« الثاني » ان أسرتك التي بررت فيها ، وان الذوات التي أغدقت عليهم بالثراء العريض إنما هم خصوم الإسلام وأعداؤه ، وقد قلت لأبي العاص بن أمية : « إنكم الشجرة الملعونة في القرآن »
، وأنت تعرف دوافع أسرتك ، وما انطوت عليه نفوسهم من العداء للاسلام ، والحقد عليه ، وانها لم تؤمن بالله طرفة عين ،
أفيصح لك أن تهب أموال المسلمين إلى أعدائهم وخصومهم ؟ وقد حرم الله مودة المعادين له ، وحرم مواصلتهم قال تعالى : « لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو اخوانهم أو عشيرتهم »
، لقد كنت شديد الحب لاسرتك ، لم تألو جهداً في تقوية نفوذهم ، واعلاء أمرهم ، وبلغ من عظيم حبك لهم أنك قلت : « لو أن بيدي مفاتيح الجنة لأعطيتها بني أمية حتى يدخلوا عن آخرهم »
ولم يكفك أنك أعطيتهم خزائن بيت مال المسلمين ، وسلطتهم على الفيء وجميع المقدرات الاقتصادية ، انك تريد أن تهبهم مفاتيح الجنان ليتبؤن منها حيثما شاؤوا ، وهيهات فإنه لا ينالها إلا المتقون المتحرجون في دينهم .
هباتك للأعيان :
ووهبت أموال المسلمين بسخاء إلى الأعيان والوجوه ، وذوي النفوذ ممن تخشى سطوتهم عليك ، فقد وصلت طلحة بمائتي ألف دينار
(1) وكانت لك عليه خمسون ألفاً فوهبتها له
(2) ووصلت الزبير الذي ثار عليك ، بستمائة ألف دينار ، ولما قبضها حار في صرفها فسأل عن خير المال ليستغل صلته فدل على اتخاذ الدور في الأقاليم والأمصار
(3) فبنى إحدى عشر داراً بالمدينة ودارين بالبصرة وداراً بالكوفة ، وداراً بمصر
(4)، ووهبت الأموال الضخمة لزيد بن ثابت حتى بلغ به الثراء العريض وإنه لما توفي خلف من الذهب والفضة مايكسر بالفؤوس غير ما خلف من الأموال والضياع ما قيمته مائة ألف دينار
(5) ، فبأي وجه تصحح هذه الهبات ؟ وكيف ساغ لك أن تمنحها لذوي النفوذ ، وقد جعلها الله للفقراوالمحرومين لتنقذهم مما هم فيه من محنة الزمن وخطوب الدهر ، إنك لم تهبهم هذه الأموال إلا لأجل تقوية نفوذك ، وبسط سلطانك غير مبال بصالح المسلمين ، ورعاية أمورهم .
استئثارك بالأموال :
واستترفت بيوت الأموال فاسطفيت منها ما شئت لنفسك وعيالك ، وقد بالغت في البذخ والاسراف ، فبنيت داراً في يثرب ، وقد شيدتها بالحجر والكلس ، وجعلت أبوابها من الساج والعرعر ، واقتنيت أمولاً وجناناً في يثرب
(6) وكنت تنضد أسنانك بالذهب ، وتلبس ثياب الملوك ، وأنفقت أكثر بيت المال في عمارة ضياعك ودورك
(7) ، ولما قتلت كان عند خازنك ثلاثون الف الف درهم ، وخمسمائة الف درهم ، وخمسون ومائة الف دينار ، وتركت ألف بعير وصدقات ببراديس ووادي القرى قيمة مائتي الف دينار
(8) .
------------------------
(1) طبقات ابن سعد .
(2) تأريخ الطبري 5 / 139 .
(3) طبقات ابن سعد .
(4) صحيح البخاري 5 ـ 21 .
(5) مروج الذهب 1 ـ 433 .
(6) مروج الذهب 1 ـ 433 .
(7) السيرة الحلبية 2 ـ 87 .
(8) طبقات ابن سعد 3 ـ 53 .
الرَّسُولُ الأعْظَم
صلى الله عليه وآله
مَع خُلفَائِهِ
_144_
انك لم تتقيد في سياستك المالية لا بكتاب الله ولا بسنّتي ، وقد اتخذت السلطة وسيلة للثراء ، وتتمتع بملاذ الحياة فادهنت في دينك ، وسلكت غير الجادة ، وشذذت عن السنّة الموروثة، وكان من العدل والانصاف ما أصدره علي من القرار الحاسم في هذه الأموال التي استأثرت بها ، والتي وهبتها لأرحامك واقربائك أنه قال : « ألا أن كل قطيعة أقطعها عثمان ، وكل مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال ، فإن الحق القديم لا يبطله شيء ، ولو وجدته قد تزوج به النساء ، وفرق في البلدان لرددته الى حاله فإن في العدل سعة ، ومن ضاق عنه الحق فالجور عنه أضيق »
(1)،
وكان هذا الاجراء الذي اتخذه أمير المؤمنين على وفق العدل الإسلامي الذي حدد صلاحية المسؤولين ، ولم يطلق لهم العنان في التصرف بأموال الأمة أو الاستئثار بها .
ولاته على الأمصار :
وكان اللازم عليك ان تستعمل على الأقاليم الإسلامية خيرة المسلمين في تقواهم وورعهم ونزاهتهم ليقوموا بتهذيب المسلمين ، ونشر الفضيلة والهديالاسلامي بين الناس ، ولكنك لم تعن بذلك فقد استعملت بني أمية وآل أبي معيط حكاماً وولاة على الاقاليم الاسلامية فأشاعوا في البلاد الجور والفساد ، واستحلوا ما حرم الله ، وجعلوا يتلاقفون مقدرات الأمة تلاقف الكرة بأيدي الصبيان كما اوصاهم عميدهم أبو سفيان ونشير إلى بعض ولاتك مع عرض موجز لبعض شؤونهم ، وهم :
----------------------
(1) نهج البلاغة محمد عبده 1 ـ 46 .
الرَّسُولُ الأعْظَم
صلى الله عليه وآله
مَع خُلفَائِهِ
_145_
الوليد بن عقبة :
واستعملت الوليد بن عقبة على الكوفة بعد ان عزلت عنها سعد بن أبي وقاص ، هل كان الوليد خليقاً بأن يعهد اليه أمر هذا المصر العظيم ، كيف ساغ لك أن تأتمنه على أموال المسلمين ، وتعهد إليه بأمر الصلاة والقضاء ؟ وهو لم يفهم من الإسلام أي شيء ،
لقد نشأ الوليد نشأة جاهلية ، ولم يدخل بصيص من نور الإسلام في قلبه ، فقد كان أبوه من ألد أعدائي فكان هو وابو لهب يأتيان بالفرث فيطرحانه على باب داري
(1) ، وقد بصق هذا الأثيم في وجهي فقلت له : إن وجدتك خارجاً من جبال مكة أضرب عنقك صبراً ، فلما كان يوم بدر ، وخرج أصحابه امتنع من الخروج خوفاً من القتل فما زال أصحابه يلحون عليه حتى خرج فلما هزم الله المشركين كان عقبة من جهة الأسرى فعهدت إلى علي بضرب عنقه
(2) وقد أُترعت نفس الوليد بالحقد والعداء لي لأني قد ذكرته بأبيه ، ولما لم يجد بداً من الدخول في الاسلام وهو مكره ، وقلبه مطمئن بالكفر والنفاق .
وقد نطق القرآن الكريم بفسقه وعدم إيمانه وذلك حينما تفاخر مع أمير المؤمنين عليه السلام فقال له الوليد :« واسكت فإنك صبي ، وأنا شيخ ، والله إني أبسط منك لساناً ، وأحدّ منك سناناً ، وأشجع منك جناناً ، وأملأ منك حشواً في الكتيبة . . »
فردّ عليه أمير المؤمنين قائلاً : « أسكت فإنك فاسق » .
-----------------------
(1) طبقات ابن سعد 1 ـ 186 ط مصر .
(2) الغدير 8 ـ 273 .
الرَّسُولُ الأعْظَم
صلى الله عليه وآله
مَع خُلفَائِهِ
_146_
فأنزل الله تعالى فيهما « أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقاً »
(1) ، وقد غشني وكذّب عليّ حينما أرسلته في بني المصطلق فعاد إلي يزعم انهم منعوه الصدقة فخرجت اليهم غازياً فتبين لي كذبه ، ونزلت عليَّ الآية بفسقه وهي قوله تعالى : « يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين »
(2) ، ومع إعلان القرآن بفسقه ، وتجريده عن صبغة الإيمان كيف ساغ لك أن تجعله حاكماً على المسلمين ، ولما استعملته والياً على الكوفة بالغ في الاستهتار والتهتك والمجون ، فلم يرجو لله وقاراً ، وقد اقترف أفحش جريمة ، وأفظع ذنب ، فقد ثمل وصلى بالناس صلاة الصبح أربع ركعات ، وصار يقول في ركوعه وسجوده « اشرب واسقني » ثم قاء في المحراب وسلم ، وقال هل أزيدكم ؟ ، فقال له ابن مسعود : لا زادك الله خيراً ، ولا من بعثك الينا وأخذ فروة نعله ، وضرب بها وجه الوليد ، وحصبه الناس فدخل القصر ، والحصباة تأخذه ، وهو مترنح
(3) ويقول الحطيئة جرول ابن أوس العبسي في فعله :
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه إن الـوليد أحـق iiبالغدرِ نـادى وقد تمت iiصلاتهم أأزيـدكم ثـملاً ولا iiيدري |
-------------------------
(1) تفسير الطبري 21 / 62 .
(2) سورة الحجرات : آية 6 يقول ابن عبد البر في الاستيعاب 2 / 62 لا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن فيما علمت أن الآية نزلت في الوليد .
(3) السيرة الحلبية 2 / 314 .
الرَّسُولُ الأعْظَم
صلى الله عليه وآله
مَع خُلفَائِهِ
_147_
لـيـزيدهم خـيـراً ولـو iiقـبلوا مـنـه لـزادهـم عـلى iiعـشرِ فـأبوا أبـا وهـب ولـو iiفـعلوا لـقـرنت بـين الـشفع iiوالـوترِ حـبـسوا عـنـانك إذ iiجـريت ولو خلوا عنانك لم تزل تجري (1) |
وقد أسرع قوم من الكوفيين بعد اقترافه إلى هذه الجريمة فعرضوا عليك انتهاكه لحرمة الله ، وقد صحبوا معهم خاتمه الذي انتزعوه منه ، وهو في حالة السكر ، ولما شهدواعندك زجرتهم وقلت لهم : « وما يدريكم انه شرب الخمر ؟ » ، فقالوا لك : « هي الخمر التي كنا نشربها في الجاهلية » ، وأخرجوا لك خاتمه الذي انتزعوه منه ، وهو في حال سكره ، فتميزت من الغيظ ، ودفعت في صدورهم ، وقابلتهم بأمر القول ، وأقساه ، وليس للحاكم أن يفعل ذلك ، وهرعوا فزعين إلى أمير المؤمنين يشكونك اليه ، فأقبل اليك وهو ثائر غضبان فقال لك : « دفعت الشهود ، وأبطلت الحدود ؟ » .
فخشيت ، وحاذرت واجبته على كره قائلاً : « ما ترى ؟ » ،
« أرى ان تبعث إلى صاحبك ، فإن أقاما الشهادة في وجهه ولم يدل بحجة أقمت عليه الحد » ، فاستجبت له على كره ، وأرسلت خلفه فلما مثل عندك أمرت باحضار الشهود فأقاموا عليه الشهادة ، ولم يدل الوليد بحجة ، وقد وجب عليه الحد فلم يقم أحد عليه خوفاً منك ، فلما رأى أمير المؤمنين ذلك اندفع فأخذ السوط ودنا منه ، فسبه الوليد ، وأخذ يراوغ عنه فاجتذ به الإمام ، وضرب به الأرض ، وعلاه بالسوط فثرت وقد علاك الغضب فقلت له : « ليس لك ان تفعل هذا به . . » .
--------------------------
(1) الأغاني 4 / 178 ـ 179 .
الرَّسُولُ الأعْظَم
صلى الله عليه وآله
مَع خُلفَائِهِ
_148_
« بلى وشر من هذا إذا فسق ، ومنع حق الله أن يؤخذ منه »
(1) ، وأقام عليه الحد ، وكان اللازم بعد ارتكابه لهذا الجرم ، وانتهاكه لحرمة الاسلام أن تبعده ، وتجافيه حتى يرتدع هو وغيره من ارتكاب الفسق والفساد ، ولكنك لم تعن بذلك فقد عطفت عليه ، ووليته صدقات كلب ، وبلقين
(2) ، وكيف ساغ لك أن تأتمنه على صدقات المسلمين وأموالهم بعد ما ثبت فسقه وارتكابه للاثم .
سعيد بن العاص:
وبعد أن اقترف الوليد جريمته النكراء أقصيته عن الكوفة على كره منك ، وقد عمدت إلى اسناد الحكم إلى سعيد بن العاص فوليته أمر هذا المصر العظيم ، وقد استقبله الكوفيون بالكراهية والاستياء وعدم الرضا لأنه كان شاباً مترفاً
(3) لا يتحرج من الإثم ، ولا يتورع من الافك ، كما كان طاغياً جباراً ، قال لأصحابه بعد أن ولي الكوفة : « من رأى منكم الهلال ؟ » فقال له هاشم بن عتبة المرقال : أنا رأيته فوجه إليه لاذع القول وأقساه ، فقال له : « بعينك هذه العوراء رأيته ؟ » ،فالتاع هاشم وأجابه : « تعيرني بعيني ، وإنما فقئت في سبيل الله ـ وكانت عينه أصيبت يوم اليرموك ـ » ، وفي استهتاره قوله : « إنما السواد ـ اي سواد الكوفة ـ بستان لقريش » ، وقد أثار ذلك سخط الأخيار والمتحرجين في دينهم ، فانبرى إليه مالك الاشتر فأنكر عليه ذلك قائلاً : « أتجعل مراكز رماحنا ، وما أفاء الله علينا بستاناً لك ولقومك ؟ ، والله لو رامه أحد لقرع قرعاً يتصأصأ منه » .
------------------------
(1) مروج الذهب 2 / 225 .
(2) تأريخ اليعقوبي 3 / 142 .
(3) طبقات ابن سعد 5 ـ 21 ، تأريخ ابن عساكر 6 ـ 135 .
الرَّسُولُ الأعْظَم
صلى الله عليه وآله
مَع خُلفَائِهِ
_149_
وانضم إلى الأشتر قراء المصر وهم ينكرون على عاملك هذا الاستهتار ، فغضب صاحب شرطته فرد على القوم رداً غليظاً ، فقاموا إليه فضربوه ضرباً منكراً حتى أغمي عليه ، وأخذوا يطلقون ألسنتهم بنقده ، ويذكرون مثالبك وجرائم بني أمية ، وكتب سعيد إليك بخبرهم فأمرته أن يعتقلهم في الشام ، وينفيهم عن مصرهم ، وهم لم يرتكبوا إثماً أو فساداً ، ولم يقترفوا جرماً حتى يستحقوا هذا التنكيل ، وانما نقدوا عاملك لأنه شذ عن الطريق ، وقال غير الحق ، وأخرجهم سعيد عن أوطانهم بالعنف فأرسلهم إلى الشام إلى بلد لم يألفوه ، ولا يسكنون إلى من فيه وتلقاهم معاوية فأنزلهم في كنيسة ، وأجرى عليهم بعض الرزق ، وجعل يناظرهم ، ويحاججهم ، وهم مصرون على منطقهم إن السواد ليس ملكاً لقريش فأي ميزة يمتاز بها الشرك إلا القليل منهم ، ولما يئس عاملك وقريبك معاوية منهم كتب إليك يستعفيك من ابقائهم في الشام خوفاً من أن يفسدوا أهلها عليه فأمرته أن يردهم الى الكوفة فعادوا إليها وهم مصرون على نقد عاملك وعلى نقد سياستك ، فأعاد سعيد عليك الكتابة يطلب منك ابعادهم عن مصرهم فأمرته أن ينفيهم الى حمص فنفاهم إليها ، واستقبلهم عبد الرحمن بن خالد عامل معاوية بالعنف والشدة ، وسامهم سوء العذاب ، وقابلهم بأغلظ القول وأفحشه ، فكان اذا ركب أمرهم بالمسير حول ركابه مبالغة في توهينهم وإذلالهم ، لوما رأوا تلك القسوة البالغة والعذاب المهين أظهروا الطاعة ، وطلبوا منه أن يصفح عنهم ، فعفا عنهم ، وكتب إليك يسترضيك ، ويسألك العفو عنهم فأجبته الى ذلك ، وأمرت بردهم الى الكوفه ، ونزح سعيد من الكوفة الى يثرب لمواجهتك فوجد القوم عندك يشكونه إليك ، ويسألونك عزله ، فامتنعت من إجابتهم ، وأصررت على ابقائه في عمله، فرجعالقوم إلى مصرهم قبله ، وقد احتلوا الكوفة ، وأقسموا أن لا يدخلها عاملك الأثير عندك ، ولما توجه سعيد منعوه من دخول المصر ، وأجبروك على عزله فاستجبت لهم على كره
(1) .
------------------------
(1) الأنساب 5 ـ 39 ـ 43 ، تأريخ الطبري 5 ـ 88 ، تأريخ أبي الفداء 168 .
الرَّسُولُ الأعْظَم
صلى الله عليه وآله
مَع خُلفَائِهِ
_150_
لقد نكلت بالأخيار والصلحاء من أجل مارق خبيث مستهتر متهور فسلطته على رقاب المسلمين وأموالهم وأعراضهم لأنه من أسرتك وذويك ، فأي سياسة رعناء سست بها البلاد ؟ لقد سلطت شرار خلق الله على أمتي فأخذوا يسومونها سوء العذاب فنكّلوا بأخيارها ، وطاردوا صلحاءها ، ياذا النورين ! يا من تستحي الملائكة منه ! أهكذا تسلط الفساق وشذاذ الآفاق على المسلمين لينتزعوا منهم حريتهم ، ويشيعون في ربوعهم الظلم والجور والاستبداد والأمر لله فهو الحاكم في عباده ، وهو ولي الأمور ، واخترت ابن خالك عبد الله بن عامر فوليته البصرة وهو ابن اربع أو خمس وعشرين سنة
(1) وهو كما وصفه أبو موسى الأشعري بقوله : « ولاج خراج » ، وقد سار في ولايته في البصرة سيرة ترف وبذخ فهو أول من لبس الخز في البصرة ، وقد لبس جبة وكناء فقال الناس : « لبس الامير جلد دب » فغير لباسه ، ولبس جبة حمراء
(2) .
وقد أنكر المسلمون سياسته ، وسخطوا على اوضاعه ، كما عابوا عليك اعمالك ، وقد اجتمع الأخيار والمؤمنون فتذاكروا أحداثك فأجموا أن يبعثوا إليك رجلاً يكلمك بما احدثه في المسلمين فأرسلوا إليك عامر بن عبد الالتميمي الزاهد العابد ، ولما انتهى اليك وعظك وأرشدك إلى طريق الحق قائلاً : « إن ناساً من المسلمين اجتمعوا فنظروا في أعمالك فوجدوك قد ركبت أموراً عظاماً ، فاتق الله عزّ وجلّ ، وتب إليه ، وانزع عنها » .
-------------------------
(1) الاستيعاب المطبوع على هامش الأصابة 2 ـ 253 .
(2) اسد الغابة 3 ـ 192 .
الرَّسُولُ الأعْظَم
صلى الله عليه وآله
مَع خُلفَائِهِ
_151_
فاحتقرته ، وبالغت في توهينه فقلت لمن حولك : « إنظروا إلى هذا فإن الناس يزعمون أنه قارئ ثم هو يجيء فيكلمني في المحقرات ، فوالله ما يدري أين الله » ، فانطلق لك العبد الصالح وقد أسخط قولك فقال لك : ـ انا لا أدري أين الله ـ نعم ، ـ إني لأدري ان الله بالمرصاد ، فلذعك قوله ، ولكنك لم تستجب لندائه ، وقد أرسلت خلف مستشاريك وأعوانك من بني أمية فعرضت عليهم الأمر فأشار عليك عبد الله بن عامر قائلاً : « رأيي لك يا أمير المؤمنين أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك ، وان تجمرهم في المغازي حتى يذلوا لك ، فلا يكون همة أحدهم وما هو فيه من دبر دابته ، وقمل فروته » ، وقد أشار بالظلم والجور وبالتضييق على الناس وقد أخذت بقوله ، وتركت رأي الآخرين فأمرت بتجمّر الناس في البعوث ، وعزمت على تحريم أعطياتهم حتى يطيعوك
(1) ، ولما عاد إلى البصرة عبد الله بن عامر عمل إلى التنكيل بعامر بن عبد الله ، فأوعز إلى عملائه وأذنابه أن يشهدوا عنده بان عامراً قد خالف المسلمين في أمور قد أحلها الله ، فهو لا يأكل اللحم ، ولا يرى الزواج ، ولا يشهد الجمعة
(2) فشهدوا له بذلك ، ورفع بذلك تقريراً اليك فأمرت بنفيه إلى الشام على ( قتب ).
----------------------
(1) تاريخ الطبري 5 ـ 94 ، تاريخ ابن خلدون 2 ـ 39 .
(2) الفتنة الكبرى 1 ـ 116 .
الرَّسُولُ الأعْظَم
صلى الله عليه وآله
مَع خُلفَائِهِ
_152_
فحمل اليها وأنزله معاوية الخفراء ، وبعث اليه بجارية وأمرها ان تتعرف على حاله ، وتكون عيناً عليه ، فرأته رجل تقوى وصلاح يقوم في الليل متعبداً ، ويخرج من السحر فلا يعود إلا بعد العتمة ، ولا يتناول من طعام معاوية شيئاً فكان يجيء بالكسر من الخبز ، ويجعلها بالماء ويشرب من ذلك الماء ، فأخبرت معاوية بشأنه فكتب اليك بأمره فأوعزت اليه بصلته
(1) ، وقد نقم المسلمون عليك لأنك نفيت رجلاً من خيار المسلمين وصلحائهم
(2) ولم يكن له ذنب سوى انه نقد عاملك وعاب عليه أعماله ، وليس لولي الأمر الصلاحية في نفي أحد من المسلمين فإنه لم يشرع إلا لمن حارب الله ورسوله ، وسعى في الأرض فساداً ، وقد ظل عبد الله بن عامر والياً من قبلك على البصرة إلى ان قتلت فلما سمع بمقتلك نهب ما في بيت المال وسار إلى مكة فوافى بها طلحة والزبير وعائشة فأمدهم بالأموال وأعانهم على التمرد والخروج على حكومة أمير المؤمنين ،
فلا حول ولا قوة إلا بالله .
عبد الله بن سعد :
وحبوت أخاك من الرضاعة عبد الله بن سعد بن أبي سرح بولاية مصر ، ومنحته إمارة هذا القطر العظيم وجعلت بيده أمر صلاته ، وخراجه
(3) وقبل ذلك منحته الأموال الطائلة ، ووهبته الثراء العريض فخصصته بخمس غنائم افريقية ، ولم يكن خليقاً بذلك فإن له تاريخاً أسوداً حافلاً بالآثام والموبقات فقد ارتد مشركاً بعد اسلامه وصار إلى قريش ساخراً مني ، ومستهزءاً بي ، وكان يقول لهم : « إني أصرفه حيث اريد » .
------------------------
(1) الاصابة 3 ـ 85 .
(2) اسد الغابة 3 ـ 192 .
(3) الولاة والقضاة ص 11 .