أحد (1) وأفاد فيه من الدقايق العلمية ما كانت الأفهام قاصرة عن إدراكه كما سيتضح لك ذلك ( إن شاء الله تعالى ) فشكر الله مساعيه وجزاه عن العلم وأهله خيرا .
وعلى كل حال : دليل الانسداد يتألف من مقدمات أربع .
وقيل : إنها خمس ، بجعل العلم بالتكاليف من جملة المقدمات . والشيخ ( قدس سره ) أسقط هذه المقدمات نظرا إلى أن المراد من العلم بثبوت التكاليف ، إن كان هو العلم بثبوت الشريعة وعدم نسخ أحكامها فهذا من البديهيات التي لا ينبغي عدها من المقدمات ، فان العلم بذلك كالعلم بأصل وجود الشارع .
وإن كان المراد من العلم بثبوت التكاليف العلم الإجمالي بثبوتها في الوقايع المشتبهة التي لا يجوز إهمالها ، فهو أيضا ليس من مقدمات دليل الانسداد ، بل هو من أحد الوجوه الثلاثة التي تبتنى عليها المقدمة الثانية ( على ما سيأتي بيانه ) فالأولى الاقتصار على ما ذكره الشيخ ( قدس سره ) من المقدمات الأربع .
الأولى : انسداد باب العلم والعلمي في معظم الفقه .
وهي عمدة المقدمات ، حتى حكى عن بعض المتقدمين الاكتفاء بها في استنتاج حجية مطلق الظن ، والمقدمات الآخر أضافها المتأخرون .
الثانية : عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة وترك التعرض لها بالرجوع إلى البراءة في جميع موارد الشك في التكليف .
(1) أقول : بعد التأمل فيما أفيد لم أجد فيه إلا دعوى إجماع في باب الانسداد الذي خرب أساس القوم ، وصار منشأ لتوهم تأسيس جديد في هذا الباب ، ولكن لو تأملت في كلماتهم ترى بأن لمثل هذا الإجماع ليس عين ولا أثر ، وسيمر عليك أيضا سر كلماتنا في محل استنتاجه من مقدماته ( إن شاء الله تعالى ) ولقد فصلنا الكلام أيضا في شرح مرامه في الحاشية الآتية .
فوائد الأصول ـ 227 ـ
الثالثة : بطلان الرجوع إلى الطرق المقررة للجاهل بالأحكام : من الاحتياط في جميع الوقايع المشتبهة ، أو الرجوع إلى الأصل الجاري في كل مسألة : من البراءة والاستصحاب والتخيير والاحتياط أو التقليد والرجوع إلى فتوى الغير .
الرابعة : قبح ترجيح المرجوح على الراجح والأخذ بالموهومات والمشكوكات وترك المظنونات .
وهذه المقدمات الأربع إذا تمت وسلمت عن الإشكال تكون نتيجتها حجية الظن المطلق أو في الجملة ( على ما سيأتي توضيحه ) فلا بد من التعرض لكن مقدمة بالخصوص وإثباتها بما يمكن الاستدلال به لها (1) .
(1) أقول : : ملخص ما أفاد في إتمام المقدمات بعد ما نظرنا إليه بطوله وتفصيله : أنه بعد إتمام المقدمة الأولى ـ على الفرض ـ وكذلك المقدمة الثانية : من بطلان الخروج من الدين بترك التعرض للأحكام ، عمدة ما أفاد من النكتة الجديدة التي لم يسبقه إليها أحد باعترافه ( ومنه استنتج الكشف وحجية الظن شرعا وبه رفض مسلك الحكومة في باب الانسداد وكذلك مسلك التبعيض في الاحتياط ) هو ما أفاده في وجه بطلان الاحتياط ـ الذي هو المقدمة الثالثة ـ بعد بطلان سائر الطرق المقررة للجاهل : من الأصول المثبتة والتقليد وغيرها بجهات أخرى : من دعوى الإجماع على عدم البناء في الشريعة على الاكتفاء في امتثال الأحكام بصرف احتماله ، بل لابد وأن يأتي بعنوان وجوبه فعلا أو تركا ، وبهذا الإجماع التجأ إلى كشف طريق شرعي ، وعين هذا الطريق بالظن بمقتضى المقدمة الرابعة .
ولعمري ! ان مثل هذا الإجماع لم يسبقه إليه أحد ، وصدق في أن الأفهام قاصرة عن دركه ، والذي نطقت به كلماتهم هو الإجماع على عدم لزوم الاحتياط وبطلانه .
وأما وجه البطلان هو قيام الإجماع المزبور أو وجه البطلان عدم منجزية العلم وعدم اقتضائه الاحتياط ولو تبعيضا فضلا عن الاحتياط التام ؟ فيه إشكال ، كيف ويحتمل أن يكون مرجع الإجماع المزبور إلى إطباقهم على عدم وجود مثبتية العلم الإجمالي أو عدم منجزيته ، ومن مثله يستكشف وجود مرجع آخر للمكلف ومثبت للتكاليف غير علمه الإجمالي بمقدار الكفاية الموجب لانحلال علمه ـ كما هو المستفاد من بطلان الخروج من الدين ـ ولو فرض عدم علم إجمالي أو عدم منجزيته رأسا ، إذ من مثل هذا الإجماع التقديري يستكشف وجود مرجع آخر غير العلم ، ولازمه قهرا انحلال العلم الإجمالي وسقوط اقتضائه الاحتياط تماما أو تبعيضا .
فوائد الأصول ـ 228 ـ
أما المقدمة الأولى : فهي بالنسبة إلى انسداد باب العلم الوجداني مسلمة لا يمكن الخدشة فيها ، بداهة أن ما يوجب العلم الوجداني التفصيلي بالحكم من الخبر النص المتواتر أو المحفوف بالقرائن القطعية ظهورا وصدورا مع ساير ما يتوقف عليه الاستنباط لا يفي بأقل قليل من الأحكام الشرعية ، وذلك مما يصدقه كل مجتهد يخوض في الاستنباط .
وأما بالنسبة إلى انسداد باب العلمي فللمنع عنه مجال واسع ، فان ما تقدم من الأدلة الدالة على حجية الخبر الموثوق به ظهورا وصدورا ـ سواء حصل الوثوق به من وثاقة الراوي أو من ساير الأمارات الاخر ـ مما لا سبيل إلى الخدشة فيه ، بل ينبغي عدها من الأدلة القطعية ، ومعها لا يبقى مجال لدعوى انسداد باب العلمي في معظم الفقه ، لأن الخبر الموثوق به ( بحمد الله ) واف بمعظم الأحكام ، بحيث لم يلزم من الرجوع إلى الأصول العملية في الشبهات التي لم يكن على طبقها خبر موثوق به محذور الخروج من الدين أو مخالفة العلم .
وحينئذ نقول : إن هذا المقدار من إبطال الاحتياط إنما يقتضي كشف الجعل الشرعي لو لم يكن للعقل حكم بمرجعية شيء في البين الموجب لتعرض الأحكام به ( المتعين بمقتضى المقدمة الرابعة في الظن ) وإلا فلا يكاد ينتهى النوبة إلى كشف الجعل الشرعي ، لاحتمال إيكال الشرع في مقام حكمه بتعرض الأحكام إلى مثل هذا الحكم العقلي ، ومع هذا الاحتمال لا يبقى مجال لكشف جعل من الشارع أصلا .
وبالله عليك ! أن تتأمل في وجه الإجماع المدعى لإبطال الاحتياط بأنه هو الذي أفاده أو الذي نحن ذكرنا ، ولا أقل من احتمال أن يكون وجه قيام الإجماع على بطلان الاحتياط رأسا حتى تبعيضا ما ذكرنا ، لا ما أفاده .
نعم : الذي مسلم عندنا وعنده قيام الإجماع على بطلان الاحتياط في الشريعة ولو تبعيضا .
ولكن تمام الكلام في أن وجه هذا الإجماع رفض العلم الإجمالي عن المنجزية رأسا ـ ولو بالانحلال الذي نحن قربناه ـ أو وجهه لزوم تعرض المشتبهات بعنوان وجوبه فعلا أو تركا ، ومن اختلاف الوجهين يختلف النتيجة من حيث الكشف والحكومة بالتقريب المتقدم .
فنحن ندعي : أنه من المحتمل أن يكون وجه الإجماع المسلم هو الذي ذكرنا ، إذ هو المتيقن ، ومع هذا الاحتمال لا يبقى محل لإثبات المقرر ما ادعى من الإجماع في كلامه ولو اجتمع معه الثقلان ! ومع عدم إثباته تبطل الفوائد الكثيرة والنكات الجميلة التي لم يسبق إليها أحد ، كي يستحق شكرا ، بل لك أن تسمع ما ذكرنا وتكون من الشاكرين .
فوائد الأصول ـ 229 ـ
الإجمالي وغير ذلك من المحاذير الآتية .
ومن هنا يظهر : أن البحث عن دليل الانسداد ـ على طوله وكثرة مباحثه ـ قليل الفائدة لا يترتب عليه أثر مهم ، لفساد أساسه وهو انسداد باب العلمي .
نعم : لو قلنا بمقالة المحقق القمي (ره) من أن ( اعتبار الظهورات مقصور بمن قصد إفهامه من الكلام ) وأغمضنا عما تقدم من الإشكال في ذلك ، أو قلنا : إن أقصى ما تقتضيه الأدلة المتقدمة إنما هو حجية الخبر الصحيح الأعلائي عند المتأخرين ـ وهو ما كان جميع سلسلة سنده من الإمامية مع تعديل كل من الرواة بعدلين في جميع الطبقات ـ كان لدليل الانسداد مجال ، بل مما لا بد منه ، بداهة أن الخبر الصحيح الأعلائي بهذه الأوصاف ـ كالخبر المتواتر والمحفوف بالقرائن القطعية ـ أقل لا يفي بمعظم الفقه .
ولكن الأدلة المتقدمة تدل على اعتبار ما هو أوسع من ذلك ، وهو مطلق الخبر الموثوق به ـ كما تقدم تفصيله ـ ومعه لا تصل النوبة إلى دليل الانسداد لاستنتاج حجية مطلق الظن .
ومن الغريب : ما حكى عن المحقق القمي ( قدس سره ) في هذا المقام من أن ( حجية ظواهر الكتاب وأخبار الآحاد سندا وظهورا إنما هو لأجل إفادتها الظن ، لا لخصوصية فيها ) وعلى ذلك بنى حجية مطلق الظن مع اعترافه بأنه لو كان حجية ظواهر الكتاب والأخبار لخصوصية فيها تقتضي ذلك كان الواجب الاقتصار عليها وعدم التعدي عنها إلى مطلق الظن لأنها تفي بمعظم الفقه ولكن من المحتمل أن تكون حجيتها لأجل إفادتها الظن فيجوز التعدي عنها إلى كل ما يفيد الظن .
وقد أطال النقض والإبرام في ذلك ، وزاد في قوله ( إن قلت قلت ) على ما يبلغ العشرين .
وقد تبعه في ذلك بعض من تأخر عنه حتى حكى : أنه صنف بعض المتأخرين رسالة عدم الخصوصية في ظواهر الكتاب والأخبار ، بل كان
فوائد الأصول ـ 230 ـ
حجيتها لأجل كونها تفيد الظن بالحكم الشرعي .
وأنت خبير بما فيه ، فان مجرد احتمال أن يكون اعتبار ظواهر الكتاب والأخبار لأجل إفادتها الظن لا يقتضي التعدي عنها إلى مطلق الظن ، فان اعتبار مطلق الظن يتوقف على جريان مقدمات الانسداد ، وإذا احتمل أن يكون اعتبار ظواهر الكتاب والأخبار لخصوصية فيها حينئذ لا تجري مقدمات الانسداد مع الاعتراف بكونها وافية بمعظم الفقه ، فإنها تكون متيقنة الاعتبار ، فلا تصل النوبة إلى دليل الانسداد ، مع أنه لو بنينا على أن أدلة حجية الظواهر والأخبار إنما تدل على حجيتها من أجل كونها تفيد الظن بالحكم الشرعي لا لخصوصية فيها ـ ولو لأجل تنقيح المناط القطعي ـ فأقصاه أن يكون الظن المطلق مما قام الدليل بالخصوص على اعتباره ، فيكون حال الظن المطلق حال الظن الخاص الذي قام الدليل الخاص على اعتباره ، فلا تصل النوبة إلى دليل الانسداد .
فظهر : أنه إنما تمس الحاجة إلى دليل الانسداد إذا منعنا عن حجية ظواهر الكتاب والأخبار بالخصوص ، وقد عرفت : أنه لا سبيل إلى المنع عن ذلك ، فدليل الانسداد فاسد من أصله . هذا كله في المقدمة الأولى .
وأما المقدمة الثانية : ( وهي عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة وترك التعرض لها والاعتماد على البراءة الأصلية ) فالظاهر : أن تكون ضرورية .
وقد استدل عليها بوجوه ثلاثة :
الأول ، الإجماع القطعي على عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة عند انسداد باب العلم والعلمي والرجوع إلى البراءة وأصالة العدم في جميع الموارد المشتبهة (1) والإجماع المدعى في المقام وإن لم يكن من الإجماع المحصل الفعلي ،
(1) أقول : يمكن منع جعل هذا الإجماع مدركا مستقلا في قبال محذور الخروج من الدين ، لاحتمال كون نظر المجمعين إلى هذا المحذور ، ومع هذا الاحتمال لا يبقى مجال الحدس من هذا الاتفاق برأي المعصوم ، كما هو .
فوائد الأصول ـ 231 ـ
فان المسألة لم تكن معنونة عند العلماء أجمع ولم يقع البحث عنها في قديم الزمان عند أرباب الفتوى ، إلا أنه يكفي الإجماع التقديري ، فإنه رب مسألة لم يقع البحث عنها في كلمات الأصحاب ، إلا أنه مما يعلم إجماعهم واتفاقهم عليها ، فإنه لا يكاد يمكن إسناد جواز الاعتماد على أصالة العدم وطرح جميع الأحكام في الوقايع المشتبهة إلى أحد من أصاغر الطلبة فضلا عن أرباب الفتوى .
الثاني : انه يلزم من الرجوع إلى البراءة وأصالة العدم في الوقايع المشتبهة الخروج عن الدين ، لقلة الأحكام المعلومة بالتفصيل ، فالاقتصار عليها وترك التعرض للوقايع المشتبهة وإهمالها يوجب المخالفة الكثيرة القطعية ، بحيث يعد المقتصر على امتثال المعلومات خارجا عن الدين وكأنه غير ملتزم بشريعة سيد المرسلين ( صلى الله عليه وآله ) وهذا بنفسه محذور يعلم أنه مرغوب عنه شرعا ، وإن لم نقل بأن العلم الإجمالي منجز للتكليف ـ كما هو مبنى الوجه الثالث ـ فان المخالفة القطعية الكثيرة والخروج عن الدين بنفسه مما يقطع بكونه مرغوبا عنه عند الشارع ومخالف لضرورة الدين والشريعة ، ويكفيك شاهدا على ذلك ملاحظة كلمات الأعلام كالسيد والشيخ ( قدس سرهما ) وغيرهما ، فراجع ( الفرائد ) .
الثالث : العلم الإجمالي بثبوت التكاليف الوجوبية والتحريمية في الوقايع المشتبهة (1) والعلم الإجمالي كالعلم التفصيلي يقتضي وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية ، فلا تجرى الأصول النافية للتكليف في أطرافه ،
الشأن في كثير من الإجماعات المحتمل كون مدركهم وجها من الوجوه الجارية في المسألة ، كما لا يخفى .
(1) أقول : بعد ثبوت محذور الخروج عن الدين وان لم يكن علم إجمالي في البين أو قلنا بعدم منجزيته رأسا ، فلا محيص من كشف مرجع في إثبات التكاليف الواقعية بالمقدار الوافي ، ومع ذلك غير خفى بأنه لا يبقى مجال لمناط منجزية العلم الإجمالي ، لانحلاله ، وحينئذ لا يمكن الجمع بين هذا الوجه وسابقه ، لكمال التضاد بينهما ، كما لا يخفى .
فوائد الأصول ـ 232 ـ
والفرق بين هذا الوجه والوجه الثاني مما لا يكاد يخفى ، فان مبنى الوجه الثاني هو لزوم المخالفة الكثيرة المعبر عنها بالخروج عن الدين ، وذلك بنفسه محذور مستقل حتى على مسلك من يقول : إن العلم الإجمالي لا يقتضي التنجيز ولا يستدعي الموافقة القطعية بل يجوز المخالفة القطعية ، كما ذهب إليه بعض الأعلام .
وهذا بخلاف الوجه الثالث ، فإنه مبنى على منجزية العلم الإجمالي وعدم جريان الأصول النافية في أطرافه ولو كان المعلوم بالإجمال تكليفا واحدا تردد بين أمور محصورة بحيث لم يلزم من مخالفته إلا مخالفة تكليف واحد لا مخالفة تكاليف كثيرة ، كما هو مبنى الوجه الثاني .
والإنصاف : أن الوجوه الثلاثة ـ التي استدلوا بها على المقدمة الثانية من مقدمات دليل الانسداد ـ في غاية الصحة والمثابة غير قابلة للخدشة فيها .
وينبغي أن يعلم اختلاف هذه الوجوه الثلاثة في مدرك المقدمة الثانية هو الذي يوجب اختلاف النتيجة من حيث الكشف والحكومة ، فإنه لو كان المستند في بطلان إهمال الوقايع المشتبهة والرجوع إلى الأصول العدمية هو الوجه الأول والثاني كانت النتيجة الكشف لا محالة (1) فإن مرجع الإجماع أو
(1) أقول : بعد الجزم بعدم الاكتفاء في امتثال الأحكام بأقل قليل إجماعا أو لمحذور عدم صدق التدين بهذا الدين ، فلو فرض عدم جعل من قبل الشارع ، فلا شبهة في أن العقل ملزم باتخاذ طريق في امتثال الأحكام بمقدار الخروج عن المحذور .
وتوهم : انه لولا تصرف من الشارع كان العقل مجوزا لتعطيل الدين والخروج عنه بالسكون وعدم التعرض للوقايع المشكوكة ـ خارج عن الوجدان السليم والذوق المستقيم ، وحينئذ فمع هذا الحكم العقلي لا يبقى طريق لاستكشاف جعل شرعي في البين . ومجرد عدم حكم العقل بشيء في واقعة مشكوكة أو أزيد لا يكون شاهد منع حكم العقل حتى في صورة لزوم محذور الخروج عن الدين ، وحينئذ عمدة وجه الاستكشاف للجعل الشرعي منع احتمال ايكال الشارع في رفع هذا المحذور إلى مثل هذا الحكم العقلي ، وإلا فمنع أصل حكمه حتى مع عدم تصرف شرعي يكذبه الوجدان السليم ، وحينئذ اثبات منع الإتكال دونه خرط القتاد ، وهو عمدة مدرك القائل بالحكومة في قبال الكشف .
هذا كله ، مع أنه على فرض لزوم جعل من الشارع وعدم اتكاله إلى حكم العقل من المحتمل كون المجعول طريقا إلى إحراز الدين ايجاب الاحتياط بلا عناية تتميم الكشف ، غاية الأمر بضم بقية المقدمات يتعين دائرة .
فوائد الأصول ـ 233 ـ
لزوم الخروج عن الدين إلى أن الشارع أراد من العباد التعرض للوقايع المشتبهة ولم يرخص لهم إهمالها ، فالعقل يحكم حكما ضروريا بأنه لابد للشارع من نصب طريق للعباد ليتمكنوا من امتثال التكاليف الثابتة في الوقايع المشتبهة ، ولابد وأن يكون الطريق المجعول واصلا إلى العباد ، إما بنفسه ، وإما بطريقه ، والطريق الذي يصح جعله في حال انسداد باب العلم والعلمي مع كونه واصلا بنفسه ينحصر بالاحتياط ، فإنه الطريق الواصل بنفسه لكونه محرزا للواقع وموصلا إليه فعلى هذا يكون الاحتياط في الوقايع المشتبهة طريقا مجعولا شرعيا ، نظير الاحتياط في باب الدماء والفروج . وليس من الاحتياط العقلي ، فان الاحتياط العقلي هو الذي يحكم به العقل في أطراف العلم الإجمالي ، ومحل الكلام إنما هو فيما إذا كان المدرك لعدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة الإجماع أو الخروج عن الدين ، لا العلم الإجمالي ، وليس للعقل الحكم بالاحتياط في غير العلم الإجمالي ، وإلا يلزم أن يكون احتمال التكليف في نظر العقل منجزا للواقع ليحكم بالاحتياط في الوقايع المشتبهة مع قطع النظر عن ثبوت العلم الإجمالي فيها ، وهو كما ترى ! فان مجرد احتمال التكليف لا يكون منجزا عند العقل مع انسداد باب العلم به على المكلف .
وبالجملة : لا إشكال في أن الاحتياط يكون طريقا مجعولا شرعيا إذا كان المستند في المقدمة الثانية هو الإجماع أو الخروج عن الدين ، فإنه لا طريق
ايجاب الاحتياط المزبور في دائرة الظنون ، وهو الذي سلك به ( استاذنا العلامة ) في كفايته ، وذلك أيضا غير قضية كشف طريقية الظن ، بمعنى وسطيته باصطلاحه ، فتدبر .
وبالجملة نقول : إن النوبة لا تصل إلى كشف جعل شرعي احتياطا أو طريقا جعليا ، إلا بعد منع حكم العقل لولا الجعل ، أو منع اتكال الشارع به .
والأول : خلاف الإنصاف ، والثاني : يجديه احتمال الإتكال .
ولا يمنع هذا الاحتمال إلا دعوى الإجماع الآتي : من أن الشارع أراد امتثال التكاليف في كل مورد بعنوان وجوبه شرعا وحرمته ، فان تم هذا الإجماع فمرجعه إلى الإجماع على عدم اتكال الشارع في رفع محذور الخروج عن الدين إلى حكم العقل ، ولازمه حينئذ هو الكشف ، ولكن دون إثباته خرط القتاد ، كيف ! ولا يناسب مثل هذا الإجماع مع اشتهار الحكومة العقلية عند أرباب الانسداد ، فتدبر تعرف .
فوائد الأصول ـ 234 ـ
واصلا إلى العباد غيره ، والمفروض أنه لابد للشارع من نصب طريق للعباد يتوصلون به إلى امتثال التكاليف التي لم يرض بإهمالها .
ولا يمكن ايكال الأمر إلى العقل ، لما عرفت : من أنه ليس للعقل حكم في غير موارد العلم الإجمالي (1) .
ثم بعد إثبات بطلان طريقية الاحتياط وأن الشارع لم ينصبه طريقا (2) ـ بأحد الوجوه الآتية في المقدمة الثالثة ـ تكون النتيجة حجية الظن شرعا ، وهي معنى الكشف ، فإنه حينئذ لا طريق غيره يصح للشارع عليه ، فيكون الظن طريقا شرعيا واصلا بطريقه لا بنفسه ، على ما سيأتي بيانه ( إن شاء الله تعالى ) هذا إذا كان المدرك في المقدمة الثانية الإجماع أو الخروج عن الدين .
وإن كان المدرك هو العلم الإجمالي ، فيمكن أن تكون النتيجة الكشف ، ويمكن أن تكون النتيجة التبعيض في الاحتياط ، كما سيتضح وجه ذلك ( إن شاء الله تعالى ) والغرض في المقام مجرد الإشارة إلى أن أساس الكشف والحكومة هو اختلاف الوجوه الثلاثة التي تبتنى عليها المقدمة الثانية ، فتفطن .
وأما المقدمة الثالثة : وهي عدم جواز الرجوع إلى الطرق المقررة للجاهل ، فقد عرفت أنها ثلاثة ـ الأولى : التقليد والرجوع إلى فتوى الغير العالم بالحكم .
الثانية : الرجوع في كل شبهة إلى الأصل الجاري فيها : من البراءة والاشتغال والتخيير والاستصحاب .
لثالثة : الاحتياط في الوقايع المشتبهة بالجمع بين جميع المحتملات . ولابد من إثبات بطلان كل من هذه الطرق .
(1) أقول : كيف يمن إنكاره في مثل هذا المقام المعلوم فيه شدة الاهتمام حتى في ظرف عدم تصرف من الشارع . ولا يقاس المورد بالوقايع المشتبهة القليلة التي لا يلازم تعطيلها للخروج عن الدين ، لعدم إحراز الاهتمام فيها ، كما هو ظاهر وأشرنا إليه .
(2) أقول : قد أشرنا بأن ما هو باطل إنما هو الاحتياط الكلي ، وأما ايجاب الاحتياط في الجملة بنحو يتعين في دائرة الظنون فلا وجه لمنعه ، ومع هذا الاحتمال أيضا لا يبقى مجال كشف حجية الظن بمعنى وسطيته كما أشرنا إليه آنفا ، فتدبر .
فوائد الأصول ـ 235 ـ
الثلاثة في المقام ، لتصل النوبة إلى المقدمة الرابعة .
أما بطلان التقليد : فواضح ، فإنه يشترط في جواز رجوع الجاهل إلى العالم أن لا يكون الجاهل معتقدا بطلان مدرك علم العالم ولا يرى علمه جهلا ، وإلا كان من رجوع العالم إلى الجاهل ، لا رجوع الجاهل إلى العالم ، ففي المقام من يرى انسداد باب العلم والعلمي لا يجوز له الرجوع إلى من يرى انفتاح بابهما ، لأن من يرى انفتاح باب العلمي يعتقد حجية ظواهر الكتاب والأخبار صدورا وظهورا ، ومن يرى انسداد بابه يعتقد عدم حجية ذلك وعدم دلالة الأدلة التي استدل بها على الحجية ، ومع هذا كيف يجوز له عقلا الرجوع إلى الغير القائل بالانفتاح ؟ فالتقليد في المقام فاسد من أصله .
وأما بطلان الرجوع في كل مسألة إلى الأصل الجاري فيها : فبالنسبة إلى الأصول العدمية النافية للتكليف واضح ، لأنه يلزم من إعمالها المخالفة القطعية ، للعلم بثبوت التكاليف في مواردها .
ولا سبيل إلى دعوى عدم العلم بالتكليف في جميع موارد الأصول النافية .
وأما بالنسبة إلى الأصول الوجودية المثبتة للتكليف : من الاحتياط ( إذا كانت المسألة من أطراف العلم الإجمالي الشخصي المتعلق بها بخصوصها مع قطع النظر عن كونها من أطراف العلم الإجمالي الكلي المتعلق بأحكام الشريعة ) ومن الاستصحاب المثبت للتكليف ( إذا لم تكن المسألة من أطراف العلم الإجمالي ) فقد أفاد الشيخ ( قدس سره ) في وجه بطلان الرجوع إليها : أنه يلزم من إعمالها العسر والحرج المنفيين لكثرة المشتبهات .
والإنصاف : أن دعوى العسر والحرج بالنسبة إلى الاحتياط التام في جميع الوقايع المشتبهة في محلها ، وسيأتي الكلام فيه .
وأما بالنسبة إلى الاحتياط في بعض الموارد مما يقتضيه نفس المورد ـ من حيث كونه من أطراف العلم الإجمالي الشخصي ـ وكذا الاستصحاب الجاري في المورد الذي علم التكليف به سابقا : فليسا بمثابة يلزم من الرجوع إليهما العسر
فوائد الأصول ـ 236 ـ
والحرج ، لقلة مواردهما .
نعم : لا يبعد ذلك في خصوص المعاملات ، فإن الاستصحاب فيها يقتضي الفساد ، فالرجوع فيها إلى الاستصحاب قد يفضى إلى العسر والحرج ، فتأمل جيدا .
ولكن صحة الرجوع إلى الاحتياط في موارد العلم الإجمالي الشخصي والاستصحابات المثبتة للتكليف لا يغني عن شيء ، لأنها لا تفي بأقل قليل من الأحكام المعلومة بالإجمال في الشريعة ، مضافا إلى العلم الإجمالي بانتفاض الحالة السابقة في بعض موارد الاستصحابات ، وقد تقدم ( في مبحث القطع ) أن الأصول المحرزة لا تجري في أطراف العلم الإجمالي ولو لم يستلزم منها المخالفة العملية (1) .
ومن ذلك يظهر الخلل فيما أفاده المحقق الخراساني ( قدس سره ) في المقام : من دعوى انحلال العلم الإجمالي بالأحكام الثابتة في الشريعة ببركة جريان الأصول المثبتة بضميمة ما علم تفصيلا من الأحكام .
والإنصاف : أن دعوى انحلال العلم الإجمالي المتعلق بأحكام الشريعة بهذا المقدار من الأصول المثبتة والمعلومات التفصيلية بمكان من الغرابة ، عهدتها على مدعيها ، وكيف يمكن ذلك مع كثرة الأحكام في الشريعة وقلة موارد الأصول المثبتة والمعلومات التفصيلية ؟ .
وأغرب من هذه الدعوى ما أفاده قبل ذلك بأسطر : من أن العلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة في بعض مؤديات الأصول المثبتة لا يمنع عن جريانها في خصوص المقام ولو بنينا على عدم جريانها مع العلم بانتقاض الحالة السابقة في بعض أطراف العلم الإجمالي في ساير المقامات لاستلزام شمول الدين لها التناقض في مدلوله فان حرمة نقض اليقين بالشك في كل واحد من الأطراف بمقتضى قوله ـ عليه السلام ـ في الصدر : ( لا تنقض اليقين
(1) أقول : قد تقدم فساده ، فراجع .
فوائد الأصول ـ 237 ـ
بالشك ) يناقض وجوب النقض في البعض بمقتضى قوله ـ عليه السلام ـ في الذيل : ( ولكن تنقضه بيقين آخر ) لأن تناقض الصدر والذيل إنما يلزم إذا كان اليقين والشك في جميع الأطراف فعليا ملتفتا إليه ، وأما إذا لم يكن الشك الفعلي إلا في بعض الأطراف وكان الطرف الآخر غير ملتفت إليه ، فالاستصحاب إنما يجرى في خصوص الطرف الملتفت إليه الذي يكون الشك فيه فعليا ، ولا يجرى في الطرف الآخر في ظرف جريانه في ذلك الطرف ، لانتفاء شرطه ـ وهو الشك الفعلي ـ وإذا وصلت النوبة إلى جريان الاستصحاب فيه بعد وجود شرطه وحصول الشك الفعلي فيه يكون ذلك الطرف الذي جرى فيه الاستصحاب سابقا خارجا عن محل الابتلاء ، فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه أيضا ، غايته أنه بعد ذلك يعلم أن أحد الاستصحابين كان مؤداه مخالفا للواقع ، ولا ضير في ذلك بعد ما لم يكن هذا العلم حاصلا في طرف جريان الاستصحاب ، والاستصحابات التي يعملها المجتهد في مقام الاستنباط تكون من هذا القبيل ، فان استنباط الأحكام إنما يكون على التدريج وليس جميع موارد الاستصحابات ملتفتا إليها دفعة ليكون الشك فيها فعليا ، بل الالتفات والشك يكون تدريجيا حسب تدريجية الاستنباط ، فلا يجري الاستصحاب في جميع أطراف الشبهة دفعة واحدة ليكون العلم بانتقاض الحالة السابقة في بعضها مانعا عن جريانه ، بل أقصاه حصول العلم بعد تمامية الاستنباط في أبواب الفقه بمخالفة بعض الاستصحابات التي أعملها في مقام الاستنباط للواقع ، وقد عرفت : أن هذا العلم لا يضر بصحة الاستصحابات ، هذا حاصل ما أفاده ( قدس سره ) بتوضيح منا .
وأنت خبير بما فيه ، فان كل مجتهد قبل خوضه الاستنباط يعلم بأن الأحكام الشرعية المترتبة على موضوعاتها المقدرة وجوداتها قد تنتفي بعض خصوصيات الموضوع عند تحققه خارجا الموجب للشك في بقاء الحكم ، وأن الوظيفة عند ذلك هي استصحاب بقاء الحكم ، ويعلم أيضا بانتقاض الحالة
فوائد الأصول ـ 238 ـ
السابقة في بعض الموارد التي يجرى فيها استصحاب بقاء الحكم ، وإنكار حصول العلم بذلك للمجتهد قبل خوضه في الاستنباط مكابرة واضحة ، والعلم بانتقاض الحالة السابقة في بعض الاستصحابات يمنع عن جريان الاستصحاب في كل شبهة في موطنه ، وعدم فعلية الشك في جميع الموارد لعدم الالتفات إليها تفصيلا قبل الاستنباط لا يوجب عدم حصول العلم قبل الاستنباط بمخالفة بعض مؤديات الاستصحاب للواقع في موطن الاستنباط مع كون المسائل التي يخوض فيها للاستنباط مما تعم بها البلوى ولو بالنسبة إلى بعض المقلدين : ومع هذا كيف يصح للمجتهد الافتاء بمقتضى الاستصحابات والحال أنه يعلم بالخلاف ولو في بعضها ؟ .
والحاصل : أن فعلية الشك في كل شبهة وإن كانت شرطا لجريان الاستصحاب فيها ، وهي تتوقف على الالتفات إلى الشبهة ، إلا أن المفروض حصول العلم بفساد بعض الاستصحابات قبل وصول النوبة إلى جريانه في موطنه ، وهذا العلم هو المانع عن جريان كل استصحاب في موطنه (1) .
فالتحقيق : أنه لا يجوز الرجوع في كل شبهة إلى الأصل الجاري فيها مع قطع النظر عن انضمام ساير الشبهات إليها لا إلى الأصول النافية ولا إلى الأصول المثبتة ، أما الأصول النافية : فللعلم بثبوت التكليف في موردها ، فيلزم
(1) أقول : حصول العلم بالانتقاض في زمان مع عدم بقائه في زمان آخر كيف يجدى في منع جريان الأصل في الزمان الآخر ؟ بل المانع عن الجريان هو العلم بالانتقاض في زمان الابتلاء باجراء الأصل ، لا قبله ولا بعده ، وحينئذ فمع غفلة المجرى للاستصحاب في مورد عن الشك بالبقاء في مورد آخر كيف يعلم حين إجرائه الأصل بانتقاض أحد الأصلين ؟ ولو علم به قبله ، إذ بمحض الغفلة المزبورة يرتفع العلم السابق ، ومع انعدامه كيف يصلح أن يكون مانعا عن جريان الأصل فعلا ؟ فتدبر فيما أفيد .
كيف ! ولم يلتزم أحد بمانعية العلم السابق ، حتى لو فرض سريان الشك إليه حال جريان الأصل ، إذ لا يتوهم ذلك ذو مسكة ، وحينئذ لنا سؤال الفرق بين انعدام العلم السابق بسريان الشك إليه لاحقا ، أو بغفلته عن الشك الآخر الموجب للغفلة عن أصله الذي هو طرف علمه ، إذ بمثل هذه الغفلة أيضا يرتفع العلم السابق جزما .
فوائد الأصول ـ 239 ـ
من جريانها المخالفة القطعية للتكليف .
وأما الأصول المثبتة : فلقلتها وعدم كفايتها لأحكام الشريعة ولو مع ضم المعلومات التفصيلية إليها ، مضافا إلى العلم بانتقاض الحالة السابقة في بعض مواردها .
وأما بطلان الاحتياط التام في جميع الوقايع المشتبهة : فيدل عليه الإجماع وقاعدة ( نفي العسر والحرج ) بل ( اختلال النظام ) على ما سيأتي بيانه .
ولابد في المقام من زيادة بسط في الكلام ، فان كثيرا من المباحث العلمية المذكورة في دليل الانسداد محلها في هذا المقام .
ولأجل عدم خلط المباحث ينبغي تقديم أمور :
الأمر الأول : قد عرفت أن الاحتياط يختلف حكمه حسب اختلاف الوجوه الثلاثة المتقدمة في الاستدلال على المقدمة الثانية وهي : عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة .
فعلى الوجه الأول والثاني : يكون الاحتياط طريقا مجعولا شرعيا ، فان الإجماع على عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة أو لزوم المخالفة الكثيرة الموجبة للخروج عن الدين يقتضي عقلا جعل الشارع طريقا إلى أحكامه ، فان المفروض انسداد باب العلم والعلمي إلى الأحكام ، فلا يمكن عدم نصب الطريق مع الحكم بعدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة ، ولا يصح ايكال الأمر إلى العقل ، فان العقل لا حكم له في غير مورد العلم بالتكليف تفصيلا أو إجمالا ، والمفروض أنه لا علم بالتكليف تفصيلا ، لانسداد بابه .
والعلم الإجمالي وإن كان حاصلا إلا أن ذلك يرجع إلى الوجه الثالث ، والكلام إنما هو في الوجهين الأولين ، فلابد أولا : من قطع النظر عن العلم الإجمالي وفرض كون جميع الوقايع من الشبهات البدوية ، أو فرض عدم كون العلم الإجمالي منجزا للتكليف ـ كما هو رأى بعض ـ ثم الكلام فيما يقتضيانه الوجهان الأولان .
فوائد الأصول ـ 240 ـ
ولا إشكال أنهما يقتضيان عقلا نصب الشارع طريقا موصلا إلى التكاليف لأن لا يلزم إهمالها ، ولا بد وأن يكون الطريق المنصوب واصلا إلى العباد ، إما بنفسه وإما بطريقه ـ على ما سيأتي المراد من كون الطريق واصلا بطريقه ـ فان الطريق الغير الواصل بنفسه وبطريقه لا يزيد حكمه عن نفس التكاليف التي انسد باب العلم والعلمي بها ، والطريق الواصل بنفسه في حال انسداد باب العلم والعلمي ليس هو إلا الاحتياط (1) فإنه محرز للواقع لما فيه من الجمع بين المحتملات وإدراك الواقعيات .
وليس الظن في عرض الاحتياط ، فإنه لا يعقل أن تكون حجية الظن منجعلة بنفسها في حال من الحالات ، كما في بعض الكلمات ، فان الحجية المنجعلة بنفسها منحصرة بالعلم ، لكونه تاما في الكاشفية ومحرزا للواقع بنفسه ، فالظن لولا التعبد به وتتميم نقص كشفه لا يكون محرزا للواقع ، بخلاف الاحتياط فإنه بنفسه بلا حاجة إلى التماس دليل يكون محرزا للواقع ، فالطريق الواصل بنفسه بلا مؤنة ليس هو إلا الاحتياط (2) وإذا بطل الاحتياط بأحد الوجوه الآتية يتعين عقلا نصب الشارع الظن طريقا ، إذ لا طريق غيره حينئذ .
هذا لو كان الوجه في المقدمة الثانية
(1) أقول : معنى الطريق الواصل بنفسه ما هو معلوم بنفسه طريقيته للمكلف بلا احتياج إلى طريق آخر توصله إلى العباد ، قبال ما هو الواصل بطريقه كالطريق الذي ظن حجيته بظن علم حجية هذا الظن لدى المكلف ، قبال ما لا يكون واصلا إلى المكلف رأسا كالطرق الواقعية المجهولة لدى المكلف ولو تفصيلا بناء على كون المراد من الوصول التفصيلي ، وسيأتي نتيجة هذا التفصيل عند فرض استكشاف الحجة الشرعية تعميما أو إهمالا .
وفى هذه الجهة معنى نصب الشارع طريقا واصلا نصبه طريقا علم بجعله بنفسه بلا توسط طريق آخر ، وفي هذه الجهة لا يتفاوت بين كون المجعول هو ايجاب الاحتياط أو حجية الظن بمعنى الوسطية ، فمن هذه الجهة يكون حجية الظن في عرض ايجاب الاحتياط .
نعم : بينهما تفاوت من جهة أخرى ، وهو أن الاحتياط موصل إلى الواقع بنفسه والظن لا يكون موصلا إليه بنفسه ، وهذه الجهة غير مرتبط بالواصل بنفسه والواصل بطريقه ، قبال غير الواصل رأسا .
(2) أقول : ما هو منحصر بالاحتياط الطريق الموصل بنفسه ، لا الواصل بنفسه ( ببين تفاوت ره از كجا است تا به كجا ! ) .
فوائد الأصول ـ 241 ـ الإجماع أو الخروج عن الدين :
ولو كان الوجه فيها العلم الإجمالي : فالاحتياط يكون هو الأصل من باب حكم العقل بلزومه إرشادا حذرا عن مخالفة التكاليف وتحصيلا لامتثالها . وهذا الحكم العقلي لا يمكن أن يستتبع الحكم الشرعي المولوي لأنه واقع في سلسلة معلولات الأحكام .
لا أقول : إنه لا يمكن للشارع جعل ايجاب الاحتياط طريقا في موارد العلم الإجمالي ، فان اقتضاء العلم الإجمالي للتنجيز عقلا لا يمنع عن جعل الشارع في مورده حكما ظاهريا طريقيا بعنوان الاجتناب عن المحتملات ، إذ العقل إنما يستقل بقبح المخالفة للتكليف المعلوم بالإجمال وأنه لابد من الخروج عن عهدته .
وليس للعقل حكم بوجوب الإتيان بالمحتملات في الشبهات الوجوبية أو حرمة الإتيان بها في الشبهات التحريمية ، فان الحكم بالوجوب والحرمة من وظيفية الشارع ، وليس وظيفة العقل سوى الحكم بلزوم إفراغ الذمة عما اشتغلت به من التكليف ، غايته أن فراغ الذمة عن ذلك يتوقف عقلا على الجمع بين المحتملات فعلا أو تركا ـ حسب اختلاف الشبهات ـ فللشارع جعل حكم ظاهري طريقي بوجوب الإتيان بالمحتمل بما أنه محتمل أو حرمة تركه كذلك (1)
(1) أقول : معنى الحكم الطريقي : هو الايجاب في ظرف المطابقة والترخيص في طرف المخالفة . وإن وجه منجزيته للتكاليف المحتملة أحد الوجهين اللذين ذكرناهما في باب جعل الطرق :
أحدهما : كشف الايجاب المزبور عن اهتمام الشارع تعرضه بنحو لا يرضى بتركه في ظرف الجهل به ، ومثل هذا الاحتمال منجز عقلا وموضوع لحكمه بدفع الضرر المحتمل ، لا قبح العقاب بلا بيان .
وثانيهما : كونه بيانا في ظرف الجهل ، بمعنى ملازمة وجود التكليف الواقع مع بيانه في ظرف الجهل الملازم لاحتمال البيان المستلزم لارتفاع موضوع حكم العقل بقبح العقاب في ظرف الجزم بعدم البيان ، وحينئذ لا مجال للحكم الطريقي إلا مجرد التنجز بلا اقتضائه الجزم بالوجوب لا نفسيا ولا مقدميا ، ولذا لا يكاد ينتج الجزم بالقربة أيضا .
وعليه : فبعد استقلال العقل بمنجزية العلم ، لا يبقى مجال للايجاب الطريقي . نعم : لا بأس بتتميم الكشف ولو من جهة إثماره في الرخصة في إتيان مشكوك الوجوب بعنوان وجوبه الموجب هذا الترخيص لإخراج
فوائد الأصول ـ 242 ـ
ويكون الغرض من ذلك الوصلة إلى التكليف الواقعي ، سواء كان المحتمل من أطراف العلم الإجمالي ، أو كان من الشبهات البدوية ، ك ( باب الدماء والفروج والأموال ) .
ولا يتوهم : أن حكم الشارع بوجوب الاحتياط في موارد استقلال العقل به لغو لا يترتب عليه أثر عملي ، فإنه لو فتحنا باب هذا الإشكال يلزم عدم صحة حكم الشارع بالإباحة الظاهرية في موارد استقلال العقل بالبرائة ، وعدم صحة حكم الشارع بالبناء على بقاء التكليف عند الشك في بقائه في موارد استقلال العقل بالاشتغال .
وحل الإشكال في الجميع ، هو ان وظيفة العقل ليس الحكم بالوجوب أو الحرمة أو الإباحة ، بل وظيفته إدراك الحسن والقبح ، سواء كان إدراكه واقعا في سلسلة علل الأحكام أو في سلسلة معلولاتها ، غايته أنه لو وقع في سلسلة المعلولات لا يصح للشارع جعل حكم مولوي على طبق ما أدركه العقل ، للزوم التسلسل .
وأما جعل حكم آخر مغاير لما أدركه العقل فهو بمكان من الإمكان وإن اتحدا في النتيجة ، والعقل إنما يحكم لزوم الخروج عن عهدة التكليف المعلوم بالإجمال وليس على طبقه حكم مولوي من الشارع ، بل المدعى أن الحكم الشرعي يتعلق بالمحتمل بما أنه محتمل لغرض الوصول إلى التكليف الواقعي ، فدعوى استحالة تعلق الجعل الشرعي بالاحتياط في موارد العلم الإجمالي مما لا ينبغي الإصغاء إليها .
ولكن مجرد صحة الجعل لا يكفي ما لم يقم دليل عليه ، وإلا فنفس العلم الإجمالي لا يقتضي ذلك ، لأن حكم العقل بلزوم الخروج عن عهدة التكاليف المعلومة بالإجمال يكفي في لزوم الاحتياط والجمع بين المحتملات .
المورد عن التشريع ، ولكن ليس ذلك شأن كل حكم طريقي ، ولو بمثل ايجاب الاحتياط وأمثاله العارية عن لسان التنزيل ، فليس شأنها حينئذ إلا التنجيز المعلوم لغويته في ظرف منجزية العلم الإجمالي ، كما لا يخفى .
فوائد الأصول ـ 243 ـ
فلو استندنا في بطلان المقدمة الثانية إلى العلم الإجمالي ومنجزيته للتكاليف المعلومة بالإجمال في الوقايع المشتبهة كان الاحتياط هو الأصل من جهة حكم العقل به إرشادا ، لا من جهة جعل الشارع له طريقا ـ كما هو مقتضى الوجهين الأولين ـ ولأجل اختلاف حكم الاحتياط من حيث حكم العقل به إرشادا أو من حيث جعل الشارع له طريقا تختلف نتيجة مقدمات الانسداد من حيث الكشف والحكومة والتبعيض في الاحتياط ، على ما سيأتي تفصيله .
الأمر الثاني : للاحتياط مراتب ثلاث :
المرتبة الأولى : الاحتياط التام في جميع الوقايع المشتبهة : من مظنوناتها ومشكوكاتها وموهوماتها ، على وجه يقتضي إحراز جميع التكاليف الواقعية على ما هي عليها ، وهذه المرتبة من الاحتياط تخل بالنظام النوعي والشخصي ، لكثرة الوقايع المشتبهة وانتشارها في جميع ما يتوقف عليه النظام : من المعاش والمعاشرة والمحاورة والعقود والايقاعات وغيرها ، ولا إشكال أن التجنب عن جميع ذلك يخل بالنظام .
المرتبة الثانية : الاحتياط الموجب للعسر والحرج من دون أن يستلزم اختلال النظام ، بل مجرد الضيق الذي لا يناسب الملة السهلة السمحة .
المرتبة الثالثة : الاحتياط الذي لا يوجب العسر والحرج ، فإذا كان الحاكم بلزوم الاحتياط في الوقايع المشتبهة هو العقل من جهة اقتضاء العلم الإجمالي ، فبطلان كل مرتبة سابقة يوجب تعين المرتبة اللاحقة ، لأن الضرورات عند العقل تتقدر بقدرها ، فإذا بطل الاحتياط المخل بالنظام ولم يجز العمل به عند العقل تتعين المرتبة الثانية ، وإذا بطلت المرتبة الثانية بأدلة نفي العسر والحرج ـ على ما سيأتي بيانه ـ تتعين المرتبة الثالثة ، فإذا فرضنا أن الاحتياط في جميع الوقايع المشتبهة ـ من المظنونات والمشكوكات والموهومات ـ
فوائد الأصول ـ 244 ـ
يوجب اختلال النظام يتعين الأخذ بالمظنونات والمشكوكات إذا لم يستلزم الاحتياط فيهما ذلك ، وإذا كان الاحتياط فيهما يوجب العسر والحرج وقلنا : إن أدلة العسر والحرج تنفى الاحتياط الموجب لذلك وإن كان الحاكم بالاحتياط هو العقل على الأقوى ـ خلافا لبعض الأعاظم على ما سيأتي بيانه ـ كان اللازم الأخذ بالمظنونات فقط ، أوهى مع بعض المشكوكات على وجه لا يلزم منه العسر والحرج .
والسر في ذلك هو ما عرفت : من أن الضرورات عند العقل تتقدر بقدرها ، ولا يعقل أن يكون بطلان مرتبة موجبا لسقوط ساير المراتب ، وسيأتي مزيد توضيح لذلك في الأمور اللاحقة .
هذا إذا كان الملزم بالاحتياط حكم العقل إرشادا من جهة العلم الإجمالي .
وإن كان الملزم بالاحتياط هو الحكم الشرعي من جهة نصبه طريقا إلى إحراز التكاليف في الوقايع المشتبهة ، فقد عرفت : أن الطريق الواصل بنفسه هو الاحتياط التام في جميع الوقايع المشتبهة (1) فإذا فرضنا بطلان هذا الطريق من جهة استلزامه اختلال النظام ، فتعيين بقية مراتب الاحتياط تحتاج إلى معين آخر ، فإنه من الممكن أن يكون الشارع قد جعل الاحتياط في بعض الوقايع طريقا ، ومن الممكن أيضا أن يكون قد جعل الظن طريقا محرزا .
وإن كان يمكن أن يقال : إن الوجهين الأولين يقتضيان نصب الشارع طريقا واصلا إلى العباد والطريق الواصل بنفسه هو الاحتياط الذي لا يخل بالنظام ، فان الاحتياط المخل بالنظام مما يستقل العقل بقبح نصبه ، ولازم ذلك : هو كون الطريق المنصوب شرعا الاحتياط في الشبهات على وجه لا يلزم منه اختلال النظام ، فيتعين التبعيض في الاحتياط ، إلا ان يقوم إجماع على بطلان التبعيض
(1) أقول : الأولى أن يقال : ويعبر عنه بالطريق الموصل لا الواصل ، وإلا لا اختصاص في الطريق الواصل بالاحتياط ، بل كلما علم بجعله من قبل الشارع فهو الطريق الواصل احتياطا كان أو طريقا ، بمعنى الوسطية في الإثبات بمصطلحه ، كما شرحناه . وحينئذ لا موجب على الشارع من جعل خصوص الاحتياط لمحض كونه بنفسه موصلا ، بل له أن يجعل طريقا آخر بتتميم كشفه وبجعله موصلا قبال الاحتياط ، كما لا يخفى .
فوائد الأصول ـ 245 ـ
في الاحتياط أو على أن بناء الشريعة ليس على الامتثال الاحتمالي ـ على ما سيأتي بيانه ـ حينئذ جعل الظن طريقا .
ومن ذلك يظهر : أن نتيجة مقدمات الانسداد ، إما أن تكون التبعيض في الاحتياط (1) وإما أن تكون حجية الظن ، ولا تصل النوبة إلى الحكومة بمعنى الامتثال الظني ، وسيأتي تفصيل ذلك ، فانتظر .
الأمر الثالث : قد تقدم : أن التعرض للوقايع المشتبهة بعد الفراغ عن عدم جواز إهمالها لابد وأن يكون بأحد الطرق الثلاثة المقررة للجاهل : من التقليد والرجوع في كل شبهة إلى الأصل الجاري فيها والاحتياط في جميع الشبهات .
وقد عرفت : بطلان التقليد والرجوع إلى الأصل الجاري في كل شبهة .
وأما بطلان الاحتياط في جميع الوقايع : فقد استدل عليه بوجهين : الأول : الإجماع على عدم وجوب الاحتياط .
الثاني : استلزامه العسر والحرج ، بل اختلال النظام .
أما الإجماع : فيمكن تقريبه بوجهين :
الأول : الإجماع على عدم وجوب إحراز جميع المحتملات في الوقايع
(1) أقول : تعين التبعيض في ظرف اختلال النظام إنما يتم مع الالتزام بمنجزية العلم الإجمالي ، فمثل هذا الجعل في أحد المحتملات الغير الموجب لاختلال النظام ، إذ لولا منجزية العلم لا يكون مجرد الجعل الواقعي منجزا ، ومنجزية هذا العلم فرع كون عدم إهمال الوقايع والخروج عن الدين مستندا إلى هذا العلم ، بحيث لولاه أو لولا منجزيته يستقل العقل بقبح العقاب .
وأما لو قلنا بأنه لو فرض عدم منجزية هذا العلم أيضا لا يجوز أيضا ترك التعرض لامتثال الأحكام بنحو يوجب محذور الخروج عن الدين ، فلا محيص حينئذ من كشف منجز آخر موجب لانحلال العلم المزبور . وبعد ذلك نقول : إن تعين هذا المنجز أما مسند إلى حكومة العقل أو العلم الإجمالي في المرتبة الثانية ، ولا مجال للأخير ، إذ يجرى الكلام السابق فيه وهلم جرا ، فيتعين الأول من حكومة العقل ، وحينئذ فلا محيص لك من الالتزام بعدم تعطيل العقل عن حكمه ، فلم لا تلتزم به من الأول المانع عن كشف جعل أصلا ؟ فتدبر بعين الدقة .
فوائد الأصول ـ 246 ـ
والجمع بينها بفعل كل ما يحتمل الوجوب وترك كل ما يحتمل الحرمة .
الثاني : الإجماع على أن بناء الشريعة المطهرة ليس على امتثال التكاليف بالاحتمال ، بل بنائها على امتثال كل تكليف بعنوانه : من الوجوب والحرمة ، لا بمعنى اعتبار قصد الوجوب والحرمة ، بل معنى : أن الإتيان بالشيء بما أنه محتمل الوجوب أو محتمل الحرمة أو محتمل الإباحة ـ بحيث يكون الإتيان بمتعلقات التكاليف بعنوان الاحتمال وبرجاء انطباقه على المكلف به ـ أمر مرغوب عنه شرعا ليس بناء الشريعة عليه .
وهذان الوجهان من الإجماع وإن لم يقع التصريح بهما في كلام القوم ، إلا أنه مما يقطع باتفاق الأصحاب عليهما (1) كما مر نظيره في دعوى الإجماع على عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة .
وقد عرفت : أن الإجماع التقديري كالمحصل الفعلي في الاعتبار .
ونتيجة هذين الوجهين من الإجماع تختلف ، فإنه على الوجه الثاني تكون النتيجة حجية الظن شرعا المعبر عنها بالكشف ، من غير فرق بين أن يكون المدرك في المقدمة الثانية ( وهي عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة ) هو الإجماع أو الخروج عن الدين أو العلم الإجمالي ، ولا يمكن أن تكون النتيجة التبعيض في الاحتياط ، كما لا يمكن أن تكون النتيجة الامتثال الظني المعبر عنه بالحكومة ، فان في التبعيض في الاحتياط أيضا يكون الامتثال احتماليا ، والمفروض أن بناء الشريعة ليس على الامتثال الاحتمالي ـ كما هو مفاد الوجه الثاني من تقريب الإجماع على بطلان الاحتياط ـ فوجوب العمل بالمظنونات من الوقايع المشتبهة الذي هو المقصود من دليل الانسداد ليس لأجل التبعيض في
(1) أقول : عمدة الكلام في إثبات هذا الإجماع ، لأنه أول شيء ينكر ، بل غاية ما عليه الإجماع عدم بناء الشريعة على الاحتياط الناشئ من قبل منجزية العلم الإجمالي تماما أو تبعيضا ، لا عدم إتيان مظنون التكليف لكونه مظنونا ومنجزا بهذا الظن ، كيف والقائلين بالحكومة ليس مرامهم إلا هذا ! فكيف يدعى اتفاق الأصحاب على خلافه ؟ ولقد أشرنا إلى ذلك في الحاشية المكتوبة في أول المسألة فذلكة لمرامه .
فوائد الأصول ـ 247 ـ
الاحتياط إذا كان بطلانه في جميع الوقايع من جهة قيام الإجماع على أن بناء الشريعة على الإتيان بكل تكليف بعنوانه ، بل لأجل كشف ذلك عن أن الشارع جعل الظن طريقا محرزا للواقع مثبتا للتكاليف المعلومة بالإجمال .
وليس وجوب العمل بالمظنونات أيضا لأجل حكم العقل بلزوم التنزل إلى الامتثال الظني عند تعذر الامتثال العلمي ، فان الامتثال في الامتثال الظني أيضا يكون بنحو الاحتمال الذي فرضنا أن بناء الشريعة ليس على ذلك .
فالامتثال الظني مما لا يمكن أن يحكم العقل به مع انعقاد الإجماع على وجوب الإتيان بكل تكليف بما هو هو لا بما أنه محتمل ، وإنما يحكم العقل بالامتثال الظني في الشبهات الموضوعية عند تعذر الامتثال العلمي أو تعسره ، كموارد الجهل بالقبلة ، وكتردد الفوائت اليومية بين الأقل والأكثر ، ونحو ذلك من موارد اشتباه المكلف به لأجل الشبهة الموضوعية ، فان العقل يستقل بلزوم الإطاعة والامتثال الظني مع تعذر الامتثال العلمي والإجمالي ، وهذا أجنبي عن المقام ، فان العمل بالمظنونات لا يلازم الظن بامتثال التكاليف المنتشرة في الوقايع المشتبهة ، وسيأتي لذلك مزيد توضيح ( إن شاء الله تعالى ) .
والغرض في المقام مجرد بيان أن قيام الإجماع على الوجه الثاني ، وهو وجوب امتثال التكاليف بعناوينها الخاصة (1) يكشف كشفا قطعيا على أن
(1) أقول : اقتضاء الإجماع على عدم بناء الشرع على الإتيان بمحتمل التكليف بما هو محتمل حجية الظن بلا واسطة شيء مساوق دعوى الإجماع على حجية الظن ، فيخرج حينئذ من نتيجة دليل الانسداد ، فلا محيص من كون هذا الاقتضاء بواسطة ضم بقية المقدمات ، ومرجعه بالأخرة إلى العلم بجعل وسط في البين الموجب لعدم الأخذ بجميع المحتملات ، فيؤخذ بالأقرب بمقتضى المقدمة الرابعة ، وحينئذ لنا أن نقول : إن هذا العلم الإجمالي لولا منجزيته وموصليته لهذا الجعل لما يكون مجرد الوسطية بوجوده الواقعي منجزا للواقع .
وحينئذ لنا أن نقول : أن منجزية هذا العلم فرع كون المدرك لبطلان الخروج عن الدين هذا العلم ، ومع فرض عدمه وكشف منجز آخر خرج هذا العلم عن المنجزية والموصلية ، فتحتاج في تعيين الوسط المجعول وايصاله إلى منجز آخر ، وهذا المنجز أيضا لا يمكن أن يجعل وسطا آخر في تعين الوسط الأول ، وإلا فهلم جرا ، فلا محيص من انتهاء الأمر إلى حكم العقل واستقلاله بكون الموصل للوسط المجعول هو الظن ، فانتهى الأمر بالأخرة إلى لزوم
فوائد الأصول ـ 248 ـ
الشارع نصب الظن طريقا محرزا للتكاليف موصلا إليه عند انسداد باب العلم بها ، سواء كان عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة لأجل الإجماع ، أو الخروج عن الدين ، أو العلم الإجمالي .
وأما على الوجه الأول من تقريب الإجماع على بطلان الاحتياط ( وهو قيام الإجماع على عدم وجوب الجمع بين المحتملات ) فالنتيجة تختلف حسب اختلاف الوجوه الثلاثة في عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة المتقدمة في المقدمة الثانية .
فإنه لو كان الوجه في عدم جواز إهمال الوقايع هو العلم الإجمالي كانت النتيجة التبعيض في الاحتياط لا محالة ، لأن العلم الإجمالي كان يقتضي الجمع بين جميع المحتملات ، وقد انعقد الإجماع على عدم وجوب الجمع ، وذلك لا يقتضي سقوط الاحتياط رأسا عن جميع الأطراف بل عن بعض الأطراف ويبقى بعضها الآخر .
ما يقتضيه العلم الإجمالي من الاحتياط :
وعلى هذا تبقي مقدمات الانسداد عقيمة لا تصل النوبة إلى المقدمة الرابعة لاستنتاج النتيجة ، وسيأتي بيانه .
وإن كان الوجه في عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة هو الإجماع أو الخروج عن الدين اللذان كانا يقتضيان جعل الشارع طريقية الاحتياط في جميع الوقايع ، فقيام الإجماع على عدم وجوب الجمع بين جميع المحتملات وإن كان يبطل جعل الشارع طريقية الاحتياط في الجميع ، ولكن لا يقتضي جعل الشارع طريقية الظن ، فإنه كما يمكن ذلك يمكن جعل التبعيض في الاحتياط ،
الأخذ بالظن والاحتمال الراجح في تعيين ما هو وسط ، وذلك يبطل الإجماع المزبور ، إذ بالأخرة يرجع إلى امتثال الأحكام بالاحتمال لا بالجزم .
نعم : ينتهى النوبة إلى الجزم بمقتضى المقدمة الرابعة بناء على منجزية العلم وموصليته من باب التبعيض في الاحتياط في المرة الثانية ، ولكن بطلان الخروج عن الدين يمنع عن وصول النوبة إلى منجزية العلم الإجمالي رأسا .
فوائد الأصول ـ 249 ـ
من جهة أنه هو الطريق الواصل بنفسه وطريقية الظن يحتاج إلى جعل لم يثبت ، فالتبعيض في الاحتياط لا ينحصر أن يكون بالزام من العقل في أطراف العلم الإجمالي عند تعذر الاحتياط في الجميع ، بل يمكن أن يكون بجعل شرعي .
فتحصل من جميع ما ذكرنا : أن قيام الإجماع على أنه ( ليس بناء الشريعة على العمل بالاحتمال ) يقتضي حجية الظن شرعا مطلقا سواء كان المستند في عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة الإجماع ، أو الخروج عن الدين ، أو العلم الإجمالي .
وقيام الإجماع على عدم وجوب الجمع بين المحتملات في الوقايع المشتبهة يقتضي التبعيض في الاحتياط ، إما عقلا إن كان المستند في عدم جواز إهمال الوقايع هو العلم الإجمالي ، وإما شرعا إن كان المستند في ذلك هو الإجماع أو الخروج عن الدين .
هذا كله إذا كان الوجه في بطلان الاحتياط الإجماع بكلا تقريبيه .
وإن كان الوجه فيه كونه موجبا للعسر والحرج فالنتيجة أيضا تختلف حسب اختلاف الوجوه الثلاثة ـ المتقدمة في المقدمة الثانية ـ فإنه لو كان الوجه في عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة العلم الإجمالي ، فالنتيجة هي التبعيض في الاحتياط مطلقا ، كان الاحتياط التام في جميع الوقايع مما يخل بالنظام أو كان مما يوجب العسر والحرج ، فإنه على كلا التقديرين العقل لا يلزم بالاحتياط التام ، بل يستقل بقبحه إذا كان مما يخل بالنظام ، فلابد من التبعيض في الاحتياط إلى حد لا يلزم منه العسر والحرج ، وسيأتي الوجه في ذلك .
ولو كان الوجه في عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة هو الإجماع أو الخروج عن الدين فان كان الاحتياط التام مما يخل بالنظام ، فالعقل يستقل أيضا بعدم نصب الشارع الاحتياط المخل بالنظام طريقا إلى امتثال التكاليف الواقعية ، بل يقبح على الشارع الإلزام بسلوك طريق يؤدى إلى اختلال النظام النوعي والشخصي ، فلابد حينئذ : إما من ايجاب التبعيض في
فوائد الأصول ـ 250 ـ
الاحتياط ، وإما من نصب الظن طريقا ، على ما تقدم بيان ذلك .
وإن كان الاحتياط التام مما لا يخل بالنظام ، بل كان يلزم منه مجرد العسر والحرج : ففي بطلان الاحتياط واستكشاف عدم نصب الشارع له طريقا من عموم أدلة نفي العسر والحرج إشكال ، من حيث إن أدلة نفي العسر والحرج كأدلة نفي الضرر إنما تكون حاكمة على الأدلة الأولية المتكفلة لبيان الأحكام المترتبة على الموضوعات الواقعية الشاملة باطلاقها لحالة الضرر والعسر والحرج ، فلابد وأن يكون لمتعلق الحكم الواقعي حالتان : حالة يلزم منها الضرر والعسر والحرج ، وحالة لا يلزم منها ذلك لتكون أدلة نفيها حاكمة على دليل الحكم الواقعي وموجبة لنفي الحكم عن المتعلق أو الموضوع الذي يلزم منه الضرر والعسر والحرج .
وأما لو اختص الحكم الواقعي بما يلزم منه الضرر أو العسر والحرج دائما بحيث لم يكن له حالة لا يلزم منها ذلك ـ كوجوب الخمس والزكاة والجهاد ونحو ذلك من الأحكام الضررية ـ فلا يمكن أن تكون أدلة نفي الضرر والعسر والحرج حاكمة على دليل الحكم ورافعة له ، لأن الحكم رتب من أول الأمر على الموضوع الضرري ، فكيف يمكن أن يكون دليل نفي الضرر حاكما على دليله ! مع أن الضرر محقق لموضوع الحكم ومتعلقه ، فلا يعقل أن ينفيه ، فان الموضوع إنما يستدعى ثبوت الحكم لا نفيه ، والاحتياط في المقام يكون كالخمس والزكاة والجهاد ليس له حالة لا يلزم منها العسر والحرج ، فان الاحتياط عبارة عن الجمع بين المحتملات : من المظنونات والمشكوكات والموهومات في الوقايع المشتبهة ، والاحتياط على هذا الوجه يوجب العسر والحرج دائما ، فلو أوجبه الشارع ونصبه طريقا إلى ما في الوقايع المشتبهة من التكاليف ـ كما هو مقتضى الوجهين الأولين اللذين بنيت عليهما المقدمة الثانية ـ كان كايجاب الخمس والزكاة لا يمكن أن تكون أدلة نفي العسر والحرج حاكمة على دليل ايجابه وموجبة لنفي وجوبه .
وتوهم : أن من أدلة نفيهما يستكشف عدم ايجاب الشارع الاحتياط