الرئيس مجال ، وأما إذا اتفق الاتفاق بلا تواطئ منهم على ذلك ، فهو مما لا يلازم عادة رضا الرئيس ولا يمكن دعوى الملازمة .
وأما مسلك تراكم الظنون : فهو مما لا يندرج تحت ضابط كلي ، إذ يختلف ذلك باختلاف مراتب الظنون والموارد والأشخاص ، فقد يحصل من تراكم الظنون القطع لشخص وقد لا يحصل ، فلا يصح أن يجعل ذلك مدركا لحجية الإجماع .
فالإنصاف : أن الذي يمكن أن يدعى ، هو أن يكون اتفاق العلماء كاشفا عن وجود دليل معتبر عند المجمعين ، ولكن هذا إذا لم يكن في مورد الإجماع أصل أو قاعدة أو دليل على وفق ما اتفقوا عليه ، فإنه مع وجود ذلك يحتمل أن يكون مستند الاتفاق أحد هذه الأمور ، فلا يكشف اتفاقهم عن وجود دليل آخر وراء ذلك .
نعم : لو كان الاتفاق مستمرا من زمان الصحابة المعاصرين للأئمة ( عليهم السلام ) ك ( زرارة ) و ( محمد بن مسلم ) إلى زمان أرباب الفتوى إلى زمن المتأخرين ، فهو يكشف كشفا قطعيا عن رضاء المعصوم بذلك ولا يلتفت إلى القاعدة أو الأصل الموافق ، إلا أن تحصيل مثل هذا الاتفاق مما لا سبيل إليه ، بل القدر الممكن هو تحصيل الاتفاق من زمان أرباب الفتوى ، وهذا الاتفاق لا يكشف عن نفس رضاه ( عليه السلام ) بل أقصاه أنه يكشف عن وجود دليل معتبر عند الكل إذا لم يكن في المورد أصل أو قاعدة ، فإنه لا يمكن الاتفاق في الفتوى اقتراحا بلا مدرك .
ومما ذكرنا ظهر : ما في عد الإجماع دليلا برأسه في مقابل الأدلة الثلاثة الأخر ، فإنه على جميع المسالك لا يكون الإجماع مقابلا للسنة .
نعم : بناء على ما قربناه من المسلك يكون التقابل بين الإجماع والسنة تقابل الإجمال والتفصيل ، فان الإجماع يكشف عن وجود دليل على الإجمال ، فتأمل .
فوائد الأصول ـ 152 ـ
إذا عرفت ذلك فاعلم : أن الحاكي للاجماع إنما يحكى السبب الكاشف عن المسبب والمنكشف ، إلا على مسلك الدخول ، قد عرفت فساد أصل المسلك .
وأما على المسالك الاخر : فالحكاية إنما هي للسبب ، وقد تقدم أن الحكاية إن رجعت إلى السبب تكون عن حس (1) لا عن حدس ، فلا بد من الأخذ بما يحكيه من السبب ، ويندرج ذلك في حجية الخبر الواحد ، فان كانت الحكاية لتمام السبب في نظر المنقول إليه فهو ، وإلا احتيج إلى ضم ما يكون تمام السبب ، وهذا يختلف باختلاف الحاكي والمحكى له ، فان كان الحاكي للإجماع من المتقدمين على ( العلامة ) و ( المحقق ) و ( الشهيد ) ـ رحمهم الله ـ فلا عبرة بحكايته ، لأن الغالب فيهم حكاية الإجماع على كل ما ينطبق على أصل أو قاعدة في نظرهم ، ولا عبرة بنظر الغير في تطبيق المورد على الأصل أو القاعدة وإن كان نفس الأصل والقاعدة مورد الإجماع .
وأما إذا كان الحاكي من قبيل ( الشهيد ) و ( المحقق ) و ( العلامة ) فالإنصاف اعتبار حكايتهم ، لأنهم يحكون نفس الفتاوى وبلسان الإجماع الكاشفة عن وجود دليل معتبر مع عدم وجود أصل أو قاعدة أو دليل في البين .
هذا خلاصة الكلام في الإجماع المنقول ، ولا يستحق إطالة الكلام فيه أزيد مما ذكرنا ، فتدبر جيدا حتى يتضح لك الحال .
فوائد الأصول ـ 153 ـ
فنقول : الشهرة على أقسام ثلاثة : الشهرة الروايتية ، والشهرة العملية ، والشهرة الفتوائية .
أما الشهرة الروايتية : فهي عبارة عن اشتهار الرواية بين الرواة وأرباب الحديث بكثرة نقلها وتكررها في الأصول والكتب قبل الجوامع الأربع ، وهذه الشهرة هي التي تكون من المرجحات في باب التعارض والمقصودة من قوله عليه السلام : ( خذ بما اشتهر بين أصحابك ) (1) .
وأما الشهرة العملية : فهي عبارة عن اشتهار العمل بالرواية والاستناد إليها في مقام الفتوى ، وهذه الشهرة هي التي تكون جابرة لضعف الرواية وكاسرة لصحتها إذا كانت الشهرة من قدماء الأصحاب القريبين من عهد الحضور ، لمعرفتهم بصحة الرواية وضعفها .
ولا عبرة بالشهرة العملية إذا كانت من المتأخرين ، خصوصا إذا خالفت شهرة القدماء ، والنسبة بين الشهرة الروايتية والشهرة العملية العموم من وجه ، إذ ربما تكون الرواية مشهورة بين الرواة ولكن لم يستندوا إليها في مقام العمل ، وربما ينعكس الأمر ، وقد يتوافقان .
وأما الشهرة الفتوائية : فهي عبارة عن مجرد اشتهار الفتوى في مسألة لا استناد إلى رواية ، سواء لم تكن في المسألة رواية ، أو كانت رواية على خلاف الفتوى ، أو على وفقها ولكن لم يكن عن استناد إليها ، وهذه الشهرة الفتوائية لا تكون جابرة لضعف الرواية ، إذ الجبر إنما يكون بالاستناد إلى الرواية ولا أثر لمجرد مطابقة الفتوى لمضمون الرواية بلا استناد إليها ، ولكن
(1) مستدرك الوسائل : الباب 9 من أبواب صفات القاضي الحديث 2 .
فوائد الأصول ـ 154 ـ
تكون كاسرة لصحة الرواية إذا كانت الشهرة من القدماء ، لأن الكسر إنما يتحقق بالإعراض وعدم العمل بالرواية .
وهذه الشهرة الفتوائية هي المبحوث في حجيتها وعدم حجيتها في المقام ، وقد استدل للحجية بوجوه :
الوجه الأول ، قوله ( عليه السلام ) في مقبولة ابن حنظلة : ( ينظر إلى ما كان من روايتهما عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فان المجمع عليه لا ريب فيه ) . الخبر (1) .
وجه الاستدلال : هو أن المراد من ( المجمع عليه ) ليس اتفاق الكل بقرينة قوله عليه السلام : ( ويترك الشاذ ) فلابد وأن يكون المراد منه المشهور بين الأصحاب ، فيرجع مفاد التعليل إلى أن المشهور مما لا ريب فيه .
وعموم التعليل يشمل الشهرة الفتوائية وإن كان المورد الشهرة الروايتية ، وكذا قوله عليه السلام في مرفوعة زرارة : ( خذ بما اشتهر بين أصحابك ) (2) بدعوى عموم الموصول لكل ما اشتهر بين الأصحاب .
ولا يخفى عليك ضعف الاستدلال .
أن التعليل : فلأنه ليس من العلة المنصوصة ليكون من الكبرى الكلية التي يتعدى عن موردها ، فان المراد من قوله ( فان المجمع عليه لا ريب فيه ) إن كان هو الإجماع المصطلح فلا يعم الشهرة الفتوائية ، وإن كان المراد منه المشهور فلا يصح حمل قوله عليه السلام ( مما لا ريب فيه ) عليه بقول مطلق ، بل لابد من أن يكون المراد منه عدم الريب بالإضافة إلى ما يقابله ، وهذا يوجب خروج
(1) الوسائل : الباب 9 من أبواب صفات القاضي الحديث 1 .
(2) مستدرك الوسائل : الباب 9 من أبواب صفات القاضي الحديث 2 .
فوائد الأصول ـ 155 ـ
التعليل عن كونه كبرى كلية ، لأنه يعتبر في الكبرى الكلية صحة التكليف بها ابتداء بلا ضم المورد إليها ، كما في قوله ( الخمر حرام لأنه مسكر ) فإنه يصح أن يقال ( لا تشرب المسكر ) بلا ضم الخمر إليه ، والتعليل الوارد في المقبولة لا ينطبق على ذلك ، لأنه لا يصح أن يقال ( يجب الأخذ بكل ما لا ريب فيه بالإضافة إلى ما يقابله ) وإلا لزم الأخذ بكل راجح بالنسبة إلى غيره وبأقوى الشهرتين وبالظن المطلق ، وغير ذلك من التوالي الفاسدة التي لا يمكن الالتزام بها ، فالتعليل أجنبي عن أن يكون من الكبرى الكلية التي لا يصح التعدي عن مورده (1) .
وأما الموصول : فلا يعم الشهرة الفتوائية ، بل هو خاص بالشهرة الروايتية ، وليس ذلك من جهة تخصيص العام بالمورد حتى يقال : إن المورد لا يخصص العام ، بل من جهة عدم العموم .
الوجه الثاني : قوله تعالى في ذيل آية النبأ : ( أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) (2) بتقريب : أن المراد من ( الجهالة ) السفاهة والاعتماد على ما لا ينبغي الاعتماد عليه ، والاعتماد على الشهرة ليست من السفاهة :
وفيه : أن أقصى ما يقتضيه التعليل هو عدم جواز الأخذ بكل ما يقتضي الجهالة والسفاهة خبرا كان أو غيره ، هذا لا يقتضي وجوب الأخذ بكل ما ليس فيه جهالة ، إذ ليس له مفهوم حتى يتمسك به ، ألا ترى : أن قوله ( لا تأكل الرمان لأنه حامض ) لا يدل على جواز أكل كل ما ليس بحامض ، وذلك واضح .
(1) كذا في نسخة الأصل ، والظاهر : زيادة كلمة ( لا ) ( المصحح ) .
(2) سورة الحجرات الآية 6 .
فوائد الأصول ـ 156 ـ
الوجه الثالث : دعوى أن الظن الحاصل من الشهرة الفتوائية أقوى من الظن الحاصل من الخبر الواحد .
وفيه : أن حجية الخبر ليس لأجل إفادته الظن ، بل لأجل قيام الدليل عليه وإن كانت الحكمة في حجيته كونه مفيدا للظن نوعا .
نعم : لو قلنا باعتبار الظن المطلق كان من أحد أفراده الشهرة الفتوائية إذا حصل منها الظن ، وإلا فلم يقم دليل بالخصوص على حجية الظن الحاصل من الشهرة الفتوائية .
الفصل الرابع : في حجية الخبر الواحد:
إعلم : أن إثبات الحكم الشرعي من الخبر الواحد يتوقف على : أصل الصدور ، وجهة الصدور ، وعلى الظهور ، وإرادة الظهور .
والمتكفل لإثبات الظهور وإرادة الظهور هو الأوضاع اللغوية ، والقرائن العامة ، والأصول العقلائية ، وقد تقدم تفصيل ذلك كله في الفصل الأول .
والمتكفل لإثبات جهة الصدور ـ من كون الخبر صادرا لبيان حكم الله الواقعي لا لأجل التقية ونحوها ـ هو الأصول العقلائية أيضا ، فان الأصل العقلائي يقتضي أن يكون جهة صدور الكلام من المتكلم لبيان المراد النفس الأمري وأن مؤداه هو المقصود ، إلا أن يثبت خلافه ، وعلى ذلك استقرت طريقة العقلاء واستمرت سيرتهم في محاوراتهم ، ويأتي توضيح ذلك ـ إن شاء الله تعالى ـ في محله .
والمتكفل لأصل الصدور هو الأدلة الدالة على حجية الخبر الواحد ، وهو
فوائد الأصول ـ 157 ـ
المقصود بالبحث في هذا الفصل ، وهو من أهم المسائل الأصولية ، لما تقدم : أن الموضوع في علم الأصول ليس خصوص الأدلة الأربعة بذواتها أو بوصف دليليتها ليقع الإشكال في بعض المسائل المهمة ـ كمسألة حجية الخبر الواحد و كمسألة التعادل والتراجيح ـ من حيث عدم رجوع البحث عنها إلى البحث عن عوارض الأدلة فيحتاج إلى إتعاب النفس لإدراج البحث عنها في البحث عن عوارض الأدلة ، كما أتعب الشيخ ( قدس سره ) نفسه الزكية في ذلك ، بتقريب : أن البحث عن حجية الخبر الواحد يرجع إلى البحث عن أن السنة ـ التي هي أحد الأدلة الأربعة ـ هل تثبت بخبر الواحد ؟ أو لا تثبت به ؟ فيكون بحثا عن عوارض الموضوع .
وقد أورد عليه : بأن البحث عن ثبوت الموضوع ولا ثبوته بمفاد ( كان التامة ) لا يرجع إلى البحث عن عوارض السنة ، فان البحث عن عوارض الشيء إنما يكون بعد الفراغ عن وجوده ، وإن كان المراد من الثبوت ، الثبوت التعبدي بمفاد ( كان الناقصة ) لا الثبوت الواقعي ـ ليؤول البحث إلى البحث عن التعبد بالسنة المحكية بخبر الواحد ـ فهذا يرجع في الحقيقة إلى البحث عن عوارض الخبر لا عن عوارض السنة .
هذا ، ولكن يمكن توجيه ما أفاده الشيخ ( قدس سره ) بما لا يرد عليه ذلك ، ببيان : أن المراد من ثبوت السنة ولا ثبوتها ليس هو الثبوت الواقعي ولا ثبوته ليرجع البحث إلى البحث عن وجود الموضوع ولا وجوده ، بل المراد منه هو أن البحث عن حجية الخبر يرجع إلى البحث عن أن مؤدى الخبر هل هو من السنة أو لا ؟ وإن شئت قلت : إن البحث إنما هو عن انطباق السنة على مؤدى الخبر وعدم الانطباق (1) وهذا لا يرجع إلى البحث عن وجود السنة ولا .
(1) أقول : انطباق المهية على فرد ليس إلا ملازما لوجوده في ضمنه ، ومثل هذا البحث وإن كان من عوارض المهية تصورا ، ولكن هو عين البحث عن وجودها ضمن هذا الفرد وهويته ، ولو كان هذا المقدار يكفي .
فوائد الأصول ـ 158 ـ
وجودها ، بل يكون البحث عن عوارض ، السنة ، بداهة أن انطباق الموضوع وعدم انطباقه يكون من العوارض اللاحقة له ، كالبحث عن وجود الموضوع في زمان أو مكان ولا وجوده .
هذا ، ولكن لو أمكننا إدراج مسألة حجية الخبر الواحد في مسائل الأصول بما ذكرناه من التوجيه ، فلا يمكننا إدراج كثير من مهمات المباحث في علم الأصول لو جعلنا الموضوع خصوص الأدلة الأربعة ، مع أنه لا ملزم إلى ذلك بعد إمكان أخذ الموضوع بمعنى يعم جميع هذه المسائل ، وهو ( كل ما يقع في طريق الاستنباط ) ومن أوضح مصاديقه مسألة حجية الخبر الواحد ، فإنها تقع كبرى لقياس الاستنباط والجزء الأخير من علته ، بل عليها يدور رحى الاجتهاد ، فان الأخبار المتواترة والمحفوفة بالقرائن القطعية قليلة جدا لا تفي بمعظم الفقه ، بل استفادة غالب الأحكام إنما تكون من الخبر الواحد ، فلابد للأصولي من إثبات حجيته ، أو الاعتماد على الظن المطلق بمقدمات الانسداد .
ثم لا يخفى عليك : أنه قد انعقد الإجماع على حجية الأخبار المودعة فيما بأيدينا من الكتب ، ولكن لا يصح الاعتماد والإتكال على هذا الإجماع ، لاختلاف مشرب المجمعين في مدرك الحجية ، فان منهم من يعتمد على هذه الأخبار لتخيل أنها قطعية الصدور ، ومنهم من يعتمد عليها من أجل اعتماده على الظن المطلق بمقدمات الانسداد ، ومنهم من يعتمد عليها لأجل قيام الدليل بالخصوص عنده على حجيتها ، والإجماع الذي يكون هذا شأنه لا يصح الإتكال عليه .
في البحث عن العوارض ، يلزم دخول البحث في وجود المهية وانطباقه على الخارج في المباحث كلها ، وهو كما ترى ! .
وأما المثال الذي مثل به من البحث عن وجود شيء في المكان ، ففيه : أن القياس مع الفارق ، إذ الكينونة في الزمان أو المكان جهة طارية على الوجود فارغا عن وجوده ، وهذا بخلاف البحث عن وجود الطبيعة في ضمن فرد ، إذ هو ليس بحثا عن عوارض الوجود فارغا عن أصل وجوده ، بل مرجع البحث فيه إلى البحث عن أصل وجودها في ضمن الفرد وعدمه ، كما لا يخفى ، فتدبر .
فوائد الأصول ـ 159 ـ
وأخذه دليلا في المسألة ، ولا يكفي مجرد ثبوت الإجماع على النتيجة مع اختلاف نظر المجمعين (1) فان هذا الإجماع لا يكشف عن رأى المعصوم ( عليه السلام ) ولا عن وجود دليل معتبر ، بل الكاشف عن ذلك هو الإجماع على الحكم الشرعي مرسلا ، فلا عبرة بالإجماع التقييدي الذي هو عبارة عن اختلاف مدرك المجمعين .
فلابد للقائل بحجية أخبار الآحاد من إقامة الدليل على مدعاه إذا لم يكن ممن يرى حجية مطلق الظن بمقدمات الانسداد ولم تكن الأخبار في نظره مقطوعة الصدور ـ كما هو الواقع ـ بداهة أنه لا يمكن القطع بصدور جميع الأخبار المودعة فيما بأيدينا من الكتب مع ما بينها من الاختلاف الفاحش ، فدعوى القطع بالصدور غريبة جدا ! خصوصا من بعد زمان الغيبة الكبرى ! وما كنا نترقب من المتأخرين هذه الدعوى ، وقد نسب إلى شرذمة من الأخباريين ، بل هذه الدعوى ممن كان عهده قريبا بزمان الحضور كانت أولى وأحرى ك ( السيد المرتضى ) لأنه كان يتمكن من العلم بما صدر من الأخبار وما دس فيها .
وأما اعتبارها من باب الظن المطلق فهو مبنى على صحة مقدمات الانسداد ، وسيأتي الكلام فيها ، فعلى هذا ينبغي إقامة الدليل بالخصوص على حجية ما بأيدينا من الأخبار ، ولنقدم الكلام أولا في أدلة النافين للحجية ، ثم
(1) أقول : لا يخفى أن مجرد اختلاف استناد كل طائفة من المجمعين لجهة غير الجهة الأخرى إنما يضر بانعقاد الإجماع في فرض انصرافه عن فتواه لو التفت إلى بطلان مستنده ، وإلا فلو فرض عدم رجوعه عن فتواه مع علمه بفساد ما تشبث به ، تكشف ذلك عن أن ما استندوا به من قبيل النكات بعد الوقوع وتطبيق ما هو المسلم عندهم على وجه وقاعدة ، ومثل ذلك لا يضر بالإجماع بتا ، وحينئذ لنا أن ندعي أنه لو فرض عدم قطعية سند الأخبار ولا تمامية دليل الانسداد ولا تمامية الأدلة المخصوصة : من آية النبأ وغيرها من الآيات والروايات ، فهل يرفعون الأصحاب يدهم عن مثل هذه الأخبار في مقام استنباط الأحكام ؟ كلا وحاشا ! وذلك يكشف عن أن العمل بأخبار الآحاد في الجملة مسلم عندهم ،
نعم : إنما الكلام في تعينها بخصوص طائفة دون طائفة ، فبالأخرة ربما ينتهى إلى العلم الإجمالي بوجود الحجة بين الطوائف ، فيؤخذ بلوازمه ، فتدبروا فهم .
فوائد الأصول ـ 160 ـ
نعقبه بذكر أدلة المثبتين لها .
فنقول : قد استدل النافون بالأدلة الأربعة .
فمن الكتاب : الآيات الناهية عن العمل بالظن وما وراء العلم ، كقوله تعالى : ( قل إن الظن لا يغني من الحق شيئا ) (1) .
ومن السنة : الأخبار الناهية عن العمل بالخبر إذا لم يكن عليه شاهد من كتاب الله تعالى والأخبار الآمرة بطرح ما خالف كتاب الله تعالى ، وهي كثيرة تبلغ التواتر ، ولا شبهة أن غالب الأخبار التي بأيدينا ، إما أن تكون مخالفة لكتاب الله تعالى ولو بالعموم ، وإما أن لا يكون عليها شاهد من الكتاب ، فلا يجوز العمل بها ، خصوصا بعد ما ورد في جواب سؤال ( داود بن فرقد ) كما في البحار عن بصائر الدرجات قال : ( كتبت إليه ( عليه السلام ) عن العلم المنقول عن آبائك وأجدادك قد اختلفوا علينا فيه ، كيف العمل به على اختلافه ؟ فكتب ( عليه السلام ) بخطه : ما علمتم أنه قولنا فالزموه وما لم تعملوا فردوه إلينا ) (2) .
ومن الإجماع : ما ادعاه السيد ( رحمه الله ) في مواقع من كلامه ، حتى جعل العمل بالخبر الواحد بمنزلة العمل بالقياس في قيام الضرورة على بطلانه .
ومن العقل : ما ذكره ( ابن قبة ) من أن العمل بخبر الواحد موجب لتحليل الحرام وتحريم الحلال ، والعقل يستقل بقبحه على الشارع .
وأنت خبير بأنه لا دلالة لشئ من هذه الأدلة على المنع عن العمل بخبر الواحد .
أما الآيات : فلأن مساقها حرمة العمل بالظن في باب العقائد وأصول الدين وعلى فرض تسليم عمومها لمطلق الأحكام الشرعية ، فغايته أن تكون
(1) سورة يونس الآية 36 .
(2) بصائر الدرجات : الجزء العاشر الباب 19 الحديث 26 ص 524 .
فوائد الأصول ـ 161 ـ
دلالتها على المنع عن الظن الحاصل من الخبر الواحد بالعموم ، فلابد من تخصيصه بما سيأتي من الأدلة الدالة على جواز العمل بخبر الواحد ، بل نسبة تلك الأدلة إلى الآيات ليست نسبة التخصيص بل نسبة الحكومة ، فان تلك الأدلة تقتضي إلقاء احتمال الخلاف وجعل الخبر محرزا للواقع ، فيكون حاله حال العلم في عالم التشريع ، فلا يمكن أن تعمه الأدلة الناهية عن العمل بالظن لنحتاج إلى التخصيص ، لكي يقال : إن مفاد الآيات الناهية آبية عن التخصيص ، هذا في غير السيرة العقلائية القائمة على العمل بالخبر الموثوق به .
وأما السيرة العقلائية : فيمكن بوجه أن تكون نسبتها إلى الآيات الناهية نسبة الورود بل التخصص ، لأن عمل العقلاء بخبر الثقة ليس من العمل بالظن ، لعدم التفاتهم إلى احتمال مخالفة الخبر للواقع ، فالعمل بخبر الثقة خارج بالتخصيص عن العمل بالظن ، فلا تصلح الآيات الناهية عن العمل به لأن تكون رادعة عن السيرة العقلائية القائمة على العمل بخبر الثقة (1) .
(1) أقول : لا يخفى أن السيرة العقلائية بالنسبة إلى أمور معادهم الذي من هذه الجهة يدخل في السيرة المتشرعة فلا شبهة أن أصل استقراره منوط بعدم رادعية الآيات الناهية عنها ، فمهما استقرت يستكشف بأنه لا يكون في البين رادع ولا مانع بأي وجه .
وأما سيرتهم في أمور معاشهم فحجيته مبنى على إمضاء الشارع إياهم في الشرعيات أيضا ، كما هو الشأن في سيرتهم في أمر معادهم بمذهبهم الخارجة عن مذهبنا ، فان حجيته أيضا مبنى على إمضاء لهم ، ففي هذه الصورة لا تصلح هذه السيرة مخصصة ولا ورودا ولا حكومة على الآيات الناهية ، لأن هذه الجهات بعد الفراغ عن حجيتها ، وهذه الجهة مبنية على عدم رادعية الآيات الناهية ، فعدم رادعيتها يقع في الرتبة السابقة عن حجيتها ، لأنه بمنزلة شرطها ، ففي الرتبة السابقة المزبورة أصالة العموم في النواهي محكمة ، فيخرج مثله عن الحجية ، وحينئذ كيف يشكل الدور في الرادعية ؟ مع كون عدمها شرطا في حجيتها وحجيتها موجب لورودها ، فمرتبة ورودها أو حكومتها على الآيات قهرا متأخرة عن الحجية المتأخرة عن عدم الرادعية ، ولازمه تأخر نقيضه من الرادعية في الرتبة السابقة ، وحينئذ يستقر الدور المزبور من طرف التخصيص أو الورود ، لا العكس ، كما لا يخفى ،
ومن جهة ذلك نقول ـ وسيأتي في محله ـ إن ما يصلح للحجية والتشبث به في حجية أمارة إنما هو السيرة العقلائية المستقرة في أمورهم الشرعية على وفق مذهبنا ، إذ هو الذي لا يكاد ردع الآيات لها ، لأن نفس وجودها ملازم لعدم مانعية الآيات ، بلا احتياج حجيتها على عدم رادعية الآيات ، بخلاف السيرة العقلائية الجارية في
فوائد الأصول ـ 162 ـ
فإنه مضافا إلى خروج العمل به عن موضوع الآيات الناهية يلزم الدور المحال ، لأن الردع عن السيرة بالآيات الناهية يتوقف على أن لا تكون السيرة مخصصة لعمومها ، وعدم كونها مخصصة لها يتوقف على أن تكون رادعة عنها .
وإن منعت عن ذلك كله ، فلا أقل من أن يكون حال السيرة حال سائر الأدلة الدالة على حجية الخبر الواحد : من كونها حاكمة على الآيات الناهية ، والمحكوم لا يصلح لأن يكون رادعا عن الحاكم ، كما لا يخفى ، وسيأتي لذلك مزيد توضيح إن شاء الله تعالى .
وأما السنة : فلأن الأخبار الدالة على طرح الخبر المخالف أو الذي لا شاهد عليه من الكتاب والعمل بخبر الموافق والذي عليه شاهد من الكتاب وإن كانت متواترة معنى أو إجمالا ـ للعلم بصدور بعضها عن المعصوم ( عليه السلام ) وهي آبية عن التخصيص ـ كما لا يخفى على المتأمل فيها ـ إلا أنه يعلم أيضا بصدور جملة من الأخبار المخالفة للكتاب ولو بالعموم والخصوص أو الإطلاق والتقييد ، لا يسعنا طرح جميع ما بأيدينا من الأخبار المودعة في الكتب ، لأنه يلزم من الاقتصار على ما يستفاد من ظاهر الكتاب تعطيل كثير من الأحكام ، خصوصا في باب العبادات ، بل معظم الأحكام إنما يستفاد من الأخبار ، ولو بنينا على الأخذ بظاهر هذه الأخبار الناهية عن العمل بما يخالف الكتاب أو الذي لا يوجد له شاهد منه والاقتصار في العمل بما يوافق ظاهر الكتاب يلزم طرح جميع ما بأيدينا من الأخبار المخالفة لظاهر الكتاب بالعموم
أمورهم الغير الراجعة إلى شرعيات مذهبنا ، فان حجيتها مبنية على إمضاء الشارع الملازم مع عدم ردعه .
ولئن شئت قلت : إن ما أفيد من الدور في الرادعية إنما يتم في فرض اقتضاء الحجية في نفس السيرة وأن الردع مانع عنه ، فإنه لابد وأن يكون المانعية تعليقية ، فلا محيص من تأثير المقتضى التنجيزي أثره ، فيرفع موضوع المانعية والرادعية ، وأما لو قلنا : بأن قوام حجيتها بامضاء الشارع بحيث لولاه لا اقتضاء في نفس بنائهم للحجية وأن الإمضاء المزبور متمم لاقتضائه ، فلا يكون اقتضائها للحجية إلا تعليقيا ، ومع هذا الوصف لا محيص من تشكيل الدور في طرف المخصصية ، لا الرادعية ، فتدبر في أمثال المقام ، كي لا يختلط عليك الأمر .
فوائد الأصول ـ 163 ـ
والخصوص والإطلاق والتقييد ، وهذا مما لا سبيل إلى الالتزام به ، فلا بد وأن يكون المراد من ( المخالفة ) غير المخالفة بالعموم والخصوص أو الإطلاق والتقييد : من المخالفة بالتباين الكلي أو بالعموم من وجه ، بل المخالفة بالعموم والخصوص لا تعد من المخالفة لما بينهما من الجمع العرفي ، والتخالف بينهما إنما يكون بدويا يزول بالتأمل في مدلولهما ، فالأخبار الناهية عن العمل بالخبر المخالف للكتاب لا تعم المخالفة بالعموم والخصوص .
ولا يبعد أن يكون صدور هذه الأخبار في مقام الرد على الملاحدة الذين كانوا يضعون الأخبار ويدسونها في كتب الأصحاب هدما للشريعة المطهرة ، حتى نقل عن بعضهم انه قال ـ بعد ما استبصر ورجع إلى الحق ـ ( إني قد وضعت إثنا عشر ألف حديثا ) فأقرب المحامل لهذه الأخبار حملها على الخبر المخالف للكتاب بالتباين أو بالعموم من وجه ، وإن كان يبعد حملها على المخالفة بالتباين ، لأنه ليس في الأخبار ما يخالف الكتاب بالتباين الكلي ، حتى أن من يريد الوضع والدس في الأخبار لا يضع ما يخالف الكتاب بالتباين الكلي ، لأنه يعلم أنه من الموضوع .
ولا يبعد أيضا حمل الأخبار الناهية على الأخبار الواردة في باب الجبر والتفويض والقدر ونحو ذلك .
ويمكن أيضا حمل بعضها على صورة التعارض بين الروايات ، فيؤخذ بالموافق للكتاب ويطرح المخالف له .
وكيف كان : لابد من حمل هذه الأخبار على أحد هذه المحامل ، لما عرفت من أنه لو بنينا على شمولها للمخالفة بالعموم والخصوص يلزم تعطيل كثير من الأحكام .
ومما ذكرنا يظهر ما في الاستدلال برواية ( داود بن فرقد ) فإنه مضافا إلى أنها من أخبار الآحاد ولا يصلح التمسك بها لما نحن فيه ـ لأنه يلزم من حجيتها عدم حجيتها ـ لا تشمل العمل بخبر الثقة ، لأنه ليس من أفراد قوله
.
فوائد الأصول ـ 164 ـ
عليه السلام : ( وما لم تعلموا فردوه إلينا ) (1) بل أدلة حجيته تقتضي أن يكون من أفراد قوله عليه السلام : ( ما علمتم أنه قولنا فالزموه ) (2) بالبيان المتقدم في الجواب عن الاستدلال بالآيات الناهية عن العمل بالظن .
وأما الإجماع : فموهون بمصير الأكثر إلى خلافه ، مع أنه معارض بمثله .
وأما الدليل العقلي : فقد عرفت ما فيه في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ، من أنه لا يلزم من التعبد بكلى الأمارات تحليل الحرام وتحريم الحلال .
هذا كله في أدلة النافين .
وأما المثبتون لحجية الخبر الواحد : فقد استدلوا أيضا بالأدلة الأربعة .
أما الكتاب : فبآيات ، منها : آية النبأ ، قال تعالى : ( إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) (3) وتقريب الاستدلال بها يمكن بأحد وجهين : الأول : بمفهوم الشرط ، ببيان أنه تعالى علق وجوب التبين عن الخبر بمجئ الفاسق به ، فإذا انتفى الشرط وكان المخبر عدلا ينتفى وجوب التبين عن خبره ، وإذا لم يجب التبين عن خبر العادل ، فاما أن يرد ، وإما أن يقبل ، ولا سبيل إلى الأول ، لأنه يلزم أن يكون العادل أسوء حالا من الفاسق ، فيتعين الثاني وهو المطلوب ، لأنه لا نعنى بحجية الخبر الواحد إلا قبوله .
ولعل أخذه هذه المقدمة الأخيرة وهي أنه ( لو لم يجب قبول قوله يلزم أن يكون أسوأ حالا من الفاسق ) مبنى على كون التبين واجبا نفسيا ، ولو كان
(1) الوسائل الباب 9 من أبواب صفات القاضي الحديث 36 .
(2) الوسائل الباب 9 من أبواب صفات القاضي الحديث 36 .
(3) سورة الحجرات : الآية 6 .
فوائد الأصول ـ 165 ـ
وجوبه شرطا للعمل بخبر الفاسق فلا نحتاج إلى هذه المقدمة (1) فإنه على هذا يكون مفاد المنطوق وجوب التبين عند العمل بخبر الفاسق ومفاد المفهوم عدم وجوب التبين عند العمل بخبر العادل ، فيتم الاستدلال بلا ضم تلك المقدمة .
ولا إشكال في أن وجوب التبين يكون شرطيا لا نفسيا كما يظهر ذلك من التعليل في ذيل الآية ، فان إصابة القوم بالجهالة إنما تكون عند العمل بخبر الفاسق لا مطلقا ، فلا يحتمل الوجوب النفسي في التبين ، وذلك واضح .
الثاني : بمفهوم الوصف ، وتقريبه : ان الآية الشريفة نزلت في شأن ( الوليد ) لما أخبر بارتداد ( بني المصطلق ) وقد اجتمع في خبر ( الوليد ) وصفان : أحدهما كونه من الخبر الواحد ، ثانيهما كون المخبر به فاسقا ، ولا إشكال أن العلة لوجوب التبين لو كان هو الخبر الواحد لكان ذلك أولى بالذكر من كون المخبر به فاسقا ، فان اتصاف الخبر خبرا واحدا يكون مقدما بالرتبة على اتصافه بالفاسق ، لأن خبر الواحد يكون مقسما لخبر الفاسق والعادل ، فيكون الخبر الواحد بمنزلة الموضوع للفاسق .
وبعبارة أخرى : يجتمع في خبر الفاسق وصفان : وصف ذاتي وهو كونه خبرا واحدا ، ووصف عرضي وهو كونه فاسقا ، ومن المعلوم : أنه لو اجتمع في
(1) أقول : لو كان التبين شرطا للعمل الواجب ، فمجرد شرطية وجوب التبين لا يجدى لنفي المقدمة الأخرى ، إلا في فرض كون نظر الآية إلى نفي الشرطية فارغا عن وجوب العمل ، وإلا فلو كانت الآية في مقام نفي وجوب التبين لا نفي شرطيته ، فغاية شرطية وجوبه كونه وجوبا غيريا للعمل به ، ونفى هذا الوجوب الغيري للتبين لا يقتضي نفي شرطيته ، بل يناسب مع نفي وجوب ذيها أيضا ، فإرجاع مثل ذلك إلى الاحتمال الأول وصرفه عن الثاني إلى مقدمة الأسوئية ،
نعم : لو كان التبين شرطا لوجوب العمل فلا محيص من إرجاعه إلى نفي الشرطية ، إذ لا معنى لوجوب شرطية وجوب شيء ، فلا محيص من جعل وجوبه كناية عن شرطيته ، ولكنه خلاف ظاهر القضية المتكفلة لإثبات التكليف لا الوضع محضا ، كما لا يخفى .
فوائد الأصول ـ 166 ـ
الشيء وصفان : أحدهما ذاتي والآخر عرضي (1) وكان منشأ الحكم هو الوصف الذاتي لكان هو المتعين بالذكر ـ كما عليه طريقة أهل المحاورة ـ فلو قال ( أكرم عالما ) وكان علة الإكرام هو إنسانية العالم لا عالمية الانسان ، كان الكلام خارجا عن الطريقة المألوفة عند أهل المحاورة لسبق الانسانية التي هي من الأوصاف الذاتية على العالمية ، فلو كان المتكلم يتكلم على طبق الطريقة المألوفة وقال ( أكرم عالما ) يستفاد من كلامه لا محالة أن المنشأ للإكرام هو وصف العالمية لا وصف الإنسانية ، وحيث كان المذكور في الآية الشريفة هو الوصف العرضي وهو عنوان ( الفاسق ) فيستفاد منها أن منشأ وجوب التبين هو كون المخبر فاسقا لا كون خبره من الخبر الواحد ، فإذا لم يكن المخبر فاسقا وكان عادلا ، فإما أن يجب قبول خبره بلا تبين ، وإما أن يرد ، ولا سبيل إلى الثاني ، لأنه يلزم أن يكون أسوء حالا من الفاسق ، فيتعين الأول وهو المطلوب .
وبما ذكرنا في تقريب مفهوم الشرط من كون وجوب التبين شرطا للعمل لا مطلقا يظهر عدم الحاجة إلى هذه المقدمة في مفهوم الوصف أيضا ، لاتحاد مفاد المفهوم والمنطوق فيهما .
هذا ، ولكن يمكن الخدشة في الاستدلال على كل من تقريبي مفهوم الوصف ومفهوم الشرط .
أما مفهوم الوصف : فلما بيناه ( في باب المفاهيم ) من أن القضية
(1) أقول : لا إشكال في أن لازم عدم حجية قول الفاسق عدم وجود الاقتضاء في ذات الخبر المعروض لهذه الإضافة ، ولازمه وجود مقتضى التبين في هذه الذات أيضا ، إذ يكفي في مقتضى التبين عدم اقتضاء خبره للحجية ، وحينئذ لازم تقدم رتبة الذات على العرض نسبة وجوب التبين إلى الذات التي هي المعروض هذا العرض ، لا إلى نفس العرض ، وحينئذ الانتقال من نسبة التبين إلى الذات المعروض إلى عرضه ليس من باب عدم الاقتضاء في الذات المزبور كي بهذا التقريب يثبت حصر مقتضى التبين بالفاسق ، بل عمدة النكتة في الانتقال من الذات إلى العرض دعوى تخصيص مقتضى التبين وحصره بالإضافة إلى عرض آخر من إضافة الخبر إلى العادل ، حيث إنه لو لم يكن حجة لكان فيه أيضا مقتضى التبين ، كما لا يخفى ، ومرجع ذلك إلى تقريب آخر لمفهوم الوصف غير ما ذكر ، كما لا يخفى .
فوائد الأصول ـ 167 ـ
الوصفية ليست ذات مفهوم ، خصوصا في الوصف الغير المعتمد على الموصوف ، فان ذلك أقرب إلى مفهوم اللقب ، ومجرد ذكر الوصف في القضية لا يقتضي انتفاء سنخ الحكم بانتفاء الوصف ، بل أقصاه أن يكون الحكم المذكور في القضية لا يشمل الموصوف الفاقد للوصف يعنى عدم التعرض لحكمه ، وهذا غير المفهوم ، فان كون القضية ذات مفهوم لابد وأن يرجع مفادها بالنتيجة إلى التعرض لانتفاء الحكم عما عدا المنطوق ، غاية ما تدل عليه القضية الوصفية هو عدم التعرض لحكم ما عدا المنطوق ، فمن الممكن أن لا يكون المتكلم بصدد بيان تمام أفراد الموضوع ، واقتصر في البيان على بيان بعض الأفراد مع اشتراك الأفراد الاخر في الحكم ، إلا أنه لمصلحة أخر بيانها ، فلا دلالة لقوله ( أكرم عالما ) على كون المناط في وجوب الإكرام هو وصف العالمية لا وصف الإنسانية ، لأنه من الممكن أن يكون مطلق الانسان يجب إكرامه ، ولكن لأهمية إكرام العالم اقتصر في الكلام على بيانه ، فالآية الشريفة لا تدل على أن تمام المناط لوجوب التبين هو كون المخبر فاسق حتى ينتفى الحكم عن خبر العادل .
وأما مفهوم الشرط : فلأن الشرط المذكور في الآية مما يتوقف عليه وجود الجزاء عقلا ، ولا تكون القضية الشرطية ذات مفهوم إذا كان الشرط مما يتوقف عليه المشروط عقلا ، فان ذكر الشرط يكون حينئذ لمجرد فرض وجود الموضوع ، كقوله ( إن رزقت ولدا فاختنه ) و ( إن ركب الأمير فخذ ركابه ) ونحو ذلك من القضايا التي يتوقف تحقق الجزاء عقلا على وجود الشرط ، فان مثل هذه القضايا الشرطية لا يكاد يتوهم دلالتها على المفهوم ، وإلا كانت كل قضية حملية ذات مفهوم ، لأنها تنحل إلى قضية شرطية مقدمها عنوان الموضوع وتاليها عنوان المحمول .
وحاصل الكلام : أنه يعتبر في كون القضية الشرطية ذات مفهوم أن يكون الشرط المذكور فيها من الشرائط التي لا يتوقف تحقق المشروط على وجود الشرط عقلا ، بل يمكن فرض وجود المشروط بلا فرض وجود الشرط ، كقوله
فوائد الأصول ـ 168 ـ
( إن جاءك زيد فأكرمه ) فان الإكرام لا يتوقف على مجيء زيد لإمكان تحقق الإكرام مع عدم مجيئه ، ففي مثل ذلك يمكن أن تكون القضية ذات مفهوم ، بأن يكون الشرط قيدا للحكم لا للموضوع فينتفى الحكم عند انتفاء شرطه ، ويمكن أيضا أن يكون الشرط قيدا للموضوع ، فيكون مفاد قوله ( إن جاءك زيد فأكرمه ) أكرم زيد الجائي ، فلا تدل القضية على انتفاء الحكم عن الفاقد للشرط ، إلا أن إرجاع الشرط إلى الموضوع خلاف ظاهر القضية ، بل الظاهر منها ـ بحسب المحاورات العرفية ـ هو أن يكون الشرط قيدا للحكم ، فينتفى عند انتفائه .
وأما إذا كان الشرط مما يتوقف عليه وجود المشروط عقلا ، بحيث لا يمكن فرض وجود المشروط بلا فرض وجود الشرط ، فلا يكاد يمكن أن تكون القضية ذات مفهوم ، فان ( انتفاء الختان ) أو ( أخذ الركاب ) في المثالين عند ( انتفاء الولد ) و ( ركوب الأمير ) قهري لانتفاء الموضوع ، وهذا ليس من المفهوم ، فان المفهوم هو انتفاء الحكم عن الموضوع عند انتفاء الشرط ، لا انتفاء الحكم بانتفاء الموضوع ، وإلا يلزم ـ كما عرفت ـ أن تكون كل قضية حملية ذات مفهوم ، لانتفاء المحمول فيها بانتفاء الموضوع ، والشرط المذكور في الآية الشريفة من جملة الشرائط التي يتوقف عليها وجود الجزاء عقلا ، فان التبين عن الخبر فرع وجود الخبر ومما يتوقف عليه عقلا ، والشرط المذكور في الآية هو ( مجيء الفاسق بالنبأ ) فانتفاء التبين عند عدم مجيء الفاسق بالنبأ قهري من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، ولم يؤخذ الموضوع فيها مطلق النبأ والشرط مجيء الفاسق به ، حتى يقال : بانتفاء التبين عن النبأ عند انتفاء كون الجائي به فاسقا ، ليثبت عدم التبين عن نبأ العادل ، بل الشرط في الآية ( نبأ الفاسق ) وعدم التبين بانتفاء نبأ الفاسق لعدم ما يتبين عنه ، نظير انتفاء الختان عند انتفاء الولد .
نعم : لو كان نزول الآية هكذا ( النبأ إن كان الجائي به فاسقا
فوائد الأصول ـ 169 ـ
فتبينوا ) كانت الآية ذات مفهوم ويكون مفادها ( النبأ إن لم يكن الجائي به فاسقا فلا تتبينوا عنه ) فتدل على اعتبار نبأ العادل ، ولكن هذا تصرف في الآية بلا شاهد عليه وخلاف ما يقتضيه ظاهرها ، وإلا فكل قضية يمكن أن يتصرف فيها على وجه ترجع إلى كونها ذات مفهوم .
هذا ، ولكن الإنصاف : أنه يمكن استظهار كون الموضوع في الآية مطلق النبأ والشرط هو مجيء الفاسق به من مورد النزول ، فان موردها ـ كما تقدم ـ كان إخبار ( الوليد ) بارتداد ( بني المصطلق ) فقد اجتمع في إخباره عنوانان : كونه من الخبر الواحد وكون المخبر فاسقا ، والآية الشريفة إنما وردت لإفادة كبرى كلية لتمييز الأخبار التي يجب التبين عنها عن الأخبار التي لا يجب التبين عنها ، وقد علق وجوب التبين فيها على كون المخبر فاسقا ، فيكون الشرط لوجوب التبين هو ( كان المخبر فاسقا ) لا ( كون الخبر واحدا ) لأنه لو كان الشرط ذلك لعلق وجوب التبين في الآية عليه (1) لأنه باطلاقه شامل لخبر الفاسق ، فعدم التعرض لخبر الواحد وجعل الشرط خبر الفاسق كاشف عن انتفاء التبين في خبر غير الفاسق .
ولا يتوهم : أن ذلك يرجع إلى تنقيح المناط أو إلى دلالة الإيماء ، فان ما بيناه من التقريب ينطبق على مفهوم الشرط .
وبالجملة : لا إشكال في أن الآية تكون بمنزلة الكبرى الكلية ، ولابد من أن يكون مورد النزول من صغرياتها (2) وإلا يلزم خروج المورد عن العام وهو قبيح ، بل العام بالنسبة إلى المورد كالنص وكأنه مذكور في العام
(1) أقول : ذلك صحيح لولا احتمال كون النكتة التنبيه على فسق ( الوليد ) لا من جهة خصوصية له في المقام ، فتأمل .
(2) أقول : لا إشكال في أن مورد النزول من صغريات الكبرى ، وإنما الكلام في أن الآية في مقام بيان حكم خبر الفاسق ، أو في بيان تمييز ما يجب التبين فيه عما لا يجب ، والذي هو مورد الكلام هو الثاني دون الأول ، إذ عليه لا يفيد هذا البيان شيئا ، كما لا يخفى .
فوائد الأصول ـ 170 ـ
بالنصوصية ، فلا بد من أخذ المورد مفروض التحقق في موضوع القضية ، ولما اجتمع في مورد النزول عنوانان وعلق الحكم على أحدهما دون الآخر كان الجزاء مترتبا على خصوص ما علق عليه في القضية ، وهو ( كون المخبر فاسقا ) مع فرض وجود العنوان الآخر وعدم دخله في الجزاء ، وإلا لعلق الجزاء عليه ، فيكون مفاد منطوق الآية بعد ضم المورد إليها ( أن الخبر الواحد إن كان الجائي به فاسقا فتبينوا ) ومفاد المفهوم ( أن الخبر الواحد إن لم يكن الجائي به فاسقا فلا تتبينوا ) فالقضية تكون من القضايا الشرطية التي علق الحكم فيها على ما لا يتوقف عليه الحكم عقلا ، فتأمل جيدا .
تكملة :
قد أورد على التمسك بالآية الشريفة لحجية الخبر الواحد بأمور :
منها : ما يختص بالآية .
ومنها : ما يشترك بينها وبين سائر الأدلة التي يستدل بها على حجية الخبر الواحد .
ولكن الشيخ ( قدس سره ) تعرض لها في طي الاستدلال بآية النبأ ، ونحن نقتفي إثره ، وينبغي أن نقتصر على بيان بعض الإشكالات المهمة .
فمن الإشكالات التي تختص بآية النبأ : هو كون المفهوم فيها على تقدير ثبوته معارضا بعموم التعليل في ذيل الآية ، وهو قوله تعالى : ( أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) فان المراد من الجهالة عدم العلم بمطابقة المخبر به للواقع ، وهو مشترك بين خبر العادل والفاسق ، فعموم التعليل يقتضي وجوب التبين عن خبر العادل أيضا ، فيقع التعارض بينه وبين المفهوم ، والترجيح في جانب عموم التعليل ، لأنه أقوى ظهورا من ظهور القضية الشرطية في المفهوم ، خصوصا مثل هذا التعليل الذي يأبى عن التخصيص ، كما لا يخفى .
وما يقال : ( من أن النسبة بين المفهوم والتعليل العموم والخصوص
فوائد الأصول ـ 171 ـ
المطلق ، فان المفهوم يختص بخبر العدل الغير المفيد العلم ، لأن الخبر المفيد للعلم خارج عن المنطوق والمفهوم ، إذ الموضوع في القضية هو الخبر القابل لأن يتبين عنه وهو ما لا يكون مفيدا للعلم ، فالمفهوم خاص بخبر العدل الذي لا يفيد العلم والتعليل عام لكل ما لا يفيد العلم ، فلابد من تخصيص عموم التعليل بالمفهوم وإلا يبقى المفهوم بلا مورد ، كما هو الشأن في جميع موارد العموم والخصوص ) فضعيف غايته ، فان لحاظ النسبة بين المفهوم والتعليل فرع ثبوت المفهوم للقضية الشرطية ، والمدعى أن عموم التعليل يمنع عن انعقاد الظهور للقضية في المفهوم ، فلا يكون لها مفهوم حتى يخصص عموم التعليل به ، خصوصا في مثل المقام مما كان التعليل متصلا بالقضية الشرطية ، فان احتفاف القضية بالتعليل يوجب عدم ظهور القضية في كونها ذات مفهوم ، وعلى فرض تسليم ظهورها في المفهوم مع اتصال التعليل بها لا بد من رفع اليد عن ظهورها ، لأن عموم التعليل يأبى عن التخصيص ، فأن إصابة القوم بالجهالة لا تحسن في حال من الحالات .
وهذا لا ينافي التسالم على جواز تخصيص العام بمفهوم المخالف ـ كما أوضحناه في مبحث العام والخاص ـ فان ذلك يختص بما إذا كان العام منفصلا عن القضية التي تكون ذات مفهوم ولم يكن العام علة لما تضمنته القضية من الحكم ، لا في مثل المقام مما كان العام متصلا بالقضية وكان علة للحكم ، فان المعلول يتبع العلة في العموم والخصوص ، فلا يبقى مجال لثبوت المفهوم للقضية الشرطية .
هذا ، ولكن الإنصاف : أنه لا وقع لأصل الإشكال ، لما فيه :
أولا : أنه مبنى على أن يكون معنى الجهالة عدم العلم ليشترك خبر العادل مع الفاسق في ذلك ، وليس الأمر كذلك ، بل الجهالة بمعنى السفاهة والركون إلى ما لا ينبغي الركون إليه والاعتماد على ما لا ينبغي الاعتماد عليه (1) ولا شبهة في أنه يجوز الركون إلى خبر العدل والاعتماد عليه ـ كما عليه طريقة .
(1) أقول : أمكن أن يقال : إن السفاهة يوجب الملامة لا الندامة ، بل ما يوجب الندامة جارى في كل .
فوائد الأصول ـ 172 ـ
العقلاء ـ بخلاف خبر الفاسق ، فان الاعتماد عليه يعد من السفاهة والجهالة ، فخبر العادل لا يشارك خبر الفاسق في العلة ، بل هو خارج عنها موضوعا .
فان قلت : لو لم يصح الاعتماد على خبر الفاسق ، فكيف اعتمدت الصحابة على خبر ( الوليد الفاسق ) وأرادوا تجهيز الجيش على قتال ( بني المصطلق ) عند إخبار ( الوليد ) بارتدادهم وامتناعهم عن أداء الصدقة ؟ .
قلت : ربما يركن الشخص إلى ما لا ينبغي الركون إليه غفلة أو لاعتقاده عدالة المخبر (1) فنزلت الآية الشريفة للتنبيه على غفلتهم أو لسلب اعتقادهم عن عدالة ( الوليد ) .
وبالجملة : لا إشكال : في أن الاعتماد على خبر الفاسق يكون من الجهالة ، دون الاعتماد على خبر العادل .
وثانيا : أنه على فرض أن يكون معنى الجهالة عدم العلم بمطابقة الخبر للواقع لا يعارض عموم التعليل للمفهوم ، بل المفهوم يكون حاكما على العموم ، لأنه يقتضي إلغاء احتمال مخالفة خبر العادل للواقع وجعله محرزا له وكاشفا عنه فلا يشمله عموم التعليل ، لا لأجل تخصيصه بالمفهوم لكي يقال : إنه يأبى عن التخصيص ، بل لحكومة المفهوم عليه ، فليس خبر العدل من أفراد العموم ، لأن أقصى ما يقتضيه العموم هو عدم جواز العمل بما وراء العلم ، والمفهوم يقتضي أن يكون خبر العدل علما في عالم التشريع ، فلا يعقل أن يقع التعارض بين المفهوم وعموم التعليل ، لأن المحكوم لا يعارض
أمارة مخالفة للواقع ، فضلا عن مجرد عدم العلم به إذا كان المقصود به حفظ الواقع ، خصوصا في الأمور المهمة ، كما هو مورد الآية الشريفة ، وحينئذ فلا غرو في دعوى كون الجهالة مطلق عدم العلم .
ومن هذا البيان ظهر أيضا : أن العلة جارية حتى في صورة العمل بما هو حجة لديهم من خبر الثقة والعدل ، لأن العمل بمثله في مثل حفظ النفوس والأعراض يوجب الندامة وإن لم يوجب الملامة ، فإذا شمل العلة بهذه القرينة ما هو حجة لديهم أيضا ، كان لازمه بمقتضى عموم العلة ردعهم عن مثل هذا العمل مطلقا ، ومع هذا التعميم لا يبقى مجال حكومة المفهوم على عموم العلة ، بل عموم العلة موجب لمنع المفهوم ، كما لا يخفى ، فتدبر .
(1) أقول : بل ربما يكون شدة الاهتمام بشيء لحفظ النفس والعرض يوجب الإقدام بمجرد الاحتمال الضعيف الغير البالغ إلى مرتبة الحجية لدى العقلاء بلا غفلة ، كما هو ظاهر .
فوائد الأصول ـ 173 ـ
الحاكم ولو كان ظهور المحكوم أقوى من ظهور الحاكم أو كانت النسبة بينهما العموم من وجه .
والسر في ذلك : هو أن الحاكم إنما يتعرض لعقد وضع المحكوم ، إما بتوسعة الموضوع بإدخال ما ليس داخلا فيه ، وإما بتضييقه باخراج ما ليس خارجا عنه ، كما ذكرنا تفصيله في ( الجزء الرابع ) والمفهوم في الآية يوجب تضييق موضوع العام وإخراج خبر العادل عنه موضوعا بجعله محرزا للواقع .
فان قلت : إن ذلك كله فرع ثبوت المفهوم للقضية الشرطية ، والمدعى هو أن عموم التعليل واتصاله بها يمنع عن ظهور القضية في المفهوم .
قلت : المانع من ثبوت المفهوم ليس إلا توهم منافاته لعموم التعليل وعمومه يقتضي عدم كون القضية ذات مفهوم ، وإلا فظهورها الأولى في المفهوم مما لا سبيل إلى إنكاره .
وبالبيان المتقدم ظهر : أنه لا منافاة بين المفهوم وعموم التعليل .
لأن ثبوت المفهوم للقضية لا يقتضي تخصيص عمومه ، بل العموم على حاله ، والمفهوم يوجب خروج خبر العادل عن موضوعه لا من حكمه .
ولا يكاد يمكن أن يتكفل العام بيان موضوعه من وضع أو رفع ، بل إنما يتكفل حكم الموضوع على فرض وجوده ، والمفهوم يمنع عن وجوده ويخرج خبر العادل عما وراء العلم الذي هو الموضوع في العام ، فلا يعقل أن يقع التعارض بينهما ، وذلك واضح .
فظهر : أن التفصي عن الإشكال لا يحتاج إلى القول بأن المراد من الجهالة ما يقابل الظن الاطميناني .
فالآية تدل على حجية كل ظن اطميناني ، كما أفاده الشيخ ( قدس سره ) فان ذلك تبعيد للمسافة ، مع إمكان التفصي عن لإشكال بوجه أقرب ، وهو ما تقدم ، فتأمل جيدا .
ومن الإشكالات التي تختص بآية النبأ أيضا : هو أنه يلزم خروج المورد عن عموم المفهوم ، مع أن العام يكون نصا في المورد ولا يمكن تخصيصه بما .
فوائد الأصول ـ 174 ـ
عدا المورد ، لأنه كان مورد نزول الآية الشريفة هو الأخبار بالارتداد ، وهو لا يثبت إلا بالبينة ـ كما هو الشأن في جميع الموضوعات الخارجية ـ فإنه لا تثبت بخبر الواحد إلا ما قام الدليل بالخصوص عليه ، وإلا فحجية الخبر الواحد تختص بالأحكام ، فلابد من تقييد عموم المفهوم بما ينطبق على المورد ، وحيث إن المورد مما لا يقبل فيه خبر الواحد فلا يدل المفهوم على حجية خبر العدل .
وفيه : أن المورد إنما كان إخبار ( الوليد الفاسق ) بارتداد ( بني المصطلق ) والآية الشريفة إنما نزلت في شأنه لبيان كبرى كلية ، والمورد داخل في عموم الكبرى وهي قوله تعالى : ( إن جائكم فاسق بنبأ فتبينوا ) فان خبر الفاسق لا اعتبار به مطلقا ، لا في الموضوعات ولا في الأحكام .
وأما المفهوم فلم يرد كبرى لصغرى مفروضة الوجود والتحقق ، لأنه لم يرد في مورد إخبار العادل بالارتداد ، بل يكون حكم المفهوم من هذه الجهة حكم سائر العمومات الابتدائية التي لم ترد في مورد خاص قابل للتخصيص بأي مخصص .
فلا مانع من تخصيص عموم المفهوم بما عدا الخبر الواحد القائم على الموضوعات الخارجية ، ولا فرق بين المفهوم والعام الابتدائي ، سوى أن المفهوم كان مما تقتضيه خصوصية في المنطوق استتبعت ثبوت المفهوم ، وإلا فهو كالعام الابتدائي الذي لم يرد في مورد خاص ، ولا ملازمة بين المفهوم والمنطوق من حيث المورد حتى إذا كان المنطوق في مورد خاص فالمفهوم أيضا لابد وأن يكون في ذلك المورد ، بل القدر اللازم هو أن يكون الموضوع في المنطوق عين الموضوع في المفهوم ، فتأمل .
ومما ذكرنا ظهر فيما أجاب به الشيخ ( قدس سره ) عن الإشكال بقوله : ( وفيه أن غاية الأمر لزوم تقييد المفهوم بالنسبة إلى الموضوعات بما إذا تعدد المخبر العادل فكل واحد من خبر العدلين في البينة لا يجب التبين فيه ، وأما لزوم إخراج المورد فممنوع ، لأن المورد دخل في منطوق الآية لا مفهومها ، وجعل أصل خبر الارتداد موردا للحكم بوجوب التبين إذا كان المخبر به فاسقا ولعدمه
فوائد الأصول ـ 175 ـ
إذا كان المخبر به عادلا لا يلزم منه إلا تقييد الحكم في طرف المفهوم وإخراج بعض أفراده ، وهذا ليس من إخراج المورد المستهجن في شيء ) انتهى (1) .
إذ فيه : أنه بعد تسليم كون مورد المفهوم هو الخبر بالارتداد (2) فلا محالة يلزم خروج المورد عن عموم المفهوم ، ولابد حينئذ من تقييد عموم المفهوم بما ينطبق على المورد ، فإذا كان المورد مما يعتبر فيه التعدد فالمفهوم يختص بالبينة ولا يصح التمسك به لحجية الخبر الواحد ، لما عرفت : من أنه لابد وأن يكون كبرى لصغرى المورد ، فتدبر .
وقد أشكل على التمسك بآية النبأ بأمور اخر يختص بمفهوم الآية لا يهمنا التعرض لها ، لأنها واهية جدا .
فالأولى التعرض لما لا يختص بالآية من الإشكالات ، بل يعم جميع الأدلة الدالة على حجية خبر العدل .
منها : وقوع التعارض بينها وبين عموم الآيات الناهية عن العمل بالظن وما وراء العلم ، والمرجع بعد التعارض إلى أصالة عدم الحجية .
وفيه : ما عرفت سابقا من أنه لا مجال لتوهم المعارضة ، لان أدلة الحجية التي منها مفهوم الآية تقتضي خروج العمل بخبر العدل عن كونه عملا بالظن أو بما وراء العلم بالحكومة ، بالبيان المتقدم .
هذا مع أن النسبة بين المفهوم مثلا والآيات الناهية عن العمل بالظن هي العموم والخصوص ، لأنه يختص
(1) أقول : إذا كان الموضوع في المنطوق البناء الكلي الشامل لخبر الارتداد جزما ، لابد من أخذ مثل ذلك في المفهوم أيضا ، وحينئذ لا يعقل أن يكون الموضوع في طرف المفهوم كليا غير ناظر إليه بخصوصه ، كي يكون كساير العمومات الابتدائية قابلا للتخصيص كما لا يخفى ، فتدبر * ، * ـ لم أجد موردا خاصا لهذه التعليقة ، والظاهر أنها والتعليقة الآتية تردان على مورد واحد ( المصحح ) .
(2) أقول : لا قصور في أخذ العموم في طرف المفهوم والحكم بعدم وجوب التبين في خبر العادل مطلقا ، غاية الأمر بشرط ضم خبر آخر إليه في باب الارتداد الداخل في العموم جزما ، ومجرد أخذ شرط في بعض أفراد العام لا يوجب تخصيصه أو تقييده بغير هذا الفرد ولا اختصاصه بخصوصية لا يشمل العام خبر الارتداد ، كما هو ظاهر .