2 ـ اشتهار ثبوت الحكم للموضوع بالدعايات ووسائل النشر والاعلام ونحوها مما يوجب تلقينا نفسيا للمجتمع ، ولعل هذه الجهة هي الموجبة لاستعمال هذا الاسلوب في مواضيع كان محتوى الدليل فيها مخالفا لما هو المشهور لدى العامة ك ـ (لا طلاق الا باشهاد) فإن العامة ترى صحة الطلاق بلا اشهاد .
3 ـ أن يكون العموم الملحوظ لدى المخاطب ذا لسان آب عن ، التخصيص كما قد يقال في قوله تعالى : ( ان الظن لا يغني من الحق شيئاً )(1) ففي هذه الحالة لا يناسب استخدام الاسلوب الصريح وهو اسلوب التخصيص ، باعتبار منافاته مع لسان العام ، بل لا بد من اختيار أسلوب الحكومة المنسجم معه كما مرذلك .
فهذه بعض مناشىء الارتكاز الذهني بين الحكم وموضوعه .
فمثل هذه العوامل والاسباب هي التي تقتضي أن يعبر الشارع عن مقصوده بلسان غير مباشر حتى لا يصطدم بالمشاعر والاحاسيس والمرتكزات الذهنية المحترمة لدى الجمهور.
فهذه هي النكتة العامة لأسلوب الحكومة .
لكن هذه النكتة إنما هي فيما كان مصب النفي أو الاثبات فيها نفس الحكم أو ما يرتبط به كالموارد الخمسة الأولى من موارد السلب التنزيلي التي سبق ذكرها في الأمر الأول ، وأما حيث يكون مصب ذلك امرا خارجياً مسبباً عن الحكم كالحرج والضرر ـ وهو المورد السادس من تلك الموارد ـ فإنه لا تتأتى فيه هذه النكتة كما هوواضح ، بل لا يبعد ان تكون النكتة في العدول الى لسان التنزيل في مثل ذلك بيان عدم تناسب ثبوت الحكم المسبب الى
(1) يونس 10 | 36 .
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 252 ـ الحرج والضرر مع المصلحة العامة .
الجهة السادسة : في اقتضاء لسان التنزيل (وهو لسان الحكومة) نظر الدليل الى ارتكاز ذهني للمخاطب على خلافه ـ لا الى عموم أو اطلاق ـ.
قد ظهر مما ذكرنا أن اسلوب التنزيل ـ وهو لسان الحكومة باعتبار مصححه البلاغي ـ يقتضي نظر المتكلم الى ارتكاز ذهني مخالف للدليل ، حيث إن اختيار الاسلوب غير المباشر بالذات ، إنما هو لعدم مجابهة هذا الارتكاز وذلك جريا على النكتة العامة للاعتبارات الأدبية من اختيار الاسلوب المناسب مع مشاعر المخاطب واحساسه .
وبذلك يتضح بان الفكرة المخالفة التي ينظر الدليل الحاكم الى ردها إنما هي الاعتقاد المرتكز في ذهن المخاطب ، وليس معنى متمثلاً في الأدلة بحسب مقام الاثبات من عموم أو اطلاق ، كما اشتهر لدى الاصوليين حيث قالوا ان قوام الحكومة بوجود عموم أو اطلاق يكون الدليل الحاكم ناظراً .اليه ، اذ يرد على ذلك :
أولاً : ان مصحح هذا الاسلوب كما ذكرناه في تحليل الموضوع ليس النظر الى دليل اخر، وانما الى ارتكازمخالف سواء كان عليه دليل من عموم أو اطلاق أو غيرهما أم لا؟ ومجرد وجود العموم أو الاطلاق لايصحح اختيار هذا اللسان والعدول عن التعبير الصريح من قبل البليغ لأن هذا الاسلوب اسلوب ادبي يتضمن ائبات الشيء أو نفيه تنزيلا، والاسلوب الأدبي انما تصححه نكتة بلاغية تتعلق بكيفية التأثير في المخاطب ، ومجرد النظر الى دليل آخر ليس كذلك كما هو واضح .
وثانياً: انه يصح استعمال هذا اللسان بالبداهة اللغوية حتى فيما لم يكن هناك عموم أو اطلاق اذا كان هناك ارتكاز ذهني للعرف يخالف بعمومه مؤدى الدليل ، اما من جهة تصور الإجماع الحجة أو لشدة تناسب الحكم
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 253 ـ
والموضوع أو لغير ذلك من عوامل الارتكاز الذهني .
ومن هنا صح قوله عليه السلام (لا طلاق الا باشهاد) مثلا رغم ورود الأمر بالإشهاد في الاية عقيب ذكرالطلاق مما يمنع عن تحقق إطلاق لها في ذلك ، قال تعالى ( يا ايها النبي اذا طلقتم النساء فطلقهوهن لعدتهن واحصوا العدة ... )(1) ثم قال في الآية التالية : ( فاذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف واشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ) (2) .
فهذا يؤكد أنه ليس مصحح هذا الاسلوب ومقتضاه وجود عموم أو اطلاق ، بل العبرة بالارتكاز الذهني للمخاطب ولو كان على خلاف الدليل كما في الطلاق باعتبار اشتهار فتوى العامة فيه .
وثالثاً : انه قد يكون صدور الدليل المتضمن لهذا الاسلوب على أساس عدم وجود دليل على الحكم فلا يعقل ثبوت مفاده مع وجود الدليل عليه وذلك كما في (رفع ما لا يعلمون ) (وكل شيء لك حلال ).
وهكذا يتضح انه لا تتوقف صحة استعمال هذا الاسلوب على وجود عموم أو اطلاق فلا يكون صدور الحاكم لغواً لو لم يكن هناك دليل محكوم في رتبة سابقة ـ على ما هو المعروف منهم بين الاعلام ـ.
نعم هنا نكتة أخرى هي أن رد الارتكاز الذهني ـ ولو بنحوغير صريح ـ يستبطن نفي ما يكون حجة على هذا الارتكاز لدى المخاطب ـ بما في ذلك العموم والاطلاق ـ فيما اذا كان المتكلم مطلعاً عليه فيكون تحديد ذلك ملحوظا بنحو غير مباشر في لسان التنزيل ، الاً ان هذا اللحاظ غير المباشر
(1) الطلاق 65| 1 .
(2) الطلاق 65 | 2 .
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 254 ـ
ليس هو المصحح لهذا الاسلوب كما هوواضح .
الجهة السابعة : في مدى اشتراك الحكومة والتخصيص في الأحكام .
قد ظهر بما ذكرنا ان الحكومة والتخصيص متحدان بحسب المحتوى، وانما يختلفان في أسلوب أداء المعنى، حيث انه اسلوب مسالم للعموم في الأول ، ومعارض معه في الثاني ، ويتفرع على هذه الجهة اشتراك الحاكم والمخصص في الأوصاف والأحكام المنوطة بمحتوى الدليل دون الأحكام المنوطة باسلوبه .
توضيح ذلك : ان الاحكام التي تثبت للدليل المخصّص أو العام على قسمين :
1 ـ القسم الأول : ما يكون منوطا بمحتوى الدليل ، وهو القسم الأكبر منها لأن اكثر الاحكام المذكورة للخاص في المباحث المختلفة انما تثبت له باعتبار واقعه من اخراج بعض افراد العام عن تحته وفيما يلي بعض امثلة ذلك :
منها: اتصاف المخصص المنفصل بكونه معارضا مع العام ، فان التعارض كما اشرنا من قبل انما هو وصف للدليل بلحاظ مدلوله التفهيمي لا باعتبار لسانه ومعناه الاستعمالي .
ومنها: تأثير المخصص في تحديد ظهور العام حيث يكون متصلا، وفي تحديد حجيته حيث يكون منفصلا فان هذا التأثيرانما هوبلحاظ محتواه المصادم للعام ، لا باعتبار أسلوبه كما هو واضح ، وكذلك القول في مدى اعتبار ظهور العام وحجيته مع الشك في المخصص المتصل أو المنفصل .
ومنها : امتناع تخصيص الأحكام العقلية، وسر الامتناع ان التخصيص يرجع الى أوسعية مقام الاثبات عن مقام الثبوت في الحكم المخصص ،
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 255 ـ
والحكم العقلي ليس له مقامان إثبات وثبوت ، واستلزام التخصيص لذلك ايضا بلحاظ محتواه لا بلحاظ مفاده الاستعمالي .
ومنها : امتناع تخصيص العام في اكثر افراده من جهة لزوم التناسب بين التعبير في مقام الاثبات وبين مقام الثبوت فلا يناسب التعبير بالعموم اثباتا، الاّ حيث يثبت الحكم لما يناسب العموم في الواقع وتخصيص العام بهذه الكثرة ينقض التناسب المذكور.
ومنها: كون التخصيص أهون وجوه التصرف في الظاهر ولذا يتعين حيث يدور الأمر بينه وبين حمل الأمر على الاستحباب في مثل (يستحب إكرام العلماء) و(اكرم العالم العادل ) ووجه ذلك : استلزامه رفع اليد عن اصالة العموم واصالة العموم اضعف الظهورات المنعقدة للكلام ، بخلاف حمله على الاستحباب فإنه مستوجب لرفع اليد عن ظهور الأمر في الوجوب وهو ظهور قوي .
فهذا القسم من احكام المخصص يشترك معه فيها الدليل الحاكم ، لأنها منوطة بمحتوى الدليل وهو متحد فيهما، ولو لم تثبت تلك الأحكام للحاكم كان مرجعه إلى تأثير أسلوب اللهليل في تحقق الوصف أو الحكم المنوط بمحتواه أو في عدم تحققه وهو امر غير معقول .
وبذلك يظهر النظر في جملة من كلمات المحقق النائيني (قده ) حيث فصل بين موارد الحكومة والتخصيص في جملة من المواضيع السابقة : منها: تفصيله بينهما في تحقق التعارض بين الدليلين حيث قال بتحققه في موارد التخصيص دون الحكومة ـ وسيأتي توضيح ذلك ـ.
ومنها: ما يظهرمن بعض كلماته في بحث حجية الظن (1) من انه اذا
(1) لاحظ أجود التقريرات 2 : 77 .
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 256 ـ
شك في التخصيص أمكن الرجوع الى العام وذلك كما لوقال (اكرم العلماء) وشك في انه هل قال (لا تكرم العالم الفاسق ) أو لا . ولكن اذا شك في الحكومة لم يمكن الرجوع الى العام كما لو شك في انه هل قال (العالم الفاسق ليس بعالم ) أم لا ، وكأن مبنى ذلك أن التمسك بالعام في مورد الحكومة المشكوكة يكون من قبيل الشبهة المصداقية لنفس العام ولا يجوز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية لنفسه اتفاقاً .
2 ـ والقسم الثاني : ما يكون منوطاً بالاسلوب الاستعمالي للدليل ، وله أمثلة:
منها : امتناع تخصيص العام حيث يكون لسانه بدرجة من القوة يأبى عن التخصيص كما قيل به في قوله ( ان الظن لا يغني من الحق شيئا (1) وقوله (ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا) (2) فان هذا الحكم منوط باسلوب الدليل المخصص لأنه من جهة كونه أسلوب معارضة مع العام ، يكون كاسرا لقوة لسانه فيكون استخدامه في تحديد العام أمراً مستهجنا .
ومنها : إمكان كون المخصص عقليا فإن هذا الامكان باعتبار أن العقل إنما يدرك الواقع بصورته التي هوعليه كما هو شأن الدليل المخصص ـ حيث ان لسانه موافق لواقعه ـ.
ومنها: عدم نظر المخصص إلى فكرة مخالفة من ارتكاز ذهني للمخاطب أو عموم أو اطلاق الا في حالات خاصة كان يكون المنفي هو الحكم العام نحو(وجوب اكرام العلماء لا يثبت في حق زيد).
ووجه عدم نظره : أن الأسلوب الصريح أسلوب طبيعي لايختص
(1) يونس 10 | 36 .
(2) لاحظ جامع الأحاديث ـ أبواب النجاسات ـ الباب 23 الحديث 5: 43 4 ـ ج 1 : 0 5 ـ 51 .
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 257 ـ
بقصد نفي فكرة مخالفة كما يختص الأسلوب الكنائي بذلك من جهة مصححه البلاغي .
وهذا القسم من أحكام المخصص لايشترك فيها معه الدليل الحاكم لأنه منوط باسلوبه ، والدليل الحاكم يختلف عن المخصص في الأسلوب فان أسلوبه أسلوب كنائي غير مباشر.
ففي المثال الأول : يجوز تحديد العام الآبي عن التخصيص بلسان الحكومة، لأن لسانه لسان مسالم للعموم فلا يكسرشوكة لسان العموم حتى يكون مستهجناً، وبذلك أجبنا فيما سبق عما قيل من استهجان تخصيص (لاضرر) لانه حكم امتناني ، مع أن تفسيره بنفي الحكم الضرري موجب لتخصيصه لا محالة كما سبق التعرض له .
وفي المثال الثاني لا يجوز كون الحاكم عقلياً لأن اسلوب الحكومة تعبير عن الشيء بغير ما هو عليه لأنه اعتبار أدبي ، والأعتبار الأدبي اما اعطاء حد شيء لشيء آخرأوسلب حد الشيء عن نفسه ، وهذا يغاير كيفية ادراك العقل .
وربما يظهر من كلمات بعض الأعاظم ـ في مبحث الاستصحاب ـ نفي امكان كون الحاكم عقلائياً ـ أيضاً ـ لكن قد يقال في دفع ذلك ان الفكرة الذهنية للعقلاء كما يمكن ان تكون على امرحقيقي فكذلك يمكن ان تكون على امر اعتباري كما قد يقال بذلك في اعتبار الامارات علما .
وفي المثال الثالث : يكون الدليل الحاكم بمقتضى مصححه البلاغي مقتضيا للنظر الى فكرة مخالفة كما تقدم توضيحه سابقا.
ويتفرع على هذا الفرق بين الحاكم والمخصص توفر الحاكم على مزية دلالية عامة، من حيث اقتضاء اسلوبه للنظر الى اللهليل المخالف ـ ولو
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 258 ـ
بنحو غير مباشر ـ ولأجل ذلك يتقدم أحد العامين من وجه على الآخر اذا كان باسلوب الحكومة من غير حاجة الى مزية اخرى، وهذا بخلاف المخصص فانه لا يستتبع اسلوبه المباشر أية مزية دلالية وانما يكون تقدمه رهين وجود مزايا خارجة عن مقتضاه الطبيعي توجب أظهريته على العام فيتقدم بملاك الأظهرية .
الجهة الثامنة : في وجه تقدم الحاكم على المحكوم .
إن في وجه تقدّم الحاكم على المحكوم وجوها ثلاثة :
الوجه الأولى : ما ذكره المحقق النائيني والسيد الاستاذ (قدس سرهما) من أنه لا تعارض بين الحاكم والمحكوم أصلا وذلك باحد تقريبين :
الأول : ما في كلمات المحقق النائيني ومن وافقه (1) من عدم معقولية المعارضة بين الحاكم والمحكوم من جهة أن المحكوم يثبت حكماً على تقدير ، غير متعرض لثبوت ذلك التقدير ونفيه ، وأما الدليل الحاكم فهو ناظر إلى إثبات ذلك التقدير ونفيه .
وتوضيحه : ان التعارض بين الدليلين فرع تعرضهما لنقطة واحدة، والحاكم والمحكوم ليسا كذلك اذ كل منهما يتعرض لما لايتعرض له الأخر، فان الحاكم مثلا يتعرض لوجود الموضوع أو لنفيه وأما المحكوم فهويتعرض لاثبات الحكم لموضوعه على نحو القضية الحقيقية ، وهذا المقدارلا تعرض فيه لوجود الموضوع في المورد وعدمه لان القضية الحقيقية في قوة القضية الشرطية، وكما أن القضية الشرطية لا تتعرض لوجود الشرط ، وانما تفيد ثبوت التالي عند ثبوت الشرط ، فكذلك القضية الضيقية لاتتعرض لوجود الموضوع وانما مفادها ثبوت الحكم عند تحقق الموضوع .
(1) لاحظ أجود التقريرات 2 :5 0 5 ـ 6 0 5 ، ونظيره مصباح الاصول 2 : 542إلأ أته خصه بالحكومة على عقد الوضع .
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 259 ـ
ويرد عليه : إن التعارض بين الدليلين ليس بحسب المراد الاستعمالي فيهما قطعا، وإلاً لم يقع التعارض بين القول المثبت لمعنى مع القول النافي له بلسان المجاز أو الكناية ، كما لو قيل (زيد بخيل ) و (زيد كثير الرماد) أو (زيد جبان ) و (زيد أسد) لأن كل منهما بحسب المراد الاستعمالي يتعرض لما لا يتعرض له الآخر .
وانما العبرة في التعارض بالمراد التفهيمي من الدليلين وهو مختلف في الحاكم والمحكوم ، فإن الحاكم وان كان ينفي ما هو موضوع للمحكوم استعمالاً ـ مثلاً ـ ألا ان المراد به تفهيماً نفي نفس الحكم الذي يثبته المحكوم فهما متعارضان .
يضاف إلى ذلك ان هذا لايتم في قسم من قسمي الحكومة لدى هؤلاء وهو حيث يكون الحاكم متعرضاً لعقد الحمل من المحكوم ، فإنه حينئذ يتعرض لنفس ما يثبته المحكوم أوينفيه كما هوواضح .
الثاني : ما قد يظهر من بعض كلمات السيد الأستاذ (قده ) من ان الدليل الحاكم شارح للمراد من المحكوم ومبين للمراد منه والشارح لا يعارض المشروح .
ويرد عليه :
أولاً : إن مبنى إدعاء الشارحية هو الاعتقاد بان الحاكم ناظر إلى المحكوم ومسوق للتعرض له ، وقد سبق عدم تمامية هذا الرأي بل أوضحنا ان الحاكم انما ينظر إلى الارتكاز الثابت في ذهن المخاطب على الارتباط بين الحكم وموضوعه بنحو عام ، وهذا النظر هومصحح لسانه التنزيلي دون النظر إلى اطلاق وعموم .
وثانيا : ان الشارحية انما هي سمة لأسلوب الدليل الحاكم ولسانه واما واقعه ومحتواه فهو كالمخصص واقع في المعارضة مع العام حيث إنهما جميعا يقتضيان كون مقام الاثبات في الدليل العام اوسع من مقام الثبوت
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 260 ـ
على خلاف المراد التفهيمي للدليل المزبور.
وبذلك يتضح أنه لايتم تقديم الحاكم على اساس عدم معارضته مع المحكوم وشرحه له .
نعم : لوفسرنا التعارض بالتنافي في الحجية -كما ذهب إليه المحقق الخراساني ـ لم يكن هناك تعارض بين الحاكم والمحكوم كسائر موارد الجمع العرفي لكن حجية أحد الدليلين فيهما في طول حجية الأخر، لكن عدم التعارض بين الدليلين بهذا المعنى لا يغني عن وجود نكتة دلالية مثلا تفرض تقديم أحد الدليلين على الأخر، بل هومتفرع على وجود مثل هذه النكتة .
الوجه الثاني : أن يقال إن الحاكم مسوق لتحديد المحكوم لكونه ناظرا إليه مباشرة فهو قرينة شخصية قد نصبها المتكلم على مراده بالمحكوم .
وهذا الوجه مبني على الرأي المعروف لدى الأصوليين من تقوم الحكومة بنظر الحاكم إلى الدليل المحكوم وقد سبق انه غير تام .
الوجه الثالث :. ما هو المختار وهو ان اسلوب الحكومة وإن لم يكن مسوقاً للنظر إلى أي دليل آخر بل هو ناظر بالاصالة إلى ارتكاز ذهني عام مخالف لمؤدى الدليل لكنه ناظر بنحو غير مباشر الى نفي مايكون حجة على هذا الارتكاز المخالف ، وبذلك يستبطن تحديد تلك الحجة متى كانت عموما أو اطلاقا، وهذه مزية دلالية تستوجب تقديمه على تلك الحجة وتحديدها به .
بقي هنا امران :
الأمر الأوّل : انه قد يوحي كلمات كثير من الأصوليين ان الدليل الحاكم بموجب نظره إلى المحكوم يوجب تقدمه عليه مطلقا بلا اسثشاء وشذوذ ، وهذا لا يخلو عن غلو وافراط ، فان هناك جملة من الحالات تطرأ على هذا الأسلوب ـ كما تطرأ على اسلوب التصريح ـ لايجوز فيها تقديمه
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 261 ـ
على معارضه أصلا:
فمنها : ما اذا كان الدليل المتضمن لهذا الأسلوب مخالفا لحكم ثابت بالكتاب أو السنة ومثال ذلك ما روته الغلاة من ان الصلاة والزكاة والحج كلها رجل ، وان الفواحش رجل فان ذلك ناظر إلى أدلة إيجاب العبادات وتحريم الفواحش ولو بنحوغير مباشرفيكون من قبيل اسلوب الحكومة لكنه مندرج في ما دّل على لزوم طرح ما خالف الكتاب فيجب طرحه والغاؤه رأسا .
ومنها: ما اذا كان تقديم الدليل المزبور على معارضه موجبا لالغاء موضوعية العنوان الماخوذ في ذاك الدليل ـ وذلك فيما إذا كانت النسبة بين المدلول التفهيمي للدليلين عموما من وجه ـ فيمتنع تقديمه عليه دلالة وذلك نظير امتناع تخصيص أحد العامين من وجه بالأخر في هذه الحالة .
ومنها: ما اذا كان تقديم الدليل المزبورموجبا لبقاء افراد قليلة تحت الدليل الأخر بما يستهجن معه القاء العموم ، فان ذلك من قبيل التخصيص المستهجن ومثال ذلك ما لو ورد (اكرم العلماء) ، وورد ايضا (من كان علمه كسبيا لا بمعونة الإلهام القلبي فانه ليس بعالم ).
فمن هذه الحالات وامثالها يؤدي التعارض بين الدليل الكائن باسلوب الحكومة والدليل الأخر الى الغاء هذا الدليل رأساً، أو يؤدي الى تاويله اذا كان صالحاً لذلك كما يحمل قوله صلى الله عليه وآله (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد) (1) مثلا على نفي الكمال لمخالفة مفاده الاولى من نفي الحقيقة والصحة في غير المسجد ، للحكم القطعي الثابت بالكتاب والسنة لصحت صلاة جار المسجد في غير المسجد .
وبذلك يظهر أن هذه المزية ليست الا كسائر المزايا الدلالية التي هي مزايا نوعية تقبل الاستثناء.
(1) الوسائل 5: 194 ح6310 باب 2 .
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 262 ـ
الأمر الثاني : قد يظهر من كلمات الاصوليين ايضاً ان المزية الدلالية للحاكم توجب تقديمه على المحكوم بنحو التحكيم ، من غير ان يكون هناك احتمال اخر في البين ، والمراد بالتحكيم هو رفع اليد عن الشمول الأفرادي للعام كالتخصيص ،ولذلك لم يطرحوا فيه احتمال النسخ الذي ذكروه في تعارض العام والخاص ، وربما كان مبنى هذا الرأي تصورهم للحكومة على انها تفسيروشرح للمراد بالدليل المحكوم ولكنا اوضحنا فيما سبق ان التفسير والشرح انما هو سمة لاسلوب الحاكم ولسانه واما واقعه فهو واقع المعارضة والمنافاة كالدليل المخصص .
والصحيح ان نفس الاحتمالات والأبحاث الواردة بشأن الخاص والعائم تأتي بالنسبة الى الحاكم والمحكوم ، لانها لا ترتبط باسلوب الخاص وانما ترتبط بمحتواه المماثل لمحتوى الحاكم ، ففيما اذا ورد الحاكم متأخرا عن وقت العمل بالمحكوم ، يرد فيه احتمالات اخرى غير التحكيم .
منها: ان يحمل على النسخ بملاحظة ورود الحاكم بعد وقت العمل بالعام ، والالتزام بالتحكيم يستلزم تاخير البيان عن وقت الحاجة وتاخير البيان وان لم يكن ممتنعا على كل حال لكنه بحاجة الى مصحح خاص .
ومنها: ان يحمل على الحكم الولائي فيما كان الموضوع مناسبا مع ذلك .
ومنها: ان يتصرف في ظهور الحاكم ويؤخذ بالدليل المحكوم كأن يحمل قوله (الفاسق ليس بعالم ) على ان اكرام العالم الفاسق مرجوح في امتثال قوله (اكرم عالما) فيؤخذ باطلاق هذا الدليل وان كان ظاهر الدليل الأول هوعدم كفإية اكرام العالم الفاسق في الامتثال ، الا انه كنمت القرينة على ارادة المرجوحية لمصلحة مقتضية لذلك ، وقد ذكرنا في مبحث تعارض الأدلة من علم الاصول المصالح المقتضية لكتمان القرائن كالتقية والسوق الى الكمال والقاء الخلاف بين الشيعة وغير ذلك .
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 263 ـ
ومنها: ان يؤخذ بالعام ويلغي الخاص رأساً حملاً له على التقية والمداراة ونحوهما .
والالتزام بالتحكيم من بين سائر الاحتمالات غير متعين بل لا بد ان يكون على أساس ضوابط النشر والكتمان التي ذكرناها في محله ، وهذه الضوابط كما قد تنتج التحكيم فكذلك قد تنتج غيره من الوجوه على ما أوضحناه في مبحث تعارض الادلة تفصيلاً .
المقام الثاني : في ان (لا ضرر) ـ بناء على تفسيره بنفي الحكم الضرري ـ هل هو حاكم على أدلة الأحكام الأولية أو لا؟ .
قد اتضح مما سبق منا في البحث عن مفاد الحديث ان في توجيه تفسير الحديث بهذا المعنى مسلكين :
المسلك الأول : ما هو المختار وفاقاً للمشهور من ان المراد الاستعمالي بالحديث نفي تحقق الضرر خارجاً لكن المراد التفهيمي به نفي جعل حكم يفضي الى تحمل المكلف للضرر، فيكون نفي الحكم مفاداً بلسان التنزيل والكناية حيث نفي المسبب واريد به نفي سببه التشريعي .
وعلى هذا المسلك يكون حكومة (لا ضرر) على سائر الأدلة واضحة لكونها بلسان التنزيل والمسالمة الذي هو القدر المتيقن من موارد الحكومة ، بل هو المقوم له على المختار في حقيقتها كما عرفت ، فهو يندرج في المورد السادس من موارد النفي التنزيلي التي سبق ذكرها في الجهة الثانية .
المسلك الثاني : ما ذهب اليه المحقق النائيني (قده ) ومن وافقه من أن الضرر المنفي عنوان توليدي للحكم الضرري فيكون المقصود بنفي الضرر نفي سببه التوليدي وهو الحكم .
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 264 ـ
وقد ذهب هؤلاء الى حكومة (لا ضرر) بهذا المعنى على ادلة الاحكام وذلك لان الحكومة على قسمين :
الأول : ما يكون ناظراً الى عقد الوضع منه كـ (لا ربا بين الوالد والولد) بالنسبة الى دليل حرمة الربا وفساده .
الثاني : ما يكون ناظرا الى عقد الحمل ـ وهو الحكم ـ ك ـ (وجوب الاكرام لا يثبت لزيد العالم ) ، ودليل (لا حرج ) و (لا ضرر) بالنسبة الى ادلة الاحكام المثبتة للتكاليف من قبيل القسم الثاني لانها توجب تصرفاً في الحكم وتقضي باختصاص الاحكام بغير الموارد الحرجية أو الضررية ، لكن لا بلسان (ان المتضرر ليس بمكلف ) أو (ان الوضوء الضرري مثلاً ليس بوضوء) حتى يكون رفعاً لموضوع تلك الأحكام ، ولا بلسان انه لا يجب الوضوء على المتضرر ـ حتى يرجع الى التخصيص ـ بل بلسان ان الاحكام الثابتة في الشريعة ليست بضررية ولا حرجية .
وهذا غير تام لان مبناه على ان معيار الحكومة هو النظر الى دليل آخر.
وقد سبق ان اوضحنا ان عنصر النظر لا يصلح مناطاً للحكومة لعدم اطراده في مواردها وعدم مقوميته لها، وانما مناطه ان يكون لسان الدليل المحدد للعام لسان مسالمة مع العام بان لا ينفي ما يثبته العام أويثبت ما ينفيه صريحا بل يفيد ذلك باسلوب التنزيل والكناية ، وعلى هذا المبنى لا تصدق الحكومة مع تعرض الدليل المحدّد لعقد الحمل في الدليل الأخر حقيقة ـ كما في مثال ( لا ضرر ) على هذا المسلك ـ لان النفي حينئذ منصب على الحكم مباشرة فيكون لسانه حينئذ لسان المعارضة مع العام كما هو شأن التخصيص.
نعم إذا كان نفي الحكم نفياً تنزيلياً كما في (رفع ما لا يعلمون ) كان ذلك من قبيل الحكومة الظاهرية كما مر ذلك في الجهة الثانية وهو غير مراد
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 265 ـ
هنا لأن المراد في المقام النفي الواقعي .
التنبيه الرابع : في وجه تحديد انتفاء الحكم الضرري بحالة العلم أو الجهل في بعض الفروع الفقهية مع ان الضرر المنفي بالحديث غير محدّد بذلك .
لا اشكال في ان الضرر المنفي في هذا الحديث إنما يراد به نفس هذه الماهية من دون دخالة العلم أو الجهل به ، لأن ذلك هو معناه الموضوع له كما في سائر الالفاظ حيث إنها موضوعة لذوات المعاني لا مقيدة بالعلم ولا بالجهل ، وليس هناك أية قرينة خاصة تدل على هذا التحديد ، وعليه فلا فرق في نفي الحديث للحكم الضرري بين ان يكون الضرر معلوما أو مجهولاً.
لكن ربما يظن أن المشهور خالفوا مقتضى ذلك في بعض الفروع الفقهية فحددوا نفي الحكم الضرري تارة بصورة الجهل بالضرركما في نفي اللزوم في موارد الغبن حيث التزموا بثبوته اذا كان الضرر معلوماً، واخرى بصورة العلم كما في نفي الوجوب الضرري حيث حكموا ببطلان الوضوء حيث يعلم بكونه مضراً دون ما اذا كان جاهلاً .
فلابد من تحقيق الأمر في هذين الفرعين :
الفرع الأول : تحديد خيار الغبن بالجهل بالضرر.
ان المشهور بين فقهائنا ثبوت الغبن في المعاملة الغبنية خلافا لأكثر فقهاء العامة كالحنفية والشافعية والحنابلة، وخلافا لما اشتهر في القوانين المدنية الموضوعة ، قال في مصادر الحق (الفقه الاسلامي لا يعرض للغلط في القيمة الا عن طريق الغبن ثم هو في اكثرمذاهبه لا يعتد بالغبن ولوكان فاحشا الآ اذا صحبه تغرير أوتدليس وهو في ذلك يضحي باحترام الارادة في سبيل استقرار التعامل ، وهذا هو شان اكثر الشرائع الغربية فقل ان تجد
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 266 ـ
شريعة تعتد بالغبن الأ في حالات نادرة) (1) .
وقد ذهب الى عدم ثبوته بعض قدماء اصحابنا كابن الجنيد ـ كما قيل إن جمعا منهم لم يتعرضوا له اصلا ـ وتردد في ثبوته بعض المتاخرين كصاحبي الكفاية والذخيرة .
وقد استند المشهور الى وجوه عمدتها قاعدة (لا ضرر) بدعوى ان اللزوم مع الغبن ضرري فيكون منفيا ، وقد عد الشيخ الانصاري هذا الوجه اقوى ما استدل به لثبوت هذا الخيار ، وذكر انه يشترط في ثبوته عدم علم المغبون بالقيمة فلو علم بالقيمة فلا خيار بل لا غبن بلا خلاف ولا اشكال لانه أقدم على الضرر (2) .
وحيث إن العلم بالقيمة مساوق مع العلم بالضرر فيرجع ذلك الى القول بعدم شمول (لا ضرر) لما اذا كان ترتب الضرر على اللزوم معلوما فيتجه بذلك الاعتراض السابق من ان الضرر النفي غير مقيد بالجهل (3).
لكن التحقيق انه لا مجال للاعتراض أصلا لان مفاد قول المشهور بالدقة ليس هو تحديد نفي اللزوم بالعلم ، وانما يرجع الى تحديده بالاقدام على الضرر لأنهم وان ذكروا أولاً انه يشترط في ثبوت الخيار عدم علم المغبون بالضرر، لكنهم عللوا ذلك بكون شرائه حينئذ اقداما على الضرر، مما يدل على أنهم يرون عدم شمول الحديث لمورد الاقدام على الضرر لا لموردالعلم به كما هوواضح .
والاقدام على الضرر اعم من العلم به لانه كما يصدق مع علم المغبون بكون المعاملة ضررية بان يطلع على القيمة السوقية للمتاع وهي
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 267 ـ
أقل من الثمن الذي دفعه الى البائع ، كذ لك يصدق فيما اذاكان ظانا بالضرر أو محتملا ، ولكن أوقع المعاملة بما يحتوي عليه مع اطلاق الملكية حتى لما بعد انشاء الفسخ وحصول الندامة ، ففي هذه الحالة ايضا يصدق انه أقدم على البيع اللازم حتى وان كان ضررياً .
والدواعي الى الاقدام على الضرر لا تختص بصوره العلم بالضرر بل قد تكون آكد في صورة عدم العلم به مع الالتفات اليه والظن به أو احتماله ، فمن الدواعي مثلا المزاحمة مع الغيركما قد يقع في شراء المتاع في المزاد العلني .
ومنها : مشاكلة المبيع مع ما عنده بحيث يكون مكملاً له كما اذا كان عنده بعض اجزاء كتاب ما كالبحار والوسائل دون بعضها الآخر ولا يباع ذلك بمفرده في الأسواق عادة فوجده عند شخص فاشتراه بقيمة يقطع او يظن انه أزيد من القيمة السوقية .
ومنها: الحاجة الفعلية الى المتاع كما لو شرع في بحث يحتاج الى بعض المصادر التي لا تتوفر في الأسواق فيجده عند شخص فيشتريه من غير أن يراعي عدم كون شرائه له بازيد من القيمة السوقية .
ومنها : قصد انتفاع صاحب المتاع وخدمته لأسباب انسانية أو دينية كما لو بيع أمتعة شخص يحبه في المزاد العلني فيزيد في الثمن غيرمبال بالتساوي معه في القيمة السوقية لكي تكون امتعته مبيعة بأعلى الثمن ، الى غيرذلك من الدواعي والأغراض .
ت ا وبذلك يظهر انه لا حاجة في دفع الاعتراض المزبور عن المشهور الى تصحيح ثبوت الخيار مع الاقدام اذ لا وجه للاعتراف باشتراطهم للجهل بالضرر بعد تعليله بالاقدام ، بل ثبوت الخيار في ذلك انما يصحح اشتراطه بعدم الاقدام لابعدم العلم كماهوظاهر
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 268 ـ
لكن قد يشكل كلام المشهور في هذا التحديد من جهتين :
الأولى : ما ذكره المحقق الايرواني (قده ) من منع تحقق الإقدام على الضرر الحاصل بلزوم البيع مطلقا وانما يكون الاقدام بالنسبة الى أصل المعاملة وهو ليس اقداما على الضرر الحاصل باعتبار اللزوم من قبل الشارع (1) .
والجهة الثانية : ما ذكره جمع من المحققين كالمحقق المذكور والمحقق الاصفهاني من ان تحديد القاعدة بعدم الإقدام تخصيص بلا مخصص كتحديده بعدم العلم لان جعل اللزوم ولو في حالة الاقدام جعل لحكم ضرري (2) ولكن الصحيح عدم تمامية الاعتراض على المشهور في شيء من الجهتين وفاقاً لجمع آخرمن المحققين (3).
لتوضيح الحال لابد من البحث عن كل من صورتي الاقدام على الضرر وعدمه ، فهنا امران :
الأمر الأول : في صورة الاقدام والكلام فيها يقع تارة في تنقيح الصغرى من تحقق الاقدام على الضرر في حالة العلم به ونحوها واخرى في تحقيق الكبرى من (نفي قاعدة لا ضرر للضرر المقدم عليه ) فهنا نقطتان :
اما النقطة الأولى : فتوضيح القول فيها إن مبنى منع تحقق الاقدام في ذلك هو ان الشخص في حالة الغبن انما يقدم بانشائه على أصل المعاملة، ولكن الشارع يحكم عليها بحكمين حكم إمضائي يرتبط باصل المعاملة وهو الصحة، وحكم تاسيسي فيما يتعلق ببقائها وهو اللزوم وعدم حق الفسخ ،
(1) لاحظ تعليقة المحقق الايرواني على المكاسب 2 : 28 و. 3 .
(2) لاحظ المصدر السابق وتعليقة المحقق الاصفهاني على المكاسب 2 : 31 .
(3) لاحظ حاشية السيد الطباطبائي على المكاسب 2 : 38 وتقريرات المحقق النائيني على المكاسب للعلامة الخونساري 2 : 60 وفي (لا ضرر) : 218 .
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 269 ـ
فاللزوم حكم ابتدائي مجعول من قبل الشارع وليس منشأ بالمعاملة حتى يكون الضرر اللازم من جهته مقدما عليه .
ولكن هذا ليس تاما فإن اللزوم أيضاً يرجع الى إنشاء المكلف في مورد البحت حيث يكون المنشأ مطلقا بالاطلاق اللحاظي من جهة كون ما انتقل اليه اقل مما انتقل عنه بحسب القيمة السوقية وعدم كونه كذلك ، وذلك لأن مفاد بيع المغبون وشرائه في هذه الصورة هوإنشاء قطع العلقة الثابتة بينه وبين ماله وانتقالها الى الطرف الآخر مطلقا بالنسبة الى الازمنة الآتية بما فيها زمان صدور انشاء الفسخ منه الحاصل من الندامة .
وعليه فهو بانشائه هذا المعنى على سعته قد سد على نفسه باب التخلص من الضرر في صورة الندامة ولم يبق لنفسه خطاً للرجوع فيكون وزان ذلك وزان البيع والصلح المحاباتيين والوقف ونحوها من المعاملات الضررية اللازمة .
وعلى هذا : فليس حكم الشارع باللزوم الا كحكمه بالصحة حكما امضائيا اقرارا للمكلف على جميع ما يحتوي عليه انشاؤه .
واما الجهة الثانية : وهي نفي قاعدة (لا ضرر) للضرر المقدم عليه فيمكن تقريرها باحد وجهين .
الوجه الأول : ان المفاد التفهيمي للحديث انما هو نفي تسبيب الشارع الى تحقق الضرر ـ كما سبق ـ دون اعمال الولاية على المكلف عليه في كل تصرف يوجب ضررا عليه كالوقف والابراء والصلح المحاباتي والبيع في المقام ونحو ذلك . وبين الأمرين فرق واضح .
وعدم امضاء ما التزمه المكلف على نفسه من الضرر وسبب اليه عرفا إنما هو من قبيل الثاني دون الأول لأن الثاني تحديد لما يحكم به العقلاء من ان كل أحد مسلط على ماله وله ان يتنازل عنه مجانا وبلا عوض ، فضلا
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 270 ـ
عن ان يتنازل عنه بعوض يعلم بانه اقل قيمة منه ـ مثلا ـ فالحكم الامضائي في ذلك احترام لارادة المكلف وسلطنته على ماله وليس تسبيباً الى الضرر عليه.
ولو أن (لا ضرر) اقتضى نفي الاحكام الامضائية التي هى من هذا القبيل اقتضى ذلك ان ينفي صحة المعاملة الغبنية من أصلها مع ان المتسالم عليه بين فقهائنا بل جميع فقهاء المذاهب الاسلامية بل في جميع القوانين الوضعية صحة ذلك ، وهكذا في امثالها .
الوجه الثاني : ما ذكره المحقق الاصفهاني من ان مفاد الحديث حكم امتناني ولا منة في رفع اللزوم في حالة العلم بالضررونحوها (1) ، واجيب عنه في كلمات المحقق الايرواني بمنع ذلك بدعوى ان المنة مقتضية لحفظ العباد عن المضار وان هم أقدموا عليه ، فلربما يندمون ويريدون الفسخ فيكون لهم مخلص عنه (2).
وهذا الوجه وان لم يكن يخلو عن تامل الاً ان الجواب عنه بما ذكر ضعيف لان صدق (الضرر) على مثل هذه المعاملة انما هوبلحاظ قصر النظر الى مرحلة المعاوضة ولحاظ القيمة السوقية واما اذا لوحظ مجموع الأغراض والدواعي فلا يصدق عليه هذا العنوان كثيراً ، لان هذه المعاملة قد تستوجب له نفعا ازيد كما اذا كان داعيه على اشترائه بثمن ازيد من القيمة السوقية تكميل المال الناقص الموجود عنده ، فما اشتراة بلحاظ كونه مكملا للناقص تكون قيمته له ازيد من الثس الذي اشتراه به بكثير ، وهكذا قد يكون في شرائه كذلك دفعا لضرر اكثركما لو اشتراه من جهة صيانة بعض اجهزته عن الشغل والوقوف الذي يترتب عليه ضرركثير ، أو اشتراه لمعالجة نفسه مع ندرة
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 271 ـ
وجوده في السوق أو عدم امكان تحصيله الا بالمسافرة الى بلد آخر يحتاج الى مؤونة كثيرة، فبملاحظة مثل هذه الجهات لا يصدق انه جلب الضرر على نفسه الإقدام على هذه المعاملة فلا معنى للمنة عليه برفع لزوم العقد في مثل ذلك .
وبذلك كله يظهر صحة قول المشهورمن عدم ثبوت الخيارمع الغبن .
الأمر الثاني : في صورة عدم الاقدام .
والمقصود من التعرض لهذه الصورة بيان سر التفريق بينها وبين صورة الاقدام حيث يقال ان حكم الشارع فيها غير منفي بـ (لا ضرر) بخلاف هذه الصورة، وذلك لأنه ربما يتوهم بان البيان الذي ذكرناه في عدم اقتضاء (لا ضرر) لنفي اللزوم في حالة الاقدام من كون اللزوم مدلولاً لاطلاق المنشأ، فيكون الحكم به حكماً امضائيا و(لا ضرر) لا ينفي مثل ذلث وهذا البيان ينسحب الى صورة عدم صدق الاقدام كما اذا كان المشتري غافلا عن القيمة السوقية أومعتقدا بالتساوي أو بان قيمة ما انتقل اليه ازيد مما يبذله من الثمن أو كان مسترسلا ومعتمدا على اخبار البائع بالقيمة السوقية ، فان اطلاق المنشأ يتحقق في هذه الصورة أيضاً، فلا يمكن نفي اللزوم فيها لهذه القاعدة ونتيجة ذلك بطلان تمسك المشهور بهذه القاعدة لاثباتها لخيار الغبن مطلقا.
وتحقيق الحال في ذلك : انه لايتحقق للمنشأ في شيء من موارد هذه الصورة اطلاق لحاظي بالنسبة الى تساوي الثمن والمثمن في القيمة السوقية وعدمها بل هي على ثلاثة أقسام :
القسم الأؤل : ما يكون المنشأ فيه مقيدا بالتقييد اللحاظي وذلك كما اذا كان المشتري مسترسلا ومعتمدا على اخبار البائع بتساوي الثمن والمثمن في القيمة السوقية ، فان الشراء حينئذ يكون مشروطا بشرط مقدر وهو التساوي
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 272 ـ
في القيمة .
وحينئذ يحكم بالخيار من جهة تخلف الشرط ومرجع الشرط الى ان التزامي مشروط بالتزامك بان المبيع تساوي قيمته هذا المقدار الخاص ، ولازمه تقييد التزامه بتطابق قول البائع مع الواقع ولا حاجة في ثبوت الخيار حينئذ الى قاعدة (لا ضرر) .
القسم الثاني : ما يكون المنشأ فيه مقيدا تقيدا ذاتيا كما في الغافل والجاهل المركب ونحوهما .
والمراد بالتقييد الذاتي : ان يكون القيد غيرملحوظ حال الانشاء ولكن يكون ثابتا في نفس المنشأ في مرحلة الارتكاز واللاشعور الذهني .
ووجه التقييد الذاتي في الغافل ونحوه هو ان المرتكز في ذهن كل معامل بلحاظ الغرض النوعي العقلائي في المعاملات والمعاوضات التي لا تبتني على جهة المحاباة عدم كون ما انتقل اليه اقل مالية بمقدار لا يتسامح به مما انتقل عنه ، فهذا الارتكاز الذهني يوجب تضيقا ذاتيا للمنشا وان كان في مرحلة اللاشعور ـ بعد محدودية الرضا الباطني بذلك ـ وحيث إن المتخلف ليس هو الصورة النوعية، فيحكم بالخيار ، ولذا احتج العلامة لخيار الغبن بقوله تعالى : ( الا ان تكون تجارة عن تراض )(1) وذكر بعض علماء القانون في الاشارة الى موقف النافين لخيار الغبن بانهم يضحون باحترام الارادة في سبيل استقرار التعامل (2) مما يدل على انتفاء الرضا الباطني في صورة الغبن .
وعلى ضوء ذلك يثبت الخيار في هذه الصورة من غيرحاجة الى قاعدة
(1) النساء 4|29 .
(2) مصادر الحق 2 : 133 .
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 273 ـ
(لا ضرر) .
وقد ذهب الى هذا المسلك جماعة من محققي فقهائنا كالمحققين النائيني والاصفهاني والايرواني وغيرهم .
الا ان هذا الوجه انما يصح إذا لم يكن هناك ارتكازثانوي ـ بملاحظة الجو والمحيط أو التأثر من فتوى الفقهاء أو القانون الوضعي -يوجب اضمحلال الارتكاز الأول .
ولذا ذكرنا في محله : أنه لو فرض عرف خاص في بعض انحاء المعاملات أو مطلقاً يتضمن اشتراط حق استرداد ما يساوي مقدار الزيادة على تقدير عدم ثبوت الخيار ، فانه يكون هذا المرتكز الخاص هو المحكم والمتبع في مورده .
القسم الثالث : ما يكون المنشأ فيه مطلقا بالاطلاق الذاتي .
والاطلاق الذاتي هو الشمول الذي يتحقق في الكلام في حالة عدم التقييد اللحاظي والذاتي من غير ملاحظة الخصوصية ورفضها كما هو الحال في الإطلاق اللحاظي ، ويكون ذلك في موارد :
منها: عدم مسبوقية ذهن المنشىء بانقسام الماهية الى قسمين كما لو وقف دارا على العلماء من غير علم بانقسامهم الى اصولي واخباري ، وهكذا لوكان مسبوقا لكن لم يلتفت الى هذا التقسيم حال الانشاء مع عدم تحديده بأحد الأقسام ارتكازا ـ اذ لو حدده كان تقييداً ذاتيا ـ وهذا كثيرا ما يتفق في جملة من المعاملات كالوقوف والنذور والوصايا ونحوها، وفي هذه الحالة يتحير المنشىء ايضاً في حدود انشائه لعدم ملاحظة القيد ورفضه كما في موارد الاطلاق اللحاظي ، ولذا يستفتى فيها الفقيه .
وهذا الاطلاق لا يعتبر فعلاً للمنشأ لانه أمر قهري ولذا لا يستحسن ولا يستقبح بخلاف الاطلاق اللحاظي كما ان التقابل بينه وبين التقييد اللحاظي تقابل السلب والايجاب بينما التقابل بين الاطلاق والتقييد اللحاظيين من
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 274 ـ
قبيل تقابل العدم والملكة .
ثم ان الحاكم بالشمول في موارد الاطلاق الذاتي انما هو القانون فان لم يكن هناك مانع منه فيحكم القانون بالشمول والا فلا يحكم بذلك .
وهذا الاطلاق في المقام ملغى بحكم قاعدة (لا ضرر) لان الحكم باللزوم من قبل الشارع حينئذ يكون حكما ابتدائيا من غير صدق اقدام للمنشىء بالنسبة اليه ، فهنا يصح التمسك بالقاعدة .
وهنا جهتان تحسن الاشارة اليهما :
الجهة الأولى : ان وجه تمسك جماعة من الفقهاء السابقين بقاعدة (لا ضرر) من دون اشارة الى الشرط الضمني ـ كالشيخ في الخلاف ـ أو عدم الاكتفاء ببيان محدودية التراضي (المشير الى الشرط الضمني ) ـ كالعلآمة في التذكرة ـ هوأن في الشرط الضمني المذكور نوع خفاء خصوصا فيمن عاش في مجتمع لا يرى البيع الاّ نوع مغالبة متأثراً بفتاوى من لا يرى خيار الغبن ـ كاكثر فقهاء العامة ـ لا سيما ان بعفض المسلمين ربما تأثروا بالقوانين البشرية السابقة فزال بذلك ارتكازه الاول ، وقد قيل ان بعض فقهاء الشام قد تأثروا بالفقه والعادات الرومية وبعض فقهاء الشرق تأثروا بالتشريع والتقاليد الايرانية ولذلك كان الأولى الاستدلال بقاعدة (لا ضرلر) التي هي نص تشريعي لا بتخلف الشرط الضمني .
الجهة الثانية : انه قد ادعى بعض الاعاظم ثبوت حكم عقلائي على ثبوت الخيار في حالة الغبن ـ بدلا عن التمسك بالارتكاز الموجب للتقييد ـ فيكون ذلك هو الدليل على الخيار من جهة عدم الردع عنه .
لكن الحق انه لم يثبت حكم عقلائي كذلك أصلا.
قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 275 ـ
الفرع الثاني : تحديد الوضوء الضرري بالعلم بكونه ضرريا .
نقل بعض المحققين عن الشيخ الانصاري أنه يشترط في جريان ادلة نفي الضرر علم المكلف بكون الوضوء ضرريا (1) وقد ذكر السيد الاستاذ تسالم الفقهاء على صحة الوضوء في حالة الجهل (2)وحينئذ يتجه الاعتراض السابق من ان دليل نفي الضررينفي جعل الحكم الضرري مطلقا سواء كان الضرر معلوما أو مجهولا ، كما أن دعوى تسالم الفقهاء على ذلك غير تامة لأن المسالة غير معنونة في الكتب الفقهية للقدماء والطبقة الوسطى، وأما المتاخرون الذين طرحت المسالة في كلماتهم فلهم فيها اقوال ثلاثة : بطلان الوضوء مطلقا وصحته مطلقا والتفصيل بين ما اذا كان الضرر معلوما فيبطل الوضوء وبين ما اذا كان مجهولا فيصح .
ويلاحظ أن استيعاب البحث في هذه المسالة وجهاتها يوجب تفصيلا بالغا في الكلام وهوخارج عن حدود هذا البحث ـ وانما محله موضعها من علم الفقه ـ ولكنا نتعرض لبعض ما يرتبط بالمقام في ضمن امورثلاثة :
احدها: انه هل هناك اطلاق يقضي بصحة الوضوء أو الغسل الضرريين حتى نحتاج لإثبات بطلانه في حالة العلم أو مطلقا الى التمسك بحديث (لا ضرر) ليقع البحث في حدود مقتضاه ، أو انه لا اطلاق في الأدلة اصلا فيبطلان من هذه الجهة ؟
ثانيها : ان (لا ضرر) هل يقتضي بطلانهما في حالة العلم أومطلقا أو لا يقتضي ذلك أصلا ؟
ثالثها : ان حرمة الاضرار بالنفس في مورد الضرر المحرم هل تمنع عن
(1) رسالة لا ضرر تقريرات المحقق النائيني : 215 .
(2) مصباح الاصول 2 : 544.