ـ يعلل رحمه الله ذلك بقوله : ( لعل السبب في ذلك يعود إلى انصراف أمير المؤمنين عن التدخل في شؤون الدولة والحياة السياسية ، ومما لا شك فيه : أن عدم اشتراك الإمام في الحروب والغزوات لم يكن مرده إلى تقاعس الإمام ، وحرصه على سلامة نفسه ، بل كان كما يذهب أكثر الرواة والمؤرخين لأن عمر بن الخطاب قد فرض على الكثير من أعيان الصحابة ما يشبه الإقامة الجبرية لمصالح سياسية يعود خيرها إليه ، وبقي الحسن السبط إلى جانب والده منصرفاً إلى خدمة الإسلام ، ونشر تعاليمه ، وحل ما يعترض المسلمين من المشاكل الصعاب ) (1) .

الرأي الصواب :
  ولكننا بدورنا ، لا نستطيع قبول ذلك ، ونعتقد : أن الحسنين عليهما السلام لم يشتركا في أي من تلك الفتوحات ... ونرى أن تلك الفتوحات لم تكن ـ عموماً ـ في صالح الإسلام ، إن لم نقل : إنها كانت ضرراً ووبالاً عليه ، ونستطيع أن نجمل ما نرمي إليه هنا على النحو التالي :

أ : آثار الفتوح على الشعوب التي افتتحت أرضها :
  إن من الواضح : أن تلك الفتوحات لم يكن يتبعها أي اهتمام ـ من قبل ـ الهيئة الحاكمة بإرشاد الناس ، وتعليمهم ، وتثقيفهم ، وتربيتهم تربية دينية صالحة ، بحيث يتحول الإسلام في داخلهم إلى طاقة عقائدية ، تشحن وجدان الإنسان وضميره بالمعاني السامية ، والنبيلة ، ولينعكس ذلك ـ من ثم ـ على كل حركات ذلك الإنسان ومواقفه ، وتغنى روحه وذاته بالمعاني والخصائص الإنسانية

---------------------------
(1) سيرة الأئمة الاثني عشر ج 1 ص 534 وراجع صفحة 317 .

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام _ 136 _

  الإسلامية السامية ، وتؤثر في صنع ، ثم في بلورة خصائصه الأخلاقية ، على أساس تلك المعاني التي فجرتها العقيدة في داخل ذاته ، وفي عمق ضميره ووجدانه .
  نعم ... لقد اتسعت رقعة الإسلام خلال عقدين من الزمن اتساعاً هائلاً ، يفوق أضعافاً كثيرة جداً ما تم إنجازه على هذا الصعيد في عهد الرسول الأعظم صلى عليه وآله وسلم ، ولكن الفارق بينهما كان شاسعاً ، والبون كان بعيداً ، فلقد كان الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لا يكتفي من الناس بإظهار الإسلام والتلفظ بالشهادتين ، ثم ممارستهم السطحية لبعض الشعائر والظواهر الإسلامية ، وإنما كان يرسل لهم المعلمين والمرشدين ، والمربين ، ليعلموهم الكتاب والحكمة ، وأحكام الدين (1) .

---------------------------
(1) راجع : التراتيب الإدارية ج 1 ص 477 و248 ،
وقد أرسل النبي صلى الله عليه وآله مصعب بن عمير إلى المدينة ليعلمهم ، كما أنه صلى الله عليه وآله في عهده لعمرو بن حزم يأمره بتعليمهم ( راجع مكاتيب الرسول كتابه صلى الله عليه وآله لعمرو بن حزم ) .
وفي التراتيب الإدارية ج 1 ص 41 : أن النبي صلى الله عليه وآله يتهدد من لا يعلم جيرانه ، وفي البخاري هامش فتح الباري ج 1 ص 166 يقول النبي صلى الله عليه وآله لوفد عبد القيس : ( ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم ) .
  وفي غزوة بئر معونة قتل العشرات ممن أرسلهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتعليم الناس أحكام الدين .
وليراجع غزوة الرجيع وغير ذلك كثير جداً لا مجال لتتبعه ...
ولكن قال بعض المحققين : إن قسطاً عظيماً من الفتوح الإسلامية كان في إيران ، ونرى كثيراً من العلماء والمتعبدين من الإيرانيين في زمن التابعين ، ولا يمكن نشوء هؤلاء إلا بالتعليم والإرشاد ، من قبل الصحابة والتابعين وأهل المدينة ، فعدم ذكر هذه الإرشادات لا يدل على عدم وجودها .
ونقول : إن ما ذكره قد كان بعد عشرات السنين من هذه الفتوحات ... كما أن كمية العلماء والمتعبدين التي أشار إليها ، لا تتناسب مع حجم الفتوحات هذه .
كما أنهم إنما كان المتعبدون منهم ممن يعيشون في المناطق القريبة من البلاد الإسلامية .
وعلى كل حال ، فإن ذلك رغم أنه لم يكن في المستوى المطلوب ، ولا في =

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام _ 137 _

  أما هذه الفتوحات العظيمة التي تم إنجازها على عهد الخلفاء الثلاثة بعده صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم في عهد الأمويين ، فلم يكن يصحبها تربية ولا تعليم ، ولا كان ثمة كوادر كافية للقيام بمهمة كهذه ، بالنسبة لهذه الرقعة الواسعة ، وهذا المد البشري الهائل ، ولا كان يهم الخلفاء والفاتحين ذلك من قريب ، ولا من بعيد .
  وإنما كانوا يكتفون من المستسلمين بالتلفظ بالشهادتين ، ثم بممارسة بعض الحركات والشعائر ، ظاهراً ، من دون أن يكون لها أي عمق عقيدي ، أو رصيد ضميري أو وجداني ذي بال ... ولذلك نجد في كتب التاريخ : أن كثيراً من البلدان تفتح ، ثم تعود إلى الكفر والعصيان ، ثم تفتح مرة أخرى (1) .
  فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يريد من الناس الإسلام والإيمان معاً ... { قالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } (2) .
  أما الآخرون ، فكانوا يكتفون منهم بظاهر الأسلام ، ولا يهمهم ما بعد ذلك .
  ونجد عدم الاهتمام هذا واضحاً جلياً لدى القرشيين (3) ، وحتى الكثيرين من صحابة رسول الله صلى عليه وآله وسلم منهم ... حتى لقد قال موسى بن

---------------------------
=
المناطق البعيدة ، وكان بعد مضي جيل أو جيلين أو أكثر لم يكن نتيجة لجهود الهيئة الحاكمة ، بل هو نتيجة جهود أفراد مخصوصين دفعهم شعورهم بالمسؤولية ، ولا سيما أمير المؤمنين عليه السلام طيلة أيام حكمه ، ثم جهود سائر الأئمة ، والصحابة المخلصين .
(1) راجع على سبيل المثال : تاريخ ابن خلدون ج 2 قسم 2 ص 131 و 132 و 133 والبداية والنهاية ج 7 ص 152 و 155 و 165 و 121 وليراجع : الفتوح لإبن اعثم الترجمة الفارسية ص 85 والكامل لابن الأثير ج 3 ص 465 وتاريخ الطبري ج 3 ص 325 والفتوحات الإسلامية لدحلان ج 1 فإن فيه الكثير من الموارد وراجع المختصر في أخبار البشر ج 1 ص 186 .
(2) سورة الحجرات آية : 14 .
(3) لذلك شواهد كثيرة في النصوص التاريخية ، لا مجال لإيرادها الآن ...

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام _ 138 _

  يسار : ( إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانوا أعراباً جفاة ، فجئنا نحن أبناء فارس ، فلخصنا هذا الدين ) (1) .
  وهكذا ... فإن أهل البلاد المفتوحة بعد الرسول صلى الله عليه وآله قد بقوا على ما كانوا عليه من عاداتهم وتقاليدهم ، ومفاهيمهم الجاهلية ، التي كانت تهيمن على حركاتهم ، وعلى مواقفهم ، وعلى علاقاتهم الاجتماعية بصورة عامة ، ولم يتعمق الإسلام في وجدانهم ، ولا مسَّ ضمائرهم ، فضلاً عن أن يكونوا قد ذابوا فيه ، بحيث يصبح هو المهيمن ، والمحرك والدافع لهم في كل موقف وكل حركة ...

آثار ونتائج :
  وعلى صعيد آثار هذه الظاهرة على المدى البعيد ، فقد كانت لها آثار سيئة جداً ... فإن تلك العادات ، والتقاليد ، والمفاهيم ، والانحرافات الجاهلية ، والعلاقات القبلية ، والأهواء والأطماع الشخصية ، وما يتبع ذلك من ممارسات لا إنسانية لم ير فيها المستفيدون منها ، الذين ما عرفوا من الإسلام إلا اسمه ، ولا من الدين إلا رسمه أمراً مخالفاً للإسلام ، أو مصادماً له ، ولا أحسوا فيها أية منافرة أو منافاة له ، إن لم نقل : إنها ـ بزعم أولئك المستفيدين منها ـ قد انتزعت من الإسلام اعترافاً بها ، وأصبح يؤمِّن غطاء وحماية لها ، حيث قد صارت ملبسة بلباس الشرع ، ومصبوغة بصبغة الدين .
  بل إن الحكام وأعوانهم ، ممن كان لهم مكانة ما لدى الناس ، بسبب صحبتهم للنبي صلى الله عليه وآله ، ورؤيتهم له ـ هم أيضاً ، أو أكثرهم ـ لم يكن الإسلام قد تعمق في نفوسهم كثيراً ، بل بقوا على ما كانوا عليه من انحرافات ، ومن مفاهيم وتقاليد جاهلية وقبلية ، وقد استفادوا من مركزهم ، ومن موقعهم ، ومن مكانتهم في مجال تركيز تلك المفاهيم والعادات والانحرافات ، ولو عن

---------------------------
(1) لسان الميزان ج 6 ص 136 وميزان الاعتدال ج 4 ص 227 .

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام _ 139 _

  طريق وضع الأحاديث على لسان النبي صلى الله عليه وآله لتأييدها ، كما كان الحال بالنسبة للتميز العنصري ، وتفضيل العربي على المولى ، وغير ذلك مما تقدمت الإشارة إلى بعض منه .
  ولا أقل ... من أنهم لم يكن يهمهم أمر الإسلام ، ونشر مفاهيمه وتعاليمه ، من قريب ولا من بعيد .
  وبعد ... فإنه إذا كان إسلام الناس صورياً ، لا يدعمه أي بعد عقيدي ، وليس له أية خلفيات وقواعد ثقافية وعلمية ، ولا يتصل بروح الإنسان وعقله ووجدانه ، بحيث يصير محركاً وجدانياً ، واندفاعاً ضميرياً ... فإنه سيتقلص تدريجاً ، ولا يعود له أي أثر على صعيد الحركة والموقف ... ولسوف يعتاد الناس على إسلام كهذا ... يرون أنه لا يتنافى مع جميع أشكال الإنحرافات والجرائم ، وتصبح هداية هؤلاء الناس على المدى البعيد أكثر صعوبة ، وأعظم مؤونة ، إن لم نقل : إنه يحتاج إلى عملية بل إلى عمليات جراحية عميقة جداً تستنفد الكثير من الطاقات والمواهب ... وتنتهي بهدر العظيم من القدرات والإمكانات ... ولقد كان بالإمكان تجنب كل ذلك ، لو كان ثمة تأس واتباع للرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، وتأثُّر لخطاه المباركة والميمونة في هذا المجال .
  وعلى صعيد آخر ... فإن مجتمعاً كهذا لا يملك المناعات ولا الحصانات الكافية ، التي تضمن عدم صيرورته ألعوبة بأيدي الأشرار ، بل بأيدي أولئك الذين يتخذونه أداة لهدم الإسلام الحقيقي ، الذي يرونه يقف حاجزاً أو مانعاً أمام أطماعهم وأهوائهم وانحرافاتهم ، وقد حصل ذلك بالفعل ، كما يتضح لمن يراجع التاريخ ، ولا سيما فترة الحكم الأموي ، ثم ما يلي ذلك من فترات .
  وعن مجتمع العراق في عصر الإمام الحسن عليه السلام ، نجد النص التاريخي يقول : ( ومعه أخلاط من الناس ، بعضهم شيعته ، وشيعة أبيه عليهما السلام ، وبعضهم محكِّمة ، يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة ، وبعضهم أصحاب طمع في الغنائم وبعضهم شكاك ، وبعضهم أصحاب عصبية ، اتبعوا رؤساء

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام _ 140 _

  لأحكام ومثلها في أصول دين ) (1) .
  لقد كان هذا حال مجتمع العراق في عهد الإمام الحسن عليه الصلاة والسلام ، رغم أنه كان أقرب إلى مركز الحكم الإسلامي من غيره ، ورغم أنه قد كان ثمة عناية خاصة من قبل الهيئة الحاكمة بشأن العراق ، الذي كان مركز الانطلاق لغزو بلاد المشرق ... وقد تحدثنا عن مجتمع العراق بشيء من التفصيل في بحثنا المستفيض حول الخوارج ، والذي نأمل في تقديمه إلى القراء في فرصة قريبة إن شاء الله تعالى .
  ولكن يلاحظ على النص المتقدم قوله : ( بعضهم شيعته ، وشيعة أبيه ) ... فإننا لا نعتقد : أن هذا البعض كان من الكثرة بحيث يصح جعله في قبال سائر الفئات التي تحدث عنها ذلك النص ، إذ :
  ( قد كان الناس كرهوا علياً ، ودخلهم الشك والفتنة ، وركنوا إلى الدنيا ، وقلّ مناصحوه ، فكان أهل البصرة على خلافه ، والبغض له ، وجلّ أهل الكوفة وقراؤهم ، أهل الشام ، وقريش كلها ) (2) .
  بل لقد روى الكشي عن الباقر عليه السلام قوله : ( كان علي بن أبي طالب عليه السلام عندكم بالعراق ، يقاتل عدوه ، ومعه أصحابه وما كان منهم خمسون رجلاً يعرفنه حق معرفته ، وحق معرفته إمامته ) (3) .
  وفي حرب صفين يقول علي عليه السلام لعدي بن حاتم : ( أدن ، فدنا حتى وضع أذنه عند أنفه ، فقال : ويحك ، إن عامة من معي اليوم يعصيني ، وإن معاوية فيمن يطيعه ولا يعصيه ) (4) .

---------------------------
(1) كشف الغمة للأربلي ج 2 ص 165 والإرشاد للمفيد ص 193 وأعيان الشيعة ج 4 قسم 1 ص 50 و 51 .
(2) الغارات للثقفي ج 2 ص 552 .
(3) اختيار معرفة الرجال ص 6 .
(4) شرح النهج للمعتزلي ج 8 ص 77 .

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام _ 141 _

   هذا ... وإن سلوك الحكام والولاة مع الناس آنئذٍ لم يكن إسلامياً على وجه العموم ، وإن إلقاء نظرة سريعة على معاملتهم للناس آنئذٍ ، تكفي لإطاء صورة عن ذلك ... وكنموذج على ذلك نذكر النص التالي :
( لم يزل أهل أفريقية من أطوع البلدان وأسمعهم إلى زمان هشام بن عبد الملك ، حتى دب إليهم أهل العراق ، واستثاروهم ، فشقوا العصا ، وفرقوا بينهم إلى اليوم ، وكانوا يقولون : لا نخالف الأئمة بما تجني العمال ، فقالوا لهم : إنما يعمل هؤلاء بأمر أولئك ، فقالوا حتى نَخْبُرَهُم .
  فخرج ميسرة في بضعة وعشرين رجلاً ، فقدموا على هشام ، فلم يؤذن لهم ، فدخلوا على الأبرش ، فقالوا : أبلغ أمير المؤمنين : أن أميرنا يغزو بنا ، وبجنده ، فإذا غنمنا نفّلهم ، ويقول : هذا أخلص لجهادنا وإذا حاصرنا مدينة قدمنا وأخرهم ، ويقول : هذا ازدياد في الأجر ، ومثلنا كفى إخوانه . ثم إنهم عمدوا إلى ماشيتنا ، فجعلوا يبقرون بطونها عن سخالها ، يطلبون الفراء البيض لأمير المؤمنين ، فيقتلون ألف شاة في جلد ، فاحتملنا ذلك ، ثم إنهم سامونا أن يأخذوا كل جميلة من بناتنا ، فقلنا : لم نجد هذا في كتاب ولاسنة ، ونحن مسلمون ، فأحببنا أن نعلم : أعن رأي أمير المؤمنين هذا ، أم لا ؟ ! ...
  فطال عليهم المقام ، ونفدت نفقاتهم ، فكتبوا أسماءهم ودفعوها إلى وزرائه ، وقالوا : إن سأل أمير المؤمنين ، فأخبروه ، ثم رجعوا إلى أفريقية ، فخرجوا على عامل هشام ، فقتلوه ، واستولوا على افريقية ، وبلغ الخبر هشاماً ، فسأل عن النفر ، فعرف أسماءهم ، فإذا هم الذين صنعوا ذلك ) (1) .
  ويذكر نص آخر : أن قتيبة بن مسلم أوقع باهل الطالقان ، فقتل من أهلها مقتلة عظيمة ، لم يسمع بمثلها ، وصلب منهم سماطين : أربعة فراسخ في نظام واحد ، الرجل بجنب الرجل ، وذلك مما كسر جموعهم ) (2) .

---------------------------
(1) الكامل لابن الأثير ، ج 3 ص 92 و 93 وتاريخ الطبري ج 3 ص 313 .
(2) البداية والنهاية ج 9 ص 78 و 81 والكامل لابن الأثير ج 4 ص 545 .

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام _ 142 _

   كما أن بعضهم يعطي أماناً لبلد في معالمة جرجان ، على أن لا يقتل منهم رجلاً واحداً ، فيقتلهم جميعاً إلا رجلاً واحداً (1) .
  وآخر يصالح أهل مدينة قنسرين ، ويجعل من جملة الشروط : أن يهدم المدينة من الأساس وهكذا كان (2) .
  وأيضاً : فقد دعا نائب خراسان : ( أهل الذمة بسمرقند ، ومن وراء النهر إلى الدخول في الإسلام ، ويضع عنهم الجزية ، فأجابوه إلى ذلك ، وأسلم غالبهم ، ثم طالبهم بالجزية ، فنصبوا له الحرب ، وقاتلوه ) (3) .
  كما أن عقبة بن نافع ، الذي ولاَّه معاوية ابن أبي سفيان على افريقية ، حينما دخلها ( وضع السيف في أهل البلاد ، لأنهم كانوا إذا دخل إليهم أمير أطاعوا ، وأظهر بعضهم الإسلام ، فإذا عاد الأمير عنهم نكثوا ، وارتد من أسلم ) (4) .
  وقال ابن الأثير : ( لما رأى أهل فارس ما يفعل المسلمون بالسواد ، قالوا لرستم والفيرزان ، وهما على أهل فارس : لم يبرح بكما الاختلاف حتى وهنتما أهل فارس الخ ... ) (5) .
  وأمثال ذلك كثير جداً .
  ولأجل ذلك ، فقد اشتدت مقاومة أهل البلاد المفتوحة ، وكثر نقض العهود ، حتى اضطر المسلمون إلى فتح كثير من البلاد أكثر من مرة ، كما ألمحنا إليه فيما سبق .

---------------------------
(1) تاريخ الطبري ج 3 ص 324 والكامل لابن الأثير ج 3 ص 110 والبداية والنهاية ج 7 ص 154 .
(2) الفتوحات الإسلامية لدحلان ج 1 ص 53 والكامل لابن الأثير ج 2 ص 493 وتاريخ الطبري ج 3 ص 98 .
(3) البداية والنهاية ج 9 ص 259 | 260 .
(4) الكامل لابن الأثير ج 3 ص 465 .
(5) الكامل لأبن الأثير ج 2 ص 448 .

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام _ 143 _

ب : آثار الفتوح على الفاتحين :
  وبعد كل ما تقدم ... فإن سياسات التمييز في العطاء ، وتفضيل العرب على غيرهم ، ثم حبس كبار الصحابة في المدينة ، وتولية الأعمال الجليلة ، وقيادة الجيوش خاصة ، لفئة خاصة ، لم تكن على الأغلب تملك رصيداً روحياً ، ولا ثقافياً إسلامياً ، سوى أنها تتمتع بثقة الهيئة الحاكمة ، أو انها رأت النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبرهة وجيزة جداً ، أو أنها من قريش .
  ـ إن كل ذلك وسواه من سياسات ، ليس فقط قد جعل من هذه الأمة المنتصرة أمة مغرورة ، معجبة بنفسها ، لا تقف عند حدٍ ، ولا تنتهي إلى غاية ... وخلق طبقة من الأثرياء ، الذين اتخمهم المال ، وأبطرتهم النعمة ، مع عدم وجود روادع دينية أو وجدانية كافية لديهم ، وقد كان معظمهم من أبناء واعضاء الهيئة الحاكمة ، وأعوانهم المقربين ، ومن قريش بصورة خاصة ، فنال الأمة منهم كل مكروه ، وأصيب الإسلام على أيديهم في مقاتله ...
  نعم ... لقد بهرتهم المناصب ، وأسالت لعابهم الفتوحات ، بما فيها من غنائم وسبايا ، وبسط نفوذ ، فشمخ كل منهم بأنفه ، ونظر في عطفه ، وتكبر ، وتجبر ، لأنه كان يتعامل مع الواقع الجديد بعقليته الجاهلية ، التي تعتبر القبيلة ، لا الأمة أساساً ، والفرد ـ لا الجماعة ـ ميزاناً ، ومنطلقاً لمجمل تعامله ، وعلاقاته ، وكل مواقفه وحركاته ... وصاروا يهتمون بتقوية أمرهم ، وتثبيت سلطانهم ، فصاروا يجمعون الأنصار بالمال ، وبالإغراء بالمناصب (1) ، ثم بالإصهار إلى القبائل ، وبغير ذلك من سياسات ، ليس الترهيب والقمع في كثير من الأحيان إلا واحداً منها (2) ... واستمروا في بسط نفوذهم وسلطانهم على

---------------------------
(1) قد تقدم نموذج من ذلك بالنسبة لأبي سفيان ، وغيره .
(2) كما جرى لأبي ذر ، وابن مسعود ، وعمار وغيرهم ... ولا سيما في عهد معاوية فمن بعده ...

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام _ 144 _

  أساس أنه ملك قبلي فردي بالدرجة الأولى (1) .
  وإذا كان أبو بكر ، وكذلك عمر لا يدري : أخليفة هو أم ملك (2) ... فإن معاوية بن أبي سفيان كان نفسه ملكاً بالفعل ، وكذلك كان يعتبره الكثيرون (3) ، بل إن عمر نفسه قد اعتبر نفسه ملكاً في بعض المناسبات(4) .
  نعم لقد كان معاوية ، والأمويون يعتبرون أنفسهم ـ بل ويعتبوهم كثيرون ـ ملوكاً قيصريين ... وأن على الدين والإسلام ـ بنظرهم ـ أن يكون مجرد شعار ن يخدم هذا الملك ويقويه ، وإذا وجدوا فيه أنه سيكون مانعاً لهم من الوصول إلى ما يطمحون إليه ، ويعملون في سبيل الحصول عليه ، فلا بد من تدميره ، واستئصاله من جذوره .
  فالمستفيدون الحقيقيون من تلك الفتوحات ـ ولاسيما على المدى البعيد ـ هم خصوص هذه الطبقة دون سواها ، كانوا يحصلون على النفائس ، والأقطاع ، والذهب ، وصوافي الغنائم ... وهم الذين لا بد أن يختصوا بالحسناوات من النساء ، بعنوان سبايا وجواري ... وقد بلغت الثروات في عهد الخلفاء الثلاثة الأول أرقاماً خيالية ، كما تدل عليه الكثير من النصوص التاريخية (5) .
  وقد زادت هذه الأرقام وتضاعفت في عهد الحكم الاموي ، الذي

---------------------------
(1) حتى كانوا يعتبرون السواد بستاناً لقريش ، والقضية معروفة ...
(2) راجع : طبقات ابن سعد ج 3 قسم 1 ص 221 وشرح النهج للمعتزلي ج 2 ص 66 ومنتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج 4 ص 383 و 389 وحياة الصحابة ج 3 ص 476 و ج 2 ص 36 و 37 و 256 والتراتيب الإدارية ج 1 ص 13 وعن كنز العمال ج 2 ص 317 ج 3 ص 454 وعن نعيم بن حماد في الفتن والطبقات الكبرى لابن سعد ج 3 ص 306 ط صادر وتاريخ الخلفاء ص 140 .
(3) قد تقدم بعض المصادر لذلك .
(4) الفتوحات الإسلامية لدحلان ج 2 ص 290 وحياة الصحابة ج 2 ص 256 عن كنز العمال ج 2 ص 317 ، وطبقات ابن سعد ج 3 ص 219 وعن ابن جرير وابن عساكر .
(5) راجع : مشاكلة الناس لزمانهم ص 12 حتى 18 ومروج الذهب والغدير ج 8 و 9 وجامع بيان العلم ج 2 ص 17 و 16 والبداية والنهاية ج 7 ص 164 وربيع الأبرار ج 1 ص 830 والتراتيب الإدارية ج 2 ص 32 ـ 24 ـ 29 ـ و 395 و 424 و 397 حتى =

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام _ 145 _

  لم يكن يقف عند حدود ، ولا يرجع إلى دين ، حتى أن خالداً القسري كان يتقاضى راتباً سنوياً قدره عشرون مليون درهم ، بينما كان ما يختلسه كان يتجاوز المئة مليون (1) .
  بل إننا نجد : أن من يقال عنه : أنه من أزهد الناس ، وهو عمر بن الخطاب ، بل يقولون : إنه لم يترك صامتاً (2) .
  وكان يرتزق من بيت المال ، ويقتر على نفسه كثيراً ، كما ذكرته بعض النصوص ، وكانت قد أصابته خصاصة ، فاستشار الصحابة فأشاروا عليه أن يأكل من بيت المال ما يقوته (3) .
  ولما حج فبلغت نفقته ستة عشر ديناراً قال : أسرفنا في هذا المال (4) .
  إن عمر هذا ... قد أصدق زوجته أربعين ألف درهم أو دينار (5) .
  وقيل مئة ألف (6) .
  كما أنه أعطى صهراً له قدم من مكة عشرة آلاف درهم

---------------------------
= ص 405 و 420 و 424 و 435 والعقد الفريد ج 4 ص 322 ـ 324 وحياة الصحابة ج 2 ص 241 ـ 250 ، وغير ذلك كثير .
(1) السيادة العربية والشيعة والإسرائيليات ص 32 و 25 و 24 وغير ذلك من صفحات ، ترجمة الدكتور حين إبراهيم حسن ، ومحمد زكي إبراهيم .
وفي البداية والنهاية ج 9 ص 325 : أن دخل خالد القسري كان عشرة ملايين دينار سنوياً .
(2) جامع بيان العلم ج 2 ص 17 .
(3) راجع طبقات ابن سعد ج 3 قسم 1 ص 221 و 222 ومنتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج ص 411 وحياة الصحابة ج 2 ص 301 .
(4) تاريخ الخلفاء ص 141 وطبقات ابن سعد ط صادر ج 3 ص 308 و 279 ودلائل الصدق ج 3 قسم 1 ص 212 عن تاريخ الخلفاء والصواعق المحرقة .
(5) الفتوحات الإسلامية لدحلان ج 2 ص 55 والتراتيب الإدارية ج 2 ص 405 والبحر الزخار ج 4 ص 100 وأنساب الأشراف بتحقيق المحمودي ج 2 ص 190 وعدة رسائل للشيخ المفيد ص 227 ، وقيل : عشرة آلاف .
(6) أنساب الأشراف ( بتحقيق المحمودي ) ج 2 ص 190 وعدة رسائل للشيخ المفيد ، المسائل السروية ص 227 .

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام _ 146 _

  من صلب ماله (1) .
  بل يقولون : ( إن ابناً لعمر باع ميراثه من عمر بماءة ألف درهم ) (2) .
  ويؤيد ذلك ما يذكره أبو يوسف : من أنه ( كان لعمر بن الخطاب أربعة آلاف فرس موسومة في سبيل الله تعالى ، فإذا كان في عطاء الرجل خفة ، أو كان محتاجاً ، أعطاه الفرس ، وقال له : إن أعييته ، أو ضيَّعته من علف ، أو شرب ، فأنت ضامن ، وإن قاتلت عليه فأُصيب ، أو أصبت ، فليس عليك شيء ) (3) .
  فإن الظاهر هو : أن هذه الأفراس كانت له ، وقد فعل ذلك تقرباً إلى الله ، ولا يبعد ذلك ، إذا كان إرث واحد ـ من أولاده مئة ألف فقط .
  ولقد كان هذا في الوقت الذي كان يعيش فيه البعض أقسى حياة يعيشها إنسان ، فلم يكن يملك سوى رقعتين ، يستر بإحداهما فرجه ، وبالأخرى دبره (4) .
  ولعله لاجل هذا ، ولأجل الحفاظ على الوجه الزهدي للخليفة ، نجد الحسن البصري ، يحاول الدفاع عن الخليفة الثاني في هذا المجال بالذات ، حيث إنه حينما يسأله البعض ، إن كان عمر بن الخطاب أوصى بثلث ماله : أربعين ألفاً ، يحاول إنكار ذلك ، ثم توجيهه بقوله :
  لا والله ، لمالهُ كان أيسر من أن يكون ثلثه اربعين ألفاً . ولكن أوصى بأربعين ألفاً ، فأجازوها ) (5) .
  وعلى كل حال ، فإننا نستطيع أن نحشد الكثير الكثير من الشواهد والأدلة

---------------------------
(1) طبقات ابن سعد ج 3 ص 219 والفتوحات الإسلامية لدحلان ج 2 ص 390 وحياة الصحابة ج 2 ص 256 عن ابن سعد ، وعن كنز العمال ج 2 ص 317 وعن ابن جرير وابن عساكر .
(2) جامع بيان العلم ج 2 ص 17 .
(3) الخراج ص 51 .
(4) المصنف لعبد الرزاق ج 6 ص 367 وراجع ص 268 والبيهقي ج 7 ص 209 .
(5) جامع بيان العلم ج 2 ص 17 .

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام _ 147 _

  على مدى اهتمام الحكام وأعوانهم ، وكل من ينتسب إليهم بجمع الأموال ، والحصول على الغنائم ، بحق أو بغير حق ، ويكفي أن نذكر : أن زياداً بعث ( الحكم بن عمر الغفاري على خراسان ، فأصابوا غنائم كثيرة ، فكتب إليه زياد : أما بعد ، فإن أمير المؤمنين كتب : أن يصطفي له البيضاء والصفراء ، ولا يقسم بين المسلمين ذهباً ولا فضة ) فرفض الحكم ذلك ، وقسمه بين المسلمين ، فوجه إليه معاية من قيده ، وحبسه ، فمات في قيوده ، ودفن فيها . ( وقال : إني مخاصم ) (1) .
  هذا وقد بدأ التعذيب في الجزية من زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب (2) .
  بل لقد رأيناهم يضربون الجزية حتى على من أسلم من أهل الذمة ، وذلك بحجة : أن الجزية بمنزلة الضريبة على العبد ، فلا يسقط إسلام العبد ضريبته ، لكن عمر بن عبد العزيز شذّ عن هذه السياسة ، وأسقطها عنهم ، كما يذكرون (3) .
  كما أن عمر بن الخطاب قد حاول أخذ الجزية من رجل أسلم ، على اعتبار : أنه : إنما أسلم متعوذاً ، فقال له ذلك الشخص : إن في الإسلام لمعاذاً ، فقال عمر : صدقت ، إن في الإسلام لمعاذاً (4) .

---------------------------
(1) مستدرك الحاكم ج 3 ص 442 | 443 وتلخيصه للذهبي بهامشه وحياة الصحابة ج 2 ص 80 و 81 عنه وراجع : الاستيعاب ج 1 ص 316 والإصابة ج 1 ص 347 .
(2) راجع : المصنف لعبد الرزاق ج 11 ص 245 فما بعدها ، وراجع : تاريخ جرجان ص 107 | 108 .
(3) راجع ذلك ، وحول ضرب الجزية على من أسلم : تاريخ الدولة العربية ص 235 وتاريخ التمدن الإسلامي ، المجلد الأول ص 273 | 274 والمجلد الثاني ص 360 عن ابن الأثير ج 4 ص 261 و 68 و 225 و ج 5 ص 111 و 48 و 24 وابن خلكان ج 2 ص 277 والعراق في العصر الأموي ص 66 عن الأموال لأبي عبيد ص 48 والفتوحات الإسلامية ج 1 ص 249 ، وفجر الإسلام ص 96 عن ابن الأثير 4 | 179 ، وأحكام القرآن للجصاص ج 1 ص 102 .
(4) المصنف لعبد الرزاق ج 6 ص 94 ولا بأس بمراجعة : السيادة العربية والشيعة والإسرائيليات ص 26 ـ 56 .

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام _ 148 _

  وأما مضاعفته الجزية على نصارى تغلب ، فهي معروفة ومشهورة (1) .
  وقال خالد بن الوليد ، يخاطب جنوده ، ويرغبهم بأرض السواد : ( ألا ترون إلى الطعام كرفغ (2) التراب ؟ .
  وبالله ، لو لم يلزمنا الجهاد في الله ، والدعاء إلى الله عز وجل ، ولم يكن إلا المعاش لكان الرأي : أن نقارع على هذا الريف ، حتى نكون أولى به ، ونولي الجوع والإقلال من تولى ، ممن اثاقل عما أنتم عليه ) (3) .
  وفي فتح شاهرتا ، يعطي بعض عبيد المسلمين أماناً لأهل المدينة ، فلا يرضى المسلمون ، وينتهي بهم الأمر : إلى أن رفعوا ذلك إلى عمر بن الخطاب ، فكتب : ( إن العبد المسلم من المسلمين ، أمانه أمانهم . قال : ففاتنا ما كنا أشرفنا عليه من غنائمهم ... ) (4) .
  وقال أحد الشعراء عند وفاة المهلب :
الا ذهـب الغزو المقرب iiللغنى      ومات الندى والجود بعد المهلب
  وعدا عن ذلك كله ، فإن قبيلة بجيلة تأبى الذهاب إلى العراق ، حتى ينفلها الحاكم ربع الخمس من الغنائم (5) .
  نعم ... إن ذلك كله ، لم يكن إلا من أجل ملء جيوبهم ، ثم التقوي ـ أحياناً ـ على حرب خصومهم .
  ولكن ما ذكره خالد بن الوليد آنفاً ليس هو كل الحقيقة ، وذلك لأن ما كان

---------------------------
(1) سنن البيهقي ج 9 ص 216 والمصنف لعبد الرزاق ج 6 ص 50 .
(2) الرفغ : الأرض الكثيرة التراب ، يقال : ( جاء بمال كرفغ التراب : أي في كثرته ... ) أقرب الموارد ج 1 ص 419 .
(3) العراق في العصر الأموي ص 11 عن الطبري ج 4 ص 9 ، ولا بأس بمراجعة الكامل لابن الأثير ج 2 ص 488 .
(4) المصنف ج 5 ص 222 و 223 وسنن البيهقي ج 9 ص 94 .
(5) راجع : الكامل في التاريخ ج 2 ص 441 .

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام ـ 149 ـ

  يصل إلى الطبقة المستضعفة من الجند ، لم يكن إلا أقل القليل ، مما لا يكفي لسد خلتهم ، ورفع خصاصتهم ، بل كان محدوداً جداً ، لا يلبث أن ينتهي ويتلاشى ، مع أنهم كانوا هم وقود تلك الحروب ، وهم صانعوا النصر والظفر فيها ... وقد يكون الكثيرون منهم ممن قد افتتحت أرضهم بالأمس القريب ، ثم هم يحرمون من كثير من الامتيازات ، حسبما تقدم بالنسبة لأهل افريقية ، الذين قدموا ليشتكوا للخليفة الأموي هشام بن عبد الملك .
  ولكن أكثر هؤلاء قد أصبحوا يجدون في هذه الحروب مصدر عيش لهم ، يحصلون عن طريقه على المال ، مهما كان ضئيلاًوزهيداً ، وذلك مما يرضيهم بطبيعة الحال ، ويجعلهم ـ لو كان فيهم من له أدنى اطلاع على الإسلام وأحكامه ـ يغمضون العين عن جميع ممارسات الحكام ، وأعمالهم الشيطانية واللاإسلامية ...
  وبعض الانتفاضات وإن كانت قد حصلت في بعض الفترات ... ولكنها لا تلبث أن تنتهي ، وسرعان ما تسحق ، أمام الضربات الماحقة ن التي يسددها إليها الحكام آنئذٍ .
  وعلى كل حال ... فإن الحرب من أجل الغنائم والأموال ، كانت هي الصفة المميزة لأكثر تلك الفتوحات ، وكأنني أتذكر ـ وإن كنت لم أستطع العثور على ذلك الآن رغم بحثي الجاد ـ إن في بعض المعارك يعلن الفريق الآخر إسلامه ، فلا يلتفتون إليهم ، ويعتبرونهم كاذبين ، وذلك طمعاً في أموالهم ونسائهم .
  وقد نجد آثار هذه الظاهرة ، حتى في زمن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً ، حيث إن المسلمين لم يكونوا قد بلغوا مرحلة النضج الرسالي بعد ، ولا تفاعلوا مع الأسلام وأحكامه على النحو المطلوب ، بل كانت لا تزال فيهم بعض النزعات الجاهلية ن والأطماع الدنيوية ، فيقول الحارث بن مسلم التميمي : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أرسلهم في سرية ، قال :
  ( فلما بلغنا المغار استحثثت فرسي ، وسبقت أصحابي ، واستقبلنا الحي بالرنين ، فقلت لهم : قولوا لا إله إلا الله تحرزوا ؟ فقالوها .

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام _ 150 _

  فجاء أصحابي ، فلاموني ، وقالوا : حرمتنا الغنيمة بعد أن بردت في أيدينا ، فلما قفلنا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله ، فدعاني ، فحسَّن ما صنعت ، وقال : أما إن الله قد كتب لك من كل إنسان منهم كذا و كذا الخ ... ) (1) .
  وقال الزبير للذي سأله عن مسيره لحرب علي (ع) : ( حدثنا أن هاهنا بيضاء وصفراء ـ يعني دراهم ودنانير ، فجئنا لنأخذ منها ) (2) .
  وبعد ذلك كله ، فقد قال المعتزلي في مقام إصراره على لزوم دخول علي في الشورى ، لأن الأحقاد عليه من قريش والعرب كانت على أشهدها ـ قال ـ : ( لا كإسلام كثير من العرب ، فبعضهم تقليداً وبعضهم للطمع والكسب ، وبعضهم خوفاً من السيف ، وبعضهم على طريق الحمية والانتصار ، أو لعدواة قوم آخرين من أضداد الإسلام وأعدائه ) (3) .
  وبعد كل ما تقدم ... فطبيعي : أن حياة النعيم والرفاهية لدى الهيئة الحاكمة وأعوانها ، وكذلك التمتع بالحسناوات والجواري ، من شأنه أن يزرع بذور الخمول ، وحب السلامة ، والإخلاد للراحة ، بحثاً عن الملذات ... ثم يستتبع ذلك : العمل على دفع الآخرين ليخوضوا الغمرات ، ويقدموا التضحيات ، في سبيل تأمين المزيد من تلك الامتيازات ، وفي سبيل حمايتها أيضاً :

تربية النشء على أيدي غير المسلمات :
  هذا كله ... عدا عن أن الجواري اللواتي لم يسلمن ، أو لم يتعمق الإسلام في قلوبهن على الأكثر ... قد كن يعشن في قلب ذلك المجتمع ، وكن يتولين

---------------------------
(1) كنز العمال ج 15 ص 330 عن أبي نعيم ، والحسن بن سفيان .
(2) أنساب الأشراف ( بتحقيق المحمودي ) ج 2 ص 271 .
(3) شرح النهج للمعتزلي ج 13 ص 300 .

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام _ 151 _

  تربية النشء الجديد فيه ، سواء كان من أولادهن ، أو من أولاد الأخريات من الحرائر ،
  وقد رأينا : أن الكثيرين من الأشراف والرؤساء قد كانوا من أمهات نصرانيات ، فقد :
  1 ـ كان لأولاد سعد بن أبي وقاص معلم نصراني (1) .
  2 ـ يوسف بن عمرو الذي كانت أمه نصرانية ، كما نص عليه كثير من المؤرخين (2) .
  3 ـ خالد القسري ، الذي بنى لأمه كنيسة كما نص عليه كثير من المؤرخين أيضاً (3) وكان خالد يهدم المساجد ، ويبني البيع والكنائس ، ويولي المجوس الخ (4) وكان جد خالد من يهود تيماء (5) .
  4 ـ الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي .
  5 ـ عبيدة السلمي .
  6 ـ أبو الأعور السلمي .
  7 ـ حنظلة بن صفوان .
  8 ـ عبد الله بن الوليد بن عبد الملك .
  9 ـ يزيد بن أسيد .
  10 ـ عثمان بن عنبسة بن أبي سفيان .
  11 ـ العباس بن الوليد بن عبد الملك .
  12 ـ مالك بن ضب الكلبي .

---------------------------
(1) أنساب الأشراف ( بتحقيق المحمودي ) ج 2 ص 292 .
(2) راجع على سبيل المثال : أنساب الأشراف ( بتحقيق المحمودي ) ج 3 ص 88 .
(3) راجع على سبيل المثال : وفيات الأعيان ج 1 ص 169 والأغاني ج 19 ص 59 ط ساسي والبداية والنهاية ج 10 ص 20 و 21 والغدير ج 5 ص 294 وطبقات الشعراء لابن سلام ص 80 .
(4) راجع : العراق في العصر الأموي ص 240 .
(5) الأغاني ط ساسي ج 19 ص 57 .

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام _ 152 _

  13 ـ شقيق بن سلمة أبو وائل .
  14 ـ عبد الله بن أبي عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومي (1) .
  15 ـ عمر بن أبي ربيعة (2) .
  16 ـ وأبو سلمة بن عبد الرحمن (3) .
  وذكر ابن حبيب طائفة من أبناء اليهوديات من قريش مثل :
  1 ـ عاصم بن الوليد بن عتبة .
  2 ـ هاشم بن عتبة بن نوفل .
  3 ـ عامر بن عتبة بن نوفل .
  4 ـ قويت بن حبيب بن أسد .
  5 ـ عيسى بن عمارة بن عقبة .
  6 ـ عمرو بن قدامة بن مظعون .
  7 ـ أبو عزة الجمحي الشاعر .
  8 ـ الخيار بن عدي .
  9 ـ الحصين بن سفيان بن أمية وغيرهم (4) .
  وكان حبيب بن أبي هلال الذي يروي عن سعيد بن جبير قد عشق امرأة نصرانية فكان يأتي إلى البيعة لأجلها ، فجرحه علماء الرجال بذلك .
  بل قيل إنه قد تنصر وتزوج بها (5) .
  بل إن طلحة قد تزوج بيهودية في زمن عمر (6) .

---------------------------
(1) المحبَّر : ص 305 | 306 . وراجع : الاعلاق النفيسة : ص 213 ، ونسب قريش لمصعب : ص 319 | 318 ، وربيع الأبرار : ج 1ص 328 .
(2) الشعر والشعراء : ص 349
(3) حياة الصحابة : ج 1 ص 104 ، والإصابة : ج 1 ص 108 .
(4) المنمق : ص 506 و 507 .
(5) المجروحون : ج 1 ص 264 .
(6) المصنف لعبد الرزاق : ج 7 ص 177 | 178 . وتفسير الخازن : ج 1 ص 439 .

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام _ 153 _

  وتزوج عبد الله بن أبي ربيعة بنصرانية أيضاً وذلك في زمن عمر (1) .
  وعثمان أيضاً تزوج بنائلة بنت الفرافصة على نسائه وهي نصرانية (2) .
  ومع أنه قد كان لعمر غلام نصراني لم يسلم ، وقد أعتقه حين وفاته (3) .
  إلا أننا نجده يعترض على أبي موسى ، لأن كاتبه غلام نصراني (4) .
  ويقول الجاحظ : ( اكثر من قتل في الزندقة ممن كان ينتحل الإسلام ويظهره هم الذين كان آباؤهم نصارى ، على أنك لو عددت اليوم أهل الظنة ومواضع التهمة لم تجد أكثرهم إلا كذلك ) (5) .
  ولو أردنا استقصاء هذه الأمور لطال بنا الأمر ...
  وعلى كل حال ... فإن تربية تلك الجواري للنشء الجديد ـ قد كان من شأنه أن يخفض من المستوى الديني ، ومن مستوى الالتزام بالأحكام الإسلامية لدى ذلك النشء بالذات ... وهذا بطبيعة الحال ـ من شأنه أن يشكل خطراً جدياً على الإسلام وعلى المسلمين ، ولذلك ... فإننا نجد الأئمة عليهم السلام يهتمون بتربية العبيد والجواري تربية إسلامية صالحة ، ثم عتقهم (6) .
  وقد شجع الإسلام العتق على نطاق واسع ، وجعل له من الإسباب الإلزامية والراجحة الشيء الكثير ، الذي من شأنه أن يقضي على ظاهرة العبودية من اساسها ، بل لقد اعتبر العتق في نفسه راجحاً ، ومن دون أي سبب .

---------------------------
(1) نسب قريش : ص 318 و 319 .
(2) تفسير الخازن : ج 1 ص 439 .
(3) التراتيب الإدارية : ج 1 ص 102 عن ابن سعد : ج 6 ص 109 ط ليدن وص 155 ط صادر ، وحلية الأولياء ج 9 ص 34 وعن كنز العمال : ج 5 | 50 عن ابن سعد وسعيد بن منصور ، وابن المنذر ، وابن أبي شيبة ، وابن أبي حاتم .
(4) عيون الأخبار لابن قتيبة : ج 1 ص 43 والدر المنثور : ج 2 ص 291 ، عن ابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان .
(5) ثلاث رسائل للجاحظ ، رسالة الرد على النصارى : ص 17 .
(6) راجع كتابنا : دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام المجلد الأول : بحث الإمام السجاد باعث الإسلام من جديد .

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام _ 154 _

طموحات الشباب :
  ومن جهة أخرى ... فإننا نجد : أن الحكام كانوا يستفيدون من تلك الفتوحات في مجال إرضاء طموحات الشباب ، وإشباع غرورهم ، إذا كانوا بصدد تأهيلهم لمناصب عالية ، وإظهار شخصياتهم ... بل لقد رأينا معاوية يجبر ولده يزيد لعنه الله على قيادة جيش غاز لبعض المناطق (1) والظاهر أن ذلك لأجل ما ذكرناه .

ابعاد المعترضين :
  أضف إلى ذلك : أنهم كانوا يستفيدون منها كذلك في إبعاد المعترضين على سياساتهم ، والناقمين على أعمالهم ، وتصرفاتهم ، وكشاهد على ذلك نذكر : أنه لما تفاقمت النقمة على عثمان استدعى بعض عماله ومستشاريه ، وهم : معاوية وعمرو بن العاص ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وسعيد بن العاص ، وعبد الله بن عامر (2) ، واستشارهم فيما ينبغي له عمله لمواجهة نقمة الناس على سياساته ، ومطالبتهم له بعزل عماله (3) ، واستبدالهم بمن هم خير منهم ، فأشار عليه عبد الله بن عامر بقوله :
  ( رأيي لك يا أمير المؤمنين : أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك ، وأن تجمرهم (4) في المغازي ، حتى يذلوا لك ، فلا يكون همة أحدهم إلا نفسه ، وما

---------------------------
(1) راجع المحاسن والمساويء ج 2 ص 222 ونسب قريش لمصعب ص 129 | 130 وتاريخ اليعقوبي ج 2 ص 229 .
(2) يلاحظ : أن هؤلاء قد كانوا عماله باستثناء عمرو بن العاص ، فإنه كان معزولاً آنئذٍ .
(3) إن من الطريف جداً : أن يستشير عثمان نفس أولئك الذين يطالب الناس بعزلهم في نفس أمر العزل هذا ؟! .
(4) التجمير : حبس الجيش في أرض العدو .

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام _ 155 _

  هو فيه من دَبَرة دابته ، وقَمَلِ فروه ) .
  وأضاف في نص آخر قوله :
( فرد عثمان عماله على أعمالهم ، وأمرهم بالتضييق على من قبلهم ، وأمرهم بتجمير الناس في البعوث ، وعزم على تحريم أعطياتهم ، ليطيعوه ، ويحتاجوا إليه ... ) (1) .
  وحينما أنكر الناس على عثمان بعض أفعاله ، وأشار عليه معاوية بقتل علي عليه السلام ، وطلحة ، والزبير ، فأبى عليه ذلك ، قال له معاوية : ( فثانية ؟ قال : وما هي ؟ قال : فرقهم عنك ، فلا يجتمع منهم اثنان في مصر واحد ، واضرب عليهم البعوث والندب ، حتى يكون دَبَر بعير كل واحد منهم أهم عليه من صلاته .
  قال عثمان : سبحان الله شيوخ المهاجرين والأنصار ، وكبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وبقية الشورى ، أخرجهم من ديارهم ، وأفرق بينهم وبين أهليهم ؟ ... الخ ... ) (2) .
  ويقول اليعقوبي عن معاوية : ( وكان إذا بلغه عن رجل ما يكره قطع لسانه بالإعطاء ، وربما احتال عليه ، فبعث به في الحروب ، وقدمه ، وكان أكثر فعله المكر والحيلة ) (3) ، إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه واستقصائه في عجالة كهذه ...

ج : الأئمة عليهم السلام وتلك الفتوحات :
  1 ـ وبعد كل ما تقدم ... فإنه يتضح لنا : لماذا لم يتقدم أمير المؤمنين عليه

---------------------------
(1) تاريخ الطبري ج 3 ص 373 و 374 حوادث سنة 34 هـ ، وراجع : الفتوح لابن اعثم ج 2 ص 179 ومروج الذهب ج 2 ص 337 وأنساب الأشراف ج 5 ص 89 والكامل في التاريخ ج 3 ص 149 .
(2) النصائح الكافية ص 86 والإمامة والسياسة لابن قتيبة ج 1 ص 31 .
(3) تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 238 .

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام _ 156 _

  الصلاة والسلام خطوة واحدة نحو الفتوحات ، وتوسعة رقعة البلاد الإسلامية ، حتى في أيام خلافته ، بل كان يهتم بتركيز العقيدة ، وتثبيت المنطلقات والمثل الإسلامية الرفيعة والنبيلة ، ونشر الفكر القرآني المحمدي الصافي ، وإعطاء خط الإسلام الصحيح للأمة ، وللمتصدين لإدراة شؤونها على حد سواء ... سواء في نظرتهم ، أو في تعاملهم ومواقفهم ، أو حتى في مجال تربية أنفسهم ، وتهذيبها ، ما وجد إلى ذلك سبيلاً ...
  وقد نوه بذلك عليه السلام في خطبة له ، فقال : ( وركزت فيكم راية الإيمان ، ووقفتكم على حدود الحلال والحرام الخ ... ) (1) .
  هذا كله ... عدا عن أنه عليه السلام كان ـ أيام خلافته منشغلاً بتصفية الجبهة الداخلية من العناصر الفاسدة ، التي لا تزال تعيش المفاهيم الجاهلية ، وتريد أن تحكم الأمة ، وتتحكم بمقدراتها ، وتستخدمها في سبيل أهدافها اللاإنسانية البغيضة ...
  2 ـ وأمر آخر مهم ، لا بد من الإشارة إليه هنا ، وهو : أن الجهاد الابتدائي يحتاج إلى إذن الأمام العادل (2) ... ونحن نرى : أن أئمة الحق كانوا لا يرون في الاشتراك في هذه الحروب مصلحة ، بل لا يرون نفس تلك الحروب خيراً : فقد روي : أن أبا عبد الله الصادق عليه السلام قال لعبد الملك بن عمرو :
( يا عبد الملك ، ما لي لا أراك يخرج إلى هذه المواضع التي يخرج إليها أهل بلادك ؟
  قال : قلت : وأين ؟ .
  قال : حدة ، وعبادان ، والمصيصة ، وقزوين ! .
  فقلت : انتظاراً لأمركم ، والاقتداء بكم .

---------------------------
(1) نهج البلاغة ، بشرح عبده ج 1 ص 153 .
(2) راجع : الوسائل ج 11 ص 32 فصاعداً والكافي ج 5 ص 20 والتهذيب ج 6 ص 134 فصاعداً .

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام _ 157 _

   فقال : إي والله ، لو كان خيراً ما سبقونا إليه ) (1) .
  وثمة عدة روايات تدل على أنهم عليهم السلام كانوا لا يشجعون شيعتهم ، بل ويمنعونهم من الاشتراك في تلك الحروب ، ولا يوافقون حتى على المرابطة في الثغور أيضاً ، ولا يقبلون منهم حتى ببذل المال في هذا السبيل ، حتى ولو نذروا ذلك (2) ...
  نعم ... لو دهمهم العدو ، فإن عليهم أن يقاتلوا دفاعاً عن بيضة الأسلام ، لا عن أولئك الحكام (3) .
  بل إننا نجد رواية عن علي عليه السلام تقول : ( لا يخرج المسلم في الجهاد مع من لا يؤمن على الحكم ، ولا ينفذ في الفيئ أمر الله عز وجل ) (4) .
  ويؤيد ذلك : أننا نجد : أن عثمان جمع يوماً أكابر الصحابة ، مثل : علي عليه السلام ، وطلحة ، والزبير ، وسعد بن أبي وقاص ، وسعيد بن زيد ، في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله ، واستشارهم في غزو افريقية ، فرأوا ـ في الأكثر ـ : أن المصلحة في أن لا تقع افريقية بأيدي أصحاب الأغراض والأهواء والمنحرفين (5) .
  فالأئمة عليهم السلام وإن كانوا ـ ولا شك ـ يرغبون في توسعة رقعة الإسلام ، ونشره ليشمل الدنيا بأسرها ، ولكن الطريقة والأسلوب الذي كان يتم ذلك بواسطته ، وغير ذلك مما تقدم ، كان خطأً ومضراً بنظرهم ، حسبما يفهم مما تقدم ومما سيأتي ...

---------------------------
(1) التهذيب ج 6 ص 127، والكافي ج 5 ص 19 ، والوسائل ج 11 ص 32 .
(2) راجع الوسائل ج 11 ص 21 و 22 عن قرب الإسناد ص 105 والتهذيب ج 6 ص 134 و 125 و 126 والكافي ج 5 ص 21 .
(3) الوسائل ج 11 ص 22 عن قرب الإسناد ص 150 والكافي ج 5 ص 21 والتهذيب ج 6 ص 125 .
(4) الوسائل ج 11 ص 34 عن علل الشرايع ص 159 وعن الخصال ج 1 ص 163 .
(5) الفتوح لابن أعثم ، الترجمة الفارسية ص 126 .

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام _ 158 _

  وعلى كل حال ... فإن جميع ماتقدم وسواه ليكفي في أن يلقي ظلالاً ثقيلة من الشك والريب فيما ينسب إلى الإمامين الهمامين : الحسن ، والحسين عليهما الصلاة والسلام ، من الاشتراك في فتح جرجان ، أوفي فتح افريقية ـ مع أن عدداً من كتب التاريخ التي عددت أسماء كثير من الشخصيات المشتركة في فتح افريقية لم تذكرهما ، مع أنهما من الشخصيات التي يهم السياسة التأكيد على ذكرها في مقامات كهذه .
  وذلك يسعر بأن وراء الأكمة ما وراءها ، وأن الاطمئنان لما يذكر في هذا المجال ، من دون تحقيق أو تمحيص ، مما لا يحسن جداً ، بل وفيه ظلم للحقيقة والتاريخ ...
  3 ـ ويؤيد ذلك أيضاً : ما ذكره بعض المحققين (1) ، ( من أنه عليه السلام قد منع ولديه من الخوض في معارك صفين ، وقال وقد رأى الحسن يتسرع إلى الحرب : ( املكوا عني هذا الغلام لا يهدني ، فإنني أنفس بهذين ( يعني الحسنين عليهما السلام ) على الموت ، لئلا ينقطع بهما نسل رسول الله صلى الله عليه وآله ) فأسرعت إليه خيل من أصحاب علي فردوا الحسن (2) .
  وقد كان هذا منه عليه السلام في وقت كان له كثير من الأولاد ، فكيف يسمح بخروجهما مع أمير أموي ، أو غير أموي ، ولم يكن قد ولد لهما أولاد بعد ، أو كان ، ولكنهم قليلون ؟!! ) انتهى .
  وكل ما تقدم يوضح لنا : أن ما استند إليه بعض الأعلام لقبول ما قيل من اشتراك الحسنين عليهما السلام في فتح اقريقية وجرجان ، لا يمكن القبول به ، ولا يصح التعويل عليه ...

---------------------------
(1) هو المحقق البحاثة السيد مهدي الروحاني حفظه الله .
(2) راجع : المصادر التالية : المعيار والموازنة ص 151 ونهج البلاغة بشرح عبده ج 2 212 وتاريخ الطبري حوادث سنة 37 ج 4 ص 44 والفصول المهمة للمالكي ص 82 وشرح النهج للمعتزلي ج 1 ص 244 والاختصاص ص 179 وتذكرة الخواص ص 324 .

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام _ 159 _

  ولعل الهدف من طرح أمور كهذه هو إعطاء خلافة عثمان بالذات صفة الشرعية والقبول ، حتى من قبل أهل البيت عليهم السلام ، كما عودنا أنصاره ومحبوه في كثير من الأحيان .
  4 ـ ولو أريد الإصرار على وجهة النظر تلك ، واعتبارها قادرة على تبرير اشتراكهما عليهما السلام المزعوم في الفتوح ... فإننا نجد ... أن من حقنا أن نتساءل ، فنقول : إنه لا ريب في أن الجهاد ، واتساع رقعة الإسلام من الأمور الراجحة والمرضية إسلامياً ، ولكن ذلك لا يعني : أن الفتوحات التي حصلت في عهد الخلفاء الثلاثة ، على ذلك النحو ، وبتلك الطريقة ، كانت راجحة ومرضية أيضاً ... وإلا ... فلماذا يترك أمير المؤمنين عليه السلام هذا الجهاد ويجلس في بيته مدة خمس وعشرين سنة ؟! ، ألم يكن هو الذي مارس الحروب ، وجالد الأقران ، أعواماً طويلة في عهد الرسول الأكرم صلى عليه وآله وسلم ، ولم تثر حرب آنئذٍ إلا وهو حامل لوائها ، ومجندل أبطالها ؟ .
  أم يعقل أن ذلك كان منه زهداً في الإسلام ، وتباطؤاً عن واجبه ؟ أم أن الحكام أنفسهم كانوا لا يرغبون في إشراكه في تلك الفتوحات والمآثر التي كانوا يسطرونها ؟ !
  أم أنهم حبسوه كما حبسوا كبار الصحابة في المدينة ، كما اعتذر به العلامة الحسني رضوان الله تعالى عليه (1) ؟ .

---------------------------
(1) سيرة الأئمة الإثني عشر ج 1 و ص 534 و ص 317 .
واعتذر بذلك أيضاً المحقق البحاثة السيد مهدي الروحاني ، حيث قال ما ملخصه : أنهم كانوا يخافون منه ، إذ لو كان عليه السلام مكان سعد بن أبي وقاص ، مع ما يتحلى به من مؤهلات تامة وكاملة ، من العلم وقوة البيان ، والسياسة ، والقرابة القريبة منه صلى الله عليه وآله ، وشهادة الصحابة له بالتقدم في كل فضيلة ، ومع ما له من سوابق حسنة ، ومآثر كريمة ـ إنه لو كان والحالة هذه مكان سعد بن أبي وقاص ـ هل يكون مأموناً من أن يرجع بجيشه ، أو بطائفة عظيمة منه وينحي الخليفة عن مركزه ، ويجري حكم الله فيه حسبما يراه ؟ ! .
ونقول : إنهم لربما كانوا يفكرون بمثل ذلك .. ولكن الإمام علياً عليه السلام لم =