الأول : إما أن يمكن فيه الاحتياط ، أولا . فالأول مجرى الاستصحاب ، والثاني مجرى الاحتياط ، والثالث مجرى التخيير ، والرابع مجرى البراءة .
الأمر الثاني :
ظاهر كلام الشيخ ( قدس سره ) في المقام وفي مبحث ( التعادل والتراجيح ) أن الوجه في التنافي بين الأمارات والأصول العملية هو الوجه في التنافي بين الحكم الواقعي والظاهري ، وما هو المناط في الجمع بين الأمارات والأصول هو المناط في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري .
والتحقيق : أن التنافي بين الإمارات والأصول غير التنافي بين الحكم الواقعي والظاهري ، وطريق الجمع بينهما غير طريق الجمع بين هذين ، فان التنافي بين الحكم الواقعي والظاهري إنما كان لأجل اجتماع المصلحة والمفسدة والإرادة والكراهة والوجوب والحرمة وغير ذلك من المحاذير الملاكية والخطابية المتقدمة ، وقد تقدم طريق الجمع بينهما ، وأين هذا من التنافي بين الأمارات والأصول ؟ فإنه ليس في باب الأمارات حكم مجعول من الوجوب والحرمة حتى يضاد الوظيفة المجعولة لحال الشك ، بل ليس المجعول في باب الأمارات إلا الطريقية والوسطية في الإثبات وكونها محرزة للمؤدى ، ووجه التنافي بينها وبين الأصول إنما هو لمكان أنه لا يجتمع إحراز المؤدى في مورد الشك فيه مع إعمال الوظيفة المقررة لحال الشك إذا كانت الوظيفة المقررة على خلاف مؤدى الأمارة ، ورفع التنافي بينهما إنما هو لحكومة الأمارات على الأصول (1) وسيأتي
(1) أقول : ما هو صريح كلمات ( شيخنا العلامة ) في المقام وفي باب ( التعادل والتراجيح ) هو أن مفاد الأصول حكم ثابت في ظرف الشك بالحكم الواقعي ومفاد الأمارة نفس الحكم الواقعي ، فقهرا يكون مفاد الأصول بحسب الرتبة متأخرة عن مفاد الأمارة ، ولازم هذا التأخير : أنه لو فرض قيام دليل على الأمارة كان رافعا لموضوع الأصل إن كان علميا وجدانيا ، وإلا كان حاكما عليه ، ومن هذا البيان ظهر : أنه ( قدس سره ) ما التزم بالتنافي بين مفاد الأصل ومفاد نفس الأمارة وبين الحكم الواقعي والظاهري من جهة اختلاف الرتبة وأن هذا .
فوائد الأصول ـ 327 ـ
تفصيل ذلك ( إن شاء الله تعالى ) في آخر الاستصحاب .
وإجماله : هو أن الأمارات إنما تكون رافعة للشك الذي اخذ موضوعا في الأصول العملية ، لا رفعا وجدانيا بنفس التعبد بالأمارة ، بل رفعا تعبديا بثبوت المتعبد به ، وبذلك تفترق ( الحكومة ) عن ( الورود ) كما يفترق ( الورود ) عن ( التخصيص ) بأن خروج فرد عن موضوع الحكم في ( الورود ) إنما يكون بعناية التعبد ، وفي ( التخصص ) بلا عناية التعبد ، بل بالتكوين ، كخروج الجاهل عن العالم ، وقد ذكرنا تفصيل ذلك بما لا مزيد عليه في مبحث الاستصحاب ، وبينا الوجه في حكومة الأمارات بعضها على بعض ، وحكومتها على الأصول ، وحكومة الأصول بعضها على بعض ، فراجع .
الأمر الثالث :
لا يجوز إعمال الوظيفة المقررة لحال الشك إلا بعد الفحص واليأس عن وجود أمارة على أحد طرفي الشك ، لما عرفت : من أن الأمارات تكون حاكمة على الأصول ، فلا يجوز الاعتماد على الأصول مع احتمال وجود أمارة في مورد الشك إلا بعد الفحص واليأس عن الظفر بالأمارة ، وسيأتي مزيد توضيح لذلك .
الأمر الرابع :
قد عرفت : أن الوظيفة المقررة للشاك إنما هو الأصول العملية ، والتي
الاختلاف يوجب ( الحكومة ) أو ( الورود ) بين دليلهما ، فجعل وجه الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري نفس اختلاف الرتبة ، ووجه الجمع بين دليلهما حكومة أحدهما على الآخر بلا اشتراك بين المقامين في وجه الجمع وتناف بين المدلولين بنفسهما مع قطع النظر عن دليلهما ، فمن أين ظهر : أن وجه التنافي بين المقامين واحد ووجه الجمع واحد ؟ إذ صريح كلامه منع التنافي بين المدلولين لمحض اختلاف الرتبة وأن هذا الاختلاف الرتبي موجب للجمع بين دليلهما بالحكومة أو الورود ، فتأمل في كلماته ، لعمري ! أن هذا المقدار واضح لا يستأهل ردا .
فوائد الأصول ـ 328 ـ
تجرى في الشبهات الموضوعية والحكمية وتعم بها البلوى وتطرد في جميع أبواب الفقه تنحصر في الأصول الأربعة ، وهي : البراءة والاشتغال والتخيير والاستصحاب ، وحيث إن مباحث التخيير قليلة لا يستحق إفراد فصل يخصه ، فالأولى التعرض لمباحثه في ضمن مباحث البراءة ، وعقد فصول ثلاثة للبرائة والاشتغال والاستصحاب .
الأمر الخامس :
قد تقدم : أن مجرى البراءة إنما هو الشك في التكليف ، وهو على أقسام : لأن الشك قد يكون في التكليف النفسي الاستقلالي وقد يكون في التكليف الغيري ، وعلى كلا التقديرين قد تكون الشبهة حكمية وقد تكون موضوعية ، والشبهة الحكمية قد تكون وجوبية وقد تكون تحريمية ، ومنشأ الشك في الشبهة الحكمية تارة : يكون فقد النص ، وأخرى : يكون إجمال النص ، وثالثة : يكون تعارض النصين ، ومناط البحث في جميع هذه الأقسام وإن كان متحدا ، إلا أنه قد يكون لبعض هذه الأقسام خصوصية تقتضي إفراد البحث عنه ، فالأولى : إفراد البحث عن كل واحد من هذه الأقسام بخصوصه ، وسيأتي أن محل النزاع بين الأصولي والأخباري خصوص الشبهات التحريمية الحكمية ، دون سائر الإقسام .
الأمر السادس :
قد يتوهم : أن البحث عن مسألة كون الأصل في الأشياء الحظر أو الإباحة يغنى عن البحث عن مسألة البراءة والاشتغال ، بل البحث عن إحدى المسألتين عين البحث عن الأخرى ، فلا وجه لعقد مسألتين يبحث في إحديهما عن الحظر والإباحة وفي الأخرى عن البراءة والاشتغال .
ولكن التحقيق : أن البحث عن إحديهما لا يغني عن البحث عن
فوائد الأصول ـ 329 ـ
الأخرى ، لأن جهة البحث عن كون الأصل في الأشياء الحظر أو الإباحة تغاير جهة البحث عن أصالة البراءة والاشتغال من وجهين :
أحدهما : ان البحث عن الحظر والإباحة ناظر إلى حكم الأشياء من حيث عناوينها الأولية بحسب ما يستفاد من الأدلة الاجتهادية ، والبحث عن البراءة والاشتغال ناظر إلى حكم الشك في الأحكام الواقعية المترتبة على الأشياء بعناوينها الأولية ، فللقائل بالإباحة في تلك المسألة أن يختار الاشتغال في هذه المسألة وبالعكس .
ثانيهما : أن البحث عن الحظر والإباحة راجع إلى جواز الانتفاع بالأعيان الخارجية من حيث كونه تصرفا في ملك الله تعالى وسلطانه ، والبحث عن البراءة والاشتغال راجع إلى المنع والترخيص في فعل المكلف من حيث إنه فعله وإن لم يكن له تعلق بالأعيان الخارجية كالتغني ، فتأمل .
وقد يقال : إن البحث عن مسألة الحظر والإباحة ناظر إلى حكم الأشياء قبل ورود البيان من الشارع ، والبحث عن البراءة والاشتغال بعد ورود البيان . وهذا بظاهره فاسد إن أريد من القبلية والبعدية الزمانية ، إلا أن يكون المراد أن البحث عن مسألة الحظر والإباحة إنما هو بلحاظ ما يستقل به العقل مع قطع النظر عن ورود البيان من الشارع في حكم الأشياء ، والبحث عن البراءة والاشتغال إنما يكون بعد لحاظ ما ورد من الشارع في حكم الأشياء ، وعلى كل تقدير : لا تلازم بين المسألتين فضلا عن عينية إحديهما للأخرى .
نعم : من قال في مسألة الحظر والإباحة بالحظر ، عليه إقامة الدليل على انقلاب الأصل إلى البراءة ، ومن قال في تلك المسألة بالإباحة فهو في فسحة عن إقامة الدليل على البراءة ، بل على الطرف إقامة الدليل على الاشتغال ، فالذي اختار في مسألة الحظر والإباحة أحد الطرفين قد يستغنى عن إقامة الدليل على ما يختاره في مسألة البراءة والاشتغال ويكون على الخصم إقامة الدليل على مدعاه ، وقد لا يستغنى ذلك ، فتأمل جيدا .
فوائد الأصول ـ 330 ـ
الأمر السابع :
قد يتوهم : أنه بعد ما كان حكم الشبهة قبل الفحص هو الاحتياط ، فعلى الأصولي القائل بالبرائة إقامة الدليل على انقلاب حكم الشبهة بعد الفحص إلى البراءة والأخباري في فسحة عن ذلك .
ولكن لا يخفى عليك فساد التوهم ، فان لزوم الاحتياط في الشبهات قبل الفحص إنما يكون بمناط تكون الشبهة فاقدة له بعد الفحص ، فان استقلال العقل بوجوب الفحص في الشبهات إنما يكون لوجهين : أحدهما ثبوت العلم الإجمالي بوجود تكاليف إلزامية فيما بين الشبهات .
ثانيهما حكم العقل بوجوب إعمال العبد ما تقتضيه وظيفته : من السؤال والفحص عن مرادات المولى وعدم الاعتماد على أصالة العدم ، فان الطريقة المألوفة بين العبيد والموالي العرفية هي ذلك ـ وقد تقدم في بعض المباحث السابقة توضيح ذلك ـ وهذان الوجهان لا يجريان بعد الفحص ، لانحلال العلم الإجمالي بالفحص وإعمال العبد على ما تقتضيه وظيفته ، فعلى الإخباري أيضا إقامة الدليل على اتحاد حكم الشبهة قبل الفحص وبعد الفحص ، كما أنه على الأصولي إقامة الدليل على البراءة .
إذا عرفت ذلك ، فلنشرع فيما يتعلق بالفصل الأول من المقام الثالث من المباحث .
المبحث الأول
في حكم الشك في التكليف في الشبهة التحريمية لأجل فقدان النص .
والأقوى : أنه تجرى فيه البراءة وفاقا لقاطبة الأصوليين خلافا لقاطبة
فوائد الأصول ـ 331 ـ
الأخباريين .
وقد استدل على البراءة بالأدلة الأربعة .
أما الكتاب : فبآيات منها : قوله تعالى ( لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها ) (1) والاستدلال بها مبنى على أن يكون المراد من ( الموصول ) التكليف ومن ( الايتاء ) الوصول والإعلام ، فيكون المعنى ( لا يكلف الله نفسا إلا بتكليف واصل إلى المكلف ) وفي حال الشك لا يكون التكليف واصلا ، فلا تكليف .
وفيه أولا : أن المحتملات في الموصول ثلاثة : أحدها : ما ذكر في تقريب الاستدلال .
ثانيها : أن يكون المراد من ( الموصول ) المال ومن ( الايتاء ) الملك ، فيكون المعنى : ( لا يكلف الله نفسا بمال إلا بما ملكه ) ثالثها : أن يكون المراد من ( الموصول ) مطلق الشيء ، ومن ( الايتاء ) الإقدار ، أي ( لا يكلف الله نفسا بشيء إلا بما أقدرها ومكنها عليه ) .
والآية المباركة ليس لها ظهور في الوجه الأول ، بل يمكن أن يقال بظهورها في الوجه الثالث ، لظهور ( الموصول ) في كونه مفعولا به ، وعلى الوجه الأول لابد وأن يكون ( الموصول ) مفعولا مطلق ، لأنه لا يعقل أن يتعلق التكليف بالتكليف إلا على وجه تعلق الفعل بالمفعول المطلق .
ولا يمكن أن يراد من ( الموصول ) الأعم من التكليف والمال والشيء (2) فإنه لا جامع بين المفعول به والمفعول المطلق ، لأن نحو تعلق الفعل بالمفعول به يباين نحو تعلقه بالمفعول المطلق .
(1) سورة الطلاق الآية 7 .
(2) أقول : لو لم نقل بأن تعلق الفعل بالجامع بين المفاعيل تعلق آخر غير مرتبط بأحد التعليقات الثلاثة ، مع أنه لو كان ذلك بنحو الدالين والمدلولين لا بأس بتعلقه بالموصول المتخصص بالخصوصيات بدال آخر ، وكان تعلقه بكل خاص نحوا من التعلق غير الآخر ، كما لا يخفى .
فوائد الأصول ـ 332 ـ
نعم : ربما يستظهر من استشهاد الامام ـ عليه السلام ـ بالآية المباركة عن السؤال عن تكليف الناس بالمعرفة ، وجوابه ـ عليه السلام ـ ( لا ، على الله البيان ـ لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها ) (1) أن المراد من ( الموصول ) التكليف ، لا المال ولا مطلق الشيء ، فيكون المراد من ( الايتاء ) الوصول والإعلام ، وإن كان يمكن أن يقال : إن المراد من المعرفة المسؤول عنها المعرفة التفصيلية بصفات الباري وأحوال الحشر والنبوة الخاصة ونحو ذلك ، لا المعرفة الإجمالية بوجود الباري تعالى ، فان المعرفة الإجمالية لا يمكن أن يتعلق التكليف بها إلا على وجه دائر ، والمعرفة التفصيلية لا يمكن إلا باقدار الله تعالى عليها ، لأنه لا يتمكن العبد من ذلك إلا بعناية الله تعالى وإقداره ، هذا .
ولكن الإنصاف : أنه يمكن أن يراد من ( الموصول ) الأعم من التكليف وموضوعه ، وايتاء كل شيء إنما يكون بحسبه ، فان إيتاء التكليف إنما يكون بالوصول والإعلام ، وايتاء المال إنما يكون باعطاء الله تعالى وتمليكه ، وايتاء الشيء فعلا أو تركا إنما يكون باقدار الله تعالى عليه ، فان للايتاء معنى ينطبق على الإعطاء وعلى الإقدار ، ولا يلزم أن يكون المراد من ( الموصول ) الأعم من المفعول به والمفعول المطلق ، بل يراد منه خصوص المفعول به .
وتوهم : أن المفعول به لابد وأن يكون له نحو وجود وتحقق في وعائه قبل ورود الفعل عليه ويكون الفعل موجبا لايجاد وصف على ذات المفعول به التي كانت مفروضة التحقق والوجود (2) كزيد في قولك : ( إضرب زيدا ) فان زيدا كان موجودا قبل ورود الضرب عليه ـ وعلى ذلك يبتني إشكال ( الزمخشري ) في .
(1) أصول الكافي : كتاب التوحيد ، باب البيان والتعريف ولزوم الحجة ، الحديث 5 .
(2) أقول : لو كان المراد من التكليف معناه اللغوي من الكلفة فلا بأس بجعل ( الموصول ) عبارة عن الخطاب والحكم مع الالتزام بهذه القاعدة في المفعول به بلا عناية ، إذ معنى الآية حينئذ ( إن الله لا يوقع العباد في كلفة حكمه وخطابه إلا خطابا أعلمه لهم وآتاهم ) وهذا المقدار يكفي للقائل بالبرائة .
فوائد الأصول ـ 333 ـ
قوله تعالى : ( خلق الله السماوات ) من أنه لا يمكن أن تكون السماوات مفعولا به لأنه لا وجود للسماوات قبل ورود الخلق عليها مع أن المشهور جعلوا السماوات مفعولا به فعلى هذا لا يمكن أن يتعلق التكليف بالتكليف على نحو تعلق الفعل بالمفعول به لأنه ليس للتكليف نحو وجود سابق عن تعلق التكليف به بل وجوده إنما يكون بنفس إنشاء التكليف لأن المفعول المطلق من كيفيات الفعل فلا يمكن وجوده قبله ـ فاسد ، فان المفعول المطلق النوعي والعددي يصح جعله مفعولا به بنحو من العناية ، مثلا الوجوب والتحريم وإن كان وجودهما بنفس الإيجاب والإنشاء وليس لهما نحو تحقق في المرتبة السابقة ، إلا أنهما باعتبار ما لهما من المعنى الاسم المصدري يصح تعلق التكليف بهما .
نعم : هما بمعنى المصدر لا يصح تعلق التكليف بهما ، فتأمل .
وثانيا : على فرض ظهور الآية الشريفة في إرادة التكليف من ( الموصول ) وإرادة الوصول والإعلام من ( الايتاء ) فأقصى ما تدل عليه الآية المباركة هو أن المؤاخذة والعقوبة لا تحسن إلا بعد بعث الرسل وإنزال الكتب وتبليغ الأحكام والتكاليف إلى العباد (1) وهذا لا ربط له بما نحن فيه من الشك في التكليف بعد البعث والإنزال والتبليغ وعروض اختفاء التكليف لبعض الموجبات التي لا دخل للشارع فيها ، فالآية المباركة لا تدل على البراءة ، بل مفادها مفاد قوله تعالى : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) (2) .
وقد قيل : إن هذه الآية أظهر الآيات التي استدل بها للبرائة .
وأنت خبير : بأن مفادها أجنبي عن البراءة ، فان مفادها الأخبار بنفي التعذيب قبل إتمام الحجة ، كما هو حال الأمم السابقة ، فلا دلالة لها على .
(1) أقول : إذا كان المراد من بعث الرسل إتمام الحجة بالايصال إليهم يكفي هذا المقدار للقائل بالبرائة . نعم : لو كان المراد مجرد بعث الرسل واقعا ولو لم يصل إلى العباد لا يفيد ذلك للبرائة ، ولكن بهذا المعنى لا يصح حتى بالنسبة إلى الأمم السابقة ، كما لا يخفى .
(2) سورة الإسراء الآية 15 .
فوائد الأصول ـ 334 ـ
حكم مشتبه الحكم من حيث إنه مشتبه ، فهي أجنبية عما نحن فيه .
كما أن مفادها أجنبي عما زعمه الأخباريون : من دلالتها على نفي الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، بتقريب : أن الملازمة تقتضي ثبوت العذاب عند استقلال العقل بقبح شيء ولو مع عدم بعث الرسل والآية تنفى العذاب مع عدم بعث الرسل فلا ملازمة بين حكم العقل والعذاب ويلزمه عدم الملازمة بين حكمه وحكم الشرع وإلا لما احتاج التعذيب إلى بعث الرسل .
وأنت خبير : بأن الرسول في الآية الشريفة كناية عن الحجة ، فيعم الرسول الباطني والرسول الظاهري .
وقد قيل في رد مقالة الأخباريين : إن أقصى ما تدل عليه الآية المباركة هو نفي فعلية التعذيب قبل بعث الرسل ، والملازمة المدعاة إنما هي بين حكم العقل واستحقاق العقوبة ، ونفى فعلية العذاب لا يقتضي نفي الملازمة ، فإنه من الممكن أن يكون الشارع قد حكم بحرمة ما استقل بقبحه العقل وكانت مخالفة الحكم الشرعي تقتضي استحقاق العقوبة ، ولكن الشارع تفضل بالعفو وأخبر به ، كما تفضل بالعفو عن نية السيئة (1) وكما تفضل بالعفو عن الصغائر عند الاجتناب عن الكبائر (2) وكما تفضل بالعفو عن الظهار مع حرمته (3) على ما قيل .
ولا يخفى ما فيه ـ أما أولا فلأن الاستدلال بالآية المباركة على البراءة لا يجتمع مع القول بأن مفادها نفي فعلية التعذيب لا استحقاقه (4) لأن النزاع في البراءة إنما هو في استحقاق العقاب على ارتكاب الشبهة وعدم استحقاقه ، لا في
(1) الوسائل : الباب 6 من أبواب مقدمة العبادات الحديث 6 و 7 و 8 و 10 .
(2) الوسائل : الباب 45 من أبواب جهاد النفس الحديث 4 و 5 .
(3) الوسائل : الباب 1 من أبواب الظهار الحديث 2 .
(4) أقول : ذلك كذلك لولا دعوى عدم القول بالفصل بين نفي الفعلية في الشبهات مع نفي الاستحقاق بين المجتهدين والأخباريين ـ كما هو المدعى في كلماتهم ـ فراجع .
فوائد الأصول ـ 335 ـ
فعلية العقاب ، فالاستدلال بها على البراءة يتوقف على أن يكون المراد من نفي العذاب نفي الاستحقاق ، وذلك ينافي رد مقالة الأخباريين المنكرين للملازمة بما تقدم : من أن المراد من نفي العذاب نفي الفعلية لا الاستحقاق ، وإلى ذلك ينظر كلام المحقق القمي (ره) حيث قال : ( إن من جمع في الآية بين الاستدلال بها على البراءة وبين رد الأخباريين لإثبات الملازمة يكون قد جمع بين النقيضين ) .
وأما ثانيا : فلأن الحرمة الشرعية مع إخبار الشارع بنفي التعذيب والتفضل بالعفو لا يجتمعان ، لأنه يلزم أن يحمل الشارع العباد على التجري بفعل الحرام ، فان الإخبار بالعفو يوجب إقدامهم على فعل الحرام المعفو عنه ، فيلزم لغوية جعل الحرمة (1) .
نعم : لا مانع من الإخبار بالعفو بالنسبة إلى المعصية التي لا يكون الإخبار به موجبا للتجري وإقدام العباد عليها ، كالإخبار بالعفو عن نية السيئة ، فان المخبر به هو العفو عن نية السيئة المجردة عن تعقبها بالسيئة ، ولا يمكن للعبد التجري على ذلك ، فان القصد والتجري على النية المجردة لا يعقل ، إذ لا يتحقق العزم على العزم المجرد .
وكالإخبار بالعفو عن الصغاير عند الاجتناب عن الكبائر ، فان المخبر به هو العفو عن الصغاير إذا كان العبد مجتنبا عن الكبائر ما دام العمر وفي تمام أزمنة حياته (2) ولا يمكن بحسب العادة أن يعتقد الشخص أنه يجتنب عن الكبائر في مدة حياته حتى يتحقق منه التجري والإقدام على الصغاير اعتمادا
(1) أقول : يكفي في صحة جعله إحداث موضوع العفو وإبراز مقام الغفورية ، إذ فيه مصلحة ظاهرة يكفي لتصحيح إنشاء الحرمة في مورد مع العفو ، فلا يلزم من كشف العفو عن عدم الحرمة ، كما توهم في الظهار نعم : الأولى أن يقال : إن الظاهر من الآية والتعبير ب ( ما كنا معذبين ) أن مثل هذا ليس شأننا وهذا غير باب العفو الذي شأنهم العذاب مع عفوه عنهم رأفة ورحمة ، كما لا يخفى .
(2) أقول : في هذا الشرط نظر .
فوائد الأصول ـ 336 ـ
على العفو عنها ، لأنه بعد التفاته إلى أن العفو عنها مشروط بعدم ارتكاب الكبيرة أبدا ما دام العمر لا يمكن أن يكون الإخبار بالعفو موجبا لتجريه .
وأما العفو على الظهار فلم يثبت وإن قيل به ، وآية الظهار لا تدل على ذلك ، ولو ثبت العفو عنه فلابد من القول بعدم حرمته .
ثم إنه قد استدل للبرائة بآيات اخر لا دلالة لها على ذلك .
فالأولى عطف عنان الكلام إلى بيان الأخبار التي استدل بها للبرائة .
أظهرها وعمدتها ( حديث الرفع ) وهو قوله ـ صلى الله عليه وآله ـ ( رفع عن أمتي تسعة أشياء الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطروا إليه والطيرة والحسد والوسوسة في الخلق ) واشتهار الحديث المبارك بين الأصحاب واعتمادهم عليه يغنى عن التكلم في سنده ، مع أنه من الصحاح ، فالمهم بيان فقه الحديث وما يستفاد منه ، وذلك يتم برسم أمور :
الأمر الأول :
لا يصح استعمال ( الرفع ) وكذا ( الدفع ) إلا بعد تحقق مقتضى الوجود ، بحيث لو لم يرد الرفع أو الدفع على الشيء لكان موجودا في وعائه المناسب له ، سواء كان وعائه وعاء العين والتكوين أو وعاء الاعتبار والتشريع ، لوضوح أن كلا من الرفع والدفع لا يرد على ما يكون معدوما في حد ذاته لا وجود له ولا اقتضاء الوجود ، فالعناية المصححة لاستعمال كلمة ( الرفع ) و ( الدفع ) إنما هي بعد فرض ثبوت مقتضى الوجود ، وهذا المقدار مما لا بد منه في صحة استعمالهما ، وبعد ذلك يفترق ( الرفع ) عن ( الدفع ) فان استعمال ( الرفع ) إنما يكون غالبا في المورد الذي فرض وجوده في الزمان السابق أو في
(1) الخصال : باب التسعة الحديث 9 .
فوائد الأصول ـ 337 ـ
المرتبة السابقة عن ورود الرفع ، و ( الدفع ) يستعمل غالبا في المورد الذي فرض ثبوت المقتضى لوجود الشيء قبل إشغاله لصفحة الوجود في الوعاء المناسب له ، فيكون الرفع مانعا عن استمرار الوجود ، والدفع مانعا عن تأثير المقتضى للوجود .
ولكن هذا المقدار من الفرق لا يمنع عن صحة استعمال ( الرفع ) بدل ( الدفع ) على وجه الحقيقة بلا تصرف وعناية ، فان الرفع في الحقيقة يمنع ويدفع المقتضى عن التأثير في الزمان اللاحق أو المرتبة اللاحقة (1) لأن بقاء الشيء كحدوثه يحتاج إلى علة البقاء وإفاضة الوجود عليه من المبدء الفياض في كل آن ، فالرفع في مرتبة وروده على الشيء إنما يكون دفعا حقيقة باعتبار علة البقاء وإن كان رفعا باعتبار الوجود السابق ، فاستعمال ( الرفع ) في مقام ( الدفع ) لا يحتاج إلى علاقة المجاز ، بل لا يحتاج إلى عناية أصلا ، بل لا يكون خلاف ما يقتضيه ظاهر اللفظ ، لأن غلبة استعمال ( الرفع ) فيما يكون له وجود سابق لا يقتضي ظهوره في ذلك .
ومما ذكرنا من معنى ( الرفع ) و ( الدفع ) يظهر : أنه لا مانع من جعل ( الرفع ) في الحديث المبارك بمعنى ( الدفع ) في جميع الأشياء التسعة المرفوعة ، ولا يلزم من ذلك مجاز في الكلمة ، ولا في الإسناد .
أما عدم المجازية في الإسناد : فلما سيأتي من أن إسناد الرفع إلى المذكورات يكون على وجه الحقيقة بلا تقدير وإضمار .
وأما في الكلمة : فلما عرفت : من أن حقيقة الرفع هي الدفع ، فيكون المراد من رفع التسعة دفع المقتضى عن تأثيره في جعل الحكم وتشريعه في الموارد التسعة .
(1) أقول : ذلك كذلك لو كان مصحح صدق ( الرفع ) مجرد منع المقتضى عن تأثيره ، وإما لو قلنا بأن المصحح في صدقه علاوة عن ذلك عدم قصور في تأثير المقتضى في زمان سابق عن وروده قبل ( الدفع ) المعتبر فيه المقارنة ، فلا مجال حينئذ لتصحيح صدقه على الدفع بتدريجية إفاضة الفيض عليه ، إذ تشبه ذلك باثبات اللغة بالعرفان ! .
فوائد الأصول ـ 338 ـ
غايته أنه في الثلاثة الأخيرة ـ وهي الحسد والطيرة والوسوسة في الخلق ـ يكون المراد دفع المقتضى عن تأثيره في أصل تشريع الحكم وجعله فيها مع ثبوت المقتضى له منة على العباد وتوسعة عليهم ، وسيأتي بيان المراد من الحكم الذي كان له اقتضاء الجعل والتشريع في الحسد وأخويه .
وفي غير ( ما لا يعلمون ) من الخمسة الاخر ـ وهي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وما لا يطيقون وما اضطروا إليه ـ يكون المراد دفع تأثير المقتضى عن شمول الحكم واطراده لحال النسيان والاضطرار والإكراه والخطأ و ما لا يطاق ، فتكون نتيجة الدفع تخصيص الحكم بما عدا هذه الموارد ، وسيأتي أن التخصيص في ذلك يكون من التخصيص الواقعي وليس من التخصيص الظاهري .
وفي ( ما لا يعلمون ) يكون المراد دفع مقتضيات الأحكام الواقعية عن تأثيرها في ايجاب الاحتياط ، مع أن ملاكاتها كانت تقتضي ايجاب الاحتياط (1) .
ويظهر من الشيخ ( قدس سره ) : أن ( الدفع ) من أول الأمر ورد على ايجاب الاحتياط ، لا أنه ورد على مقتضيات الأحكام الواقعية من حيث تأثيرها في ايجاب الاحتياط .
قال ( قدس سره ) : ( وحينئذ فنقول : معنى رفع أثر التحريم فيما لا يعلمون عدم ايجاب الاحتياط والتحفظ فيه الخ ) .
ولا يخفى ما فيه من المسامحة ، فان المراد من ( الموصول ) في قوله ـ صلى الله عليه وآله ـ ( رفع ما لا يعلمون ) نفس الأحكام الواقعية ، لأنها هي
(1) أقول : ليس المراد نفي نفس المقتضيات الواقعية جزما ولا تأثيرها في الأحكام الواقعية كذلك ، بل المراد نفي ( ما لا يعلمون ) بالعناية ، باعتبار نفي تأثيرها الذي هو عين أثرها من إيجاب الاحتياط ظاهرا ، ومرجع كلام الشيخ ( قدس سره ) أيضا إلى ذلك ، فتدبر فيه .
فوائد الأصول ـ 339 ـ
المجهولة ، وما أريد من ( الموصول ) هو المرفوع ، فلابد وأن يرد الرفع على الحكم الواقعي (1) وإن كانت نتيجة رفعه عدم ايجاب الاحتياط ، لأنه لا يمكن رفعه حقيقة عن موطنه وهو عالم التشريع ، وإلا يلزم اختصاص الأحكام الواقعية بالعالمين بها ، وهو ينافي ما عليه أصول المخطئة .
وورود الرفع على الأحكام الواقعية على وجه ينتج عدم ايجاب الاحتياط لا يمكن إلا بأن يراد دفع الأحكام الواقعية عن تأثير مقتضياتها في ايجاب الاحتياط ، وتكون النتيجة الترخيص الظاهري في ارتكاب الشبهة والاقتحام فيها .
وتوضيح ذلك : هو أن أدلة الأحكام لما كانت قاصرة لأن تتكفل بيان وجود الأحكام في زمان الشك فيها ـ كما أن نفس الجعل والتشريع الأول للأحكام لا يمكن أن يتكفل لحال الشك فيها ـ فلابد من جعل ثانوي يكون هو المتكفل لبيان صورة الشك في الحكم من ثبوته وعدم ثبوته ، فيكون هذا الجعل الثانوي متمما للجعل الأولى ليس له ملاك يخصه ، نظير ما دل على اعتبار قصد التقرب في العبادات ، حيث إن الأمر الأولى لا يمكن أن يتكفل ببيان اعتبار ذلك ، بل لابد من جعل ثانوي يتكفل ببيان ذلك ويكون من متممات الجعل الأولى ، وقد تقدم في بعض المباحث السابقة : أنه في كثير من الموارد نحتاج إلى متمم الجعل بجعل ثانوي .
والحكم الذي يتكفله الجعل الثانوي يختلف ، فقد يكون حكما واقعيا بإضافة قيد في المأمور به الواقعي ، مثل ما دل على اعتبار قصد التقرب ، ومثل ما
(1) أقول : الأولى أن يقال : لو كان المراد من ( الرفع ) الرفع الحقيقي كيف يعقل وروده عن الحكم الواقعي في ظرف الجهل به ؟ إذ العدم في ظرف الجهل بشيء يستحيل وروده على الشيء الملحوظ في الرتبة السابقة عن الجهل بنفسه ، فلا محيص من كون المراد به رفعه بالعناية ، ومرجعه إلى رفع أثره حقيقة ، فالرفع الحقيقي متوجه إلى إيجاب الاحتياط بدوا ، بلا توجيهه إلى ( ما لا يعلمون ) ولو بنينا على التصويب واختصاص الحكم بالعالمين ، فتدبر تعرف .
فوائد الأصول ـ 340 ـ
دل على اعتبار غسل المستحاضة قبل الفجر .
وقد يكون حكما طريقيا ، مثل ما دل على وجوب السير للحج قبل الموسم .
وقد يكون حكما ظاهريا ، وهو ما إذا اخذ الشك في الحكم الواقعي في موضوعه ، فان الحكم المجعول في ظرف الشك في الحكم الواقعي لا يمكن أن يكون حكما واقعيا ، بل لابد أن يكون حكما ظاهريا ، على اختلاف مفاده ، فقد يكون مفاده وضع الحكم الواقعي في موطن الشك بجعل ايجاب الاحتياط ، وقد يكون مفاده رفع الحكم الواقعي بلسان الحل والترخيص ، كقوله ـ عليه السلام ( كل شيء لك حلال ) أو بلسان الرفع ، كقوله ـ صلى الله عليه وآله ـ ( رفع عن أمتي تسعة أشياء ) ومنها ما لا يعلمون .
وهذا الاختلاف ينشأ عن اختلاف ملاكات الأحكام الواقعية ومناطاتها ، فقد يكون الملاك بمرتبة من الأهمية في نظر الشارع يقتضي جعل ايجاب الاحتياط في ظرف الشك تحرزا عن الوقوع في مخالفة الواقع .
وقد لا يكون الملاك بتلك المثابة من الأهمية ، فللشارع الترخيص في ارتكاب الشبهة منة على العباد وتوسعة عليهم ، لأنه كان له التضييق عليهم بالزامهم على حفظ الملاكات بأي مرتبة كانت على أي وجه اتفق ولو بالاحتياط مطلقا في جميع موارد الشك ، ولكن الملة السهلة السمحة اقتضت عدم ايجاب الاحتياط ورفع تأثير المقتضيات والملاكات عن اقتضائها ايجاب الاحتياط ، ولازم ذلك : عدم المؤاخذة على الاقتحام في الشبهة لو صادف كونه مخالفا للواقع واتفق كون الشبهة من المحرمات الواقعية .
وبذلك تمتاز البراءة الشرعية عن البراءة العقلية ، فان البراءة العقلية عبارة عن قبح المؤاخذة بلا بيان ، فالحكم العقلي من أول الأمر يتوجه على المؤاخذة واستحقاق العقوبة ، لأن استحقاق المؤاخذة والعقوبة من المدركات العقلية ليس من وظيفة الشارع وضعه ورفعه إلا بوضع ما يكون منشأ ذلك أو .
فوائد الأصول ـ 341 ـ
رفعه ، كما أنه ليس من وظيفة العقل الحكم بجواز الاقتحام في الشبهة والترخيص في ارتكابها ، لأن ذلك من وظيفة الشارع . نعم : لازم حكم العقل بقبح المؤاخذة بلا بيان هو الترخيص في الارتكاب ، كما أن لازم حكم الشارع بالترخيص هو عدم المؤاخذة في الاقتحام ، فالبرائة الشرعية من أول الأمر تتوجه على جواز الارتكاب عكس البراءة العقلية .
فتحصل مما ذكرنا : أن ( الرفع ) في الحديث المبارك بمعنى ( الدفع ) في جميع الأشياء التسعة ، ولا يلزم من ذلك تجوز ولا حمل اللفظ على خلاف ما يقتضيه ظاهره .
وإن أبيت عن ذلك وجمدت على ما ينسبق إلى الذهن في بادئ الأمر : من أن العناية المصححة لورود الرفع على الشيء إنما هي باعتبار وجوده السابق ولا يكفي مجرد ثبوت مقتضى الوجود ، فيمكن الالتزام بذلك أيضا لوجود العناية المصححة لورود الرفع في جميع الأمور التسعة المذكورة في الحديث .
أما في غير ( ما لا يعلمون ) من الثمانية الاخر فواضح ، فان الرفع قد أسند فيها إلى ما هو ثابت خارجا ، لوجود الخطأ والنسيان والاضطرار وغير ذلك خارجا ، فالرفع قد ورد على ما هو موجود في الخارج ، ولا منافاة بين ورود الرفع على المذكورات وبين بقائها على ما كانت عليه بعد ورود الرفع عليها ، لأن الرفع التشريعي لا ينافي الثبوت التكويني ، كما لا ينافي وجود الضرر خارجا مع نفيه تشريعا ، وسيأتي معنى الرفع التشريعي في المذكورات .
وأما في ( ما لا يعلمون ) فقد يقال : إنه لا يمكن أن يكون الرفع فيه بمعناه ، فان المراد من ( الموصول ) نفس الحكم الشرعي ، فان كل الحكم في مورد الشك ثابت فلا يتصور رفعه إلا على سبيل النسخ ، وإن لم يكن ثابتا فلا يصح إسناد الرفع إليه ، لعدم سبق الوجود ، فلابد من جعل ( الرفع ) في قوله ـ صلى الله عليه وآله ـ ( رفع ما لا يعلمون ) بمعنى ( الدفع ) هذا .
ولكن يمكن ثبوت العناية المصححة لإسناد الرفع إلى الحكم من دون
فوائد الأصول ـ 342 ـ
أن يلزم النسخ أو التصويب .
أما في الشبهات الموضوعية : فواضح ، فإنه في مورد الشك في خمرية الشيء يصح أن يقال : رفع الحكم بالحرمة عن المشكوك ، بلحاظ أن حرمة شرب الخمر قد ثبتت في الشريعة ، فصح أن يقال : رفعت حرمة شرب الخمر عن هذا المشتبه .
وأما في الشبهات الحكمية : فيمكن أيضا فرض وجود العناية المصححة لاستعمال الرفع (1) فتأمل .
ولكن هذا كله إتعاب للنفس وتبعيد للمسافة بلا ملزم ، فان استعمال ( الرفع ) بمعنى ( الدفع ) ليس بعزيز الوجود ، بل قد عرفت : أن الرفع حقيقة هو الدفع ، فيستقيم معنى الحديث المبارك بلا تصرف وتأويل .
الأمر الثاني :
قيل : إن دلالة الاقتضاء تقتضي تقديرا في الكلام ، لشهادة الوجدان والعيان على وجود الخطأ والنسيان في الخارج ، وكذا غير الخطأ والنسيان مما ذكر في الحديث الشريف ، فلابد من أن يكون المرفوع أمرا آخر مقدرا ، صونا لكلام الحكيم عن الكذب واللغوية .
وقد وقع البحث والكلام في تعيين ما هو المقدر ، فقيل : إن المقدر هو المؤاخذة والعقوبة .
وقيل : إنه عموم الآثار .
وقيل : إنه أظهر الآثار بالنسبة إلى كل واحد من التسعة .
والتحقيق : أنه لا حاجة إلى التقدير ، فان التقدير إنما يحتاج إليه إذا توقف تصحيح الكلام عليه ، كما إذا كان الكلام إخبارا عن أمر خارجي أو كان الرفع رفعا تكوينيا ، فلابد في تصحيح الكلام من تقدير أمر يخرجه عن الكذب .
وأما إذا كان الرفع رفعا تشريعيا (2) فالكلام يصح بلا تقدير ، فان
(1) أقول : يكفي في العناية وجود الحكم المشكوك في الرتبة السابقة ، ويكون رفعه في الرتبة اللاحقة رفع مسبوق الوجود رتبة لا زمانا ، فتدبر .
(2) أقول : يا ليت أمثال هذه البيانات بتوقيع أو وحى ! إذ لو كان المراد من الرفع التشريعي تشريع رفع .
فوائد الأصول ـ 343 ـ
الرفع التشريعي كالنفي التشريع ليس إخبارا عن أمر واقع بل إنشاء لحكم يكون وجوده التشريعي بنفس الرفع والنفي ، كقوله ـ صلى الله عليه وآله ـ ( لا ضرر ولا ضرار ) وكقوله ـ عليه السلام ـ ( لا شك لكثير الشك ) ونحو ذلك مما يكون متلو النفي أمرا ثابتا في الخارج .
وبالجملة : ما ورد في الأخبار مما سيق في هذا المساق سواء كان بلسان الرفع أو الدفع أو النفي إنما يكون في مقام تشريع الأحكام وإنشائها ، لا في مقام الإخبار عن رفع المذكورات أو نفيها حتى يحتاج إلى التقدير ، وسيأتي معنى الرفع التشريعي ونتيجته .
والغرض في المقام مجرد بيان أن دلالة الاقتضاء لا تقتضي تقديرا في الكلام حتى يبحث عما هو المقدر .
لا أقول : إن الرفع التشريعي تعلق بنفس المذكورات (1) فان المذكورات في الحديث غير ( ما لا يعلمون ) لا تقبل الرفع التشريعي ، لأنها من الأمور التكوينية الخارجية ، بل رفع المذكورات تشريعا إنما يكون برفع آثارها الشرعية ـ على ما سيأتي بيانه ـ ولكن ذلك لا ربط له بدلالة الاقتضاء وصون كلام الحكيم عن اللغوية والكذب ، بل ذلك لأجل أن رفع المذكورات في عالم التشريع هو رفع ما يترتب عليها من الآثار والأحكام الشرعية ، كما أن معنى ( نفي الضرر ) هو نفي الأحكام الضررية ، فتأمل جيدا .
هذه الأمور حقيقة فهو غلط ، وإن كان العرض جعل الشارع رفعها تنزيلا فهو يناسب مع الإخبارية أيضا ، وإن كان الغرض عدم جعلها في موارد أحكامه وتشريعاته فهو رفع حقيقي لهذه الأمور في دائرة أحكامه لا مطلقا ، فلا يخرج هذا الرفع أيضا عن التكوين ، غايته في مورد خاص ، إذ مرجع هذا المعنى إلى رفع الخطاء حقيقة في الشرعيات ، وهكذا ، فهو عين الرفع الحقيقي لها ، غاية الأمر لا مطلقا ، وهذا المعنى أيضا قابل للإخبارية ، فلا يبقى في البين إلا توهم تشريع الرفع بجعله غير ما ذكرنا ، وعليه بشرحه ، وهذا الذي لا نفهم له معنى محصلا .
(1) أقول : لا مجال لهذا الكلام ، إذ مرجع الرفع التشريعي إلى رفع الأمور الواقعية في عالم التشريع ، ومرجع هذا الرفع إلى رفع أثره ، وهذا عين قابلية الأمور التكوينية للرفع التشريعي ، فلا معنى لقوله توضيحا لمرامه ( لا أقول ) إلى آخره ، خصوصا لا يفهم فرق بين الرفع التشريعي وبين رفع المذكورات تشريعا ، فتدبر .
فوائد الأصول ـ 344 ـ
الأمر الثالث :
قيل : إن وحدة السياق تقتضي أن يكون المراد من ( الموصول ) في ( ما لا يعلمون ) الموضوع المشتبه ، لأن المراد من ( الموصول ) فيما استكرهوا وما اضطروا وما لا يطيقون ، هو الفعل الذي استكرهوا عليه أو اضطروا إليه أو لا يطيقونه ، فان هذه العناوين لا تعرض الأحكام الشرعية ، بل إنما تعرض الأفعال الخارجية ، ومقتضى وحدة السياق أن يكون المراد من ( الموصول ) في ( ما لا يعلمون ) أيضا الفعل الذي اشتبه عنوانه ، كالشرب الذي اشتبه كونه شرب التتن أو شرب الخمر ، فيختص الحديث المبارك بالشبهات الموضوعية ولا يعم الشبهات الحكمية ، مضافا إلى أنه لا جامع بين الشبهات الموضوعية والشبهات الحكمية بحيث يمكن أن يراد من ( الموصول ) معنى يعمها ، فان المرفوع في الشبهات الحكمية إنما هو نفس متعلق الجهل وما لا يعلمون ، وهو الحكم الشرعي (1) فاسناد الرفع إلى ( الموصول ) يكون من قبيل الإسناد إلى ما هو له ، لأن ( الموصول ) الذي تعلق الجهل به بنفسه قابل للوضع والرفع الشرعي .
وأما الشبهات الموضوعية : فالذي تعلق الجهل به فيها أولا وبالذات إنما هو الموضوع الخارجي وبالتبع يتعلق بالحكم الشرعي ، والموضوع الخارجي بنفسه غير قابل للوضع والرفع الشرعي ، بل إسناد الرفع إليه يكون من قبيل الإسناد إلى غير ما هو له ، فمع قطع النظر عن وحدة السياق كان الأولى اختصاص الحديث
(1) أقول : محل البحث في أن متعلق الرفع في البقية أي شيء ؟ وذلك لا ينافي مع كون المرفوع بالأخرة حكم شرعي ، فالاختلاف في المتعلق يوجب خلاف السياق ، والأولى في الجواب أن يقال : إن المراد من ( الموصول ) ما كان معروض وصفه حقيقة ، والفعل في الشبهات الموضوعية ما تعلق عدم العلم بنفسه ـ كما اضطروا إليه ـ بل تعلق عدم العلم بعنوانه ، وهو أيضا خلاف ظهور السياق ، وحينئذ الأمر يدور بين حفظ السياق من هذه الجهة فيحمل على الحكم أو حفظ السياق من حيث إرادة الفعل من ( الموصول ) وارتكاب خلاف السياق من جهة أخرى ، والعرف يرجح الأول ، فيحمل على الحكم في ( ما لا يعلمون ) فقط .
فوائد الأصول ـ 345 ـ
بالشبهات الحكمية ، إلا أن وحدة السياق تقتضي اختصاصه بالشبهات الموضوعية ، هذا .
ولكن لا يخفى عليك ما في هذا الكلام من الضعف ، فان المرفوع في جميع الأشياء التسعة إنما هو الحكم الشرعي ، وإضافة الرفع في غير ( ما لا يعلمون ) إلى الأفعال الخارجية إنما هو لأجل أن الإكراه والاضطرار ونحو ذلك إنما يعرض الأفعال لا الأحكام ـ كما ذكر ـ وإلا فالمرفوع فيها هو الحكم الشرعي ، كما أن المرفوع في ( ما لا يعلمون ) أيضا هو الحكم الشرعي ، وهو المراد من ( الموصول ) والجامع بين الشبهات الحكمية والموضوعية .
ومجرد اختلاف منشأ الجهل ـ وأنه في الشبهات الحكمية إنما يكون إجمال النص أو فقده أو تعارض النصين وفي الشبهات الموضوعية يكون المنشأ اختلاط الأمور الخارجية ـ لا يقتضي الاختلاف فيما أسند الرفع إليه ، فان الرفع قد أسند إلى عنوان ( ما لا يعلم ) ولمكان أن الرفع التشريعي لابد وأن يرد على ما يكون قابلا للوضع والرفع الشرعي ، فالمرفوع إنما يكون هو الحكم الشرعي ، سواء في ذلك الشبهات الحكمية والموضوعية ، فكما أن قوله ـ عليه السلام ـ ( لا تنقض اليقين بالشك ) يعم كلا الشبهتين بجامع واحد ، كذلك قوله ـ صلى الله عليه وآله ـ ( رفع عن أمتي تسعة أشياء ) فتدبر .
الأمر الرابع :
قد عرفت : نتيجة الرفع في ( ما لا يعلمون ) وأنه بمعنى دفع مقتضيات الأحكام في تأثيرها لإيجاب الاحتياط ، من دون أن يمس الرفع فيه كرامة الحكم الواقعي بوجه من الوجوه من حيث الوجود والفعلية ، فلا نسخ ولا تصويب ولا صرف .
وأما النتيجة في غير ( ما لا يعلمون ) فبالنسبة إلى رفع الحسد والطيرة والوسوسة في الخلق ، سيأتي البحث عنه .
وأما بالنسبة إلى الخمسة الاخر : من
فوائد الأصول ـ 346 ـ
الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وما اضطروا إليه وما لا يطيقونه ، فنتيجة الرفع فيها هي تخصيص الأحكام الواقعية المترتبة على موضوعاتها المقدرة وجودها بما عدا عروض هذه الطوارئ .
بيان ذلك : هو أن مقتضى عموم أدلة الأحكام الواقعية عدم دخل الخطأ والنسيان وغير ذلك من الطوارئ والحالات في ترتبها على موضوعاتها ، فان مقتضى عموم قوله تعالى ( السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) وقوله تعالى ( الزانية والزانية فاجلدوا كل واحد منهما مأة جلدة ) هو ثبوت القطع والجلد على من أكره على السرقة والزنا أو اضطر إليهما .
ومقتضى الجمع بين تلك الأدلة وقوله ـ صلى الله عليه وآله ـ ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان الخ ) هو اختصاص الأحكام بغير صورة عروض ذلك ، فلا قطع ولا جلد على من أكره على السرقة والزنا ، وقد عرفت : أن الرفع في الحديث المبارك بمعنى الدفع ، فيكون حاصل المعنى : هو ( أن مقتضيات الأحكام الواقعية وإن كانت تقتضي ترتب الأحكام على موضوعاتها مطلقا من غير دخل للخطأ والنسيان في ذلك ، إلا أن الشارع دفع تلك المقتضيات عن تأثيرها في ترتب الحكم على الموضوع الذي عرض عليه الخطأ والنسيان والإكراه ونحو ذلك ) فلا حكم مع عروض هذه الحالات ، فتكون النتيجة تخصيص الإحكام الواقعية بالموارد التي لم تطرء عليها هذه الطوارئ .
والذي يدل على أن مقتضيات الأحكام الواقعية كانت تقتضي ترتب الأحكام على موضوعاتها مطلقا من غير دخل للإكراه ونحوه في ذلك ، هو أن سياق ( حديث الرفع ) يقتضي كون الرفع للامتنان والتوسعة على العباد ، فلولا ثبوت المقتضى في الموارد التي تعرض عليها هذه الطوارئ والحالات لم يكن موقع للامتنان ، كما لا يخفى .
وتوهم : أن النسبة بين كل واحد من أدلة الأحكام مع كل واحد من العناوين الخمسة العموم والخصوص من وجه ، فان ما دل على وجوب الجلد في
فوائد الأصول ـ 347 ـ
الزنا وإن كان يعم صورة الإكراه عليه وعدمه إلا أنه يختص بخصوص الزنا ، كما أن ما دل على رفع الإكراه وإن كان يختص بالإكراه إلا أنه يعم الإكراه على الزنا وغيره ، فلا وجه لتقديم ما دل على رفع الإكراه على ما دل على وجوب الجلد على الزاني .
فاسد ، فان ( حديث الرفع ) يكون حاكما على أدلة الأحكام ، فلا تلاحظ النسبة بينهما ، كما لا تلاحظ النسبة بين أدلة الأحكام وبين ما دل على نفي الضرر والعسر والحرج .
ولا فرق بين أدلة نفي الضرر والعسر والحرج وبين دليل رفع الاضطرار والإكراه ونحو ذلك ، سوا أن الحكومة في أدلة نفي الضرر والعسر والحرج إنما تكون باعتبار عقد الحمل حيث إن الضرر والعسر والحرج من العناوين الطارية على نفس الأحكام فان الحكم قد يكون ضرريا أو حرجيا وقد لا يكون ـ كما أوضحناه بما لا مزيد عليه في محله ـ وفي دليل رفع الإكراه والاضطرار وغير ذلك إنما تكون باعتبار عقد الوضع ، فإنه لا يمكن طرو الإكراه والاضطرار والخطأ والنسيان على نفس الأحكام ، بل إنما تعرض موضوعاتها ومتعلقاتها ، فحديث الرفع يوجب تضييق دائرة موضوعات الأحكام ، نظير قوله ـ عليه السلام ـ ( لا شك لكثير الشك ) و ( لا سهو مع حفظ الإمام ) ونحو ذلك مما يكون أحد الدليلين متكفلا لما أريد من عقد وضع الآخر ، وسيأتي في محله : أنه لا تلاحظ النسبة بين دليل الحاكم والمحكوم ولا قوة الظهور وضعفه ، بل دليل الحاكم يقدم على دليل المحكوم وإن كانت النسبة بينهما العموم من وجه أو كان دليل المحكوم في المفاد أظهر من دليل الحاكم ، ونتيجة كل حكومة هي التخصيص ، فلا ينبغي التأمل في حكومة ( حديث الرفع ) على أدلة الأحكام ، وتكون النتيجة تخصيص الأحكام بما عدا عروض العناوين الخمسة على موضوعات الأحكام ومتعلقاتها ، فتأمل جيدا .
فوائد الأصول ـ 348 ـ
الأمر الخامس :
في بيان عموم النتيجة وأن المرفوع في هذه الموارد هل هو جميع الآثار والإحكام المترتبة على الموضوعات ؟ أو بعض الآثار ؟ وهو من أهم الأمور التي ينبغي البحث عنها في ( حديث الرفع ) وقبل بيان ذلك ينبغي التنبيه على أمرين :
الأول : انه يعتبر في التمسك بحديث الرفع أمور :
الأول : أن يكون الأثر الذي يراد رفعه من الآثار الشرعية التي أمر وضعها ورفعها بيد الشارع ، لا من الآثار العقلية التي ليس أمر وضعها ورفعها بيد الشارع .
الثاني : أن يكون في رفعة منة وتوسعة على العباد ، فالأثر الذي يلزم من رفعه التضييق عليهم لا يندرج في عموم الحديث .
الثالث : أن يكون الأثر بحسب جعله الأولى مترتبا على الموضوع لا بشرط عن طرو العناوين المذكورة في الحديث ، أي لم يعتبر في موضوع الأثر عنوان الخطأ والنسيان ونحو ذلك ، وإلا لم يكن مرفوعا بحديث الرفع ، فان عنوان الموضوع يقتضي وضع الأثر لا رفعه ، فلو فرض أنه قد اخذ في موضوع بعض الآثار عنوان خصوص الإكراه أو خصوص الاضطرار أو غير ذلك من أحد العناوين الخمسة كان ذلك الأثر خارجا عن عموم ( حديث الرفع ) فهذه الأمور الثلاثة مما لابد منها في صحة التمسك بحديث الرفع ، والسر في اعتبارها واضح .
الثاني : إن الرفع التشريعي للشئ عبارة عن خلو صفحة التشريع عنه ، وإن كان صفحة التكوين مشغولة به ، لعدم المنافاة بين الرفع التشريعي والثبوت التكويني ، من غير فرق بين تعلق الرفع بالحكم الشرعي ابتداء أو بالموضوع الخارجي إذا كان الموضوع ذا حكم شرعي ، فان رفع الموضوع في عالم
فوائد الأصول ـ 349 ـ
التشريع عبارة من رفع حكمه لا بتقدير في الكلام ، بل معنى رفع الموضوع شرعا هو ذلك (1) .
فمفاد قوله ـ صلى الله عليه وآله ـ ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ) ـ بحسب ما يقتضيه ظاهر اللفظ أولا ـ هو رفع نفس الخطأ والنسيان وتنزيل الصفتين منزلة العدم ، فكأنه لم يقع الخطأ والنسيان خارجا ، ومعنى عدم وقوع الخطأ والنسيان ، هو أن الفعل الصادر على أحد الوجهين كأن لم يصدر على هذا الوجه .
وهذا المعنى بظاهره فاسد ، فإنه يلزم على هذا ترتيب آثار العمد على الفعل الصادر عن خطأ أو نسيان ، وذلك ينافي الامتنان والتوسعة ، فلابد وأن يكون المراد من رفع الخطأ والنسيان رفع الفعل الصادر عن ذلك ، يعنى جعل الفعل كالعدم وكأنه لم يصدر عن الشخص ولم يقع ، لا أن الفعل وقع وحيثية صدوره عن خطأ أو نسيان لم يكن ، ليلزم ترتيب آثار الصدور عن عمد عليه حتى ينافي الامتنان ، بل لابد من أن يكون مفاد رفع الخطأ والنسيان رفع أصل الفعل الواقع عن نسيان أو خطأ ، فتوافق مفاد رفع الخطأ والنسيان مع مفاد رفع ما استكرهوا عليه وما اضطروا إليه وما لا يطيقونه ، فان المرفوع في هذه الأمور الثلاثة هو الفعل الذي وقع عن إكراه أو عن اضطرار إليه أو ما لا طاقة عليه ، لا رفع صفة الإكراه والاضطرار .
ومقتضى وحدة السياق والمفاد هو أن يكون المرفوع في الخطأ والنسيان ذلك ، وقد عرفت : أن رفع الفعل تشريعا إنما يكون
(1) أقول : رفع ذات الموضوع لا بوصف موضوعيته إذا كان مرجعه إلى خلو صفحة التشريع عنه ، فمرجعه إلى خلو صفحة التشريع عن هذا الذات ، ومآله إلى خلو خطاباته عن هذه الأفعال واختصاصها بغيرها ، وهذا عين رفع نفسها تكوينا في طي أحكامه وخطاباته لا مطلقا ، وهذا عين المعنى الثالث الذي أشرنا إليه في الحاشية السابقة وقابل للإخبارية أيضا . ولكن الأولى منه الالتزام بالمعنى الثاني : من جعل الرفع في المذكورات تنزيليا بلحاظ رفع آثاره ، ويمكن حمل كلامه من الرفع التشريعي على ذلك ، تبديل المقرر البيان المعروف من الرفع الادعائي إلى الرفع في عالم التشريع ليس إلا إخفاء الأمر على الأذهان ، وهو نوع من تبعيد المسافة .
فوائد الأصول ـ 350 ـ
بلحاظ رفع الآثار والأحكام ، فيقع الكلام حينئذ في أن المرفوع عموم الآثار أو بعضها ؟ (1) .
(1) أقول : ينبغي في شرح هذا المرام أن يقال : إنه بعد اختصاص ( حديث الرفع ) بما في وضعه خلاف الامتنان على الأمة لا رفع أثره مطلقا ـ إذ لا امتنان في رفع ما لا يكون في وضعه خلاف امتنان عليهم بل لو فرض الامتنان فيه فالمتيقن من ( الحديث ) رفع هذا المقدار لا كل رفع فيه امتنان وإن لم يكن في وضعه خلاف امتنان ـ فكان ( حديث الرفع ) من هذه الجهة نظير ( لا ضرر ) الغير الشامل للمقدم ، مع أن نفي الحكم عنه منة عليه أيضا ، فالخبر لا يكاد يشمل الخطأ والنسيان عن تقصيره وتمكنه من حفظه ، نعم : لو بلغ حفظ تمكنه عن الوقوع في الأمور المزبورة إلى حد الحرج ربما يشمله ( الحديث ) إذ في وضعه عليه أيضا خلاف الامتنان عليه ، ولذا يشمله عموم ( لا حرج ) أيضا ،
ومن هنا ظهر الحال في ( ما لا يطيقون ) حرفا بحرف ، كما أن الاضطرار في التكليفيات لا اختصاص في رفعه بصورة التمكن عن حفظه ، إذ مع قصوره العقل لا يأبى عن فعلية التكليف واستحقاقه العقوبة ، ولذا كان وضع التكليف في مورده خلاف الامتنان في حقه ، فيشمله ( الحديث ) بخلاف العناوين السابقة ، إذ مع قصورها يأبى العقل عن استحقاق العقوبة في موردها ، فلا يكون التكليف في وضعه خلاف امتنان ، وإنما يختص ذلك بصورة خاصة ، كما أشرنا ،
وأما في الوضعيات : فالظاهر أن رفع تأثير المعاملة عن المضطر إليها ولو قصورا خلاف امتنان في حقه ، لأن في وضعه كمال الامتنان عليه ، وعمدة النكتة فيه : أن في المعاملات المضطر بها الاضطرار دعاه إلى المعاملة ، فأثر المعاملة بالواسطة تنسب إلى الاضطرار الذي هو مقتضيه ، فيكون من الموارد التي يترتب الأثر على نفس العنوان باقتضائه و ( حديث الرفع ) أجنبي عن مثلها ، وهذا بخلاف موارد الاضطرار على مخالفة التكليف ، كما لا يخفى ،
وأما المكره عليه : ففي التكليفيات لا مجال للأخذ باطلاق رفع الإكراه ، كيف ! ولو أكره على الزنا بتوعيده على أخذ مال قليل منه لا يكون ضرره حرجيا عليه ـ كالقران أو أقل منه ـ لم يلتزم أحد بجواز ارتكاب الزنا أو اللواط أو شرب الخمر ، وهكذا لو كان توعيده بأمر مهم ولكن كان متمكنا عن دفعه بوجه يكره عليه إقدامه بلا حرج ، فان هذا المقدار يكفي للحكم بفساد المعاملة لكونه مكرها ، ومع ذا لا يكفي في التكليفيات جزما ، نعم : لا بأس بالاكتفاء بمطلق صدق الإكراه في المعاملات لأن في وضعه خلاف امتنان عليه ،
لا يقال : إن في المقام أيضا الإكراه دعاه إلى المعاملة ، فأثر المعاملة يحسب لعنوانه ،
فإنه يقال : فرق بينه وبين الاضطرار ، فان في الاضطرار كان الاضطرار مقتضيا لتحصيل مال لمعاش عياله ، ولا يكون ذلك إلا بصحة المعاملة ، وفي الإكراه ليس الأمر كذلك ، بل هو مقتضى لعدم ترتب الأثر ، لأنه مقتضى للطيب الذي هو من أجزاء المقتضى للصحة أو شرائطه ، فيخرج مثل هذا الأثر من الآثار التي يكون العناوين المزبورة مقتضيا لها ،
وما هو مورد انصراف ( حديث الرفع ) مثل هذه الآثار ، لا كل أثر ينسب إلى نفسه ، ولو كان مفنيا لمقتضيه أو شرطه ، وذلك أيضا عمدة النكتة الفارقة بين الإكراه والاضطرار .