أم كانوا يؤثرون عناء اولئك المؤمنين المستغيثين ، ولنا ان نسأل أبا هريرة عن هؤلاء المساكين أمن أمة محمد هم ؟ أم من أمة غيره ؟ فان كانوا من أمته فما الذي صرفهم عنه الى غيره ؟ وان كانوا من امة غيره فمن الطبيعي له ان لا يحبط مساعيهم، ولا يخيب آمالهم فكيف اختص أمته بالشفاعة دونهم؟ مع ما فطر عليه من الرحمة الواسعة ومع ما آتاه الله يومئذ من الشفاعة والوسيلة معاذ الله ان يخيبهم وهو أمل الراغب الراجي وامن الخائف اللاجى يجيب لسان العافي بلسان نداه ويروي صدى اللهيف قبل رجع صداه صلى الله عليه وآله:
10 ـ شك الانبياء والتنديد بلوط وتفضيل يوسف على رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) بصبره :
أخرج الشيخان عن أبي هريرة مرفوعاً قال: نحن احق بالشك من ابراهيم إذ قال: ربي ارني كيف تحي الموتى ، قال: أو لم تؤمن ؟ قال : بلى ولكن ليطمئن قلبي ، ويرحم الله لوطاً لقد كان يأوي الى ركن شديد ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لاجبت الداعي أهـ ، ـ وهذا الحديث
ممتنع من وجوه: ـ ( احدها ): انه اثبت الشك لخليل الله ابرهيم عليه السلام؛ وقد قال الله عز من قائل : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْل ) وقال جل سلطانه: ( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) والايقان اسمى مراتب العلم والموقن بالشئ لا يمكن ان يكون شاكا فيه ، والعقل بمجرده
يحيل وقوع الشك من الانبياء عليهم السلام كافة، وهذا من الامور المسلمة ،
اما قوله تعالى: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى ) فظاهر في ان ابراهيم عليه السلام انما سأل ربه عن كيفية الاحياء لا عن الاحياء نفسه ، وهذا لا يتأتى الا اذا كان نفس الاحياء محققاً معلوماً لدى ابراهيم.
وبعبارة اوضح الاستفهام بكيف انما هو سؤال عن حال شئ موجود معلوم الوجود لدى السائل والمسؤول نحو : كيف زيد، يعني اصحيح هو مثلا أم مريض ؟ وكيف فعل زيد أي احسناً فعل مثلا أم قبيحاً ؟ وكيف وقعت القضية أو كيف تقع يعني اعلى ما نريد مثلا أم على خلاف ما نريد ؟ وعلى هذا فقوله : ارني كيف تحي الموتى، انما هو طلب لأن يريه كيفية ما قد علمه وتقرر لديه من احياء الموتى.
لكن لما كان مثل هذا الطلب قد يكون ناشئا عن الشك في القدرة على الاحياء، وربما يتوهم من يبلغه هذا الطلب ممن لايعرف مقام ابراهيم انه عليه السلام قد شك في القدرة اراد الله تعالى بسبب ذلك ان يرفع هذا التوهم ببيان منشأ طلبه فقال له : أو لم تؤمن ؟ قال : بلى ، أي: أنا مؤمن بالقدرة ولكني انما طلبت ذلك ليطمئن قلبي بسبب رؤية الكيفية التي نجى بها الموتى بعد تفرق اجزائها في مضامين القبور وأوجار الطيور وبطون السباع، ومطارح المهالك من البر والبحر، وكأن قلبه عليه السلام قد ولع برؤية الكيفية فقال: ليطمئن قلبي ، أي لتبرد غلة شوقه برؤيتها.
هذا هو المراد من الآية الكريمة، ومن نسب الشك اليه صلوات الله وسلامه عليه فقد ضل ضلالاً مبيناً.
(ثانيها) ان الظاهر من قوله: نحن أولي بالشك من ابراهيم تبوت الشك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولسائر الأنبياء، وانهم جميعاً اولى به من ابراهيم.
ولو فرض عدم ارادة الأنبياء جميعاً فارادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مما لابد
أبو هريرة
_ 81 _
منها، والحديث نص صريح في أنه أولى بالشك ( سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ) قد انعقد الاجماع على بطلانه، وتصافق العقل والنقل على امتناعه.
وما ندرى والله لم كان صلى الله عليه وآله وسلم أولى بالشك من ابراهيم مع ما آتاه الله مما لم يؤت ابراهيم وغيره من الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين.
ووصيّه أمير المؤمنين عليه السلام انما كان الباب من مدينة علمه وانما هو منه بمنزلة هارون من موسى إلا أنه ليس بنبي، وقد قال عليه السلام لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً
(1) فما الظن بسيد المرسلين، وخاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم وعليهم أجمعين.
(ثالثها): ان قوله : ويرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد تنديد بلوط ورد عليه؛ وتهمة له بما لا يليق بمنزلة من الله عز وجل وحاشاه أن يكون قليل الثقة بالله وانما أراد أن يستفز عشيريه وذويه ويستظهر بفصيلته التي تؤويه نصحاً منه لله عز وجل في أمر عباده بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وحاشا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان يندد بلوط أو يفند قوله ومعاذ الله أن يظن به إلا ما هو أهله ولكنه صلى الله عليه وآله وسلم انذر بكثرة الكذابة عليه.
(رابعها): ان قوله : ولو لبثت في السجن طول مالبث يوسف لأجبت الداعي ظاهر في تفضيل يوسف على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهذا خلاف مااجمعت عليه الأمة وتواترت به الصحاح الصريحة وثبت بحكم الضرورة بين المسلمين.
فان قلت : انما كان هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تواضعاً ليوسف واعجاباً بحزمه وصبره وحكمته في اثبات براءته حتى حصحص الحق قبل خروجه من السجن.
---------------------------
(1) هذه الكلمة مستفيضة عنه عليه السلام وقد اشار اليها البوصيري في همزيته اذ يقول :
ووزير ابن عمه في iiالمعالي ومـن الاهل تسعد iiالوزراء لـم يزده كشف الغطاء iiيقينا بل هو الشمس ما عليه غطاء |
أبو هريرة
_ 82 _
(قلنا) لا يجوز مثل هذا الكلام على رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولو كان على سبيل التواضع ، لاشتماله على خبر غير مطابق للواقع، لأنه لو ابتلي بما ابتلى به يوسف لكان اصبر من يوسف وأولى منه بالحزم والحكمة؛ وبكل ما يتحصحص به الحق، وهيهات أن يجيب الداعي بمجرد أن يدعوه الى الخروج فتفوته الحكمة التي آثرها يوسف إذ قال لرسول الملك حين أخلى سبيله: ارجع إلى ربك ـ أي صاحبك ـ فأسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن أن ربي بكيدهن عليم، قال ـ يعني الملك ـ: ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه، قلن حاشا لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز: الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وانه لمن الصادقين.
فما خرج من السجن حتى تجلت براءته كالشمس الضاحية ليس دونها سحاب.
ولئن اخذ يوسف بالحزم فلم يسرع بالخروج من السجن حتى تمّ له ما أراد، فان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد مثل الصبر والاناة والحلم والحزم والعزم والحكمة والعصمة في كل أفعاله وأقواله وهو الذي لو وضعوا الشمس في يمينه والقمر في شماله على ان يترك الأمر ما تركه.
وكان الأولى أن يقول أبو هريرة في هذا المقام: ولو لبث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في السجن اضعاف اضعاف ما لبث فيه يوسف ماتوسل إلى خروجه منه بما توسل اليه يوسف إذ قال للذي ظن انه ناج من صاحبي السجن ـ اذكرني عند ربك ـ أي صفني عند الملك بصفاتي وقص عليه قصتي لعله يرحمني ويتداركني من هذه الورطة ( فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّه ) أي ان الشيطان أنسى الرجل ان يذكر يوسف لربه ـ أعني الملك ـ ( فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِين ) وكان نسيان الرجل ولبث يوسف في السجن يضع سنين انما كانا تنبيهاً له إلى انه قد فعل غير الاولى إذ كان الاولى به أن لا يتوسل الى رحمة الله بغير الله عز وجل كما هو المأثور عن رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقد مني ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بما هو أعظم محنة من سجن يوسف
أبو هريرة
_ 83 _