إننا نجد في التاريخ ما يفند كل ما تقدم ، وصرح وينطق بأنهم قد أرادوه على ذلك ، فامتنع .
يحدثنا المسعودي : أنه حينما شاور عمر عثمان بن عفان في أمر الحرب مع الفرس ، قال له عثمان فيما قال : ( ... ولكن ابعث الجيوش ، وداركها بعضاً على بعض ، وابعث رجلاً له تجربة بالحرب ، وبصربها .
  قال عمر : ومن هو ؟ .
  قال : علي بن أبي طالب .
  قال : فالقه ، وكلمه ، وذاكره ذلك ، فهل تراه مسرعاً إليه ، أو لا ؟ ! ، فخرج عثمان فلقي علياً فذاكره ذلك ، فأبى عليِّ ذلك وكرهه ، فعاد عثمان ، فأخبره ) (1) .
  كما أن البلاذري قد ذكر هذه القضية باختصار ، مكتفياً بالإشارة إلى أن عمر قد عرض على علي عليه السلام الشخوص إلى القادسية ، ليكون قائداً لجيش المسلمين ، فأباه ، فوجه سعد بن أبي وقاص (2) .
  وفي قصية أخرى ، نجد : أنه حينما استشار أبو بكر عمر بن الخطاب في إرسال علي أمير المؤمنين عليه السلام لقتال الأشعث بن قيس ، وقال : ( إني عزمت على أن أوجه إلى هؤلاء القوم علي بن أبي طالب ، فإنه عدل رضا عند أكثر الناس ، لفضله ، وشجاعته ، وقرابته ، وعلمه ، وفهمه ، ورفقه بما يحاول من الأمور (3) .

---------------------------
=
يكن ليقدم على أمر كهذا ، لأن فيه خطراً على الأسلام ... بالإضافة إلى أنهم كانوا يعلمون بأن النبي صلى الله عليه وآله قد عهد إليه أن لا يبادر إلى أي عمل من هذا القبيل .
(1) مروج الذهب ج 2 ص 309 | 310 .
(2) فتوح البلدان بتحقيق صلاح الدين المنجد ، القسم الأول ص 313 .
(3) هذه الشهادة تدفع ما يدعى : من أنه لم يكن له بصر في السياسة ، كما يحاول أن يدعي المغرضون .

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام _ 161 _

  قال : فقال عمر بن الخطاب : صدقت يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله ، إن علياً كما ذكرت ، وفوق ما وصفت ، ولكني أخاف عليك خصلة منه واحدة .
  قال له أبو بكر : ما هذه الخصلة التي تخاف علي منها منه ؟ .
  فقال عمر : أخاف أن يأبى القتال القوم ، فلا يقاتلهم ، فإن أبى ذلك ، فلن تجد أحداً يسير إليهم (1) إلاَّ على المكروه منه .
  ولكن ذر علياً يكون عندك بالمدينة ، فإنك لا تستغني عنه ، وعن مشورته . واكتب إلى عكرمة الخ ... ) (2) .
  وبعد ... فأن يجدوا أمير المؤمنين عليه السلام قائداً عسكرياً ، يراه الناس تحت أمرهم ، وفي خدمتهم أحب إليهم من أن يجدوه منافساً قوياً ، يحتج عليهم بأقوال ومواقف النبي صلى الله عليه وآله في حقه (3) . وأما عن مشورة أمير المؤمنين على عمر في ما يرتبط بحرب الفرس ، فإنما كان يهدف منها إلى الحفاظ على بيضة الإسلام ، كما يظهر من نفس نص كلامه

---------------------------
(1) هذه الكلمات تدل على مدى ما ككان يتمتع به أمير المؤمنين من احترام وتقدير لدى الناس جميعاً ، بحيث لو لم يقاتل لم يقاتل أحد من الناس !! وإن كانوا ربما لا يقاتلون معه لو أرادهم على ذلك .
(2) الفتوح لابن أعثم ج 1 ص 72 .
(3) وقد قال المحقق البحاثة الشيخ علي الأحمدي الميانجي هنا ما يلي : إنه هل يمكن للخليفة الذي عزل خالد بن سعيد بن العاص عن امارة الجيش ، لميله إلى علي عليه السلام ـ هل يمكن ـ أن يرغب في تولية علي عليه السلام هنا ؟! اللهم إلا أن يكون هناك تخطيط بأن يقوم بعرض ذلك عليه ، فإن قبله ، فإن ذلك يكون تأييداً لخلافتهم ، ثم يعزلونه إيذاناً منهم للناس بعدم كفايته ... فيربحون في الحالتين ... أو يقال : إن الظروف في عهد أبي بكر تختلف عنها في عهد عمر .

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام _ 162 _

  عليه السلام فيها ... فمن أراد ذلك فليراجعه في مصادره ...
  وبعد ... فإن أخذ سائر ما قدمناه بنظر الاعتبار ، يجعلنا نطمئن ، بل نقطع بعدم صحة ما ينسب إلى الحسنين عليهما السلام من الاشتراك في الغزوات آنئذٍ .
  وقد قال السهمي : ( وذكر عباس بن عبد الرحمن المروزي في كتابه : التاريخ ، قال : قدم الحسن بن علي ، وعبد الله بن الزبير اصبهان ، مجتازين إلى جرجان ، فإن ثبت هذا يدل : على أنه كان في أيام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ) (1) .
  وأما بالنسبة لاشتراك بعض المخلصين من كبار الصحابة في الفتوح ، فالظاهر هو أنهم كانوا غافلين عن حقيقة الأمر ، فكانوا يقصدون بذلك خدمة الدين ، ونصرة الإسلام والمسلمين ، مع عدم إطلاعهم على رأي الأئمة عليهم السلام في هذه الفتوحات ، كما يظهر مما تقدم ، حيث نجد اهتماماً واضحاً في أن لا يعرف الناس رأي علي عليه السلام في هذا المجال ، أو لعل السلطة كانت تهتم في إرسالهم في مهمات كهذه ، وتمارس عليهم بعض الضغوط في ذلك .

الإمام الحسن عليه السلام وحصار عثمان :
  ويروي المؤرخون : أنه حينما حاصر الثائرون عثمان ، بعث الإمام أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام بولديه : الحسن والحسين صلوات الله وسلامه عليهما ، للدفاع عنه ، كما وبعث طلحة والزبير بولديهما أيضاً . ويقولون : إن الإمام الحسن عليه السلام قد جرح ، وخضب بالدماء على باب عثمان ، من جراء رمي الناس عثمان بالسهام ، ثم تسوّر الثائرون الدار على عثمان ، وقتلوه .
  وجاء الإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام ، كالواله الحزين ، فلطم

---------------------------
(1) تاريخ جرجان ص 9 .

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام _ 163 _

  الحسن ، وضرب صدر الحسين عليهما السلام ، وشتم آخرين ، منكراً عليهم أن يقتل عثمان ، وهم على الباب (1) .
  وقد استبعد البعض ذلك ، استناداً إلى أن خطة عثمان وسيرته ، تبعد كل البعد ما نسب إلى علي وولديه عليهم السلام ، كما ويبعدها : أن يتخذوا موقفاً يخالف موقف البقية الصالحة من الصحابة ، وينفصلوا عنهم . ولو فرض صحة ذلك ، فإنه لم يكن إلا لتبرير موقفه وموقف أبنيه عليهما الصلاة والسلام من الاشتراك في دمه ، وأن لا يتهمه المغرضون بشيء (2) .
  ويلوح من كلام السيد المرتضى رحمه الله أيضاً شكه في إرسال أمير المؤمنين عليه السلام ولديه للدفاع عن عثمان ، قال : ( فإنما أنفذهما ـ إن كان أنفذهما ـ ليمنعا من انتهاك حريمه ، وتعمد قتله ، ومنع حرمه ونسائه من الطعام والشراب . ولم ينفذهما ليمنعا من مطالبته بالخلع ) (3) .
  وعلى حد تعبير العلامة الحسني رحمه الله : ( ومن المستبعد أن يزج بريحانتي رسول الله صلى الله عليه وآله في تلك المعركة للدفاع عن الظالمين ، وهو الذي وهب نفسه وكل حياته للحق والعدالة ، وإنصاف المظلومين (4) .
  ويرى باحث آخر : ( أن الخليفة كان مستحقاً للقتل بسوء فعله ، كما أن

---------------------------
(1) راجع : الصواعق المحرقة ص 115 | 116 ، ومروج الذهب ج 2 ص 344 | 345 ، والإمامة والسياسة ج 1 ص 44 و 43 وأنساب الأشراف ج 5 ص 70 و 69 و 74 و 80 و 93 و 95 والبدء والتاريخ ج 5 ص 206 ، وتاريخ مختصر الدول ص 105 وسيرة الأئمة الإثني عشر ج 1 ص 527 و 540 عن ابن كثير ، وتاريخ الطبري ج 3 ص 418 و 419 ودلائل الصدق ج 3 قسم 1 ص 193 عن بعض من تقدم وعن ابن الأثير ، وابن عبد البر ، والفخري في الأداب السلطانية ص 98 وفيه : أن الحسن قاتل قتالاً شديداً ، حتى كان يستكفه ، وهو يقاتل عنه ، ويبذل نفسه دونه والعقد الفريد ج 4 ص 290 و 291 .
(2) راجع : حياة الحسن عليه السلام للقرشي ج 1 ص 115 | 116 .
(3) شرح النهج للمعتزلي ج 3 ص 8 .
(4) سيرة الأئمة الإثني عشر ج 1 ص 428 .

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام _ 164 _

  قتلته ، أو الراضون بقتله هم جمهرة الصحابة الأخيار ، ولا يعقل أن يقف الحسنان في وجه هؤلاء وضدهم ) (1) .
  ونقول :
  1 ـ أما ما ذكره هؤلاء من أن الصحابة الأخيار كانوا هم قتلة عثمان ، أو الراضون بقتله ، فهو صحيح ، ولكن مما لا شك فيه ، هو أنه قد كان من بينهم أيضاً بعض من ثار على عثمان ، من أمثال الزبير ، وطلحة وغيرهما ولكن لا لأجل الانتصار للحق ، وللمظلومين ، وإنما من أجل الحصول على بعض المكاسب الدنيوية .
  2 ـ وأما ماذكرته الرواية : من أن طلحة والزبير قد أرسلا بإبنيهما للدفاع عن عثمان ، فهو مما لا ريب في بطلانه ، فإن المصادر الموثوقة قد أطبقت : على أن طلحة ، والزبير ، وعائشة ، وغيرهم ، كانوا من أشد الناس على عثمان ... ( ولا نرى حاجة لذكر مصادر ذلك ، فإنه من بديهيات التاريخ ... ) .
  3 ـ وأما أنه عليه السلام قد ضرب الحسن عليه السلام ، ودفع في صدر الحسين ، فهو غير صحيح أيضاً ، فإن علياً عليه السلام قد كرر غير مرة : أن قتل عثمان لم يسره ولم يسؤه (2) ... كما أنه لم يكن ليتهم الحسنين عليهما السلام بالتواني في تنفيذ الأوامر التي يصدرها إليهما ، وهما من الذين نصَّ الله سبحانه على تطهيرهم ، وأكد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على عظيم فضلهم ، وسامق مجدهم ، وعلى محبته العظيمة لهم .
  وأما بالنسبة للدفاع عن عثمان ، فإنَّ ثمة وجهة نظر أخرى جديرة بالتقدير ، وقمينة بأن تقدم تفسيراً صحيحاً ، ومنطلقاً موضوعياً ومنطقياً لموقف أمير المؤمنين عليه السلام في هذه القضية ، لا مجرد عدم توجيه أصابع الاتهام إليه عليه السلام ، في موضوع قتل عثمان .
  وملخص ما يمكن اعتباره كافياً لتبرير دفاع أمير المؤمنين عليه السلام عن

---------------------------
(1) الإمام الحسن بن علي عليه السلام لآل يس ص 50 | 51 .
(2) راجع : الغدير ج 9 ص 69 ـ 77 عن مصادر كثيرة .

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام _ 165 _

  عثمان ، هو :
  أن أمير المؤمنين عليه السلام ، وإن كان لا يرى خلافة عثمان شرعية من الأساس ، وكان كذلك على اطلاع تام على جميع المخالفات والتجاوزات ، التي كانت تصدر من الهيئة الحاكمة باستمرار . ويرى رأي العين : أن فسادها قد استشرى ، وتفاقم خطره ، حتى لم يعد من السهل تحمله ، أو الإغضاء عنه ...
  إنه ... وإن كان يرى ذلك ـ إلا أنه لم يكن يرى : أن علاج الأمر بهذا الأسلوب الانفعالي العنيف هو الطريقة المثلى والفضلى ... وقد نقل عنه عليه السلام قوله عن عثمان : إنه استأثر فأساء الأثرة ، وجزعوا فأساؤوا الجزع (1) .
  وما ذلك ... إلا أن هذا الأسلوب بالذات ، وقتل عثمان في تلك الظروف ، وعلى النحو الذي كان ، لم يكن بالذي يخدم القضية ، قضية الإسلام ، بل كان من شأنه أن يلحق بها ضرراً فادحاً ، وجسيماً ... إذ أنه سوف يعطي الفرصة لأولئك المترصدين من أصحاب المطامع والأهواء لركوب الموجة ، واستغلال جهل الناس ، وضعفهم ، وظروف حياتهم ، بملاحظة ما تركت عليهم السياسية من آثار في مفاهيمهم ، وفي عقليتهم ، ونظرتهم ، وفي عقائدهم ، وغير ذلك ... ـ لسوف يعطي هؤلاء الفرصة ، لاستغلال كهذا . ورفع شعار الأخذ بثارات عثمان ، واتخاذ ذلك ذريعة للوقوف في وجه الشرعية المتمثلة بأمير المؤمنين عليه السلام ، وإلقاء الشبهات والتشكيكات حول علي ، وأصحاب علي عليه السلام ... الأمر ... الذي نشأ عنه حروب الجمل ، وصفين ، والنهروان ، على النحو الذي سجله التاريخ .. وقد كان أمير المؤمنين عليه السلام مدركاً ذلك كله ، ومطلعاً عليه بصورة تامة ، حتى انه حينما جاءه اليمنيون لتهنئته بالخلافة ، قال لهم : ( إنكم صناديد اليمن وساداتها ، فليت شعري ، إن دهمنا أمر من الأمور كيف صبركم على ضرب الطلا ، وطعن الكلا ) (2) ... الأمر الذي يعني : أنه كان يتوقع منذئذٍ حروباً ، لا بد

---------------------------
(1) نهج البلاغة ج 1 ص 72 بشرح عبده ، الخطبة رقم 29 .
(2) الفتوح لابن أعثم ج 2 ص 255 .

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام _ 166 _

  له من خوضها ، ضد أصحاب المطامع والمنحرفين .
  وقد كان ذلك بطبيعة الحال وَبَالاً على الإسلام ، وعلى المسلمين ، وسبباً للكثير من المصائب والبلايا ، التي لا يزال يعاني الإسلام والمسلمون من آثارها ... وإذا كان علي أمير المؤمنين عليه السلام لا يرغب في قتل عثمان يهذه الصورة التي حدثت ، وإذا كان قد أرسل الحسنين عليهما السلام للدفع والذب عنه ، وإذا كان قد بلغ في دفاعه عنه حداً جعل مروان يعترف بذلك ويقول :
  ( ما كان أحد أدفع عن عثمان من علي ، فقيل له : ما لكم تسبونه على المنابر ؟ قال : إنه لا يستقيم لنا الأمر إلا بذلك ) (1) .
  ويقول علي عليه السلام : ( واللهِ ، لقد دفعت عنه ، حتى خشيت أن أكون آثماً ) (2) .
  إنه إذا كان كذلك ... فإنه لم يكن يريد أن يكون ذلك الدفع عن عثمان ، موجباً لفهم خاطيء لحقيقة رأيه في عثمان ، وفي مخالفته ... فكان يذكر تلك المخالفات تصريحاً تارة ، وتلويحاً أخرى ، كما أنه كان يجيب سائليه عن أمر عثمان بأجوبة صريحة أحياناً ، ومبهمة أحياناً أخرى ، أو على الأقل لا تسمح بالتشبث بها واستغلالها ، من قبل المغرضين والمستغلين (3) ...
  كما أن دفاعه عليه السلام عن عثمان ، ومحاولته دفع القتل عنه ، لا يعني : أنه كان يسكت عن تلك المخالفات الشنيعة ، التي كانت تصدر منه ، ومن أعوانه ... ولا أنه لا يرى بها خطراً داهماً ومدمراً ... بل ما فتىء عليه السلام

---------------------------
(1) الصواعق المحرقة ص 53 والنصائح الكافية ص 88 عن الدارقطني .
(2) نهج البلاغة ، بشرح عبده ج 2 ص 261 ، ومصادر نهج البلاغة ج 3 ص 189 عن العديد من المصادر ، وبهج الصباغة ج 6 ص 79 عن الطبري ، وفيه : والله ، ما زلت أذب عنه حتى إني لأستحي الخ ...
(3) راجع هذه الأجوبة في : كتاب الغدير ج 9 ص 70 ـ بل راجع من ص 69 حتى ص 77 .

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام _ 167 _

  يجهر بالحقيقة مرة بعد أخرى ، وقد حاول إسداء النصيحة لعثمان في العديد من المناسبات ، حتى ضاق عثمان به ذرعاً ، فأمره أن يخرج إلى أرضه بينبع (1) .
  كما أنه ـ أي عثمان ـ قد واجه الإمام الحسن عليه السلام بأنه لا يرغب بنصائح أبيه ، وذلك لأنه :
  ( كان علي كلما اشتكى الناس إليه أمر عثمان ، أرسل إبنه الحسن عليه السلام إليه ، فلما أكثر عليه ، قال : أن أباك يرى : أن أحداً لا يعلم ما يعلم ؟ ونحن أعلم بما نفعل ، فكف عنا ، فلم يبعث علي ابنه في شيء بعد ذلك ... ) (2) .
  وهكذا ... يتضح : أن نصرة الحسنين عليهما السلام لعثمان ، بأمر من أبيهما أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه ، قد كانت منسجمة كل الانسجام مع خطهم عليهم السلام ، الذي هو خط الإسلام الصافي ، والصحيح ، وهو يدخل في عداد تضحياتهما الجسام ـ وما أكثرها ـ في سبيل هذا الدين ، ومن أجل إعلاء كلمة الحق ... كما أنه دليل واضح على بعد نظرهم ، وعلى دقة وعمق تفكيرهم ...

معاوية هو قاتل عثمان :
  ولا نذهب بعيداً إذا قلنا : إن معاوية قد أدرك منذ البداية : أن قتل عثمان يخدم مصالحه وأهدافه ، وأنه كان يرغب في أن يتم على عثمان ما تم ... وقد استنجده عثمان ، فتلكأ عنه ، وتربص به ، ثم أرسل جيشاً ، وأمره بالمقام بذي خشب ، ولا يتجاوزها ، وحذر قائده من أن يقول :

---------------------------
(1) نهج البلاغة ، بشرح عبده ج 2 ص 261 وبهج الصباغة ج 6 ص 79 عن الطبري ، ومصادر نهج البلاغة ج 3 ص 189 عن العديد من المصادر ، والغدير ج 9 ص 60 ـ 62 و 69 عن مصادر أخرى أيضاً .
(2) الغدير ج 9 ص 71 عن العقد ج 2 ص 274 وعن الإمامة والسياسة ج 1 ص 30 .

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام _ 168 _

  ( الشاهد يرى ما لا يرى الغائب ، فإنني أنا الشاهد وأنت الغائب ، قال : فأقام بذي خشب ، حتى قتل عثمان ، فاستقدمه حينئذٍ معاوية ، فعاد إلى الشام بالجيش الذي كان أرسل معه . وإنما صنع ذلك معاوية ليقتل عثمان ، فيدعو إلى نفسه ) (1) .
  وكتب علي أمير المؤمنين عليه السلام إليه : ( ولعمري ، ما قتله غيرك ، ولا خَذَلَهُ سواك ، ولقد تربصت به الدوائر ، وتمنيت له الأماني ) (2) .
  وعنه عليه السلام فيما كتبه له : ( إنك إنما نصرت عثمان حينما كان النصر لك ، وخذلته حينما كان النصر له ) (3) .
  وكتب أبو أيوب الأنصاري لمعاوية : ( فما نحن وقتلة عثمان ؟ إن الذي تربص بعثمان ، وثبط أهل الشام عن نصرته لأنت الخ ) (4) .
  وكتب إليه شبث بن ربعي : ( إنك لا تجد شيئاً تستغوي به الناس ، وتستميل له أهواءهم ، وتستخلص به طاعتهم ، إلا أن قلت لهم : قتل إمامكم مظلوماً ، فهلموا نطلب بدمه ، فاستجاب لك سفهاء طغام رذال ، وقد علمنا أنك قد أبطأت عنه بالنصر ، وأحببت له القتل بهذه المنزلة التي تطلب ) (5) .

---------------------------
(1) شرح النهج للمعتزلي ج 16 ص 154 والنصائح الكافية ص 20 عن البلاذري ، والإمام علي بن أبي طالب سيرة وتاريخ ص 166 .
(2) شرح النهج للمعتزلي ج 3 ص 411 ط قديم ، والغدير ج 9 ص 150 والنصائح الكافية ص 20 عن الكامل ، والبيهقي في المحاسن والمساوي ، والإمام علي بن أبي طالب عليه السلام سيرة وتاريخ ص 167 عن الأول .
(3) راجع : نهج البلاغة ج 3 ص 70 ط عبده والنصائح الكافية ص 20 وشرح النهج للبحراني ج 5 ص 81 وعن شرح المعتزلي ج 4 ص 57 .
(4) الإمامة والسياسة ج 1 ص 109 | 110 والغدير ج 9 ص 151 عنه ، وعن شرح النهج للمعتزلي ج 1 ص 260 .
(5) وقعة صفين ص 187 | 188 ، وتاريخ الطبري ج 3 ص 570 ، والغدير ج9 ص 151 ، عنهما وعن الكامل لابن الأثير ج 3 ص 123 وعن شرح النهج للمعتزلي ج 1 ص 342 .

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام _ 169 _

  وقال الطبري : فلما جاء معاوية الكتاب تريض به ، وكره إظهار مخالفة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ، وقد علم اجتماعهم ، فلما أبطأ أمره على عثمان الخ (1) .
  وكتب إليه ابن عباس : ( ... فأقسم بالله ، لأنت المتربص بقتله ، والمحب لهلاكه ، والحابس الناس قِبَلك عنه ... ولقد أتاك كتابه وصريخه يستغيث بك ويستصرخ فما حفلت به ... فقتل كما كنت أردت ... فإن يك قتل مظلوماً فأنت أظلم الظالمين ) (2) .
  ولابن عباس كتاب آخر يذكر له فيه ذلك أيضاً (3) .
  كما أن المنقري يقول : إنه لما نُعِيَ عثمان إلى معاوية : ( ضاق معاوية صدراً بما أتاه ، وندم على خذلانه عثمان ، وقال في جملة أبيات له :
ندمت على ما كان من تبعي الهوى      وقـصري  فيه حسرة وعويل (4)
  الأبيات .
 وحينما سأل معاوية أبا الطفيل الكناني عن سبب عدم نصره عثمان ، قال له : ( منعني ما منعك ، إذ تربَّص به ريب المنون ، وأنت بالشام ، قال : أو ما ترى طلبي بدمه نصرة له ؟ فضحك أبو الطفيل ، ثم قال : أنت وعثمان كما قال الشاعر الجعدي :

---------------------------
(1) تاريخ الطبري ج 3 ص 402 .
(2) شرح النهج للمعتزلي ج 16 ص 155 ، والإمام علي بن أبي طالب سيرة وتاريخ ص 167 عنه .
(3) الفتوح لابن أعثم ج 3 ص 256 والمناقب للخوارزمي ص 181 والإمامة والسياسة ج 1 ص 113 وشرح النهج للمعتزلي ج 8 ص 66 والغدير ج 10 ص 325 .
(4) وقعة صفين ص 79 والإمام علي بن أبي طالب سيرة وتاريخ ص 166 | 167 عنه والغدير ج 9 ص 151 والفتوح لابن أعثم ج 2 ص 266 .

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام _ 170 _

لا ألـفينك بـعد الموت iiتندبني      وفي حياتي ما زودتني زادا (1)
  بل لقد ذكر اليعقوبي : أن معاوية أمر الجيش بالمقام في أوائل الشام ، وأن يكونوا مكانهم ، حتى يأتي عثمان ليعرف صحة الأمر ، فأتى عثمان وسأله عن المدة ، فقال : قد قدمت لأعرف رأيك وأعود إليهم ، فأجيئك بهم ، قال : ( لا والله ، ولكنك أردت أن أقتل فتقول : أنا ولي الثار ، إرجع فجئني بالناس ، فرجع ولم يعد إليه حتى قتل ... ) (2) .
  وقد اعترف معاوية نفسه للحجاج بن خزيمة بأنه قد قعد عن عثمان ، وقد استغاث به فلم يجبه ، وأنه قال في ذلك أبياتاً (3) ، وهي الأبيات اللامية التي أشرنا إليها آنفاً .
  وصرح الشهرستاني بأن جميع عمال عثمان وأمراءه قد ( خذلوه ، ورفضوه حتى أتى قدره عليه ) ، وهم : معاوية ، وسعد بن أبي وقاص ، والوليد بن عقبة ، وعبد الله بن عامر ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح (4) .
  وقال له ابن عباس في المدينة ، حينما اتهم بني هاشم بقتل عثمان : ( أنت قتلت عثمان ، ثم قمت تغمص على الناس أنك تطلب بدمه ، فانكسر معاوية ) (5) .
  وكتب محمد بن مسلمة لمعاوية : ( ... ولعمري يا معاوية ، ما طلبت إلا الدنيا ، ولا اتبعت إلا الهوى ، ولئن كنت نصرت عثمان ميتاً ،

---------------------------
(1) مروج الذهب ج 3 والنصائح الكافية ص 21 والعقد الفريد ج 4 ص 30 عن تاريخ الخلفاء ، والإمام علي بن أبي طالب سيرة وتاريخ ص 168 والغدير ج 9 ص 139 | 140 عن تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 33 وعن تاريخ ابن عساكر ج 7 ص 201 وعن الاستيعاب ، في الكنى ، والإمامة والسياسة ج 1 ص 151 والمسعودي .
(2) تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 175 .
(3) الفتوح لابن أعثم ج 2 ص 265 .
(4) الملل والنحل للشهرستاني ج 1 ص 26 وراجع هامش : الشيعة في التاريخ ص 142 .
(5) تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 223 .

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام _ 171 _

  خذلته حياً ) (1) .
  ومن كتاب لأمير المؤمنين عليه السلام إليه : ( أما بعد ، فوالله ما قتل ابن عمك غيرك ، وإني لأرجو أن ألحقك به على مثل ذنبه ، وأعظم من خطيئته ) (2) .
  كما أن الاصبغ بن نباته قد واجهه بمثل ما تقدم عن غير واحد (3) .
  وكذلك ... فإن الإمام الحسن عليه السلام قال له : ( ثم ولاك عثمان فتربصت عليه ) (4) ، وقال معاوية لعمرو بن العاص : ( صدقت ، ولكننا نقاتله على ما في أيدينا ، ونلزمه قتل عثمان ، قال عمرو : واسوأتاه ، ان أحق الناس ألا يذكر عثمان لا أنا ولا أنت ، قال : ولم ؟ ويحك ، قال : أما أنت فخذلته ومعك أهل الشام ، حتى استغاث بيزيد بن أسد البجلي ، فسار إليه : وأما أنا فتركته عياناً ، وهربت إلى فلسطين ، فقال معاوية : دعني من هذا الخ ... ) (5) .
  ولما وصلت رسالة عثمان الاستنجادية إلى معاوية ، قال له المسور بن مخرمة : ( يا معاوية ، إن عثمان مقتول ، فانظر فيما كتبت به إليه ، فقال معاوية : يا مسور ، إني مصرح : إن عثمان بدأ فعمل بما يحب الله ويرضاه ، ثم غير وبدل ، فغير الله عليه ، أفيتهيأ لي أن أرد ما غير الله عز وجل ؟ ) (6) .
  فهو يستدل بالجبر من أجل تبرير تخاذله عن نصر عثمان !! .
  هل جرح الإمام الحسن عليه السلام في الدفاع عن عثمان :
  ويبقى أن نشير : إلى أننا نشك في صحة ما ذكرته الرواية من أن الإمام

---------------------------
(1) الإمامة والسياسة ج 1 ص 101 والغدير ج 10 ص 333 .
(2) الغدير ج 9 ص 76 والعقد الفريد ج 4 ص 334 .
(3) تذكرة الخواص ص 85 ومناقب الخوارزمي ص 134 | 135 .
(4) تذكرة الخواص ص 201 .
(5) تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 186 والإمامة والسياسة ج 1 ص 98 .
(6) الفتوح لابن أعثم ج 2 ص 228 .

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام _ 172 _

  الحسن عليه السلام قد جرح في الدفاع عن عثمان ، وذلك لان الامام عليا عليه السلام ، وإن كان يمكن أن يكون قد أرسل ابنيه ـ أو الإمام الحسن وحده ـ للدفاع عن عثمان ... وقد جاءا إليه ، وعرضا له المهمة التي أوكلها إليهما أبوهما ... إلا أن الظاهر : هو أن عثمان قد ردهما ، ولم يقبل منهما ذلك ... ويوضح ذلك النصوص التالية :
  1 ـ ( قال : ثم دعا علي بابنه الحسن ، فقال : انطلق يا ابني إلى عثمان ، فقل له : يقول لك أبي : أفتحب أن أنصرك ؟ فأقبل الحسن إلى عثمان برسالة أبيه ، فقال عثمان : لا ، ما أريد ذلك ، لأني قد رأيت رسول الله ... إلى أن قال : فسكت الحسن ، وانصرف إلى أبيه فأخبره بذلك ) (1) .
  2 ـ ( ثم اقتحم الناس الدار على عثمان وهو صائم ... إلى أن قال : والتفت عثمان إلى الحسن بن علي ، وهو جالس عنده ، فقال : سألتك بالله يا ابن الأخ إلا ما خرجت ؟ فإني أعلم ما في قلب أبيك من الشفقة عليك ، فخرج الحسن رضي الله عنه ، وخرج معه عبد الله بن عمر ) (2) .
  3 ـ ( كان علي كلما اشتكى الناس إليه أمر عثمان أرسل ابنه الحسن إليه ، فلما أكثر عليه قال : إن أباك يرى : أن أحداً لا يعلم ما يعلم ؟ ونحن أعلم بما نفعل ، فكف عنا ، فلم يبعث علي ابنه في شيء بعد ذلك ... ) (3) .
  وقال ابن قتيبة : ( ثم دخل عليه الحسن بن علي ، فقال : مرني بما شئت ، فإني طوع يديك ، فقال له عثمان ارجع يا ابن أخي ، اجلس في بيتك حتى يأتي الله بأمره ) (4) .

---------------------------
(1) الفتوح لابن اعثم ج 2 ص 228 .
(2) الفتوح لابن اعثم ج 2 ص 231 .
(3) تقدمت المصادر لذلك .
(4) الإمامة والسياسة ج 1 ص 39 وحياة الصحابة ج 2 ص 134 عن الرياض النضرة ج 2 ص 269 .

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام _ 173 _

  4 ـ ( وشمَّر أناس من الناس ، فاستقتلوا ، منهم سعد بن مالك ، وأبوهريرة ، وزيد بن ثابت ، والحسن بن علي ، فبعث إليهم عثمان بعزمه لما انصرفوا ، فأنصرفوا ) (1) .
  5 ـ ( بعث عثمان إلى علي بن أبي طالب : أن ائتني ، فبعث حسيناً ابنه ، فلما جاءه ، قال له عثمان : يا ابن أخي اتقدر على أن تمنعني من الناس ؟ قال : لا ، قال : فأنت في حلٍ من بيعتي ، فقل لأبيك يأتني ، فجاء الحسين إلى عليَّ فأخبره بقول عثمان ، فقام علي ليأتيه ، فقام إليه ابي الحنفية فأخذ بضبعيه ، يمنعه من ذلك ... ) .
  وفي هذه الأثناء جاء الصريخ : أن قد قتل عثمان (2) .
  6 ـ ( قال أبو مخنف في روايته : نظر مروان بن الحكم إلى الحسين بن علي فقال : ما جاء بك ؟ قال : الوفاء ببيعتي ، قال : اخرج عنا ، أبوك يؤلب الناس علينا ، وأنت هاهنا معنا ؟ ، وقال له عثمان : انصرف ، فست أريد قتالاً ولا آمر به ) (3) .
  وما تقدم يشير إلى أن عثمان قد رفض مساعدة الإمام الحسن ، أو هو مع الحسين عليهما السلام ولم يشاركا عليهما السلام في الحرب ضد الثائرين . ـ ولعل العرض والرفض قد تعدد عدة مرات ـ ، وذلك يوجب الريب في تلك الرواية القائلة بأن الإمام الحسن عليه السلام قد جرح في هذه القضية ، ثم كان من علي عليه السلام بالنسبة إليه ولأخيه ما كان ، مما تقدمت الإشارة إلى عدم صحته أيضاً .
  نعم ربما يكون الإمام الحسن عليه السلام قد ساعد على نجاة البعض ، من دون اشتراك في القتال ، وإنما بما له من أحترام خاص في النفوس ، ففي محاورة جرت بينه وبين مروان بن الحكم ، قال عليه السلام لمروان : ( أفلا أرقت دم من

---------------------------
(1) تاريخ الطبري ج 3 ص 389 .
(2) أنساب الأشراف ج 5 ص 94 .
(3) أنسب الأشراف ج 5 ص 78 .

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام ـ 174 ـ

  وثب على عثمان في الدار ، فذبحه كما يذبح الجمل ، وأنت تثغو ثغاء النعجة ، وتنادي بالويل والثبور ، كالأمة اللكعاء ، ألا دفعت عنه بيد ؟ أو ناضلت عنه بسهم ؟ لقد ارتعدت فرائصك ، وغشي بصرك ، فاستغثت بي كما يستغيث العبد بربه ، فأنجيتك من القتل ، ومنعتك منه ، ثم تحث معاوية على قتلي ؟ ! ولو رام ذلك لذبح كما ذبح ابن عفان الخ ... ) (1) .

قوة موقف الإمام الحسن عليه السلام :
  هذا ... وإن النص المتقدم آنفاً ، ليدل دلالة واضحة على قوة لا يستهان بها في موقف الإمام الحسن عليه الصلاة والسلام .
  وقد تقدم قول ابن العاص لمعاوية عن الإمام الحسن (ع) : ( خفقت النعال خلفه ، وأمر فأطيع ، وقال فصدق ، وهذان يرفعان إلى ما هو أعظم ، فلو بعثت إليه ، فقصرنا به وبأبيه ، وسببناه وأباه ، وصغرنا بقدره وقدر أبيه الخ ... ) .
  وقال سفيان بن أبي ليلى للإمام الحسن عليه السلام في ضمن كلام له : ( ... فقد جمع الله عليك أمر الناس ... ) (2) .
  وروى أبو جعفر قال : قال ابن عباس : ( أول ذل دخل على العرب موت الحسن عليه السلام ) (3) .
  وقال أبو الفرج : ( قيل لأبي إسحاق السبيعي : متى ذل الناس ؟ فقال : حين مات الحسن ، وادعي زياد ، وقتل حجر بن عدي ) (4) .
  وقد اعترف معاوية نفسه : بأن الحسن عليه السلام ليس ممن يُرمي به

---------------------------
(1) المحاسن والمساوي ج 1 ص 135 وفي هامشه عن المحاسن والأضداد ...
(2) شرح النهج للمعتزلي ج 16 ص 44 .
(3) شرح النهج للمعتزلي ج 16 ص 10 .
(4) مقاتل الطالبيين ص 76 وشرح النهج للمعتزلي ج 16 ص 51 .

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام _ 175 _

  الرجوان (1) ... أي ليس ممن يستهان به ، والنصوص التي تدخل هذا المجال كثيرة ، لا مجال لتتبعها فعلاً .
  ولعل ما تقدم من نصرة الإمام الحسن عليه السلام لعثمان ، بالإضافة إلى أنه لم يكن قد ساهم في قتل مشركي قريش وغيرها على عهد الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، بسبب صغر سنه آنئذٍ ، ثم ما سمعته الأمة ورأته من أقوال ومواقف النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم تجاهه عليه السلام ... ثم علم الجميع بنزول العديد من الآيات القرآنية ، التي تعرب عن فضله ، وتشيد بكريم خصاله ، وتؤكد على ما يؤهله الله له من دورٍ قيادي في مستقبل الأمة ...
  ـ إن كل ذلك وسواه ـ قد جعل موقفه عليه السلام في قبال معاوية والأمويين ، أكثر قوة ، وأعظم أثراً ، حيث لم يكن ثمة شبهات يستطيع خصومه التشبث بها لتضعيف مركزه ، وزعزعة سلطانه ، كما أنه لم يواجه ما يشبه قضية التحكيم ، التي فُرِضَت على أمير المؤمنين عليه السلام من قبل ...
  نعم ... هو ابن لذلك الذي وَتَرَ قريشاً ، وقتل صناديدها ، الذين أرادوا أن يطفئوا نور الله سبحانه ، بكل ما يملكون من حيلة ووسيلة .
  ولعل مدى ضعف حجة معاوية في مقابل الإمام الحسن عليه السلام ، يتجلى أكثر ، بالمراجعة إلى أقوال معاوية نفسه ، وذلك حينما لا يجد حجة يحتج بها لتصديه لهذا الأمر ، سوى أنه أطول من الإمام الحسن عليه السلام ولاية ، وأقدم تجربة ، وأكثر سياسة ، وأكبر سناً (2) .
  قال بعض الباحثين : ( وهكذا ... صارت مقاييس الخلافة كمقاييس الأزياء ، أو الكمال الجسماني : أطول ، وأكبر ، وأقدم ، وأكثر ) (3) .
  إلا أن جيش الإمام الحسن عليه السلام ، وكذلك الظروف الخاصة التي

---------------------------
(1) شرح النهج للمعتزلي ج 16 ص 19 و 195 .
(2) مقاتل الطالبيين ص 58 وشرح النهج للمعتزلي ج 16 ص 36 ، وحياة الحسن بن علي ، للقرشي ج 2 ص 33 و 35 .
(3) حياة الإمام الحسن بن عليه السلام ، لآل يس ص 85 .

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام _ 176 _

  مرت بها الأمة ، والعراق خاصة ، والنواحي العقيدية والاجتماعية ، وغير ذلك ـ كل ذلك وسواه ـ هو الذي أضعف من موقف الإمام الحسن عليه السلام ، وقوى من شوكة معاوي ، وإن كان العامل الزمني قد كان ـ على ما يبدو ـ لصالح الإمام الحسن عليه السلام على المدى الطويل ، ولا سيما بعد وجود بعض التحول في المجتمع العراقي تجاه أهل البيت ، بعد جهود أمير المؤمنين عليه السلام في هذا المجال ...
  وقد شرحنا بعض ما يرتبط المجتمع العراقي في بحث لنا آخر حول الخوارج ، وفيما تقدم بعض ما يمكن أن يفيد في ذلك ، وليس هذا موضع بحثنا الآن ، لأنه يرتبط بظروف صلح الإمام الحسن عليه السلام مع معاوية ... كما هو معلوم ...
  هل كان الإمام الحسن عليه السلام عثمانياً ؟ !
  ويحاول البعض أن يدعي : أن الإمام الحسن عليه السلام ( كان عثمانياً بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة ) ، قال : ( وربما غلا في عثمانيته ، حتى قال لأبيه ذات يوم ما لا يحب ، فقد روى الرواة : أن علياً مر بابنه الحسن ن وهو يتوضأ ، فقال له : أسبغ الوضوء يا حسن ، فأجابه الحسن بهذه الكلمة المرة : ( لقد قتلتم بالأمس رجلاً كان يسبغ الوضوء ) ، فلم يزد على أن قال : لقد أطال الله حزنك على عثمان ) . وفي نص آخر للبلاذري : ( لقد قتلت رجلاً كان يسبغ والوضوء ) (1) .
  وفي قصة أخرى يقولون : ( إن الحسن بن علي ، قال لعلي : يا أمير المؤمنين ، إني لا أستطيع أن أكلمك ، وبكى ، فقال علي : تكلم ، ولا تحنَّ حنين

---------------------------
(1) راجع : الفتنة الكبرى ، قسم : علي وبنوه ص 176 ، وأنساب الأشراف ج 3 ص 12 بتحقيق المحمودي و ج 5 ص 81 وراجع : الإمام الحسن بن علي لآل يس ص 50 وسيرة الأئمة الإثني عشر ج 1 ص 543 .

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام _ 177 _

  المرأة ، فقال : إن لناس حصروا عثمان ، فأمرتك أن تعتزلهم وتلحق بمكة ، حتى تؤوب إلى العرب عوازب أحلامها ، فأبيت ، ثم قتله الناس ، فأمرتك أن تعتزل الناس فلو كنت في جحر ضب لضربت إليك العرب آباط الإبل حتى يستخرجوك ، فغلبتني ، ثم أمرتك اليوم : أن لا تقدم العراق ، فإني أخاف عليك أن تقتل بمضيعة ... فقال علي الخ ) (1) .
  وثمة روايات أخرى تفيد هذا المعنى ، لا مجال لإيرادها وهي تدل على أنه عليه السلام كان يكره أن يذهب أبوه إلى العراق لحرب طلحة والزبير ، كما قاله البعض (2) .
  ونقول : إن كل ذلك لا يمكن أن يصح ، فـ :
  أولاً : كيف يمكن أن نجمع بين ما قيل هنا ، وبين قولهم الآنف الذكر : إن أمير المؤمنين عليه السلام قد أرسل الإمام الحسن وأخاه عليهم السلام للدفاع عن عثمان ... وأنه لما علم بمصيره جاء كالواله الحزين ، ولطم الحسن المخضب بالدماء ، ودفع في صدر الحسين عليهما السلام ، بتخيُّل : أنهما قد قصرا في أداء مهمتهما الخ ؟ ! .
  ثانياً : غن المتتبع لعامة مواقف الإمام الحسن عليه السلام يجده ـ باستمرار وبمزيد من الإصرار ـ يشدُّ أزر أبيه ، ويدافع عن حقه ، ويهتم في دفع حجج خصومه ، بل ... ويخوض غمرات الحروب في الجمل ، وفي صفين ، ويعرِّض نفسه للأخطار الجسام ، في سبيل الدفاع عنه عليه السلام ، وعن قضيته ، حتى لقد قال الإمام عليه السلام : أملكوا عني هذا الغلام لا يهدني ـ حسبما تقدم ...
  وبالنسبة لدفاعه عن قضية أهل البيت عليهم السلام ، وحقهم بالخلافة ، دون كل من عداهم ، فإننا لا نستطيع استقصا جميع مواقفه وأقواله فعلاً ، ولكننا

---------------------------
(1) أنساب الأشراف بتحقيق المحمودي ج 2 ص 216 | 217 وتاريخ الطبري ج 3 ص 474 وليراجع : شرح النهج للمعتزلي ج 1 ص 226 | 227 و ج 19 ص 117 وسيرة الأئمة الاثني عشر ج 1 ص 543 عن طه حسين وغيره .
(2) راجع : سيرة الأئمة الاثني عشر علي بن أبي طالب 1 ص 542 ـ 544 وغير ذلك .

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام _ 178 _

  نذكر نموذجاً منها :
  1 ـ عن الحسن عليه السلام : ( إن أبا بكر وعمر عمدا إلى هذا الأمر ، وهو لنا كله ، فأخذاه دوننا ، وجعلا لنا فيه سهماً كَسَهم الجدة ، أما والله ، لتهمنهما أنفسهما ، يوم يطلب الناس فيه شفاعتنا ) (1) .
  قال التستري : ( والظاهر : أن المراد بقوله عليه السلام : كسهم الجدة : أنهما جعلا لهم من الخلافة ، وباقي حقوقهم ، مجرد طعمة ، كالجدة مع الوالدين ) (2) .
  2 ـ وعنه عليه السلام في خطبة له : ( ولولا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وأوصياؤه ، كنتم حيارى ، لا تعرفون فرضاً من الفرائض الخ ... ) قال هذا بعد أن عدد الفرائض ، وكان منها الولاية لأهل البيت عليهم السلام (3) .
  3 ـ وتقدم قوله عليه السلام في خطبة له بعد بيعة الناس له : ( فإن طاعتنا مفروضة ، إذ كانت بطاعة الله عز وجل ورسوله مقرونة ، قال الله عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا ، أطيعوا الله ، وأطيعوا الرسول ، وأولي الأمر منكم ، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) الخ ... (4) .
  4 ـ وقال الأربلي : عن معاوية : ( وكان بينه وبين الحسن مكاتبات ، واحتج عليه الحسن ، في استحقاقه الأمر ، وتوثب من تقدم على أبيه ، وابتزازه سلطان ابن عمه رسول الله صلى الله عليه وآله ... ) (5) .
  وقد كتب عليه السلام لمعاوية ، بعد ذكره ، مجاهدة قريش لهم ، بعد وفاة

---------------------------
(1) أمالي المفيد ص 49 وبهج الصباغة ج 4 ص 569 .
(2) بهج الصباغة ج 4 ص 569 .
(3) ينابيع المودة ص 480 وعن الأمالي للطوسي ص 56 .
(4) ينابيع المودة ص 21 وأمالي المفيد ص 349 ومروج الذهب ج 2 ص 432 وحياة الحسن بن علي للقرشي ج 1 ص 153 وأمالي الشيخ الطوسي ج 1 ص 121 ، وصلح الحسن لآل يس ، ص 59 وعن جمهرة الخطب ج 2 ص 17 عن المسعودي .
(5) كشف الغمة ج 2 ص 165 .

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام _ 179 _

  النبي صلى الله عليه وآله ، مايلي :
  ( وقد تعجبنا لتوثب المتوثبين علينا ، في حقنا ، وسلطان نبينا صلى الله عليه وآله ... إلى أن قال : فأمسكنا عن منازعتهم ، مخافة على الدين : أن يجد المنافقون والأحزاب بذلك مغمزاً يثلمونه به ، إلى أن قال : وبعد ، فإن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، لما نزل به الموت ولاَّني الأمر بعده ) (1) .
  5 ـ وحسبنا أن نذكر هنا : أن أباه أرسله إلى الكوفة ، فعزل أبا موسى الأشعري ، الذي كان يثبط الناس عن أمير المؤمنين عليه السلام ، وجاء إلى أبيه بعشرة آلاف مقاتل ، وجرت في هذه القضية حوادث مثيرة وهامة ، عبر فيها الإمام الحسن عليه الصلاة والسلام عن فنائه المطلق في قضية أبيه ، التي هي قضية الإسلام والإيمان ، والتي نذر نفسه للدفاع عنها ، مهما كلفه ذلك من تضحيات (2) .
  6 ـ ثم هناك موقفه عليه السلام في تفنيد ما احتج به المعترضون على قضية التحكيم ، حيث أورد بهذه المناسبة احتجاجات هامة ، جديرة بالبحث والدراسة ، وهي تدل على بعد نظره ، وثاقب فكره ، وعمق وعيه لكل الأمور والقضايا ... فلتراجع في مصادرها (3) .

---------------------------
(1) راجع : مروج الذهب ج 2 ص 432 وشرح النهج للمعتزلي ج 16 ص 34 ومقاتل الطالبيين ص 55 | 56 والفتوح لابن اعثم ج 4 ص 151 والمناقب لابن شهر آشوب ج 4 ص 31 وحياة الحسن بن علي للقرشي ج 2 ص 29 والبحار ج 44 ص 54 وصلح الإمام الحسن لآل يس ص 82 والأحمدي عن ناسخ التواريخ ج 5 ص 84 وعن جمهرة رسائل العرب ج 2 ص 9 وعن مكاتيب الأئمة ص 3 و 4 و 7 .
وفي بعض تلك المصادر : ( ولاني المسلمون الأمر بعده ) وراجع : الغدير ج 10 ص 159 .
(2) راجع حياة الحسن بن علي للقرشي ، وسيرة الأئمة الاثني عشر ج 1 ص 546 | 548 .
(3) العقد الفريد ج 4 ص 350 والبحار ط قديم ج 8 ص 564 والإمامة والسياسة ج 1 ص 138 والمناقب لابن شهر آشوب ج 3 ص 193 وحياة الحسن بن علي للقرشي ج 1 ص 261 و 262 وعن جمهرة خطب العرب ج 1 ص 392 .

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام _ 180 _

  7 ـ وعنه عليه السلام : نحن أولى الناس بالناس ، في كتاب الله ، وعلى لسان نبيه (1) .
  8 ـ وقال عليه السلام في خطبة له : ( إن علياً باب من دخله كان مؤمناً ، ومن خرج عنه كان كافراً ) (2) .
  9 ـ وفي موقف له من حبيب بن مسلمة ، قال له : ( رُب مسير لك في غير طاعة الله ، فقال له حبيب : أما مسيري إلى أبيك فليس من ذلك ، قال : بلى والله ، ولكنك أطعت معاوية على دنيا قليلة زائلة ، فلئن قام بك في دنياك لقد قعد بك في آخرتك ، ولو كنت إذ فعلت شراً ، قلت خيراً الخ ... ) (3) .
  10 ـ ولتراجع خطبة الإمام الحسن عليه السلام ، التي يُكَّذِب فيها : أن يكون يرى معاوية أهلاً للخلافة ، وقد تقدمت إشارة إلى ذلك مع مصادره ، حين الكلام تحت عنوان : ( الأئمة في مواجهة الخطة ) فلا نعيد .
  وحسبنا ما ذكرناه هنا ، فإننا لم لم نقصد إلا إلى ذكر نماذج من ذلك ، ومن أراد المزيد فعليه بمراجعة كتب الحديث والتاريخ .
  ثالثاً : إن تطهير الله سبحانه وتعالى للإمام الحسن صلوات الله وسلامه عليه ، وكلمات النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في حقه ، ثم ما عرف عنه عليه السلام من أخلاق فاضلة ، وسجايا كريمة ... ليكذب كل ما ينسب إليه صلوات الله وسلامه عليه من أمور وكلمات ، مثل قوله : أمرتك ، ونحو ذلك تتنافى مع أبسط قواعد الأدب الإسلامي الرفيع ، والخلق الإنساني الفاضل ، ولا سيما مع أبيه الذي يعرف هو قبل كل أحد قول النبي صلى الله عليه وآله فيه : أنه مع الحق ، والحق معه ، يدور معه حيث

---------------------------
(1) نقل ذلك العلامة الأحمدي عن ناسخ التواريخ ج 1 ص 101 ط حجرية وعن البحار باب احتجاجاته عليه السلام .
(2) كشف الغمة للأربلي ج 2 ص 198 والبحار ج 43 ص 350 و 351 عن تفسير فرات ، ونقل عن ناسخ التواريخ ج 5 .
(3) شرح النهج للمعتزلي ج 16 ص 18.

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام _ 181 _

  دار (1) .
  فكيف إذا كان ذلك الذي ينسب إليه مما يأباه حتى الرعاع من الناس ، فضلاً عن خامس أصحاب الكساء ، وأشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وآله خلقاً وخُلُقاً وهدياً ، وسلوكاً ، ومنطقاً .
  رابعا : وبعد ... فهل يعقل أن يكون الإمام الحسن عليه السلام ، الذي عاش في كنفي جده النبي صلى الله عليه وآله ، وأبيه علي ... الإمام الحسن ، الذي كان بحراً من العلم لا ينزف ، وقد أجاب منذ طفولته على الأسئلة التي أحالها إليه جده ، ثم أبوه بعد ذلك ، كما تقدم ، هل يعقل : أنه لم يكن يحسن الوضوء (2) ؟ !
  خامساً : إنه إذا كان عليه السلام عثمانياً بالمعنى الدقيق للكلمة ـ كما يزعمه طه حسين فإنَّ معنى ذلك : هو أنه يبارك جميع تصرفات عثمان ، وأعماله التي تخالف كتاب الله وسنة نبيه (3) .
  وهذا مما لا يحتمل في حقه عليه السلام ... وهو الذي يذكر في تعريفه للسياسة : أن من جملة مراعاة حقوق الأحياء : أن تخلص لولي الأمر ما أخلص لأمته ، وأن ترفع عقيرتك في وجهه ، إذا حاد عن الطريق السوي ... فإن من الواضح : إن عثمان وعماله ، قد كانوا من أجلى مصاديق كلمته هذه ، كما قرره طه حسين نفسه .
  سادساً : وبالنسبة للرواية الأخرى نقول :
  1 ـ إن ما ذكرته ، من أنه أشار على أبيه بترك المدينة ... لم يكن بالرأي السديد إطلاقاً ... فإن طلحة والزبير ، وغيرهما من الطامعين والمستأثرين ، قد كانوا ينتظرون فرصة كهذه ... قال المعتزلي ن وهو يفند الرأي القائل بأنه كان على أمير المؤمنين أن يعتزل الناس ، وينفرد بنفسه ، أو يخرج عن المدينة إلى

---------------------------
(1) راجع إن شئت : كشف الغمة للأربلي ج 1 ص 143 ـ 148 فقد ذكر روايات كثيرة جداً .
(2) سيرة الأئمة الأثني عشر ج 1 ص 544 .
(3) سيرة الأئمة الأثني عشر ج 1 ص 545 .

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام _ 182 _

  بعض أمواله ، ولا يدخل في الشورى ، فإنهم سيطلبونه ، وسيضربون إليه آباط الإبل ـ قال المعتزلي : ( ليس هذا الرأي عندي بمستحسن ، لأنه لو فعل ذلك لولّوا عثمان ، أو واحداً منهم غيره ، ولم يكن عندهم من الرغبة فيه عليه السلام ما يبعثهم على طلبه ، بل كان تأخره عنهم قرة أعينهم ، وواقعاً بإيثارهم ، فإن قريشاً كلها كانت تبغضه أشد البغض ... ) .
  إلى أن قال : ( ولست ألوم العرب ، ولا سيما قريشاً في بغضها له ، وانحرافها عنه ، فإنه وَتَرَها ، وسَفَك دماءها ) .
  ثم ذكر ... أن الأحقاد باقية ، حتى ولو كان إسلامهم صحيحاً ثم قال : ( لا كإسلام كثير من العرب ، فبعضهم تقليداً ، وبعضهم للطمع والكسب ، وبعضهم خوفاً من السيف ، وبعضهم على طريق الحمية والانتصار ، أو لعداوة قوم آخرين ، من أضداد الإسلام وأعدائه ) (1) .
  وبعد ... فإن الناس في تلك الظروف الحرجة ، لم يكونوا ليتركوا علياً عليه السلام يترك المدينة ، وهم الذين بقوا يلاحقونه أياماً من مكان لمكان حتى بايعو ... وأمَّا بالنسبة لانتظاره عليه السلام حتى تضرب إليه العرب آباط الإبل فإن الإمام الحسن عليه السلام نفسه لم ينتظر ذلك ، حينما بايعوه بعد استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام ...
  كما أنه هو نفسه يقول ، وهو يتكلم عن قضية التحكيم ، فيما يرتبط بابن عمر :
( ... وثالثة : أنه لم يجتمع عليه المهاجرون والأنصار ، الذين يعقدون الإمارة ، ويحكمون بها على الناس ) (2) .
  وبعد ... فهل أن تغيُّب أمير المؤمنين عليه السلام عن المدينة سيمنع

---------------------------
(1) شرح النهج للمعتزلي ج 13 ص 399 | 300 .
(2) قد تقدمت المصادر لهذه القضية عن قريب ، وإن لم نذكر نصها كاملاً .

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام _ 183 _

  الأمويين ، وغيرهم من الذين في قلوبهم مرض ، من اتهامه بالتحريض على عثمان ، وتأليب الناس عليه ؟! .
  وها هو تغيب إلى ينبع حسبما تقدم ... فلم يمنعهم ذلك من الافتراء عليه ، عليه السلام ...
  3 ـ وأما بالنسبة إلى أنه عليه السلام لم يكن راضياً بقتال أبيه لطلحة والزبير كما يقول طه حسين ، فلا يصح أيضاً ، لأنه هو نفسه قد ذهب إلى الكوفة وعزل أبا موسى الأشعري ، وحرض الناس واستنهضهم للالتحاق بأمير المؤمنين عليه السلام ، ليحارب بهم عائشة وطلحة والزبير ، كما أنه هو نفسه قد شارك في هذه الحرب شخصياً .
  ولعل المقصود من الروايتين وأشباههما هو اتهام الإمام علي عليه السلام بالاعتداء على عثمان ، والاشتراك في قتله ، أولا أقل من تحريضه على ذلك ... ثم الطعن في خلافته بعدم اجتماع كلمة المسلمين عليه ، ثم تبرير موقف المتخاذلين عن نصرته (1) .
  هذا ... ويلاحظ هنا :
  ألف : إن الظاهر هو : أن نهي أمير المؤمنين عن البقاء في المدينة ، قد كان من قبل أسامة بن زيد ، ثم نُسِبَ إلى الإمام الحسن عليه السلام ، مع بعض التحوير والتطوير ، فقد روي : أن أسامة قال لعلي عليه السلام : ( يا أبا الحسن ، والله إنك لأعز علي من سمعي ، وبصري ، وإني أعلمك : أن هذا الرجل ليقتل ، فاخرج من المدينة ، وصر إلى أرضك ينبع ، فإنه إن قتل وأنت بالمدينة شاهد ، رماك الناس بقتله ، وإن قتل وأنت غائب لم يعذل بك أحد من الناس بعد ...
  فقال له علي : ويحك ، والله إنك لتعلم : أني ما كنت في هذا الأمر إلا كالآخذ بذنب الأسد ، وما كان لي فيه ، من أمرٍ ولا

---------------------------
(1) راجع بعض ما تقدم في كتاب صلح الإمام الحسن للعلامة السيد محمد جواد فضل الله رحمه الله ص 211 ـ 219 .

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام _ 184 _

  نهي ) (1) .
  باء : وأما رواية الوضوء ، فإننا نجد : أنها تنسب إلى الحسن البصري ، الذي ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر (2) ، مع وجود بعض الاختلاف بين الروايتين ، قال المعتزلي :
  ( ... ومما قيل عنه : أنه يبغض علياً عليه السلام ويذمه : الحسن بن أبي الحسن البصري ، أبو سعيد ... إلى أن قال : وروي عنه ، أن علياً عليه السلام رآه وهو يتوضأ للصلاة ـ وكان ذا وسوسة ـ فصب على أعضائه ماء كثيراً ، فقال له : أرقت ماء كثيراً يا حسن ! فقال : ما أراق أمير المؤمنين من دماء المسلمين أكثر ، قال : أوَساءك ذلك ؟ قال : نعم ، قال : فلا زلت مسوءاً .
  قالوا : فما زال الحسن عابساً قاطباً مهموماً إلى أن مات ... ) (3) .
  وفي نص آخر عنه نفسه ، قال : ( لما قدم علينا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام البصرة مرّ بي ، وأنا أتوضأ ، فقال : ياغلام ، أحسن وضوءك يحسن الله إليك ، ثم جازني ، فأقبلت أقفو أثره ، فحانت منه التفاتة ، فنظر إلي ، فقال : يا غلام ، ألك حاجة ؟ قلت : نعم ، علمني كلاماً ينفعني الخ ... ) (4) .
  فيلاحظ : أنه يذكر كلام علي عليه الصلاة والسلام له ، ولا يذكر جوابه هو اياه ... لكنه يحاول أن يذكر لنفسه فضيلة تبعد عنه شبهة انحرافه عن علي عليه السلام ... مع ان رواية المعتزلي الشافعي تصرح بانحرافه عنه عليه السلام .
  ولعل مما يشير إلى ذلك : ما رواه البعض ، من أن امير المؤمنين عليه السلام قد أخرجه من المسجد ، ونهاه عن التكلم (5) .

---------------------------
(1) الفتوح لابن أعثم ج 2 ص 227 وأنساب الأشراف ج 5 ص 77 .
(2) وفيات الأعيان ط سنة 1310 هـ ، ج 1 ص 129 .
(3) راجع : شرح النهج للمعتزلي ج 4 ص 95 وقاموس الرجال ج 3 ص 135 .
(4) أمالي المفيد ص 119 والبحار ج 77 ص 424 و ج 80 ص 310 وتيسير المطالب ص 177 | 178 .
(5) راجع : التراتيب الإدارية ج 2 ص 272 .