ولهذا رتب على فراقه جزيل الثواب ، ووعد أبواه شفاعته فيهما يوم المآب .
فلذلك جمعت في هذه الرسالة جملة من الآثار النبوية ، وأحوال أهل الكمالات العلية ، ونبذة من التنبيهات الجلية ، ما ينجلي به ـ إن شاء الله تعالى ـ الصدأ عن قلوب المحزونين ، وتنكشف به الغمة عن المكروبين ، بل تبتهج به نفوس العارفين ، ويستيقظ من اعتبره من سنة الغافلين ، وسميتها (مسكن الفؤاد عند فقد الأحبة والاولاد) ورتبتها على مقدمة ، وأبواب ، وخاتمة .
سبحانه ، وحصل به تصديق الرسل والتزام الشرائع ، وأنه المحرض على طلب الفضائل ، والمخوف من الإتصاف بالرذائل ، فهو مدبر أمر الدارين ، وسبب لحصول الرئاستين ، ومثله كالنور في الظلمة ، فقد يقل عند قوم ، فيكون كعين الأعشى
، ويزيد عند آخرين ، فيكون كالنهار في وقت الضحى .
إلى متابعة غفلته وهواه ، بل يجعله حاكماً له وعليه ، ويراجعه فيما يرشده إليه ، فيكشف له حينئذ ما يوجب الرضا بقضاء الله سبحانه وتعالى ، سيما فيما نزل به من هذا الفراق ، من وجوه كثيرة ، نذكر بعضها :
الاول : إنك نظرت إلى عدل الله وحكمته ، وتمام فضله ورحمته ، وكمال عنايته ببريته ، إذا أخرجهم إد من العدم
، وأسبغ عليهم جلائل النعم ، وأيدهم بالالطاف ، وأمدهم بجزيل المعونة والإسعاف ، كلى الوجول ذلك ليأخذوا حظهم من السعادة الأبدية والكرامة السرمدية ، لا لحاجة منه إليهم ، ولا لاعتماد في شيء من أمره عليهم ؛ لأنه الغني المطلق ، والجواد المحقق .
وكلفهم بالتكاليف الشاقة ، والاعمال الثقيلة ؛ يأخذوا منه حظاً وأملاً وليبلوهم أيهم أحسن عملاً ، وما فعل ذلك إلا لغاية منفعتهم ، وتمام مصلحتهم ، وأرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين ، وأنزل عليهم الكتب ، وأودعها ما فيه بلاغ للعالمين .
وتحقيق هذا المرام مستوفى في باب العدل من علم الكلام .
وإذا كانت أفعاله ـ تعالى وتقدس ـ كلها لمصلحتهم ، وما فيه تمام شرفهم ، والموت من جملة ذلك كما نطق به الوحي الإلهي في عدة آيات ، كقوله تعالى : ( وما كان لنفس ان تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً )
(1) ، ( قل لو كنتم في بيوتكم لبرز إليكم الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم )
(2) ، ( أين ما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة )
(3) ، ( الله يتوفى الانفس حين موتها )
(4) ، إلى غير ذلك من الآيات .
فلولا أن في ذلك غاية المصلحة ، ونهاية الفائدة للعبد الضعيف الغافل عن مصلحته ، التائه في حيرته وغفلته ، لما فعله الله تعالى به ؛ لما قد عرفت من أنه أرحم الراحمين ، وأجود الأجودين ، فإن حدثتك نفسك بخلاف ذلك فاعلم أنه الشرك الخفي ، وإن أيقنته ولم تطمئن نفسك وتسكن روعتك فهو الحمق الجلي .
وإنما نشأ ذلك من الغفلة عن حكمة ( الله تعالى )
(5) في بريته ، وحسن قضائه في خليقته ، حتى أن العبد ليبتهل ويدعو الله تعالى أن يرحمه ، ويجيب دعائه في أمثال ذلك ، فيقول الله تعالى لملائكته : كيف أرحمه من شيء به أرحمه ! فتدبر ـ رحمك الله تعالى ـ في هذه الكلمة الإلهية ، تكفيك في هذا الباب إن شاء الله تعالى .
الثاني : أنه إذا نظرت إلى أحوال الرسل عليهم السلام ، وصدقتهم فيما أخبروا به من الامور الدنيوية والاخروية ، ووعدوا به من السعادة الأبدية ، وعلمت أنهم إنما أتوا أتوا بما أتوا به عن الله جل جلاله ، ( واعتقدت أن قولهم )
(6) معصوم عن الخطأ ، محفوظ من الغلط والهوى ، وسمعت
(7) ما وعدوا به من الثواب على أي نوع من أنواع المصاب
(8) كما ستراه وتسمعه ، سهل عليك موقعه ، وعلمت أن لك في ذلك غاية الفائدة ، وتمام السعادة الدائمة ، وأنك قد أعددت لنفسك كنزاً من الكنوز مذخوراً
(9) ، بل حرزاً ومعقلاً وجنة
-------------------------------
(1) آل عمران 3 : 145 .
(2) آل عمران 3 : 154 .
(3) النساء 4 : 78 .
(4) الزمر 39 : 42 .
(5) في نسخة ( د ) و ( ش ) : أيضاً .
(6) في نسخة ( د ) و ( ش ) : وقولهم .
(7) في نسخة ( د ) و ( ش ) : وسمع .
(8) في نسخة ( د ) و ( ح ) : المصائب .
(9) ليس في نسخة ( ش ) و ( د ) .
مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد
_ 20 _
( من العذاب الأليم والعقاب العظيم )
(1) ، الذي لا يطيقه بشر ، ولا يقوى به أحد ، مع أن ولدك مشاركك في هذه السعادة ، فقد فزت أنت وهو ، فلا ينبغي أن تجزع .
ومثل نفسك : أنه لو دهمك أمر عظيم ، أو وثب عليك سبع أو حية ، أو هجمت عليك نار مضرمة ، وكان عندك أعز أولادك ، وأحبهم إلى نفسك ، وبحضرتك نبي من الأنبياء ، لا ترتاب في صدقه ، وأخبرك : أنك إن افتديت بولدك سلمت أنت وولدك ، وإن لم تفعل عطبت ، و ( الحال أنك )
(2) لا تعلم هل يعطب ولدك ، أو يسلم ؟
أيشك عاقل أن الإفتداء بالولد الذي يتحقق معه سلامة الولد ، ويرجى معه ـ أيضاً ـ سلامة الوالد ، هو عين المصلحة ، وأن عدم ذلك ، والتعرض لعطب الأب والولد هو عين المفسدة ! بل ربٌما قدٌم كثير من النٌاس نفسه على ولده ، وافتدى به وإن تيقٌن عطب الولد ، كما اتفق ذلك في المفاوز
(3) والمخمصة
(4) .
هذا كله في نار وعطب ينقضي ألمه في ساعة واحدة ، وربما ينتقل بعده إلى الراحة والجنة ، فما ظنك بألم يبقى أبد الآباد ، ويمكث سنين !؟ وإن يوماً عند ربك منها كألف سنة مما تعدون ، ولو وآها أحدنا ، وأشرف عليها ، لود أن يفتدي ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه ومن في ألارض جميعاً ثم ينجيه كلا إنها لضى نزاعة للشوى تدعو من أدبر وتولى وجمع فأوعى
(5) .
ومن هنا جاء ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله ، أنه قال لعثمان بن مظعون رضي الله عنه ، وقد مات ولده ، فاشتد حزنه عليه : ( يا ابن مظعون ، إن للجنة ثمانية أبواب ، وللنار سبعة أبواب ، أفما يسرك أن لا تأتي باباً منها إلا وجدت ابنك الى جنبه
(6) ، آخذاً بحجزتك يستشفع لك إلى ربك
(7) ، حتى يشفعه الله تعالى ؟ ) .
وسيأتي له نظائر كثيرة إن شاء الله .
الثالث : إنك تحب بقاء ولدك لينفعك في دنياك ، أو في آخرتك ، ولا تريد
-------------------------------
(1) في نسخة ( ش ) و ( د ) : من العذاب العظيم .
(2) ما بين القوسين ليس في ( ش ) و ( د ) .
(3) المفاوز : البوادي ( مجمع البحرين ـ فوز ـ 4 : 30 ) .
(4) المخمصة : المجاعة ( مجمع البحرين ـ خمص ـ 4 : 169 ) .
(5) إقتباس من سورة المعارج 70 : 11 / 18 .
(6) في نسخة ( ح ) وأمالي الصدوق : جنبك .
(7) رواه الصدوق في الامالي : 63 / 1 .
مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد
_
21 _
في الأغلب بقاءه لنفسه ، فإن هذا هو المجبول عليه طبع الخلق ، ومنفعته لك على تقدير بقائه غير معلومة ، بل كثيراً ما يكون المظنون عدمها ، فإن الزمان قد صار في آخره ، والشقوة والغفلة قد شملت أكثر الخلائق ، وقد عز السعيد ، وقل الصالح الحميد ، فنفعه لك ـ بل لنفسه ـ على تقدير بقائه غير معلوم ، وانتفاعه الآن وسلامته من الخطر ونفعه لك قد صار معلوماً ، فلا ينبغي أن تترك الأمر المعلوم لأجل الأمر المظنون بل الموهوم ، وتأمل أكثر الخلف لأكثر السلف ، هل تجد منهم نافعاً لأبويه إلا أقلهم ، أو مستيقظاً إلا أوحديّهم حتى إذا رأيت واحداً كذلك ، فعد ألوفاً بخلافه ، وإلحاقك ولدك الواحد بالفرد النادر الفذ
(1) دون الأغلب الكثير ، عين الغفلة والغباوة ، فإن الناس بزمانهم أشبه منهم بآئهم ، كما ذكره سيد الوصيين ، وترجمان رب العالمين ، صلوات الله عليه وسلامه عليه .
مع ان ذلك الفرد الذي تريد مثله ، إنما هو صالح نافع بحسب الظاهر ، وما الذي يدريك بباطنه وفساد نيته وظلمه لنفسه ؟ ! فلعلك لو كشفت عن باطنه ، ظهر لك أنه منطو على معاصي وفضائح ، لا ترضاها لنفسك ولا لولدك ، وتتمنى أن ولدك لو كان على مثل حالته يموت فإنه خير له .
هذا كله إذا كنت تريد أن تجعل ولدك واحداً في العالمين ، وولياً من الصالحين ، فكيف وأنت لا تريده إلا ليرث بيتك ، أو بستانك ، أو دوابك ، وأمثال ذلك من الأمور الخسيسة الزائلة عما قريب ! وتتركه يرث الفردوس الأعلى في جوار اولاد النبيين والمرسلين ، مبعوثاً مع الآمنين الفرحين ، مربىً إن كان صغيراً في حجر سارة اُم النبيين ، كما وردت به الأخبار عن سيد المرسلين
(2) ، ما هذا إلا معدود من السفه لو عقلت ! .
ولو كان مرادك أن تجعله من العلماء الراسخين والصلحاء المتقين ، وتورثه علمك وكتبك وغيرها من أسباب الخير ، فاذكر ايضاً أن ذلك كله لو تم معك ، فما وعد الله تعالى من العوض على فقده أعظم من مقصدك ، كما ستسمعه إن شاء الله تعالى .
مثل ما رواه الصدوق ، عن الصادق عليه السلام : ( ولد واحد يقدمه الرجل ،
-------------------------------
(1) ليس في نسخة ( د ) و ( ش ) .
(2) روى الصدوق في الفقيه 3 : 316 / 2 ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : إن الله تبارك وتعالى كفل إبراهيم وسارة أطفال المؤمنين يغذونهم بشجرة في الجنة لها أخلاف كأخلاف البقر في قصر من درة فإذا كان يوم القيامة البسوا وطيبوا واهدوا إلى آبائهم فهم ملوك في الجنة مع آبائهم وهو قول الله عز وجل : ( والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بايمان ألحقنا بهم ذريتهم ) .
مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد
_ 22 _
أفضل من سبعين ولداً يبقون بعده ، يدركون القائم عليه السلام )
(1) .
واعتبر أنه لو قيل : إن رجلاً فقيراً معه ولد عليه خلقان
(2) الثياب ، قد أسكنه في خربة مقفرة ذات آفات كثيرة ، وفيها بيوت حيات وعقارب وسباع ضارية ، وهو معه على خطر عظيم ، فاطلع عليه رجل حكيم جليل ، ذو ثروة وحشمة
(3) وخدم وقصور عالية ورتب سامية ، فرق لهذا الرجل ولولده ، فأرسل إليه بعض غلمانه : إن سيدي يقول لك : إني قد رحمتك مما بك في هذه الخربة ، وهو خائف عليك وعلى ولدك ( من العاهات )
(4) ، وقد تفضلت عليك بهذا القصر ، ينزل به ولدك ، ويوكل به جارية عظيمة من كرائم جواريه تقوم بخدمته إلى ان تقضي أنت أغراضك التي في نفسك ، ثم إذا قدمت ، وأردت الإقامة أنزلتك معه في القصر ، بل في قصر ، بل في قصر أحسن من قصره .
فقال الرجل الفقير : أنا لا أرضى بذلك ، ولا يفارقني ولدي في هذه الخربة ، لا لعدم وثوقي بالرجل الباذل ، ولا زهداً مني في داره وقصره ، ولا لأماني على ولدي في هذه الخربة ، بل طبعي اقتضى ذلك ، وما أريد أن أخالف طبعي .
أفما كنت ـ أيها السامع لوصف هذا الرجل ـ تعده من أدنياء السفهاء وأخساء الأغبياء ؟ ! فلا تقع
(5) في خلق لا ترضاه لغيرك ، فإن نفسك أعز عليك من غيرك .
واعلم ان لسع الافاعي ، وأكل السباع ، وغيرهما من آفات الدنيا لا نسبة لها إلى أقل محنة من محن الآخرة المكتسبة في الدنيا ، بل لا نسبة لها إلى إعراض الحق
(6) سبحانه ، وتوبيخه ساعة واحدة في عرصة القيامة ، أو عرضة واحدة على النار مع الخروج منها بسرعة .
فما ظنك بتوبيخ يكون ألف عام ، أو أضعافه ، وبنفحة من عذاب جهنم يبقى ألمها ألف عام ، ولسعة من حياتها وعقاربها يبقى ألمها أربعين خريفاً ! وأي نسبة لأعلى قصر في دار الدنيا ، إلى أدنى مسكن في الجنة ! وأي مناسبة بين خلقان الثياب في الدنيا
-------------------------------
(1) ثواب الأعمال : 233 / 4 .
(2) خَلُقَ الثوب بالضم : إذا بلي ( مجمع البحرين ـ خلق ـ 5 : 158 ) .
(3) في هامش : ( ح ) : وحشم .
(4) ليس في نسخة ( ش ) و ( د ) .
(5) في هامش ( ح ) : فاياك أن تقع .
(6) في ( ح ) : الخالق .
مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد
_ 23 _
إلى فاخرها إلى أعلى ما في الدنيا ، بالإضافة إلى سندس الجنة وإستبرقها ، وهلم جرا إلى ما فيها من النعيم المقيم ؟ !
بل لو تأملت بعين بصيرتك في هذا المثل ، وأجلت فيه رؤيتك ، علمت أنّ ذلك الكريم الكبير ، بل جميع العقلاء لا يرضون من ذلك الفقير بمجرد تسليم ولده ورضاه بأخذه ، بل لا بدّ في الحكمه من حمده عليه وشكره عليه وشكره ، وإضهار الثناء عليه بما هو أهله ؛ لأن ذلك هو مقتضى حق النعمة .
الرابع : إن في الجزع بذلك والسخط انحطاطاً عظيماً عن مرتبة الرضى بقضاء الله تعالى ، وفي فوات ذلك خطر وخيم ، وفوات نيل عظيم ، فقد ذم الله تعالى من سخط بقضائه ، وقال : ( من لم يرض بقضائي ، ولم يصبر على بلائي ، فليعبد رباً سواي )
(1) .
وفي كلامه تعالى لموسى عليه السلام حين قال له : دلني على أمر فيه رضاك ، قال : ( إنّ رضاي في رضاك بقضائي )
(2) .
وفي القرآن الكريم : ( رَضِىَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ )
(3) .
وأوحى الله تعالى إلى داود : ( يا داود ، تريد وأريد ، وإنما يكون ما أريد ، فإن سلمت لما أريد كفيتك ما تريد ، وإن لم تسلم ما أريد أتعبك فيما تريد ، ثم لا يكون إلا ما أريد )
(4) .
وقال تعالى : ( لكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بمَا آتاكُم )
(5) .
واعلم أن الرضى بقضاء الله ـ تعالى ـ ثمرة المحبة لله ، إذ من أحب شيئاً رضي بفعله ، ورضى العبد عن الله دليل على رضى الله تعالى عن العبد ، رضي الله عنهم ورضوا عنه ، وصاحب هذه المرتبة مع رضى الله تعالى عنه ـ الذي هو أكمل السعادات ، وأجل الكمالات ـ لا يزال مستريحاً ؛ لأنه لم يوجد منه أريد ولا أريد ، كلاهما عنده واحد ، ورضوان الله أكبر ، إن ذلك لمن عزم الاُمور .
وسيأتي لذلك بحث آخر أن شاء الله تعالى في باب الرضا
(6) .
-------------------------------
(1) جامع الأخبار : 133 ، دعوات الراوندي : 169 / 471 ، الجامع الصغير 2 : 235 / 6010 .
(2) رواه الراوندي في دعواته : 164 / 453 ، باختلاف يسير .
(3) المائدة 5 : 119 .
(4) رواه الصدوق في التوحيد : 337 / 4 .
(5) الحديد 57 : 23 .
(6) يأتي في ص 79 .
مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد
_ 24 _
واعلم أن البكاء لا ينافي الرضى ، ولا يوجب السخط ، وإنما مرجع ذلك إلى القلب ، كما ستعرفه ـ إن شاء الله تعالى ـ ومن ثم بكاء الأنبياء والأئمة عليهم السلام على أبنائهم وأحبائهم ، فإن ذلك أمر طبيعي للإنسان ، لا حرج فيه إذا لم يقترن بالسخط ، وسيأتي .
الخامس : أن ينظر صاحب المصيبة إلى أنه في دار قد طبعت على الكدر والعناء ، وجبلت على المصائب والبلاء ، فما يقع فيها من ذلك هو مقتضى جبلتها وموجب طبيعتها ، وإن وقع خلاف ذلك فهو على خلاف العادة لأمر آخر ، خصوصاً على الأكابر والنبلاء من الأنبياء والأوصياء والأولياء ، فقد نزل بهم من الشدائد والأهوال ما يعجز عن حمله الجبال ، كما هو معلوم في المصنفات ، التي لو ذكر بعضها لبلغ مجلدات .
وقد قال النبي صلى الله عليه وآله : ( أشد الناس بلاءً الأنبياء ، ثم الأولياء ، ثم الأمثل فالامثل )
(1) .
وقال النبي صلى الله عليه وآله : ( الدنيا سجن المؤمن ، وجنة الكافر )
(2) .
وقد قيل : إن الدنيا ليس فيها لذة على الحقيقة ، إنما لذاتها راحة من مؤلم ، هذا وأحسن لذاتها ، وأبهى بهجاتها مباشرة النساء ، المترتب عليه حصول الأبناء ، كم يعقبه من قذى
(3) ، أقله ضعف القوى وتعب الكسب والعناء ، ومتى حصل محبوب كانت آلامه تربو على لذاته ، والسرور به لا يبلغ معشار حسراته ، وأقل آفاته في الحقيقة الفراق الذي ينكث
(4) الفؤاد ، ويذيب
(5) الأجساد .
فكلما تظن في الدنيا أنه شراب سراب ، وعمارتها ـ وإن حسنت ـ إلى
-------------------------------
(1) رواه الكليني في الكافي 2 : 196 / 2 ، وابن ماجة في سننه 2 : 1334 / 4023 ، والترمذي في سننه 4 : 28 / 2509 ، وأحمد في مسنده 1 : 172 ، 180 ، 185 ، والدارمي في سننه 2 : 320 ، والحاكم النيسابوري في مستدركه 1 : 41 و 4 : 307 ، باختلاف يسير .
(2) رواه الصدوق في الفقيه 4 : 262 ، والطوسي في أماليه 2 : 142 ، ومحمد بن همام في التمحيص : 48 : 76 ، ومسلم في صحيحه 4 : 2272 / 2956 ، وأحمد في مسنده 2 : 323 ، وابن ماجة في سننه 2 : 1378 / 4113 .
(3) القذى : ما يقع في العين والشراب من تراب أو تبن أو وسخ أو غير ذلك ( مجمع البحرين ـ قذى ـ 1 : 335 ) .
(4) ينكث : من النكث وهو النقض والهدم والهزال ( القاموس المحيط ـ نكث ـ 1 : 176 ) .
(5) في ( ح ) : ويذهب .
مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد
_ 25 _
خراب ، ومالها ـ وإن اغتر بها الجاهل ـ إلى ذهاب ، ومن خاض الماء الغمر
(1) لا يجزع من بلل ، كما أن من دخل بين الصفين لايخلوه من وجل ، ومن العجب من أدخل يده في فم الأفاعي كيف ينكر اللسع ، وأعجب منه من يطلب من المطبوع على الضر النفع !
وما أحسن قول بعض الفضلاء
(2) في مرثية ابنه :
طبعت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقذاء والأكدار ومكلف الأيام ضد iiطباعها متطلب في الماء جذوة iiنار وإذا رجوت المستحيل iiفإنما تبني البناء على شفيرٍ iiهار |
وقال بعض العارفين : ينبغي لمن نزلت له مصيبة أن يسهلها على نفسه ، ولا يغفل عن تذكّر ما يعقبه من وجوب الفناء وتقتضي المسار ، وأن الدنيا دار من لا دار له ، ومال من لا مال له ، يجمعها من لا عقل له ، ويسعى لها من لا ثقة له ، وفيها يعادي من لا علم له ، وعليها يحسد من لا فقه له ، من صح فيها سقم ، ومن سقم فيها برم ، ومن افتقر فيها حزن ، ومن استغنى فيها فتن .
واعلم أنك قد خلقت في هذه الدار لغرض خاص ؛ لأن الله تعالى منزه عن العبث، وقد قال الله تعالى : ( وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون )
(3) وقد جعلها مكتسبا لدار القرار ، وجعل بضاعتها الأعمال الصالحة ، ووقتها العمر ، وهو قصير جداً بالنظر إلى ما يطلب من السعادة الأبدية ، التي لا انقضاء لها .
فإن اشتغلت بها ، واستيقظت استيقاظ الرجال ، واهتممت بشأنك اهتمام الأبدال ، رجوت أن تنال نصيبك منها ، فلا تضيع عمرك في الإهتمام بغير ما خلقت له ، يضيع وقتك ، ويذهب عمرك بلا فائدة ؛ فان الغائب لا يعود والميت لا يرجع ، وتفوتك
-------------------------------
(1) الغمر : بفتح الغين وسكون الميم : الكثير .
(2) هو علي بن محمد بن نهد التهامي ، أبو الحسن ، شاعر مشهور من أهل تهامة ، زار الشام والعراق ، وولي خطابة الرملة ، ثم رحل إلى مصر ، متخفيا ، فعلمت به حكومة مصر ، فاعتقل وحبس في دار البنود ، ثم قتل سراً في سجنه سنة 416 هـ ، قال ابن خلكان : له مرثية في ولده وكان قد مات صغيراً ، وهي في غاية الحسن، ويقال : إن بعض أصحابه رآه في النوم بعد موته ، فقال له : ما فعل الله بك ؟ فقال : غفر لي ، فقال : بأي الاعمال ؟ فقال : بقولي في مرثية ولدي الصغير :
جاورت أعدائي وجاور ربه شتان بين جواره iiوجواري |
اُنظر ( وفيات الأعيان 3 : 378 / 471 ، الأعلام للزركلي 4 : 327 ) .
(3) الذاريات 51 : 56 .