وتبين عدم الضرر ، لأنه لم يتحقق ما هو الموضوع لحكم العقل بالقبح ليستتبع الحكم الشرعي بالحرمة حتى يكون السفر معصية يجب فيه إتمام الصلاة ، بل غايته أن يكون سلوك الطريق من التجري ، فتسالم الأصحاب على هذه الفتوى لا ينطبق إلا بالحاق باب الضرر بباب التشريع ، من حيث كون الموضوع لحكم العقل بالقبح مطلق ما لا يأمن ، فتأمل جيدا .
  تتمة :
  قد عرفت : أن الأصل عند الشك في حجية كل أمارة يقتضي حرمة التعبد بها والالتزام بمؤداها بمقتضى الأدلة المتقدمة .
  وقد يقرر الأصل بوجه آخر ، وهو استصحاب عدم الحجية ، لأن حجية الأمارة من الحوادث وكل حادث مسبوق بالعدم .
  وقد منع الشيخ ( قدس سره ) عن جريان استصحاب عدم الحجية ، وأفاد في وجهه بما حاصله : أنه لا يترتب على مقتضى الاستصحاب أثر عملي ، فإنه يكفي في حرمة العمل والتعبد نفس الشك في الحجية ، ولا يحتاج إلى إحراز عدم ورود التعبد بالأمارة حتى يجرى استصحاب العدم ، فان الاستصحاب إنما يجرى فيما إذا كان لا أثر مترتبا على الواقع المشكوك فيه ، لا على نفس الشك .
  هذا حاصل ما افاده الشيخ ( قدس سره ) في وجه المنع عن جريان استصحاب عدم الحجية .
  ورده المحقق الخراساني ( قدس سره ) بما حاصله : أن الحاجة إلى الأثر في جريان الأصل إنما هو في الأصول الجارية في الشبهات الموضوعية ، وأما الأصول الجارية في الشبهات الحكمية فلا يتوقف جريانها على أن يكون في البين أثر عملي ما وراء المؤدى ، بل يكفي في صحة جريان الأصل ثبوت نفس المؤدى ـ من بقاء الحكم في الاستصحابات الوجودية وعدمه في الاستصحابات العدمية ـ بداهة أن وجوب الشيء أو عدم وجوبه بنفسه من الآثار التي يصح جريان

فوائد الأصول ـ 127 ـ
  الأصل بلحاظها ، فلا حاجة إلى أثر آخر وراء ذلك ، والحجية وعدمها من جملة الأحكام ، فيجرى استصحاب عدم الحجية عند الشك فيها بلا انتظار أثر آخر وراء عدم الحجية ، فان استصحاب عدم الحجية كاستصحاب عدم الوجوب ، فكما أنه لا يتوقف استصحاب عدم الوجوب على أثر آخر وراء نفس عدم الوجوب ، كذلك استصحاب عدم الحجية .
  ثم أفاد ( قدس سره ) أنه لو سلم كون الحجية من الموضوعات الخارجية التي يتوقف جريان الأصل فيها على أن يكون في البين أثر عملي ، إلا أن ذلك لا يمنع عن استصحاب عدم الحجية ، فان حرمة التعبد كما يكون أثرا للشك في الحجية كذلك يكون أثرا لعدم الحجية واقعا ، فيكون الشك في الحجية موردا لكل من الاستصحاب والقاعدة المضروبة لحال الشك ، ويقدم الاستصحاب على القاعدة لحكومته عليها ، كحكومة استصحاب الطهارة على قاعدتها .
  ثم بين ضابطا كليا بما حاصله : أن الأثر إذا كان مترتبا على الواقع فقط فلا مجال للاستصحاب ، وإن كان مترتبا على الشك فقط فلا مجال إلا للقاعدة المضروبة للشك ، وإن كان مترتبا على كل من الواقع والشك فلكل من الاستصحاب والقاعدة مجال ، إلا أن الاستصحاب يقدم لحكومته عليها .
  هذا حاصل ما أفاده المحقق الخراساني ( قدس سره ) ردا على ما افاده الشيخ ( قدس سره ) .
  وأنت خبير بما فيه ! أما ما أفاده ( قدس سره ) أولا : من أن الحجية بنفسها من الأحكام فلا يتوقف جريان استصحاب عدمها على أن يكون وراء المؤدى أثر عملي ، ففيه : أن ما اشتهر من أنه ( في الأصول الحكمية لا يتوقف جريانها على أن يكون في البين أثر عملي ) إنما هو لأجل أن المؤدى بنفسه من الآثار العملية (1) وإلا فلا يمكن أن تجرى الأصول من دون أن يترتب


(1) أقول : الذي يحتاج في الاستصحاب كون المستصحب مما يترتب عليه العمل ، بمعنى كونه مقتضيا له ولو .

فوائد الأصول ـ 128 ـ
  عليها أثر عملي ، من غير فرق في ذلك بين الأصول الموضوعية والحكمية ، فان الأصول إنما تكون وظائف عملية ، لما عرفت آنفا : من أن المجعول فيها هو الجري العملي ، وبذلك تمتاز الأصول من الأمارات ، فان الأمارة تقتضي الثبوت الواقعي ولا يتوقف التعبد بها على أن يكون المؤدى مما يقتضي الجري العملي ، بل يكفي في التعبد بها أن يترتب عليها أثر عملي ولو بألف واسطة لكي لا يلزم اللغوية ، فلا مانع من قيام الأمارة على عدم الحجية بعد ما كان مفادها عدم الثبوت الواقعي .
  وبالجملة : لا يعقل أن يجرى الأصل من دون أن يقتضي الجري والبناء العملي ، ولما كانت الأصول الحكمية بنفسها تقتضي الجري العملي على طبق المؤدى كان الأصل جاريا بلا حاجة إلى أن يكون أثر عملي وراء المؤدى ، وإلا فلو فرض أصل حكمي لا يقتضي الجري العملي فلا يكاد يجرى ، لعدم .
  في ظرف العلم به ، بلا واسطة أو بواسطة أثر شرعي ، نظير الوجوب الذي هو مقتضى للعمل ولو في ظرف العلم به ، كما أن نفيه موجب لنفي العمل المستند إلى عدم المقتضى ، وهذا المعنى موجود في الحجية المجعولة ، بملاحظة كونها موضوعا لحكم العقل بموافقتها عند العلم به ، وعدم وجوبه عند عدمها لعدم المقتضى ، وليس أثرها ممحضا بخصوص حرمة التعبد بمؤداه كي يختص ذلك بحال شكه وكان من تبعات نفس الشك به ، كيف ! وقد قلنا بأن حرمة التعبد ليس من لوازم عدم الحجية ، وإن كان جوازه من لوازم حجيته ، وحينئذ لا يبقى مجال لمثل هذا التعب في رد هذا القائل خصوصا في إلزامه بأن عدم الحجية يقتضي الرخصة ، مع أنه ليس كذلك ، لأن الأحكام بأسرها مضادة ، وليس نقيض كل عين الآخر ، ولا يقتضي أيضا إثباته بدليل التعبد الذي هو مفاد الأصل ، لعدم حجية مثبتات الأصول ، فلا يكون نتيجة استصحاب عدم الوجوب إلا رخصة العقل لترك العمل بنفس شكه من جهة قبح العقاب بلا بيان ، وحينئذ كيف يكون استصحاب العدم حاكما على قبح العقاب بلا بيان ، بل لازم كلامه كون المورد مجرى القاعدة ، لا مجرى الاستصحاب ، إلا بناء على حجية مثبته من إثبات الرخصة الشرعية ، وهو كما ترى ! وحينئذ ما تقول في استصحاب عدم الوجوب نقول به في استصحاب عدم الحجية .
  ولعمري ! ان عمدة ما أوقعه في هذا المحذور تخيل أن أثر عدم الحجية منحصر لجهة التعبد بمؤداه الذي مترتب في فرضه على نفس الشك ، وهو أول شيء ينكر ! بل عمدة أثر عدم الحجية عدم حكم العقل بلزوم موافقته ، لعدم المقتضى ـ نظير حكمه بعدم لزوم العمل والامتثال في صورة عدم وجوبه ـ وأن مصحح جريان الاستصحاب في المقامين متساويان ، فتدبر ، ولا تبادر بالإشكال على الأساطين ! .

فوائد الأصول ـ 129 ـ
  صحة التعبد به ، والحجية وإن كانت من الأحكام الوضعية وكانت بنفسها مما تنالها يد الجعل ، إلا أنها بوجودها الواقعي لا يترتب عليها أثر عملي أصلا ، والآثار المترتبة عليها ـ منها : ما يترتب عليها بوجودها العلمي ، ككونها منجزة للواقع عند الإصابة وعذرا عند المخالفة .
  ومنها : ما يترتب على نفس الشك في حجيتها ، كحرمة التعبد بها وعدم جواز إسناد مؤداها إلى الشارع ، فعدم الحجية الواقعية بنفسه لا يقتضي الجري العملي حتى يجرى استصحاب العدم ، إذ ليس لإثبات عدم الحجية أثر إلا حرمة التعبد بها ، وهو حاصل بنفس الشك في الحجية وجدانا ، لما عرفت : من أن الشك تمام الموضوع لحرمة التشريع وعدم جواز التعبد ، فجريان الاستصحاب لإثبات هذا الأثر يكون من تحصيل الحاصل ، بل أسوء حالا منه ، فان تحصيل الحاصل إنما هو فيما إذا كان المحصل والحاصل من سنخ واحد كلاهما وجدانيان أو كلاهما تعبديان ، وفي المقام يلزم إحراز ما هو محرر بالوجدان بالتعبد ، فهو أسوء حالا من تحصيل الحاصل .
  وبالجملة : فرق بين استصحاب عدم الوجوب واستصحاب عدم الحجية ، فان عدم الوجوب كالوجوب بنفسه مما يتعلق بعمل المكلف ويقتضي الجري العملي نحوه ، لأن عدم الوجوب يقتضي الرخصة الشرعية في الفعل ، وهي ليست حاصلة بنفس الشك وجدانا ، ولذلك كان استصحاب عدم الوجوب حاكما على البراءة العقلية والشرعية ، لأن البراءة لا تقتضي أزيد من عدم العقاب وعدم تنجز الواقع .
  وأما الرخصة الواقعية فلا يكاد تثبتها البراءة ، بخلاف استصحاب عدم الوجوب ، وأين هذا من استصحاب عدم الحجية الذي لا يترتب عليه أثر إلا ما كان حاصلا بنفس الشك ، فتأمل (1) .


(1) وجهه : هو أنه قد يختلج في البال : أن المنع عن جريان استصحاب عدم الحجية يقتضي المنع عن جريان استصحاب بقاء الحجية عند الشك في نسخها ، لأن استحالة التعبد بأحد النقيضين يلازم استحالة التعبد بالنقيض الآخر ، وإن كان يمكن منع الملازمة ، فان المسلم من الملازمة هو أن القدرة على أحد النقيضين يلازم القدرة على النقيض الآخر ، وأما التعبد بأحد النقيضين فلا يلازم التعبد بالآخر ، إذ قد لا يكون محل للتعبد .

فوائد الأصول ـ 130 ـ
  وأما ما أفاده ( قدس سره ) ثانيا : من أن حرمة التعبد بالأمارة كما يكون أثرا للشك في حجيتها كذلك يكون أثرا لعدم حجيتها واقعا ، ففي ظرف الشك يجرى كل من الاستصحاب والقاعدة المضروبة له ، ويقدم الاستصحاب لحكومته عليها .
  ففيه : أنه لا يعقل أن يكون الشك في الواقع موضوعا للأثر في عرض الواقع (1) مع أنه على هذا الفرض لا يجرى الاستصحاب أيضا ، لأن الأثر بأحدهما ـ للزوم اللغوية أو غير ذلك ـ دون التعبد بالآخر * .
  وقد يختلج في البال أيضا : أن ذلك يقتضي عدم جواز قيام الأمارة المعتبرة على عدم حجية أمارة ، فان المجعول في باب الأمارات وإن لم يكن هو البناء العملي بل نفس الوسطية في الإثبات ، إلا أنه لابد وأن يترتب على مؤدى الأمارة أثر عملي ولو بألف واسطة ليصح التعبد بها ، والمفروض أنه لا يترتب على عدم الحجية الواقعية أثر عملي ، بل الأثر مترتب على نفس عدم العلم بالحجية ، وهو حاصل قبل قيام الإمارة المعتبرة على ذلك .
  ولا يدفع هذا الإشكال مجرد كون الأمارة مثبتة لمؤداها الواقعي ، لأن المفروض أن المؤدى ليس موضوعا للأثر ، فحال الأمارة القائمة على عدم حجية أمارة كحال الأمارة القائمة على موضوع لم يترتب عليه أثر عملي أصلا ولو بألف واسطة .
  ولا يقال : إنه بعد قيام الأمارة على عدم حجية يحصل العلم بعدم الحجية والعلم بعدم الحجية كالشك فيها يكون موضوعا لأثر حرمة التعبد ، فان العلم بعدم الحجية إنما يحصل بعد قيام الأمارة والتعبد بها ، والمفروض أنه في المرتبة السابقة على قيام الأمارة تحقق موضوع الأثر ، فلا يكون مجالا للتعبد فيها ، فتأمل جيدا ( منه ) .
  * ـ أقول : لو كان أثر الحجية منحصرا بجواز التعبد ، لا شبهة في أن هذا الجواز منوط بالعلم بها ، فقبل العلم يحرم التعبد به بمقتضى كلامه ، وحينئذ يتوقف الأثر على الاستصحاب كي يوجب له العلم بالحجية ، والاستصحاب أيضا ينوط بهذا الأثر ، ، فيدور ، وحينئذ لا يرفع هذه الغائلة إلا بدعوى كفاية اقتضاء الأثر في المستصحب بلا احتياج إلى فعليته ، ولازمه حينئذ كفاية نفي المقتضى في طرف استصحاب عدمه بلا احتياج إلى أثر آخر ، كما هو في استصحاب الوجوب ونفيه ـ على ما أسلفناه ـ ومن هذا البيان ظهر أيضا وجه جريان الأمارة على عدم الحجية ، شكر الله سعيه في هذا التعب العظيم ! .


(1) أقول إذا فرض كون الواقع مقتضيا لشئ والشك به مانعا عن ترتبه ، نظير وجوب الامتثال بالنسبة إلى الوجوب وأمثاله ، فهل لك محيص من الالتزام بنفي الأثر المترتب على الأعم من عدم المقتضى ووجود المانع ؟ وفي المقام ( استاذنا ) لا يريد إلا هذا ، فلا ترمه بعدم المعقولية .
  ثم بعد تسليم مدعاه ليس لك أن تنكر الاستصحاب ، لأن ترتب الأثر على الشك في عرض ترتب الاستصحاب عليه ، وبعد ذلك نقول ، إن الأمر يدور في تطبيق الاستصحاب أو تطبيق كبرى هذا الأثر بين

فوائد الأصول ـ 131 ـ
  يترتب بمجرد الشك ، لتحقق موضوعه ، فلا يبقى مجال لجريان الاستصحاب ، لانه لا تصل النوبة إلى إثبات بقاء الواقع ليجري فيه الاستصحاب ، فإنه في المرتبة السابقة على هذا الإثبات تحقق موضوع الأثر وترتب عليه الأثر ، فأي فائدة في جريان الاستصحاب ؟ .
  وما قرع سمعك ، من أن الاستصحاب يكون حاكما على القاعدة المضروبة لحال الشك ، فإنما هو فيما إذا كان ما يثبته الاستصحاب غير ما تثبته القاعدة ـ كقاعدة الطهارة والحل واستصحابهما ـ فان القاعدة لا تثبت الطهارة والحلية الواقعية (1) بل مفادها ليس إلا ترتيب آثار الطهارة والحلية : من جواز الاستعمال وحلية الأكل ونحو ذلك ، بخلاف الاستصحاب ، فان مفاده بقاء الطهارة والحلية الواقعية ، وقد يترتب على بقاء الطهارة والحلية الواقعية غير جواز الاستعمال وحلية الأكل من آثار اخر ، وعلى ذلك يبتني جواز الصلاة في أجزاء الحيوان الذي شك في حليته إذا كان يجرى في الحيوان استصحاب الحلية ـ كما إذا كان غنما فشك في مسخه إلى الأرنب ـ وعدم جواز الصلاة في التخصيص والتخصص ، لأن بجريان الاستصحاب يرتفع موضوع هذه الكبرى ، فإنه مبنى على عدم جريان الاستصحاب بمخصص خارجي ، وإلا لا يصلح هذه الكبرى لتخصيصه ، لأنه معلق على عدم جريانه .
  ولئن شئت قلت : إن لسان الاستصحاب ينفى موضوع هذه الكبرى فكان ناظرا إليه ، بخلاف لسان الكبرى ، فإنه ليس لسانه نفي موضوع الاستصحاب ، بل جريانه موجب للغوية الاستصحاب ، فالاستصحاب من الأول مانع عن جريانها ، فتدبر .
  ولئن شئت قلت : إن نتيجة الاستصحاب ترتب الأثر على عدم المقتضى ونتيجة القاعدة ترتب العدم على المانع ، وباعترافه ترتب العدم على عدم المقتضى مقدم على الترتب على المانع .


(1) أقول : بالله ! لو لم تثبت قاعدة الطهارة الطهارة الواقعية التعبدية يلزم عند العلم بنجاسة الماء المتوضى منه ، إما الحكم بصحة الوضوء واقعا أو عدم صحة الوضوء بمثل هذا الماء ، وهو كما ترى ! .
وجه الملازمة : أن موضوع صحة الوضوء واقعا ، إما الطهارة الواقعية أو الأعم منها ومن الطهارة الظاهرية ، فعلى الأول : فلا يجوز الوضوء به ، لعدم إحراز الطهارة الواقعية .
وعلى الثاني : يلزم عدم اقتضاء كشف نجاسته لبطلان وضوئه حين جريان القاعدة فيها ، وحينئذ لا محيص إلا أن تلتزم بأن مفاد قاعدة الطهارة أيضا إثبات الطهارة الواقعية ، وحينئذ من أين وجه تقدم الاستصحاب على القاعدة ؟ فتدبر .

فوائد الأصول ـ 132 ـ
  أجزائه إذا لم يجرى فيه استصحاب الحلية وإن كان تجرى فيه أصالة الحل ، فإنها لا تثبت الحلية الواقعية وكون الحيوان من الأنواع المحللة ، مع أن جواز الصلاة قد رتب على الحلية الواقعية .
  وكذا الكلام في قاعدة الاشتغال مع استصحاب بقاء التكليف ، فإنه في المورد الذي تجرى فيه قاعدة الاشتغال لا يجرى فيه الاستصحاب ، وفي المورد الذي يجرى فيه الاستصحاب لا تجري فيه القاعدة ، فان القاعدة إنما تجرى في مورد العلم الإجمالي عند خروج بعض أطرافه عن الابتلاء بالامتثال ونحوه ، والاستصحاب يجرى عند الشك في فعل المأمور به .
  فما ربما يتوهم من عبارة الشيخ ( قدس سره ) في المقام : من عدم جريان الاستصحاب في جميع موارد الشك في فعل المأمور به ، فاسد ، فتصريحه في مبحث الاشتغال بجريان استصحاب بقاء التكليف عند الشك في إتيان المأمور به وقد أوضحنا الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه في مبحث الاشتغال ، وأين هذا مما نحن فيه مما كان الأثر المترتب على الاستصحاب عن الأثر المترتب على الشك ! ؟ فالإنصاف : أنه لا مجال لتوهم جريان استصحاب عدم الحجية عند الشك فيها ، فتأمل فيما ذكرناه جيدا .

المبحث الثالث : بعد ما عرفت :
   من أن مقتضى القاعدة عدم حجية ما شك في حجيته من الطرق والأمارات إلا أن يقوم دليل بالخصوص على حجية أمارة خاصة أو على حجية كل أمارة تفيد الظن ، فلابد من صرف عنان الكلام إلى ما دل الدليل على اعتباره ، أو قيل باعتباره من الأمارات .
  ولا يخفى : أن البحث عن ذلك من أهم المباحث التي ينبغي تنقيحها ، خصوصا بالنسبة إلى من لم يلتزم بحجية الظن المطلق ، فإنه لابد له من إقامة الدليل على حجية ما بأيدينا من الأخبار المودعة في الكتب من حيث

فوائد الأصول ـ 133 ـ
  الظهور والصدور (1) ولا يغنى البحث في حجية الظهور عن البحث في جهة الصدور (2) بل لابد من إثبات حجية كل منهما ، ولذلك عقد الأصحاب بحثا في حجية الظواهر وبحثا آخر في حجية الأخبار (3) وعلى كل حال : ينبغي عقد الكلام في مقامين :
  المقام الأول : في بيان الأمارات قام الدليل على اعتبارها بالخصوص أو ما قيل بقيامه عليه .
  المقام الثاني : في بيان الأدلة التي توهم دلالتها على اعتبار كل أمارة مفيدة للظن .
   أما المقام الأول ففيه فصول :

الفصل الأول : في حجية الظواهر :
  اعلم : أن البحث في باب الظهورات تارة : يكون صغرويا ، كالبحث (4)


(1) أقول : بل وجهة الصدور أيضا .
(2) أقول : وبالعكس أيضا .
(3) أقول : ويقتضي بحثا آخر في نفي جهة التقية أو التورية في كلامه أيضا الذي يسمى بجهة الصدور ، كما أشرنا .
(4) أقول : ينبغي أولا أن يتكلم بأن ما هو المرجع عند العقلاء وكان بنائهم على العمل به هو أصالة الحقيقة أو العموم والإطلاق أو أصالة عدم القرينة على خلاف وضع اللفظ ، أو أن مبنى بنائهم على ما انعقد عليه ظهور اللفظ ووجهة الكلام ، وتظهر الثمرة في صورة اتصال الكلام بما يصلح للقرينية المانعة عن انعقاد الظهور ، فإنه حينئذ لا مجرى للأصل الآخر ، بخلاف الأصول السابقة ، كما أنه في صورة انعقاد الظهور بالقرائن العامة أو .

فوائد الأصول ـ 134 ـ
  عن الأوضاع اللغوية ، والقرائن العامة ، من وقوع الأمر عقيب الحظر ، والاستثناء عقيب الجمل المتعددة ، ونحو ذلك مما يوجب انعقاد الظهور لمفردات الكلام أو للجملة التركيبية ـ أي ما يوجب تعيين الظهور وتشخيصه ـ فالبحث عن جميع ذلك يكون بحثا عن المبادئ ، كالبحث عن الرواة وسلسلة السند .
  وأخرى : يكون كبرويا كالبحث عن حجية الظهور بعد فرض انعقاده للكلام ، فان البحث عن حجية الظهور يكون من المباحث الأصولية ، لا من المبادئ ـ كما توهم ـ بتخيل أن البحث عن دليلية الدليل لا يرجع إلى البحث عن العوارض ، بل من المباحث الراجعة إلى أصل تحقق الموضوع .
  ولا يخفى ما فيه ، لما تقدم ( في صدر الجزء الأول من الكتاب ) من أن الموضوع في علم الأصول ليس هو خصوص الأدلة الأربعة بذواتها أو بوصف دليليتها لتختص مسائل علم الأصول بما يكون البحث فيه عن عوارض الأدلة الأربعة ، بل البحث عن كل ما يقع في طريق الاستنباط يكون بحثا أصوليا ، لأن مسائل علم الأصول هي الكبريات التي تقع في طريق الاستنباط ، ومن أوضحها مسألة حجية الظواهر وحجية الخبر الواحد .
  ثم إن المباحث التي ترجع إلى الصغرى ـ منها : ما تقدم البحث عنه في باب الأوامر والنواهي والعام والخاص ، كالبحث عن وقوع الأمر عقيب الحظر والاستثناء عقيب الجمل المتعددة ، ونحو ذلك من القرائن العامة التي تقتضي الخاصة ـ كالوقوع عقيب الحظر مثلا ـ لا يبقى مجال لأصالة الحقيقة وكان لأصالة الظهور مجال .
  نعم : الذي يسهل الخطب إمكان دعوى اليقين بأن بنائهم في باب الألفاظ على الأخذ بما عليه وجهة الكلام من الظهور ، لا بصرف احتمال الحقيقة بلا ظهور .
  ومن هذه الجهة أوردنا على القوم بأن البحث في أن التبادر لابد وأن يكون مستندا إلى حاق اللفظ ، مستدرك .
  نعم : بناء على كون مدار العقلاء على أصالة الحقيقة ، كان له مجال .
ولكن أنى لهم باثباته ، فتدبر جيدا .

فوائد الأصول ـ 135 ـ
  ظهور الكلام على خلاف ما كان ظاهرا فيه لولا احتفافه بتلك القرائن .
  ومنها : ما يأتي البحث عنه بعد ذلك ، كالبحث عن حجية قول اللغوي .
  والمقصود بالكلام فعلا هو البحث عن الكبرى ( وهي حجية الظواهر ) ونعني بحجية الظواهر الحكم بأن ما تكفله الكلام من المعنى الظاهر فيه هو المراد النفس الأمري والبناء على أن الكلام بظاهره قد سيق لإفادة المراد ، ولا إشكال في أن بناء العقلاء على ذلك في الجملة ، بل عليه يدور رحى معاشهم ونظامهم ، فإنه لولا اعتبار الظهور والبناء على أن الظاهر هو المراد لاختل النظام ولما قام للعقلاء سوق .
  ومن المعلوم : أنه ليس في طريقة العقلاء ما يقتضي التعبد بذلك ، بل لمكان أنهم لا يعتنون باحتمال عدم إرادة المتكلم ما يكون الكلام ظاهرا فيه ، لأن احتمال إرادة خلاف الظاهر إنما ينشأ من احتمال غفلة المتكلم من نصب قرينة الخلاف ، أو احتمال عدم إرادة استيفاء مراده من الكلام ، ونحو ذلك مما يوجب انقداح احتمال عدم إرادة المتكلم ظاهر الكلام ، وكل هذه الاحتمالات منفية بالأصول العقلائية التي جرت عليها طريقتهم ، والشارع قررهم عليها ولم يردع عنها ، بل اتخذها طريقة له أيضا لأنه أحدهم ، فإنه ليس للشارع طريق خاص في بيان مراداته ، بل يتكلم على طبق تكلم العقلاء ، بل لا يتطرق بعض الاحتمالات التي توجب الشك في إرادة ظاهر الكلام في كلامه كاحتمال الغفلة عن نصب القرينة ـ فلم يبق إلا احتمال عدم إرادة استيفاء تمام مراده من الكلام وهو منفى بالأصل .
  وبالجملة : لا إشكال في اعتبار الظواهر ، من غير فرق بين ظواهر كلام الشارع وغيره ، ومن غير فرق بين ظواهر الكتاب العزيز وغيره ، وإن نسب إلى الأخباريين عدم جواز العمل بظاهر الكتاب العزيز ، واستدلوا على ذلك بوجهين :

فوائد الأصول ـ 136 ـ
  الأول : العلم الإجمالي بتقييد وتخصيص كثير من المطلقات والعمومات الكتابية ، والعلم الإجمالي كما يمنع عن جريان الأصول العملية يمنع عن جريان الأصول اللفظية : من أصالة العموم والإطلاق التي عليها مبنى الظهورات .
  الثاني : الأخبار الناهية عن العمل بالكتاب .
  ولا يخفى ما في كلا الوجهين .
  أما الأول : فلان العلم الإجمالي ينحل بالفحص عن تلك المقيدات والمخصصات والعثور على مقدار منها يمكن انطباق المعلوم بالإجمال عليها (1) وقد تقدم تفصيل ذلك في مبحث العام والخاص .
  وأما الثاني : فلأن الأخبار الناهية عن العمل بالكتاب وإن كانت مستفيضة بل متواترة ، إلا أنها على كثرتها بين طائفتين : طائفة تدل على المنع عن تفسير القرآن بالرأي والاستحسانات الظنية ، وطائفة تدل على المنع عن الاستقلال في العمل بظاهر الكتاب من دون مراجعة أهل البيت الذين نزل الكتاب في بيتهم ( صلوات الله عليهم ) .
  ولا يخفى : أن مفاد كل من الطائفتين أجنبي عما يدعيه الأخباريون .
  أما الطائفة الأولى : فلأن العمل بالظاهر لا يندرج في التفسير ، لأنه


(1) أقول : هذا المقدار لا يفي بجواب الشبهة ، لما سيأتي في محله ( أن شاء الله تعالى ) من أن العلم التفصيلي اللاحق لا يوجب حل العلم الإجمالي السابق ، فلا محيص حينئذ أن يجاب بأن هذا العلم مقرون بعلم آخر ، وهو العلم بمقدار من القرائن لو تفحصنا عنها لظفرنا بها ، فإن مثل هذا العلم يوجب الفحص عن كل ظاهر ، فإذا ظفرنا على قرينة على الخلاف نقطع بخروج ذلك الظهور عن دائرة العلم الصغير الموجب لانحلال العلم الكبير من الأول ، كما لا يخفى .

فوائد الأصول ـ 137 ـ
  عبارة عن ( كشف القناع ) فلا يعم الظاهري الذي لا قناع عليه ، خصوصا بعد تقييد التفسير في جملة من الروايات بالرأي الذي يحتاج إلى إعمال الاستحسانات الظنية ، ولا إشكال أن سوق الروايات يقتضي وحدة المراد منها وأنها وردت لبيان إفادة معنى واحد ، من غير فرق بين ما أطلق في التفسير ، وبين ما قيد بالرأي .
  وأما الطائفة الثانية : فلأن المدعى هو العمل بظاهر الكتاب بعد مراجعة ما ورد عن أهل البيت من التفسير وبعد الفحص عن المقيدات والمخصصات ، فإنه لا يدعى أحد جواز الاستقلال في العمل بظاهر الكتاب بلا مراجعة الأخبار الواردة عنهم ( عليهم السلام ) .
  هذا مضافا إلى ما ورد في جملة من الأخبار ـ لا يبعد أن تكون متواترة معنى ـ من جواز العمل بالكتاب والتمسك به والرجوع إليه وعرض الأخبار المتعارضة عليه والأخذ بما وافقه الكتاب وطرح المخالف وغير ذلك مما يظهر منه المفروغية عن صحة التمسك بظاهر الكتاب ، فراجع أخبار الباب وتأمل فيها .
  والشيخ ( قدس سره ) وإن أطال الكلام في مقالة الأخباريين وكلام ( السيد الصدر ) إلا أن الإنصاف : أن المراجعة في أخبار الباب تغنى عن إطالة الكلام في فساد مقالة الأخباريين ، فالتفصيل بين ظاهر الكتاب وغيره مما لا سبيل إليه .
  نعم : في باب الظواهر تفصيل آخر محكى عن المحقق القمي ( قدس سره ) لعله أقرب من تفصيل الأخباريين ، وهو التفصيل بين من قصد إفهامه من الكلام وبين ما لم يقصد ، وحجية الظواهر تختص بالأول دون الثاني .
  وحاصل ما أفاده في وجه ذلك : هو أنه تارة : يكون الغرض من الكلام إفهام كل من ينظر إليه أو يطرق سمعه من دون أن يقصد من الكلام

فوائد الأصول ـ 138 ـ
  إفهام شخص خاص ـ كما هو الشأن في كتب التأليف والتصنيف والأسناد والسجلات الراجعة إلى الوصايا والأقارير والأوقاف وغير ذلك مما يكون يكون المقصود نفس مفاد الكلام من دون أن يخاطب به شخص خاص ـ ولا إشكال في اعتبار الظواهر في مثل ذلك وعليه جرت طريقة العرف والعقلاء .
  وأخرى : يكون الغرض من الكلام إفهام شخص خاص ـ كما لو كان الكلام في مقام الجواب عن سؤال سائل خاص ـ فللسائل الأخذ بظاهر الجواب دون غيره .
  أما السائل : فلأن الاحتمال الذي يحتمله في مقام التخاطب ليس إلا احتمال غفلة المتكلم عن نصب قرينة المراد ، وهذا الاحتمال منفى بالأصل ، وليس في البين احتمال آخر يحتمله المخاطب .
  وأما غير المخاطب : فلا ينحصر الاحتمال فيه باحتمال الغفلة ، بل في البين احتمال آخر ، وهو احتمال أن تكون بين السائل والمجيب قرينة حالية أو مقالية سابقة الذكر أو لاحقة الذكر معهودة بين المتكلم والمخاطب ، ومع هذا الاحتمال لا يمكن الوثوق بأن ظاهر الكلام هو المراد ، بل قد لا يحصل الظن بالمراد ، خصوصا بالنسبة إلى المتكلم الذي دأبه الاعتماد على القرائن المنفصلة عن الكلام ، وغالب الروايات التي بأيدينا تكون من هذا القبيل ، لأنها وردت أجوبة عن أسئلة لأشخاص خاصة ، فلا يجوز الاعتماد على ظواهرها ، خصوصا مع أن من عادة الشارع الاعتماد على القرائن المنفصلة ـ كما يظهر للمتتبع في الأخبار ـ فعلى هذا ينبغي أن تكون حجية الأخبار المودعة في الكتب من صغرويات حجية الظن المطلق بمعونة مقدمات الانسداد .
  هذا حاصل ما أفاده ( المحقق القمي ) فيما اختاره من التفصيل في حجية الظواهر بين المخاطب وغيره .
  وأنت خبير بما فيه ، فان جميع المحتملات التي تقتضي عدم إرادة المتكلم ظاهر كلامه منفية بالأصول العقلائية (1) ولا اختصاص لاحتمال غفلة


(1) أقول : ذلك صحيح لو كان نظر ( المحقق ) إلى احتمال وجود القرائن الخفية بينه ومخاطبه ، وأما لو .

فوائد الأصول ـ 139 ـ
  المتكلم عن نصب قرينة المراد ، بل احتمال نصب القرينة السابقة أو اللاحقة أو احتمال قرينة الحال ـ وغير ذلك مما يفرض من الاحتمالات ـ كلها مرجوحة في نظر العرف منفية بأصالة العدم التي عليها بناء العقلاء ، من غير فرق بين المخاطب وغيره .
  نعم : احتمال القرينة المنفصلة بالنسبة إلى المتكلم الذي من عادته الاعتماد على القرائن المنفصلة يكون راجحا ، إلا أن ذلك يكون إنما يقتضي وجوب الفحص عنها ، لا سقوط ظاهر كلامه عن الاعتبار ، مع أن نسبة الأخبار إلينا نسبة كتب التأليف والتصنيف ، فان نقلة الروايات في مبدء السلسلة غالبا كانوا هم المخاطبين بالكلام ـ وقد اعترف بأن ظاهر الكلام حجة في حقهم ـ وبعد ذلك أودعت تلك الروايات في الأصول ثم في الجوامع والكتب ، ولابد وأن يكون الراوي عن الإمام ( عليه السلام ) يودع أو ينقل ما سمعه من الكلام بما احتف به من قرائن الحال والمقال ، لأن الغرض من نقله هو إفهام الغير ، فتكون الكتب المودعة فيها الروايات ككتب التأليف والتصنيف التي اعترف بحجية ظواهرها أيضا لكل من نظر فيها .
  فالإنصاف : أنه لا فرق في حجية الظواهر بين ظواهر الأخبار وغيرها ، وبين من قصد إفهامه وغيره ، هذا كله فيما يتعلق بحجية الظواهر من المباحث .
  وأما المباحث المتعلقة بتشخيص الظاهر وتعيين أن اللفظ الكذائي ظاهر في أي معنى :
  فخلاصة الكلام فيها : هو أن كل كلام يتضمن النسبة كان نظره إلى عدم حجية الظهور إلا في صورة إحراز كون المتكلم في مقام تفهيم مرامه لكل أحد لا لشخص خاص ـ وإلا فلا مجال لغيره بحصول الظن بمرامه ولو نوعا الذي هو المدار في الدلالة التصديقية الذي هو موضوع الحجية لدى العقلاء ـ فلا يفي بدفعه أصالة عدم القرينة الخفية لإثبات الحجية ، كما لا يخفى .
  وحينئذ لا محيص من أن يقال : إنه يكفي لحجيته محض إحراز كونه في مقام التفهيم ولو لشخص خاص بلا احتياج إلى إحراز كونه في مقام تفهيم الكل ، لبناء العقلاء على إلزام الطرف بسماع الغير كلامه .

فوائد الأصول ـ 140 ـ
  التامة الخبرية والإنشائية له دلالة تصورية ودلالة تصديقية ، ونعني بالدلالة التصورية دلالة مفردات الكلام على معانيها اللغوية والعرفية ، وبالدلالة التصديقية دلالة جملة الكلام على ما يتضمنه من المعنى ، فقد تكون دلالة الجملة على طبق دلالة المفردات ـ كما إذا لم يحتف بالكلام قرينة المجاز والتقييد والتخصيص ونحو ذلك مما يوجب صرف مفاد جملة الكلام عما يقتضيه مفاد المفردات ـ وقد يكون مفاد دلالة الجملة مغايرا لمفاد دلالة المفردات ـ كما إذا احتف بالجملة ما يوجب صرفها عما يقتضيه مفاد المفردات ـ ولذا كانت الدلالة التصديقية تتوقف على فراغ المتكلم من كلامه ، فان لكل متكلم أن يلحق بكلامه ما شاء من القرائن ، فما دام متشاغلا بالكلام لا ينعقد لكلامه الدلالة التصديقية ، فإنه لا يصح الأخبار بما قال ونقل كلامه بالمعنى أو ترجمته بلغة أخرى إلا بعد الفراغ من الكلام ، حتى يصح ضم أجزاء الكلام بعضها مع بعض وإلحاق ذيله بصدره ليخبر عن مفاد الجملة ، فلا يصح الإخبار بأن المتكلم قال ، ( رأيت حيوانا مفترسا ) عقيب قوله : ( رأيت أسدا ) إلا إذا سكت المتكلم ولم يلحق ( أن يرمى ) بقوله ( رأيت أسدا ) وتستتبع هذه الدلالة التصديقية الدلالة على أن الظاهر هو المراد الذي كان مبحوثا عنه سابقا ، فان التصديق بأن الظاهر هو المراد إنما يكون بعد فرض انعقاد الظهور للكلام ليصح الإخبار بما قال ، فيقال : قال كذا وما قاله هو المراد .
  وهذا بخلاف الدلالة التصورية ، فإنه في حين تشاغل المتكلم بالكلام تكون لمفردات كلامه هذه الدلالة ، فان السامع للكلام العارف بالأوضاع ينتقل ذهنه إلى مفاد المفردات ، وإن كان المتكلم بعد متشاغلا بالكلام ، وذلك واضح .
  ثم إن المتكفل لإثبات مفاد الدلالة التصديقية التركيبية إن كان مفادها على خلاف ما يقتضيه مفاد المفردات إنما هو القرائن التي تحتف

فوائد الأصول ـ 141 ـ
  بالكلام (1) فإنها هي المرجع في تشخيص الظهورات للجمل التركيبية ، وهي قد تكون من القرائن العامة المضبوطة ، كوقوع الأمر عقيب الحظر أو توهم الحظر وكالاستثناء عقيب الجمل المتعددة وكتعقب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده ، ونحو ذلك من القرائن العامة التي ادعى أنها توجب انعقاد الظهور للكلام على خلاف ما يقتضيه لولا احتفافه بتلك القرينة ، وقد تقدم البحث عنها في الجزء الأول والثاني من الكتاب ، وقد تكون من القرائن الخاصة في الموارد الجزئية ، وهي ليست تحت ضابط كلي ، بل تختلف باختلاف الخصوصيات والحالات والمتكلمين .
  والمتكفل لإثبات مفاد الدلالة التصورية لمفردات الكلام هو الأوضاع اللغوية إذا لم تكن المعاني مرتكزة في أذهان أهل العرف ، وإلا فالعبرة عليه وإن خالف الأوضاع اللغوية .
  واستكشاف الأوضاع اللغوية إنما يكون من قول اللغوي ، فان أفاد قوله العلم بالوضع فهو ، وإلا ففي حجية الظن الحاصل من قوله إشكال : وإن


(1) أقول : لا يخفى أن كل لفظ عند تجرده عن القرينة المتصلة به له دلالة على المعنى ، بنحو يكفي فيه العلم بوضعه ، وهو الذي عبارة عن انسباق المعنى إلى الذهن من دون احتياج إلى إحراز كون المتكلم في مقام الإفادة والاستفادة ، وهو المعبر عنه بالدلالة التصورية ، من دون فرق فيه بين دلالة مفردات الكلام أو جمله ، ولا بين مادة الكلام أو هيئته ، كما أنه مع اتصال الكلام بالقرينة أيضا ، ربما يتحقق هذه الدلالة التصورية كما لو صدر ذلك من النائم أو الغافل ، وأيضا لكل من مادة القضية وهيئته أو المفرد وجملته دلالة أخرى تصديقية ، وهي التي تحتاج إلى إحراز كون المتكلم في مقام الإفادة والاستفادة ، ولا يتصور مثله من النائم والغافل ، وربما يكون مركز البحث في حجية الظواهر هذه الدلالة دون الأولى .
وربما يستنتج من مثل هذه الجهة في مسألة جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية جوازا أو منعا كما هو محرر في محله ، وحينئذ ما أدرى هذا المحقق البارع من أين جاء بهذا الاصطلاح في الدلالة التصورية و التصديقية ؟! ولم التزم بأن لمفردات الكلام ـ ولو في طي الكلام ـ ظهور على خلاف جملة الكلام ، إذ لو أريد من الجملة مجموع كلامه هيئة ومادة فالمادة لا تخرج عن هذه ذلك ، فكيف لها ظهور وليس للجملة ظهور ، وإن أريد من الجملة مفاد الهيئة بخصوصه فالتفكيك بين الظهورين في غاية المتانة ، ولكن ذلك في فرض عدم اتصال المادة بالقرينة على خلافها ، وهو خلاف فرضه ، كما لا يخفى .

فوائد الأصول ـ 142 ـ
  كان قد حكى الإجماع على اعتبار الظن الحاصل من قول اللغوي بالخصوص ، لا من باب الظن المطلق .
  وقد يستدل على ذلك بما دل على اعتبار قول أهل الخبرة ، ولا ينبغي الإشكال في الكبرى ، فان الرجوع إلى أهل الخبرة والاعتماد على قولهم مما قد استقرت عليه طريقة العقلاء واستمرت عليه السيرة ولم يردع عنها الشارع ، ولا يعتبر في الرجوع إلى قولهم شرائط الشهادة : من التعدد والعدالة ، بل ولا الإسلام ، فان اعتبار قولهم ليس من باب الشهادة حتى يحتاج إلى ذلك ، لأن الشهادة هي الأخبار عن حس ، وقول أهل الخبرة يتضمن إعمال الرأي والحدس (1) فهو باب آخر غير باب الشهادة ، ولكن القدر المتيقن من بناء العقلاء هو ما إذا حصل من قولهم الوثوق لا مطلقا ، إذ ليس بناء العقلاء على التعبد بقول أهل الخبرة مع الشك وعدم الوثوق ، بل التعبد إنما هو من وظائف المتشرعة ، وليس بناء العقلاء في شيء من المقامات على التعبد ، فلابد من حصول الوثوق من قول أهل الخبرة وإن لم يجتمع فيه شرائط الشهادة ، إلا إذا كان في مورد الدعوى والخصومة ، فإنه لا بد من التعدد والعدالة ، لقوله صلى الله عليه وآله : ( إنما أقضى بينكم بالبينات والأيمان ) (2) وغاية ما يقتضيه الدليل على اعتبار قول أهل الخبرة هو أن يكون حدسهم كحسهم في الاعتبار ، وهذا لا ينافي اعتبار اجتماع شرائط الشهادة : من التعدد والعدالة في خصوص


(1) أقول : إذا كان حدسه قريبا بالحس ، فلا غرو في إدخاله بباب الشهادة ولا يكون هذا الفرق بفارق .
نعم : لو كان حدسه حجة ولو لم يكن قريبا بالحس ، فامتيازه عن باب الشهادة صحيح ، ولكن فيما أفيد بعد ذلك من إمكان الاكتفاء في فصل الخصومة بصورة التعدد والعدالة نظر ، إذ لنا منع اعتبار قولهم المستند بالحدس محضا .
وحجية قول الفقيه للعامي بدليل مخصوص ، لا من جهة كونهم أهل الخبرة ، وحينئذ فالمتيقن من حجيته اشتماله على شرائط الشهادة لا مطلقا .
(2) الوسائل الباب 2 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى الحديث 1

فوائد الأصول ـ 143 ـ
  باب الخصومة (1) كما عليه الفتوى في باب خيار العيب والتقويم وغير ذلك .
  وأما الصغرى : ( وهي كون اللغوي من أهل الخبرة بمعاني الألفاظ وتعيين حقايقها ومجازاتها ) فللمنع عنه مجال ، لأن أهل اللغة شأنهم بيان موارد الاستعمالات ، وتشخيص مواردها لا يحتاج إلى إعمال الحدس والرأي بل هو من الأمور الحسية .
  نعم : في استخراج المعنى الموضوع له من بين المعاني المستعمل فيها اللفظ قد يحتاج إلى إعمال نحو من الرأي والاجتهاد ، وبهذا الاعتبار يمكن اندراج قول اللغوي في ضابط أهل الخبرة ، إلا أن الغالب في اللغة هو بيان موارد الاستعمالات ، مع أنه لو فرض أنه عين المعنى الموضوع له ففي حصول الوثوق من قول لغوي واحد محل منع .
  فالإنصاف : أن كون اللغوي من أهل الخبرة واعتبار قوله لذلك دون إثباته خرط القتاد ! .
  وقد يستدل أيضا على اعتبار قول اللغوي بالانسداد الصغير ، كما قربه الشيخ ( قدس سره ) بعد ما منع عنه أولا .
  ولا يخفى : أن انسداد باب العلم في بعض الموضوعات التي يتوقف عليه العلم بالحكم إن أوجب انسداد باب العلم في معظم الأحكام بحيث استلزم منه الخروج عن الدين أو العسر والحرج عند إعمال الأصول النافية أو العمل بالاحتياط ، فهو يرجع إلى الانسداد الكبير ، كما لو فرض انسداد باب العلم بوثاقة الرواة وانحصر الطريق بالظنون الحاصلة من توثيقات أهل الرجال ، فان انسداد باب العلم في ذلك يوجب انسداد باب العلم في معظم الأحكام ، لأن غالب الأحكام إنما تثبت بأخبار الآحاد ، فانسداد باب العلم بوثاقة الرواة


(1) أقول : في الاكتفاء بأخبار الحدس المحض في باب الخصومة نظر ، من دون فرق بين خيار العيب وغيره ، إلا إذا كان حدسه قريبا بالحس ، كما أشرنا في الحاشية السابقة .

فوائد الأصول ـ 144 ـ
  يستلزم انسداد باب العلم في معظم الأحكام ويرجع إلى الانسداد الكبير ، وسيأتي البحث عنه .
  وإن كان انسداد باب العلم في بعض ما يتوقف عليه العلم بالحكم لا يوجب انسداد باب العلم في معظم الأحكام وإن استلزم انسداد باب العلم في جملة من الأحكام بحيث لا يلزم من الرجوع إلى الأصول والعمل بالاحتياط فيه محذور الخروج عن الدين أو العسر والحرج ، فهذا الانسداد مما لا أثر له ولا يوجب اعتبار الظن المطلق في تلك الأحكام ، بل لابد من الأخذ بالقواعد .
  وحينئذ ينبغي البحث عن أن انسداد باب العلم بتفاصيل اللغات هل يوجب انسداد باب العلم بمعظم الفقه أولا ؟ الإنصاف : انه لا يوجب ذلك ، لأن الحاجة إلى قول اللغوي أقل قليل ، فان الغالب انفتاح باب العلم بمعاني الألفاظ ، فعدم العمل بالظن فيما لا يعلم والأخذ بالاحتياط لا يوجب المحذور المذكور .
  والألفاظ التي ذكرها الشيخ ( قدس سره ) من انسداد باب العلم فيها ـ مع أنها ليست بتلك المثابة من الكثرة ـ أغلبها يكون لمعانيها قدر متيقن معلوم ، والزائد المشكوك ليس بشيء يقتضي انسداد باب العلم بمعظم الفقه ، وسيأتي لذلك مزيد توضيح في مبحث الانسداد .
  وينبغي ختم الكلام في باب الظواهر بالتنبيه على أمور :
  الأول : لو حصل الوثوق من قول اللغوي بمعنى اللفظ ، فهل يصير ذلك منشأ لظهور اللفظ في المعنى كما لو حصل العلم به ؟ أو أنه لا يصير منشأ لذلك ، بل أقصاه أن يكون ذلك من الظن الخارجي الذي يوجب الظن بالحكم ؟ .
  الأقوى أنه يصير منشأ للظهور (1) وليس من الأمور الخارجية التي لا


(1) أقول : دعوى موجبية الوثوق بالوضع للجزم بالظهور غلط ، لأنه يرجع إلى دعوى كون الظن بالعلة .

فوائد الأصول ـ 145 ـ
  توجب انعقاد الظهور ، فإنه لو كان هذا الوثوق حاصلا قبل إلقاء الكلام إلى المخاطب لما كاد يشك في كونه موجبا لظهور الكلام ، كما لو فرض أنه حصل الوثوق من قول اللغوي قبل نزول آية التيمم بأن معنى ( الصعيد ) هو خصوص التراب ، ثم نزل قوله تعالى : ( فتيمموا صعيدا طيبا ) فإنه لا إشكال في أن الوثوق السابق يوجب ظهور لفظ ( الصعيد ) في خصوص التراب ، فكذا الحال فيما لو حصل هذا الوثوق بعد نزول الآية ، فإنه لا يعقل الفرق في ذلك بين حصول الوثوق قبل النزول أو بعده ، كما لا يخفى .
  الثاني : قد تقدم أنه لا يجوز الأخذ بظاهر كلام من كان من عادته الاعتماد على القرائن المنفصلة قبل الفحص عنها ، وأما بعد الفحص فيجب الأخذ بالظهور ولو لم يحصل الوثوق بإرادة الظاهر ، كما لا يبعد عدم حصوله في الغالب بالنسبة إلى الروايات ، لقوة احتمال أن تكون في البين قرينة منفصلة تدل على إرادة خلاف الظاهر وقد اختفت علينا لدواعي الاختفاء ، إلا أن ذلك لا يوجب التوقف في متابعة الظاهر بعد الفحص ، ولا ينافي هذا ما تقدم : من أن بناء العقلاء ليس على التعبد بالظواهر ولو لم يحصل لهم الوثوق ، لأنه فرق بين ما إذا تعلق الغرض باستخراج واقع مراد المتكلم من ظاهر كلامه فهذا لا يكون إلا بعد الوثوق بأن الظاهر هو المراد ـ وعليه بناء العقلاء ـ وبين ما .
  موجبا للقطع بالمعلول .
  نعم : له دعوى حجية هذا الوثوق الموجب للوثوق بالدلالة وحجيته ، ولكن مرجعه إلى دعوى حجية الوثوق بالدلالة لدى العقلاء ودعواه على عهدة مدعيه ! وحدسي أن القائل المزبور أراد من الظهور ما يفيد الظن بالمراد ، لا انسباق المعنى إلى الذهن ، كما في المعاني المتبادرة من ألفاظها وهو كما ترى ! .


(1) أقول : لو كان مدار العقلاء على الوثوق الشخصي في معاشهم الذي تعلق غرضهم بالوصول إلى الواقع لا نسد أمر المعاش لديهم ، إذ لازمه عدم ايصال أموالهم بالبحر والبر للتجارة .
  ودعوى وثوقهم الشخصي في هذه الموارد خلاف الإنصاف ، فلا محيص من دعوى كون مدارهم على الوثوق النوعي ، وفي مثله لا يبقى مجال الفرق بين معاشهم ومعادهم ، فما هو حجة في معاشهم هو المرجع عندهم في احتجاجهم لمواليهم ، كما لا يخفى .

فوائد الأصول ـ 146 ـ
  إذا كان الغرض الإلزام والالتزام بالظواهر في مقام الحجة والاحتجاج ، فإنه في مثل ذلك لابد من الأخذ بظاهر الكلام ولو لم يحصل الوثوق بكونه هو المراد ، إذ ليس للمولى مؤاخذة العبد على العمل بالظاهر عند عدم إرادته ، كما أنه ليس للعبد ترك العمل بالظاهر بمجرد احتمال القرينة المنفصلة ، وهذا ليس تفصيلا في بناء العقلاء ، حتى يقال : إنه لا معنى للتفصيل في بناء العقلاء ، بل هذا التفصيل اقتضاه دليل الحجية وطريقية الاحتجاج بين الموالى والعبيد وما يلحق بذلك مما كان في البين إلزام والتزام ، كالكلام الصادر بين الوكيل والموكل ونحو ذلك .
  ويأتي لذلك مزيد توضيح في ( الجزء الرابع ) .
  الثالث : قد عرفت أن العبرة في الظهور هو ظهور الجملة التركيبية ، ولا عبرة بظهور المفردات ، إذ الكاشف عن المراد هو جملة الكلام بما له من النسب وبما له من الملحقات والقرائن المحتفة بالكلام ، فلو فرض أن ظهور الجملة كان على خلاف ما يقتضيه وضع المفردات ، كان اللازم هو الأخذ بظهور الجملة ، بل لا يجوز الأخذ بما يقتضيه وضع المفردات إذا احتف بالكلام ما يوجب إجمال الجملة وعدم ظهورها في المراد ، وذلك كله واضح لا يحتاج إلى بيان .

الفصل الثاني : في حجية المنقول :
  وكان ينبغي تأخير البحث عنه عن حجية الخبر الواحد ، فإنه لا دليل على حجية الإجماع المنقول إلا توهم اندراجه في الخبر الواحد فيعمه أدلته ، ولكن الشيخ ( قدس سره ) قدم البحث عنه ، ونحن أيضا نقتفي أثره .
  وتنقيح البحث في ذلك يستدعى تقديم أمور :

فوائد الأصول ـ 147 ـ
  الأمر الأول ، يعتبر في الخبر أن يكون المخبر به من الأمور المحسوسة بأحد الحواس الظاهرة (1) سواء في ذلك باب الخبر الواحد وباب الشهادة ، فإنه يعتبر في


(1) أقول : قبل الخوض في المرام ينبغي بيان الخبر المستند إلى الحس أو ما هو القريب منه من الحدس وما هو حدسي محض ، فنقول : إنه لا إشكال في المخبر به إن كان علم المخبر بمثله مستندا إلى أحد حواسه الخمسة بلا واسطة ، فهو حسي محض ، كما أنه لو استند إلى مجرد علمه الناشئ من قرائن شخصية والمبادئ الحدسية المحضة ـ كالجفر والرمل والنوم وغير ذلك من حسن الظن بالمخبر من جهات عادية شخصية لا العادية النوعية ـ فهو أيضا من الحدسيات المحضة ، وأما إن كان مستندا إلى اللوازم المحسوسة العادية أو القرائن النوعية الملازمة مع المخبر به عادة ، فهو أيضا وإن كان المخبر به محرزا عند الخبر بحدسه ، ولكن حدسه هذا لما كان مستندا إلى اللوازم الحسية العادية كان من الحدسيات القريبة إلى الحس ، نظير الإخبار بالشجاعة وملكة العدالة وأمثالهما من لوازمها المحسوسة العادية وربما يكون ذلك أيضا ملحقا بالحس ، وحينئذ فلو أخبر أحد إلى أحد بموت زيد مثلا ، فالمخبر الثاني تارة : يخبر عن إخبار مخبره ، فهو حسي محض لسماعه منه ، وأخرى : يخبر عن نفس موت زيد الذي هو المخبر به لخبره ، ففي هذه الصورة تارة : يكون هذا الخبر عن علمه به بالموت من قرائن شخصية حصلت له من مبادئ حدسية ـ من مثل حسن ظنه بالمخبر له من القرائن الشخصية غير اللوازم الحسية العادية ـ فهذا الخبر حدسي ، وأخرى : يخبر عن الموت بملاحظة حصول علمه به من ملازمته مع المخبر بنحو يقطع من المبادئ الحسية واللوازم العادية بمطابقة قوله للواقع ، فمثل هذا الخبر أيضا من الحدسيات القريبة إلى الحس ، وثالثة : يخبر بالموت لا من علمه الوجداني بوجود المخبر به خارجا ، بل من جهة علمه التعبدي من تصديقه لمخبره تعبدا بعدالته ، فهذا العلم التعبدي أيضا ناشئ عن مباد حسية ـ من إحراز صغراه حسا وكبراه أيضا بوجود دليله المحرز عنده سندا ودلالة بالحس لكونه نصا وكونه بوجدانه عادلا أو بالشياع الملازم عادة لصدقه ومطابقته للواقع ـ فهذا أيضا من الحدس القريب إلى الحس ، نعم : لو فرض كون دليل التعبد أيضا حدسيا ـ ولو من جهة انتهائه سندا ودلالة إلى أدلة ظنية أو بناء عقل أو مجرد إمضائهم بقاعدة حدسية من حكمة أو جهة أخرى من القرائن الشخصية الموجبة للعلم بمطابقة بنائهم للواقع ـ فهو أيضا ينتهى بالأخرة إلى الحدس ، وإن كان بعض مباديه حسيا ، وحيث ظهر ذلك ، فنقول : إنه لا إشكال في عدم وفاء دليل حجية خبر الواحد بأزيد من الحسيات أو القريبة إلى الحس كما أنه مع الشك في كونه حدسيا أم حسيا أيضا يلحق بالحس ، وحينئذ فنقول : الظاهر أن من كان في زمان الغيبة الصغرى ـ كالسيد وأمثاله ـ أمكن في حقهم أن دعواهم اتفاق تمام الأمة بلفظ ( الإجماع ) الظاهر فيه بنحو يقتضي دخول الإمام فيهم مستندا إلى أمر حسي ، فلا بأس بأخذ خبره لمحض احتمال حسيته ، كما أن من يرى خبر السيد ويخبر لنا خبر السيد عن نفسه أيضا بوجدانه لكونه خبر حسي يحكى عن خبر ، حسي ، كما أنه لو أخبر بمضمون خبر السيد من اتفاق الأمة في عصر السيد مستندا إلى خبر السيد المحرز عنده بالوجدان بضميمة ملازمة قول السيد مع اتفاق من فيهم الإمام بمقدمات

فوائد الأصول ـ 148 ـ
  كل منهما أن يكون الإخبار عن حس ، غايته أنه لو كان المخبر به من الأحكام الشرعية وما يلحق بها من الموضوعات التي ينبغي أن تتلقى من الشارع كان داخلا في باب الخبر الواحد ويندرج في أدلة حجيته ، ولو كان المخبر به موضوعا من الموضوعات الخارجية كان داخلا في باب الشهادة ويندرج في أدلة حجيتها ، كقوله ( عليه السلام ) في ذيل رواية ابن صدقة : ( والأشياء كلها على ذلك حتى تستبين أو تقوم بها البينة ) (1) .
  وقد قيل : بعموم حجية الخبر الواحد للموضوعات أيضا .
  وفيه نظر ، وبيانه موكول إلى محله .
  وعلى كل حال : لا إشكال في أنه يعتبر في كل من الشهادة وخبر الواحد أن يكون الإخبار عن حس (2) وبذلك يفترقان عن قول أهل الخبرة ، لأن إخبارهم ليس عن حس بل عن حدس ورأى واجتهاد ، ولذا قلنا : لا يعتبر في حجية قول أهل الخبرة ما يعتبر في حجية الخبر الواحد والشهادة من الشرائط ، كما تقدم .
حسية ـ نظرا إلى نص كلام السيد وإحراز عدالته بوجدانه أو بالشياع الملازم له عادة بضميمة إحراز عدم خطائه أيضا بمبادئ حسية من الملازمات العادية بين التفاته وعدم خطائه بوجه ـ تقبل ذلك أيضا ، لأنه من الحدس القريب بالحس ، كما أنه لو لم يحرز الواقع بوجدانه بل أحرزه بدليل التعبد الشامل له بمقدمات وجدانية حسية من حيث دلالة دليل التعبد من نصيته وسنده من جزمه بمطابقته للواقع بمبادئ حسية ـ كما أشرنا ـ فهو أيضا إخبار عن حدس تعبدي مستند إلى الحس .
  وعليه : فلنا أن ندعي : أن كل من يدعى الإجماع أو الاتفاق الظاهر في اتفاق من يصلح أن يكون الإمام فيهم ويحتمل في حقهم حسية هذا المخبر به لهم أو حدسيته القريبة إلى الحس ، فلا بأس بالأخذ بمثل هذا الخبر ، كما هو الشأن في بنائهم على الأخذ بخبر من يخبر بمضمون خبر غيره بمحض سماعه عن غيره ، كإخباره بموت زيد أخبره غيره بموته من دون تشكيك فيه بحدسية خبره غالبا ، فهكذا ما نحن فيه ، فتدبر .


(1) الوسائل : الباب 4 من أبواب ما يكتسب به الحديث 4 .
(2) أقول : أو حدس قريب بالحس ، كما أشرنا إليه سابقا .

فوائد الأصول ـ 149 ـ
  الأمر الثاني : نقل الإجماع تارة : يرجع إلى نقل السبب من أقوال العلماء وفتاويهم الكاشفة عن رأى المعصوم ( عليه السلام ) وأخرى : يرجع إلى نقل نفس المسبب وهو رأيه ( عليه السلام ) ، فان رجع إلى نقل السبب كان ذلك إخبارا عن الحس (1) ويندرج في عموم أدلة حجية الخبر الواحد ، وإن رجع إلى نقل المسبب كان ذلك إخبارا عن الحدس ، فلا عبرة به (2) ولا دليل على حجيته ، إلا على بعض الوجوه في تقدير مدرك حجية الإجماع ، كما سيأتي .
  الأمر الثالث : اختلفت مشارب الأعلام في مدرك حجية الإجماع المحصل الذي هو أحد الأدلة الأربعة ، فقيل : إن الوجه في حجيته دخول شخص المعصوم ( عليه السلام ) في المجمعين ، ويحكى ذلك عن السيد المرتضى ( قدس سره ) .
  وقيل : إن قاعدة اللطف تقتضي أن يكون المجمع عليه هو حكم الله الواقعي الذي امر المعصوم ( عليه السلام ) بتبليغه إلى الأنام ، ويحكى ذلك عن شيخ الطائفة ( قدس سره ) .
  وقيل : إن المدرك في حجيته هو الحدس برأيه ( عليه السلام ) ورضاه بما أجمع عليه ، للملازمة العادية بين اتفاق المرؤوسين المنقادين على شيء وبين رضا الرئيس بذلك الشيء (3) ويحكى ذلك عن بعض المتقدمين .
  وقيل : إن حجيته لمكان تراكم الظنون من الفتاوى إلى حد يوجب


(1) أقول : وربما يكون إخباره بالسبب أيضا عن حدس ، فيلحق ذلك أيضا بالإخبار عن المسبب.
(2) أقول : إذا لم يكن حدسه قريبا إلى حسه ، كما أشرنا ، وإلا فيلحق باخباره بالسبب .
(3) أقول : إذا كانت الملازمة عادية ـ نظير ملازمة لوازم الشجاعة وملكة العدالة ـ فهو حدسي قريب بالحس ، كما أسسنا في الحاشية الطويلة ، فراجع .

فوائد الأصول ـ 150 ـ
  القطع بالحكم ، كما هو الوجه في حصول القطع من الخبر المتواتر.
  وقيل : إن الوجه في حجيته إنما هو لأجل كشفه عن وجود دليل معتبر عند المجمعين.
  ولعل هذا الأخير أقرب المسالك ، لأن مسلك الدخول مما لا سبيل إليه عادة في زمان الغيبة (1) بل ينحصر ذلك في زمان الحضور الذي كان الإمام ( عليه السلام ) يجالس الناس ويجتمع معهم في المجالس ، فيمكن أن يكون الإمام ( عليه السلام ) أحد المجمعين ، وأما في زمان الغيبة فلا يكاد يحصل ذلك عادة .
  نعم : قد يتفق في زمان الغيبة للأوحدي التشرف بخدمته وأخذ الحكم منه ( عليه السلام ) فيدعى الإجماع عليه ، وأين هذا من دعوى كون مبنى الإجماع على دخول شخصه ( عليه السلام ) في المجمعين ؟! .
  وأما مسلك اللطف : فهو بمكان من الضعف ، لأنه مبنى على أنه يجب على الإمام ( عليه السلام ) إلقاء الخلاف بين الأمة إذا لم يكن الحكم المجمع عليه من أحكام الله تعالى ، وذلك من أصله فاسد ، فان الواجب على الإمام ( عليه السلام ) إنما هو بيان الأحكام بالطرق المتعارفة ، وقد أدى ( عليه السلام ) ما هو وظيفته ، وعروض الاختفاء لها بعد ذلك لبعض موجبات الاختفاء لا دخل له بالإمام عليه السلام حتى يجب عليه إلقاء الخلاف .
  وأما مسلك الملازمة العادية : فاتفاق المرؤوسين على أمر إن كان نشأ عن تواطئهم على ذلك كان لتوهم الملازمة العادية بين إجماع المرؤسية ورضا .


(1) أقول : يعنى الكبرى : ، والسيد المرتضى في الغيبة الصغرى ، وفي مثلها لا مانع من وصولهم إلى الإمام ( عليه السلام ) عادة .