تغيب ليلة عن حضور اللقاء ... كما يعاتب الواحد منا صديقه العزيز عليه ان تأخر عن اجابة دعوته ... فقد روى ان نبي الله يحيى بن زكريا ( عليه السلام ) شبع ليلة من خبز شعير فنام عن ورده حتى اصبح فاوحى الله اليه : يا يحيى اوجدت داراً خيراً لك من داري ؟ اوجدت جواراً خيراً لك من جواري ؟.
فوعزتي يايحيى لو اطلعت الى الفردوس اطلاعة لذاب شحمك ولزهقت نفسك اشتياقاً ، ولو اطلعت الى جهنم اطلاعة لذاب شحمك ولبكيت الصديد بعد الدموع ولبست الحديد بعد المسوح )
.
ولا يكفي المؤمن بقيامه هو وحده بل يشجع عائلته على قيام ليشركهم في برنامجه الروحي ، وليريبهم على العبادة والخضوع يقول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( من استيقظ من الليل وايقظ امرأته فصليا ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات )
.
واذا كان مقياس الوجاهة والشرف في دنيا المادة القدرة المالية للانسان وقربه من مواقع السلطة والحكم فان مستوى شرف المؤمن ووجاهته عند الله مدى تبتله لله في جوف الليل فقد قال جبرئيل ( عليه السلام ) في موعظته لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( شرف المؤمن صلاته بالليل )
.
روى فضيل بن يسار عن الامام الصادق ( عليه السلام ) أنه قال : ( ان البيوت التي يصلي فيها بالليل بتلاوة القرآن ، تضيء لاهل السماء كما تضيء نجوم السماء لاهل الارض )
.
العبادة ثم يجعل لتلك العبادة التي دعانا لها ووفقنا بمنه اليها قيمة وفضلاً عظيماً فسبحان الرب الكريم ...
اما لماذا يكون لقيام الليل هذا الفضل العظيم والعطاء الكبير فيمكننا استنتاج النقاط التالية :
اولاً : ان قيام الليل يوفر للانسان افضل فرصة لمحاسبة ذاته ولمراجعة اعماله ولاتخاذ القرارات الصائبة.
ثانياً : هدوء الليل وسكونه يساعد الانسان على الخشوع والتوجه الخالص لله دون ان تستقطب اهتماماته المشاغل الاخرى.
ثالثاً : انه انتصار لارادة الانسان على شهواته التي تدعوه الى الراحة والكسل وتدريب للنفس على الاستجابة لاوامر الله مهما كان الظروف.
ولكن كيف يتوفق الانسان للحصول على هذا الفضل والشرف وما هي العوامل التي تساعد الانسان لكي ينال هذا الوسام العظيم ؟
1 ـ التوجه الالهي : حينما تسيطر المادة على نفس الانسان وتفكيره ويهيم بمكاسبها ولذاتها فان ذلك سيكون على حساب الجانب المعنوي والروحي مما يضعف اندفاع الانسان نحو العبادات اما اذا كان قلبه مطمئناً بذكر الله ونفسه متوجهة الى عظمته فان العبادة وقيام الليل سيكون جزءاً لا يتجزأ من برنامج حياته بل تصبح اعز برامج حياته لديه.
فالمؤمنون الذين اطمأنت قلوبهم بذكر الله وانشرحت لانوار قدسه يجدون في العبادة وقيام الليل لذة لاتعد لها لذة ومتعة تتضاءل دونها كل شهوات الدنيا ومتعها.
قال احدهم : اذا غربت الشمس فرحت بالظلام لخلوتي بربي واذا
معرفة النفس
_ 122 _
طلعت حزنت لدخول الناس علي.
وقال آخر : اهل الليل في ليلهم الذ من اهل اللهو في لهوهم ولولا الليل ما احببت البقاء في الدنيا.
وقال بعض العلماء : لذة المناجاة ليس في الدنيا ، انما هو من الجنة اظهرها الله لاوليائه لايجدها سواهم.
فلنتوجه الى الله ولنعمر قلوبنا بحبه وعشقه والشوق الى رضوانه. ولنهتف دائماً وابداً بالفقرات الواردة في اواخر دعاء كميل :
( واجعل لساني بذكرك لهجا ، وقلبي بحبك متيما ).
2 ـ معرفة فضل صلاة الليل وقيامه من خلال الايات والروايات وكلمات الاولياء وسيرة الصالحين ... ففي قضايانا المادية نحن ندرك اثر الدعاية والتشجيع في ايجاد الرغبة نحو الامور والاشياء وكذلك الحال في القضايا الروحية المعنوية على الانسان ان يرغب نفسه بالاطلاع الدائم على الاحاديث والنصوص التي تذكر فضل الاعمال الروحية والعبادات الالهية ... ويجب الاستفادة من مختلف الوسائل لتشويق الناس الى العبادة ..
3 ـ خفة المعدة : فاذا تناول الانسان طعاماً كثيراً او ثقيلاً فان سيطرة النوم عليه ستكون اكثر ... اما اذا نام خفيف المعدة فيستطيع النهوض واليقظة بسهولة ... قال احد العباد لتلاميذته : ( لا تأكلوا كثيراً فتشربوا كثيراً فترقدوا كثيراً فتخسروا عند الموت كثيراً ).
4 ـ قراءة حياة الاولياء ومواقف تهجدهم في جوف الليل لتشجيع الانسان على الاقتداء بهم وتقليدهم في عبادتهم ومناجاتهم ولنذكر موقفاً واحداً من المواقف التي سجلتها لنا ذاكرة التاريخ لعبادة احد الاولياء الطاهرين وهو الامام زين العابدين علي بن الحسين ( عليه السلام ) :
معرفة النفس
_123 _
يقول طاؤوس الفقيه : ( رأيت علي ابن الحسين يطوف بالكعبة من العشاء الى السحر ويتعبد ، فلما لم ير احدا رمق السماء بطرفه وقال : ( الهي غارت نجوم سماواتك ، وهجعت عيون انامك ، وابوابك مفتحات للسائلين ، جئتك لتغفر لي وترحمني وتريني وجه جدي محمد ( صلى الله عليه وآله ) في عرصات القيامة.
ثم بكى وقال :( وعزتك وجلالك ما اردت بمعصيتي مخالفتك ، وما عصيتك اذ عصيتك وانا بك شاك ، ولا بنكالك جاهل ، ولا لعقوبتك متعرض ، ولكن سولت لي نفسي ، واعانني على ذلك سترك المرخي به علي ، فالان من عذابك من يستنقذني ؟ وبحبل من اعتصم ان قطعت حبلك عني ؟ فواسوأتاه غداً من الوقوف بين يديك ، اذا قيل للمخفين جوزوا ، وللمثقلين حطوا ، امع المخفين اجوز ؟ ام مع المثقلين احط ؟ ويلي كلما طال عمري كثرت خطاياي ولم اتب ، اما آن لي ان استحي من ربي ؟!
ثم بكى وانشأ يقول :
اتـحرقني بـالنار ياغاية المنى فـاين رجـائي ثـم اين iiمحبتي اتـيت بـاعمال قـباح iiزريـة ومافي الورى خلق جنى كجنايتي |
سبحانك تعصى كأنك لاترى ، وتحلم كأنك لم تعص ، تتودد الى خلقك بحسن الصنيع كأن بك الحاجة اليهم ، وانت ياسيدي الغني عنهم ، ثم خر الى الارض ساجداً.
معرفة النفس
_ 124 _
قال طاؤوس : فدنوت منه وشلت برأسه ووضعته على ركبتي وبكيت حتى جرت دموعي على خده ، فاستوى جالساً وقال :
من الذي اشغلني عن ذكر ربي ؟
فقلت : انا طاؤوس يا ابن رسول الله ماهذا الجزع والفزع ؟ ونحن يلزمنا ان نفعل مثل هذا ونحن عاصون جانون ، ابوك الحسين ابن علي ، وامك فاطمة الزهراء وجدك رسول الله ؟ !!
فالتفت الي وقال : هيهات هيهات يا طاؤوس دع عنك حديث ابي وامي وجدي خلق الله الجنة لمن اطاعه واحسن ، ولو كان عبداً حبشياً ، وخلق النار لمن عصاه ولو كان ولداً قرشياً اما سمعت قوله تعالى : ( فاذا نفخ في الصور فلا انساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ) ؟ والله لا ينفعك غدا الا تقدمة تقدمها من عمل صالح
(1) .
ماذا نجني من حب الله ؟
اذا توثقت عرى المحبة بين العبد وربه فاز العبد بسعادة الدنيا والاخرة ، فقلبه يصبح نقياً وروحه صافية وطاهرة وتفكيره صائباً واعماله موفقة وارادته قوية هذا في الدنيا اما في الاخرة فلا يمكن وصف مايناله من خير وسعادة ... ونكتفي بالحديثين التاليين لمعرفة نتائج محبة الله سبحانه وتعالى.
فعن الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( ما تحبب الى عبدي بشيء احب الي مما افترضته عليه وانه يتحبب الى بالنافلة حتى احبه ، فاذا احببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ، ولسانه الذي ينطق به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ، اذا دعاني اجبته ، واذا سألني
---------------------------
(1) البحار : ج 46 ص 81.
معرفة النفس
_ 125 _
اعطيته )
(1) .
وعن الامام الصادق ( عليه السلام ) : ( ان اولى الالباب الذين عملوا بالفكرة حتى ورثوا منه حب الله فان حب الله اذا ورثه القلب واستضاء به اسرع اليه اللطف ، فاذا نزل اللطف صار من اهل الفوائد ، فاذا صار من اهل الفوائد تكلم بالحكمة واذا تكلم بالحكمة صار صاحب فطنة )
(2) .
الذين يحبهم الله سبحانه هناك صفات معينة للاشخاص الذي يحبهم الله سبحانه وتعالى ويجلهم ، وقد عددها القرآن الكريم ، نذكرها اتماما للفائدة ومعرفة لتلك الصفات من اجل ان نتحلى بها ونتقمصها في شخصياتنا.
فما عسى ان تكون هذه الصفات ؟
قال تعالى :
( ان الله يحب المحسنين )
(3) .
( ان الله يحب التوابين ويحب المتطهرين )
(4) .
( فان الله يحب المتقين )
(5) .
( والله يحب الصابرين )
(6) .
( ان الله يحب المتوكلين )
(7) .
---------------------------
(1) البحار : ج 70 ص 22.
(2) البحار : ج 70 ص 25.
(3 و 4) سورة البقرة : ـ 195 / ـ 222.
(5 و 6 ) سورة آل عمران : ـ 76 / ـ 146.
(7) سورة آل عمران : ـ 159.