جميع أحواله ، إن نابته نائبة صبر لها ، وإن تراكمت عليه المصائب لم تكسره ، وإن أُسر وقهر واستبدل باليسر عسراً ، كما كان يوسف الصديق الأمين عليه السلام ، لم يضرر حريته أن استعبد وأُسر وقهر ، ولم تضرره ظلمة الجب ووحشته ، وما ناله أن من الله عليه ، فجعل الجبار العاتي له عبداً بعد أن كان ملكاً ، فأرسله ورحم به أمة ، وكذلك الصبر يعقب خيراً ، فاصبروا ووطنوا أنفسكم على الصبر تؤجروا ) (1) .
  وعن الباقر عليه السلام : ( الجنة محفوفة بالمكاره والصبر ، فمن صبر على المكاره في الدنيا دخل الجنة ، وجهنم محفوفة باللذات والشهوات ، فمن اعطى نفسه لذّاتها وشهوتها دخل النار ) (2) .
  وعن عليّ عليه السلام ، قال : ( قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : الصبر ثلاثة : صبر عند المصيبة ، وصبر على الطاعة ، وصبر عن المعصية ، فمن صبر على المصيبة حتى يردها بحسن عزائها كتب الله له ثلاث مائة درجة ، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء إلى الأرض ، ومن صبر على الطاعة كتب الله له ست مائة درجة ، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش ، ومن صبر عن المعصية كتب الله له تسع مائة درجة ، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش ) (3) .
  وعن أبي حمزة الثمالي ، قال : قال أبو عبد الله عليه السلام : ( من ابتلي من المؤمنين ببلاء فصبر عليه ، كان له مثل أجر ألف شهيد ) (4) .
  وعن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله : قال الله عزوجل : إني جعلت الدنيا بين عبادي قرضاً ، فمن أقرضني منها قرضاً أعطيته بكل واحدة عشراً إلى سبعة مئة ضعف وما شئت من ذلك ، ومن لم يقرضني منها قرضاً فأخذت منه شيئاً قسراً ، أعطيته ثلاث خصال ، لو أعطيت واحدة منهن ملائكتي لرضوا بها مني .

-------------------------------
(1) الكافي 2 : 73 / 6 ، مشكاة الأنوار : 21 .
(2) الكافي 2 : 73 / 7 .
(3) الكافي 2 : 75 / 15 ، تنبيه الخواطر 1 : 40 ، جامع الأخبار : 135 ، الجامع الصغير 2 : 114 / 5137 منتخب كنز العمال 1 : 208 .
(4) رواه الكليني في الكافي 2 : 75 / 17 ، وسبط الطبرسي في مشكاة الأنوار : 26 رواه باختلاف في ألفاظه الحسين بن سعيد الأهوازي في كتاب المؤمن : 16 / 8 ، وابن همام في التمحيص : 59 / 125 .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 52 _

  ثم تلا أبو عبد الله عليه السلام قول الله عزوجل : ( الذين اذا اصابتهم مصيبة قالوا انا لله وانا اليه راجعون اولئك عليهم صلوات من ربهم ) فهذه (1) واحدة من ثلاث خصال ( ورحمة ) إثنان ( واولئك هم المهتدون ) (2) ثلاث .
 ثم قال أبو عبد الله عليه السلام : ( هذا لمن أُخذ منه شيئاً قسراً ) (3) .

-------------------------------
(1) في نسخة ( ش ) ثم قال أبو عبد الله عليه السلام : فهذه .
(2) البقرة 2 : 15(6) 157 .
(3) الكافي 2 : 76 / 21 ، الخصال : 130 / 135 ، مشكاة الأنوار : 279 .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 53 _

  فصل :
  وعنه عليه السلام : ( الضرب على الفخذ عند المصيبة يحبط الأجر (1) ، والصبر عند الصدمة الأولى أعظم ، وعظم الأجر على قدر المصيبة ، ومن استرجع بعد المصيبة جدد الله له أجرها كيوم أُصيب بها ) .
  وسأل رجل النبي صلى الله عليه وآله : ما يحبط الأجر في المصيبة ؟ فقال : ( تصفيق الرجل بيمينه على شماله ، والصبر عند الصدمة الأولى ، فمن رضي فله الرضا ، ومن سخط فعليه السخط ) .
  وعن اُم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله ، قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : ( ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهم آجرني في مصيبتي ، واخلف لي خيراً منها ، إلا آجره الله تعالى في مصيبته ، واخلف له خيراً منها ) .
  قالت : فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله ، فأخلف لي خيراً منه : رسول الله صلى الله عليه وآله (2) .
  وفي لفظ آخر : أنّها سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول : ( ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله عزّوجلّ : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، اللهّم آجرني في مصيبتي ، واخلف لي خيراً منه ) قالت : فلمّا مات أبو سلمة رضي الله عنه ، قلت : أيّ رجل خير من أبي سلمة ! أول بيت هاجر إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله ، ثم إنّي قلتها فأخلف الله لي رسول الله صلّى الله عليه وآله .
  [ قالت : أرسل رسول الله صلى الله عليه وآله ] (3) بحاطب ابن أبي بلتعة يخطبني ، فقلت له : إن لي بنتاً وأنا غيور ، فقال : ( أما بنتها فادعوالله أن يغنيها عنها ، وأدعو الله أن يذهب بالغيره ) (4) .
  وفي حديث آخر : قالت : أتاني أبو سلمة يوماً من عند رسول الله صلى الله عليه

-------------------------------
(1) روى الصدوق في الفقيه 4 : 298 / 900 نحوه .
(2) صحيح مسلم 2 : 632 / 4 ، الترغيب والترهيب 4 : 336 / 2 باختلاف يسير .
(3) أثبتناه من البحار .
(4) الترغيب والترهيب 4 : 336 / 2 .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 54 _

  وآله فقال : سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله قولاً سررت به ، قال : ( لا يصيب أحداً من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته ثم يقول : اللهم آجرني في مصيبتي ، واخلف لي خيراً منها ، إلا فعل ذلك به ) .
   قالت اُم سلمة : فحفظت ذلك منه ، فلما توفي أبو سلمة استرجعت وقلت : اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منه ، ثم رجعت إلى نفسي فقلت : من أين لي خير من أبي سلمة : فلما انقضت عدتي استأذن علي رسول الله صلى الله عليه وآله وأنا ادبغ إهاباً (1) ، فغسلت يدي من القرظ (2) وأذنت له ، فوضعت له وسادة أدم (3) حشوها ليف فقعد عليها ، فخطبني إلى نفسي صلى الله عليه وآله .
  فلما فرغ من مقالته قلت : يا رسول الله ، ما بي أن لا يكون لك الرغبة ، ولكني امرأة في غيرة شديدة ، فأخاف أن ترى مني شيئاً يعذبني الله به ، وأنا امرأة قد دخلت في السن ، وأنا ذات عيال .
  فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : ( أما ما ذكرت من السن فقد أصابني مثل الذي أصابك ، وأما ما ذكرت من العيال فإنما عيالك عيالي ) قالت : فقد سلمت نفسي لرسول الله ، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقالت أم سلمة : فقد أبدلني الله عزوجل بأبي سلمة خيراً منه : النبي صلى الله عليه وآله (4) .
  وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إن للموت فزعاً ، فإذا أتى أحدكم وفاةُ أخيه فليقل : إنا لله وإنا إليه راجعون ، وإنا إلى ربنا لمنقلبون ، اللهم اكتبه عندك من المحسنين ، واجعل كتابه في عليين ، واخلف على عنقه في الآخرين ، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده ) (5) .
  وعن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام : ( إن النبي صلى الله عليه وآله قال : من اصابته مصيبة فقال إذا ذكرها : إنا لله وإنا إليه راجعون ، جدد الله

-------------------------------
(1) الإرهاب : الجلد من البقر والغنم والوحش ما لم يدبغ ( لسان العرب 1 : 217 ) .
(2) القرظ : شجر يدبغ به ، وقيل : هو ورق السلم يدبغ به الادم، ومنه اديم مقروظ ، ( لسان العرب 7 : 454 ) .
(3) الأديم : الجلد ما كان ، وقيل الأحمر ، وقيل : هو المدبوغ ( لسان العرب 12 : 9 ) .
(4) مسند أحمد 4 : 27 ، والبحار 82 : 139 .
(5) الجامع الكبير 1 : 265 ، الفتوحات الربانية 4 : 124 ، والبحار 82 : 141 .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 55 _

  ـ عز وجل ـ له أجرها ، مثل ما كان له يوم أصابته ) (1) .

-------------------------------
(1) الجامع الكبير 1 : 747 ، والبحار 82 : 141 .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 56 _

  فصل :
  وعن يوسف بن عبد الله بن سلام : ان النبي صلى الله عليه وآله كان إذا نزل بأهله شدة أمرهم بالصلاة ، ثم قرأ : ( وامر اهلك بالصلاة واصطبر عليها ) (1)(2) .
  وعن ابن عباس أنه نعي إليه أخوه قثم وهو في سفر فاسترجع ، ثم تنحى عن الطريق فأناخ ، فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس ، ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول : ( واستعينوا بالصبر والصلاة وانها كبيرة إلا على الخاشعين ) (3) (4) .
  وعنه أيضاً أنه كان إذا أُصيب بمصيبة قام وتوضأ وصلى ركعتين ، وقال : اللهم قد فعلت ما أمرتنا ، فأنجز لنا ما وعدتنا .
  وعن عبادة بن محمد بن عبادة بن الصامت ، قال : لما حضرت عبادة ـ رضي الله عنه ـ الوفاة قال : أخرجوا فراشي إلى الصحن ـ يعني : الدار ـ ففعلوا ، ثم قال : إجمعوا لي موالي وخدمي وجيراني ومن كان يدخل علي ، فجمعوا .
  فقال : إن يومي هذا لا أراه إلا آخر يوم يأتي علي من الدنيا ، وأول ليلة من ليالي الآخرة ، وإني لا أدري لعله قد فرط مني إليكم بيدي أو بلساني شيء ، وهو ـ والذي ـ نفس عبادة بيده ـ القصاص يوم القيامة ، فاحرج (5) على أحد منكم في نفسه مني شيء من ذلك ، إلا اقتص مني قبل أن تخرج نفسي .
  قال : فقالوا : بل كنت لنا والداً وكنت مؤدباً ، وما قال لخادم سوءاً قط ، قال : أغفرتم لي ما كان من ذلك ؟ قالوا : نعم ، قالوا : نعم ، قال : اللهم أشهد ، ثم قال : أما فاحفظوا وصيتي : أُحرج على إنسان منكم يبكي ، فإذا خرجت نفسي فتوضؤا وأحسنوا الوضوء ، ثم ليدخل إنسان منكم مسجداً فيصلي ، ثم يستغفر لعبادة ولنفسه ، فإن الله عزوجل قال : ( واستعينوا بالصبر والصلاة ) (6) ثم أسرعوا بي ولا تتبعوني بنار ،

-------------------------------
(1) طه 20 : 132 .
(2) الدر المنثور 4 : 313 .
(3) البقرة 2 : 45 .
(4) الدر المنثور 1 : 68 .
(5) أي اُقسم .
(6) البقرة 2 : 45 .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 57 _

  ولا تضعوا تحتي أرجواناً (1) (2) .
  وعن جابر ، عن الباقر عليه السلام ، قال : ( أشد الجزع الصراخ بالويل والعويل ، ولطم الوجه والصدر ، وجز الشعر ، ومن أقام النواح (3) فقد ترك الصبر ، ومن صبر واسترجع وحمد الله ـ تعالى ـ فقد رضي بما صنع الله ، ووقع أجره على الله ـ عزجل ـ ، ومن لم يفعل ذلك جرى عليه القضاء وهو ذميم ، وأحبط الله ـ عزوجل ـ أجره ) (4) .
  وعن ربعي بن عبد الله ، عن الصادق عليه السلام ، قال : ( إن الصبر والبلاء يستبقان إلى المؤمن ، يأتيه البلاء وهو صبور ، وإن الجزع والبلاء يستبقان إلى الكافر ، فيأتيه البلاء وهو جزوع ) (5) .
  وعنه عليه السلام قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله : ضرب المسلم يده على فخذه عند المصيبة إحباط لأجره ) (6) .
  وعن موسى بن بكر ، عن الكاظم عليه السلام ، قال : ( ضرب الرجل على فخذه عند المصيبة ، احباط أجره ) (7) .
  وعن إسحاق بن عمار ، عن الصادق عليه السلام : ( يا أسحاق ، لا تعدن مصيبة اعطيت عليها الصبر ، واستوجبت عليها من الله عزوجل الثواب ، إنما المصيبة التي يحرم صاحبها أجرها وثوابها ، إذا لم يصبر عند نزولها ) (8) .
  وعن أبي ميسرة قال : كنا عند أبي عبد الله عليه السلام ، فجاءه رجل وشكا إليه مصيبة ، فقال : ( أما إنك إن تصبر تؤجر ، وإن لم تصبر يمضي عليك قدر الله عزوجل الذي قدر عليك وأنت مذموم ) (9) .

-------------------------------
(1) الأرجوان : صبغ أحمر شديد الحمرة ، يعني قماشاً مصبوغاً بهذا اللون ، اُنظر ( الصحاح ـ رجا ـ 6 : 2352 ) .
(2) أخرجه المجلسي في البحار 82 : 141 .
(3) النواح : النساء يجتمعن للنياحة على الميت ، بالبكاء وما يتبعه ( لسان العرب ـ نوح ـ 2 : 627 ) .
(4) الكافي 3 : 222 / 1 .
(5) الكافي 3 : 223 / 3 .
(6) الكافي 3 : 224 / 4 .
(7) الكافي 3 : 225 / 9 .
(8) الكافي 3 : 224 / 7 .
(9) الكافي 3 : 225 / 10 باختلاف يسير ، وفيه : عن فضيل بن ميسر .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 58 _

  فصل :
  قال الصادق عليه السلام : ( البلاء زين المؤمن ، وكرامة لمن عقل ، لأن في مباشرته ، والصبر عليه ، والثبات عنده ، تصحيح نسبة الإيمان ) (1) .
  قال النبي صلى الله عليه وآله : ( نحن ـ معاشر الأنبياء ـ أشد بلاء ، والمؤمن الأمثل فالأمثل ، ومن ذاق طعم البلاء تحت ستر حفظ الله له ، تلذذ به أكثر من تلذذه بالنعمة ، ويشتاق إليه إذا فقده ، لأن تحت نيران البلاء والمحنة أنوار النعمة ، وتحت أنوار النعمة نيران البلاء والمحنة ، وقد ينجو منه كثير ، ويهلك في النعمة كثير ، وما أثنى الله تعالى على عبد من عباده ، من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وآله إلا بعد ابتلائه ووفاء حق العبودية فيه ، فكرامات الله ـ تعالى ـ في الحقيقة نهايات ، بداياتها البلاء ، وبدايات نهاياتها البلاء ، ومن خرج من شبكة البلوى جعل سراج المؤمنين ، ومؤنس المقربين ، ودليل القاصدين ، ولا خير في عبد شكا من محنة تقدمها ألف نعمة ، واتبعها ألف راحة ، ومن لا يقضي حق الصبر على البلاء ، حرم قضاء [ حق ] (2) الشكر في النعماء ، كذلك من لا يؤدي حق الشكر في النعماء ، يحرم عن قضاء [ حق ] (3) الصبر في البلاء ، ومن حرمهما فهو من المطرودين ) (4) .
  وقال أيوب عليه السلام في دعائه : ( اللهم قد أتى علي سبعون في الرخاء ، فأمهلني حتى يأتي علي سبعون في البلاء ) (5) .
  وقال وهب : البلاء للمؤمن ، كالشكال للدابة ، والعقال للإبل (6) .
  وقال أمير المؤمنين عليه السلام : ( الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد ، ورأس الصبر البلاء وما يعقلها إلا العالمون ) (7) .
  هذا الفصل كله من كلام الصادق عليه السلام .

-------------------------------
(1) مصباح الشريعة : 486 .
(2 و 3) أثبتناه ليستقيم السياق .
(4) مصباح الشريعة : 487 .
(5) مصباح الشريعة : 489 .
(6) مصباح الشريعة : 497 .
(7) مصباح الشريعة : 497 .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 59 _

  فصل :
  وقال الصادق عليه السلام : ( الصبر يظهر ما في بواطن العباد من النور والصفاء ، والجزع يظهر ما في بواطنهم من الظلمة والوحشة ، والصبر يدعيه كل أحد ، ولا يبين عنده إلا المخبتون ، والجزع ينكره كل أحد ، وهو أبين على المنافقين ، لأن نزول المحنة والمصيبة ، يخبر عن الصادق والكاذب .
   وتفسير الصبر ما يستمر مذاقه ، وما كان عن اضطراب لا يسمى صبراً ، وتفسير الجزع اضطراب القلب ، وتحزن الشخص ، وتغير اللون ، وتغير الحال ، وكل نازلة خلت أوائلها عن الإخبات والإنابة والتضرع إلى الله تعالى ، فصاحبها جزوع غير صابر ، ( والصبر ما أوله مر ، وآخره حلو لقوم ، ولقوم مر أوله وآخره ، فمن دخله من أواخره فقد دخل ) (1) ومن دخله من أوائله فقد خرج ، ومن عرف قدر الصبر لا يصبر عما منه الصبر (2) .
  قال الله عزوجل في قصة موسى والخضر عليهما السلام : ( وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً ) (3) فمن صبر كرهاً ولم يشك إلى الخلق ، ولم يجزع بهتك ستره ، فهو من العام ، ونصيبه ما قال الله عزوجل : ( وبشر الصابرين ) (4) أي : بالجنة والمغفرة ، ومن استقبل البلاء بالرحب ، وصبر على سكينة ، ووقار ، فهو من الخاص ، ونصيبه ما قال الله عزوجل : ( ان الله مع الصابرين ) (5) ) (6) .

-------------------------------
(1) العبارة مضطربة في ( ش ) و ( ح ) : وما أثبتناه من مصباح الشريعة .
(2) مصباح الشريعة : 498 .
(3) الكهف 18 : 68 .
(4) البقرة 2 : 155 .
(5) البقرة 2 : 153 .
(6) مصباح الشريعة : 501 .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 60 _

  فصل :
  في نبذ من أحوال السلف عند موت أبنائهم وأحبائهم .
  كانت العرب في الجاهلية ـ وهم لا يرجون ثواباً ، ولا يخشون عقاباً ـ يتحاظون (1) على الصبر ، ويعرفون فضله ، ويعيرون بالجزع أهله ، إيثار للحزم ، وتزيناً بالحلم ، وطلباً للمروة ، وفراراً من الاستكانة إلى حسن العزاء ، حتى كان الرجل منهم ليفتقد حميمه فلا يعرف ذاك منه ، فلما جاء الاسلام وانتشر ، وعلم ثواب الصبر واشتهر ، تزايدت في ذلك لهم الرغبة ، وارتفعت للمبتلين الرتبة .
  قال أبو الاحوص : دخلنا على ابن مسعود وعنده بنون له ثلاثة غلمان كأنهم الدنانير حسناً ، فجعلنا نتعجب من حسنهم ، فقال : كأنكم تغبطوني بهم ؟ قلنا : إي والله ، بمثل هؤلاء يغبط المرء المسلم ، فرفع رأسه إلى سقف بيت قصير ، قد عشش فيه الخطاف وباض ، فقال : والذي نفسي بيده لئن أكون نفضت يدي من تراب قبورهم ، أحب إلي من أن يسقط عش هذا الخطاف ، وينكسر بيضه ، يعني : حرصاً على الثواب .
  وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقرىء الناس القرآن في المسجد جاثياً على ركبتيه ، إذ جاء ت اُم ولده بابن له ، يقال له : محمد ، فقامت على باب المسجد ، ثم أشارت له إلى أبيه ، فأقبل ، فأخرج ، فأفرج له القوم حتى جلس في حجره ، ثم جعل يقول : مرحباً بسمي من هو خير منه ، ويقبله حتى كاد يزدرد ريقه .
  ثم قال : والله لموتك وموت إخوتك أهون علي من عدتكم من هذا الذباب (2) ، فقيل : لم تتمنى هذا ؟ فقال : اللهم غفراً إنكم تسألوني ، ولا أستطيع إلا أن اُخبركم ، اُريد بذلك الخير ، أما أنا فاُحرز اُجورهم وأتخوف عليهم ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ( يأتي عليكم زمان يغبط الرجل بخفة الحال ، كما يغبط اليوم بكثرة المال والولد ) .
  وكان أبو ذر رضي الله عنه لا يعيش له ولد ، فقيل له : إنك امرؤ لا يبقى لك ولد ، فقال : الحمد لله الذي يأخذهم من دار الفناء ، ويدخرهم في دار البقاء (3) .

-------------------------------
(1) في ( ح ) يحافظون .
(2) في ( ش ) : الذبان .
(3) رواه المتقي الهندي في منتخب كنز العمال 1 : 212 ، وأخرجه المجلسي في البحار 82 : 142 .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 61 _

  ومات لعبد الله بن عامر المازني رضي الله عنه ، في الطاعون الجارف ، سبعة بنين في يوم واحد ، فقال : إني مسلم مسلم .
  وعن عبد الرحمن بن عثمان قال : دخلنا على معاذ وهو قاعد عند رأس ابن له ، وهو يجود بنفسه ، فما ملكنا أنفسنا أن ذرفت أعيننا ، وأنتحب بعضنا ، فزجره معاذ ، وقال : مه ، فو الله ليعلم الله برضاي ، لهذا أحب إلي من كل غزوة غزوتها مع رسول الله صلى الله عليه وآله ، فإني سمعته يقول : ( من كان له أبن وكان عليه عزيزاً ، وبه ضنيناً ، ومات فصبر على مصيبته واحتسبه ، أبدل الله الميت داراً خيراً من داره ، وقراراً خيراً من قراره ، وأبدل المصاب الصلاة والرحمة والمغفرة والرضوان ) .
  فما برحنا حتى قضى ـ والله ـ الغلام حين أخذ المنادي لصلاة الظهر ، فرحنا نريد الصلاة ، فما جئنا إلا وقد غسله وحنطه وكفنه .
  وجاء رجل بسريره غير منتظر لشهود الاخوان ، ولا لجمع الجيران ، فلما بلغنا ذلك تلاحقنا ، وقلنا : يغفر الله لك يا أبا عبد الرحمن ، هلا انتظرتنا حتى نفرغ من صلاتنا ، ونشهد ابن أخينا .
  فقال : أمرنا أن لا ننتظر موتانا ساعة ماتوا بليل أو نهار ، قال : فنزل في القبر ، ونزل معه آخر ، فلما أراد الخروج ناولته يدي لأنتهضه (1) من القبر ، فأبى وقال : ما أدع ذلك لفضل قوتي ، ولكن أكره أن يرى الجاهل أن ذلك مني جزع ، أو استرخاء عند المصيبة ، ثم أتى مجلسه ، ودعا بدهن فأدهن وبكحل فاكتحل ، وببردة فلبسها ، وأكثر في يومه ذلك من التبسم ، ينوي به ما ينوي ، ثم قال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، في الله خلف عن كل هالك ، وعزاء من كل مصيبة ، ودرك لكل ما فات .
  وروي : إن قوماً كانوا عند علي بن الحسين عليهما السلام ، فاستعجل خادماً بشواء في التنور ، فأقبل به مسرعاً ، فسقط السفود (2) من يده على ولد علي بن الحسين عليه السلام ، فأصاب رأسه فقتله ، فوثب علي بن الحسين عليهما السلام ، فلما رأى ابنه ميتاً ، قال للغلام : ( أنت حر لوجه الله تعالى ، أما إنك لم تتعمده ) ثم أخذ في جهاز أبنه (3) .

-------------------------------
(1) في ( ش ) : لأنشطه .
(2) السفود : بفتح السين وضمها ، حديدة ذات شعب معقفة يشوى بها اللحم، ( لسان العرب ـ سفد ـ 3 : 218 ) .
(3) كشف الغمة 2 : 81 باختلاف يسير ، والبحار 82 : 142 .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 62 _

  وعن الأخنف بن قيس قال : تعلموا الحلم والصبر ، فاني تعلمته ، فقيل له : ممن ؟ قال : من قيس بن عاصم ، قيل : وما بلغ من حلمه ؟ قال : كنا قعوداً عنده ، إذ أُتي بابنه مقتولاً ، وبقاتله مكبولاً ، فما حل حبوته (1) ، ولا قطع حديثه حتى فرغ .
  ثم التفت إلى قاتل ابنه فقال : يا أبن أخي ، ما حملك على ما فعلت ؟ قال : غضبت ، قال : أوكلما غضبت أهنت نفسك ، وعصيت ربك ، وأقللت عددك ؟ إذهب فقد اعتقتك .
  ثم التفت إلى بنيه فقال : يا بني ، اعمدوا (2) إلى إخيكم فغسلوه وكفنوه ، فإذا فرغتم منه فأتوني به لأصلي عليه ، فلما دفنوه قال لهم : إن امه ليست منكم ، وهي من قوم آخرين ، فلا أراها ترضى بما صنعتم ، فأعطوها ديته من مالي (3) .
  وروى الصدوق في ( الفقيه ) : انه لما مات ذر بن أبي ذر ـ رحمه الله ـ وقف [ أبو ذر ] (4) على قبره فمسح القبر بيده ، ثم قال : رحمك الله يا ذر ، والله انك كنت بي لبراً ، ولقد قبضت وإني عنك لراض ، والله ما بي فقدك وما علي من عضاضة ، ومالي إلى أحد سوى الله من حاجة ، ولولا هول المطلع لسرني أن أكون مكانك ، ولقد شغلني الحزن لك عن الحزن عليك ، والله ما بكيت لك ، ولكن بكيت عليك ، فليت شعري ما قلت ، وما قيل لك ؟ اللهم إني قد وهبته ما افترضت عليه من حقي ، فهب له ما افترضت عليه من حقك ، فأنت أحق بالجود والكرم مني (5) .
  واسند الدينوري أن ذر بن عمر بن ذر لما مات وقف أبوه على قبره ، وقال : رحمك الله يا ذر ، ما علينا بعدك من خصاصة ، وما بنا إلى أحد مع الله حاجة ، وما يسرني أني كنت المقدم قبلك ، ولولا هول المطلع لتمنيت أن أكون مكانك ، وقد شغلني الحزن لك عن الحزن عليك ، فليت شعري ماذا قلت ، وماذا قيل لك ، ثم رفع رأسه إلى السماء فقال : اللهم إني قد وهبتك له حقي فيما بيني وبينه ، فاغفر له من الذنوب ما بينك وبينه ، فأنت أجود الأجودين وأكرم الاكرمين ، ثم انصرف وقال : فارقناك ، ولو أقمنا

-------------------------------
(1) الحبوة من الاحتباء : وهو أن يضم الإنسان رجليه إلى بطنه بثوب يجمعهما به مع ظهره ، ويشد عليها ، وقد يكون الاحتباء باليدين عوض الثوب ، ( النهاية 1 : 335 ) .
(2) في هامش ( ح ) : اقصدوا .
(3) أخرج نحوه ابن عبد ربه في العقد الفريد 2 : 136 .
(4) أثبتناه من الفقيه .
(5) الفقيه 1 : 117 / 558 ، الكافي 3 : 250 / 4 ، والبحار 82 : 142 .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 63 _

  ما نفعناك (1) .
  وروى المبرد قال : لما هلك ذر بن عمر وقف عليه أبوه وهو مسجى ، وقال : يا بني ، ما علينا من موتك غضاضة ، وما بنا إلى ما سوى الله من حاجة ، فلما دفن قام على قبره ، وقال : يا ذر ، غفر الله لك ، قد شغلنا الحزن لك عن الحزن عليك ، لأنا لا ندري ما قلت ، ولا ما قيل لك ، اللهم إني قد وهبت له ما قصر فيه مما افترضت عليه من حقي ، فهب له ما قصر من فيه حقك ، واجعل ثوابي عليه له ، وزدني من فضلك ، إني إليك من الراغبين. فسئل عنه ، فقيل : كيف كان معك ؟ فقال : ما مشيت معه بليل قط إلا كان أمامي ، ولا بنهار قط إلا كان خلفي ، وما علا سطحاً قط وأنا تحته (2) .
  وقدم على بعض الخلفاء قوم من بني عبس ، فيهم رجل ضرير ، فسأله عن عينيه ، فقال : بت ليلة في بطن واد ، ولم أعلم عبسياً يزيد ماله على مالي ، فطرقنا سيل ، فذهب بما كان لي من أهل ومال وولد ، غير بعير وصبي مولود ، وكان ( بعيراً صعباً فنفر ) (3) ، فوضعت الصبي واتبعت البعير ، فلم أجاوز إلا قليلاً حتى سمعت صيحة ابني ، فرجعت إليه ورأس الذئب في بطنه وهو يأكله ، ولحقت البعير لأحبسه فبعجني (4) برجله على وجهي فحطمه ، وذهب بعيني فأصبحت لا مال لي ، ولا أهل ، ولا ولد ، ولا بصر .
  روي : أن عياض بن عقبة الفهري مات له ابن ، فلما نزل في قبره قال له رجل : والله انه كان لسيد الجيش فاحتسبه ، فقال : وما يمنعني ، وقد كان بالأمس زينة الحياة الدنيا ، وهو اليوم من الباقيات الصالحات ! ؟ وقال : أبو علي الرازي صحبت الفضيل بن عياض ثلاثين سنة ، ما رأيته ضاحكاً ولا مبتسماً قط إلا يوم مات ابنه علي ، فقلت له في ذلك ، فقال : إن الله سبحانه وتعالى أحب أمراً ، فأحببت ما أحب الله عز و جل .
  واصيب عمرو بن (5) كعب الهندي بتستر (6) ، فكتموا أباه الخبر ، ثم بلغه فلم يجزع ، وقال : الحمد لله الذي جعل من صلبي من اصيب شهيداً. ثم استشهد له ابن آخر

-------------------------------
(1) عيون الأخبار 2 : 313 .
(2) أخرج قطعة منه المبرد في الكامل 1 : 140 .
(3) في ( ش ) : البعير صعباً فند .
(4) البعج : الشق ( لسان العرب 2 : 214 ) .
(5) في ( ح ) : عمرو .
(6) تستر : من مدن خوزستان ، وهو تعريب شوشتر ، اُنظر ( معجم البلدان 2 : 29 ) .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 64 _

  بجرجان (1) ، فلما بلغه الخبر قال : الحمد لله الذي توفى مني شهيداً آخر .
  وروى البيهقي : أن عبد الله بن مطرف مات ، فخرج أبوه مطرف على قومه في ثياب حسنة وقد ادهن ، فغضبوا وقالوا : يموت عبد الله وتخرج في ثياب حسنة مدهناً ؟ ! قال : أفأستكين لها ، وقد وعدني ربي تبارك وتعالى عليها ثلاث خصال ، هي أحب إلي من الدنيا وما فيها ، قال الله تعالى : ( الذين اذا اصابتهم مصيبة قالوا انا لله وانا اليه راجعون اولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة واولئك هم المهتدون ) (2) .
  ودعا رجل من قريش إخواناً له ، فجمعهم على طعام ، فضربت ابناً له دابة لبعضهم فمات ، فأخفى ذلك عن القوم ، وقال لأهله : لا أعلمن صاحت منكم صائحة ، أو بكت منكم باكية ، وأقبل على إخوانه حتى فرغوا من طعامه ، ثم أخذ في جهاز الصبي ، فلم يفجأهم إلا بسريره ، فارتاعوا وسألوه عن أمره فأخبرهم ، فعجبوا من صبره وكرمه .
  وذكر : أن رجلا من اليمامة دفن ثلاثة رجال من ولده ، ثم احتبى في نادي قومه يتحدث كأن لم يفقد أحداً ، فقيل له في ذلك ، فقال : ليسوا في الموت ببديع ، ولا أنا في المصيبة بأوحد ، ولا جدوى للجزع ن فعلام تلومونني ؟ وأسند أبو العباس عن مسروق عن الأوزاعي ، قال : حدثنا بعض الحكماء ، قال : خرجت وأنا اُريد الرباط (3) ، حتى إذا كنت بعريش (4) مصر إذا أنا بمظلة ، وفيها رجل قد ذهبت عيناه ، واسترسلت يداه ورجلاه ، وهو يقول : لك الحمد سيدي ومولاي ، اللهم إني أحمدك حمداً يوافي محامد خلقك ، كفضلك على سائر خلقك ، إذ فضلتني على كثير ممن خلقت تفضيلاً .
  فقلت : والله لأسألنه ، أعلمه أو أُلهمه إلهاماً ؟ فدنوت منه ، وسلمت عليه ، فردّ فرد علي السلام ، فقلت له : رحمك الله ، إني أسألك عن شيء ، أتخبرني به أم لا ؟ فقال : إن كان عندي منه علم أخبرتك به ، فقلت : رحمك الله ، على أي فضيلة من فضائله

-------------------------------
(1) جرجان : مدينة مشهورة عظيمة بين طبرستان وخراسان ، فبعض يعدها من هذه ، وبعض يعدها من هذه ( معجم البلدان 2 : 119 ) .
(2) البقرة 2 : 156 و 157 .
(3) الرباط : ملازمة ثغور البلاد واستعداد للعدو ، ( القاموس المحيط ـ ربط ـ 2 : 360 ) .
(4) العريش : مدينة بمصر على ساحل البحر الابيض المتوسط ، في حدود مصر على الشام ( معجم البلدان 4 : 113 ) .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 65 _

  تشكره ؟ فقال : أوليس ترى ما قد صنع بي ؟ قلت : بلى ، فقال : والله لو أن الله تبارك وتعالى صب علي ناراً تحرقني ، وأمر الجبال فدمرتني ، وأمر البحار فغرقتني ، وأمر الأرض فخسفت بي ، ما ازددت فيه ـ سبحانه ـ إلا حباً ، ولا ازددت له إلا شكراً ، وإن لي إليك حاجة ، أفتقضيها لي ؟ قلت : نعم ، قل ما تشاء ، فقال : بني لي كان يتعاهدني أوقات صلاتي ، ويطعمني عند إفطاري ، وقد فقدته منذ أمس ، فانظر هل تجده لي ؟
  قال : فقلت في نفسي : إن في قضاء حاجته لقربة إلى الله عزوجل ، فقمت وخرجت في طلبه ، حتى اذا صرت بين كثبان الرمال ، إذا أنا بسبع قد افترس الغلام فأكله (1) ، فقلت : إنا لله وإنا إليه راجعون ، كيف آتي هذا العبد الصالح بخبر ابنه ؟
  قال : فأتيته ، وسلمت عليه ، فرد علي السلام فقلت : رحمك الله ، إن سألتك عن شيء تخبرني ؟ فقال : إن كان عندي منه علم أخبرتك به ، قال ، فقلت : أنت أكرم على الله عزوجل وأقرب منزلة ، أو نبي الله أيوب عليه السلام ؟ فقال : بل ( نبي الله ) (2) أكرم على الله تعالى مني ، وأعظم عند الله تعالى منزلة مني ، قال : فقلت له : إنه ابتلاه الله تعالى فصبر ، حتى استوحش منه من كان يأنس به ، وكان عرضاً لمُرار الطريق (3) ، واعلم أن ابنك الذي أخبرتني به ، وسألتني أن اطلبه لك افترسه السبع ، فأعظم الله أجرك فيه .
  فقال : الحمد لله الذي لم يجعل في قلبي حسرة من الدنيا ، ثم شهق شهقة وسقط على وجهه ، فجلست ساعة ثم حركته فإذا هو ميت ، فقلت : إنا لله وإنا إليه راجعون ، كيف أعمل في أمره ؟ ومن يعينني على تغسيله وكفنه وحفر قبره ودفنه ؟
  فبينما أنا كذلك إذ أنا بركب (4) يريدون الرباط ، فأشرت إليهم فأقبلوا نحوي حتى وقفوا علي ، وقالوا : من أنت ؟ ومن هذا ؟ فأخبرتهم بقصتي ، فعقلوا رواحلهم ، وأعانوني حتى غسلناه بماء البحر ، وكفناه بأثواب كانت معهم ، وتقدمت فصليت عليه مع الجماعة ، ودفناه في مظلته .

-------------------------------
(1) في ( ش ) : يأكله .
(2) في نسخة ( ش ) : أيوب .
(3) عرضاً لمرار الطريق : لعل المراد منه انه كان معروضاً على الطريق يمر به الناس ، لا بيت له يكنه اُنظر ( الصحاح ـ عرض ـ 3 : 1082 ) .
(4) في ( ح ) : بقفل ، والقفل : الجند إذا رجعوا من معسكرهم ، اُنظر ( الصحاح ـ قفل ـ 5 : 1803 ) .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 66 _

  وجلست عند قبره آنساً به أقرأ القرآن إلى أن مضى من الليل ساعة (1) ، فغفوت غفوة فرأيت صاحبي في أحسن صورة وأجمل زي ، في روضة خضراء عليه ثياب خضر قائماً يتلو القرآن ، فقلت له : ألست بصاحبي ؟ قال : بلى ، قلت : فما الذي صيرك إلى ما أرى ؟ فقال : إعلم أني وردت مع الصابرين على الله عزوجل في درجة لم ينالوها إلا بالصبر على البلاء ، والشكر عند الرخاء ، فانتبهت (2) .
  وحكى الشعبيّ قال : رأيت رجلاً وقد دفن ابنه ، فلمّا حثا عليه التراب وقف على قبره ، وقال : يابنيّ ، كنت هبة ماجد ، وعطية واحد (3) ، ووديعة مقتدر ، وعارية منتصر ، فاسترجعك واهبك ، وقبضك مالكك ، وأخذك معطيك ، فأخلفني الله عليك الصبر ، ولا حرمني الله بك الأجر ، ثم قال : أنت في حلّ من قبلي ، والله أولى عليك بالتفضّل مني .
  ولما مات عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز ، وأخوه سهل بن عبد العزيز ، ومولاه مزاحم ـ في أيام متتابعة ـ دخل عليه بعض أصحابه يعزيه ، وقال في جملة كلامه : والله ما رأيت مثل ابنك ابناً ، ولا مثل أخيك أخاً ، ولا مثل مولاك مولى ، فطأطأ رأسه ، ثم قال : أعد علي ما قلت ، فأعاده عليه ، فقال : لا والذي قضى عليهم ، ما أحب أن شيئا كان من ذلك لم يكن .
  وقيل : بينما عمر بن عبد العزيز ذات يوم جالس إذ اتاه ابنه عبد الملك ، فقال : الله الله في مظالم بني أبيك فلان وفلان ، فوالله لوددت أن القدور قد غلت بي وبك فيما يرضي الله ، وانطلق فأتبعه أبوه بصره ، وقال : إني لأعرف خير أحواله ، قالوا : وما خير أحواله ؟ قال : أن يموت فأحتسبه .
  ولما دخل عليه أبوه في مرضه فقال له : كيف تجدك ؟ قال : اجدني في الموت ، فاحتسبني يا أبه ، فإن ثواب الله عزوجل خير لك مني ، فقال : والله يا بني ، لئن تكون في ميزاني أحب إلي من أن أكون في ميزانك ، فقال ابنه : لئن يكون ما تحب أحب إلي من أن يكون ما أحب .
  فلما مات وقف على قبره ، وقال : رحمك الله يا بني ، لقد كنت ساراً مولوداً ، وباراً ناشئاً ، وما اُحب أني دعوتك فأجبتني .

-------------------------------
(1) في نسخة ( ش ) : ساعات .
(2) أخرجه المجلسي في البحار 82 : 149 .
(3) كذا ، والمناسب للسياق ، واجد ، بالجيم ، والواجد : الغني ، ( الصحاح ـ وجد ـ 2 : 547 ) .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 67 _

  ومات له ابن آخر قبل عبد الملك ، فجاء فقعد عند رأسه ، وكشف الثوب عن وجهه ، وجعل ينظر إليه ويسدمع ، فجاء ابنه عبد الملك ، فقال : يا أبه ليشغلك ما أقبل من الموت عمن هو في شغل عما حل لديك ، فكأن قد لحقت بابنك وساويته تحت التراب بوجهك ، فبكى عمر ، ثم قال : رحمك الله يا بني ، فوالله إنك لعظيم البركة ما علمتك ، على أنك نافع الموعظة لمن وعضت .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 68 _

  فصل :
  في ذكر جماعة من النساء نقل العلماء صبرهن روي عن أنس بن مالك ، قال : كان ابن لأبي طلحة رضي الله عنه يشتكي ، فخرج أبو طلحة فقبض الصبي ، فلما رجع أبو طلحة قال : ما فعل ابني ؟ فقالت اُم سليم ، وهي اُم الصبي رضي الله عنها : هو أسكن ما كان ، فقربت له العشاء فتعشى ، ثم اصاب منها ، فلما فرغ قالت : فارق الصبي ، فلما اصبح أبو طلحة أتى رسول الله صلى الله عليه وآله فأخبره ، فقال : ( أعرستم الليلة ؟ ) فقال : نعم ، فقال : ( اللهم بارك لهما ) فولدت غلاماً .
  قالت : فقلت لأبي طلحة : احمله حتى تأتي رسول الله صلى الله عليه وآله ، وبعثت معه بتمرات ، فقال : ( أمعه شيء ؟ ) قال : تمرات ، فأخذها النبي صلى الله عليه وآله فمضغها ، ثم أخذها صلى الله عليه وآله من فيه فجعلها في في الصبي ، ثم حنكه ، وسماه عبد الله (1) .
  قال رجل من الأنصار : فرأيت تسعة أولاد كلهم قد قرؤا القرآن ، يعني من أولاد عبد الله المولود (2) .
  وفي رواية أخرى : مات ابن لأبي طلحة من أم سليم ، فقالت لأهلها : لا تحدثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أحدثه ، قال : فجاء ، فقربت إليه عشاء ، فأكل وشرب ، ثم تصنعت له أكثر مما كانت تتصنع له من قبل ذلك ، فلما رأت أنه قد شبع وأصاب منها ، قال : يا أبا طلحة ، أرأيت قوماً أعاروا عارية أهل بيت فطلبوا عاريتهم ؟ ألهم أن يمنعوهم ؟ قال : لا ، قالت : فاحتسب ابنك ، قال : فغضب ، ثم قال : تركتني حتى إذا تلطخت ثم أخبرتني بابني (3) .
  وفي حديث آخر : لما كان آخر الليل قالت : يا أبا طلحة ، إن آل فلان استعاروا عارية تمتعوا بها ، فلما طلبت منهم شق عليهم ذلك ، قال : ما أنصفوا ، قالت :

-------------------------------
(1) رواه البخاري في صحيحه 7 : 109 ، ومسلم في صحيحه 3 : 1689 باختلاف يسير ورواه باختلاف في ألفاظه محمد بن علي العلوي في التعازي : 25 / 52 .
(2) صحيح البخاري 2 : 104 .
(3) صحيح مسلم 4 : 1909 .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 69 _

  فإن فلاناً ـ لابنها ـ كان عارية من الله عزوجل ، وقبضه الله ، فاسترجع ، ثم غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فأخبره بما كان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : ( بارك الله لكما في ليلتكما ) .
  قال : فحملت وذكر الحديث ، وفيه ، فولدت غلاماً ، فمسح رسول الله صلى الله عليه وآله وجهه ، وسماه عبد الله .
  والحديث في ( عيون المجالس ) بزيادة غريبة في آخره ، ولفظه : عن معاوية بن قرة ، قال : كان أبو طلحة يحب ابنه حباً شديداً ، فمرض فخافت اُم سليم على أبي طلحة الجزع حين قرب موت الولد ، فبعثته إلى النبي الله صلى الله عليه وآله ، فلما خرج أبو طلحة من داره توفي الولد ، فسجته اُم سليم بثوب ، وعزلته في ناحية من البيت ، ثم تقدمت إلى أهل بيتها ، وقالت لهم : لا تخبروا أبا طلحة بشيء .
  ثم أنها صنعت طعاماً ، ثم مست شيئاً من الطيب ، فجاء أبو طلحة من عند رسول الله صلى الله عليه وآله فقال : ما فعل ابني؟ فقالت له : هدأت نفسه ، ثمّ قال : هل لنا مانأكل؟ فقامت فقربت إليه الطعام ، ثمّ تعرضت له فوقع عليها ، فلمّا اطمأنّ قالت له : يا أبا طلحة اتغضب من وديعة كانت عندنا ، فرددناها إلى أهلها؟ فقال : سبحان الله ، لا ، فقالت : ابنك كان عندنا وديعة فقبضه الله تعالى ، فقال أبو طلحة : فأنا أحق بالصبر منك .
  ثم قام من مكانه ، فاغتسل ، وصلّي ركعتين ، ثم انطلق إلى النبي صلّى الله عليه وآله ، فأخبره بصنيعهما ، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله : ( فبارك الله لكما في وقعتكما ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله : الحمد لله الذي جعل في اُمتي مثل صابرة بني أسرائيل ) فقيل : يا رسول الله ، ما كان من خبرها ؟
  قال : ( كانت في بني إسرائيل امرأة ، وكان لها زوج ، ولها منه غلامان ، فأمرها بطعام ليدعو عليه الناس ففعلت ، واجتمع الناس في داره ، فانطلق الغلامان يلعبان ، فوقعا في بئر كان في الدار ، فكرهت أن تنغص على زوجها الضيافة ، فأدخلتهما البيت ، وسجتهما بثوب ، فلما فرغوا دخل زوجها ، فقال : أين ابناي ؟ قالت : هما في البيت ، وإنها كانت قد تمسحت بشيء من الطيب ، وتعرضت للرجل حتى وقع عليها ، ثم قال : أين ابناي ؟ قالت : هما في البيت ، فناداهما أبوهما ، فخرجا يسعيان ، فقالت المرأة :

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 70 _

  سبحان الله ! والله لقد كانا ميتين ، ولكن الله تعالى أحياهما ثواباً لصبري ) (1) .
  وقريب من هذا ما رويناه في ( دلائل النبوة ) عن أنس بن مالك ، قال : دخلنا على رجل من الأنصار وهو مريض ، فلم نبرح حتى قضى ، فبسطنا عليه ثوباً ، واُم له عجوز كبيرة عند رأسه ، فقلنا لها : يا هذه ، احتسبي مصيبتك على الله عزوجل ، فقالت : مات ابني ؟ قلنا نعم ، قالت : حقاً تقولون ؟ قلنا : نعم ، قال فمدت يدها ، وقالت : اللهم إنك تعلم أني أسلمت لك ، وهاجرت إلى رسولك صلى الله عليه وآله وسلم رجاء ان تعينني عند كل شدة ورخاء ، فلا تحمل علي هذه المصيبة اليوم ، فكشف الثوب عن وجهه بيده ، ثمّ مابرحنا حتى طعمنا معه (2) .
  وهذا الدعاء من المرأة رحمها الله إدلال على الله ، واستئناس به يقع منه للمحبين كثيراً ، فيقبل دعاءهم ، وإن كان في التذكير بنحو ذلك ما يظهر منه قلة الادب ، لو وقع من غيرهم ، ولذلك بحث طويل وشواهد من الكتاب والسنة ، يخرج ذكره عن مناسبة المقام .
  ومن لطيف ما اتفق فيه مناجاة برخ الاسود الذي أمر الله تعالى كليمه موسى عليه السلام أن يسأله ليستسقي لبني اسرائيل بعد ان قحطوا سبع سنين ، وخرج موسى ليستسقي لهم في سبعين الفا ، فأوحى الله إليه : ( كيف استجيب لهم وقد أظلت عليهم ذنوبهم ، وسرائرهم خبيثة ، يدعونني على غير يقين ، ويأمنون مكري ! إرجع إلى عبد من عبادي ، يقال له : برخ ، يخرج حتى استجيب له ) .
  فسأل عنه موسى عليه السلام فلم يعرف ، فبينا موسى عليه السلام ذات يوم يمشي في طريق ، فإذا بعبد أسود بين عينيه تراب من أثر السجود ، في شملة قد عقدها على عنقه ، فعرفه موسى بنور الله تعالى فسلم عليه ، فقال : ما اسمك ؟ قال : إسمي برخ ، فقال : أنت طلبتنا منذ حين ، اخرج استسق لنا ، فخرج ، فقال في كلامه : اللهم ما هذا من فعالك ، وما هذا من حلمك ، وما الذي بدالك ! أنقصت عليك عيونك ، أم عاندت الرياح عن طاعتك ، أم نفد ما عندك ! أم اشتد غضبك على المذنبين ، الست كنت غفاراً قبل خلق الخاطئين ؟ ! خلقت الرحمة ، وأمرت بالعطف ، أم ترينا أنك ممتنع ، أم

-------------------------------
(1) أخرجه المجلسي في بحار الانوار 82 : 150 .
(2) دلائل النبوة 6 : 50 باختلاف في ألفاظه ، وأخرجه المجلسي في البحار 82 : 151 .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 71 _

  تخشى الفوت فتعجل بالعقوبة ؟ ! فما برح برخ حتى ( أفاضت وخاضت ) (1) بنو إسرائيل بالقطر .
  قال : فلما رجع برخ استقبل موسى عليه السلام ، فقال : كيف رأيت حين خاصمت ربي ، كيف انصفني (2) ؟
  رجعنا إلى أخبار الصابرات :
  وروي : أن أسماء بنت عميس رضي الله عنها لما جاء خبر ولدها ـ محمد بن أبي بكر ـ أنه قتل وأحرق بالنار في جيفة حمار ، قامت إلى مسجدها ، فجلست فيه ، وكظمت الغيظ حتى تشخب ثديها دماً (3) .
  وروي عن حمنة (4) بنت جحش رضي الله عنها : أنها قيل لها : قتل أخوك ، قالت : رحمه الله ، وإنا لله وإنا إليه راجعون ، قالوا : وقتل زوجك ، قالت : واحزناه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : ( أن للزوج من المرأة لشعبة ماهي لشيء ) (5) .
  وروي : ان صفية بنت عبد المطلب أقبلت لتنظر إلى أخيها لأبويها ـ حمزة بن عبد المطلب ـ باُحد ، وقد مثل به ، فقال النبي صلى الله عليه وآله لابنها الزبير : ( القها فأرجعها لا ترى ما بأخيها ) فقال لها : يا أماه ، إن رسول الله صلى الله عليه وآله يأمرك ان ترجعي ، قالت : ولم ، وقد بلغني أنه قد مثل بأخي ؟ وذلك في الله عزوجل ، فما أرضانا بما كان من ذلك ! فلأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله .
  فلما جاء الزبير إلى النبي صلى الله عليه وآله فأخبره بقولها ، فقال له : ( خل سبيلها ) فأتته ، ونظرت إليه ، وصلت عليه ، واسترجعت ، واستغفرت له (6) .
  وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : لما قتل حمزة رضي الله عنه يوم اُحد ، أقبلت صفية تطلبه ، لا تدري ما صنع به ، قال : فلقيت علياً والزبير ، فقال علي عليه السلام للزبير : ( أذكر لاُمك ) فقال الزبير : لا ، بل اذكر انت لعمتك ، قالت : ما فعل حمزة ؟ فأرياها أنهما لا يدريان ، قال : فجاءت النبي صلى الله عليه وآله فقال : ( إني أخاف

-------------------------------
(1) في ( د ) : اخضلت .
(2) أخرجه الفيض الكاشاني في المحجة البيضاء 8 : 81 .
(3) روى القصة مفصلة الدميري في حياة الحيوان الكبرى 1 : 247 .
(4) في ( ح ) : جهينة ، والصواب ما أثبتناه من ( د ) ، راجع ( اُسد الغابة 5 : 428 ) .
(5) سنن ابن ماجة 1 : 507 ، المستدرك على الصحيحين 4 : 62 .
(6) السيرة النبوية لابن هشام 3 : 103 .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 72 _

  على عقلها ) قال : فوضع يده على صدرها ، ودعا لها ، فاسترجعت ، وبكت ، قال : ثم جاء صلى الله عليه وآله فقام عليه ، وقد مثل به ، فقال : ( لولا جزع النساء لتركته حتى يحشر من حواصل الطيور وبطون السباع ) (1) .
  واستشهد شاب من الأنصار يقال له : خلاد يوم بني قريظة ، فجاءت أمه متنقبة فقيل لها : تتنقبين يا اُم خلاد وقد رزئت بخلاد ! فقالت : لئن كنت رزئت خلاداً ، فلم ارزأ حيائي (2) ، فدعا له النبي صلى الله عليه وآله ، وقال : ( إن له أجرين ، لأن أهل الكتاب قتلوه ) (3) .
  وعن أنس بن مالك قال : لما كان يوم اُحد حاص أهل المدينة حيصة ، فقالوا : قتل محمد صلى الله عليه وآله ، حتى كثرت الصوارخ في نواحي المدينة ، فخرجت امراة من الأنصار متحزنة ، فاستقبلت بأبيها وأبنها وزوجها وأخيها ، لا أدري أيهم استقبلت أولاً ، فلما مرت على آخرهم قالت : من هذا ؟ قالوا : أخوك ، وأبوك ، وزوجك ، وابنك ، قالت : ما فعل النبي صلى الله عليه وآله ؟ قالوا : أمامك ، فمشت حتى جاءت إليه ، فأخذت بناحية ثوبه ، وجعلت تقول : بأبي أنت وامي يا رسول الله ، لا ابالي إذا سلمت من عطب .
  وروى البيهقي قال : مر رسول الله صلى الله عليه وآله بامرأة من بني دينار (4) ، وقد أصيب زوجها وأبوها وأخوها معه صلى الله عليه وآله باُحد ، فلما نعوا إليها ، قالت : ما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ قالوا : خيراً يا أم فلان ، وهو يحمد الله كما تحبين ، قالت : أرونيه حتى انظر إليه ، فأشير لها إليه ، حتى إذا رأته قالت : كل مصيبة بعدك جلل (5) .
  وخرجت السمراء بنت قيس ـ أخت أبي حزام ـ ، وقد اصيب ابناها ، فعزاها النبي صلى الله عليه وآله بهما ، فقالت : كل مصيبة بعدك جلل (6) ، والله لهذا

-------------------------------
(1) المستدرك على الصحيحين 3 : 197 .
(2) في ( د ) و ( ح ) : حبابه ، وما أثبتناه من منتخب كنز العمال .
(3) منتخب كنز العمال 1 : 212 باختلاف في ألفاظه .
(4) في ( د ) : ذبيان ، وفي ( ح ) : دينارة ، وفي هامش ( ح ) : صباره ، والظاهر كلها تصحيف ، والصواب ما أثبتناه ، وبنو دينار : بطن من بني النجار من الخزرج من الأنصار ، اُنظر ( معجم قبائل العرب 1 : 401 ) .
(5) السيرة النبوية لابن هشام 3 : 105 ، ورواه الواقدي في المغازي 1 : 292 باختلاف في ألفاظه .
(6) الجلل : الأمر العظيم والهين ، وهو من الاضداد ، والمراد هنا : كل مصيبة بعدك هينة ، اُنظر ( الصحاح ـ جلل ـ 4 : 1659 ) .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 73 _

  النقع (1) الذي أرى على وجهك أشد من مصابهما .
  وروي : أن صلة بن أشيم كان في مغزى له ، ومعه ابن له ، فقال لابنه : أي بني تقدم فقاتل حتى احتسبك ، فحمل فقاتل فقتل ، ثم تقدم أبوه فقاتل فقتل ، قال : فاجتمع النساء عند امه معاذة العدوية زوجة صلة ، فقالت لهن : مرحباً بكن إن كنتن ( جئتن لتهنئتي ) (2) ، وإن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن .
  وروي : أن عجوزاً من بني بكر بن كلاب كان يتحدث قومها عن عقلها وسدادها ، فأخبر بعض من حضرها ، وقد مات ابن لها ، وكان واحدها ، وقد طالت علته ، وأحسنت تمريضه ، فلما مات قعدت بفنائها ، وحضرها قومها ، فأقبلت على شيخ منهم فقالت : يا فلان ، ما حق من أسبغت عليه النعمة ، وأُلبس العافية ، واعتدلت به النظرة ، أن لا يعجز عن التوثق لنفسه قبل حل عقدته والحلول بعقوته (3) ، ينزل الموت بداره ، فيحول بينه وبين نفسه ؟ ثم أنشأت تقول شعراً :
هو أبني وأنسي أجره لي وعزني      على   نفسه   رب  اليه  iiولاؤها
فإن  أحتسب أوجر وإن ابكه iiأكن      كباكية   لم   يغن   شيئاً  iiبكاؤها
  فقال لها شيخ : إننا لم نزل نسمع أن الجزع إنما هو للنساء ، فلا يجزعن أحد بعدك ، ولقد كرم صبرك ، وما أشبهت النساء ، فقالت له : إنه ما ميز امرؤ بين الجزع وصبر ، إلا وجد بينهما منهجين بعيدي التفاوت في حالتيهما : أما الصبر : فحسن العلانية ، محمود العاقبة .
  وأما الجزع : فغير معرض شيئاً مع إثمه .
  ولو كانا في صورة رجلين ، لكان الصبر أولاهما بالغلبة ، وبحسن الصورة ، وكرم الطبيعة في عاجل الدين وآجله في الثواب ، وكفى بما وعد الله عزوجل لمن ألهمه إياه .
  وعن جويرية بن أسماء : أن ثلاثة أخوة شهدوا تستر ، واستشهدوا ، وبلغ ذلك أمهم ، فقالت : مقبلين أم مدبرين ؟ فقيل لها : بل مقبلين ، فقالت : الحمد لله ، نالوا والله الفوز ، وحاطوا الذمار ، بنفسي هم وأبي وامي ، وما تأوهت ، ولا دمعت لها عين .

-------------------------------
(1) النقع : الغبار. ( الصحاح ـ نقع ـ 3 : 1292 ) .
(2) في ( د ) : جئتني لتهنئنني .
(3) في ( ح ) بعقوبته ، والصواب ما في المتن ، والعقوة : الساحة وما حول الدار. ( الصحاح ـ عقا ـ 6 : 2433 ) .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 74 _

  وعن أبي قدامة الشامي قال : كنت أميراً على الجيش في بعض الغزوات ، فدخلت بعض البلدان ، ودعوت الناس للغزاة ، ورغبتهم في الجهاد ، وذكرت فضل الشهادة وما لأهلها ، ثم تفرق الناس وركبت فرسي ، وسرت إلى منزلي ، فإذا أنا بأمرأة من أحسن الناس وجهاً تنادي : يا أبا قدامة ، فمضيت ولم أجب ، فقالت : ما هكذا كان الصالحون ، فوقفت ، فجاءت ودفعت إلي رقعة وخرقة مشدودة ، وانصرفت باكية ، فنظرت في الرقعة وإذا فيها مكتوب : أنت دعوتنا إلى الجهاد ، ورغبتنا في الثواب ، ولا قدرة لي على ذلك ، فقطعت أحسن ما في ، وهما ضفيرتاي ، وأنفذتهما (1) إليك لتجعلهما قيد فرسك لعل الله يرى شعري قيد فرسك في سبيله ، فيغفر لي .
  فلما كان صبيحة القتال ، فإذا بغلام بين يدي الصفوف يقاتل حاسراً ، فتقدمت إليه وقلت : يا غلام ، أنت فتى غر (2) راجل ، ولا آمن أن تجول الخيل فتطؤك بأرجلها ، فارجع عن موضعك هذا ، فقال : أتأمرني بالرجوع ، وقد قال الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الادبار ) (3) ؟ وقرأ الآية إلى آخرها .
  فحملته على هجين كان معي ، فقال : يا أبا قدامة ، أقرضني ثلاثة أسهم ، فقلت : أهذا وقت قرض ؟ فما زال يلح علي حتى قلت : بشرط إن من الله عليك بالشهادة أكون في شفاعتك ، قال : نعم ، فأعطيته ثلاثة أسهم ، فوضع سهماً في قوسه ورمى به ، فقتل رومياً ، ثم رمى بالآخر فقتل رومياً ، ثم رمى بالآخر ، وقال : السلام عليك يا أبا قدامة سلام مودع ، فجاءه سهم فوقع بين عينيه ، فوضع رأسه على قربوس سرجه ، فتقدمت إليه ، وقلت : لا تنسها ، فقال : نعم ، ولكن لي إليك حاجة ، إذا دخلت المدينة فأت والدتي ، وسلم خرجي (4) إليها وأخبرها ، فهي التي أعطتك شعرها لتقيد به فرسك ، فسلم عليها ، فهي العام الأول أصيبت بوالدي ، وفي هذا العام بي ، ثم مات ، فحفرت له ، ودفنته .
  فلما هممت بالإنصراف عن قبره قذفته الارض ، فألقته على ظهرها ، فقال أصحابه : غلام غر ، ولعله خرج بغير إذن امه ، فقلت : إن الإرض لتقبل من هو شر من

-------------------------------
(1) في ( ح ) : وأرسلتها .
(2) في الحديث : ( المؤمن غر كريم ) يريد أن المؤمن المحمود من طبعه الغرارة ، وقلة الفطنة للشر وترك البحث عنه ، وليس ذلك منه جهلاً ، ولكنه كرم وحسن خلق ( النهاية ـ غرر ـ 3 : 354 ) .
(3) الأنفال 8 : 15 .
(4) الخرج : وعاء ( الصحاح ـ خرج ـ 1 : 309 ) .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 75 _

  هذا ، فقمت وصليت ركعتين ، ودعوت الله ، فسمعت صوتاً يقول : يا أبا قدامة ، أترك ولي الله ، فما برحت حتى نزلت عليه طيور فأكلته .
  فلما أتيت المدينة ذهبت إلى دار والدته ، فما قرعت الباب خرجت أخته إلي ، فلما رأتني عادت إلى امها ، وقالت : يا أماه ، هذا أبو قدامة ، وليس معه أخي ، وقد أُصبنا في العام الاول بأبي ، وفي هذا العام بأخي ، فخرجت اُمه ، فقالت : أمعزيناً أم مهنئاً ؟ فقلت : ما معنى هذا ؟ قالت : إن كان ابني مات فعزني ، وإن كان استشهد فهنئني ، فقلت : لا ، بل قد مات شهيداً ، فقالت له علامة ، فهل رأيتها ؟ فقلت : نعم ، لم تقلبه الارض ، ونزلت الطيور ، فأكلت لحمه ، وتركت عظامه ، فدفنتها ، فقالت : الحمد لله .
  فسلمت إليها الخرج ، ففتحته وأخرجت منه مسحاً وغلاً من حديد ، قالت : إنه كان إذا جنه الليل لبس هذا المسح ، وغلّ نفسه بالغل وناجى مولاه ، وقال في مناجاته : إلهي احشرني من حواصل الطيور. فاستجاب الله سبحانه دعاءه رحمه الله .
  وروى البيهقي عن أبي عباس السراج ، قال : مات لبعضهم ابن ، فدخلت على اُمه ، فقلت لها : اتقي الله واصبري ، فقالت : مصيبتي به أعظم من أن أفسدها بالجزع .
  وقال ابان بن تغلب رحمه الله : دخلت على امرأة ، وقد نزل بابنها الموت ، فقامت إليه فغمضته وسجته ، ثم قالت : يا بني ، ما الجزع في ما لا يزول ؟ وإنما البكاء في ما ينزل بك غداً ؟ يا بني ، تذوق ما ذاق أبوك ، وستذوقه من بعدك امك ، وإن أعظم الراحة لهذا الجسد النوم ، والنوم أخو الموت ، فما عليك إن كنت نائماً على فراشك ، أو على غيره ، وإن غداً السؤال والجنة والنار ، فإن كنت من أهل الجنة فما ضرك الموت ، وإن كنت من أهل النار فما تنفعك الحياة ، ولو كنت أطول الناس عمراً ، والله يا بني لولا أن الموت أشرف الاشياء لابن آدم ، لما أمات الله نبيه صلى الله عليه وآله ، وأبقى عدوه أبليس لعنه الله (1) .
  وعن المبرد قال : أتيت امرأة أعزيها عن ابنها ، فجعلت تثني عليه ، فقالت : كان ـ والله ـ ماله لغير بطنه ، وأمره لغير عرسه ، وكان رحب الذراع بالتي لا تشينه ، فإن كانت الفحشاء ضاق بها ذرعاً ، فقلت لها : وهل لك منه خلف ؟ ـ وأنا أعني الولد ـ ، فقالت : نعم بحمد الله كثير الطيب ، ثواب الله عزوجل ، ونعم العوض في الدنيا والآخرة .

-------------------------------
(1) أخرجه المجلسي في البحار 82 : 152 .