاب : آية 33 .
الرَّسُولُ الأعْظَم
صلى الله عليه وآله
مَع خُلفَائِهِ
_196_
أحسبت ان الزوجية تمنعك من عذاب الله ونقمته إذا حِدت عن طاعة الله ، وقد أنذرك تعالى وحفصة على أن لا تتكلا على الزوجية لأنها لا تنفع الطالحة وقد ضرب لكما مثلاً بامرأة نوح ، وامرأة لوط وامرأة فرعون قال تعالى : « ضرب الله مثلاً للذبن كفروا أمرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين ، وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله »
(1) وقد خّلد الله امرأة نوح وامرأة لوط في عذابه وبنى لامرأة فرعون بيتاً كريماً في فردوسه فإنه ليس بين الله وبين أحد هوادة ، وانما جعل الميزان لرضاه والفوز بجنانه هو العمل الصالح فأي شخص يتقي الله ، ويعمل للآخرة فقد أعد له منزلا كريماً ، ومن حاد عن طريقه ، وسلك غير طريق الله فهو ممن حلّت به نقمة الله وعذابه .
ياعائشة : أنت اعرف الناس بمنزلة علي عندي فهو أخي ، ووليي ، ووارثي ، ووصيي ، وإنّه مني بمنزلة هارون من موسى ، وقد سمعت قولي فيه : « اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله » ، وسمعت قولي فيه : « رحم الله علياً اللهم ادر الحق معه حيث دار » ، ورأيتني انظر الى علي وفاطمة فقلت فيهم « انا حرب لمن حاربتم وسلم لمن سالمتم »
(2) ، ورآني أبوك وانا متكىء على قوس عربية ، وقد نصبت خيمة فيها علي وفاطمة والحسنان فقلت فيهم : « معشر المسلمين انا سلم لمن سالم أهل الخيمة ، وحرب لمن حاربهم ، وولي لمن والاهم ، لايحبهم الا سعيد الجِد ، طيب المولد ، ولا يبغضهم الا شقي الجِد رديء الولادة »
(3) .
----------------------
(1) سورة التحريم : آية 10 ـ 11 .
(2) كنز العمال 7 / 102 ، سنن ابن ماجة ص 14 ، البداية والنهاية .
(3) الرياض النضرة : 2 / 252 .
الرَّسُولُ الأعْظَم
صلى الله عليه وآله
مَع خُلفَائِهِ
_197_
فَبرِحتِ الستر متسائلة عنه لتُشبعي فضولك فقلتِ : « من كنتَ مُستخلفاً عليهم ؟ » ، فاجبتك « إنَّه خاصف النعل » ،
فخرجنا جميعاً وفي ظل سمرة ، وجدنا علياً يخصف نعله ويصلي ،يا أم المؤمنين ، يا صاحبة الجمل الأدبب، هبي أن عاطفتك غلبت عقلك ، ونزوتك أمالت رشدك ، فنصّبت من نفسك قائداً أعلى للأوباش والرعاع ،
الذي أمرك الله أن تقري فيه ، لحرب إمامك وشق عصا الطاعة ،
فأي ثمرة وسوست لك نفسك باقتطافها ؟ هل طمعت أن تكوني خليفة المسلمين ، وأميرة للمؤمنين ؟ أم انك أردت أن تحلّي عقدة في نفسك ، وتبردي غلّة يطفىء إوارها الدم المهراق الذي صبغ وجه البسيطة ، وكوّن بركانا وغدرانا ، وقد تبعثرت على الارض أشلاء الابرياء وأطرافهم حتى تكونت منها تلالا ، أم أنكِ اردتِ ان يكون لك جوقاً يطربك من عويل اليتامى ، ونوح الأيامى ، وأنين الجرحى ، ما غايتك بانتداب امهات المؤمنين للخروج معك لحرب علي الذي هو أخي ووصي وابو سبطيّ ، هل اردت ان تجعلي منهن وزيرات لبلاطك ؟ هل اردت ان تكسبي خروجك قدسية ، وحربك مشروعية ولقد ؟ ، انطلقت إلى المرأة الصالحة أم المؤمنين أم سلمة ، لتغريها بالخروج معك ، وقد تناسيت أنها من صالحات النساء ، وانها ممن تعرف منزلة علي ، وقربه مني ، وقد تمنت أن تشهر سيفاً لنصرته ، وتقود جحفلاً من المؤمنين لتقطع عليك وعلى صحبك درب الفتنة الكبرى ، وتدفعكم عنه بقوة الحديد ، ولكنها قد قرت في بيتها إمتثالاً لأمر الله .
وقد كتبت إلى علي من مكة تخبره بتمرد طلحة والزبير واشياعهم وأنّهم يحاولون أن يخرجوك معهم ، لحربه ، وقد جعلوا شعارهم الذي يهتفون به ، ويبررون به موقفهم أن عثمان قد قتل مظلوماً وأنهم يطالبون بدمه ، والله كافيهم بحوله وقوته ، وأنه لولا ما نهانا الله عن الخروج ، وأنت لم ترضى به ، لم أدع الخروج معك ، والنصرة اليك ، وقد بعثت اليك بابني وهو عدل نفسي عمر بن أبي سلمة يشهد مشهدك .
الرَّسُولُ الأعْظَم
صلى الله عليه وآله
مَع خُلفَائِهِ
_198_
وعند عودتها إلى المدينة قابلت علياً وهي تبكي أمرّ البكاء قائلة له : لولا أني أعصي الله عزّ وجلّ ، وأنك لا تقبله لخرجت معك ، فكيف رأيت أن تغريها وتخدعيها بالخروج إلى حرب وصيي وأخي وقلت لها : يا بنت أبي أمية : أنت أول مهاجرة من أزواج النبي ، وأنت أكبر أمهات المؤمنين ، وكان رسول الله يقسم لنا في بيتك ، وكان جبرئيل أكثر ما يكون في بيتك ، ولم يخف على أم سلمة خداعك فقالت لك : « لأمرّ ما قلتِ هذه المقالة ؟ » ،فصارحتيها بما أنطوت عليه نيتك قائلة لها : « إن القوم استتابوا عثمان ، فلما تاب قتلوه صائماً في الشهر الحرام ، وقد عزمت على الخروج إلى البصرة ، ومعي الزبير وطلحة . . فاخرجي معنا لعل الله يصلح هذا الأمر على أيدينا » ، فانبرت اليك أم سلمة تسدي اليك بالنصح ، وتزيف منطقك قائلة :
« إنت كنت بالأمس تحرضين على قتل عثمان ، وتقولين فيه اخبث القول ، وما كان اسمه عندك إلا نعثلا ، وإنّك تعرفين منزلة علي عند رسول الله أفأذكرك ؟ ـ نعم ، ـ أتذكرين يوم اقبل رسول الله ، ونحن معه . . . حتى اذا هبط من قديد ذات الشمال فخلا بعلي يناجيه ، فأطال فأردت أن تهجمي عليهما فنهيتك ، فعصيتيني ، وهجمت عليهما ، فما لبثتِ أن رجعت باكية ، فقلت لكِ : « ما شأنك ؟ » .
فقلت أتيتهما وهما يتناجيان ، فقلت لعلي : ليس لي من رسول الله إلا يوم من تسعة أيام ، أفما تدعني يابن أبي طالب ويومي ؟ فاقبل رسول الله عليَّ وهو محمر الوجه غضباً ، فقال : إرجعي وراءك والله لا يبغضه أحد إلا وهو خارج من الإيمان ، فرجعت نادمة ساخطة .
ـ نعم أذكر ذلك، ـ أو أذكرك ، ـ نعم ، ـ كنت أنا وأنت مع رسول الله فقال لنا : أيتكن صاحبة الجمل الأدب
(1) تنبحها كلاب الحوأب فتكون ناكبة عن الصراط ؟ فقلنا نعوذ بالله وبرسوله من ذلك ، فضرب على ظهرك ، فقال : إياك أن تكونيها يا حميراء ، ـ نعم أذكر ذلك ،
ـ أو أذكرك ، ـ نعم ، وساقت لك حديث خصف النعل فأقررت به فقالت لك بعد ذلك : فأي خروج تخرجين بعد هذا ؟ فقلت لها : أخرج للاصلاح بين الناس
(2) ، وتبالغ أم سلمة في نصحك وإرشادك إلى طريق الحق والصواب فتقول لك : يا عائشة : إن عمود الاسلام لا يستتب بالنساء إن مال ، ولا يرأب بهن إذا صدع . هاديات النساء غض الأطراف ، خضر الأعراض ، . .ما كنت قائلة لرسول الله لو عارضك باطراف الفلوات والجبال ، على قعود من الابل من منهل إلى منهل ؟ ما كنت قائلة : وقد هتكتِ حجابه الذي ضربه عليك ؟ ألا إني لو أتيت الذي تريدين ثم قيل لي : ادخلي الجَنة لا ستحييت أن ألقى الله .
----------------------------
(1) الأدب : الجمل الكثير الشعر .
(2) شرح النهج 2 ـ 79 ، وذكر الزمخشري في الفائق 1 ـ 290 ما يقرب ذلك .
الرَّسُولُ الأعْظَم
صلى الله عليه وآله
مَع خُلفَائِهِ
_199_
فأعرت كلامها أذناً صمّاء ، واندفعت وراء عواطفك وميولك وأنت تفرقين وحدة الأمة ، وتسعّرين نار الحرب والفتن بين المسلمين ، يا عائشة هبي أنك نسيت أو تناسيت كلما أنزل الله في كتابه بخلافة علي ، وولايته ، وما جاء في سنّتي من إمامته وفضله فهلا ذكرك نباح كلاب الحوأب فأرجعك إلى رشدك فقد حذرتك من أن تكوني أياها يا حميراء ، هلا أرجعك إلى الصواب خطبة علي عندما أراد الخروج إلى البصرة ، وقد فنَّد فيها معاذيرك ، ومعاذير طلحة والزبير ، ويعلى بن أمية فقد قال : « إن الله فرض الجهاد ، وجعل نصرته وناصره . وما دنيا ولا دين إلا به ، وإني بُليت بأربعة : أدهى الناس وأشقاهم طلحة ، وأشجع الناس الزبير ، وأطوع الناس في الناس الزبير ، وأسرع الناس إلى فتنة يعلى بن أمية . . والله ما أنكروا عليَّ شيئاً منكراً ، ولا استأثرت بمال ، وملت بهوى . . وإنّهم ليطلبون حقاً تركوه . . ودما سفكوه ، ولقد ولو دوني . . ولو كنت شريكهم في الانكار لما أنكروه . . وما تبعه عثمان إلا عندهم ، وإنهم لهم الفتنة ، بايعوني ونكثوا بيعتي ، ما استأنسوا بي حتى يعرفوا جوري من عدلي وإني لراض بحجة الله عليهم ، وعلمه فيهم ، وإنّي مع هذا لداعيهم ، ومعذراً إليهم ، فإن قبلوا فالتوبة مقبولة ، والحق أولى من صرف إليه ، وإن أبوا أعطيتهم حد السيف ، وكفى به شافياً من باطل وناصراً ، والله إن طلحة والزبير وعائشة يعلمون أني على حق وهم مبطلون » .
وقد أمعن علي باسداء النصح لكِ ولصاحبيك طلحة والزبير ، فقد كتب لكم كتاباً عندما قارب البصرة يوضح لكم السبيل ، ويقطع عليكم المعاذير وقد جاء فيه .
« من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى طلحة والزبير وعائشة سلام عليكم . . . أما بعد : يا طلحة ويا زبير قد علمتما أني لم أرد البيعة حتى أكرهت عليها ، وأنتما ممن رضي ببيعتي ، فإن كنتما بايعتما طائعين فتوبا الى الله تعالى ، وارجعا عما أنتما عليه ، وإن كنتما بايعتما مكرهين فقد جعلتما لي السبيل عليكما باظهاركما الطاعة ، وكتمانكما المعصية .
وأنت يا طلحة يا شيخ المهاجرين . وأنت يا زبير يا فارس قريش لو دفعتما هذا الأمر قبل أن تدخلا فيه كان أوسع لكما من خروجكما منه بعد الاقرار .
وأنت يا عائشة فإنّكِ خرجت من بيتك عاصية لله ولرسوله تطلبين أمراً كان عنك موضوعاً ثم تزعمين ( أنك تريدين الاصلاح بين المسلمين ) .
فخبريني ما للنساء وقود الجيوش والبروز للرجال ، والوقوع بين أهل القبلة وسفك الدماء المحترمة ؟ . . ثم إنك طلبت على زعمك دم عثمان . وما أنت وذاك ؟ وعثمان من بني أمية وأنت من تيم . . ثم بالأمس تقولين في ملأ من أصحاب رسول الله : ( اقتلوا نعثلاً فقد كفر ) ثم تطلبين اليوم بدمه فاتقي الله وارجعي إلى بيتك واسبلي عليك سترك والسلام . . » .
الرَّسُولُ الأعْظَم
صلى الله عليه وآله
مَع خُلفَائِهِ
_200_
وقد أقام عليكم الحّجة ولم يدع لكم وليجة تنفذون منها ، فهلا استجبت لمنطق العدل ، ولنت نفسك من الدخول في هذه الفتنة فإنا لله وإنا إليه راجعون .
دفاع عائشة :
وتقوم السيدة عائشة فتدافع عن نفسها ، محاولة أن تبرر خروجها وحزبها لعلي قائلة : يا رسول الله بأبي أنت وأمي ، أنت تعرف مكانتي بين المسلمين ، ومالي من المنزلة العظيمة عندهم ، وإني لم أخرج مفسدة وإنما خرجت لطلب الاصلاح ، لقد خرجت مطالبة بدم الشهيد الذكي عثمان فقد قتلوه في الشهر الحرام بعد ما استتابوه ، وخلص من ذنوبه ، فلم يسعني أن أسكت ، وأترك الدم مباحاً ، وعلي قد آوى قتلته ، ولم يقتص منهم ، وأنت تعلم ما في نفسي من العقد النفسية
على علي لأنه أبو سبطيك ، وقد حرمت منك الولد ، وكنت واجدة على ابنتك وبضعتك فاطمة الزهراء ، فقد هاج وجدي حينما علمت ان علياً قد صار إليه امر المسلمين فلم اتمكن دون ان اعلن التمرد على حكومته ، واقود الجيوش لمناجزته ، وانا معترفة بما ذكرته وادليته عليَّ ، وليس لي مجال للانكار والشك في ذلك .
جواب النبي ( صلى الله عليه وآله ) :
وينبري النبي ( صلى الله عليه وآله ) لتنفيذ مزاعم عائشة فيقول لها : إن عثمان قد سعى لحتفه بظلفه ، واجهز على نفسه فقد هيأ الأسباب المؤدية إلى قتله ، اليس هو الذي نفى الصحابي العظيم ابا ذر الذي هو شبيه عيسى بن مريم في ورعه وتقواه ؟ اليس هو الذي كسر ضلع المقري الصالح عبد الله بن مسعود ؟ اليس هو الذي ضرب الطيب ابن الطيب عمار بن ياسر حتى اوجد فتقاً في بطنه ، الم يؤثر بني امية بالسلطة والمال ، فاجاع الناس ليتخموا ، واذل المسلمون ليعلوا ، ويتطاولوا فلم تأخذه في سبيلهم ملامة اللائمين ، ولا ثورات الثائرين ، فقد افتتح في ايامه ارمينية فأخذ الخمس كله ، ووهبه للوغد الأثيم مروان بن الحكم ، واعطى سوق تهروز في المدينة للحارث ابن عمه ، واقطع مروان فدكا ، وهو يعلم انها ملك لسيدة النساء فاطمة ، وحمى مراعي المدينة عن مواشي المسلمين إلا عن مواشي بني امية ، واعطى ابن ابي سرح جميع ما افاء الله على المسلمين من فتح افريقيا ، ان هذه العوامل هي التي اطاحت بعثمان وسببت قتله وانت تعلمين ذلك ، وتعلمين كيف ثار عليه خيار صحابتي وانت بالذات كنت من الموقدين لنار الثورة في النفوس فكيف تطالبين بدمه وتزعمين انه قتل مظلوماً .
الرَّسُولُ الأعْظَم
صلى الله عليه وآله
مَع خُلفَائِهِ
_201_
جواب عائشة :
يا رسول الله إنهم استتابوه حتى ماصوه من ذنوبه موصة الثوب ثم عدوا عليه فقتلوه فلذا خرجت مطالبة بدمه .
جواب النبي ( صلى الله عليه وآله ) :
وينبري ( صلى الله عليه وآله ) إلى تفنيد مزاعم عائشة فيقول لها : أنت المسؤولة أولاً وبالذات عن مقتل عثمان فأنت أول من أمال حربه ولولاك لما تعدى الأمر من حصره إلى قتله ، ولم يجرأ أحد على إراقة دمه وهتك حرمته ، لقد كنت خلال السنوات الست من حكمه تفيضين عليه ألواناً من القداسة ، وتخلعين عليه بروداً من الكرامة ، فكنت تنتحلين الأحاديث بتفضيله على أبيك وعمر ، فقد رويت عني أنه استأذن أبو بكر عليَّ فأذنت له فقضيت حاجته ، وهو معي في المرط ثم خرج فاستأذن عمر فأذنت فقضيت حاجته ، وأنا على تلك الحال ، ثم خرج فأستأذن عليَّ عثمان فأصلحت على ثيابي وجلست فقضيت حاجته ثم خرج فقلت لي ـ حسب زعمك ـ يا رسول الله استأذن عليك أبو بكر وعمر وأنت على حالك ، فلما استأذن عليك عثمان أرخيت عليك ثيابك ، فقلت لك : يا عائشة ألا استحي من رجل والله إن الملائكة لتستحي منه .
هكذا كان عثمان عندك محاطاً بالعناية ، والإجلال والتكريم ، ولكن في السنوات الست الأخيرة من حكمه وقع الخلاف والشقاق بينكما فسجّرت نار الفتنة عليه وألهبت العواطف ، واثرت الاحقاد والأضغان عليه ، ويعود السبب في ذلك إلى أنه قطع الألفين الزائدين لك على مرتبات أمهات المؤمنين فجعلك عثمان أسوة بهن ، وقد تدرج بذلك الخلاف بينكما ورفعت علم المعارضة لا لسبب ديني وإنما هو لأمر مادي محض ، لقد تزعمت الفئة المعارضة له وأصبحت ملجأ للساخطين على حكومته ، وقِدتِ الجماهير في حادثة عبد الله بن مسعود لما أهانه عثمان وكسر ضلعه ، وكذلك في حادثة عمار بن ياسر حينما أمر بضربه وإلقائه في الطريق فكان بين الموت والحياة ، وقد تمكنت من رفع الحصانة التي كان يتمتع بها عثمان في المجتمع الاسلامي لمكانه من خلافتي ، وأصدرت فتياك الصريحة الواضحة بقتله وكفره فقلت « اقتلوا نعثلاً فقد كفر » .
الرَّسُولُ الأعْظَم
صلى الله عليه وآله
مَع خُلفَائِهِ
_202_
وكنت تطاردينه بالمعارضة والتنديد وتأتين بقميصي وتنشرينه وتنادين رافعة صوتكِ : « يا معشر المسلمين هذا جلباب رسول الله لم يبل وقد أبلى عثمان سنّته . . » ، فقال عثمان وقد ضاقت به الأرض : « ربي اصرف عني كيدهن إن كيدهن عظيم » ، ولما رأيت إجماع المسلمين على قتله قلت له : « أي عثمان خصصت بيت مال المسلمين لنفسك وأطلقت أيدي بني أمية على أموال المسلمين ، ووليتهم البلاد ، وتركت امة محمد في ضيق وعسر ، قطع الله عنك بركات السماء ، وحرمك خيرات الأرض ولولا أنك تصلي الخمس لنحروك كما تنحر الابل . . » .
فقرأ عثمان عليك قول الله تعالى « ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل آدخلا النار مع الداخلين » ، وقد اشتد الخلاف بينكما حينما أصدرت فتياك الصريحة بقتله وكفره ، وقد انتشرت فتياك بين المسلمين انتشار النار بالهشيم ، وبعد هذا فكيف تدّعين أنك خرجت مطالبة بدمه ، إن كنت على حق . فلم لم تهبِّ لنجدته ، ونصرته حينما أحاط به الثوار ، وقد جاءك مروان بن الحكم ، وزيد بن ثابت مستنجدين بك لنصرة عثمان والذب عنه ، فتنكّرت لزيد ، وقابلتيه بأغلظ القول قائلة له : « ما منعك ، يا بن ثابت ، ولك الأساريف قد أقطعكها عثمان وأعطاك عشرة آلاف دينار » .
ثم نهرت مروان وقلتِ له : « أتراني في شك من صاحبك والذي نفسي بيده لوددت أنه الآن في غرارة من غرائري مخيط عليه فألقيه في البحر الأخضر » ، وهرع إليك مرة ثانية مروان بن الحكم ، ومعه عبد الرحمن بن عتّاب بن أسِيد رسولين عن عثمان لتصدين عنه الثوار فقالا لك : « لو أقمت فلعل الله يدفع بك عن هذا الرجل ؟ » ،
وقال لك مروان : « يدفع لك عثمان بكل درهم أنفقتيه درهمين » ، فرددت عليه بقولك : « قد قرنت ركائبي ، وأوجبت الحج على نفسي » ، وبعد هذا كيف تدعين أنه قتل مظلوماً ؟ وقد بذلت جميع جهودك في الإطاحة بحكمه فقلتِ لابن عباس لما خرج من المدينة إلى مكة أميراً على الحج من قبل عثمان قلت له : « يا بن عباس أنشدك الله ، فإنّك أعطيت لساناً أزعبلا أن تخذل عن هذا الرجل ، وإياك أن ترد عن هذا الطاغية ، وأن تشكك فيه الناس ، فقد بانت لهم بصائرهم ، وأنهجتِ ، ورفعت له المنار ، وتجلبوا من البلدان ، وقد رأيت ابن عبيد الله قد اتخذ على بيوت المال ، والخزائن مفاتيح ان يسير بسيرة ابن عمه أبي بكر . . » ، فقال لكِ ابن عباس ، وقد عرف غايتك : « يا امه لو حدث بالرجل حدث ما فزع الناس إلا الى صاحبنا » ، فالتعت من قوله وانبريت فزعة قائلة له : « إِ يهاً عنك ، لست أريد مكابرتك ، ولا مجادلتك » ، ولما بلغكِ مقتل عثمان ، وأنت في مكة دخلك موجات من السرور والأفراح ، وضربت قبتك في المسجد الحرام ، وقلت : « أبعده الله ، قتله ذنبه ، وأقاده الله بعمله ، بعداً لنعثل وسحقاً . . إِيهاً ذا الاصبع ، إِيهاً أبا شبل ، إِيهاً ابن عم ، فكأني انظر الى اصبعه وهو يبايع . . يا معشر قريش لا يسؤِنكم مقتل عثمان كما أساء احيمر خدود قومه ، ان أحق الناس بهذا الأمر لذي الاصبع » .
