أن التعدية فيهما على نسق واحد بحكم الوجدان .
  (فان قيل ) : ان الفعل المجرد المتعدي يصح استعماله من دون نسبة الى المفعول كأن يقال : (ضرب زيد) ولا يصح ذلك في (فاعل ) بان يقال (ضارب زيد) وهذا دليل الفرق المذكور.
  (قيل ) : إن هذا مجرد ادعاء لا يسنده دليل لعدم ثبوت فرق بين البابين من هذه الجهة .
  وثانيا: إن المقدار الذي ذكره لا يفسر ما يستفاد في مختتف موارد المادة من الاشتراك أو التكرار أو الامتداد أو نحو ذلك ـ بل ربما كانت استفادة التعمد احيانا بهذا الاعتبار لأن التكرار ونحوه يناسب التقصد والعمد كما ذكر في النظر الى الأجنبية أن النظرة الأولى تقع لا عن قصد بخلاف النظرة بعد النظرة .
  وثالثا: إنه لم يتضح الترابط بين اقتضاء باب المفاعلة للنسبة الى المفعول وبين اقتضائه التعمد فإن ملحوظية تعدي النسبة الى المفعول في هذه الهيئة لا يقتضي كون الفعل قصديا فإن تلك جهة لفظية فحسب كما لا يخفى .
  نعم قد تدل الكلمة على التعمد في بعض الموارد لدلالته على السعي نحو المادة ـ ومصدر هذه الدلالة إنما هو المبدأ الخفي ـ كما ذكرناه آنفا ـ دون دلالة الهيئة على التعدية ـ ولا يلزم تحقق المادة حينئذ أصلا كما في خادعه وقاتله وغالبه وما الى ذلك .
  المسلك الثالث : ما عن المحقق الطهراني من أن معنى باب المفاعلة هو معنى المجرد إلأ أن المجرد يدل على أصل حركة المادة فحسب وباب المفاعلة يدل على تلك الحركة بعينها بنحو من الطول والامتداد ـ وهو الامتداد في نسبتها بين اثنين ـ فمعنى (هاجر) و (طالب ) و (سافر) و (باعد)

قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 127 ـ
  اطال الهجرة والطلب والسفر والبعد ـ وبذلك يفترق عن (هجر وطلب وسفر وبعد) التي تدل على مجرد التلبس بهذه المعاني .
  وهذا التفسير:
  أولا : يتضمن التناسب بين المبرز والمبرز ـ أي اللفظ والمعنى ـ.
  وثانيا: إنه لا ينفك عن جميع الموارد المختلفة التي وردت من هذا الباب فهومظرد فيها واظراد المعنى في جميع موارد استعمال اللفظ يؤيد كونه مفهوما له .
  أما الأؤل : من التناسب الذاتي بين المبرز والمبرز ـ فلأن هيئة (فاعل ) تتمتز عن هيثة (فعل )، باضافة الف بين حركتي هيئة المجرد ـ وهي حركة الفاء والعين ـ والألف هي نحو اشباع للفتحة واطالة لها فهي تناسب الطول والامتداد بطبيعتها .
  وأما الثاني : ـ من اطراد هذا المعنى في موارد المادة ـ فتوضيحه :
  إن الامتداد في مورد هذه المادة إنما تكون في نسبتها بين اثنين :
  أ ـ فإذا كانت المادة بذاتها مقتضية لامتداد النسبة ـ كما في المجاروة والمحاذاة ونحوهما حيث إنهالا محالة تقتضي نسبة ممتدة بين طرفيها ـ فلا تصلح لها هيئة إلاّ هيئة المفاعلة ولذلك تصاغ بها ضمانا لاداء هذا المعنى .
  وليس لخصوص كونها بين اثنين على نحو الاشتراك مدخلية كما توهم بعض النحاة فادرجوا بذلك خصوصية مورد الاشتعمال في أصل المعنن المستعمل فيه المنطبق على هذا المورد الخاص . بل معناها هو الامتداد الأعم .
  ب ـ وإذا لم تكن المادة مقتضية لامتداد النسبة بطبيعتها ـ بان كانت صائحة في نفسها للانتساب الى واحد واثنين كسار وساير وبعد وباعد وطلب وطالب وقبل وقابل ونحو ذلك ـ : فان معنى الامتداد يقتضي إضافقها الى الغير فاذا لوحظت منضافة إلى الغيرحدثت هناك نسبة ممتدة بين اثنين تنحل

قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 128 ـ
  إلى نسبتين ـ كما في القسم الأول ـ .
  ثم في هذه الحالة (تارة) لا يكون الغير الذي وقع طرفا لهذه النسبة الممتدة مفعولا لأصل المادة و(اخرى) يكون مفعولا لها .
  ففي الفرض الأول يكون مفاد الهيئة التعدية الى الواحد ان كانت المادة لازمة في المجرد ـ كجلست اليه وجالسته وبرزت اليه وبارزته ـ والى الاثنين ان كانت متعدية لواحد ـ ك ـ : (جذبت الثوب ) و(جاذبته الثوب ) .
  وفي الفرض الثاني : لا يستفاد من الهيئة تعدية جديدة على المجرد، ولكن يتغير نوع التعدية وسنخها ـ فالتعدي في (ضرب زيد عمرا) عبارة عن صدور الضرب من زيد ووقوعه على عمروواما في (ضارب ) فلا نظر الى جهة الوقوع على المفعول ، لأن نوع تعديه على نسق تعدي (جاور) و(حاذى)، وانما هو ناظر الى انهما طرفا هذه النسبة الممتدة .
  وتوضيح ذلك : ان الضرب بلحاظ صدوره من الطرفين تعتبرفيه نسبة ممتدة بينهما هي مدلول هيئة (ضارب ) و(قاتل ) و(جاذب )، وهذه النسبة المخصوصة بحاجة الى مبدأ تصدر عنه يسمى (فاعلا) ومحل تقع عليه يسمى (مفعولا) ـ فيلاحظ فيها مبدأ صدور النسبة الممتدة ومحل وقوعها بالاعتبارين . وربما يصلح كل من الطرفين لكل من الاعتبارين اذا استويا في استناد الحدث اليهما كما تقول (ضارب زيد عمرا) و(ضارب عمرو زيدا) فتارة يكون زيد مبدأ صدور النسبة وعمرو محل وقوعها ـ كما في المثال الأولـ واخرى يكون الامر بالعكس ـ كما في الثاني ـ وليس للبادئ باصل الفعل والسابق فيه بالشروع خصوصية .
  فالمفعول في هذا الباب من وقع طرفا للنسبة الممتدة لا من وقع عليه اصل المادة ـ كما في المجرد ـ ولذا ينفك احد الامرين عن الأخر كما في (جاذب زيد عمرو الثوب ) فان ما وقع عليه اصل المادة هو الثوب فهو

قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 129 ـ
  المجذوب ، ومن وقعت عليه النسبة الممتدة هو (عمرو) واذا اجتمع الامران ـ اي كان المفعول طرفا للنسبة الممتدة ومحلا لوقوع اصل المادة ـ كما في (عمرو) في مثال (ضارب زيد عمرا) فانهما يختلفان بالاعتبار، فعمرو مفعول لضارب من حيث انه مضارب لا من حيث انه مضروب كما في المجردّ.
  هذا تقرير هذا المسلك .
  (لكن ) يلاحظ عليه ـ انه رغم قربه من جهة ضمانه التناسب بين المبرز والمبرز وقدرته على تفسير بعض موارد المادّة ـ الا ان ما ذكر في موارد الاشتراك من تصوير الامتداد بلحاظ نسبة منتزعة من النسبتين الموجودتين بين الشخصين اللذين وقعت المادة في كل منهما ـ رغم اختلاف النسبتين من الأطراف ـ لا يخلو عن تكلف وبعد ظاهر.
  وعلى هذا فلا يمكن قبول كون هذا المعنى هو المعنى الوجداني العام للهيئة.
  واما التناسب المذكور فهو وان صح ـ الا ان مجرد التناسب الذاتي لا يحسم الامر في الدلالات اللغوية، بل لا بد من تحقيق الموضوع باستقراء الامثلة والموارد وملاحظة مدى توافقها مع هذا التناسب واعتباره في مرحلة الوضع .
  المسلك الرابع : ماهو المختار . وبيانه بحاجة الى ذكر مقدمة هي :
  ان الدلالات التي تنضم الى اصل المادة في مدلول الكلمة في باب المفاعلة ليست جميعها مستندة الى هيئة هذا الباب ، كما كان هو الانطباع السائد لدى اللغويين وكثيرمن الاصوليين ـ بل هي على قسمين : ـ فمنها ما يستند الى الهبئة .
  ومنها: ما يستند الى المبدأ الخفي الملحوظ في بعض موارد الباب .

قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 130 ـ
  وهذا الامر لا يختص بهذا الباب بل هو امر سار في اكثر الهيئات ان لم نقل جميعها، فكثيرا ما نرى ان هناك معنى اومعان تظهر في بعض المواد مع أنها لا تنشأ عن المادة ولا عن الهيئة وانما مصدرها المبدأ الخفي للكلمة .
  وقد سبق ان اوضحنا هذه الفكرة وبعض الأمثلة لها في ابطال المسلك الاول ، وبينا انه كيف يتدخل المبدأ الخفي في ايجاد معان غريبة عن المادة في وصفي الفاعل والمفعول ، من الاقتضاء والحرفة والمض وغير ذلك رغم وحدة مفاد الهيئة فيهما بحسب الوجدان اللغوي .
  ففي باب المفاعلة ايضا يستند قسم من الدلالات المتفرقة الى المبدأ الخفي كالسعي الى الفعل والغلبة والفخرونحوذلك ، مما يظهر بالتتبع.
  وقد اوجبت الغفلة عن هذا المبدأ - بعض الاقتراحات في مفاد الهيئة كالمسلك ا لأؤل .
  (نعم ) : بعض آخر من الدلالات يستند الى الهيئة وهذا هو المقصود تحليله في هذا البحث .
  وبعد اتضاح هذه المقدمة نقول :
  ان الظاهر بملاحظة الموارد المختلفة للهيئة ان هذه الهيئة تدذ على نسبة مستتبعة لنسبة اخرى بالفعل أو بالقوة، وذلك مما يختلف بحسب اختلاف الموارد (فتارة) تكون النسبة الاخرى ـ كالأول ـ صادرة من نفس هذا الفاعل بالنسبة الى نفس الشيء . و(اخرى) تكون احداهما صادرة من الفاعل والاخرى من المفعول ـ كما في (ضارب ) فيعبر عن المعنى حينئذ بالمشاركة .
  وفي الحالة الأولى : قد يكون تعدد المعنى من قبيل الكم المنفصل فيعبر عنه بالمبالغة ـ كما ذكر في كلام المحقق الرضي (قده )(1) أو يعبر عنه

(1) شرح الشافية ط الحجر ص 28 .

قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 131 ـ
  بالامتداد ـ اذا لم يكن التعدد واضحا كما فسر لفظ المطالعة في بعض الكتب اللغوية كالمنجد ـ بادامة الاستطلاع مع انه استطلاعات متعددة في الحقيقة وقد يكون المعنى من قبيل الكم المتصل فيكون تكرره بلحاظ انحلاله الى افراد متتالية كما في .
  (سافر) ونحوه وحينئذ يعبر عنه بالامتداد والطول ، ولازمه التعمد والقصد في بعض الموارد نحو تابع وواصل كما مرآنفا .
  ولا يرد على ما ذكرنا ما اورده المحقق الاصفهاني على القول بدلالة الهيئة على المشاركة، من انه لا يمكن ان يكون المدلول الواحد محتويا لنسبتين (1) لان المدلول المطابقي على ما ذكرنا نسبة واحدة لكنها مقيدة بان تتبعها نسبة أخرى على نحو دخول التقيد وخروج القيد .
  وعلى ضوء ذلك يمكن القول بان الضرار يفترق عن الضرر بلحاظ انه يعني تكرر صدور المعنى عن الفاعل أو استمراره ، وبهذه العناية أطلق النبي صلى الله عليه وآله على سمرة انه مضار لتكرر دخوله في دار الانصاري دون استيذان .
  وبما ذكرناه يظهر النظر فيما سبق في أول هذا الفصل عن بعض اللغويين في تفسير الضرار في الحديث ـ مقارنة بين مدلوله ومدلول الضرر ـ بعدة تفسيرات .
  احدها : ان الضرر هو فعل الواحد والضرار فعل الاثنين .
  وقد سبق عدم تمامية هذا الوجه لان ضرارا لا يدل على المشاركة .
  الوجه الثاني : ان الضرر ابتداء الفعل والضرار الجزاء عليه .
  والظاهر ان هذا التفسير لا يبتني على دعوى فهم الابتداء والجزاء من

(1) لاحظ نهاية الدراية 2 : 317 ـ 318 .


قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 132 ـ
  مادة الكلمتين أو هيئتهما ، لوضوح عدم افادة شيء منهما لذلك ، وانما هو نحو توجيه لمفاد الحديث ومع ذلك فلا قرينة على هذا التحديد لمدلول المادة في الحديث .
  الوجه الثالث : ان الضرر ما تضر به وتنتفع به أنت والضرار ان تضره من غيران تنتفع به .
  وهذا الوجه ايضا ليس مبنيا ظاهرا على دعوى دلالة المادة أو الهيئة على هذا التحديد، وانما يبتنى على جهة اخرى وهي قيام قرينة خارجية على ذلك من قبيل بعض موارد تطبيق هذه الكبرى .
  لكن لم تثبت القرينة المذكورة على هذا التحديد .
  الوجه الرابع : ان يكون الضرار بمعنى الضرر بعينه وعلى ذلك يبتني ما ذكر من ان (لا ضرار) انما هو لمجرد التاكيد .
  ووجه هذا الاعتقاد : تصوّر ان باب المفاعلة من مادة (الضرار) انما هو بمعنى المجرد منها ـ كما ذكروا ذلك في مواد اخرى ـ بناء على مبناهم من تعدد معنى هيئة المفاعلة على ما تقدم . وقد صرح بذلك في بعض كلماتهم ففي لسان العرب مثلا (ضره يضره ضرا وضر به وأضر به وضاره مضارة وضرارا ـ بمعنى ) (1) .
  لكن اتضح مما ذكرناه في معنى الهيئة فيهما وجود الفرق بين معناهما فالضرر معنى اسم مصدري ماخوذ من المجرد، والضرار مصدر يدل على نسبة صدورية مستتبعة لنسبة أخرى ، ولذلك ذكر المحقق الرضي (قده ) ، ان الصيغة تفيد معنى المبالغة، واوضحنا في المسلك المختار ان افادة معنى المبالغة انما هي باعتبار الدلالة على تكرر النسبة أو استمرارها .
  هذا ما يتعلق

(1) ط بيروت 5 5 9 1 هـ 1375 هـ 4 | 482 .

قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 133 ـ
  بمفاد هيئة (ضرار) .
  واما الاضرار ـ الوارد في نسخة اخرى في الجملة الثانية للحديث بدلا عن (ضرار) فقد ذكر انه بمعنى المجرد .
  وهوأحد معاني هذا الباب في علم الصرف كقال وأقال (1) ولكن أفاد المحقق الرضي في شرح الشافية ان ذلك تسامح منهم وان المقصود افادته التاكيد والمبالغة (2) كما أن ما ذكر في علم الصرف لهذه الهيئة من المعاني الكثيرة إنما ينشأ أكثرها عن المبدأ الخفي للكلمة على نسق ما اوضحناه في باب المفاعلة .
  واما تحديد المفاد الحقيقي لنفس الهيئة ففيه وجوه واحتمالات ، لكن لا يهمنا تحقيق الحال فيها في المقام بعد عدم ثبوت هذه الصيغة في الحديث على ما اوضحناه في الفصل الأؤل .
  المقام الثالث : في مفاد الهيئة التركيبية .
  وهذا البحث هو اهم الأبحاث في الموضوع ـ اذ هوالمقصد الأصلي ـ وقد اشترك فيه اللغويون وفقهاء الفريقين ، الا ان العمدة ما طرحه المتاخرون من فقهائنا ، ويلاحظ عليهم ان المسالك المطروحة عندهم في تفسير الحديث غالبا لم تفرق بين المفاد التركيبي للجملتين (لا ضرر ـ ولا ضرار) ـ مع أن بينهما فرقا واضحأ على المختار .
  ونحن نتعرض للوجه المختار في كيفية تفسيرالحديث وتحقيق معناه ، ثم نتعرض لسائر المسالك التي طرحت في ذلك فهنا بحثان :

(1) لاحظ الشافية وشرحها للرضي ط الحجري ص 24، 26 وغيرهما .
(2) لاحظ شرح الشافية ط الحجر ص 26 .
البحث الأول : في بيان المسلك المختارفي تحقيق معنى الحديث .
والمختار في معنى الحديث : ان مفاد القسم الأول منه ـ وهو قوله (لا

قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 134 ـ
  ضرر ) ما ذهب اليه الشيخ الانصاري من نفي التسبيب الى الضرر بجعل الحكم الضرري ، واما القسم الثاني منه ـ وهو (لا ضرار) ـ فان معناه التسبيب الى نفي الاضرار، وذلك يحتوي على تشريعين :
  الأول : تحريم الاضرار تحريما مولويا تكليفيا .
  والثاني : تشريع اتخاذ الوسائل الإجرائية حماية لهذا التحريم .
  وبذلك يحتوي الحديث على مفادين :
  1 ـ الدلالة على النهي عن الاضرار.
  2 ـ والدلالة على نفي الحكم الضرري ، ومضافا لذلك دلالته بناء (على المختار) على تشريع وسائل اجرائية للمنع عن الاضرار خارجا ، وهذا المفاد استفدناه من الجملة الثانية وبعض الأعاظم استفاده من الجملة الأولى بجعل النهي المستفاد منها نهيا سلطانيا وهومناقش مبنى وبناءً كما سيتضح في موضعه ان شاء الله .
  ولتوضيح استفادة ذلك من الحديث على المنهج المختار نتعرض لبيان ذلك في ضمن وجهين اجمالي وتفصيلي :
  اما الوجه الاجمالي : فهوأن نفي تحقق الطبيعة خارجا في مقام التعبير عن موقف شرعي بالنسبة اليها ، يستعمل في مقامات مختلفة كإفادة التحريم المولوي أوالإرشادي أو بيان عدم الحكم المتوهم وما الى ذلك .
  ولكن استفادة كل معنى من هذه المعاني من الكلام رهين بنوع الموضوع ، وبمجموع الملابسات المتعلقة به .
  وملاحظة هذه الجهات تقضي في الفقرتين بالمعنى الذي ذكرناه لهما.
  أما الفقرة الألى : ـ وهي (لا ضرر) ـ فلأن الضرر معنى اسم مصدري يعبر عن المنقصة النازلة بالمتضرر، من دون احتواء نسبة صدورية كالاضرار

قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 135 ـ
  والتنقيص ، وهذا المعنى بطبعه مرغوب عنه لدى الانسان ، ولا يتحمله أحد عادة الا بتصور تسبيب شرعي اليه ، لان من طبيعة الانسان ان يدفع الضرر عن نفسه ويتجنبه ، فيكون نفي الطبيعة في مثل هذه الملابسات يعني نفي التسبيب اليها بجعل شرعي ولمثل ذلك كان النهي عن الشيء بعد الأمربه أو توئم الأمر به دالا على عدم الأمر به كما كان الأمر بالشيء بعد الحظرأو توهمه معبرا عن عدم النهي فحسب كما حقق في علم الاصول ، وعلى ضوء هذا كان مفاد (لا ضرر! طبعا، نفي التسبيب الى الضرر بجعل حكم شرعي يستوجب له .
  وامّا الفقرة الثانية : ـ وهي لا ضرر ـ فهي تختلف في نوع المنفي وسائر الملابسات عن الفقرة الأولى لان الضرار مصدر يحتوي على النسبة الصدورية من الفاعل كالاضرار ـ وصدور هذا المعنى من الانسان أمر طبيعي موافق لقواه النفسية غضبا وشهوة.
  وبذلك كان نفيه خارجا من قبل الشارع ظاهرا في التسبيب الى عدمه والتصدي له ، ومقتضى ذلك .
  أوّلأ: تحريمه تكليفا فإن التحريم التكليفي خطوة أولى في منع تحقق الشيء خارجا.
  وثانيأ : تشريع اتخاذ وساثل إجرائية ضد تحقق الاضرار من قبل الحاكم الشرعي ، وذلك لان مجرد التحريم القانوني ما لم يكن مدعما بالحماية اجراءً ـ لا سيما في مثل (لا ضرار) ـ لا يستوجب انتفاء الطبيعة ولا يصحح نفيها خارجا .
  واما الوجه التفصيلي : لدلالة الحديث على ذلك فتوضيحه : ان هذا الحديث يمثل نفيأ لمفهومين (هما الضرر والضرار)، وهذه الصيغة ـ أعني صيغة النفي ـ رغم وحدتها صورة ووحدة المراد الاستعمالي منها تحتوي على معان مختلفة بحسب اختلاف الموارد:

قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 136 ـ
  فربما : يكون محتواها التحريم المولوي كما في ( لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج )(1) .
  واخرى : تكون ارشادا الى عدم ترتب الاثرالقانوني المترتب على الشيء كما في (لا طلاق الا لمن اراد الطلاق )(2) فانه يدل على عدم حصول الفراق القانوني بانشاء الطلاق اذا لم يكن مرادا جديا .
  وثالثة : تكون ارشادا الى محدودية متعلق الأمر كما في (لا صلاة إلآ بطهور) (3) فانه يدل على محدودية الصلاة الواجبة بالطهارة .
  ورابعة : تقتضي عدم وجود حكم يبعث على وجود شيء كما في مالو قيل (لا حرج في الدين ) 0 الى غيرذلك من محتوياتها .
  وعلى هذا فلا بد في معرفة معنى الحديث ، وتحقيقه من تحقيق ميزان اختلاف محتوى الكلام في هذه الموارد وغيرها رغم وحدة عنصره الشكلي ، ثم تحقيق معنى الحديث على ضوء هذا الضابط العام فهنا مرحلتان :
  اما في المرحلة الأولى : فلا بد قبل توضيح الميزان فيها من التنبيه على نكتة عامة فيما يتعلق بتفسير الكلام سواء أكان من قبيل صيغة الأمرأو النهي أو النفي أو الاثبات فنقول :
  ان الكلام يتألف من عنصرين عنصر شكلي يتمثل في مدلوله اللفظي ، وعنصر معنوي كامن تحت المدلول اللفظي يكون هو المحتوى الواقعي للصيغة والمصحح لاستعمالها ، وهذان العنصران لا يتحدان دائما وان كان لا بد بينهما من تسانخ وعلاقة، ولذا تكون الصيغة الواحدة ذات

(1) سورة البقرة 2 : 197 .
(2) جامع الأحاديث ا : 226 | 1887 ، الفقيه 4 : 22 | 67 .
(3) الوسائل 22 : 30| 1 2794 ، الكافي 6 : 62| 2 .

قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 137 ـ
  محتويات متعددة بحسب اختلاف الموارد كاستعمال صيغة الامر والنهي في معان كثيرة ، فان هذه المعاني ليست هي المدلول الاستعمالي للكلام ، ولا هي مجرد دواع واغراض لاستعماله ـ كما اوضحناه في محله من علم الأصول وانما هي محتوى الكلام وباطنه .
  واختلاف مفاد النفي على الانحاء السابقة وغيرها يرتبط بالعنصر المعنوي الكامن للكلام ـ كما هو واضح لوحدة العنصر الشكلي حسب الفرض وهو النفي ـ ومعرفة الضابط العام لتشخيص محتوى الكلام ، يتوقف على التعرف المسبق على العوامل المختلفة التي تؤثر في تعيين محتواه وتحديده لكي يتم استخراج هذا الضابط على أساسها .
  وذلك : لان تفسير الكلام في حد نفسه عملية معقدة لا تكفي فيها معرفة الجهات اللفظتة من المفردات اللغوية والهيئات العامة فحسب على ما أشرنا إليه .
  بل يمكن القول بان العوامل اللفظية بالنسبة الى سائرالجهات المؤثرة في معنى الكلام ، مثل ما يظهر من الجبل الثابت في البحر بالنسبة الى ما كان منه كامنا تحت الماء، لان هذه العوامل لا تؤلف الا جز يسيرا من مجموع ما يؤثر في محتوى الكلام ، وان كانت ظاهرة اكثر من غيرها .
  وسر ذلك : ان الكلام بما انه ظاهرة حية من الظواهر النفسية او الاجتماعية فانه يتفاعل بحسب محتواه مع جميع الملابسات التي تحيط به من محيط وشائعات واعراف وغير ذلك ، فاذا ما أريد تفسيركلام ما فلا بد من ملاحظة جميع الخصوصيات التي تقترن به من الأطار الذي القي فيه ، ومن طبيعة الموضوع الذي يتحدث عنه ، ومن الصفات النفسية للمتكلم والمخاطب ... فربما تختلف الكلمة الواحدة من زمان الى زمان او من موضوع الى موضوع أومن متكلم الى متكلم أومن مخاطب الى مخاطب .

قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 138 ـ
  فاذا لاحظنا الجهات المختلفة التي تحتضن الكلام وقدرنا نوع التفاعل المناسب معها : أمكننا تفسير الكلام في ظل مجموع تلك الجهات .
  وقد عبرنا عن هذا المنهج في تفسير الكلام بـ (منهج التفسير النفسي ) نظرا الى أن تأثير هذه ائجهات في الكلام انما هو بلحاظ تأثيرها في الحالة النفسية للمتكلم أو المخاطب معها .
  وبعد اتضاح هذه المقدمة نقول : ـ ان اختلاف محتوى صيغة النفي في الموارد المذكورة ، إنما ينشأ عن اختلاف المواضيع وملابساتها وتناسبات المورد بحسبها ، كما يوجد نظير هذا الاختلاف في سائر الصيغ التي تعبرعن الموقف الشرعي في موضوع ما.
  ونحن نقتصر في هذا المجال على عرض جملة من هذه المواضيع بشكل عام لمختلف الصيغ كصيغة الأمر والنهي والنفي والاثبات في الجملة الخبرية مع توضيح كيفية تاثيرها في اختلاف محتوى الصيغة :
  1 ـ الموضع الأول : ان يكون مصب الحكم طبيعة تكوينية ذات اثار خارجية يرغب المكلفون فيها أو عنها من جهة نسبتها مع القوى الشهوية والغضبية للنفس ، من دون ان يكون هذا الحكم مسبوقا بحكم مخالف له علما أو احتمالا كالأمر بعد الحظر أو بعد توهمه .
  ففي هذا الموضع يتضمن محتوى الخطاب أمرين : أحدهما : عام والاخر خاص بمورد صيغتي الاثبات والنفي .
  اما محتواه العام : فهو الوعيد على الفعل أو الترك فان كانت الصيغة بعثا كان محتواها الوعيد علن الترك فيكون الفعل واجبا تكليفا ، وان كانت الصيغة زجرا كان محتواها الوعيد على الفعل فيكون الفعل حراما تكليفا ، ومجموع الصيغة والمحتوى يؤلف الحكم المولوي الخاص من ايجاب أو تحريم.

قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 139 ـ
  واحتواء الصيغة لهذا المحتوى لم يكن لمجرد خصوصية الصيغة اذ هي لا تدل الأ على البعث أو الزجر اللزومي ، وهذا المقدار ينحفظ في ظل محتويات اخرى من قبيل الارشاد ونحوه مما ياتي ، وانما تعين مدلول الوعيد بدلالة الاقتضاء بعد أن امتنع فرض محتوى اخر للصيغة لعدم وجود مبادئه فى الجهات المكتنفة بها.
  وتوضيح ذلك : ان مدلول الصيغة ـ من البعث أو الزجر ـ لا معنى لاعتباره بما هو هو مجردا عن أي معنى أو اعتبارآخر، لأنه لا يكون بذلك مثار أثر خارجا أو عقلاء، فلا بد له من محتوى مسانخ له كامن فيما وراء اللفظ يكون سببا للأثر العقلائي ، وما يكون محتوى للكلام على قسمين :
  أ ـ ما يتوقف على مبادئ مسبقة غير موجودة ولا قابلة للاعتبارفي متعلق الصيغة (ومثال ذلك ) رفع توهم الحكم السابق ـ كما يراد ذلك في الامر بعد توهم الحظر ـ فانه يتوقف على فرض توهم خارجي للحظر.
  ومنه الارشاد الى عدم ترتب الاثر المطلوب على الشيء حيث يكون للشيء اثر اعتباري بطبيعته ، وهذا يتوقف على فرض اثر اعتباري ثابت للشيء مسبقا، الى غير ذلك من المحتويات الأتية .
  ب ـ ما يكون امرا اعتباريا لا بد من جعله من قبل الشارع وهو الوعيد على الترك المقوم للوجوب أو الوعيد على الفعل المقوم للحرمة.
  وعلى هذا فحيث لم يتواجد في هذا الموضع شيء من العوامل النفسية وغيرها مما يندرج في القسم الأول ليتفاعل معه المعنى حسب الفرض ، فيتعين كون المحتوى هو القسم الثاني تصحيحا لاعتبار البعث والزجرمن الحكيم .
  وعلى هذا الاساس يستفاد الحكم المولوي من البعث والزجر.
  وبذلك يتضح انه لا يتجه ما اشتهر في كلمات الأصوليين من ان

قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 140 ـ
  الاصل في الامر والنهي ان يكون مولويا ولا يحمل على الارشاد الا بقرينة . بل الصحيح هو العكس لان حمل الأمر والنهي على الارشاد انما يكون وفق تناسبات ثابتة بحسب طبيعة الموضوع ، فلا يحتاج كونه للارشاد الى مؤونة زائدة، وهذا بخلاف حمله على المولوية لانه إنما يكون بموجب دلالة الاقتضاء بعد فقد سائر الجهات التي ترسم للكلام محتوى إرشاديا ، فهي في طول تلك الجهات المقتضية لإرشادية الإنشاء طبعا.
  ويلاحظ هنا : أنه لا يفرق في استفادة الحكم المولوي من الصيغة في هذا الموضع بين ان تكون صيغة الانشاء من قبيل الامر والنهي او صيغة الاخبار من النفي والاثبات ، نعم استعمال صيغة الاخبار في هذا المجال تجوز لانه يخالف مفاده الاستعمالي ، وانما صحح ذلك التناسب بين الاخبار عن وجود الشيء مع التسبيب اليه بالأمر به ـ وكذلك التناسب بين الاخبارعن الانتفاء مع التسبيب الى ذلك بالنهي عنه ـ كما اوضحناه في البحث عن مدلول الجملة الخبرية في علم الأصول .
  فهذا هو المحتوى العام للكلام في هذا الموضع .
  (واما محتواه الخاص ) ـ بمورد الاثبات والنفي (1) ـ فهو تشريع اتخاذ الوسائل الاجرائية على اختلاف مراتبها ـ لتحقيق مقتضى الحكم ـ فيما كان المورد مقتضيا لمثل هذا التشريع وهذه الوسائل كاعمال القدرة في المنع عن الحرام أو الاكراه على فعل الواجب ، ويدخل في ذلك الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ولو بما يتضمن ايقاع الضرر على الفاعل نفسا أو مالا مع

(1) ووجه عدم اقتضاء الامر والنهي لذلك واضح لان مفادهما بالمطابقة اعتبار طلبي أو زجري فلا دلالة لهما على اكثر من ذلك وهذا بخلاف الاثبات والنفي فان مفادهما التسبيب الى الفعل أو الترك حتى كأنهما متحتقان فعلا.
فيكون الاثبات والنفي منسجمأ مع تشريع الوساثل الاجرائية أكثر من الأمر والنهي .

قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 141 ـ
  ملاحظة اخف الوسائل وأنسبها .
  نعم ان الوسائل الاجرائية المتخذة لحماية الحكم لا بد من ان تكون جارية على وفق القوانين المجعولة في الشريعة المقدسة في هذه المرحلة، من قبيل كون ايقاع الضرر بالفاعل مالا أو نفسا باذن من ولي الأمر أو باشراف منه ـ كما ذكرناه في محله ـ .
  2 ـ الموضع الثاني : ان يكون مصب الحكم ماهية اعتبارية ذات آثار وضعية عقلائية ويؤتى بها عادة بداعي ترتيب تلك الأثار التي يحترمها القانون ويمضيها ويحميها في مرحلة الإجراء ـ وذلك كالعقود والايقاعات .
  ومحتوى الصيغة في هذا الفرض هو عدم ترتب الأثر المزبور على المتعلق في مورد النهي والنفي ك ـ (لا بيع الا في ملك ) و(لا طلاق الأ لمن اراد الطلاق ) أو على غير المتعلق في مورد الأمر والاثبات ك ـ ( طلقوهن لعدتهن ) (1) ، ولذا يكون الحكم في ذلك حكما ارشاديا.
  والعامل العام الموجب لتعين هذا المعنى كمحتوى للصيغة ، هو التناسب الطبيعي بين الهدف والوسيلة، وتوضيح ذلك : ان مثل هذه الطبيعة اذا كانت ذا مفسدة بنظر المشرع فانه يكفي في تحقق هدف الشارع من الانزجار عنها فصلها عن اثارها القانونية ، فيستوجب ذلك انزجار المكلف عن الطبيعة، وتحديد الداعي الموجب لايجادها ، لان الرغبة في الطبيعة ـ بحسب الفرض في هذا الموضع ـ ليس باعتبارجهة تكوينية فيها تنسجم مع قوة نفسية للانسان مثلا ـ كما في المورد الأؤل ـ وانما هي بلحاظ أثرها القانوني ، فاذا فصلت عن الأثر القانوني انزاح الداعي الى تحقيقها . فالغاء الأثر القانوني هو الوسيلة المناسبة لتحقيق الهدف المزبور عادة .

(1) سورة الطلاق 65| 1 .

قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 142 ـ
  (نعم ) ربما لا يكفي مجرد الغاء الاثر، لقوة الداعي الى ايجادها أو لعدم الاحتياج البالغ إلى الحماية القانونية في المورد ـ كما في مورد النهي عن بيع الخمرأو النهي عن الربا فان مورد الربا من المنقولات مثلا ولا تحتاج المعاملة فيها الى حماية قانونية ـ فيجعل الحرمة التكليفية زيادة على الفساد الوضعي .
  وعلى هذا : فالتناسب المذكور هو الموجب لتعين محتوى الكلام في الغاء الاثر القانوني .
  فهذا هو العامل الاساسي العام في هذا الموضع ، الموجه لمحتوى الصيغة .
  وهناك عامل آخر أخص يتواجد في مورد تحديد الموضوع فحسب ـدون موردالنهي عن الطبيعة مطلقا ـ وهو تفاعل الصيغة مع العامل النفسي للمامور ، وذلك لأن مرغوبية الطبيعة في هذا المورد انما تكون في ضوء هدف مسبق للمكلف ، وهو الوصول الى الأثر المطلوب كانفصام العلقة الخاصة مثلا ـ كما في الطلاق ـ او تحققها ـ كما في الزواج ـ .
  فإذا كان الاعتبار الصادر يحذد تاثير الطبيعة، فان هذا يرجع الى تحديد الوسيلة لتحقق الهدف المفروض فيكون الهدف المفروض كموضوع مفترض لهذا الاعتبار، فاذا قيل (لا طلاق الا بشاهدين ) فهو في قوة ان يقال (اذا اردت انفصال العلقة الزوجية فلا تطلق الا بشاهدين ) فيكون الأثر المطلوب كشرط مقدر بالنسبة الى الخطاب ، فيكون مفاد الخطاب طبعا ارتباط الغاية المفروضة بالحد الخاض .
  وهذا العامل كما قلنا انما يكون في مورد تحديد الطبيعة لا في مورد الغاء اثرها مطلقا ، لان الغاء اثرها يرجع الى اسقاط الغاية المسبقة لا تحديد وسيلتها كما هوواضح .

قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 143 ـ
  (ويلاحظ ) : ان استعمال صيغة الأمر والنهي في هذا الموضع ليس مجازا بل هو استعمال حقيقي لان فصل العلقة بين الطبيعة وبين الأثر المرغوب منها ينسجم مع صيغة الزجرتمام الانسجام لانه يوجب انزجار المكلف عن ذلك بالامكان وكلما كان المحتوى المعنوي في اللفظ يحقق للعنصر الشكلي فيه التاثير المطلوب منه المسانخ اياه فإن الاستعمال يكون حينئذ حقيقيا بعد تمام المحتوئ المزبورإذ يتأتى للمتكلم حينئذ ان يقصد المدلول الاستعمالي بالكلام جدأ ، وفصل العلقة في المقام مستوجب لفاعلية الزجر الانشائي ، كما أن الوعيد في النهي المولوي مستوجب لفاعلية الزجر الانشائي ، وهكذا في صيغة البعث في مورد الامر بالحصة ك ـ ( طلقوهن لعدتهن ) (1) يكون الاستعمال حقيقيا ، فان تحديد الوسيلة بعد تعلق الغرض مسبقا باثرها نوع من البعث للشخص نحوالوسيلة المشروعة .
  وبذلك يظهر : انه لا يتجه ما في كلمات جماعة من الاصوليين من اعتبار الارشاد معنى مجازيا للامر والنهي ، وكان منشأ ذلك عدم التنبيه لكيفية تفاعل الاعتبار مع الملابسات المحيطة به على ما أوضحنا ذلك .
  واما صيغة الاثبات والنفي ك ـ ( لا طلاق الا ما اريد به الطلاق ) و(لا سبق الا في خف أوحافر اونصل ) و(لا بيع الا في ملك ) ، فانه يكون من قبيل اثبات الحكم بلسان اثبات موضوعه ، أو نفيه بلسان نفيه مبالنة في ذلك ، بلحاظ ان فصل الشيء عن اثره القانوني تسبيب الى انتفائه في الخارج على ما سبق توضيحه .
  3 ـ الموضع الثالث : ان يكون مصب الحكم موضوعا لحكم شرعي خاص من دون رغبة طبيعية نحوه ـ في مورد الزجر ـ أو انزجارطبيعي عنه ـ في

(1) سورة الطلاق 65| 1 .

قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 144 ـ
  مورد البعث اليه ـ ك ـ (لا شك لكثير الشك ) و(لا سهو للامام مع حفظ المأموم ) فان الشك في الصلاة موضوع لجملة من الاحكام .
  ومحتوى الصيغة في هذا الموضع ـ حيث تكون صيغة نفي ـ ليس هو التسبيب الى عدم تحقق الموضوع إذ لا وجه لارادة ذلك ، وانما هوعدم ترتب ذلك الحكم الشرعي بالنسبة الى الحصة الخاصة، فان ارتباط الطبيعة في ذهن المخاطب بتلك الأحكام ، يوجب ان يكون محتوى الكلام ناظرأ لهذا الارتباط بمقتضى التفاعل الطبيعي بين الكلام وبين التصورات الذهنية للمخاطب ، فيكون مؤداه تحديد هذا الارتباط وخروج المنفي عنه .
  4 ـ الموضع الرابع : أن يكون مصب الحكم حصة خاصة من ماهية مامور بها يظن سعتها لهذه الحصة فيكون الداعي لاتيانها تفريغ الذمة واداء الوظيفة كما في (لا صلاة الا بفاتحة الكتاب ) و(لا صلاة لمن لم يقم صلبه في الصلاة) .
  ومحتوى الصيغة في هذا الموضع هو عدم ترتب الاثر المذكور ـ وهو ـ فراغ الذمة على الاتيان بالحصة ، فيرجع الى اشتراط المتعلق بالقيد الخاص ، ولذا يكون الحكم حكما ارشاديا الى الجزئية والشرطية .
  وسر تعين هذا المعنى كمحتوى للصيغة هنا عاملان ـ على غرار ما سبق في الموضع الثاني ـ :
  الأول : التناسب الطبيعي بين الهدف والوسيلة فانه يكفي في حصول هدف الشارع ـ وهو عدم تحقق الحصة المذكورة تحديد الأمر بالطبيعي لتخرج هي عن المتعلق ، وذلك موجب لانزجار المكلف عنها ، لان الاتيان بها إنما يكون بقصد امتثال الأمر بالطبيعة وهو ينتفي مع تحديده بحصة خاصة .
  الثاني : تفاعل الكلام مع الحالة النفسية للمخاطب ، وذلك لان باعث

قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 145 ـ
  المكلف على الاتيان بهذه الحصة هوتفريغ الذمة عن الطبيعي المامور به ، فالنفي الملقى في هذه الحالة يتفاعل حسب التناسب مع هذا الباعث النفسي ويفيد تحديد العامل فيه وهو الأمر الشرعي بحصة معينة .
  وكيفية استعمال صيغ الأمر والنهي والاثبات والنفي في هذا الموضع يماثل ما مضى في الموضع الثاني .
  5 ـ الموضع الخامس : ان يكون مصب الحكم حصة من ماهية منهي عنها يظن سعتها لهذه الحصة، فيكون الرادع النفسي عنها هوقصد اطاعة الحكم المتعلق بالطبيعي كما في (لا ربا بين الوالد والولد) .
  ومحتوى الصيغة في هذا الموضع نفي تعلق الحكم التحريمي بالحصة، فيرجع الى تقييد متعلق الحرمة بالقيد الخاص ، وذلك لنظير ما تقدم في الموضع الثالث فان ارتباط الطبيعي في ذهن المخاطب بالحكم التحريمي يوجب ان يكون محتوى الكلام ناظرأ لهذا الارتباط وتحديدا للحكم التحريمي بتحديد متعلقه .
  6 ـ الموضع السادس : ان يكون مصب الحكم طبيعة يرغب المكلف عنها أو يرغب إليها، اما لانسجام المتعلق مع القوى النفسية والشهوية ، أو للأثر القانوني المترتب على الشيء عادة أو لاجل تفريغ الذمة وامتثال القانون ، لكنه معرض عنها لتصورثبوت حكم مخالف لجهة رغبته وهذا هو الفارق بين هذا الموضع والموضع الأول كما هو واضح ، سواء كان هناك حكم كذلك بالفعل ، او كان هذا التصور توهما أو احتمالا، وقسم من هذا الموضع هو الذي يتعرض له في علم الأصول بعنوان (الأمر بعد الحظر) .
  وفي هذا الموضع يتفاعل الكلام مع التصور الذهني المضاد، فيكون محتواه نفي الحكم المتصور، مع انه لولا التصور المذكور لافاد الحكم المولوي أو الحكم الارشادي ولا فرق في ذلك بين أن تكون صيغة الحكم

قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 146 ـ
  انشاءا أوخبرا .
  ففي الانشاء تتبدل الصيغة من اداة ايجابية بناءة الى اداة هدم سلبية ـ حيث يكون محتواها سلب الحكم السابق فحسب ـ رغم ان عنصرها الشكلي يمثل معنى ايجابيا من قبيل الطلب والزجر ، ولذلك يكون استعماله مجازيا يختلف فيه المراد التفهيمي عن المراد الاستعمالي .
  لكن مصحح الاستعمال المذكور هو ان هدم الاعتبار السابق أو رفع توهمه ، يتيح المجال للعامل النفسي ويرفع العائق امام فاعليته ، فيخيل بذلك أن هذا الهدم أو الرفع هو العامل الفاعل للبعث والزجر، وذلك من قبيل الامر بالاصطياد بعد تحريمه أولا في حال الاحرام في قوله تعالى : ( فاذا حللتم فاصطادوا )(1) فان هذا الأمر ليس محتواه الا رفع التحريم السابق ، دون بناء حكم ايجابي ـ كما هومقتضى مدلوله ـ الا انه صح استعمال صيغة البعث لان هدم التحريم السابق يستتبع الانبعاث نحو الاصطياد بفاعلية العامل الطبيعي عند الانسان نحو الصيد، فيكون استعمال صيغة الأمر في ذلك بلحاظ استتباع محتواه الهادم للانبعاث نحوه حتى كأنه العامل لذلك .
  واما استعمال صيغة الاخبار في هذا الموضع فهو ايضا استعمال مجازي ، لان مفاد صيغة النفي مثلا هومجرد الاخبار عن نفي وجود الطبيعة خارجا ، لا سلب وجود حكم موجب لتحققها خارجا لولا هذا النفي ، لكن صحح ذلك أن سلب الحكم وان كان في الواقع مجرد عدم تسبيب الى وجود الطبيعة ، لكن حيث تكون الطبيعة مرغوبا عنها لذاتها ـ أو غيرمرغوب اليها ـ الا على تقدير ثبوت هذا الحكم كان نفي الحكم في هذا السياق بمثابة التسبيب الى عدم تحقق الطبيعة، وبذلك صح نفيها خارجأ نفيا تنزيليا.

(1) سورة المائدة 5 | 2 .

قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 147 ـ
  وذلك كما لو قيل ـ نفيا لمانعية بعض مايحتمل مانعيته للصلاة ـ : (لا اعادة للصلاة بكذا) ، فان الاعادة لا يرغب اليها المكلف بطبعه الا لطلب شرعي فحسب فلو دل الدليل على نفي الطلب الشرعي لزم من ذلك عدم تحققها عادة بفاعلية الرغبة الطبيعية عنها فصح نفيها تنزيلا.
  ثم ان هذا الموضع لا يختص بما لوكان متعلق الحكم نفسه موردا لحكم منساق او متوهم ـ كما في مثال الاصطياد والصلاة ـ بل يعم ما لوكان متعلقه امرا مستبا عن الحكم السابق أو المتوهم ، وذلك كأن يقال في معرض توهم جعل الشارع لتكليف مؤد الى الحرج : ـ ( لا حرج قي الدين ) أو(لا تحرج نفسك ) فهنا ايضا يتفاعل الكلام مع التوهم المذكور ويكون محتواه ومفاده ـ التفهيمي نفي جعل حكم مسبب الى الحرج ، ومقطع (لا ضرر) من الحديث من هذا القبيل على ما يتضح قريبا.
  فهذه مواضيع عامة يتغير بمقتضاها المحتوى الذي تستنبطه صيغ الحكم ومنها النفي ، وقد اتضح من خلال ذلك ان المحتويات المختلفة للنفي وغيره انما هي مرهونة بتناسبات مختلفة يتفاعل معها الكلام فترسم له على ضوئها معان مختلفة تكون محتوى له ، هذا تمام الكلام عن المرحلة الأولى .
  واما المرحلة الثانية : فهي من تطبيق الضابط المذكور على الحديث أوتوضيح معنى الحديث على ضوء ذلك :
  اما المقطع الأول : من الحديث وهو (لا ضرر)، فهويندرج في المورد السادس الذي ذكرناه فيفيد نفي جعل حكم ضرري وذلك على ضوء أمور ثلاثة :
  1 ـ الأزل :
  ان من الواضح جدا أن متعلق النفي في هذا المقطع ـ وهو الضررـ

قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 148 ـ
  ليس ماهية اعتبارية ذات آثار وضعية حتى يرجع نفيها الى فصلها عن آثارها ويندرج في الموضع الثاني ، ولا هوحصة من موضوع ذي حكم شرعي ، او متعلق للوجوب أو للحرمة حتى يراد نفي الحكم المترتب على الطبيعي فيندرج في احد المواضع المتوسطة الباقية ، فلا محالة يدور الأمر فيه بين احتمالين :
  أ ـ ان يكون ماهية مرغوبا إليها لانسجامها مع القوى الشهوية أو الغضبية ـ من قبيل الموضع الأول ـ فيكون مفاد نفيه حينئذ التسبيب الى عدم تحققه بتحريمه والمنع عن ايجاده خارجا، فيصح حمل النفي في الحديث حينئذ على النهي كما هومؤدى بعض المسالك في المقام .
  ب ـ ان يكون ماهية مرغوبا عنها، لكن النفي لرفع توهم تسبيب الشارع اليه بالزامه به بما يوجب الضيق والضرر للمكلف ، فيندرج في المورد السادس ويكون مفاد نفيه نفي التسبيب الى الضرر، بجعل حكم ضرري نظير (لاحرج ) كما نسب الى المشهور.
  2 ـ الثاني : ان هذين الاحتمالين يتفرعان على كون معنى هيئة (الضرر) معنى مصدريأ محتويا للنسبة الصدورية إلى الفاعل ـ أي الضار ـ كالاضرار والضرار، أو معنى اسم مصدري خال عن هذه النسبة كالضيق والحرج والمنقصة .
  فعلى الأول : يمثل الضرر كالاضرار طبيعة موافقة للقوى النفسية للانسان ـ كالغضب والحقد وحب الايذاء ونحوها ـ التي يلجا اليها الانسان كثيرا ارضاء لنفسه .
  وحينئذ يكون مفاد لا ضرر تحريمه وتشريع ما يمنعه خارجا.
  وعلى الثاني : يكون الضرر بمعنى المنقصة الواردة على المتضرر، وهو امر لا يتحمله الانسان بطبعه بل هومكروه له أشد الكراهة ، وانما يتحمله

قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 149 ـ
  لو ظن ان الشارع حمله اياه فنفي الضرر في هذا السياق النفسي يرجع الى نفي تسبيب الشارع له دفعأ لتوهم ايجابه على المكلف وتحميله عليه .
  3 ـ الثالث : ان الصحيح هو الاحتمال الثاني ، لان الحس اللغوي لمن عرف اللغة العربية يشهد بان الضرر انما يمثل المعنى نازلا بالمتضررلا صالرأمن الفاعل ، فهومعنى اسم مصدري كالمضرة والمنقصة ، وليس معنى مصدريا كالاضرار ، كما تقدم ذكر ذلك في البحث من معنى الهيئة الافرادية للكلمة .
  وعلى هذا فيكون مثل هذا التركيب مثل سائر الأمثلة المماثلة له حالا كـ (لاحرج ) مايكون المعنى المنفي عنه عملا مرغوبا عنه للمكلف بحسب طبعه وانما يتحمله بتصورتشريع يفرضه عليه فيكون المنساق من النفي قصد نفي التشريع المتوهم أو المترقب فحسب .
  وبذلك يكون مفاد (لا ضرر) نفي التسبيب إلى الضرر لجعل حكم ضرري كما هو مسلك المشهور.
  واما المقطع الثانى : من الحديث ـ وهو (لا ضرار) ـ فانه يندرج فى الموضع الأول من المواضع السابقة على ما اتضح بما ذكرناه في مورد (لا ضرر) آنفا ـ لان الضرار هو الاضرار المتكرر أو المستمر، وقد ذكرنا ان الاضرار بالغير عمل يمارسه الانسان بطبعه لأجل ارضاء الدواعي الشهوية والغضبئة ، فاذا نهي عنه كما في جملة من الايات (1) فهو ظاهر في النهي التحريمي زجرأ للمكلفين عن هذا العمل كما هوواضح .

(1) كقوله تعالى ( لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده ) البقرة 2 | 233 و( اشهدوا اذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد ) البقرة 2 | 282 ( ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن ) الطلاق 65 | 676 .

قاعدة لا ضرر و لا ضرار ـ 150 ـ
  واذا نفي كما في هذا الحديث فانه يدل على التسبيب الى عدم تحقق هذا العمل وذلك من خلال ثلاثة امور.
  الأمر الأول : جعل الحكم التكليفي الزاجر عن العمل وهو الحرمة .
  وهذا الحكم يستبطن الوعيد على الفعل ويترتب عليه بحسب القانون الجزائي الشرعي :
  أولا : العذاب الاخروي في عالم الأخرة .
  وثانيا : العقوبة الدنيوية بالتعزير ونحوه حسب رأى ولي الأمر بالحدود المستفادة من الأدلة الشرعية .
  وثالثا: الضمان في موارد الاتلاف وكون الشيء المتلف ذا مالية لدى العقلاء.
  الأمر الثاني : تشريع اتخاذ وسائل مانعة عن تحققه خارجا ، وذلك من قبيل تجويزإزالة وسيلة الضرر وهدمها اذا لم يمكن منع ايقاعه الا بذلك ، كالأمر باحراق مسجد ضرار (1) والحكم بقلع نخلة سمرة ونحو ذلك .
  وهذا التشريع يرتكز على قوانين ثلاثة :
  1 ـ قانون النهي عن المنكر فان للنهي مراتب متعذدة ـ كما ذكر في الفقه ـ اخفها النهي القولي وأقصاها الاضرار بالنفس ، وبينهما مراتب متوسطة ، ولاتصل النوبة الى مرحلة اشد الا بعد تعذر المرحلة السابقة عليها أو عدم تاثيرها في الكف عن المنكر.
  2 - قانون تحقيق العدالة الاجتماعية بين الناس . وهذا من شؤون الولاية في الأمور العامة الثابتة للنبي صلى الله عليه واله وائمة الهدى عليهم

(1) ورد ذكر في كتب التفسير في تفسير قوله تعالى : ( فى والذين اتخذوا مسجدا ضرارا ... ) التوبة 9 | 107 لاحظ مجمع البيان ط 3 : 2 7-73.