وما التقى في الطريق بأحد إلاّ التمسه على الرجوع ، إشفاقاً عليه من لؤم بني أمية وغدر أهل العراق ، وما كان ليخفى عليه ماظهر لاغلب الناس ، لكنه وهؤلاء كما قيل : أنت بواد والعذول بوادي ، ما نزل بأبي وأمي منزلاً ولا ارتحل منه ـ كما في الارشاد وغيره ـ إلاّ ذكر يحيى بن زكريا وقتله ، وقال يوماً : « من هوان الدنيا على الله إن رأس يحيى بن زكريا أُهدي إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل » .
فهل تراه أراد بهذا غير الاشارة إلى أن سبيله في هذا الوجه إنما هو سبيل يحيى ( عليه السلام ) ؟ ! وأخبره الاسديان وهو نازل في الثعلبية ـ كما في تاريخ الطبري وغيره ـ بقتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة ، وأنّهما يجران بأرجلهما في الاسواق بلا نكير
.
فهل يمكن بعد هذا أن يبقى له أمل بنصرة أهل الكوفة ، أو طمع في شيء من خيرهم ؟ ! والله ما جاءهم إلاّ يائساً منهم ، عالماً بكل ما كان منهم عليه ، وقد كتب وهو نازل بزبالة كتاباً قرىء بأمره على الناس وفيه : « بسم الله الرحمن الرحيم ، أما بعد ، فانه قد أتانا خبر فظيع ، قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وعبد الله بن بُقطر ، وقد خذلتنا شيعتنا ، فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف ليس عليه منا ذِمام » .
قال محمد بن جرير الطبري في تاريخ الاُمم والملوك : فتفرق الناس عنه تفرقاً ، فأخذوا يميناً وشمالاً ، حتى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة ، قال : وإنّما فعل ذلك ، لانه ظنّ إنما اتبعه الاعراب ، لانهم ظنوا أنه يأتي بلداً قد استقامت له طاعة أهله ، فكره أن يسيروا معه إلاّ وهم يعلمون علامَ يقدمون .
قال : وقد علم أنهم إذا بيّن لهم لم يصحبه إلاّ من يريد مواساته والموت معه
(1) ، وذكر أهل الاخبار : إن الطرماح بن عدي لما اجتمع به في عذيب الهجانات دنا منه فقال له ـ كما في تاريخ الطبري وغيره ـ : والله إنّي لانظر فما أرى معك أحداً ، ولو لم يقاتلك إلاّ هؤلاء الذين أراهم ملازميك ـ يعني: الحر وأصحابه ـ لكان كفى بهم ، وقد رأيتُ قبل خروجي من الكوفة إليك بيوم ظهر الكوفة وفيه من الناس مالم تر عيناي في صعيد واحد جمعاً أكثر منه ، فسألت عنهم ؟ فقيل : اجتمعوا ليعرضوا ثم يسرحوا إلى حرب الحسين ، فأُنشدك الله إن قدرتَ على أن لا تقدم عليهم شبراً إلاّ فعلت ، فان أردت أن تنزل بلداً يمنعك الله به حتّى ترى من رأيك ويستبين لك ما أنت صانع ، فسر حتى أُنزلك مناع جبلنا الذي يدعى أجأ ، امتنعنا والله به من ملوك غسان وحمير ومن النعمان بن المنذر ومن الاسود والاحمر ، والله ما دخل علينا فيه ذل قط، فأسير معك حتّى أنزلك القرية ، ثم نبعث إلى الرجال ممن بأجأ وسلمى من طيّئ ، فو الله لا يأتي عليك عشرة أيام حتى تأتيك طيّئ رجالاً وركباناً ، ثم أقم فينا مابدا لك ، فان هاجك هيج فأنا زعيم لك بعشرين الف طائيّ يضربون بين يديك بأسيافهم ، والله لا يوصل إليك أبداً ومنهم عين تطرف ، فقال له : « جزاك الله وقومك خيراً »
(2) ، وأبى أن ينصرف عن مقصده .
وأنت تعلم أنه لو كان له رغبة في غلبة أو ميل إلى سلطان لكان لكلام الطرماح وقع في نفسه ( عليه السلام ) ، ولظهر منه الميل إلى ما عرضه عليه ، لكنه ـ بأبي وأمي ـ أبى إلاّ الفوز بالشهادة ، والموت في إحياء دين الاسلام .
---------------------------
(1) تاريخ الطبري 5 / 398 ـ 399 .
(2) تاريخ الطبري 5 / 406 ، وتكملة الحديث : « إنّه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم قول لسنا نقدر معه على الانصراف ، ولا ندري علامَ تنصرف بنا وبهم الامور في عاقبه » .
المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره
_ 57 _
وقد صرّح بذلك فيما تمثل به ، إذ قال له الحر : أذكرك الله في نفسك فانّي أشهد لئن قاتلت لتقتلن ، فقال ( عليه السلام ) ـ كما في تاريخ الطبري وغيره ـ :
سأمضي وما بالموت عار على الفتى إذا مـا نـوى حـقاً وجـاهد مسلماً وآسـى الـرجال الصالحين iiبنفسه وفـارق مـثبوراً يغُشّ ويُرغما (1) |
وحسبك في إثبات علمه من أول الامر بما انتهت إليه حاله ما سمعته من : إخبار النبي ( صلى الله عليه وآله ) بقتله في شاطىء الفرات بموضع يقال له كربلاء ، وبكائه عليه ، ونداء أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لما حاذى نينوى وهو منصرف الى صفين : « صبراً أبا عبد الله ، صبراً أبا عبد الله بشاطىء الفرات » ، وقوله إذ مرّ بكربلاء : « هاهنا مناخ ركابهم ، وهاهنا موضع رحالهم ، وهاهنا مهراق دمائهم » ، وقول الحسين ( عليه السلام ) لاخيه عمر : « حدثني أبي أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أخبره بقتله وقتلي ، وأنّ تربتي تكون بقرب تربته » .
وقول الحسن للحسين ( عليهما السلام ) ـ كما في أمالي الصدوق وغيره ـ من جملة كلام كان بينهما : « ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد الله ، يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل ، فيجتمعون على قتلك وسفك دمك وانتهاك حرمتك وسبي ذراريك ونسائك وانتهاب ثقلك ، فعندها يحل الله ببني أمية اللعنة » ، إلى غير ذلك من الاخبار الدالة على أن قتل الحسين ( عليه السلام ) كان معروفاً عند أهل البيت منذ أخبر الله به نبيه ( صلى الله عليه وآله ) ، بل صريح أخبارنا أن ذلك مما أوحي إلى الانبياء السابقين
(2) ، وقد سمعت ما أشرنا إليه من بكائهم ( عليهم السلام ) .
---------------------------
(1) تاريخ الطبري 5 / 404 .
(2) راجع : بحار الانوار 44 / 223 ـ 249 الباب 30 .
المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره
_ 58 _
ويظهر من بعض الاخبار أن قتل الحسين كان معروفاً عند جملة من الصحابة والتابعين ، حتّى أنّهم ليعلمون أن قاتله عمر بن سعد ، وحسبك ما نقله ابن الاثير ، حيث ذكر مقتل عمر بن سعد في كامله ، عن عبد الله بن شريك ، قال : أدرك أصحاب الاردية المعلمة وأصحاب البرانس السود من أصحاب السواري ، إذ مرّ بهم عمر بن سعد ، قالوا : هذا قاتل الحسين ، وذلك قبل أن يقتله .
قال : وقال ابن سيرين : قال علي لعمر بن سعد : « كيف أنت إذا قمت مقاماً تخير فيه بين الجنة والنار ، فتختار النار »
(1) ، أترى الحسين ( عليه السلام ) كان جاهلاً بما عليه أصحاب السواري ؟ كلاّ والله ما علم أصحاب البرانس السود ذلك إلاّ منه ، أو من أخيه ، أو من جدّه ، أو من أبيه ، وقد أطلنا الكلام في هذا المقام ، إذ لم نجد من وفاه حقه وخرج من عهدة التكليف بايضاحه ، والحمد لله على التوفيق لتحرير هذه المسألة ، وتقرير شواهدها وأدلّتها ، على وجه تركن النفس إليه ، ولا يجد المنصف بدّاً من البناء عليه ، بل لا أظن أحداً يقف على ما تلوناه ثم يرتاب فيما قررناه ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
---------------------------
(1) الكامل في التاريخ 4 / 242 .