الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ

الرسول ( صلى عليه وآله وسلم ) مع عمر :
  ويأتي دور الخليفة الثاني عمر بن الخطاب فتشخص له الابصار ، وتتطلع إليه النفوس ، ويوجه إليه النبي خطابه قائلاً : أيها الخليفة الثاني كيف سغ لك أن تثقل الخلافة ، وفي الأمة من هو أفضل منك ، وأحق بها من غيره ، وهو الإمام أمير المؤمنين ، وقد سمعت مني كثيراً أني قلت : « من تقدم على قوم من المسلمين ، وهو يرى من هو أفضل منه فقد خان الله ورسوله والمسلين . . » (1) ، لقد جعلت الحكم بيد أفضل شخص في أمتي صيانة لها ، وحفاظا على اصالتها ، ووقاية لها من الفتن والزيغ ، وأنت تعلم أن عليا أفضل امتي ، وادرى من غيره باحكام الله ، واسرار التشريع فهو مني بمنزلة هارون من موسى ، وباب مدينة علمي ، وأقضى أمتي ، وقد بايعته أنت بالذات يوم غدير خم ، وقلت له : « بخ بخ لك أصبحت وأمسيت مولاي ، ومولى كل مؤمن ومؤمنة . . » فكيف ساغ لك ان تحتل مقامه ، وتدفعه عن مركزه ، وتستلب عرشه!.

دفاع عمر :
ويقوم عمر فيقول يا رسول الله ان لي الحق في الدفاع عن نفسي،ـ نعم لك الحرية التامة، ـ لقد عينني الخليفة أبو بكر الذي زكّته الأمة ، وجعلته من خيارها ،وأجمعت على بيعته ، وهذا نص عهده إلي : « هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة ، آخر عهده في الدنيا نازحا ، وأول عهده داخلا بالآخرة ، إني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب فإن تروه عدل فيكم فذلك ظني به ، ورجائي فيه ، وإن بدل وغيَّر فالخير أردت ، ولا أعلم الغيب « وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون »(2) ، ولولا عهده ، ونصه عليَّ لما ارتقيت منصب الخلافة فان كان هناك تبعة ، فهو المسؤول عنها دوني.

-------------------------
(1) الإمامة والسياسة 1 ـ 19 ، تاريخ الطبري ، طبقات ابن سعد .
(2) تمهيد الباقلاني : ص 190 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _78_

جواب النبي ( صلى الله عليه وآله ) :
  ويرد عليه النبي ( صلى الله عليه وآله ) قائلاً : انت تعلم ان ابا بكر قد تقمص الخلافة ، ولاحق له بها ، فقد كانت بيعته فلتة على حد تصريحك ، فأنت أول من وصمتها بذلك ، وأنت تعلم بأنها لم تكن جامعة لأهل الحل والعقد ، فقد تخلف عنها خيار السلمين ، وقد لعبت وتيرتك في تكوينها وتحقيقها فقد أرغمت المسلمين على قبولها وقد قسرت العترة الطاهرة على البيعة فما استجابوا لها حتى حملت قبساً من النار تريد أن تحرق دار بضعتي ووحيدتي سيدة النساء فاطمة ، ومع هذا فهل تكون بيعته مشروعة حتى يصح له أن يعين أو يختار من يشاء لهذا المنصب العظيم ، ويضاف لذلك أنه قد اندفع إلى الانكار عليه في تعيينه لك جمهور المهاجرين والأنصار فقد بادروا إليه قائلين : « نراك استخلفت علينا عمر ، وقد عرفته وعلمت بوائقه فينا وأنت بين أظهرنا ، فكيف إذا وليت عنا ، وأنت لاق الله عزّ وجلّ فما أنت قائل » (1) .

-----------------------------
(1) شرح النهج 6 ـ 343 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _79_

  واندفع إلى الإنكار عليه طلحة فقال له :« ماذا تقول لربك ، وقد وليت علينا فضاً غليظاً تفرق منه النفوس ، وتنفض منه القلوب » (1)،ولما كتب إليك بولايتك من بعده أخذت الكتاب ، وأنت تهرول لتقرأه على الناس ، فاعترضك رجل من خيار المسلمين ، فقال لك : « ما في الكتاب يا أبا حفص ؟ »،فقلت : « لا أدري ، ولكني أول من سمع وأطاع » ، فنظر إليك الرجل نظرة ريبة ، وأخبرك بما فيه قائلاً : « ولكني والله أدري ما فيه ، أمرّته عام أول ، وأمرّك العام » (2) .
لقد تواطئت أنت وصاحبك ، ومعكما جمهرة من المعاديين لعترتي على صرف الخلافة عنها ، فحل بالاسلام ، وبالمسلمين من النكبات والشجون ما لا يعلم بمدى قسوتها ، وضراوتها إلا الله ، والآن أعرض عليك بعض ما ارتكبته من المخالفات لنصوص كتاب الله وسنته ، أطلب منك أن تجيبني عنها ، الحيلولة بيني وبين الكتاب : عندما حضرتني الوفاة ، وكادت روحي أن تصعد إلى ربها راضية مرضية ، أردت أن أضع لأمتي منهاجاً صحيحاً يقيها من الفتن والأهواء ، ويضمن لها السعادة والنجاح في جميع مراحل تاريخها فقلت : « إئتوني بالكتف والدواة أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً . . » (3) وقد علمت قصدي ، وعرفت غايتي أني سأوصي بالخلافة لأمير المؤمنين ، وأعزز ما أعلنته يوم غدير خم ، فتفوت بذلك أهدافك وينهار قصدك ، فقلت.

--------------------
(1) شرح النهج 1 ـ 55 .
(2) الامامة والسياسة 1 ـ 20 .
(3) الرواية أخرجها الطبراني في الأوسط والبخاري ، ومسلم .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _80_
راداً عليَّ :
  « حسبنا كتاب الله »، أتحترم مقامي ، ولم تراع ما أنا فيه من شدة الألم ، والمرض ، فرددت عليّ ، وقد انطلقت النسوة من وراء الحجاب فقلن لك ولأصحابك : « ألا تسمعون ما يقول رسول الله صلى الله عليه وآله » ،فصحت فيهن لئلا يفسد عليك الأمر قائلاً : « إنكن صويحبات يوسف إذا مرض عصرتن أعينكن ، وإذا صحّ ركبتن عنقه » ، فأزعجني كلامك ، وقلت لكم : « دعوهن فإنهن خير منكم » ، وكادت أن تفوز الجبهة التي أرادت تنفيذ إرادتي في إحضار الكتف والدواة ، فقلت ويا لهول ما قلت : « إن النبي ليهجر » (1) ، وقد سددت لي سهماً بذلك ، وأنا في سكرات الموت ، أتحكم عليَّ بأني أهذي وأهجر ، واني فاقد لرشدي ، وقد زكاني الله تعالى من ذلك ، في جميع أدوار حياتي إلى أن لحقت بالرفيق الأعلى وإني على سمت واحد ، لم أفقد رشداً ولا هديا ، وقد نطقت نصوص القرآن بذلك . قال تعالى : « ماضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى » ، وقال تعالى : « إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ* ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ* مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ » إلى غير ذلك من الآيات التي دلت على عصمتي من الهجر ، وغيره من ألوان النقص .

----------------------------
(1) ذكر البخاري الحادثة عدة مرات في 4 ـ 69 و ص 99 و في ج 6 ـ 81 ، ولكنه كتم اسم القائل لهذه الكلمة ، وصرح ابن الأثير في نهاية غريب الحديث ان القائل هو عمر بن الخطاب ، وقد اعترف عمر في حديثه مع ابن عباس أنه صد النبي صلى الله عليه وآله عن الكتابة في علي وعترته ، كما في شرح النهج المجلد الثالث ص 114 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _81_

  لقد بعثني الله رحمة للعالمين ، وجعلني قدوة وهادياً للناس أجمعين ، وقد نسبت لي الهجر طاعناً في كرامتي ، وناسباً لي ما لا يليق بشأني .

دفاع عمر :
ويندفع عمر فيقول : يا رسول الله لقد أردت بذلك أن أحول بينك ، وبين ما تكتب في شأن علي ، ولو كنت أحتمل أنك توصي بحماية الثغور أو بغير ذلك من شؤون الدين ، لما اندفعت إلى هذه الكلمة القاسية ، وما نسبت لك الهجر، الرسول : لماذا كرهت خلافة علي ؟، عمر : إن قريش أبت أن تجتمع النبوة والخلافة في بيت واحد ، فيجحف أهل بيتك على الناس بجحاً ، واستجابة لعواطف قريش التي تحقد على أهل بيتك حلت بينك وبين ما أردت في الكتابة في حق علي ، ويتألم النبي ( صلى الله عليه وآله ) ويندفع إلى الإنكار عليه قائلاً له : « إن الله سبحانه هو الذي منح هذا البيت الرسالة فاصطفاني لاداء رسالته وتبليغ أحكامه ، وقد اختار من أهلي علياً فجعله خليفة لي ووزيراً ، ووصياً ، وقد كرهت قريش أن يكون من بني هاشم نبي ، فكفرت بي ، وحاربتني ، ونصبت لي العداء فجعلت تعذب كل من آمن بي ، حتى أضحى المؤمنون بالله وبرسوله إلى الهجرة من ديارهم وأوطانهم ، وقد كبسوني أنا وأسرتي في شعب من شعاب مكة ، وحرموا الاتصال بي ، وحرمونا من كل شيء ، وبعد فك الحصار صمموا على قتلي فهربت منهم ، وقد بات علي في فراشي ، فوقاني بروحه ، فأي مفاداة مثل مفاداته ؟ ، ولما استقر بي المقام في يثرب أخذت بتبليغ رسالة الله فأثار ذلك أحقاد قريش ، وأضغانها ، فأخذت تسعى بقوى محمومة مستعدة إلى استنهاض القبائل ، وإثارة الأحقاد عليّ ، فخفت بجيوشها وعساكرها تناجز من الحرب فكانت واقعة بدر وأحد وغيرها »،فأي حق لقريش في هذا الأمر ؟ وأي ميزة لها على غيرها حتى ترعى عواطفها وميولها ؟ .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _82_

  لقد استجبت لرغبات قريش ، ولم تستجب لما أمرتكم به من التمسك بالثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي الذين هم معدن الحكمة ، وخزان الوحي ، فلا حول ولا قوة إلا بالله ، وهو المستعان على ما تصفون ،يا عمر ، لقد أدّت استجابتك لرغبات قريش أن يؤول أمر المسلمين إلى بني أمية فيبالغون في ارهاق عترتي والتنكيل بها حتى تقطعت أوصالها في صعيد كربلاء وقتل ريحانتي وسبطي الثاني الحسين ، قتلته بنو أمية طلباً بثارات بدر فشفوا بذلك غليلهم وأحقادهم ، وليس في دنيا الوجود خطب يضارع ما جرى على حفيدي الحسين فقد ذبحت أطفاله عطاشى ، وسُبيت نساؤه التي هن كرائم الوحي من بلد الى بلد ، وقد ربقن مع الأطفال بالحبال ، قد ألهبت السياط أبدانهم ، وأحرق المصاب قلوبهم ، وتتابعت بعد ذلك على عترتي أشق ألوان المصائب ، وأقسى أنواع المحن والخطوب ، كأنهم قد جنوا جناية على المجتمع لا تعدلها جناية ، قد قضى الكثيرون منهم في ظلمات السجون والتعذيب ، يطاردهم الرعب ، ويلاحقهم الخوف ، هذا ما أرادته قريش لعترتي وأهل بيتي ، فهل ترضى بذلك يا أبا حفص ؟ .

الثقة بالدين :
يا عمر : لا يحق منصب الخلافة والامامة إلا لمن كان عالماً بسنن الشرع ، ومحيطاً بشؤون الدين ، وعارفاً بما تحتاج إليه الأمة في جميع مجالاتها ، وقد اعترفت على نفسك بقلة الفقه فقلت : « كل الناس أفقه منك يا عمر حتى رباتالحجال » (1) .

--------------------------
(1) الغدير 6 ـ 328 ، وذكر جملة من اعترافات عمر في عجزه ، وعدم فقهه منها قوله : « كل واحد أفقه منك حتى العجائز يا عمر » ومنها قوله : « كل أحد أفقه مني » ومنها قوله : « كل الناس أفقه من عمر حتى المخدرات في البيوت » .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _83_

  وكنت تعترف لعلي بالفضل على من سواه ، فقلت : « لولا علي لهلك عمر » ، وقلت : « لولا علي لضللت » (1) ، وقلت : « لولا علي لافتضحت » ، وقلت : « عقمت النساء أن تلدن مثل علي » ، وقلت : « أعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو حسن » ، وقلت : « لا أبقاني الله لشدة لست لها ، ولا في بلد لست فيه ومع اعترافك بفقهه كيف سانح لك أن تتقدم عليه ، وتحرم أمتي من التمتع بمواهبه وفضله وعبقرياته ، وقد خالفت في جملة من قضائك وأحكامك نصوص الكتاب وصريح السنة ، والآن أقرأ عليك جملة منها .

1 ـ تحريم متعة الحج :
  لقد شرع الله الحج ، وجعله على ثلاثة أنواع حج القران وحج الافراد ، وحج التمتع ، وقد فرض تعالى حج التمتع على من بعُد عن مكة بثمانية وأربعين ميلاً من كل جانب ، والقسمان الأولان فرض من بعُدَ عنها دون المسافة ، وقد كنت في حياتي أعمل بها ، وقد نص عليها القرآن الكريم قال تعالى : « من تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى » (2) ولم تنزل آية بنسخها (3) وقد أبحت لمن حلَّ منها أن يأتي بكل ما كان محرماً عليه من قبل الاحرام فجميع القيودالتي كانت على المحُرِم في حال إحرامه بالعمرة قد وضعتها عنه إذا حل من إحرامه ، وقد نهيت يا عمر عما أحله الله بعد الاحرام فقد اجتاز عليك رجل من الحجاج ، تقوح منه رائحة الطيب فقلت له : ـ أمحرم أنت ؟ ـ نعم ،ـ ما هيأتك بهيأة محرم ، إنما المحرم الأشعث الأغبر الأذفر فقال لك ، وقد أخذته الرهبة والخوف منك : « إني قدمت متمتعا ، وكان معي أهلي ، وانما أحرمت اليوم » ، وأصدرت فتياك فقلت : « لا تتمتعوا في هذه الأيام فاني لو رخصت في المتعة لعرسوا بهن في الأراك ثم راحوا بهن حجاجاً »(4) .

----------------------------
(1) الغدير 6 ـ 328 .
(2) سورة البقرة : آية 196 .
(3) صحيح مسلم 1 ـ 474 ، تفسير القرطبي 2 ـ 365 .
(4) زاد المعاد لابن القيم 1 ـ 220 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _84_

  لقد عمدت بذلك الى تحريم ما حلله الله بنص كتابه ، واستهنت بالسنّة وقد أصررت على ذلك ، فقلت على منبري : « متعتان كانتا على عهد رسول الله ، وأنا أنهى عنهما ، وأعاقب عليهما متعة الحج ، ومتعة النساء » (1) ، بأي حق جاز لك هذا التشريع ، وكيف سانح لك أن تحرم ماحلله الله ؟ إن سلطة التشريع ليست بيد أحد ، إنما هي لله تعالى ، فهو الذي شرّع الأحكام ، وبيّن معالم الدين ، وليس لأحد مهما كان شأنه أن يسن سنّة ، أو يلغي حكماً ، فإن ذلك من التشريع الذي يعلم بالضرورة من الدين تحريمه .

2 ـ متعـة النساء :
  إن النكاح الذي حلله الله على ثلاث أنواع « الأول »الدائم وهو الذي يحتاج إلى الايجاب والقبول ، وذكر المهر ، ولا يحل عقده إلا الموت أو الطلاق ،« الثاني » المنقطع وهو يحتاج الى إيجاب وقبول ، إيجاب من الزوجة ، وقبول من الزوج ، ويحتاج الى مهر ، وإلى تعيين مدة من الزمن ، وينحل بانتهائها ، ولا يحتاج إلى طلاق ، والزوجان ، لا يتوارثان ، وإن مات أحدهما في خلال المدة المعلومة.

----------------------------
(1) سنن البيهقي 7 ـ 206 ، البيان والتبيين 2 ـ 223 ، أحكام القرآن للجصاص 1 ـ 342 ، تفسير الرازي 2 ـ 167 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _85_

  « الثالث » ملك اليمين ، فمن ملك امرأة جاز له ملامستها بغير عقد ، وهذه الأنواع الثلاثة قد شرّعها الله ، وسارت عليها السنّة ، وقد شرّع تعالى زواج المتعة تيسيراً على عباده ، وصيانة لهم من الفجور ، وقد نص القرآن الكريم على مشروعيتها قال تعالى : « فما استمعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة » (1) وقد كان المسلمون يتمتعون بالقبضة من التمر والدقيق على عهدي ، وعهد أبي بكر (2) ، ومضيت على ذلك شطراً من خلافتك ، ثم حرمتها وقلت : « إن الله عزّ وجلّ كان يحل لنبيه ما شاء ، وإن القرآن قد نزل بنازله ، فافصلوا حجّكم من عمرتكم ، واتبعوا نكاح هذه النساء فلا أوتى برجل تزوج امرأة إلى أجل إلا رجمته » (3) .
  لقد حكمت برجم المتمتع ، وهو لم يشرّع إلا للزاني ، وليس ذلك من الزنا في شيء ، وإنما هو عقد أحله الله ، ولم يمنع عنه ، ولو عمل بها المسلمون لما زنى إلا شقي كما قال علي (4) وقد أقر العمل بها جماعة من الصحابة والتابعين منهم : 1 ـ عبد الله بن مسعود ، 2 ـ أبو سعيد الخدري .

-----------------------------
(1) سورة النساء : آية 24 .
(2) صحيح مسلم 1 ـ 395 ، فتح الباري لابن حجر 9 ـ 141 ، كنز العمال 8 ـ 294 .
(3) مسند أبي داود ص 247 .
(4) تفسير الطبري 5 ـ 9 ، الدر المنثور 2 ـ 140 ، تفسير أبي حيان 3 ـ 218 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _86_

  3 ـ عبد الله بن عمر،4 ـ الزبير بن العوام ،5 ـ خالد بن مهاجر ، 6 ـ عمرو بن حريث ، 7 ـ أبي بن كعب(1) ، 8 ـ سعيد بن جبير، 9 ـ طاووس اليماني، 10 ـ السدي 11 ـ زفر بن أوس المدني ، 12 ـ جابر بن عبد الله الأنصاري، 13 ـ علي بن أبي طالب ، إن هذه الجمهرة من الصحابة والتابعين وغيرهم رفضوا حكمك بالتحريم وأسروا على إباحتها ، وعدم تحريمها .

3 ـ الطلاق الثلاث :
  إن الطلاق الشرعي الذي يوجب تحريم الزوجة إلى أن تنكح زوجاً غيره هو أن يطلقها ثلاث طلقات بينها رجعتان ، وفي الطلاق الثالث يتحقق التحريم لقوله تعالى : « الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ» إلى أن قال تعالى : « فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ » (2) ، واستمر الطلاق الثلاث واحدة في عهدي ، وكذا في عهد أبي بكر ، وسنتين من خلافتك ياعمر ، ولكن لما رأيت الرجال تتهافت على طلاق أزواجهم ثلاثاًبانشاء واحد فالزمتهم بذلك ، وقلت : « إن الناس قد استعجلوا في أمركانت لهم فيه أناة ، فلو امضيناه عليهم ، ثم امضيته » (3).

--------------------------
(1) الغدير 6 ـ 220 ـ 222 .
(2) سورة البقرة : آية 230 .
(3) صحيح مسلم 1 ـ 574 ، سنن البيهقي 7 ـ 336 ، تفسير القرطبي 3 ـ 130 ، مسند أحمد 1 ـ 314 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _87_

  إن من الغريب أن يكون استعجال الناس موجباً إلى التلاعب بنص القرآن ، ونبذ أحكامه ، وقد نددت بمن ارتكب ذلك فقد بلغني عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً فقمت وأنا غضبان وقلت : « أيلعب بكتاب الله ، وأنا بين أظهركم » (1) ، ألم تسمع ذلك مني فكيف سانح لك تغيير ما جاء به الله ، واستقرت عليه السنة ، فلا حول ولا قوة إلا بالله .

4 ـ صلاة التراويح :
  ومن تشريعاتك صلاة التراويح جماعة فإن الله لم يشرع أي نافلة جماعة إلا صلاة الاستسقاء ، وإنما شرعت الجماعة في الصلوات اليومية ، وصلاة الطواف ، والعيدين ، وصلاة الجنائز ، وما عدا ذلك فلم تشرع فيها الجماعة ، ولكنك عمدت إلى تغيير هذه السنّة ، فشرّعت قِبال ما جاء به الله ، كنت ترى الناس في المسجد يصلي كل واحد منهم على شاكلته ، فاستحسنت أن توحدهم بصلاة إمام واحد ، فابرمت حكمك بصلاتها جماعة ، وعممت أمرك إلى سائر البلاد الإسلامية ، متحدياً السنّة بالاستحسان عن عمد وإصرار ، وكنت تقول : « إنها بدعة ، ونعمت البدعة » (2)، وكنت أحبذ صلاة النوافل في البيوت من دون جماعة حتى يتزود المصلي من الاتصال بالله ، ويُقبل بقلبه عليه ، وتنشط أعضاؤه لطاعته ، يستقل منها أويستكثر فإنها خير موضوع ، وقد قلت : « إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيباً من صلاته . وان الله جاعل في بيته من صلاته خيراً » (3) .

-------------------------
(1) تيسير الوصول 3 ـ 160 ، تفسير ابن كثير 1 ـ 277 ، الدر المنثور 1 ـ 283 .
(2) صحيح البخاري 1 ـ 233 ، صحيح مسلم 1 ـ 283 .
(3) رواه مسلم وابن خزيمة في صحيحه .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _88_

  وقلت « صلوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة » (1) ، إلى غير ذلك من أقوالي ، ولكنك لم تعن بها ، والله تعالى يقول : « وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم » .

5 ـ صلاة الجنـائز :
  وقد شرعت الصلاة على الجنائز ، وكنت أكبر عليها خمساً ، لكنك يا عمر قد الغيت ما جئت به ، فجعلت التكبير أربعاً (2) فهل لك سلطة في هذا التشريع ؟ أم أنك أعلم مني باحكام الدين .

6 ـ ميراث الجد مع الأخوة :
  وجعلت الجد كأب مطلقاً ، والحال أنه يختلف من كان لأب عمن كان لأم ، كاختلاف الأخوة بعضهم عن بعض بالحصص ، وقد افتيت في هذه المسألة كثيراً ، وكل فتوى تناقض أخرى (3) وكان عليك أن ترجع في ذلك إلى باب مدينة علمي ، والعارف بسنّتي علي ( عليه السلام ) لكنك أبيت ،وقد صدقت نبوءتي فيك عندما سألتني عن ميراث الجد مع الأخوة فقلت لك :« ما سؤالك عن هذا يا عمر ؟ إني أظنك تموت قبل أن تعلم ذلك ، وقدمتَ ، ولم تعرف ذلك (4) .

----------------------------
(1) رواه النسائي وابن خزيمة في صحيحه .
(2) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 93 .
(3) اخرج البيهقي في السنن الكبرى 6 ـ 245 ، عن عبيدة قال إني لأحفظ عن عمر في الجد مائة قضية كلها ينقض بعضها بعضا .
(4) مجمع الزوائد 4 ـ 227 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _89_

  كيف سانح لك القضاء ، والحكم بين الناس ، وأنت لا تعلم ذلك ، وقد أوجبت على من يتصدى للقضاء أن يكون عالماً باحكام الدين ومحيطاً بشؤون القضاء .

7 ـ توريث الأخوة مع وجود الولد :
وانما ترث الأخوة والأخوات مع عدم وجود الولد ذكراً كان أم أنثى ، وقد نطق بذلك الذكر الحكيم قال تعالى : « يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ » ،(1) ولكنك يا عمر حملت الولد على الذكر دون الأنثى فساويت في الميراث بين البنت وأخته لأبيه وأمه ، فجعلت لكل منهما النصف مما ترك ، فأشركت العصبة مع البنت التي هي ولد لغة وشرعاً ، والله تعالى يقول : « وأولو الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله »، فكان حكمك في ذلك مصادماً لنص القرآن ، ومنافياً لما أثُر عني في ذلك ، فلا حول ولا قوة إلا بالله .

----------------------------
(1) سورة النساء : آية 176 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _90_

8 ـ اسقاط فريضة الصلاة لفاقد الماء :
  وقد خفي عليك يا عمر أبسط المسائل ، فقد افتيت بسقوط فريضة الصلاة عمن فقد الماء ، فقد جاءك رجل فقال لك . إني أجنبت فلم أجد ماءَ ، فقلت له لا تصل ؛ فقال لك : عمار يا أميرالمؤمنين أما تذكر اذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد ماءً فاما أنت فلم تصل ، وأما أنا فتمعكت في التراب ، وصليت ؛ فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) انما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ، ثم تنفخ ، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك ، فقلت له : اتق الله يا عمار ، فقال لك : ان شئت لم احدث به (1)، وقد نطق القرآن بوجوب التيمم لفاقد الماء قال تعالى : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ » (2)وقال تعالى : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا » (3) لقد خفيت عليك هذه المسألة وهي مما تعم بها البلوى ، وقد بينتها مراراً وتكراراً للمسلمين .

9 ـ شكوك الصلاة :
  والشيء العجيب خفاء احكام الشك عليك في صلاتك ، فقد سألت ابن عباس فقلت له : « يا ابن عباس اذا اشتبه على الرجل في صلاته فلم يدر أزاد ام نقص . . » ، فقال لك ابن عباس : ما ادري ، ما سمعت في ذلك شيئاً ، فقلت له : والله ما ادري ، وبينما انت تتحدث مع ابن عباس في حكم المسألة اذ جاءكم عبد الرحمن بن عوف ، فقال لك : « ما هذا الذي تذكران ؟ » ،فقلت له : ذكرنا الرجل يشك في صلاته كيف يصنع ؟ فعّرفك بما سمعه مني في احكام الشك(4)، ان احكام الصلاة يجب على عموم المسلمين تعلُمها ، وانت اولى من غيرك بالفقه بها والوقوف عليها .

------------------------
(1) سنن ابي داود ص 53 ، سنن ابن ماجة 1 ـ 200 ، سنن النسائي 1 ـ 59 .
(2) سورة المائدة : آية 6 .
(3) سورة النساء : آية 41 .
(4) مسند أحمد بن حنبل 1 ـ 192 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _91_

10 ـ البكاء على الميت :
  إن البكاء على الميت إذا كان عزيزاً وأثيراً على أهله من الضرورات الطبيعية للإنسان ، فإنه مجبول على الانقياد لغرائزه ، وعواطفه ، فقد تجيش عواطفه إذا مات خليله ، حتى يتمنى مفارقة الحياة ، والبكاء بطبعه يخفف من لوعة المصاب ، ويطفىء غائلة الخطب ، وذلك سنّة من سنن الحياة لا يمكن التنكر لها ، ولما توفي ولدي ابراهيم بكيت عليه ، وقلت : « إن العين تدمع ، والقلب يحزن ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون » (1)، ولما استشهد عمي حمزة ، وجاءت أخته صفية بنت عبد المطلب تطلبه ، فحالت الأنصار بينها وبينه ، فقلت دعوها فجلست عنده ، فجعلت تبكي ، فكلما بكيت بكيتُ ، وإذا نشجتْ نشجتُ ، وقلت : لن أصاب بمثلك أبداً (2)، وكنت إذا زرت قبر أمي بكيت عليها (3) ، ولما توفيت رقية بنتي بكت النسوة عليها فجعلت تنهاهن فزجرتك ، وقلت لك : « مه يا عمر ؟ » .

---------------------------
(1) سنن أبي داود 3 ـ 58 .
(2) امتاع المقريزي .
(3) تاريخ الخطيب البغدادي 7 ـ 389 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _92_

  وخاطبت النسوة فقلت لهن : « إياكن ونعيق الشيطان فإنه مهما يكن من العين ، والقلب فمن الرحمة ، وما يكون من اللسان واليد فمن الشيطان ، وأخذت بضعتي سيدة النساء العالمين تبكي على رقية فجعلت أمسح دموعها ، (1) ولو كان غير مشروع لنهيتها عنه » ، وقد رويتَ عني إني قلت : « ان الميت يعذب ببكاء الحي (2) وأخذت تضرب النساء الثواكل التي نخب قلبهن الحزن على فقيدهن فقد ضربت أم فروة بنت أبي قحافة حين مات أبو بكر (3) ، وحينما مات خالد بن الوليد اجتمع في بيت ميمونة نساء يبكين عليه ، فشددت عليهن بالدرة ، فسقط خمار امرأة منهن فقالوا لك : سقط خمارها ، فقلت دعوها ، فلا حرمة لها (4) فأي جناية جنت هذه المرأة حتى تسقط حرمتها ، وأي ذنب اقترفته النسوة حتى تعلوهن بدرتك ! وقد نسبت الظلم إلى الله لعذيبه الموتى ببكاء الأحياء ، والله تعالى يقول في كتابه : « ولا تزر وازرة وزر أخرى » (5) وقد جاء في الكتاب الكريم فيما اقتص من حزن يعقوب على ابنه يوسف ، وبكائه عليه حتى ذهب بصره من الحزن « وتولى عنهم وقال يا اسفي على يوسف وابيضّت عيناه من الحزن فهو كظيم » : « قالوا تالله تفتؤ تذكر يوسف حتى تكون حرضاً أو تكون من الهالكين ، قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون » (6) .

---------------------------
(1) السنن الكبرى للبيهقي 4 ـ 70 .
(2) كنز العمال 8 ـ 119 ، الاصابة 3 ـ 606 .
(3) شرح ابن أبي الحديد 1 ـ 60 .
(4) كنز العمال 8 ـ 118 .
(5) سورة الانعام : آية 164 .
(6) سورة يوسف : آية 7 ـ 8 ـ 81 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _93_

  إن المنع عن البكاء لا يقره عقل ، ولا شرع وهو مجاف لسنن الحياة ومصادم لطبيعة الانسان التي تتصدع حينما تفقد عزيزاً ، وخليلاً ، وإني ـ والحمد لله ـ ما جئت بشيء مجاف للطبيعة أو منحرف عن سنن الكون ونواميس الحياة ، وقد نسبت إليّ ما لم أشرعه ، فلا حول ولا قوة إلا بالله .

11 ـ التجسس :
ونهى الله عن التجسس لمجرد ظن السوء ، قال تعالى : « يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن ان بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً » (1) ، أمر تعالى بذلك حفظاً على كرامة الناس ، وصيانة لشرفهم ، ولكنك لم تعن بذلك فقد خرجت ليلة فاجتزت بدار فسمعت فيها صوتا فارتبت ، وتسورت الدار ، فرأيت رجلاً عنده امرأة ، وزق خمر فقلت له : « يا عدو الله أظننت أن الله يسترك ، وأنت على معصيته ؟ » فزجرك ، وبيِّن لك موضع خطيئتك قائلاً : ( لا تعجل ما إن كنت أخطأت في واحدة فقد أخطأت في ثلاث ،قال الله تعالى : « ولا تجسسوا » وقد تجسست ، وقال : « أتوا البيوت من أبوابها » (2) وقد تسورت ، وقال : « إذا دخلتم بيوتاً فسلّموا » (3) وما سلمت ) ، فلم تكن لديك مندحوة إلا ان قلت : وهل عندك من خير إن عفوت عنك ؟ ، فقال : نعم والله لا أعود . . فعفوت عنه ، لقد جافيت ما أثر عني من النهي عن التجسس ، والأخذ بالظن ، فقلت : « إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ، ولا تحسسوا ولا تجسسوا ، ولا تناجشوا ، ولا تحاسدوا ، ولا تدابروا ، ولا تباغضوا ، وكونوا عباد الله إخوانا . . » (4) .

-----------------------------
(1) سورة الحجرات آية 12 .
(2) سورة البقرة . آية 189 .
(3) سورة النور : آية 61 .
(4) الفتوحات الأسلامية 2 ـ 477 ، الرياض النضرة 3 ـ 46 ، الدر المنثور 6 ـ 93 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _94_

  لقد كان تقحمك بيوت الناس بغير حق ، وبغير وجه مشروع ، فقلت كنت تلج البيوت مفتشاً عن آثام الناس وعوراتهم ، أفهذا من سنتي ، ومن شرعتي ، لقد خرجت في غلس الليل البهيم ومعك عبد الله بن مسعود ، فرأيت ضوء نار في بعض البيوت فاتبعته ، حتى دخلت الدار وحدك ، فإذا شيخ جالس ، وبين يديه شراب ، وقينة تغنيه ، فلم يشعر الشيخ بهجومك عليه ، فصحت في وجهه فقلت له : « ما رأيت منظراً أقبح من شيخ ينتظر أجله ؟ !! » ، فرفع الشيخ إليك رأسه ، ورد عليك قائلاً : « بلى صنيعك أنت أقبح مما رأيت مني ، إذ تجسست ، وقد نهى الله عن التجسس ، ودخلت بغير إذن »، فتحيرت في الجواب ، والدفاع عن نفسك ، وقلت له صدقت ، ثم خرجت على ثوبك تبكي (1)، وكان اللازم عليك ان تعاقب هؤلاء المتمردين بعدما اطلعت عليهم ، ولكنك لم تتخذ معهم أي اجراءات ، فهل كان خروجك للتجسس لأجل النزهة ، وترويح النفس ، أو التلذذ بمشاهدة المخمورين ، ان تسامح الحاكم يؤدي الى تمرد المجرمين في إجرامهم ، وانطلاقهم في ميادين الإث.

-----------------------------
(1) كنز العمال 2 ـ 141 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _95_

12 ـ درؤك الحد عن المغيرة :
  ومن الدواهي عدم إقامتك الحد على المغيرة بن شعبة لأنه كان أثيراً عندك ، فقد شهد عليه بذلك كلا من أبي بكرة ، وهو من فضلاء الصحابة في علمه وتقواه ، وشهد نافع بن حارث ، وشبل بن معبد ، وكانت شهادتهم صريحة واضحة بأن المغيرة قد زنى بامرأة محصنة ذات بعل ، وهي أم جميل بنت عمرو القيسية زوجة الحجاج الجشمي ، وكتبت الى زياد وهو الشاهد الرابع فلما حضر قلت له : إني أرى رجلاً لا يخزي الله على لسانه رجلاً من المهاجرين (1)، وقد أفهمته بكلامه عدم رضائك باقامة الحد على المغيرة فوجل منك ، واندفع يشهد كما اردت ، وبذلك درأت الحد عن المغيرة ، وأمرته بان يقيم الحد على الشهود الثلاث، بأي وجه اظهرت رغبتك إلى زياد بأن لا يفضح المغيرة ، وتعطيلك الحد عنه ، لقد مهدت الطريق بذلك الى تعطيل الحدود ، ودرئها بغير حق ، فلا حول ، ولا قوة إلا بالله .

13 ـ اقامتك الحد بغير وجه :
  وأغرب من ذلك اقامتك على جعدة من بني سليم ، ولم تقم عندك البينة على ارتكابه جريمة الزنا ، فقد قدم عليك بريد فنثر كنانته فبدرت صحيفة فقرأتها فاذا فيها :
ألا  أبـلغ أبا حفص iiرسولا      فـداً لك من أخي ثقة إزاري
قـلائصنا  هـداك الـلّه iiإنا      شـغلنا  عنكم زمن iiالحصار
فـما  قـلعي وجدن معقلات      قـفا  سـلع بمختلف iiالبحار
قلائص من بني سعد بن بكر      وأسـلم أو جـهينة أو iiغفار
يـعقلهن  جـعدة مـن iiسليم      مـعيداً يـبتغي سقط iiالعذار

--------------------------
(1) مستدرك الحاكم 3 / 248 ، وفيات الاعيان ، فتوح البلدان للبلاذري ص 353 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _96_

  فأمرت باحضار جعدة فجلدته مائة معقولاً (1) فبأي وجه أقمت عليه الحد ، ولم تقم عندك البينّة على أنه قد زنى ، سوى هذه الأبيات ، وهي لا تصلح للاعتماد عليها .

14 ـ نقصان الحد :
وأخذت تتصرف في حدود الله حسب ما شئت بغير وجه مشروع ، فقد نقصت حد شارب الخمر ، فقد جيء لك بشارب فبعثت به الى مطيع بن الأسود ليقيم عليه الحد ، واجتزت عليه فرأيته يضربه ضرباً شديداً فقلت له : « قتلت الرجل ، كم ضربته ؟ » : « ستين » ، فقلت اقص عنه بعشرين ، فجعلت شدة الضرب قصاصاً بالعشرين التي بقيت من الحد(2) كيف سانح لك نقصان الحد ، واعفاءه عما بقي منه وهذا من الاجتهاد قبال السنّة الذي لا يقره الشرع .

15 ـ ارث الاعاجم :
  ومن غريب فقهك أنك أبيت ان تورث احداً من الأعاجم الا من وُلد في بلاد العرب (3)بأي كتاب أم بأية سنّة ان العجمي لا يرث ؟ أليس المسلمون جميعاً على اختلاف قومياتهم وألوانهم سواء كاسنان المشط لا تفاوت لأحد على احد إلا بالتقوى ، وعمل الخير ، إن هذه الفتوى تتصادم مع ضروريات الاسلام ، وتتنافى مع جوهره وواقعه ، فإني قد جئت بالشريعة السمحاء التي هدمت جميع حواجز الجاهلية ، فقد ساويت بين جميع المسلمين ، وقد هتف القرآن الكريم بذلك قال تعالى : «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ » ،إن التفاخر بالعناصر ، والرجوع الى القوميات من الخلق الجاهلي وهو الطاعون الأسود الذي فرق بين أمتي ، فجعلهم أحزاباً وأنواعاً ، وقد تناسوا ان كلمة الاسلام هي الجامع الواقعي التي تضم بين جميع المسلمين .

-------------------------------
(1) السنن الكبرى 8 ـ 317 .
(2) الموطأ 2 ـ 12 .
(3) طبقات ابن سعد 3 ـ 205 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _97_

16 ـ رجم المضطرة :
  ورفع الاسلام الحكم التكليفي في حال الاضطرار فلا عقاب ولا إثم على المضطر ، وقد قلت « رفع عن امتي ما اضطروا اليه » وقد جهلت ذلك يا عمر ، فقد جيء اليك بامرأة قد زنت ، وقد اقرّت بذلك فأمرت برجمها ، فانبرى علي إليك فأنكر عليك ذلك ، وقال لعل لها عذراً ، ثم قال لها : ـ ما حملك على الزنا ؟ قالت : كان لي خليط ، وفي إبله ماء ، ولبن ، ولم يكن في إبلي ماء ، ولا لبن فطمئت ، فاستسقيته ، فأبى أن يسقيني حتى أعطيه نفسي ، فأبيت عليه ثلاثاً ، فلما ظمئت ، وظننت أن نفسي ستخرج أعطيته الذي أراد فسقاني ، ولما سمع ذلك علي ، تلا قول الله تعالى : « فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ » .

26 ـ المتزوجة في عدتها :
  ومن أحكامك التي تتصادم مع واقع السنة انك حكمت في المرأة المتزوجة فيعدتها بالتفريق بينهما ، وجعلت صداقها من بيت المال ، وقد بلغ ذلك علياً ، فأنكر عليك ، وقال : « ما بال الصداق وبيت المال انهما جهلا فينبغي للامام أن يردها إلى السنّة » ،وقد سئل عن السنّة في ذلك فأجاب « الصداق بما استحل من فرجها ، ويفرّق بينهما ، ولا جلد عليهما ، وتكمل عدتها من الأول » (1) .

--------------------------
(1) كنز العمال 3 ـ 96 ، الطرق الحكمية ص 53 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _98_

27 ـ رجم الحبلى :
  ومن أحكامك التي تتصادم مع الشريعة الاسلامية حكمت على امرأة حبلى قد اقترفت جريمة الزنا فأمرت برجمها ، فدخل عليك علي فقال : ـ لأي شيء ترجم هذه ؟ ـ ارتكبت جريمة الزنا ، فأنكر عليك ذلك ، وأفتى بما أنزل الله فقال : « إن كان لك سلطان عليها ، فما لك سلطان على ما في بطنها » ، ولما رأيت الحق في جانبه قلت : « كل أحد أفقه مني » (1) .

28 ـ أحكام الصلاة :
  ومن غريب أمرك خفاء أحكام الصلاة عليك فقد صليت المغرب فلم تقرأ في الركعة الأولى فاتحة ، وقرأتها مرتين في الركعة الثانية ، وقد أردت بذلك قضاءها ، وهي من الأجزاء التي لا تقضى وإنما اللازم سجدتا السهو .
----------------------------
(1) أحكام القرآن للجصاص 1 ـ 504 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _99_

29 ـ رجم المجنونة :
  ومن احكامك التي خالفت بها السنة حكمت بالرجم على مجنونة قد زنت فأخذتها الجلاوزة لاقامة الحد ، فاجتاز عليهم علي فسألهم عن أمرها فأخبروه فأمر بارجاعها إليك ، وقال لك : « أما تذكر ان رسول الله ( صلى عليه وآله ) قال : رفع القلم عن ثلاث : عن الصبي حتى يبلغ ، وعن النائم حتى يستيقظ ، وعن المعتوه حتى يبرأ . وان هذه معتوهة بني فلان لعل الذي أتاها ، أتاها وهي في بلائها فخله سبيلها » ، فجعلت تكبر ، وامرت باطلاق سراحها (1).

30 ـ رجم من ولدت لستة أشهر :ومن غريب ما حكمت به أنّك قد حكمت برجم امرأة ولدت لستة أشهر فرد عليك علي حكمك ، وقال لك : إن الله تعالى يقول : « وحمله وفصاله ثلاثون شهراً » وقال تعالى : « وفصاله في عامين » فالحمل ستة أشهر والفصال في عامين ، فتركت رجمها ، وقلت « لولا علي لهلك عمر » (2).

31 ـ المغالات في المهر :
ومنعت المسلمين من المغالات في المهور فقلت : ألا لا تغالوا في صداق النساء فإنه لا يبلغن عن أحد ساق أكثر من ساقه رسول الله أو سبق اليه ، الا جعلت فضل ذلك في بيت المال » . فنبهتك أمرأة من قريش على خطأك فقالت لك :ـ أكتاب الله أحق أن يتبع أو قولك ؟ ـ بل كتاب الله تعالى فما ذاك ؟ ـ نهيت الناس أن يغالوا في صداق النساء ، والله تعالى يقول في كتابه « وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً » ،فاعترفت على نفسك بالجهل وقلة الفقه فقلت : « كل أحد أفقه من عمر »(3) ومع اعترافك هذا كيف تتقدم للقضاء وللحكم بين الناس ؟ .

--------------------------
(1) سنن ابن ماجه 2 ـ 227 ، الرياض النضرة 2 ـ 196 ، إرشاد الساري للقسطلاني 10 ـ 9 ، فيض القدير 4 ـ 357 .
(2) الدر المنثور 1 ـ 288 ، كنز العمال 3 ـ 96 ، تفسير الرازي 7 ـ 484 ، السنن الكبرى 7 ـ 442 ، الرياض النضرة 2 ـ 194 ، ذخائر العقبى ص 82 .
(3) كشف الخفاء 1 ـ 269 للعجلوني ، كنز العمال 8 ـ 298 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _100_

32 ـ حد الخمر :
  ولما ورد الناس من المدن والقرى ، قلت ما ترون في حد الخمر فقال لك عبد الرحمن بن عوف أرى أن تجعله كأخف الحدود ، فجعلت الجلد ثمانين (1) ، إن من يكون خليفة على المسلمين ، وممثلاً لي لابد أن تكون له دراية باحكام الشرع ، ومعرفة بشؤون الدين .

33 ـ أخذ الدية بغير وجه مشروع :
  ومن الأمور التي تجافي الشرع أنك أخذت الدية بغير وجه مشروع وذلك في قصة أبي خراش الهذلي ، فقد أتاه نفر من أهل اليمن قدموا عليه حجاجاً فأخذ قربته ، وانطلق نحو الماء في ظلام الليل ليستقى لهم الماء ، وقبل أن يصل اليهم نهشته حية ، فأقبل مسرعاً حتى أعطاهم الماء ، وقال : اطبخوا شاتكم ، وكلوا ،ولم يعلمهم ما أصابه ، فباتوا على شأنهم حتى أصبحوا ، وأصبح أبو خرّاش ، وهو من الموتى ، وقال قبل موته :

-----------------------------
(1) سنن الدرامي 2 ـ 175 ، سنن أبي داود 2 ـ 240 ، سنن البيهقي 8 ـ 319 .

الرَّسُولُ الأعْظَم صلى الله عليه وآله مَع خُلفَائِهِ _101_

لـقد  أهـلكت حية بطن واد      على الاخوان ساقا ذات فضل
فما  تركت عدواً بين iiبصري      إلـى  صـنعاء يطلبه iiبذحل
  ولما انتهى إليك خبره غضبت غضباً شديداً وقلت : لولا أن تكون سنّة لأمرت أن لا يضاف يمان أبداً ، ولكتبت بذلك الى الآفاق ، وكتبت إلى عاملك باليمن أن يأخذ النفر الذين نزلوا على أبي خراش فيأخذ منهم الدية ، وينكل بهم جزاء لفعلهم(1) فبأي وجه استحق هؤلاء النفر التنكيل ، وبأي وجه أخذت الدية منهم .

34 ـ اقامتك الحد ثانياً على ولدك
ومن الأمور التي خالفت بها السنّة اقامتك الحد ثانياً على ولدك عبد الرحمن فقد أقام عمرو بن العاص عليه الحد حينما شرب الخمر في مصر ، وذلك بمحضر من أخيه عبد الله فلما بلغك ذلك كتبت الى ابن العاص أن يحمله على قتب بغير وطأ وأن يشدد عليه ، فأرسله إليك بالحالة التي أمرته فيها ، وقد كتب إليك باقامته الحد عليه ، وبعث بالكتاب مع ولدك عبد الله فلما انتهى إليك وهو لا يستطيع المشي لمرضه ، وإعيائه ، وأبصرته أمرت باحضار السياط ، فقال لك عبد الرحمن بن عوف : أنه قد اقيم عليه الحد ، وشهد بذلك اخوه عبد الله فلم تلتفت إليه ، واخذت السياط ، وجعلت تضربه وهو يستغيث ، ويقول : « انا مريض ، وانت والله قاتلي »، وبعد ان اقمت عليه الحد حبسته شهراً فمات (2) فبأي وجه اقمت عليهالحد ثانياً ، على ان المريض لا يقام عليه الحد حتى يُبلَ من مرضه ، بالاضافة الى ان حبسك له كان بغير وجه مشروع .

--------------------------
(1) الاستيعاب في ترجمة أبي خراش الهذلي .
(2) شرح نهج البلاغة 3 ـ 127 ، العقد الفريد 3 ـ 470 ، ارشاد الساري 9 ـ 439 ، تاريخ الخطيب للبغدادي 5 ـ 450 ، الرياض النضرة 2 ـ 32 .