كتب التاريخ والحديث في ذلك ...
وأما بالنسبة لكثرة طلاقه للنساء ، وزواجه ، فقد تحدث العلماء والباحثون حول كذب هذه القضية بما لا مزيد عليه ، ولذلك فلا نرى حاجة للتعرض لها
.
وأما أنه غلق ، فقد قال ابن أبي الحديد المعتزلي : ( ... أما قوله : غلق ، فلا ، فإن الغلق الكثير الضجر ، وكان الحسن عليه السلام أوسع الناس صدراً ، وأسجحهم خُلُقاً ... )
.
نعم ، ولقد أقر له المؤالف والمخالف بأنه قد أشبه النبي في خلقه ، وفي خُلقهِ وكريم خصاله ، وجميل فعاله ...
وهذه الرواية صريحة في أن المقصود منها هو إظهار : أن الإمام الحسن بن علي عليه السلام لا فضيلة له في نفسه ، سوى أنه جده النبي ، وأبوه علي ... بل هو لا يهتم إلا بالبحث عن الحسناوات والجميلات ، ثم التمتع بهن فترة ، ثم تركهن إلى غيرهن ...
وإذن ... فلماذا يلام يزيد الخمور والفجور على أفاعيله ... ما دام أنه وإن كان يبحث عن ملذاته ، إلا أنه ليس طلقاً ، ولا ملقاً ، ولا غلقاً ، كما هو الحال بالنسبة لغيره ...
( ما عشت أراك الدهر عجباً ) !! .
وأخيراً ... فإن المحقق العلامة الإحمدي يقول : ( ليس غريباً على هؤلاء أن يفتعلوا الأكاذيب على الحسنين عليهما الصلاة والسلام ، فقد افتعلوا على الحسن عليه السلام : أنه أشار على أبيه : بأن لا يكره طلحة والزبير على البيعة ، ويدع الناس يتشاورون ولو عاماً كاملاً ، فإن الخلافة لا تزوى عنه ، ولا يجدون منه
بداً ، وأن يقيل طلحة والزبير بيعتهما ، لأن الغدر ظهر منهما
(1) ... وثمة كلمات أخرى منسوبة إليه عليه السلام تفيد هذا المعنى أيضاً .
ورغم تناقض هذا النص نقول إن هذا الكلام مفتعل انتصاراً لطلحة والزبير ، لإظهار أن بيعتهما كانت عن إكراه ، وأن البيعة لعلي لم تكن عن حزم وتشاور .
ولكن ألم يكن الإمام الحسن يرى إباء أبيه للبيعة ، وقوله لهم : دعوني والتمسوا غيري ، ثم إصراره الشديد على ذلك ؟ ! .
ألم يكن يرى انثيال الناس عليه للبيعة كعرف الضبع حتى لقد وطيء الحسنان ، وشق عطفاه ؟ .
ألم يكن يرى سرور الناس ببيعته حتى الأطفال والشيوخ ؟ .
كما أن رجالات الإسلام يصرون عليه بالبيعة ، وفي مقدمتهم طلحة والزبير بالذات ن وكلمات الناس آنئذٍ خير شاهد على ما نقول ...
ألم يكن يرى : أن العدو الأموي الغاشم يترصد الفرصة لينقض على البقية الباقية ليلتهمها ويقضي عليها ؟ .
أما كان يعلم أن وجود الناصر يوجب على العالم القيام بالأمر ؟ .
بلى ... لقد كان يرى ذلك كله ويعلمه ... وإن كلماته الخالدة في المناسبات المختلفة ، لتدل على كمال موافقته لسياسة أبيه في البيعة ، والحرب ، وفي كل مواقفه ، وهو يؤكد ذلك قولاً وعملاً ، فهو يستنفر أهل الكوفة إلى الجهاد ، وهو يمعن في الحرب ، حتى يقول أبوه : أملكوا عني هذا الغلام لا يهدني .
هذا ... وقد كذبوا على الإمام كذبة أخرى ، وهي أنه قال لأبيه في الربذة ،
---------------------------
(1) حياة الحسن عليه السلام للقرشي ج 1 ص 163 | 164 عن الإمامة والسياسة ج 1 ص 49 .
الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام
_ 189 _
وهو يبكي : أمرتك فعصيتني ، فأنت اليوم تقتل بمضيعة ، لا ناصر لك ، فقال أمير المؤمنين : مالك تحن حنين الأمة ، وما الذي أمرتني فعصيتك الخ
(1) .
كما أن ابن قتيبة ينقل ما يدل على أن الإمام المجتبى عليه السلام قد كان من بدء الأمر عازماً على تسليم الأمر لمعاوية ...
وكل ذلك مما تكذبه جميع أقوال ومواقف الإمام الحسن عليه السلام ، وقد افتعلوه طمعاً بالمال والمناصب ، من أجل أن يشيعوا عنه عليه السلام : أنه كان ضعيفاً ، ولم يكن رجل سياسة ، وحزم وعزم وشجاعة ...
ولكنهم قد نسوا أو تناسوا سائر مواقفه واحتجاجاته على معاوية والامويين ، وتجاهلوا كل خطبه ، وكتبه ، ومواقفه في الحروب ، حتى ليطلب علي عليه السلام منهم منعه من الحرب بقوله : أملكوا عني هذا الغلام لا يهدني
(2) .
وحتى ليكتب معاوية إلى زياد عنه :
أمـا حـسن فابن الذي كان iiقبله إذا سار سار الموت حيث iiيسير وهـل يـلد الـرئبال إلا iiنظيره وذا حـسن شـبه لـه iiونـظير ولـكنه لو يوزن الحلم iiوالحجى بأمرٍ لقالوا : يذبل ، وثبير (3) |
هذا كله ... عدا عن أن أمر الإمامة بمعناه الحقيقي قد كان من المسلمات عندهم عليهم السلام ، ولكن قاتل الله العصبية العمياء ، والتكالب على الدنيا .
وبعد كل ما تقدم ، فإننا نعلم مدى صحة قولهم : أن الإمام الحسن عليه السلام كان لا يحب إهراق الدماء ، وذلك طعناً منهم في أبيه علي ، وأخيه الحسين عليهما السلام ...
مع احتمال إرادتهم الطعن في الإمام الحسن عليه السلام ن إذا كان لا يحب
---------------------------
(1) تاريخ الطبري ط ليدن ج 6 ص 3107 و 3108 .
(2) نهج البلاغة وتذكرة الخواص وعن الطبري ووقعة صفين وبهج الصباغة ج 3 ص 216 و 217 عنهم .
(3) شرح النهج للمعتزلي ج 16 ص 195 ، وصلح الحسن لآل يس ص 202 .
الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام
_ 190 _
إهراق الدماء حتى ولو وجب ذلك عليه ، وأدى تركه إلى ذل المؤمنين ، وضياع الدين .
أما ما افتعلوه ، من أن الإمام علياً عليه السلام قد قال عنه : إنه إذا كانت الحرب ، فإن الحسن لا يغني عنهم شيئاً ، وكذلك قول معاوية ، حينما أعطى الحسنين وابن جعفر مالاً : إن الحسن سوف يشتري لبناته طيباً ، فيكذبه جميع ما تقدم ، وإنما افتعلت أمثال هذه الأساطير من أجل التشهير به زوراً وبهتاناً : بأنه مشغوف بالنساء ، وذلك للتغطية على فسق يزيد وفجوره ...
وقد افتعلوا كذلك قصة خلاف الحسين مع أخيه عليهما السلام في قضية الصلح ، وجرأته عليه ، ثم جواب الحسين له بما لا يليق ، مع أن الحسين عليه السلام قد مدح أخاه على صلحه مع معاوية ، حينما أبّنه عند وفاته عليه السلام ، وقد روى في الكافي : أن الحسين عليه السلام لم يكن يتكلم في مجلس أخيه الإمام الحسن عليه السلام تأدباً ، كما أنه كان يعطي أقل من أخيه تأدباً كذلك ...
وأخيراً ... فإننا نجده يعيش بعد أخيه عدة سنين ، ولا يحارب معاوية ، وغم كتابة أهل الكوفة إليه بدعوته لذلك ...
انتهى كلام العلامة الأحمدي ، وليكن هو مسك الختام .
والحمد لله أولاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً ، وصلاته وسلامه على عباده الذين اصطفى محمد وآله الطاهرين .
الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام
_ 191 _
كلمة ختامية :
كانت تلك إلمامة موجزة عن الحياة السياسية للإمام الحسن صلوات الله وسلامه عليه في عهد الرسول الأعظم ، والخلفاء الثلاثة بعده ...
وكنت أودّ أن أكمل هذه الدراسة لتصل إلى حين تولي الإمام الحسن عليه السلام للخلافة ... وبعد ذلك إلى حين استشهاده ، ولكن الظروف القاهرة قد حالت دون ذلك ، إلا أن ما لا يدرك كله لا يترك كله ... فها أنا أقدم للقراء الكرام ما تم إنجازه .
على أمل أن يوفق الله سبحانه لإتمام هذا العمل في فرصة اخرى إن شاء الله تعالى .
وليلاحظ هنا : أنني قد تعمدت الحديث عن ذلك الجانب الذي قلّما تعرض له الباحثون في كتاباتهم عن الإمام الحسن عليه السلام ... وقد اضطرني ذلك الى بعض التفصيل بالنسبة لبعض القضايا ... حيث كان ذلك أمراً لا مفر منه ، لو أريد إيضاح الموقف السياسي الذي كان الإمام الحسن عليه السلام يتعامل معه ، ويسجل موقفاً تجاه من خلال ما يكتنف ذلك من ظروف وعوامل مؤثرة فيه ...
وعلى كل حال ... فإنني استميح القارئ العذر ، إذا كان يرى في هذا البحث بعض ما لا ينسجم مع وجهات نظره ، أو مع ما هو الشائع المتسالم عليه بصورة عفوية ، ومن دون بحث او تمحيص ...
الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام
_ 192 _
وفي الختام ، فإنني آمل ان يتحفني القارئ الكريم بملاحظاته ، وبوجهات نظره ... وله منِّي جزيل الشكر ، ووافر التقدير .
والحمد لله ، وصلاته وسلامه على عباده الذي اصطفى محمد وآله الأطهار .
جعفر مرتضى العاملي
19 \ 6 \ 1404 هـ . ق .
3 \ 1 \ 1363 هـ . ق .