وعنه : أنه خرج إلى اليمن ، فنزل على امرأة لها مال كثير ورقيق وولد وحال حسنة ، فاقام عندها مدة ، فلما أراد الرحيل قال : إلك حاجة ؟ قالت : نعم ، كلما نزلت هذه البلاد فانزل علي .
  وإنه غاب اعواما ، ثم نزل عليها ، فوجدها قد ذهب مالها ورقيقها ، ومات ولدها ، وباعت منزلها ، وهي مسرورة ضاحكة ، فقال لها : أتضحكين مع ما قد نزل بلك ؟ فقالت : يا عبد الله كنت في حال النعمة في أحزان كثيرة ، فعلمت أنها من قلة الشكر ، فأنا اليوم في هذه الحالة أضحك شكراً لله تعالى على ما أعطاني من الصبر .
  وعن مسلم بن يسار قال : قدمت البحرين فأضافتني امرأة لها بنون ورقيق ومال ويسار ، وكنت أراها محزونة ، فغبت عنها مدة طويلة ، ثم أتيتها فلم أر ببابها إنساً ، فاستأذنت عليها ، فإذا هي ضاحكة مسرورة ، فقلت لها : ما شأنك ؟ قالت : إنك لما غبت عنا لم نرسل شيئاً في البحر إلا غرق ، ولا شيئاً في البر إلا عطب ، وذهبت الرقيق ، ومات البنون ، فقلت لها : يرحمك الله ، رأيتك محزونة في ذلك اليوم ، ومسرورة في هذا اليوم ، فقالت : نعم ، إني لما كنت فيما كنت فيه من سعة الدنيا ، خشيت أن يكون الله تعالى قد عجل لي حسناتي في الدنيا ، فلما ذهب مالي وولدي ورقيقي رجوت أن يكون الله تعالى قد ذخر لي عنده شيئاً (1) .
  وعن بعضهم قال : خرجت أنا وصديق لي إلى البادية ، فضللنا الطريق ، فإذا نحن بخيمة عن يمين الطريق فقصدنا نحوها فسلمنا ، فإذا بامرأة ترد علينا السلام ، وقالت : ما أنتم ؟ قلنا : ضالون فأتيناكم فاستأنسنا بكم ، فقالت : يا هؤلاء ، ولّوا وجوهكم عنّي ، حتى أقضي حقكم ما أنتم له أهل ، ففعلنا ، فألقت لنا مسحاً ، وقالت : اجلسوا عليه إلى أن يأتي أبني .
  ثم جعلت ترفع طرف الخيمة وتردها ، إلى أن رفعته مرة فقالت : أسأل الله بركة المقبل ، أما البعير فبعير ابني ، وأما الراكب فليس هو به ، قال : فوقف الراكب عليها ، وقال : يا اُم عقيل ، عظم الله أجرك في عقيل ولدك ، فقالت : ويحك مات ! ؟ قال : نعم ، قالت : وما سبب موته ؟ قال : ازدحمت عليه الابل فرمت به في البئر فقالت : انزل واقض ذمام القوم ، ودفعت إليه كبشاً فذبحه وأصلحه ، وقرب إلينا الطعام ، فجعلنا نأكل ، ونتعجب من صبرها .

-------------------------------
(1) أخرجه المجلسي في البحار 82 : 152 .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 77 _

  فلما فرغنا خرجت إلينا وقالت : يا قوم ، هل فيكم من يحسن من كتاب الله شيئاً ؟ فقلت : نعم ، قالت : فاقرأ علي آيات أتعزى بها عن ولدي ، فقلت : يقول الله عزوجل : ( وبشر الصابرين الذين إذا اصابتهم مصيبة قالوا انا لله وانا اليه راجعون اولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة واولئك هم المهتدون ) (1) ، قالت : بالله انها في كتاب الله هكذا ؟ قلت : والله إنها لفي كتاب الله هكذا ، فقالت : السلام عليكم ، ثم صفت قدميها وصلت ركعات ، ثم قالت : اللهم إني قد فعلت ما أمرتني به ، فأنجز لي ما وعدتني به ، ولو بقي أحد لأحد ـ قال : فقلت في نفسي تقول : لبقي ابني لحاجتي إليه ، فقالت ـ : لبقي محمد صلى الله عليه وآله لأمته .
  فخرجت وأنا أقول : ما رأيت أكمل منها ولا أجزل ، ذكرت ربها بأكمل خصاله وأجمل خلاله ، ثم إنها لما علمت ان الموت لا مدفع له ، ولا محيص عنه ، وأن الجزع لا يجدي نفعاً ، والبكاء لا يرد هالكاً ، رجعت إلى الصبر الجميل ، واحتسبت ابنها عند الله تعالى ذخيرة نافعة ليوم الفقر والفاقة (2) .
  ونحوه ما أخرجه ابن أبي الدنيا ، قال : كان رجل يجلس إلي ، فبلغني انه شاكٍ (3) فأتيته أعوده ، فإذا هو قد نزل به الموت ، وإذا اُمّ له عجوز كبيرة عنده ، فجعلت تنظر حتى غمض وعصب وسجي ، ثم قالت : رحمك الله ، اي بني ، فقد كنت بنا باراً ، وعلينا شفيقاً ، فرزقني الله عليك الصبر ، فقد كنت تطيل القيام ، وتكثر الصيام ، لا حرمك الله تعالى ما أملت فيه من رحمته ، وأحسن فيك العزاء ، ثم نظرت إليّ وقالت : أيها العائد قد رأيت واعظاً ونحن معك .
  وروى البيهقي عن ذي النون المصري ، قال : كنت في الطواف ، وإذا أنا بجاريتين قد أقبلتا .
  وأنشأت إحداهما تقول :
صبرت وكان الصبر خير مغبة (4)      وهل   الجزع   مني  ليجدي  iiفأجزع
صبرت   على  ما  لو  تحمل  بعضه      جبال   برضوى   أصبحت   iiتتصدع
ملكت    دموع    العين   ثم   رددتها      إلى  ناظري  فالعين  في  القلب iiتدمع

-------------------------------
(1) البقرة 2 : 15(5) 157 .
(2) أخرجه المجلسي في البحار 82 : 152 .
(3) الشاكي : المريض. ( الصحاح ـ شكا ـ 6 : 2395 ) .
(4) في ( ح ) : مطية .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 78 _

  فقلت : مماذا يا جارية ؟ فقالت : من مصيبة نالتني ، لم تصب أحداً قط ، قلت : وما هي ؟ قالت : كان لي شبلان يلعبان أمامي ، وكان أبوهما ضحى بكبشين ، فقال أحدهما لأخيه : يا أخي اريك كيف ضحى أبونا بكبشه ، فقام وأخذ الآخر شفرة فنحره ، وهرب القاتل فدخل ابوهما ، فقلت : إن ابنك قتل أخاه وهرب ، فخرج في طلبه ، فوجده قد افترسه السبع ، فرجع الاب فمات في الطريق ظمأً وجوعاً .
  وروى بعضهم هذه الرواية ، وزاد فيها : قال : رايت امرأة حسناء ، ليس بها شيء من الحزن ، وقالت : والله ما أعلم أحداً اُصيب بما اُصبت به ، وأوردت القصة ، فقلت لها : كيف أنت والجزع ؟ فقالت : لو رايت فيه دركاً ما اخترت عليه شيئاً ، ولو دام لي لدمت له .
  وحكى بعضهم ، قال : اُصيبت امرأة بابن لها فصبرت ، فقيل لها في ذلك ، فقالت : آثرت طاعة الله تعالى على طاعة الشيطان .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 79 _

الباب الثالث : في الرضا :
  قال الله تعالى : ( لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتيكم ) (1) ( رضي الله عنهم ورضوا عنه ) (2) .
  إعلم أن الرضا ثمرة المحبة لله ، من أحب شيئاً أحب فعله والمحبة ثمرة المعرفة ، فإن من أحب شخصاً إنسانياً لا شتماله على بعض صفات الكمال أو نعوت الجمال ، يزداد حبه له كلما زاد به معرفة وله تصوراً .
  فمن نظر بعين بصيرته إلى جلال الله تعالى وكماله ـ الذي يطول شرح تفصيل بعضه ، ويخرج عن مقصود الرسالة ـ أحبه ، والذين آمنوا أشد حباً لله ، ومتى أحبه استحسن كل أثر صادر عنه ، وهو يقتضي الرضا .
  فالرضا ثمرة من ثمرات المحبة ، بل كل كمال فهو ثمرتها ، فإنها لما كانت فرع المعرفة استلزم تصور رحمته رجاؤه ، وتصور هيبته الخشية له ، ومع عدم الوصول إلى المطلوب الشوق ، ومع الوصول الأنس ، ومع إفراط الأنس الإنبساط ، ومع مطالعة عنايته التوكل ، ومع استحسان ما يصدر عنه الرضا ، ومع تصور قصور نفسه في جنب كماله وكمال إحاطة محبوبه به وقدرته عليه التسليم إليه ، ويتشعب من التسليم مقامات عظيمة ، يعرفها من عرفها ، وينتهي الأمر به إلى غاية كل كمال .
  واعلم ان الرضا فضيلة عظيمة للإنسان ، بل جماع أمر الفضائل يرجع إليها ، وقد نبه الله تعالى على فضله ، وجعله مقروناً برضا الله تعالى وعلامة له ، فقال : ( رضي الله عنهم ورضوا عنه ) (3) .
  ( ورضوان من الله أكبر ) (4) وهو نهاية الاحسان ، وغاية الإمتنان .
  وجعله النبي صلى الله عليه وآله دليلاً على الايمان ، حين سأل طائفة من أصحابه ، ( ما أنتم ؟ ) قالوا : مؤمنون ، فقال : ( ما علامة إيمانكم ؟ ) قالوا نصبر على البلاء ، ونشكر عند الرخاء ، ونرضى بمواقع القضاء ، فقال : ( مؤمنون ورب الكعبة ) (5) .

-------------------------------
(1) الحديد 57 : 23 .
(2) المائدة 5 : 119 ، التوبة 9 : 100 المجادلة 58 : 22 ، البينة 98 : 8 .
(3) المائدة 5 : 119 ، والتوبة 9 : 100 ، والمجادلة 58 : 22 ، والبينة 98 : 8 .
(4) التوبة 9 : 72 .
(5) ورد باختلاف في ألفاظه في التمحيص : 61 : 137 ، ودعائم الاسلام 1 : 223 وأخرجه الفيض .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 80 _

  وقال صلى الله عليه وآله : ( إذا أحب الله عبداً ابتلاه ، فإن صبر اجتباه ، فإن رضي اصطفاه ) (1) .
  وقال صلى الله عليه وآله : ( إذا كان يوم القيامة أنبت الله تعالى لطائفة من أمتي أجنحة ، فيطيرون من قبورهم إلى الجنان ، يسرحون فيها ، ويتنعمون كيف يشاؤون ، فتقول لهم الملائكة : هل رأيتم الحساب ؟ فيقولون : ما راينا حساباً ، فيقولون : هل جزتم الصراط ؟ فيقولون : ما رأينا صراطاً ، فيقولون : هل رايتم جهنم ؟ فيقولون : ما راينا شيئاً ، فتقول الملائكة : من اُمة من أنتم ؟ فيقولون من اُمة محمد صلى الله عليه وآله ، فيقولون : نشدناكم الله ، حدثونا ما كانت أعمالكم في الدنيا ؟ فيقولون : خصلتان كانتا فينا ، فبلغنا الله تعالى هذه المنزلة بفضل رحمته ، فيقولون : وما هما ؟ فيقولون : كنا إذا خلونا نستحي أن نعصيه ، ونرضى باليسير مما قسم لنا ، فتقول الملائكة : حق لكم هذا ) (2) .
  وقال صلى الله عليه وآله : ( أعطوا الله الرضا من قلوبكم ، تظفروا بثواب الله تعالى يوم فقركم والإفلاس ) (3) .
  وفي أخبار موسى عليه السلام ، أنهم قالوا : سل لنا ربك أمراً إذا نحن فعلناه ( يرضى به عنا ) (4) فأوحى الله تعالى إليه : ( قل لهم : يرضون عني ، حتى أرضى عنهم ) (5) .
  ونظيره ما روي عن نبينا صلى الله عليه وآله : أنه قال : ( من أحب أن يعلم ما له عند الله عزوجل ، فلينظر ما لله عزوجل عنده ، فإن الله تعالى ينزل العبد منه حيث أنزله العبد من نفسه ) (6) .
  وفي أخبار داود عليه السلام : ( ما لأوليائي والهم بالدينا ، إن الهم يذهب حلاوة مناجاتي من قلوبهم ، يا داود ، إن محبتي من أوليائي أن يكونوا روحانيين لا يغتمون ) (7) .
  الكاشاني في المحجة البيضاء 7 : 107 .

-------------------------------
(1) المحجة البيضاء 8 : 67 و 88 ، والبحار ، 82 : 142 / 26 .
(2) المحجة البيضاء 8 : 88 .
(3) روى الكليني نحوه في الكافي 2 : 203 / 14 ، وأخرجه المجلسي في البحار 82 : 143 .
(4) في ( ش ) : يرضى الله عنا .
(5) المحجة البيضاء 8 : 88 ، والبحار 82 : 143 .
(6) المحاسن : 252 / 273 ، مشكاة الانوار : 11 ، عدة الداعي : 167 ، المستدرك على الصحيحين 1 : 495 باختلاف يسير .
(7) أخرجه المجلسي في البحار 82 : 143 .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 81 _

  وروي : أن موسى عليه السلام قال : ( يا ربّ ، دلّني على أمرفيه رضاك عني أعمله ، فأوحى الله تعالى ، اليه : أن رضاي في كرهك ، وأنت ما تصبر على ما تكره ، قال : يا ربّ ، دلّني عليه ، قال : فإنّ رضاي في رضاك بقضائي ) (1) .
  وفي مناجاة موسى عليه السلام : ( أي ربّ ، أيّ خلقك أحبّ إليك؟ قال من إذا أخذت حبيبه سالمني ، قال : فأيّ خلق أنت عليه ساخط؟ قال : من يستخيرني في الأمر ، فإذا قضيت له سخط قضائي ) .
  وروي ما هو أشد منه ، وذاك أن الله تعالى قال :
  ( أنا الله ، لا إله إلاّ أنا ، من لم يصبر على بلائي ، ولم يرض بقضائي ، فليتخذ رباً سوائي ) (2) .
  ويروى : أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام : ( يا داود ، تريد وأريد ، وإنما يكون ما أريد ، فإن سلمت لما أريد كفيتك ما تريد ، وإن لم تسلم لما أريد أتعبتك فيما تريد ، ولا يكون إلا ما أريد ) (3) .
  وعن ابن عباس : ( أول ما يدعى إلى الجنة يوم القيامة ، الذين يحمدون الله تعالى على كل حال ) (4) .
  وعن ابن مسعود : لئن الحسن جمرة أحرقت ما أحرقت ، وأبقت ما أبقت ، أحب إلي من أن أقول لشيء كان : ليته لم يكن ، أو لشيء لم يكن : ليته كان .
  وعن أبي الدرداء : ( ذروة الايمان الصبر للحكم ، والرضا بالقدر ) .
  وقال صلى الله عليه وآله : ( إن الله تعالى بحكمته وجلاله جعل الروح والفرج في الرضا واليقين ، وجعل الغم والحزن في الشك والسخط ) (5) .
  وقال علي بن الحسين عليهما السلام : ( الزهد عشرة أجزاء : أعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع ، وأعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين ، وأعلى درجة اليقين أدنى درجة

-------------------------------
(1) دعوات الراوندي : 71 ، والبحار 82 : 143 .
(2) دعوات الراوندي : 74 ، الجامع الصغير 2 : 235 / 6010 باختلاف في الفاظه .
(3) التوحيد : 337 / 4 .
(4) أخرجه المجلسي في البحار 82 : 143 .
(5) المحاسن : 17 / 47 ، مشكاة الانوار : 12 و 13 ، الجامع الصغير 1 : 382 / 2493 ، منتخب كنز العمال 1 : 178 و 256 و 257 .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 82 _

  الرضا ) (1) .
  وقال الصادق عليه السلام : ( صفة الرضا أن ترضى المحبوب والمكروه ، والرضا شعاع نور المعرفة ، والراضي فان عن جميع اختياره ، والراضي حقيقة هو المرضي عنه ، والرضا اسم يجمع فيه معاني العبودية ، وتفسير الرضا سرور القلوب .
  سمعت أبي محمد الباقر عليه السلام يقول : تعلق القلب بالموجود شرك ، وبالمفقود كفر ، وهما خارجان عن سنة الرضا ، وأعجب ممن يدعي العبودية لله كيف ينازعه في مقدوراته ؟ ! حاشا الراضين العارفين عن ذلك ) .
  وروي : أن جابر بن عبد الله الانصاري ـ رضي الله عنه ـ ابتلي في آخر عمره بضعف الهرم والعجز ، فزاره محمد بن علي الباقر عليه السلام ، فسأله عن حاله ، فقال : أنا في حالة أحب فيها الشيخوخة على الشباب ، والمرض على الصحة ، والموت على الحياة .
  فقال الباقر عليه السلام : ( أما أنا يا جابر ، فإن جعلني الله شيخاً أحب الشيخوخة ، وإن جعلني شاباً أحب الشيبوبة (2) ، وإن أمرضني أحب المرض ، وإن شفاني أحب الشفاء والصحة ، وإن أماتني أحب الموت ، وإن أبقاني أحب البقاء ) .
  فلما سمع جابر هذا الكلام منه قبل وجهه ، وقال صدق رسول الله صلى الله عليه وآله ، فإنه قال : ( ستدرك لي ولداً اسمه اسمي ، يبقر العلم بقراً كما يبقر الثور الارض ) ولذلك سمي باقر علم الأولين والآخرين ، اي شاقه .
  وروى الكليني بإسناده إلى أبي عبد الله عليه السلام ، أنه قال : ( رأس طاعة الله الصبر والرضى عن الله فيما أحب العبد أو كره ، ولا يرضى عبد عن الله فيما أحب وكره ، إلا كان خيراً له فيما أحب أو كره ) (3) .
  وبإسناده عنه عليه السلام قال : ( أعلم الناس بالله ـ تعالى ـ أرضاهم بقضاء الله ـ عزوجل ـ ) (4) .
  وبإسناده عنه عليه السلام قال : ( قال الله تعالى : عبدي المؤمن لا أصرفه في شيء إلا جعلته خيراً له ، فليرض بقضائي ، وليصبر على بلائي ، ويشكر نعمائي ، أكتبه

-------------------------------
(1) الكافي 2 : 51 / 10 و 104 / 4 ، روضة الواعظين : 432 ، مشكاة الانوار : 113 .
(2) كذا ، ولعل صحتها الشبيبة : وهي الحداثة وسن الشباب ، اُنظر ( الصحاح ـ شبب ـ 1 : 151 ) .
(3) الكافي 2 : 49 / 1 .
(4) الكافي 2 : 49 / 2 .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 83 _

  ـ يا محمد ـ من الصديقين عندي ) (1) .
  وعنه عليه السلام قال : ( في ما أوحى الله عزوجل إلى موسى عليه السلام : يا موسى بن عمران ، ما خلقت خلقاً أحب إلي من عبدي المؤمن ، فإني إنما أبتليه لما هو خير له ، وأعافيه لما هو خير له ، وأزوي عنه لما هو خير له ، وأنا أعلم بما يصلح عليه عبدي ، فليصبر على بلائي ، وليشكر نعمائي وليرض بقضائي ، أكتبه في الصديقين عندي ، إذا عمل برضاي ، وأطاع أمري ) (2) .
  وقيل للصادق عليه السلام : بأي شيء يعلم (3) المؤمن بأنه مؤمن ؟ قال : ( بالتسليم لله ، والرضا فيما ورد عليه من سرور أو سخط ) (4) .
  وروي في الإسرائيليات : أن عابداً عبد الله تعالى دهراً طويلاً ، فرأى في المنام : فلانة رفيقتك في الجنة ، فسأل عنها ، واستضافها ثلاثاً لينظر إلى عملها ، فكان يبيت قائماً ، وتبيت نائمة ، ويظل صائماً ، وتظلّ مفطرة ، فقال لها : أما لك عمل غير ما رايت ؟ فقالت : ما هو والله غير ما رأيت ، ولا أعرف غيره ، فلم يزل يقول : تذكري ، حتى قالت : خصيلة واحدة ، هي إن كنت في شدة لم أتمن أن أكون في رخاء ، وإن كنت في مرض لم أتمن أن أكون في صحة ، وإن كنت في شمس لم أتمنّ أن أكون في الظل ، فوضع العابد يديه على رأسه ، وقال : أهذه خصيلة ؟ هذه ـ والله ـ خصلة عظيمة يعجز عنها العباد .

-------------------------------
(1) الكافي 2 : 50 / 6 .
(2) الكافي 2 : 51 / 7 ، أمالي المفيد : 93 / 2 ، أمالي الطوسي 1 : 243 ، المؤمن : 17/ 9 ، التمحيص 55 / 108 ، مشكاة الانوار : 299 .
(3) في هامش ( ح ) : يعرف .
(4) الكافي 2 : 52 / 12 .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 84 _

  فصل :
  مرتبة الرضا عالية جداً على مرتبة الصبر ، بل نسبة الصبر إلى الرضا عند أهل الحقيقة ، نسبة المعصية إلى الطاعة ، فإن المحبة تقتضي اللّذة بالبلاء ، لأنّه يجد في البلاء نفسه على ذكر من محبوبه ، فيزيد قربه وأنسه .
   الصبر يقتضي كراهة البلاء واستصعابه حتى يوجب الصبر عليه ، والكراهة تنافي الأنس ، فتبين بذلك أنّ الصبر والمحبة متنافيان .
  وأيضاً ، فإنّ الصبر إظهار التجلّد ، وهو في مذهب المحبّة من أشد المنكرات نكراً ، وأظهر علامات العداوة طراً ، كما قيل :
ويحسن إظهار التجلّد للعدى      ويقبح إلا العجز عند الأحبة
  ومن هنا قال أهل الحقيقة : الصبر من أصعب المنازل على العامّة ، وأوحشها في طريق المحبة ، وأنكرها في طريق التوحيد .
  وإنّما كان أصعب عند العامة ، لأن العامي لم يتدرب بالرياضة ، ولم يتحنّك بالصبر على البلاء ، ولم يتعوّد بقمع النفس ، فلم يحتمل البلاء ، ولم يكن من أهل المحبة حتى يتلذّذ بالبلاء ، فإذا امتحنه الحق سبحانه بالبلاء ـ وهو في مقام النفس ـ لم يحتمل البلاء وغلبه الجزع ، وصعب عليه حبس النفس عن إظهاره لعدم طمأنينتها .
  وإنّما كان أوحش المنازل في طريق المحبة ، لأنّ المحبة تقتضي الأنس بالمحبوب ، والإلتذاذ بالبلاء ، لشهود المتبلى فيه وإيثار مراد المحبوب ، والصبر يقتضي كراهة البلاء كما مرّ ، فيتنافيان .
  وإنّما كان أنكر في مقام التوحيد ، لأنّ الصابر يدّعي قوة الثبات ، ودعوى الثبات والتجلّد من رعونات (1) النفس ، والتوحيد يقتضي فناء النفس ، فيكون أنكر لأنّ إثبات النفس في طريق التوحيد من أقبح المنكرات ، بل الرضا مع عظم قدره وعلوّ أمره عند أهل التحقيق في التوحيد من أوائل مسالكه ، لأنّ سلوكهم في الفناء في التوحيد بذواتهم ، والرضا هو فناء الإرادة في إرادة الحق تعالى ، والوقوف الصادق مع مراد الله تعالى ، وفناء الصفة قبل فناء الذات .
  وقد تبيّن لك بذلك ما بين الصبر والرضا من المراتب البعيدة والمسالك الشديدة .

-------------------------------
(1) في ( ح ) : مرغوبات .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 85 _

  فصل :
  للرضا ثلاث درجات ، مترتبة في القوّة ترتّبها في اللّفظ :
  الدرجة الاولى : أن ينظر إلى موقع البلاء والفعل الذي يقتضي الرضا ، ويدرك موقعه ، ويحسّ بألمه ، ولكن يكون راضياً به ، بل راغباً فيه ، مريداً له بعقله ، وإن كان كارهاً له بطبعه ، طلباً لثواب الله تعالى عليه ، ومزيداً لزلفى لديه ، والفوز بالجنّة التي عرضها السموات والأرض ، وقد أعدت للمتقين .
  وهذا القسم من الرضا هو رضا المتقين .
  ومثاله مثال من يلتمس الفصد والحجامة من الطبيب العالم بتفاصيل أمراضه وما فيه اصلاحه ، فإنّ‍ه يدرك ألم ذلك الفعل ، إلاّ أنّه راض به ، وراغب فيه ، ومتقلّد من الفصّاد منةً عظيمة بفعله .
  ومثله من يسافر في طلب الربح ، فإنّه يدرك مشقّة السفر ، ولكن حبّه لثمرة سفره طيّب عنده مشقّة السفر ، وجعله راضياً به ، ومهما أصابته بليّة من الله تعالى ـ وكان له يقين بأنّ ثوابه الذي ادخر له فوق مافاقه ـ رضي به ، ورغب فيه ، وأحبّه ، وشكرالله تعالى عليه .
  الدرجة الثانية : أن يدرك الألم كذلك ، ولكنّه أحبّه لكونه مراد محبوبه ورضاه ، فإنّ من غلب عليه الحب كان جميع مراده وهواه ما فيه رضا محبوبه ، وذلك موجود في الشاهد بالنسبة إلى حبّ الخلق بعضهم بعضاً ، قد تواصفه المتواصفون في نظمهم ونثرهم ، ولا معنى له إلاّ ملاحظة حال الصورة الظاهرة بالبصر .
  وما هذا الجمال إلاّ جلد على لحم ودم مشحون بالأقذار والأخباث ، بدايته من نطفة مذرة (1) ، ونهايته جيفة قذرة ، وهو فيها بين ذلك يحمل العذرة .
  والناظر لهذا الجمال الخسيس هو العين الخسيسة ، التي تغلط في ما ترى كثيراً ، فترى الصغير كبيراً ، والكبير صغيراً ، والبعيد قريباً ، والقبيح جميلاً .
  فإذا تصوّر الإنسان استيلاء هذا الحبّ ، فمن أين يستحيل ذلك في حبّ الجمال الأزليّ الأبديّ ، الذي لاينتهي كماله المدرك بعين البصيرة ، التي لايعتريها الغلط ، ولا يزيلها الموت ، بل يبقى بعد الموت حيّاً عندالله ، فرحاً مسروراً برزق الله ، مستفيداً

-------------------------------
(1) مذرة : خبيثة ، من التمذّر ، وهو خبث النفس ( مجمع البحرين ـ مذر ـ 3 : 480 ) .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 86 _

  بالموت مزيد تنبّه واستكشاف ، وهذا أمر واضح من حيث الإعتبار ، وتشهد له جملة من الآثار ، وردت من أحوال المحبيّن وأقوالهم ، يأتي بعضها إن شاءالله تعالى ، وهذه مرتبة المقرّبين .
  الدرجة الثالثة : أن يبطل أحساسه بالألم ، حتى يجري عليه المؤلم ولايحس ، وتصيبه جراحة ولايدرك ألمه .
  ومثاله الرجل المحارب ، فإنّه في حال غضبه أو حال خوفه قد تصيبه جراحة وهو لا يحسّ بها ، حتى إذا رأى الدم استدلّ به على الجراحة ، بل الذي يعدو في شغل مريب قد تصيبه شوكة في قدمه ، ولا يحسّ بألمه لشغل قلبه ، بل الذي يحجم ، أو يحلق رأسه بحديدة كالّة يتألم بها ، فإن كان قلبه مشغولاً بمهمّ من مهماته ، يفرغ الحجام أو الحالق ، وهو لا يشعربه .
  وكلّ ذلك لأنّ القلب إذا صار مستغرقاً بأمر من الأمور لم يدرك ماعداه .
  ونظائر ذلك في هموم أهل الدنيا ، واشتغالهم بها ، واكبابهم عليها ، حتى لا يتألمون ، ولا يحسّون بالجوع والعطش والتعب ـ لذلك ـ كثير مشاهد عياناً ، فكذلك العاشق المستغرق الهم بمشاهدة محبوبه ، قد يصيبه ما كان يتألّم به ، أو يغتمّ لولا عشقه ، ثمّ لا يدرك غمّه وألمه ، لفرط استيلاء الحب على قلبه ، هذا إذا أصابه من غير حبيبه ، فكيف إذا أصابه من حبيبه ؟ !
  وشغل القلب بالحبّ والعشق من أعظم الشواغل ، وإذا تصوّر هذا في ألم يسير بسبب حبّ خفيف ، تصوّر في الألم العظيم بالحبّ العظيم ، فإنّ الحب أيضا يتصوّر تضاعفه في القوة ، كما يتصوّر تضاعف الألم ، وكما يقوى حب الصور الجميلة المدركة بحاسّة البصر ، فكذا يقوى حب الصور الجميلة الباطنة المدركة بنور البصيرة الربوبيّة ، وجلالها لا يقاس بها جلال ، فمن انكشف له شيء منه فقد يبهره ، بحيث يدهش ويغشى عليه ، فلا يحس بما يجري عليه .
  كما روي عن امرأة أنها عثرت فانقطع ظفرها ، فضحكت ، فقيل لها : أما تجدين الوجع؟ فقالت : إن لذّة ثوابه أزالت عن قلبي مرارة وجعه .
  وكان بعضهم يعالج غيره من علّة فنزلت به ، فلم يعالج نفسه ، فقيل له في ذلك ، فقال : ضرب الحبيب لا يوجع .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 87 _

  فصل :
  في ذكر جماعة من السلف ، نقل العلماء رضاهم بالقضاء مضافاً إلى ما تقدّم .
  إعلم أنّ أكثر ما أوردناه في باب الصبر عن جماعة الأكابر تضمّن الرضا بالقضاء ، بخصوص موت الولد ونحوه ، ولنذكر هنا اُموراً عامة : لمّا اشتد البلاء على أيوب عليه السلام قالت امرأته : ألا تدعو ربّك ، فيكشف ما بك؟ فقال لها : ( يا امرأة إنّي عشت في الملك والرخاء سبعين سنة ، فأنا أريد أن أعيش مثلها في البلاء ، لعلّي كنت أدّيت شكرما أنعم الله عليّ ، وأولى بي الصبر على ما أبلى ) (1) .
  وروي أن يونس عليه السلام قال لجبرئيل عليه السلام : ( دلّني على أعبد أهل الأرض ) ، فدلّه على رجل قد قطع الجذام يديه ورجليه ، وذهب ببصره وسمعه ، وهو يقول :
  إلهي! متّعتني بهما ما شئت ، وسلبتني ماشئت ، وأبقيت لي فيك الأمل ، يابرٌّيا وصول (2) .
  وروي أنّ عيسى عليه السلام مرّ برجل أعمى أبرص مقعد مضروب الجنبين بالفالج ، وقد تناثر لحمه من الجذام ، وهو يقول : الحمدلله الذي عافاني مما ابتلى به كثيراً من خلقه .
  فقال له عيسى عليه السلام : ( يا هذا ، وأي شيء من البلاء أراه مصروفاً عنك؟ ) .
  فقال : يا روح الله ، أنا خير ممّن لم يجعل الله في قلبه ما جعل في قلبي من معرفته .
  فقال له : ( صدقت ، هات يدك ) فناوله يده ، فإذا هو أحسن الناس وجهاً ، وأفضلهم هيئة ، قد أذهب الله عنه ما كان به ، فصحب عيسى عليه السلام ، وتعبد معه (3) .
  وقال بعضهم ، قصدت عبادان (4) في بدايتي ، فإذا أنا برجل أعمى مجذوم مجنون

-------------------------------
(1) روي باختلاف في ألفاظ في تنبيه الخواطر 1 : 40 ، وارشاد القلوب : 127 .
(2 و 3) أخرجه المجلسي في البحار 82 : 153 .
(4) عبادان : بلد تحت البصرة. ( معجم البلدان 4 : 74 ) .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 88 _

  قد صرع ، والنمل يأكل لحمه ، فرفعت رأسه ، ووضعته في حجري ، وأنا أردد الكلام ، فلمّا أفاق قال : من هذا الفضوليّ الذي يدخل بيني وبين ربي؟ فوحقّه لو قطّعني إرباً إرباً ، ما ازددت له إلاّ حبّاً .
  وقطعت رجل بعضهم من ركبته من إكلة (1) خرجت بها ، فقال : الحمدلله الذي أخذ منّي واحدة ، وترك ثلاثاً ، وعزّتك لئن كنت أخذت لقد أبقيت ، ولئن كنت ابتليت لقد عافيت ، ثمّ لم يدع ورده تلك اللّيلة .
  وقال بعضهم ، نلت من كل مقام حالاً إلاّ الرضا بالقضاء ، فما لي منه إلاّ مشامّ الريح ، وعلى ذلك لو أدخل الخلائق كلّهم الجنة ، وأدخلني الناركنت بذلك راضياً ، وقيل لبعض العارفين : نلت غاية الرضا عنه ، فقال : أما الغاية فلا ، ولكن مقام من الرضا قد نلته ، لوجعلني الله جسراً على جهنم ، تعبر الخلائق عليّ إلى الجنة ، ثمّ ملأ بي جهنّم لأحببت ذلك من حكمه ، ورضيت به من قسمه .
  وهذا كلام من علم أنّ الحبّ قد استغرق همّه ، حتى منعه الإحساس بألم النار ، واستيلاء هذه الحالة غير محال في نفسه ، لكنّه بعيد من الأحوال الضعيفة في هذا الزمان ، ولاينبغي أن يستنكر الضعيف المحروم حال الأقوياء ، ويظنّ أنّ ما هو عاجز عنه يعجز عنه غيره من الأولياء .
  وكان عمران بن حصين (2) ـ رضي الله عنه ـ استسقى بطنه ، فبقي ملقى على ظهره ثلاثين سنة لا يقوم ولا يقعد ، قد ثقب له في سريره موضع لقضاء الحاجة (3) ، فدخل عليه أخوه العلاء فجعل يبكي لما يرى من حاله ، فقال : لم تبكي؟ قال : لأنّي أراك على هذه الحالة العظيمة ، قال : لا تبك ، فإن أحبّه لي الله تعالى أحبه ، ثمّ قال : أحدّثك شيئاً لعلّ الله (4) ينفعك به ، واكتم عليّ حتى أموت ، إنّ الملائكة لتزورني (5) فآنس بها ، وتسلّم عليّ فأسمع تسليمها ، فأعلم بذلك أنّ هذا البلاء ليس بعقوبة ، إذ هو سبب لهذه النعمة

-------------------------------
(1) الإكلة : الحكة ، ( الصحاح ـ أكل ـ 4 : 1624 ) .
(2) في ( ش ) و ( ح ) : عمر بن حصين ، والصواب ما أثبتناه وهو عمران بن حصين بن عبيد بن خلف الخزاعي الكعبي ، اسلم عام خيبر ، بعثه عمر بن الخطاب إلى البصرة توفي سنه 52 أو 53 للهجرة ، راجع ( اسد الغابة 4 : 137 ، تهذيب التهذيب 8 : 125 ، الإصابة في تمييز الصحابة 3 : 26 ) .
(3) في ( ش ) : حاجته .
(4) في ( ش ) زيادة : أن .
(5) في ( ش ) : تزورني .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 89 _

  الجسمية ، فمن شاهد هذا في بلائه ، كيف لا يكون راضياً به (1) ؟
  وقال بعضهم : دخلنا على سويد بن شعبة ، فرأينا ثوباً ملقى ، فما ظننّا أنّ تحته شيئاً حتى كشف ، فقالت امرأته : أهلك فداؤك ، أما نطعمك أما نسقيك؟ فقال : طالت الضجعة (2) ، ودبرت الحراقيف (3) ، وأصبحت نضواً (4) ، لا اطعم طعاماً ، ولا أشرب شراباً منذ كذا ـ فذكر أياماً ـ وما يسرّني أنّي نقصت من هذا قلامة ظفر .
  وروي عن بعضهم ، وكان قاسى المرض ستّين سنة ، فلمّا اشتدّ عليه حاله دخل عليه بنوه ، فقالوا : أتريد أن تموت ، حتى تستريح ممّا أنت فيه؟ قال : لا ، قالوا : فما تريد ؟ قال : ما لي إرادة ، إنّما أنا عبد ، وللسيّد الإرادة في عبده ، والحكم في أمره .
  وقيل : اشتدّ المرض بفتح الموصلي ، وأصابه مع مرضه الفقر والجهد ، فقال : إلهي وسيدي ، ابتليتني بالمرض والفقر ، فهذا فعالك بالأنبياء والمرسلين ، فكيف لي أن اؤدي شكرما أنعمت به عليّ ؟

-------------------------------
(1) اسد الغابة 4 : 137 نحوه .
(2) الضجعة : هيئة الإضطجاع، ( لسان العرب 8 : 219 ) .
(3) الحرقفة : عظم الحجبة ، وهي رأس الورك ، والجمع ، الحراقف. ( لسان العرب 9 : 46 ) .
(4) النّضو : المهزول، ( لسان العرب 15 : 330 ) .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 90 _

  فصل :
  إعلم أنّ الدعاء يدفع البلاء ، وزوال المرض وحفظ الولد لاينافي الرضاء بالقضاء ، فقد تعبدنا الله سبحانه بالدعاء ، وندبنا إليه وحثّنا عليه ، وجعل تركه استكباراً وفعله عبادة ووعد بالإجابة ودعا الأنبياء والأئمة عليهم السلام ، وأمروا به ، وما نقل عنهم خارج عن حدالحصر ، وقدأثنى الله تعالى على الداعين من عباده ، فقال : ( ويدعوننا رغباً ورهباً ) (1) .
  ومن وظائف الداعي أن يكون في دعائه ممتثلاً لأمر ربّه تبارك وتعالى بالدعاء في طلب ما أمره (2) بطلبه ، وأنّه لولا أمره به وإذنه له فيه لما اجترئ على التعرّض لمخالفة قضائه ، وفي الحقيقة هذا نوع من الرضاء لمن فهم مواضع (3) الرضاء ، وأدّب نفسه ، وقام بوظائف الدعاء .
  ومن علاماته أنّه إذا لم يجب إلى مطلوبه لا يتألّم من ذلك ، من حيث عدم إجابته ، لجواز أن يكون المدعو به مشتملأ على مفسدة لا يعلمها إلاّ الله تعالى ، كما ورد أنّ العبد ليدعو الله تعالى بالشيء حتى ترحمه الملائكة وتقول : إلهي ارحم عبدك المؤمن ، وأجب دعوته ، فيقول الله تعالى : كيف أرحمه من شي به أرحمه ؟
  نعم ، لو استوحش من حيث احتمال أن يكون السبب الذي أوجب ردّ دعائه بعده عن الله تعالى ، واستحقاقه للخيبة والإجباه (4) والطرد والإبعاد ، فلاحرج ، فإن كمال المؤمن أن يكون ماقتاً لنفسه مزرياً عليها حتى لو اجيبت دعوته ، فلا يظنّن أنّ ذلك من كرامته على الله تعالى وقربه منه ، بل يجوز أن يكون ذلك من بغض الله تعالى وكراهته لصوته ، وتأذّي الملائكة برائحته ، فتسأل الله تعالى أن يعجّل بإجابته (5) لتستريح منه .

-------------------------------
(1) الأنبياء 21 : 90 .
(2) في ( ش ) : ما أمر .
(3) في ( ش ) : مواقع .
(4) الإجباه : الإستقبال بالمكروه ،( لسان العرب ـ جبه ـ 13 : 483 ) .
(5) في ( ش ) : اجابته .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 91 _

  وكذلك قد يكون سبب تأخير الإجابة ، من محبة الله تعالى وملائكته لصوته ، وتلذّذهم بمناجاته ، فتسأل الله تعالى تأخير اجابته (1) ، كذلك كما ورد في الأخبار ، فالمؤمن أبداً بين رجاء وخوف ، فإنّ بهما قوام الأعمال ، والإنزجار عن المعاصي ، والرغبة في الطاعات .

-------------------------------
(1) في ( ح ) : حاجته .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 92 _

الباب الرابع : في البكاء :
  إعلم أنّ البكاء بمجرّده غير مناف للصبر ولا للرضا بالقضاء ، وإنّما هو طبيعة بشرية ، وجبلة إنسانية ، ورحمة رحمية أو حبيبية فلا حرج في إبرازها ولا ضرر في إخراجها ، ما لم تشتمل على أحوال تؤذن بالسخط وتنبىء عن الجزع وتذهب بالأجر ، من شقّ الثوب ولطم الوجه وضرب الفخذ وغيرها .
  وقد ورد البكاء في المصائب عن النبيّ صلّى الله عليه وآله ، ومن قبله من لدن آدم عليه السلام ، وبعده من آله وأصحابه مع رضاهم وصبرهم وثباتهم .
  فأوّل من بكى آدم عليه السلام على ولده هابيل ، ورثاه بأبيات مشهورة ، وحزن عليه حزناً كثيراً ، وإن خفي شيء فلا يخفى حال يعقوب عليه السلام ، حيث بكى حتى ابيضّت عيناه من الحزن (1) على يوسف عليه السلام .
  ومن مشاهير الأخبار ما روي عن الصادق عليه السلام ، أنّه قال : ( إنّ زين العابدين عليه السلام بكى على أبيه أربعين سنة صائماً نهاره ، قائماً ليله ، فإذا حضر الإفطار جاء غلامه بطعامه وشرابه ، فيضعه بين يديه ، ويقول : كل يا مولاي ، فيقول : قتل ابن رسول الله جائعاً ، قتل ابن رسول الله عطشاناً ، فلا يزال يكرر ذلك ، ويبكي حتى يبل طعامه من دموعه ، فلم يزل كذلك حتى لحق بالله عزّ وجلّ ) (2) .
  وروي عن بعض مواليه أنّه قال : برز يوماً إلى الصحراء فتبعته ، فوجدته قد سجد على حجارة خشنة ، فوقفت وأنا أسمع شهيقه وبكائه ، فأحصيت عليه ألف مرة ، وهو يقول : ( لاإله إلا الله حقّاً حقاً ، لاإله إلاّ الله تعبّداً ورقاً ، لا إله إلاّ الله إيماناً وصدقاً ) ثمّ رفع رأسه من سجوده وإنّ لحيته ووجهه قد غمر بالماء من دموع عينيه ، فقلت : يا سيدي ، ما آن لحزنك أن ينقضي ، ولبكائك أن يقل ؟
  فقال لي : ويحك ، إنّ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام كان نبياً ابن نبي ابن نبي ، له إثنا عشرابناً ، فغيّب الله واحداً منهم ، فشاب رأسه من الحزن ، واحدودب ظهره من الغمّ ، وذهب بصره من البكاء ، وابنه حيّ في دارالدنيا ، وأنا رأيت أبي وأخي وسبعة عشر من أهل بيتي صرعى مقتولين فكيف ينقضي حزني ، ويقل

-------------------------------
(1) في ( ش ) زيادة : فهو كظيم .
(2) اللهوف في قتلى الطفوف : 87 .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 93 _

  بكائي ؟ ! ) (1) .
  وعن أنس بن مالك قال : دخلت مع رسول الله صلّى الله عليه وآله على أبي سيف القين ، وكان ظئراً (2) لإبراهيم عليه السلام ، فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وآله يقبله ، ويشمّه (3) ، ثمّ دخل عليه بعد ذلك وإبراهيم عليه السلام يجود بنفسه ، فجعلت عينا رسول الله صلّى الله عليه وآله تذرفان ، فقال له عبدالرحمن بن عوف : وأنت يا رسول الله (4)؟ فقال : ( يا ابن عوف ، إنّها رحمة ـ ثمّ أتبعها بأخرى ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله ـ : العين تدمع ، والقلب يحزن ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، وإنّا لفراقك ـ يا إبراهيم ـ لمحزونون ) (5) .
  وعن أسماء ابنة زيد قالت : لمّا توفي ابن رسول الله صلّى الله عليه وآله ـ إبراهيم عليه السلام ـ بكى رسول الله صلّى الله عليه وآله. فقال له المعزي : أنت أحقّ من عظّم الله عزّ وجلّ حقّه ، فقال رسول الله صلّىالله عليه وآله : ( تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب ، لولا أنّه وعد حق وموعود جامع وأنّ الآخر تابع للأوّل ، لوجدنا عليك ـ يا إبراهيم ـ أفضل ممّا وجدناه ، وإنّا بك لمحزونون ) (6) .
  وعن جابر بن عبدالله الأنصاري رضي الله عنه قال : أخذ رسول الله صلّى الله عليه وآله بيد عبدالرحمن بن عوف فأتى إبراهيم وهو يجود بنفسه ، فوضعه في حجره ، فقال له : ( يا بني ، إنّي لا أملك لك من الله تعالى شيئاً ) وذرفت عيناه ، فقال له عبدالرحمن : يا رسول الله تبكي ، أولم تنه عن البكاء ؟ فقال صلّى الله عليه وآله : ( إنّما نهيت عن النوح ، عن صوتين أحمقين فاجرين : صوت عند نغمة لعب ولهو ومزامير شيطان ، وصوت عند مصيبة ، خمش وجوه وشق جيوب ورنّة شيطان ، إنّما هذه رحمة ، ومن لا يرحم لايرحم ، ولولا أنّه أمر حق ووعد صدق وسبيل نأتيه وأنّ آخرنا سيلحق أوّلنا ، لحزنّا عليك حزناً أشدّ من هذا ، وإنّا بك لمحزونون ، تبكي العين ويحزن القلب ، ولانقول

-------------------------------
(1) اللهوف في قتلى الطفوف : 88 .
(2) الظئر : زوج المرضعة. ( لسان العرب 4 : 515 ) .
(3) في ( ح ) : ويضمه الى صدره .
(4) في ( ح ) زيادة : تبكي .
(5) صحيح البخاري 2 : 105 .
(6) سنن ابن ماجة 1 : 506/ 1589 ، ومنتخب كنز العمال 6 : 265 .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 94 _

  ما يسخط الرب عزّ وجلّ ) (1) .
  وعن أبي امامة قال : جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وآله حين توفي ابنه وعيناه تدمعان ، فقال : يا نبي الله ، تبكي على هذا السخل؟ والذي بعثك بالحق لقد دفنت اثني عشر ولداً في الجاهلية كلّهم أشب منه ، أدسّه في التراب ، فقال النبي صلّى الله عليه وآله : ( فماذا ، إن كانت الرحمة ذهبت منك ، يحزن القلب وتدمع العين ولا نقول ما يسخط الرب وإنّا على إبراهيم لمحزونون ) .
  وعن محمود بن لبيد قال : انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم بن رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فقال الناس : انكسفت الشمس لموت إبراهيم ، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وآله حين سمع ذلك فحمدالله ، وأثنى عليه ، ثمّ قال : ( أمّا بعد ـ أيّها الناس ـ أنّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله عزّ وجلّ ، لا ينكسفان لموت أ حد ولا لحياته ، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى المساجد ) ودمعت عيناه ، فقالوا : يا رسول الله تبكي ، وأنت رسول الله؟ فقال : ( إنّما أنا بشر ، تدمع العين ويفجع القلب ولا نقول مايسخط الرب ، والله ـ يا إبراهيم ـ إنّا بك لمحزونون ) (2) .
  وعن خالد بن معدان ، قال لمّا مات إبراهيم بن النبي صلّى الله عليه وآله بكى ، فقيل : أتبكي يا رسول الله؟ فقال : ( ريحانة وهبها الله لي ، وكنت أشمّها ) .
  وقال صلّى الله عليه وآله يوم مات إبراهيم : ( ما كان من حزن في القلب أو في العين فإنّما هو رحمة ، وما كان من حزن باللّسان وباليد فهو من الشيطان ) (3) .
   وروى الزبير بن بكار : أنّ النبي صلّى الله عليه وآله لمّا خرج بإبراهيم خرج يمشي ، ثمّ جلس على قبره ، ثم دلّي ، فلمّا رآه رسول الله صلّى الله عليه وآله قد وضع في القبر دمعت عيناه ، فلمّا رأى الصحابة ذلك بكوا حتى ارتفعت أصواتهم ، فأقبل عليه أبوبكر فقال : يا رسول الله ، تبكي وأنت تنهى عن البكاء؟ فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله : ( تدمع العين ويوجع القلب ولا نقول ما يسخط الربّ عزّ وجلّ ) .

-------------------------------
(1) التعازي : 9/ 8 باختلاف يسير ، وروي باختلاف في ألفاظه في سنن الترمذي 2 : 237/ 1011 ، والجامع الكبير 1 : 290 ، وروي نحوه في منتخب كنز العمال 6 : 265 عن عبد بن حميد .
(2) روى نحوه الكليني في الكافي 3 : 208/ 7 عن علي بن عبدالله عن أبي الحسن موسى عليه السلام ، ورواه باختلاف في ألفاظه عن المغيرة بن شعبة البخاري في صحيحه 2 : 42 و 48 ، ومسلم في صحيحه 2 : 628 و 630 .
(3) الجامع الكبير 1 : 709 باختلاف يسير .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 95 _

  وعن السائب بن يزيد ، أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله لمّا مات ابنه الطاهر ذرفت عيناه ، فقيل : يا رسول الله ، بكيت؟ فقال صلّى الله عليه وآله : ( إنّ العين تذرف وإنّ الدمع يغلب ، وإنّ القلب يحزن ولا نعصي الله عزّوجلّ ) (1) .
  وروى مسلم في صحيحه : أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله زار قبر أمه ، فبكى وأبكى من حوله (2) .
  وروي : أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله لمّا مات عثمان بن مظعون كشف الثوب عن وجهه ، ثمّ قبّل ما بين عينيه ، ثمّ بكى طويلأ ، فلمّا رفع السرير قال : ( طوباك ـ يا عثمان ـ لم تلبسك الدنيا ، ولم تلبسها ) (3) .
  واشتكى سعد بن عبادة شكوى ، فأتاه رسول الله صلّى الله عليه وآله يعوده ، فلمّا دخل عليه وجده في غشيته ، فقال : ( أو قد مات؟ ) فقالوا : لا يا رسول الله ، فبكى رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فلمّا رأى القوم بكاءه بكوا ، فقال : ( ألا تسمعون؟ إنّ الله لا يعذّب بدمع العين ، ولا بحزن القلب ، ولكن يعذّب بهذا ـ وأشار إلى لسانه ـ أو يرحم ) (4) .
  وروي : أنّ ابنة لرسول الله صلّى الله عليه وآله بعثت إليه : إنّ ابنتي مغلوبة ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : ( إنّ لله ما أخذ ، ولله ما أعطى ) وجاءها في ناس من أصحابه ، فأخرجت إليه الصبيّة ، ونفسها يتقعقع (5) في صدرها ، فرقّ عليها ، وذرفت عيناه ، فنظر إليه أصحابه ، فقال : ( ما لكم تنظرون إليّ ؟ رحمة يضعها الله حيث يشاء ، إنّما يرحم الله من عباده الرحماء ) (6) .
  وعن اسامة بن زيد قال : اتي النبي صلّى الله عليه وآله بامامة بنت زينب ، ونفسها يتقعقع في صدرها ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : ( لله ما أخذ ، ولله ما اعطى ، وكلّ إلى أجل مسمّى ) وبكى ، فقال له سعد بن عبادة : تبكي ، وقد نهيت عن

-------------------------------
(1) ورد الحديث في الجامع الكبير 1 : 207 .
(2) صحيح مسلم 2 : 671 ، سنن النسائي 4 : 90 ، سنن أبي داود 3 : 218/ 3234 .
(3) ورد الحديث في الجامع الكبير 1 : 568 .
(4) صحيح البخاري 2 : 106 ، صحيح مسلم 2 : 636/ 924 باختلاف يسير .
(5) تقعقع : اضطرب وتحرك. ( القاموس المحيط ـ قعقع ـ 3 : 72 ) .
(6) صحيح البخاري 2 : 100 و 7 : 151 و 8 : 166 و 9 : 141 و 164 ، صحيح مسلم 2 : 635/ 923 ، التعازي : 10 ، سنن ابن ماجة 1 : 506/ 1588 ، سنن أبي داود 3 : 193/ 3125 ، سنن النسائي 4 : 22 باختلاف في ألفاظه .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 96 _

  البكاء! فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : ( إنّما هي رحمة يجعلها الله في قلوب عباده ، وإنّما يرحم الله من عباده الرحماء ) (1) .
  ولما اصيب جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه أتى رسول الله صلّى الله عليه وآله أسماء رضي الله عنها ، فقال لها : ( أخرجي إليّ ولد جعفر ، فخرجوا إليه : فضمّهم إليه وشمّهم ودمعت عيناه ، فقالت : يا رسول الله ، اصيب جعفر ؟ قال : نعم ، اُصيب اليوم ) (2) .
  قال عبدالله بن جعفر : أحفظ حين دخل رسول الله على اُمي ، فنعى إليها أبي ، ونظرت إليه وهو يمسح على رأسي ورأس أخي ، وعيناه تهراقان (3) الدموع حتى تقطر لحيته ، ثم قال : ( اللّهم إنّ جعفراً قد قدم إلى أحسن الثواب ، فأخلفه في ذريته بأحسن ماخلفت أحداً من عبادك في ذريته ) ثمّ إنّه عليه السلام قال : ( يا أسماء ، ألا اُبشرك؟ ) قالت : بلى بأبي أنت وأمي ، فقال : ( إنّ الله عزّ وجلّ جعل لجعفر جناحين ، يطيربهما في الجنة ) .
  وعن أبي عبدالله عليه السلام ، عن أبيه ، عن النبيّ صلّى الله عليه وآله ، أنّه لمّا جاءته وفاة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وزيد بن حارثة كان اذا دخل بيته بكى عليهما جدّاً ، وقال : ( كانا يحدّثاني ويؤنساني ، فجاء الموت فذهب بهما ) (4) .
  وعن خالد بن سلمة قال : لمّا جاء نعي زيد بن حارثة إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله أتى النبيّ صلّى الله عليه وآله منزل زيد ، فخرجت إليه بنية لزيد ، فلمّا رأت رسول الله صلّى الله عليه وآله خمشت في وجهها ، فبكى رسول الله صلّى الله عليه وآله وقال (5) : هاه هاه (6) ، فقيل : يا رسول الله ، ما هذا؟ قال : ( شوق الحبيب إلى حبيبه ) (7) .
  ولمّا مات سعد بن معاذ رضي الله عنه بكى عليه رسول الله صلّى الله عليه وآله

-------------------------------
(1) مسند أحمد 5 : 204 و 207 باختلاف يسير .
(2) المغازي للواقدي 2 : 766 باختلاف يسير .
(3) تهراقان : تجريان. ( لسان العرب 10 : 367 ) .
(4) الفقيه 1 : 113/ 527 باختلاف يسير .
(5) كذا ، ولعل المناسب : حتى قال .
(6) هاه هاه : حكاية صوت البكاء .
(7) مكارم الأخلاق : 22 .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 97 _

  كثيراً .
  وقال صلى الله عليه وآله لاُمّ سعد بن معاذ يوماً : ( ألا يرقأ (1) دمعك ويذهب حزنك فإن ابنك اهتز له العرش ) .
  قيل : وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله تذرف عيناه ، ويمسح وجهه ، ولا يسمع صوته (2) .
  وعن البراء بن عازب قال : بينما نحن مع رسول الله صلّى الله عليه وآله إذ بصر بجماعة ، فقال : ( على ما اجتمع هؤلاء؟ ) فقيل : على قبر يحفرونه ، قال : فبدر رسول الله صلّى الله عليه وآله بين يدي أصحابه مسرعاً حتى انتهى إلى القبر فجثا عليه ، قال : فاستقبلته من بين يديه لأنظر ما يصنع ، فبكى حتى بلّ الثرى من دموعه ، ثمّ أقبل علينا فقال : ( إخواني ، لمثل هذا فأعدّوا ) (3) .
  وعنه صلّى الله عليه وآله : ( العبرة لا يملكها أحد ، صبابة المرء على أخيه ) (4) .
  ولما انصرف النبي صلّى الله عليه وآله من أٌحد راجعاً إلى المدينة لقيته حمنة بنت جحش ، فنعى لها الناس أخاها عبدالله بن جحش ، فاسترجعت واستغفرت له ، ثمّ نعي لها خالها حمزة ، فاسترجعت واستغفرت له ، ثمّ نعي لها زوجها مصعب بن عمير ، فصاحت وولولت ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : ( إنّ لزوج المرأة منها لمكان ) لما رأى صبرها عن أخيها وخالها ، وصياحها على زوجها (5) .
  ثمّ مرّ رسول الله صلّى الله عليه وآله على دار من دور الأنصار من بني عبدالأشهل فسمع البكاء والنوائح على قتلاهم فذرفت عيناه وبكى ، ثم قال : ( لكن حمزة لا بواكي له ) فلمّا رجع سعد بن معاذ وأٌسيد بن حضير (6) إلى دار بني عبدالأشهل ، أمرانساءهم أن يذهبن فيبكين على عمّ رسول الله صلّىالله عليه وآله ، فلمّا سمع

-------------------------------
(1) يرقأ الدمع : يجف وينقطع. ( لسان العرب 1 : 88 ) .
(2) مسند أحمد 6 : 456 ، المستدرك على الصحيحين 3 : 206 ، الجامع الكبير 1 : 360 .
(3) مسند أحمد 4 : 294 ، وروي نحوه في سنن ابن ماجة 2 : 1403/ 4195 .
(4) الجامع الصغير 2 : 113/ 5135 ، وروي باختلاف يسير في الدرالمنثور 1 : 158 .
(5) السيرة النبوية لابن هشام 3 : 104 .
(6) في ( ح ) : أسيد بن حصين ، وفي ( ش ) : أسيد بن خضير ، والصواب ماأثبتناه ، وهو اُسيد بن حُضير ، أسلم قبل سعد بن معاذ على يد مصعب بن عمير بالمدينة توفي سنة 20 للهجرة ودفن بالبقيع ، راجع ( اُسد الغابة : 1 : 92 ، تهذيب التهذيب 1 : 347 ) .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 98 _

  رسول الله صلّى الله عليه وآله بكاءهن على حمزة خرج إليهن وهنّ على باب مسجده يبكين ، فقال لهن رسول الله صلّى الله عليه وآله : ( ارجعن ـ يرحمكن الله ـ قد واسيتنّ بأنفسكن ) .
  وروى الشيخ في (التهذيب) بإسناده إلى الصادق عليه السلام : ( إنّ إبراهيم خليل الرحمن سأل ربه أن يرزقه ابنة تبكيه بعد موته ) (1) .

-------------------------------
(1) التهذيب 1 : 465/ 1524 .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 99 _

  فصل :
  عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : ( ليس منّا من ضرب الخدود ، وشقّ الجيوب ) (1) .
  وعن أبي اُمامة : أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قال : ( لعن الله الخامشة وجهها ، والشاقة جيبها ، والداعية بالويل والثبور ) (2) .
  وعنه صلّى الله عليه وآله ، أنه نهى أن تتبع جنازة معها رانّة (3) .
  وعن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، قال : كبر مقتاً عندالله الأكل من غير جوع ، والنوم من غير سهر ، والضحك من غير عجب ، والرنّة عند المصيبة ، والمزمار عند النعمة (4) .
  وعن يحيى بن خالد : أنّ رجلأ أتى النبيّ صلّى الله عليه وآله ، فقال : مايحبط الأجر عند المصيبة؟ قال : ( تصفيق الرجل بيمينه على شماله ، والصبر عند الصدمة الأولى ، من رضي فله الرضا ، ومن سخط فله السخط ) (5) .
  وعن ام سلمة رضي الله عنها قالت : لمّا مات أبو سلمة رضي الله عنه قلت : غريب وفي أرض (غربة ، لأبكينّه) (6) بكاءً يتحدّث عنه ، فكنت قد تهيّأت للبكاء ، إذ أقبلت امرأة تريد أن تسعدني ، فاستقبلها رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فقال لها : ( أتريدين أن تدخلي الشيطان بيتاً أخرجه الله منه ) فكففت عن البكاء (7) .
  وعن الباقر عليه السلام : ( أشدّ الجزع الصراخ بالويل والعويل ، ولطم الوجه والصدر ، وجزّ الشعر ، ومن أقام النواح فقد ترك الصبر ، ومن صبر واسترجع وحمدالله ـ جلّ ذكره ـ فقد رضي بما صنع الله ، ووقع أجره على الله عزّ وجلّ ، ومن لم يفعل ذلك

-------------------------------
(1) مسند احمد 1 : 386 ، صحيح البخاري 2 : 104 ، صحيح مسلم 1 : 99/ 165 ، سنن ابن ماجة 1 : 504/ 1584 ، سنن النسائي 4 : 20 و 21 ، والبحار 82 : 93/ 45 .
(2) الجامع الصغير 2 : 405/ 7252 ، سنن ابن ماجة 1 : 505/ 1585 ، والبحار 83 : 93 .
(3) سنن ابن ماجة 1 : 504/ 1583 .
(4) الجامع الصغير 2 : 268/ 6216 .
(5) البحار 82 : 93 .
(6) في ( ح ) : غريبة لأبكين عليه .
(7) صحيح مسلم 2 : 635/ 922 .

مُسَكِنُ الفُؤادِ عند فقد الأحبة والأولاد _ 100 _

  جرى عليه القضاء وهو ذميم ، وأحبط الله عزوجل أجره (1) .
  وعن الصادق عليه السلام قال : ( قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : ضرب الرجل يده على فخذه إحباط لأجره ) (2) .

-------------------------------
(1) الكافي 3 : 222/ 1 .
(2) الكافي 3 : 224/ 4 باختلاف يسير .