كما في كتب السّنة
نقد لما كتبه الدّكتور السالوس

تأليف
السيّد علي الحسيني الميلاني



   الحمد الله ربّ العالمين ، والصلاة والسّلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين من الأولين والآخرين .

كلمة المؤلّف
   هذا نقد علمي لما كتبه الدكتور علي أحمد السالوس حول حديث الثقلين .
   هذا الحديث الثابت صدوره عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لدى المسلمين كافّة .
   فقد توافقوا على روايته بأسانيدهم المعتبرة الكثيرة ، وتسالموا على ثبوته عنه ، ولم نجد ـ خلال هذه القرون المتمادية ـ من يشك في صحته إلاّ رجلاً واحداً . . . وهو أبو الفرج ابن الجوزي الحنبلي . . . حيث أودعه في روايةٍ واحدةٍ له كتاب ( العلل المتناهية في الأحاديث الواهية ) .
   وقد خطّئه العلماء ، وحذّروا من الاغترار بفعله ، ومنهم من أحسن الظنَّ به فحمل ذلك منه على عدم استحضاره لسائر طرق الحديث . . . لا سيّما وأنّه في صحيح مسلم . . . كما سترى ذلك كلّه في هذا الكتاب .
   والحق معهم . . . فأنّه لو جاز رمي مثل هذا الحديث ـ الصحيحة أسانيده والكثيرة طرقه ـ بالضّعف لَما بقي فيما بأيدينا من الأحاديث النبوية ما نثق بصدوره عن الرسّول الكريم إلاّ الشاذ النادر ، وهذا يؤدّي إلى سقوط السنّة النبويّة وهدم أركان الشريعة المقدّسة .
   ولهذه الأمور وغيرها . . . لم نعثر ـ وما كنّا نظن العثور ـ على مقلّد لا بن الجوزي من أهل العلم فيما قاله حول هذا الحديث ، حتى جاء دور « الدكتور » .
و « للدكاترة » و « المشايخ » في الآونة الأخيرة تحرّك واسع في شتى البلدان الإسلامية للتأليف في المسائل العقدية ، وكثير منهم يتعرّضون لعقائد الشيعة الإمامية الإثني عشرية ، وخاصّة في الإمامة والخلافة ، لكنّها ـ في الأغلب ـ حملات وتهجّمات مفعمة بالضغينة والحقد . . . إلاّ أن الملفت للنّظر وقوع التناقضات العجيبة فيما بين هؤلاء الكتّاب من جهةٍ ، وبينهم وبين علمائهم السابقين من جهةٍ أخرى .

حديـــث الثقلـــين _ 2 _

   فالسّابقون منهم على أنّ « الخلافة عن النبي » من فروع الدين لا من أصوله ، فتكون الإمامة من المسائل العمليّة الفرعية ، شأنها شأن الصلاة والزكاة ونحوهما ، ولكلّ مجتهدٍ رأيه . . . يقول القاضي عضد الدّين الايجي وشارحه الجرجاني : « الإمامة ومباحثها ليست من أصول الديانات والعقائد ـ خلافاً للشيعة ـ بل هي عندنا من الفروع المتعلّقة بأفعال المكلّفين »(1).
   ويقول سعد الدين التفتازاني : « لا نزاع في أن مباحث الإمامة بفروع الدين أليق ، لرجوعها إلى أن القيام بالإمامة ونصب الإمام الموصوف بالصفات المخصوصة من فروض الكفايات . . . ولا خفاء في أن ذلك من الأحكام العملية دون الإعتقادية »(2).
   وإذا كان هذا حكم الإمامة عندهم ، فلماذا هذه الحملات والهجمات على الإماميّة ؟ ثم إنهم يقولون بأنّ الإمامة تنعقد بالقهر والغلبة ، فيجب إطاعة من تغلّب على الأمر وتسلّط على المسلمين بالجور والسّيف ، وكان فاجراً وفاسقاً ، وهذا ما نصَّ عليه التفتازاني وابن تيمية وغيرهما . وفي هذه الأُصول إنكار للحكومة الشرعية ، وتقرير لسلطنة الظالمين ، وفصل بين الدنيا والدين ... فهذا ما بنى عليه السابقون .

---------------------------
(1) شرح المواقف 8|344 .
(2) شرح المقاصد 5|232 .

حديـــث الثقلـــين _ 3 _

   والكتّاب الحاضرون تناقضوا . . . فمنهم من مشى على طريقة السّلف ، وعلى هذا الأساس ذهب إلى نفي أن يكون النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد قام بتأسيس دولة ، وجعل من الشريعة الإسلامية شريعةً روحية محضة ، لا علاقة لها بالحكم والتنفيذ في الدنيا ، ثم طعن في الخلفاء من بعده وأتباعهم بأنهم كانوا يعملون من أجل الدنيا والفتح والاستعمار ، لا من أجل الدين ، وأن أبا بكر كان أول ملك في الإسلام ، ثم تبعه الملوك الآخرون ، فهم جميعاً كانوا يخدعون الناس باسم الدين ، وأنّ التاريخ الإسلامي لم يكن إلاّ قهراً وغلبةً وحكماً بالسيف ، وكان شراً وفساداً ونكبة للإسلام والمسلمين (1).
   وقد أثار القوم ضجّة كبيرةً على هذا المؤلف وكتابه ، وكتبت الردود عليه ، حتى كفّروه ، واتّهموه بالتعاون مع السياسات الأجنبية ، وكانت النتيجة صدور حكم من هيئة كبار العلماء في مصر ضّد الكتاب ومؤلفه (2).
   ونحن وإنْ كنّا نرى بطلان هذه الفكرة ، إلاّ أنا نقول بأنّ ما ذهب إليه هذا الشيخ ليس إلاّ ردّ فعلِ للأسس التي بنيت عليه دعائم مذهب القوم منذ صدر الإسلام ، لكنّهم يكفّرونه ويسكتون عمّن كان السّبب المباشر لحدوث مثل هذه الفكرة .
   وحول القرآن الكريم ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، قال أئمتهم من الصّحابة بوقوع التحريف في القرآن ، ففي أهم كتبهم الحديثية كالبخاري ومسلم ومسند أحمد والترمذي وابن ماجة والمستدرك وغيرها ، عن غير واحدٍ من الصحابة .

---------------------------
(1) لا حظ كتاب : الإسلام وأصول الحكم . للشيخ علي عبد الرزاق من كبار علماء الأزهر ومن مشاهير القضاة في الديار االمصرّية .
(2) لا حظ كتاب : الإسلام والخلافة في العصر الحديث للدكتور محمد ضياء الريّس . وكتاب : حقيقة الإسلام وأصول الحكم للشيخ محمد بخبت .

حديـــث الثقلـــين _ 4 _

   كان مما أنزل الله آية كذا ، وكانت آية كذا تحت السرير فلما تشاغلنا بموت رسول الله دخل داجن فأكلها ، وكنّا نقرأ فيما نقرأ على عهد رسول الله آية كذا ، وكانت آية كذا من القرآن وأسقطت فيما أسقط منه . . . وهكذا في عشراتٍ من الأحاديث الصحيحة سنداً ، تراهم يصرّحون بنقصان القرآن وهم الجامعون له (1).
   ومن هنا جاء في كتب القوم التصريح بالتحريف عن جماعةٍ منهم ، ففي تفسير القرطبي أنّه طعن قوم على عثمان جمع القرآن (2).
   وذكر الرّافعي ذلك عن جماعةٍ من أهل الكلام (3).
   وعن الثوري ـ الذي وصفوه بأمير المؤمنين في الحديث ـ : « بلغنا أنّ ناساً من أصحاب النبي كانوا يقرأون القرآن اصيبوا يوم مسيلمة فذهب حروف من القرآن » (4).
   وقال الشعراني المتوفى سنة 973 : « لولا ما يسبق للقلوب الضعيفة ووضع الحكمة في غير أهلها لبّينت جمعيع ما سقط من مصحف عثمان » (5).
   حتى أنّ بعض ائمتهم في القرآات في القرن الرابع ، كان يقرأ ما حملته تلك الروايات عن أولئك الصحابة جاعلاً إيّاها من القرآن حقيقةً ، اقتداءً بهم ، لكنّ فقهاء القوم أشاروا على السّلطان بالقبض عليه ، وضربه ، فضرب ضرباً شديداً ، فلم يصبر واستغاث وأذعن بالتوبة ، فخلي سبيله وكتب عليه كتاب بتوبته ، وأخذ فيه خطّه بالتوبة (6).
   فتاب من العمل بما جاء في صحيحي البخاري ومسلم وسائر الصّحاح . . . عن أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وأبي موسى الأشعري ، وزيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود ، وأُبيّ بن كعب ، وعائشة ، وحفصة . . .

---------------------------
(1) تجد هذه الأحاديث وغيرها مع النظر في أسانيدها ومداليلها في كتابنا : التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشريف . ط دار القرآن الكريم . قم | ايران .
(2) تفسير القرطبي 1|84
(3) إعجاز القرآن : 41 .
(4) الدر المنثور 5|179 .
(5) الكبريت الأحمر ـ هامش اليواقيت والجواهر ـ 143 .
(6) راجع قضية أبي الحسن محمد بن أحمد بن شنبوذ البغدادي المتوفى سنة 328 في تاريخ بغداد 1|280 ، وفيات الأعيان 3|326 ، غاية النهاية في طبقات القراء 2|52 .

حديـــث الثقلـــين _ 5 _

   هذا ما فعله السابقون في هذا المجال ، وكان الحق معهم ، فلا يجوز متابعة أولئك . . . ولا يجوز الأخذ بالكتب المذكورة . . . في كل شيء . . . والكتّاب المعاصرون . . . تناقضوا . . . فمن المشايخ والدكاترة كمحمد رشيد رضا ، وأحمد محمد شاكر ، وأحمد أمين ، والرافعي ، والخضري ، ومصطفى زيد . . . وجماعة ، يخطّأون الصحابة بصراحةٍ ، ويردّون هذه الأحاديث ويبطلونها. يقول الرافعي : « ولا يتوهمنّ أحد أن نسبة بعض القول إلى الصحابة نص في أنّ ذلك القول صحيح ألبتة ، فإنّ الصحابة غير معصومين » (1).
   ويقول مصطفى زيد : « أمّا الآثار التي يحتجّون بها فمعظمها مروي عن عمر وعائشة ، ونحن نستبعد صدور مثل هذه الآثار عنهما ، بالرغم من ورودها في الكتب الصّحاح ، وفي بعض هذه الروايات جاءت العبارات التي لا تتفّق ومكانة عمر وعائشة ، ممّا يجعلنا نطمئن إلى اختلاقها ودسّها على المسلمين » (2).
   ومنهم من ألّف كتاباً أسماه ( الفرقان ) فجمع فيه طائفةً من تلك الروايات المروية عن الصّحابة ، معتقداً بصحّتها لكونها في الصحاح ، فأحدث ضجّة كبيرةً ـ كما أحدث كتاب عبد الرزاق ـ حتى طلب علماء الأزهر من الحكومة مصادرة الكتاب !(3).
   ولا ندري هل فعل بمؤلفه ما فعل بالقارئ البغدادي المسكين أولا ؟ .
   وحول الصحابة . . . قالوا : الصحابة كلّهم عدول ، وادّعى غير واحدٍ من أئمة القوم كابن عبد البرّ القرطبي ، وابن حزم الأندلسي ، وابن حجر العسقلاني(4).

---------------------------
(1) إعجاز القرآن : 44 .
(2) النسخ في القرآن 1| 283 .
(3) طبع هذا الكتاب بمطبعة دار الكتب المصرية سنة 1367 ـ 1948 .
(4) الاصابة 1| 19 ، الاستيعاب 1| 8 .

حديـــث الثقلـــين _ 6 _

   الاجماع على ذلك . . . وهذا أيضاً من أهم الأسس التي بنوا عليه مذهبهم في الأصول والفروع ، لشدّة اعتنائهم بالأقوال والآثار التي يروونها عن الصحابة الذين يقتدون بهم . . . وإنْ كانوا يواجهون الصعوبات في مختلف الأبواب ، ويقعون في التناقضات ، لوجود التناقضات بين الصحابة انفسهم ! لكنْ لا إجماع ، فقد جاء في كلام التفتازاني : « ان ما وقع بين الصحابة من المحاربات والمشاجرات ـ على الوجه المسطور في كتب التواريخ ، والمذكور على ألسنة الثقات ـ يدل بظاهره على أنّ بعضهم قد حاد عن طريق الحق ، وبلغ حدّ الظلم والفسق .
   وكان الباعث له الحقد والعناد ، والحسد واللداد ، وطلب الملك والرياسة والميل الى اللذات والشهوات ، إذ ليس كل صحابي معصوماً ولا كلّ من لقي النبي بالخير موسوماً » (1).
وكذا قال آخرون .
   والكتّاب المعاصرون . . . تناقضوا . . . فمن « المشايخ » و « الدكاترة » كمحمد رشيد رضا ، ومحمود أبي رية ، والرافعي ، وطه حسين ، وأحمد أمين . . . من يقول بأنّ في الصحابة عدولاً وغير عدول ، كما قال التفتازاني وجماعة .
   ومنهم من بقي على قول السّلف . . . وحول الصحيحين(2).
   فالمعروف بين السابقين منهم هو القول بصحّة ما جاء في هذين الكتابين من أول حديثٍ إلى آخر حديث ، حتى اشتهر القول بينهم في كتب الرجال بأنّ من أخرج له في الصحيحين فقد جاز القنطرة .

---------------------------
(1) شرح المقاصد 5 / 310 .
(2) كتابا البخاري ومسلم عرفا بالصّحيحين ، وذكر لهما من الفضائل والمناقب مالا تصدّقه العقول ، وقد قال غير واحدٍ منهم : لو حلف رجل بطلاق زوجته في صحة أحاديثهما لم يحنث ، وقد وقع الخلاف بينهم ـ بعد جعلهما أصح الكتب بعد القرآن ـ في ترجيح أحدهما على الآخر ، والمعروف بينهم ترجيح كتاب البخاري .

حديـــث الثقلـــين _ 7 _

ومن السّابقين من طعن في الكتابين ، وفي شروحهما الطعن في كثير من أحاديثهما (1).
   والكتّاب المعاصرون . . . تناقضوا . . . فمنهم من خالف المشهور بين السّلف ، وقد ذكرنا بعضهم ، ومنهم الذين أقاموا الضجّة الكبرى على كتاب ( أضواء على السنّة المحمدية ) للشيخ محمود ابي ريّة ، وثاروا عليه ، حتى ألّفوا في ذلك كتباً ، وما ذلك إلاّ لأنه جاء بحقائق عن الصحابة والكتب المعروفة بالصّحاح ، حقائق طالما حاول السابقون ـ وأتباعهم اللاحقون عن أعين الناس . . .
   و « الدكتور السالوس » لم نقف بعدُ على آرائه في القضايا المذكورة وغيرها ، ولا ندري ما إذا كان أهلاً لأن يكون له رأي (2).
   أما في كتابه في ( حديث الثقلين ) وهو في ( 40 ) صفحة فلم يحدّد موقفه ـ عن اجتهادٍ أو تقليد ـ من شيء من ذلك . . . وعلى كلّ حالٍ فقد وجدنا كتابه الصغير يشتمل على تناقضٍ كثير ، ولا يقوم بحثه على أصولٍ ثابتةٍ من العلم الكامل ، والمنطق السليم ، والأسلوب المهذّب .
   إنّ الذين عبّر عنهم في كتابه بـ « بعض المسلمين » وهم الشيعة الاثنا عشرية ، إنما يحتجّون بروايات الذين يسمّون أنفسهم بـ « أهل السّنة » تلك الروايات المخرّجة في كتبهم في شتى العلوم ، والمرويّة بأسانيدهم عن الصّحابة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم . . . إنما يحتجّون بها من باب الإلزام ، لكونها رواياتهم وفي كتبهم ، كما يحتج المسلم على النصراني بما في الانجيل لكونه الكتاب الذي يؤمن به ، مع أنه في نفسه غير مؤمن بما يحتجُّ به .
   وهكذا فعلوا في خصوص حديث الثقلين . . . في بحوثهم مع أهل السنّة . . .

---------------------------
(1) قد ذكرنا في الكتاب بعض الموارد من ذلك .
(2) قد بلغنا أنّ هناك كتباً مطبوعة باسم « الدكتور » ولا ندري هل هي له أو مطبوعة باسمه أو قد عاونه فيها غيره كما قد صرّح بهذا هو في خصوص كتابه في حديث الثقلين . ولا تستغربنّ هذا الذي قلناه فإنّ من اليقين أن ما نشر باسم الرجل الباكستاني ـ حشرة الله مع أوليائه ـ لم يكن من تأليفه وكم له من نظير !

حديـــث الثقلـــين _ 8 _

   فهل « الدكتور » يرى عدالة الصّحابة ، وأنهم صادقون فيما يروونه عن الصادق الأمين ؛ أو فيهم الفاسق والعادل ، فيجوز أن يكون بعضهم كاذباً عليه ؟ وهل يقول : بأنّ كتاب مسلم وغيره من الصّحاح كلّ أحاديثها صحيحة من الأول إلى الآخر ، أو لا بدَّ من النظر في رجالها ، كما هو حال الكتب غير الموصوفة بالصّحة ؟ وهل يعير وزناً لكلمات أعلام طائفته في تراجم رجال أحاديثهم وشروح الأحاديث الواردة في كتبهم ، أو لا ، حتى وإنْ أجمعوا على شيء ، فربما يخالفهم ويستبدّ برأيه ؟ .
   إنْ كان يذهب في هذه الأمور إلى غير مذهب الجمهور ، كأن يقول : الصحابة فيهم العادل وغيره ، وكتاب مسلم فيه الصحيح وغيره ، وما يقوله كبار علماء السنّة غير معتمد ، فليس للخصم أنْ يلزمه بما لا يراه حجةً ، ويكون البحث معه بأسلوبٍ آخر .
   ولكنْ إنْ كان مذهبه ذلك ، ولذا قال بعدم صحة حديث الثقلين ، والوارد في صحيح مسلم ، ومسند أحمد ، وصحيح الترمذي ، والمستدرك على الصحيحين . . . فلماذا يستدل بأحاديث كتاب مسلم ومسند أحمد في الصفحات الأخيرة من كتابه ؟.
   وتناقضات « الدكتور » في كتابه كثيرة : فإنّه إذا كان يرى أهل الكوفة شيعة ، والشيعي لا يجوز الأخذ بحديثه ، فكيف يحتج بما يرويه أهل الكوفة ؟ .
   وإذا كان الأعمش مدلّساً فيتوّقف عن قبول حديثه ، فكيف يستند إلى حديث يرويه الأعمش ؟ .
   وإذا كان أحمد يتساهل في رواية أحاديث الفضائل في المسند ، فكيف يحتج بحديثٍ يرويه في فضل أبي بكر ؟ .
   وإذا كان الحاكم شيعيّاً ومتساهلاً في مستدركه ، فكيف يستدل بحديثٍ يرويه السيوطي في الجامع الصغير عن المستدرك عن أبي هريرة ؟ .
   وهل يجديه عدم ذكر المستدرك والنقل عن الجامع الصغير ؟ .
   وإذا كان يأخذ رأي الذهبي في تلخيص المستدرك بعين الاعتبار ، فلماذا يأخذه في موضعٍ ويتغافل عنه في مواضع ؟ .

حديـــث الثقلـــين _ 9 _

   وهكذا . . . في قضايا أخرى ، تجدها في ثنايا الكتاب . . . ومن ذلك أنه : عندما يذكر رواية الترمذي يحرّف الكلام .
   وعندما يورد عبارة ابن حجر حول الحاكم أو غيره يحرّفها ! وعندما يورد روايات أحمد في مسنده يقول : « هي سبعة » مع أنّها أكثر ؟ .
   وبعد : فقد رأينا أنّ في نشر هذا الكتاب خدمةً للحق ، وأداء لبعض الواجب تجاه التراث ، ووفاءً بما لروّاد الحقيقة وذوي الأفكار الحرّة علينا من وظيفة التوضيح والبيان ، والتحذير من الانخداع بالأساليب التي يتّبعها بعض كتّاب العصر في البحوث العلمية ، ثم توعية أهل الحق بما يدور حولهم هنا وهناك .

والله ولي التوفيق .
قم | علي الحسيني الميلاني

حديـــث الثقلـــين _ 10 _

مقدمة فيها أُمور
الأوّل : إنه إذا كان الغرض منْ البحث هو الوصول إلى الحقيقة والكشف عن الواقع ، فلا بدّ فيه من الابتعاد عن العصبيّة والهوى ، ورعاية الأدب ، وحفظ الأمانة لدى النقل ، ثم الإحتجاج على الخصم وإلزامه بما يراه حجة .
   لا سيّما في زماننا ، فإنه عصر التحقيق عن طريق المنطق والاستدلال الصحيح ، فلا يصغى في هذا العصر إلى التهريج كما لا يروج فيه التدليس والتحريف .
   لقد ولّت عصور التقليد الأعمى والتعصّب للهوى ، تفتّحت العقول وتيقّظت الأفكار ، الحقيقة ضالّتها المنشودة ، والعلماء متوافرون ، والكتب موجودة .
   وسيرى القارىً الكريم إلتزامنا في هذا الكتاب بقواعد البحث وآدابه ، وأصول الاستدلال وأُسسه المنطقيّة ، فلم نتمسّك إلاّ بكتب أهل السنة ، ولم نستدل إلاّ بكلمات علماء تلك الطائفة ، من غير تصرّف في شيء أو تحريف ، مع ذكر القائل واسم كتابه بتعيين رقم الصفحة والجزء إنْ كانت طبعته في أكثر من جزء .
الثاني : إنّ حديث الثقلين من الأحاديث المتفق عليها بين المسلمين ، فالشيعة ترويه بأسانيدها وطرقها المعتبرة عن غير واحدٍ من أئمة أهل البيت عليهم السلام وصحابة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ، وهو عندها حديث متواتر مقطوع الصّدور .

حديـــث الثقلـــين _ 11 _

   ويرويه أهل السنّة بأسانيدهم وطرقهم المتكثرة عن أكثر من ثلاثين من أصحاب النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) وهو مخرّج في أكثر كتبهم من الصّحاح والسّنن والمسانيد والمعاجم . . .
   فاستدلال علماء الشيعة بكتب أهل السنة ورواياتهم لا يعني عدم وجوده عندهم بطرقهم ، وإنما هو للالزام والإحتجاج حسبما تقتضيه قواعد البحث والمناظرة ، إذْ لا تكون كتب الشيعة حجةً على غير الشيعة .
الثالث : كثير من رجال الأحاديث المرويّة في كتب أهل السنة ، وكثير من مشاهير مؤلّفيهم ، موصوفون عندهم بالتشيع ، فيقولون بترجمتة : « شيعي » أو « فيه تشيّع » أو « يستشيّع » ونحو ذلك ، تجد ذلك في رجال الكتب المعروفة عندهم بالصّحاح ، وخاصةً في كتابي البخاري ومسلم ، فقد ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني في الفصل التّاسع من مقدمة كتابه ( فتح الباري في شرح صحيح البخاري ) وهو أشهر شروحه : « الفصل التاسع : في سياق أسماء من طعن فيه من رجال هذا الكتاب ، مرتّباً لهم على حروف المعجم ، والجواب عن الاعتراضات موضعاً موضعاً » فذكر أسمائهم وبحث عنهم من الصفحة 381 حتى قال في ص 459 : « فصل : في تمييز أسباب الطعن في المذكورين » فأورد أسماء جماعةٍ رموا بالتشيع ودافع عنهم ، كإسماعيل بن أبان ، وعبد الرزاق بن همام الصنعاني ، وعدي بن ثابت الأنصاري ، وأبي نعيم الفضل بن دكين ، ومحمد بن فضيل بن غزوان . . .
فما معنى التشيع ؟ .
   قال الحافظ ابن حجر : « والتشيع محبّة علي وتقديمه على الصحابة ، فمن قدّمه على أبي بكر وعمر فهو غال في تشيّعه ويطلق عليه رافضي وإلاّ فشيعي ، فإنْ انضاف إلى ذلك السبُّ أو التصريح بالبغض فغال في الرفض ، وإنْ اعتقد الرّجعة إلى الدنيا فأشدّ في الغلو » (1).

---------------------------
(1) مقدمة فتح الباري : 460 .

حديـــث الثقلـــين _ 12 _

   والقائلون بتقديم أمير المؤمنين علي على أبي بكر وعمر ـ فضلاً عن عثمان ـ في الصحابة والتابعين كثيرون .
   فمن الصّحابة من ذكرهم الحافظ ابن عبد البر القرطبي في ( الاستيعاب ) حيث قال :
   « وروي عن سلمان ، وأبي ذر ، والمقداد ، وخباب ، وجابر ، وأبي سعيد الخدري ، وزيد بن الأرقم : أنّ علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) أولّ من أسلم ، وفضّله هؤلاء على غيره » (1).
   ومن التابعين وأتباعهم ذكر ابن قتيبة جماعةً في كتابه المعارف حيث قال : « الشيعة : الحارث الأعور ، وصعصعة بن صوحان ، والأصبغ بن نباته ، وعطية العوفي ، وطاووس ، والأعمش ، وأبو إسحاق السبيعي ، وأبو صادق ، وسلمة بن كهيل ، والحكم بن عتيبة ، وسالم بن أبي الجعد ، وابراهيم النخعي ، وحبّة بن جوين ، وحبيب بن أبي ثابت ، ومنصور بن المعتمر ، وسفيان الثوري ، وشعبة بن الحجاج ، وفطر بن خليفة ، والحسن بن صالح بن حي ، وشريك ، وأبو إسرائيل المّلائي ، ومحمد بن فضيل ، ووكيع ، وحميد الرواسي ، وزيد بن الحباب ، والفضل بن دكين ، والمسعود الأصغر ، وعبيد الله بن موسى ، وجرير بن عبد الحميد ، وعبد الله بن داود ، وهشيم ، وسليمان التيمي ، وعوف الأعرابي ، وجعفر الضبيعي ، ويحيى بن سعيد القطّان ، وابن لهيعة ، وهشام بن عمّار ، والمغيرة صاحب ابراهيم ، ومعروف بن خربوذ ، وعبد الرزاق ، ومعمر ، وعلي بن الجعد » (2).
ومن العلماء والمحدّثين في القرون اللاحقة من الشيعة من لا يحصي عددهم إلاّ الله . . .
---------------------------
(1) الاستيعاب في معرفة الأصحاب 3|1090 .
(2) المعارف : 341 .

حديـــث الثقلـــين _ 13 _

   وقد اضطرب القوم واختلف موقفهم تجاه هؤلاء الروّاة من الصحابة والتابعين وتابعيهم . . . ولننقل عبارة الحافظ ابن حجر فإنه قال :
   « فقد اختلف أهل السنة في قبول حديث من هذا سبيله ، إذا كان معروفاً بالتحرّز من الكذب ، مشهوراً بالسلامة من خوارم المروءة ، موصوفاً بالديانة والعبادة .
   فقيل : يقبل مطلقاً ، وقيل : يرّد مطلقاً ، والثالث التفصيل بين أنْ يكون داعيةً لبدعته أو غير داعية ، فيقبل غير الداعية ويرّد حديث الداعية . وهذا المذهب هو الأعدل ، وصارت إليه طوائف من الأئمة ، وادعى ابن حبّان إجماع اهل النقل عليه ، لكن في دعوى ذلك نظر . ثم اختلف القائلون بهذا التفصيل ، فبعضهم أطلق ذلك ، وبعضهم زاده تفصيلاً فقال : إنْ اشتملت رواية غير الداعية على ما يشيد بدعته ويزيّنه ويحسّنه ظاهراً فلا تقبل ، وإنْ لم تشتمل فتقبل ، وطرد بعضهم هذا التفصيل بعينه في عكسه في حق الداعية فقال : إنْ اشتملت روايته على ما يرّد بدعته قبل وإلاّ فلا .
   وعلى هذا إذا اشتملت رواية المبتدع سواء كان داعيةً أم يكن على ما لا تعلّق له ببدعته أصلاً هل ترّد مطلقاً أو تقبل مطلقاً ؟ مال أبو الفتح القشيري إلى تفصيل آخر فيه فقال : انْ وافقه غيره فلا يلتفت إليه هو إخماداً لبدعته وإطفاءً لناره ، وانْ لم يوافقه أحد ولم يوجد ذلك الحديث الاّ عنده ـ مع ما وصفنا من صدقه وتحرّزه عن الكذب واشتهاره بالدين وعدم تعلّق ذلك الحديث ببدعته ـ فينبغي أن تقدم مصلحة تحصيل ذلك الحديث ونشر تلك السنة على مصلحة إهانته وإطفاء بدعته والله أعلم » (1).

---------------------------
(1) مقدمة فتح الباري : 382 .

حديـــث الثقلـــين _ 14 _

   أقول : فالتشيع لا يضر بالوثاقة ولا يمنع من الإعتماد ، وهذا ما نصَّ عليه الحافظ ابن حجر في غير موضعٍ ، ففي كلامه حول « خالد بن مخلّد القطواني الكوفي » قال : « خ م ت س ق ـ خالد بن مخلَّد القطواني الكوفي أبو الهيثم ، من كبار شيوخ البخاري ، روى عنه وروى عن واحدٍ عنه ، قال العجلي : ثقة وفيه تشيّع . وقال ابن سعد : كان متشيّعاً مفرطاً . وقال صالح جزرة : ثقة إلا أنه يتشيّع . وقال أبو حاتم : يكتب حديثه ولا يحتج به . قلت : أمّا التشيّع فقد قدّمنا أنه ـ إذا كان ثبت الأخذ والأداء ـ لا يضرّه ، سيّما ولم يكن داعية الى رأيه »(1).
بل الرّفض غير مضر ... قال الحافظ ابن حجر : « خ ت ق ـ عبّاد بن يعقوب الرواجني الكوفي أبو سعيد ، رافضي مشهور ، إلاّ أنه كان صدوقاً ، وثّقة أبو حاتم ، وقال الحاكم : كان ابن خزيمة إذا حدّث عنه يقول : حدّثنا الثقة في روايته المتّهم في رأيه عبّاد بن يعقوب ، وقال ابن حبان : كان رافضيّاً داعية ، وقال صالح بن محمد ، كان يشتم عثمان رضي الله عنه .
   قلت : روى عنه البخاري في كتاب التوحيد حديثاً واحداً مقروناً وهو حديث ابن مسعود : أيّ العمل أفضل ؟ ، وله عند البخاري طريق أخرى من رواية غيره »(2).
وقال الحافظ الذهبي في « أبان بن تغلب » : « أبان بن تغلب [ م ، عو ] الكوفي شيعي جلد ، لكنّه صدوق فلنا صدقه وعليه بدعته .

---------------------------
(1) مقدمة فتح الباري : 398 .
(2) مقدمة فتح الباري : 410 .

حديـــث الثقلـــين _ 15 _

   وقد وثّقه أحمد بن حنبل ، وابن معين ، وأبو حاتم ، وأورده ابن عدي وقال : كان غالباً في التشيّع .
   وقال السعدي : زائغ مجاهر .
   فلقائل أن يقول : كيف ساغ توثيق مبتدع ، وحدّ الثقة العدالة والإتقان ؟ فكيف يكون عدلاً مَن هو صاحب بدعة ؟ وجوابه : إن البدعة على ضربين ، فبدعة صغرى كغلوّ التشيّع أو كالتشيّع بلا غلو ولا تحرّف ، فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصّدق . فلو ردّ حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية ، وهذه مفسدة بيّنة . . . » (1).
لكنّ بعض المتعصّبين منهم يقدحون في الرجل إذا كان شيعيّاً ويكرهون الرواية عنه ، ويعبّرون عنه بعباراتٍ شنيعة ، بل حتى وإنْ كان من الصّحابة ، مع أنّ المشهور بينهم ـ بل ادعي عليه الإجماع ـ عدالة الصحابة أجمعين ، وإليك نموذجاً من ذلك :
   قال الحافظ ابن حجر : « ع ـ عامر بن واثلة أبو الطفيل الليثي المكي ، أثبت مسلم وغيره له الصحبة ـ وقال أبو علي ابن السكن :
   روي عنه رويته لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) من وجوهٍ ثابتة ، ولم يرو عنه من وجهٍ ثابت سماعه .
   وروى البخاري في التاريخ الأوسط عنه أنه قال : أدركت ثمان سنين من حياة النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وقال ابن عدي : له صحبة ، وكان الخوارج يرمونه باتّصاله بعلي وقوله بفضله وفضل أهل بيته ، وليس بحديثه بأس .
   وقال ابن المديني : قلت لجرير : أكان مغيرة يكره الرواية عن أبي الطفيل ؟ قال : نعم .
   وقال : صالح بن أحمد بن حنبل عن أبيه : مكي ثقة . وكذا قال ابن سعد وزاد : كان متشيّعاً . قلت : أساء أبو محمد ابن حزم فضعّف أحاديث أبي الطفيل وقال : كان صاحب راية المختار الكذّاب .

---------------------------
(1) ميزان الاعتدال 1|5 .

حديـــث الثقلـــين _ 16 _

   وأبو الطفيل صحابي لا شكّ فيه ، ولا يؤثر فيه قول أحدٍ ولا سيّما بالعصبيّة والهوى ، ولم أر له في صحيح البخاري سوى موضع واحدٍ في العلم ، رواه عن علي ، وعنه معروف بن خربوذ . وروى له الباقون » (1).
الرابع : عندما ينقل علماء الشيعة توثيق رجلٍ من رواة أهل السنة عن أئمة الجرح والتعديل منهم . . . فإنّهم لا يدّعون كون أهل السنة متّفقين على وثاقة الرّجل . . . لأ نّ طرائق القوم وأنظارهم في الجرح والتعديل مختلفة ، كما لا يخفى على من راجع كتبهم في علم رواية الحديث . . . بل لا يوجد عندهم المجمع على قبوله ووثاقته إلاّ أقل قليلٍ من الرّواة ، ولذا أسّسوا قاعدةً في تعارض الجرح والتعديل ، وأنّ أيّهما المقدَّم على الآخر . . . ولعلّك تستغرب إذا ما سمعت أنّ القوم لم يتّفقوا حتّى على مثل ( البخاري ) و ( مسلم ) صاحبي الكتابين المعروفين بـ ( الصحيحين ) ! . . . لكنّه أمر واقع . . . وإليك بعض العبارات الصّريحة في هذا الأمر المهم بالنسبة إلى الأهم الأشهر منهما وهو « البخاري » .
   قال الحافظ الذهبي بترجمة علي بن المديني بعد الكلام عليه : « وكذا امتنع مسلم عن الرواية عنه في صحيحه ، لهذا المعنى ، كما امتنع أبو زرعة وأبو حاتم من الرواية عن تلميذه ( محمد ) لأجل مسألة اللفظ . وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم : كان أبو زرعة ترك الرواية عنه من أجل ما كان منه في المحنة » (2).
و( محمد ) هو ( البخاري ) ، ولأجل تكلّم الرجلين في البخاري ، فقد أورده الذهبي في ( الضعفاء ) وقال : « حجّة إمام ، ولا عبرة بترك أبي زرعة وأبي حاتم له من أجل اللفظ » (3).

---------------------------
(1) مقدمة فتح الباري : 410 .
(2) ميزان الاعتدال 3|138 .
(3) المغني في الضّعفاء 2|557 .

حديـــث الثقلـــين _ 17 _

وقد اغتاظ السبكي والمناوي من صنيع الذهبي هذا ، كما ستعلم .
   لكنّ ابن أبي حاتم قد سبق الذّهبي في ذلك ، فأورد البخاري في كتابه ( الجرح والتعديل ) ونصَّ على ترك أبيه وأبي زرعة الرواية عن البخاري ، وقد نقل الذهبي ذلك بترجمة البخاري (1).
   وأضاف الذّهبي بترجمة البخاري تكلّم محمد بن يحيى الذهلي فيه وأنه قال : « من ذهب بعد هذا إلى محمد بن اسماعيل البخاري فاتهموه ، فإنّه لا يحضر مجلسه إلاّ من كان على مثل مذهبه » (2).
   بل ذكر أنّ الذهلي أخرج البخاريَّ ومسلماً من مدينة نيسابور (3).
   وقال بترجمة الذهلي : « كان الذهلي شديد التمسك بالسّنة ، قام على محمد بن اسماعيل لكونه أشار في مسألة خلق أفعال العباد إلى أنّ تلفّظ القارى بالقرآن مخلوق . . . وسافر ابن اسماعيل مختفياً من نيسابور ، وتألّم من فعل محمد ابن يحيى . . . » (4).
   أقول : فهذا طرف من تكلّم الأكابر من السّنة في محمد بن اسماعيل البخاري ، ولو أردنا التوسّع بذكر جميع ما قيل فيه وفي مسلم لخرجنا عن وضع المقدّمة .
   وكما ذكرنا من قبل ، فقد اشتد غيظ بعض العلماء على الذهبي لنقل هذه الأشياء .

---------------------------
(1) سير أعلام النبلاء 12|462 .
(2) سير أعلام النبلاء 12|453 .
(3) سير أعلام النبلاء 12|455 .
(4) سير أعلام النبلاء 12|283 .

حديـــث الثقلـــين _ 18 _

   قال السّبكي في ( طبقات الشافعيّة ) : « وممّا ينبغي أن يتفقّد عند الجرح حال العقائد واختلافها بالنّسبة إلى الجارح والمجروح ، فربما خالف الجارح المجروح في العقيدة فجرحه بذلك .
   وإليه أشار الرافعي بقوله : وينبغي أنْ يكون المزكّون برآء من الشحناء والعصبّية في المذهب ، خوفاً من أن يحملهم ذلك على جرح عدل أو تزكية فاسق ، وقد وقع هذا لكثير من الأئمة ، جرحوا بناءً على معتقدهم وهم المخطَّئون والمجروح مصيب .
   وقد أشار شيخ الإسلام سيد المتأخرين تقي الدين ابن دقيق العيد في كتابه الاقتراح إلى هذا وقال : أعراض المسلمين حفرة من حفر النار وقف على شفيرها طائفتان من الناس : المحدّثون والحكّام .
   قلت : ومن أمثلته قول بعضهم في البخاري : تركه أبو زرعة وأبو حاتم من أجل مسألة اللفظ . فيالله والمسلمين ! أيجوز لأحدٍ أن يقول : البخاري متروك ، وهو حامل لواء الصناعة ومقدَّم أهل السنة والجماعة ! . . . » .
   وقال المنّاوي : « زين الأمة ، إفتخار الأئمة ، صاحب أصحّ الكتب بعد القرآن ، ساحب ذيل الفضل على ممرّ الزمان ، الذي قال فيه إمام الأئمة ابن خزيمة : ما تحت أديم السماء أعلم منه . وقال بعضهم : إنه آية من آيات الله يمشي على وجه الأرض . قال الذهبي : كان من أفراد العالم ، مع الدين والورع والمتانة . هذا كلامه في ( الكاشف ) .
   ومع ذلك غلب عليه الغرض من أهل السنة ، فقال في ( كتاب الضعفاء والمتروكين ) : ما سلم من الكلام لأجل مسألة ، تركه لأجلها الرازيّان . هذه عبارته ، واستغفر الله تعالى ، نسأل الله السلامة ونعوذ به من الخذلان » (1).

---------------------------
(1) فيض القدير 1|24 .

حديـــث الثقلـــين _ 19 _

الخامس : وعندما ينقل علماء الشيعة الحديث عن كتابٍ من كتب القوم فليس معنى ذلك كون كلّ ما فيه من الأحاديث معتبراً ، فإنّه وإنْ اشتهرت بين القوم كتب بالصّحاح ، واشتهر من بينها كتابا البخاري ومسلم ، فكانا أصحّ الكتب عندهم بعد القرآن الكريم ، لكنّ ذلك مشهور عندهم وليس بمتّفقٍ عليه ، ولذا تراهم يردّون بصراحةٍ كثيراً من الأحاديث المخرجة في الكاتبين فكيف بغيرهما من الكتب . . . ولا بأس بالإشارة إلى بعض ذلك : فمنها : ما أخرجه البخاري من حديث خِطبة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عائشة إلى أبي بكر ، فقال له أبو بكر : « إنّما أنا أخوك » .
   قال الحافظ ابن حجر : « قال مغلطاي : في صحّة هذا الحديث نظر . . . » (1).
ومنها : ما أخرجه البخاري حول شفاعة إبراهيم الخليل عليه السلام لأبيه . قال الحافظ ابن حجر : « قد استشكل الاسماعيلي هذا الحديث من أصله وطعن في صحّته » (2).
ومنها : ما أخرجه البخاري في مواضع من صحيحه من حديث صلاة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على عبد الله بن أُبي ، وأنه نزل في هذه القصّة قوله تعالى : ( استغفر لهم أو لا تستغفر لهم . . . ) .
   قال ابن حجر : « استشكل فهم التخيير من الآية ، حتى أقدم جماعة من الأكابر على الطّعن في صحة هذا الحديث ، مع كثرة طرقه واتفاق الشيخين وسائر الذين خرّجوا الصحيح على تصحيحه » فذكر من لطاعنين في صحّة هذا الحديث : أبا بكر الباقلاني ، وإمام الحرمين الجويني ، وأبا حامد الغزالي ، والداودي شارح البخاري (3).

---------------------------
(1) فتح الباري 11|26 .
(2) فتح الباري 8|406 .
(3) فتح الباري 8|271 .

حديـــث الثقلـــين _ 20_

   ومنها : ما أخرجه البخاري من حديث دعاء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في نزول المطر ، ثم قوله : « اللهم حوالينا ولاعلينا » . وقد أبطله كبار الأئمة كبدر الدين العيني صاحب ( عمدة القاري في شرح البخاري ) ، وكالدمياطي ، والداودي وأبي عبد الملك ، والكرماني صاحب ( الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري ) (1).
   والحافظ ابن حجر الذي طالما دافع عن أحاديث البخاري قال : ـ بترجمة أسباط بن نصر ، راوي حديث الدعاء المشار إليه ـ : « هو حديث منكر » (2).
   ومنها : ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث شريك حول إسراء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي جاء فيه : « وذلك قبل أنْ يوحى إليه » . فقد قال النووي بشرحه : « هو غلط لم يوافق عليه » (3).
   وتبعه الكرماني في شرح البخاري (4).
وقال ابن قيّم الجوزيّة : « قد غلّط الحفّاظ شريكاً في ألفاظ حديث الاسراء » (5).
   ومنها : ما أخرجه البخاري من حديث رجم القردة الزناة !! .
   قال ابن حجر : « قد استنكر ابن عبد البر قصّة عمرو بن ميمون هذه وقال : فيها إضافة الزنا إلى غير مكلَّف وإقامة الحدّ على البهائم ، وهذا منكر عند أهل العلم » (6).
   ومنها : ما أخرجه البخاري عن عطاء عن ابن عباس في التفسير ، وهو ثلاثة أحاديث .

---------------------------
(1) عمدة القاري في شرح صحيح البخاري 7|46 .
(2) تهذيب التهذيب 1|212 .
(3) المنهاج في شرح صحيح مسلم 2|65 ـ 66 .
(4) الكواكب الدراري 25|204 .
(5) زاد المعاد في هدي خير العباد 2|49 .
(6) فتح الباري 7|127 .

حديـــث الثقلـــين _ 21_

   فقد طعن غير واحدٍ من أئمتهم في هذه الأحاديث ، نقل الحافظ ابن حجر كلماتهم ثم اعترف بالحق فقال : « هذا عندي من المواضع العقيمة عن الجواب السديد ، ولا بدّ للجواد من كبوة » (1).
ومنها : ما أخرجه البخاري من حديث فيه سماع ( مسروق بن الأجدع ) من ( أم رومان ) وهي أم عائشة .
   قال كبار الأئمة كالخطيب البغدادي ، وابن عبد البر ، والقاضي عياض ، والسهيلي ، وابن سيد الناس ، والمزّي ، والذهبي ، والعلائي ، وغيرهم : هذا باطل ، فراجع (2).
أقول : هذه نماذج في هذا الباب . . . ولو كان لنا مجال لأوردنا غيرها .

---------------------------
(1) فتح الباري . المقدمة 2|135 ـ 136 .
(2) الاستيعاب 4|1937 ، الروض الأنف 6|440 ، عيون الأثر في المغازي والسير 2|101 ، فتح الباري 7|53 .

حديـــث الثقلـــين _ 22_



حديث الثقلين ولفظه
   إعلم أن الحديث المعروف بـ « حديث الثقلين » قد رواه القوم بألفاظٍ محتلفة (1).
فمنها : ما أخرجه مسلم بإسناده عن زيد بن أرقم قال : « قام رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يوماً فينا خطيباً بماءٍ يدعى خماً بين مكّة والمدينة ، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكّر ثم قال : أما بعد ألا يا أيّها الناس فإنما أنا بشر يوشك أنْ يأتي رسول ربي فاُجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين ، أوّلهما كتاب الله فيه الهُدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به . فحثّ على كتاب الله ورغّب فيه ثم قال : وأهل بيتي ، أذكّركم الله في أهل بيتي ، أذكّركم الله في أهل بيتي ، أذكّركم الله في أهل بيتي . . . » (2).
ومنها : ما أخرجه أحمد بإسناده عن زيد بن ثابت قال : « قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إني تارك فيكم خليفتين كتاب الله حبل ممدود ما بين السّماء والأرض ، أو ما بين السماء الى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض » (3).
ومنها : ما أخرجه الترمذي بإسناده عن جابر بن عبد الله قال : « رأيت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في حجّته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب ، فسمعته يقول : يا أيّها الناس ، قد تركت فيكم ما إنْ أخذتم به لن تضلّوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي » (4).

---------------------------
(1) المقصود هنا إيراد بعض ألفاظه عن بعض المصادر .
(2) صحيح مسلم 7|122 .
(3) مسند أحمد 5|181 .
(4) صحيح الترمذي 5|621 .

حديـــث الثقلـــين _ 23_

   ومنها : ما أخرجه ابن سعد وأحمد والطبراني عن أبي سعيد الخدري قال : « قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أيها الناس : إني تارك فيكم ما إنْ أخذتم به لنْ تضلّوا بعدي ، أمر بيّن ، أحدهما أكبر من الآخر : كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض وعترتي أهل بيتي ، وإنهما لنْ يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض »(1).
ومنها : ما عن ابن أبي شيبة أنه أخرجه في ( المصنّف ) بإسناده عن جابر بن عبدالله قال : « قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إني تركت فيكم ما لنْ تضلّوا بعدي إنْ اعتصمتم به : كتاب الله وعترتي أهل بيتي » . ومنها : ما أخرجه الترمذي باسناده عن زيد بن أرقم قال : « قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إني تارك فيكم ما إنْ تمسّكتم به لنْ تضلّوا بعدي ، أحدهما أعظم من الآخر : كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ، ولن يتفرّقا حتى يردا عليَّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما »(2).
ومنها : ما أخرجه الحاكم النيسابوري عن أبي الطفيل عن زيد بن أرقم قال : « نزل رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بين مكّة والمدينة عند شجرات خمس ودوحات عظام ، فكنس الناس ما تحت الشجرات ، ثم راح رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) عشية فصلّى ثم قام خطيباً ، فحمد الله وأثنى عليه وذكّر ووعظ فقال ما شاء الله أنْ يقول ، ثم قال : أيّها الناس إني تارك فيكم أمرين لنْ تضلّوا إنْ اتبعتموهما ، وهما كتاب الله وأهل بيتي عترتي ، ثم قال : أتعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ ـ ثلاث مرات ـ قالوا : نعم . فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ : من كنت مولاه فعلي مولاه » (3).

---------------------------
(1) الدر المنثور 2|60 .
(2) صحيح الترمذي 15|621 .
(3) المستدرك على الصحيحين 3|110 .

حديـــث الثقلـــين _ 24_

   ومنها : ما أخرجه الحاكم عن يحيى بن جعدة عن زيد بن أرقم قال : « أخبرني محمد بن علي الشيباني بالكوفة ، ثنا أحمد بن حازم الغفاري ، ثنا أبو نعيم ، ثنا كامل أبو العلاء ، قال : سمعت حبيب بن أبي ثابت يخبر عن يحيى بن جعدة عن زيد بن أرقم ـ رضي الله عنه ـ قال : خرجنا مع رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، حتى انتهينا إلى غدير خم ، فأمر بدوح فكسح في يومٍ ما أتى علينا يوم كان أشدّ حراً منه ، فحمد الله وأثنى عليه وقال : يا أيّها الناس : إنّه لم يبعث نبي قط إلاّ ما عاش نصف ما عاش الذي كان قبله . وإنّي أوشك أنْ أدعى فأجيب ، وإني تارك فيكم ما لن تضلّوا بعده : كتاب الله عزّوجل . ثم قام فأخذ بيد علي ( رضي الله عنه ) فقال : يا أيها الناس من أولى بكم من أنفسكم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم : قال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه » .
   وقال الذهبي في تلخيصه : صحيح (1).
   ومنها : ما أخرجه الطبراني بإسناده عن زيد بن أرقم قال : « نزل النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يوم الجحفة ، ثم أقبل على الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إني لا أجد لنبي إلاّ نصف عمر الذي قبله ، وإني أوشك أن ادعى فأجيب ، فما أنتم قائلون ؟ قالوا : نصحت . قال : أليس تشهدون أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً عبده ورسوله ، وأن الجنة حق والنار حق ، وأن البعث بعد الموت حق ؟ قالوا : نشهد ، قال : فرفع يديه فوضعهما على صدره ، ثم قال : وأنا أشهد معكم .

---------------------------
(1) المستدرك على الصحيحين 3|533 .

حديـــث الثقلـــين _ 25_

   ثم قال : ألا تسمعون ! قالوا : نعم ، قال : فإني فرطكم على الحوض وأنتم واردون عليَّ الحوض ، وإنّ عرضه أبعد ما بين صنعاء وبصرى ، فيه أقداح عدد النجوم من فضة ، فانظروا كيف تحلفوني في الثقلين : فنادى منادٍ : وما الثقلان يا رسول الله ؟ قال : كتاب الله ، طرف بيد عزّوجل ، وطرف بأيديكم ، فاستمسكوا به ولا تضلّوا ، والآخر : عترتي . وإنّ اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض . وسألت ذلك لهما ربي . فلا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصّروا عنهما فتهلكوا ، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم . ثم أخذ بيد علي ( رضي الله عنه) فقال : من كنت أولى به من نفسه فعلي وليه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه » (1).

---------------------------
(1) المعجم الكبير 5|186ـ 187 .