فربما يصح الاختصار ويكون مناسبأ في مورد لخلو التفصيل عن أي فائدة مهمة ، ولا يكون كذلك في مورد آخر، والمقام من هذا القبيل فإن الاختصار في نقل التفاصيل الدائرة في القضية مما ليس لها اثر فقهي لا يقارن بالاختصار في نقل كلام النبي صلى الله عليه وآله الذي هو في مقام القاء كبرى كلية بحذف بعض كلماته ، فالاجمال من الجهة الأولى موافق لاصول الاختصار، بخلافه من الجهة الثانية فلا يمكن قياس الثاني بالأول .
الوجه الثاني : أن يرجح عدم ثبوت الزيادة، ويخرج ورودها في رواية ابن مسكان على انها كانت اضافة من الراوي لفهمه من مناسبات الحكم والموضوع ـ كما ذكره المحقق النائيني (قده ) ـ وذلك بتصور أن المنع من الاضرار بالغير يمثل رحمة بالنسبة اليه ، ولا يناسب شمول ذلك للكافر الذي امرنا بالشدة معه كما في قوله تعالى (أشداء على الكفار رحماء بينهم)
(1)، فلا محالة تختص كبرى لا ضرر ولا ضرار بالمؤمن فيزاد لفظ (على مؤمن ) .
وهذا الوجه هو الاقرب في النظر لرجحان رواية ابن بكير، الخالية عن الزيادة المذكورة من عدة جهات يمكن بملاحظة مجموعها ترجيح الوجه المزبور وهذه الجهات هي :
الأولى : قرب الاسناد في رواية ابن بكير ، فإن بين الكليني وبين الامام عليه السلام في رواية ابن بكير ، عن زرارة خمس وسائط وبينه وبين الامام في رواية ابن مسكان ست وسائط ومعلوم أنه كلما قل عدد الوسائط يقل معه احتمال مخالفة النقل للواقع ، لأن احتمال المخالفة يجيء في كل واحد من الرواة فيقل بطبيعة الحال فيما كان اقرب اسنادا الى الامام عليه السلام .
الثانية : تعدد الرواة في رواية ابن بكير دون رواية ابن مسكان ، فإن
قاعدة لا ضرر و لا ضرار
ـ 102 ـ
الرواة عن عبدالله بن بكير في كل طبقة لا تقل عن رجلين ، بملاحظة ضم طريق الصدوق في المشيخة الى طريق الكليني ، وأما في رواية إبن مسكان فالراوي في كل طبقة رجل واحد فقط .
هذا مضافا الى ان كتاب (عبدالله بن بكير) كان كثير الرواة كما ذكر ذلك النجاشي ، وأما كتاب (عبدالله بن مسكان ) فلم يذكر ذلك بشأنه ، فلو إستظهرنا أن مصدر الكلينى أو الصدوق فيما روياه عن عبدالله بن بكير نفس كتابه ، فلا تقاس حينئذ روايته برواية ابن مسكان ، من حيث الاعتبار.
ولكن لا سبيل الى هذا الاستظهار بالنسبة الى نقل الكليني كما هو واضح ، وقد يقال بثبوته بالنسبة الى نقل الصدوق لأنه ابتدأ باسم ابن بكيروله طريق اليه في المشيخة، فيعلم بذلك انه اخذ رواياته من كتابه ، ولكن هذا ليس بصحيح ـكما تقدمت الاشارة اليه ـ لأن الصدوق (قده ) لم يتقيد في الفقيه بالابتداء باسم صاحب الكتاب الذي اخذ الحديث من كتابه بل يبتدأ باسم غيره كثيرا، فمجرد الابتداء باسم شخص وإن كان له سند اليه في المشيخة، أو كان كتابه مشهورا لا يقتضي كون مصدره في النقل عنه نفس كتابه .
الثالثة : إن رواة الحديث في سند الصدوق الى ابن بكير اعظم شأنا وأجل قدرا من رواته في سند الكليني الى أبن مسكان ، فمن رواة الاوّل (الحسن بن علي بن فضال ) الذي قال عنه الشيخ : كان جليل القدر عظيم المنزلة زاهدا ورعا ثقة في الحديث ، ومنهم (احمد بن محمد بن عيسى) الذي قال عنه النجاشي : شيخ القميين ووجههم وفقيههم غير مدافع ، ومن رواة الثاني ذلك المجهول الذي روى عنه محمد بن خالد البرقي ولم يذكر اسمه ، وقد ذكر في شأن البرقي انه كان ضعيفا في الحديث يروي عن الضعفاء ويعتمد المراسيل ، ومنهم احمد بن محمد بن خالد الذي
قاعدة لا ضرر و لا ضرار
ـ 103 ـ
قال عنه ابن الغضائري طعن عليه القميون وليس الطعن فيه وانما الطعن فيمن يروي عنه ، فانه كان لا يبالي عمن يأخذ على طريقه اهل الاخبار ،وقال الشيخ : كان ثقة في نفسه غير انه اكثر الرواية عن الضعفاء واعتمد المراسيل ، ونحوه كلام النجاشي .
الرابعة : ان الكليني قد فرق بين روايتي ابن بكير وابن مسكان في كيفية النقل من وجهين يقتضيان ارجحية رواية ابن بكير وهما :
1 ـ انه نقل رواية ابن بكير في اوائل الباب ونقل رواية ابن مسكان في اواخره ، وفصل بينهما بجملة احاديث تختلف عنهما موضوعا ،فهذا قد يدل على ان ذكر الثانية كان على سبيل الاستشهاد والتأييد لا على سبيل الاعتماد على ما هو دأبه ـ فيما عرفناه بالتتبع في كتابه ـ من ترتيب الروايات على حسب مراتبها عنده في الصحة والاعتبار ،وقد تنبه لهذا بعض المحققين ايضا (1).
2 ـ انه نقل رواية ابن بكير بتوسط العدة عن أحمد بن محمد بن خالد البرقي ، ولكنه نقل رواية ابن مسكان بتوسط علي بن محمد بن بندار عنه ، ولا يبعد ان يكون منشأ ذلك انه قد نقل الرواية الاولى عن النسخة المشهورة أو الاجزاء المشهورة من كتاب المحاسن للبرقي ، ولذا نقلها بتوسط العدة ، وأما الثانية فنقلها من غير كتاب المحاسن أو غير النسخة أو الاجزء المشهورة منه فلذا كان الراوي لها واحدا.
وتوضيح ذلك ان كتاب المحاسن للبرقي وان عد من الكتب المشهورة ـ كما في مقدمة الفقيه ـ الا ان جميعه لم يكن كذلك ،وقد ذكر الشيخ والنجاشي : انه قد زيد في المحاسن ونقص وقد اختلفت الرواة في عدد
|
(1) روضات الجنات 6 | 116 .
|
قاعدة لا ضرر و لا ضرار
ـ 104 ـ
كتبه ،ومما يدل على عدم اشتهار جميعه ما في ترجمة محمد بن عبد الله الحميري من انه قال : كان السبب في تصنيفي هذه الكتب ـ اشارة الى بعض كتبه ـ اني تفقدت فهرست كتب الخاصة التي صنفها احمد بن ابي عبدالله البرقي ،ونسختها ورويتها عمن رواها عنه وسقطت هذه السنة عني فلم اجد لها نسخة ،فسألت اخواننا بقم وبغداد والري فلم اجدها عند أحد منهم فرجعت الى الاصول فاخرجتها والزمت كل حديث منها كتابه وبابه الذي شاكله .
وكيف كان فلا اشكال في ان كتب المحاسن لم يكن كلها على مستوى واحد من الشهرة والنقل ،فلو كانت رواية ابن بكير مروية من الكتب المشهورة دون رواية ابن مسكان ،كما يومي اليه توسط العدة في نقل الاولى ،وعلي بن محمد بن بندار فقط في نقل الثانية ،كانت الاولى اوثق واقرب الى الاعتبار .
الخامسة : ان زيادة (على مؤمن ) لم ترد في سائر موارد نقل حديث (لا ضرر ولا ضرار ) في كتب العامة والخاصة سواء ما جاء في ضمن قضية خاصة وغيره ،وهذا مما يقرب احتمال كونها من قبل الراوي .
فتحصل مما تقدم ان الاصح عدم ثبوت زيادة (على مؤمن ) في ذيل حديث لاضرر .
المقام الثالث : مما يتعلق بمتن الحديث : في تحقيق حال القسم الثاني منه وهو لفظ (لا ضرر) وقد اختلفت فيه مصادر العامة والخاصة ،اما باختلاف الروايات او باختلاف النسخ ـ وهذا هو الاكثر ـ .
أما في ( مصادر العامة ) فقد نقل الحديث فيها على انحاء :
1 ـ ما لا يتضمن القسم الثاني اصلا كالمروي عن جامع الصنعاني باسناده عن الحجاج بن ارطأة ،عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال :
قاعدة لا ضرر و لا ضرار
ـ 105 ـ
قال النبي صلى الله عليه وآله : (لا ضرر في الاسلام ) . وهذا يحتمل فيه السقوط للجملة الثانية .
2 ـ ما يتضمه بصيغة ( لا ضرورة ) كرواية أبي هريرة المروية في سنن الدارقطني ،اذ جاء فيها (لاضرر ولا ضرورة ) وكرواية عبادة بن الصامت على ما في كنز العمال نقلا عن زيادات عبد الله بن احمد بن حنبل في مسند أبيه ،وصحيح أبي عوانه والمعجم الكبير للطبراني ،ولكن سائر مصادر رواية عبادة ـ مما اطلعنا عليه ـ نقلت حديثه بصيغة (لا ضرار) وهي الموجودة في مسند احمد بن حنبل .
3 ـ ما يتضمنه بصيغة (لا اضرار ) كرواية ابن عباس بنقل احمد بن حنبل ، والدارقطني ورواية أبي سعيد الخدري بنقل الدارقطني أيضا ،ورواية عائشة بنقل الزيلعي عن معجم الطبراني .
4 ـ ما يتضمنه بصيغة ( لا ضرار ) وهذا هو الاكثر شيوعا في مصادرهم الحديثية والفقهية .
واما ( مصادر الخاصة ) وما يلحق بها ككتاب دعائم الاسلام ، فهي مختلفة على النحوين الاخيرين : ( لا ضرار ) و ( لا اضرار ) كما يلي :
1 ـ رواية ابن بكير عن زرارة : ورد فيها في بعض نسخ الكافي ـ وهي النسخة المطبوعة بهامش مرآة العقول ـ بصيغة ( لا إضرار) (1)، ولكن ورد في الطبعة القديمة والحديثة من الكافي وكذا التهذيب بطبعتيه والفقيه بطبعته النجفية والوسائل والوافي جميعا بصيغة ( لا ضرار) (2).
|
(1) في النسخة التي بين ايدينا من المرآة 19 | 394 ـ 395 ح2 لا ضرار ، ولكن في الطبعة الحجرية 3 | 433 فيها : لا إضرار .
(2) الكافي ط قديم 1 | 414 ، ط حديث 5 | 292 ح2 ، التهذيب ط قديم 2 | 158 ، ط حديث 7 | 146 ، الفقيه 3 | 147 ، ح648 ،
الوسائل 25 | 292 ـ 429 ح32281 ، الوافي المجلد 3 الجزء 10|10. |
قاعدة لا ضرر و لا ضرار
ـ 106 ـ
2 ـ رواية ابن مسكان عن زرارة : ورد فيها بصيغة (لا إضرار ) في الكافي المطبوع بهامش مرآة العقول ، وكذا في الوافي (1) ولكن في الطبعتين القديمة والحديثة من الكافي وكذا في الوسائل بصيغة ( لاضرار) (2).
3 ـ رواية عقبة بن خالد في الشفعة : ورد فيها بصيغة ( لا اضرار ) في الفقيه ـ الطبعة الحديثة ـ وكذا في الوافي نقلا عن الكافي والتهذيب والفقيه (3) ، ولكن في غيرهما من المصادر ورد بصيغة ( لا ضرار )(4) .
4 ـ رواية عقبة بن خالد في منع فضل الماء : ورد فيها في الوافي بصيغة ( لا إضرار ) (5) ولكن في غيره ورد بصيغة ( لا ضرار )(6).
5 ـ مرسلة الصدوق : ورد فيها بلفظ ( لا إضرار ) في المطبوعة النجفية من الفقيه (7) ، ولكن في الوسائل بصيغة ( لا ضرار )(8).
6 ـ مرسلة ابن أبي جمهور : ورد فيها بلفط (لا إضرار ) في النسخة المخطوطة التي اطلعنا عليها من عوالي الللآلي (9).
7 ـ مرسلة دعائم الاسلام في حديث هدم الحائط : ورد فيها بصيغة
|
(1) الكافي ط قديم1| 141 ، مرآة العقول 3 | 433 ، الوافي المجلد 3 الجزء 10 | 143 .
(2) الكافي ط حديث 5 | 294 ح8 ، الوسائل 25 | 429 ح32282.
(3) الفقيه 3 : 45 | 154 ، الوافي المجلد3 الجزء 10 | 103 ، الكافي ط قديم 1 | 410 .
(4) الكافي 5: 28 | 4 ، التهذيب 7: 164 | 727 ، التهذيب ط قديم2 | 162 ، الوسائل 25: 399 ـ 400ح32217.
(5) الوافي المجلد3 الجزء 10 | 136 ، مرآة العقول 3 | 343 وط قديم 1 | 414 .
(6) الوسائل 25: 240 | 32257 ، الكافي5 | 293 ـ 294 ح6 ، الكافي المطبوع في المرآة 19: 397 ـ 398.
(7) الفقيه 4 | 243 ح777.
(8) الوسائل 26 | 14 ح32382.
(9) وهي من موقوفات مقبرة فقيه عصره السيد ابو الحسن الاصفهاني (قده) في النجف الأشرف .
|
قاعدة لا ضرر و لا ضرار
ـ 107 ـ
(لا إضرار) ـ على ما في مطبوعته المصرية ،ـ ولكن في المستدرك عنه بصيغة (لا ضرار) مع جعل (لا إضرار) نسخة بدل عنها (1) .
8 ـ مرسلة دعائم الإسلام الأخرى : ورد فيها بصيغة (لا إضرار) في جملة من نسخها المخطوطة التي اعتمدها محقق الطبعة المصرية ، وفي واحدة منها بصيغة (لا ضرار) كما هو كذلك في المستدرك أيضا (2).
9 ـ المصادر الفقهية وغيرها كالخلاف والتذكرة والتبيان والغنية (3) ونحوها : ورد فيها بالصيغتين تارة (لا ضرار) وأخرى (لا إضرار) والاكثر هي ا لاولى .
وبعد ملاحظة اختلاف لفظ الحديث باختلاف النسخ أو الروايات فما هو الارجح من بينها؟!
الظاهر ان الأمر دائر بين صيغتي (لا ضرار ولا إضرار) ، وأما ما ورد في بعض مصادر العامة من حذف القسم الثاني من الحديث رأساً أو ثبته بصيغة (لا ضرورة) فلا يمكن الاعتماد عليه اصلاً كما هو واضح ، والارجح في النظر من الصيغتين المذكورتين هي الأولى منهما أي (لا ضرار) ـ كما استقربه في مجمع البحرين أيضا ـ وذلك لوجوه .
الأول : إنه ورد في عنوان الكافي (باب الضرار) (4) وهو يناسب كون الصيغة المستعملة في الحديث (لا ضرار) لا لفظ (لا إضرار) كما لا يخفى .
الثاني : إنه قد جاء في قضية سمرة توصيف النبي صلى الله عليه وآله
|
(1) دعائم ألاسلام 2 | 4 0 5ح 1805 ، مستدرك الوسائل 7 1 |8 1 1 ح 20927 .
(2) دعائم الاسلام 2 | 499 ح ا 188 ، مستدرك الوسائل 17 |18 1 ح 928 20 .
الخلاف 3|42 ذيل ألمسألة 0 6 وص 81 ذيل المسألة 131 وص 83 ذيل المسألة 36 1.
(3)التبيان 1 |379 والغنية الطبعة ألحجرية غير مرقمة .
(4) الكافي ط حدبث 292|5 .
|
قاعدة لا ضرر و لا ضرار
ـ 108 ـ
لسمرة بإنه رجل مضار ـكما تضمن ذلك خبر ابن مسكان وخبر أبي عبيدة وبعض اخبار العامة ـ ولفظ (مضا) صفة من باب المفاعلة كلفظ (ضرار) ، فيناسب أن تكون الكبرى المذكورة في القضية بصيغة المفاعلة أيضا ليسانخ الصفة المذكورة فيه.
الثالث : إن الشهيد في القواعد (1) اعتنى بضبط الكلمة وذكر انها بكسر الضاد وحذف الهمزة .
الرابع : إنه ورد في رواية هارون بن حمزة الغنوي المتقدمة قوله عليه السلام (هذا الضرار) وهو يناسب أن تكون الكبرى التي يبدو ان الامام عليه السلام كان بصدد تطبيقها بهذا اللفظ أيضا دون غيره .
الخامس : إن كتب اللغة اتفقت على ضبط الكلمة بصيغة (ضرار) وضبطها للالفاظ اكثر اعتبارأ من ضبط كتب الحديث والفقه لتركيزها على هيئة الكلمة بحسب طبعها مما يبعدها عن التحريف اكثرمن غيرها .
فبمجموع هذه الوجوه يطمئن بأن لفظ الحديث هو(لا ضرار) لا لفظ (لا إضرار) .
فتحصل من جميع ما ذكرناه ان الصيغة الثابتة للحديث إنما هي (لا ضرر ولا ضرار) كما هو المعروف دون نقص أو تغيير أو زيادة وبذلك يتم الكلام في الفصل الاول وهو البحث عن سند الحديث ومتنه .
|
(1) القواعد والفوائد 1 |123 .
|
قاعدة لا ضرر و لا ضرار
ـ 109 ـ