ان اكبر واصعب امتحان كتبه الله تعالى على الانسان في هذه الحياة هو ابتلاء الانسان بنفسه ، وعلى اساس نجاح الانسان وتفوقه في هذه الامتحان يكون موقعه عند الله ، ومستقبله الدنيوي والاخروي ... من هنا كانت المعركة مع النفس اشق واخطر معركة يخوضها الانسان في حياته.
1 ـ فهي معركة حتمية لا خيار لاحد فيها ولا يستثنى احد منها حتى الانبياء والاوصياء والاولياء ... واذا كان الانسان يستطيع اجتناب المعارك والصراعات مع الآخرين بطريقة او اخرى فانه لافرار له من معركته مع نفسه.
ب ـ وهي معركة دائمة مساحتها طوال عمر الانسان منذ ان يدركه الوعي والى ان تفارقه الحياة ، ويحصل ان يكسب انسان المعركة ضد نفسه طيلة حياته ثم يخسرها في اللحظات الاخيرة من عمره !!
ج ـ كذلك فانها معركة شاملة تستوعب كل جوانب حياة الانسان ، ومختلف شؤونه ، وتمتد الى جميع الزوايا والتفاصيل ، فكراً واحساساً ، وعملاً وقولاً ، واشارة وصمتا ... حيث ان خطر الاهواء والشهوات النفسية يهدد سلامة معتقد الانسان وافكاره ، وصحة مشاعره واحساسيسه ، وصدق اقواله ومواقفه ، واستقامة تعامله وعلاقاته ...
د ـ والادهى من كل ذلك قوة الارتباط وشدة العلاقة ووثاقتها بين الانسان ونفسه ، فالنفس اقرب شيء للانسان ، وهي متداخلة معه وملتصقة به. وكم من صعب على الانسان ان يعايش عدوه ويتداخل معه ، ويكون قريبا منه ووثيق الصلة به ؟؟
لكل ذلك تصبح المعركة مع النفس اخطر معركة ، ويصدق تماماً ما قاله رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من ان جهاد النفس هو الجهاد الاكبر وهذا ما تؤكده النصوص التالية :
1 ـ يقول تعالى : ( وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فان الجنة هي المأوى )
(1) .
فالمنتصر على نفسه في معركته الحتمية الدائمة الشاملة معها يستحق الجائزة الكبرى وهي الجنة ، والوصول الى الجنة يستحق من الانسان كل ذلك التعب والمشقة والعناء ..
2 ـ وعن أمير المؤمنين علي ابن ابي طالب ( عليه السلام ) قال : ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعث سريه ـ فرقة عسكرية ـ فلما رجعوا قال : ( مرحباً بقوم قضوا الجهاد الاصغر وبقي عليهم الجهاد الاكبر ).
قيل : يا رسول الله وما الجهاد الاكبر ؟.
قال : ( جهاد النفس ) ثم قال : ( افضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جبينه )
(2) .
ولعل الفقرة الاخيرة اشارة الى احد جوانب خطورة المعركة مع النفس ، وهو التداخل والالتصاق الذي تحدثنا عنه ، فهي عدو داخل الانسان وبين
---------------------------
(1) سورة النازعات : ـ 40.
(2) المجلسي : بحار الانوار / ج 70 ص 64.
معرفة النفس
_ 39 _
جنبيه !!
3 ـ ويقول الامام علي ( عليه السلام ) : اشجع الناس من غلب هواه )
4 ـ وعن الامام عليه ( عليه السلام ) : ( املكوا انفسكم بدوام جهادها )
(1) .
5 ـ وعنه ايضا ( عليه السلام ) : ( صلاح النفس مجاهدة الهوى )
(2) .
6 ـ ويتحدث الامام علي ( عليه السلام ) عن بعض التكتيكات في المعركة مع النفس قائلا : ( اذا صعبت عليك نفسك فاصعب لها تذل لك ، وخادع نفسك عن نفسك تنقد لك )
(3) .
فعلى الانسان ان لا ينهزم بسرعة امام صعوبة المعركة ، ولا ان يستجيب لخداع العدو ، وبصموده تنهزم اهواء النفس وتنار ذليلة خانعة وبوعيه يفوت الفرصة على الاغراءات ويخدعها ...
7 ـ ويقول الامام علي ( عليه السلام ) : ( اقبل على نفسك بالادبار عنها )
(4) ذلك ان الاقبال على النفس بالاستجابة لرغباتها مهلك للانسان ونفسه ، بينما التعامل مع النفس بالتنكر لاهوائها هو لمصلحة النفس ...
8 ـ وعنه ايضا ( عليه السلام ) : ( دواء النفس الصوم عن الهوى والحمية عن لذات الدنيا )
(5) .
9 ـ وفي احدى خطبه يقول الامام علي ( عليه السلام ) :
( واعلموا انه ما من طاعة الله شيء الا يأتي في كره ، وما من معصية الله
---------------------------
(1 و 2 و 3) الري شهري : ميزان الحكمة : ج 10 ص 143.
(4 و 5) المصدر السابق : ص 144.
معرفة النفس
_ 40 _
شيء الا يأتي في شهوة ، فرحم الله امرا نزع عن شهوته ، وقمع هوى نفسه ، فان هذه النفس ابعد شيء منزعا ، وانها تنزع الى معصية في هوى.
واعلموا ـ عباد الله ـ ان المؤمن لا يصبح ولا يمسي الا ونفسه ظنون عنده ، فلا يزال زارياً عليها ، مستزيداً لها )
(1) .
10 ـ وفي وصية قدمها الى شريح بن هاني يقول الامام علي ( عليه السلام ) : ( اتق الله في كل صباح ومساء ، وخف على نفسك الدنيا الغرور ، ولا تأمنها على حال ، واعلم انك ان لم تردع نفسك عن كثير مما تحب ، مخافة مكروه ، سمت بك الاهواء الى كثير من الضرر فكن لنفسك مانعا رادعا ، ولنزوتك عند الحفيظة واقماً قامعاً )
(2) .
11 ـ ويقول الامام علي ( عليه السلام ) : ( افضل الاعمال ما اكرهت نفسك عليه )
(3) لان خلفية العمل وهي الانتصار على النفس ومخالفتها اهم من ذات العمل.
12 ـ ويؤكد الامام علي ( عليه السلام ) الدور الحاسم لذات الانسان في مقاومة نفسه فيقول : ( واعلموا انه من لم يعن على نفسه حتى يكون له منها واعظ وزاجر ، لم يكن له من غيرها لا زاجر ولا واعظ )
(4) .
13 ـ ويقول الامام علي ( عليه السلام ) : ( وانما هي نفسي اروضها بالتقوى لتأتي آمنه يوم الخوف الاكبر )
(5) .
---------------------------
(1) نهج البلاغة خطبة : 176.
(2) نهج البلاغة وصية رقم : 56.
(3) المصدر السابق : قصار الحكم : 249.
(4) المصدر السابق : خطبة : 90.
(5) المصدر السابق : كتاب : 45.
معرفة النفس
_ 41 _
كما سبق وان اشرنا فالمعركة مع النفس وان اشرنا فالمعركة مع النفس لا يستثنى منها احد فهذا علي مع عظمته ومكانته الا انه ممتحن بنفسه كسائر البشر ، ولعل من اسرار عظمته نجاحه المميز في الانتصار على نفسه.
14 ـ ويقول ايضاً ( عليه السلام ) : ( خدمة الجسد اعطاؤوه مايستدعيه من الملاذ والشهوات والمقتنيات وفي ذلك هلاك النفس )
(1) .
15 ـ وتسليطاً للضوء على طبيعة المعركة مع النفس وتحديد اطرافها ومواقعهم يقول الامام علي ( عليه السلام ) : ( العقل صاحب جيش الرحمان ، والهوى قائد جيش الشيطان ، والنفس متجاذبة بينهما فايهما غلب كانت في حيزه )
(2) .
16 ـ وفي حديث آخر بنفس المضمون يقول ( عليه السلام ) : ( العقل والشهوة ضدان ، مؤيد العقل العلم ، ومزين الشهوة الهوى ، والنفس متنازعة بينهما فايهما قهر كانت في جانبه )
(3) .
فالعقل هو رائد معركة الانسان ضد نفسه ، والعلم والمعرفة سلاح رئيسي في هذه المعركة ، ولكل من طرفي المعركة وهما العقل والهوى جنود واسلحة فهما جيشان : جيش الرحمان وجيش الشيطان يتصارعان على ارض نفس الانسان.
---------------------------
(1) الري شهري : ميزان الحكمة : ج 10 ص 147.
(2 و 3) المصدر السابق : ج 6 ص 405.
معرفة النفس
_ 43 _
(3)النفس وتأثيرها المصيري على الانسان
حياة الانسان الدنيوية ومستقبله الاخروي ، كلاهما رهين وخاضع لتأثير حالته النفسية ، فاذا ماصفت النفس وانقادت لتوجيه العقل ضمن الانسان سعادته في الدارين ، واذا ما حصل العكس من ذلك بسيطرة اهواء النفس وشهواتها على قرار الانسان ، فان الشقاء سيلف حياته في الدنيا الاخرة.
والنصوص الدينية تؤكد هذه الحقيقة وتسلط الاضواء على براهينها وابعادها كما يأتي :
1 ـ يقول تعالى : ( ونفس وما سواها. فالهما فجورها وتقواها. قد افلح من زكاها وقد خاب من دساها )
(1) .
ففلاح الانسان ونجاحه يرتبط بتزكيته لنفسه ، والخيبة والدمار نتيجة حتمية لتمركز الانحرافات وتلويثها للنفس ، وكما ان النفس تتقبل التزكية بالتقوى ، فانها مهيأة للانحراف والفجور.
2 ـ يقول الامام علي ( علي السلام ) : ( ولا يلم لائم الا نفسه )
(2) فالنفس هي التي تصنع مستقبل الانسان ، واذا ما لاحظ الانسان سوءاً في مصيره ومستقبله ، فلا يتحمل مسؤولية ذلك الا نفسه.
---------------------------
(1) سورة الشمس : 7 ـ 10.
(2) نهج البلاغة خطبة : 16.
معرفة النفس
_ 45 _
(4) من امراض النفس
انما تنبع الاسواء والمشاكل من تلك الحالات المرضية ، التي تحدث في النفس ، وتنمو وتترعرع في حناياها ، فما هي تلك الحالات المرضية ؟ وكيف يعالجها الانسان ؟
هذا ما تتحدث عنه بعض النصوص الدينية التالية :
1 ـ جرأة الانسان على قتل اخيه الانسان ومصادرة حقه في الحياة ، تعتبر اكبر جريمة بشعة ، وانما يقوم بها الانسان على بشاعتها نتيجة حالة نفسية مرضية ، ويتحدث القرآن الكريم عن اول جريمة قتل وقعت على الارض حيث قتل قابيل بن آدم اخاه هابيل ، وينسب القرآن هذه الجريمة الى النفس. يقول تعالى :
( فطوعت له نفسه قتل اخيه فقتله فاصبح من الخاسرين )
(1)
2 ـ والخوف حالة نفسية يقول تعالى : ( فاوجس في نفسه خيفة موسى ، قلنا لاتخف انك انت الاعلى )
(2) .
3 ـ والبخل مرض نفسي يقول تعالى : ( فاتقو الله ما استطعتم واسمعوا
---------------------------
(1) سورة المائدة : ـ 30.
(2) سورة طه : ـ 68.
معرفة النفس
_ 46 _
واطيعوا وانفقوا خيراً لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فاولئك هم المفلحون )
(1) .
4 ـ والنفس هي التي تزين للانسان وتدفعه للارتداد عن الدين وسوء التعامل مع قضاياه ، كما حصل للسامري ، صاحب نبي الله موسى ( عليه السلام ) ، والذي اضل الناس المؤمنين بتوجيههم لعبادة عجل صنعه من الحلي ، يقول تعالى : ( قال فما خطبك ياسامري. قال بصرت لما لم يبصروا به فقبضت قبضة من اثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي )
(2) .
5 ـ واهواء النفس سبب مخالفة الانبياء والعدوان عليهم يقول تعالى : ( افلكما جاءكم رسول بما لا تهوى انفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون )
(3) .
6 ـ واخوة نبي الله يوسف ( عليه السلام ) انما قاموا تجاهه بتلك الجريمة النكراء ، حيث القوه في قاع الجب ، وهو ذلك الصغير الوديع المتفرد في جماله وحسنه ، انما صنعه ذلك لانحراف نفسي اصابهم يقول تعالى على لسان ابيهم يعقوب ( عليه السلام ) :
( قال بل سولت لكم انفسكم امراً فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون )
(4) .
7 ـ والحسد حالة مرضية نفسية بين الافراد او الامم والمجتمعات يقول تعالى : ( ود كثير من اهل الكتاب لو يردونكم من بعد ايمانكم كفاراً حسداً
---------------------------
(1) سورة التغابن : ـ 16.
(2) سورة طه : ـ 96.
(3) سورة البقرة : ـ 87.
(4) سورة يوسف : ـ 18.
معرفة النفس
_ 47 _
من عند انفسهم )
(1) .
8 ـ والتكبر مرض يعشعش في ارجاء النفس يقول تعالى : ( لقد استكبروا في انفسهم وعتو عتواً كبيراً )
(2) .
9 ـ والاعراض عن دين الله ورسالة الانبياء انما ينشأ من حالة انحراف نفسي يطلق عليه القرآن ( سفاهة ) يقول تعالى : ( ومن يرغب عن ملة ابراهيم الا ن سفه نفسه )
(3) .
10 ـ ويقول الامام علي ( عليه السلام ) : ( آفة النفس الوله بالدنيا )
(4) .
11 ـ ويقول ايضاً ( عليه السلام ) : ( عجب المرء بنفسه احد حساد عقله )
(5) .
---------------------------
(1) سورة البقرة : ـ 109.
(2) سورة الفرقان : ـ 21.
(3) سورة البقرة : ـ 130.
(4) الري شهري : ميزان الحكمة : ج 10 ص 147.
(5) نهج البلاغة / قصار الحكم رقم : 212.
معرفة النفس
_ 49 _
(5) اصلاح النفس اولا
اول واهم قية يجب ان يتوجه اليها الانسان ويركز عليها هي اصلاح نفسه ، لان ذلك مفتاح سعادته ، ولانه بع ذلك يستطيع معاجلة سائر القضايا ، وتحصيل مختلف متطلبات الحياة ، ويضمن حينئذ الاستفادة الصحيحة والاستخدام السلمي لما منحه الله من طاقات وقدرات ... اما مع انحراف النفس فكل المكاسب والامكانيات التي ينالها الانسان في هذه الحياة قد تصبح وبالاً عليه ، ووسائل دمار تصيبه والآخرين بالشر والضرر.
فالعلم او المال او القوة او الجمال او اي امكانية اخرى اذا كانت تحت تصرف نفس شريرة فاسدة ، او تحكمها قرارات شهوانية من وحي الهوى ، فانها قد تجلب الخسار والشقاء والدمار لصاحبها وللاخرين.
ومآسي البشرية في الماضي والحاضر هي سجل كبير لشواهد وادلة هذه الحقيقة الواضحة.
لذا كان من الطبيعي ان تركز النصوص الدينية على مسألة الاهتمام باصلاح النفس كنمطلق لا صلاح الانسان والحياة كما نلاحظ في النصوص التالية :
1 ـ يقول تعالى : ( ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم )
(1) .
---------------------------
(1) سورة الرعد : ـ 11.
معرفة النفس
_ 50 _
2 ـ ويقول الامام علي ( عليه السلام ) : ( من لم يهذب نفسه لم ينتفع بالعقل )
(1) فكما سبق في الفصل الاول من الكتاب ، ان العقل يعطي رأيه وموقفه في القضايا والامور ، لكن النفس بشهواتها واهوائها غير المنضبطة والملتزمة تسكت صوت العقل ، وتدفع الانسان الى مخالفته.
3 ـ ويقول الامام علي ( عليه السلام ) : ( اعجز الناس من عجز من اصلاح نفسه )
(2) .
فالعاجز عن اصلاح نفسه هل يقدر على اصلاح نفوس الاخرين او اصلاح امور الحياة ؟
4 ـ ويقول الامام علي ( عليه السلام ) : ( اعجز الناس من قدر على ان يزيل النقص عن نفسه فلم يفعل )
(3) .
ومبدئياً فالانسان قادر على ازالة نواقص نفسه لكن الاهواء والشهوات هي التي تمنعه من ذلك ، ومن عجز عن مقاومة شهواته لا يرجى له الانتصار في الحياة.
5 ـ ويقول ايضا ( عليه السلام ) : ( من اصلح نفسه ملكها من اهمل نفسه اهلكها )
(4) .
6 ـ وما قيمة الحياة في اسر الهوى وعبودية الشهوة ؟ انها تصبح حينئذ جحيماً للمعصية والاثم ، وبؤرة للفساد والشر.
يقول الامام عليه ( عليه السلام ) : ( من لم يتعاهد النقص من نفسه غلب عليه الهوى ، ومن كان في نقص فالموت خير له )
(5) .
7 ـ واسوأ شيء ان يشعر الانسان باستغناء نفسه عن الاصلاح وعدم
---------------------------
(1) الري شهري : ميزان الحكمة : ج 10 ص 145.
(2 و 3 و 4 و 5) المصدر السابق : ج 10 ص 146.