فوائد الأصول ![]() من حكم تكليفي . فالأقوى : أن الحجية والوسطية في الإثبات بنفسها مما تنالها يد الجعل بتتميم كشفها ، فإنه لابد في الأمارة من أن يكون لها جهة كشف عن الواقع كشفا ناقصا ، فللشارع تتميم كشفها ولو إمضاء بالقاء احتمال الخلاف في عالم التشريع ، كما ألقى احتمال الخلاف في العلم في عالم التكوين ، فكأن الشارع أوجد في عالم التشريع فردا من العلم ، وجعل الطريق محرزا للواقع كالعلم بتتميم نقض كشفه وإحرازه ، ولذا قامت الطرق والأمارات مقام العلم المأخوذ في الموضوع على وجه الطريقية ، كما تقدم تفصيله . وإذ قد عرفت حقيقة المجعول في باب الطرق والأمارات وأن المجعول فيها نفس الوسطية في الإثبات ، ظهر لك : أنه ليس في باب الطرق والأمارات حكم حتى ينافي الواقعي ليقع في إشكال التضاد أو التصويب ، بل ليس حال الأمارة المخالفة إلا كحال العلم المخالف ، فلا يكون في البين إلا الحكم الواقعي فقط مطلقا أصاب الطريق الواقع أو أخطأ ، فإنه عند الإصابة يكون المؤدى هو الحكم الواقعي كالعلم الموافق ويوجب تنجيز الواقع وصحة المؤاخذة عليه ، وعند الخطأ وعدم الإصابة يوجب المعذورية وعدم صحة المؤاخذة عليه كالعلم المخالف من دون أن يكون هناك حكم آخر مجعول . هذا بناء على ما هو المختار من تأصل الحجية والطريقية في الجعل . وأما بناء على مسلك الشيخ ( قدس سره ) من أن المجعول هو منشأ الانتزاع ، فيتوجه حينئذ إشكال التضاد ولابد من دفعه ، وينبغي أولا تصوير ما يصح أن يكون منشأ لانتزاع الحجية . والإنصاف : أن تصويره في غاية الإشكال ، لأن منشأ انتزاع الحجية لا بد وأن يكون أمرا لا دخل له بإطاعة المكلف وعصيانه ، إذ الحجية محفوظة في كلا الحالين ولا دخل لعمل المكلف في ذلك ، فان المكلف عمل أو لم يعمل يكون الخبر الواحد حجة ، فلابد وأن يكون منشأ انتزاع الحجية حكما تكليفيا فوائد الأصول ![]() مخالفة الأمارة للواقع . وبالجملة : لا نرى في دفع محذور التضاد عند مخالفة الطرق والأمارات للواقع أقرب من القول بتأصلها في الجعل (1) هذا كله في باب الطرق و الأمارات . وأما الأصول المحرزة : فالأمر فيها أشكل ، وأشكل منها الأصول الغير المحرزة ـ كأصالة الحل والبراءة ـ فان الأصول بأسرها فاقدة للطريقية ، لأخذ الشك في موضوعها ، والشك ليس فيه جهة إرائة وكشف عن الواقع ، حتى يقال : إن المجعول فيها تتميم الكشف ، فلابد وأن يكون في مورد الأصول حكم مجعول شرعي ، ويلزمه التضاد بينه وبين الحكم الواقعي عند مخالفة الأصل له . هذا ، ولكن الخطب في الأصول التنزيلية هين ، لأن المجعول فيها هو البناء العملي على أحد طرفي الشك على أنه هو الواقع وإلغاء الطرف الآخر و جعله كالعدم (2) ولأجل ذلك قامت مقام القطع المأخوذ في الموضوع على
فوائد الأصول ![]() إذا كان المجعول فيها هو البناء العملي على أن المؤدى هو الواقع ، فلا يكون ما وراء الواقع حكم آخر حتى يناقضه ويضاده . وتوهم : أن الذي ذكرناه في تضعيف ما أفاد الشيخ ( قدس سره ) من جعل الهوهوية في باب الأمارات يجرى بعينه في باب الأصول المحرزة ، فاسد ، فان الهوهوية المجعولة في باب الأصول المحرزة هي الهوهوية العملية ، أي البناء العملي على كون المؤدى هو الواقع ، وهي لا تستلزم جعل حكم في المؤدى على خلاف ما هو عليه من الحكم ، بخلاف الهوهوية في الأمارة فإنها إما أن تكون إخبارا ، وإما أن تكون إنشاء حكم في مؤدى الأمارة ، فان المجعول في باب الأمارات ليس هو البناء العملي ، فلو كان في المؤدى حكم فلابد وأن يكون مضادا لما عليه من الحكم الواقعي ، فتأمل . وأما الأصول الغير المحرزة ـ كأصالة الاحتياط والحل والبراءة ـ فقد عرفت : أن الأمر فيها أشكل ، فان المجعول فيها ليس الهوهوية والجري العملي على بقاء الواقع ، بل مجرد البناء على أحد طرفي الشك من دون إلقاء الطرف الآخر والبناء على عدمه (1) بل مع حفظ الشك يحكم على أحد طرفيه بالوضع أو الرفع ، فالحرمة المجعولة في أصالة الاحتياط والحلية المجعولة في أصالة الحل تناقض الحلية والحرمة الواقعية على تقدير تخلف الأصل عن الواقع ، بداهة أن المنع عن الاقتحام في الشيء ( كما هو مفاد أصالة الاحتياط ) أو الرخصة فيه ( كما هو مفاد أصالة الحل ) ينافي الجواز في الأول ، والمنع في الثاني . وقد تصدى بعض الأعلام لرفع غائلة التضاد بين الحكمين باختلاف الرتبة ، فان رتبة الحكم الظاهري رتبة للشك في الحكم الواقعي ، والشك في الحكم الواقعي متأخر في الرتبة عن نفس وجوده ، فيكون الحكم الظاهري في
فوائد الأصول ![]() فان الحكم لا يمكن أن يتكفل لأزمنة وجوده ـ التي منها زمان الشك فيه ـ ويتعرض لوجود نفسه في حال الشك وإن كان محفوظا في ذلك الحال على تقدير وجوده الواقعي ، إلا أن انحفاظه في ذلك الحال غير كونه بنفسه مبينا لوجوده فيه ، بل لابد في ذلك من مبين آخر وجعل ثانوي يتكفل لبيان وجود الحكم في أزمنة وجوده ، ـ ومنها زمان الشك فيه ـ ويكون هذا الجعل الثانوي من متممات الجعل الأولى ويتحد الجعلان في صورة وجود الحكم الواقعي في زمان الشك . ولا يخفى : أن متمم الجعل على أقسام : فان ما دل على وجوب قصد التعبد في العبادات يكون من متممات الجعل ، وما دل على وجوب السير للحج قبل الموسم يكون من متممات الجعل ، وما دل على وجوب الغسل على المستحاضة قبل الفجر في اليوم الذي يجب صومه من متممات الجعل ، وغير ذلك من الموارد التي لابد فيها من متمم الجعل ، وهي كثيرة في أبواب متفرقة وليست بملاك واحد ، بل لكل ملاك يخصه ، وإن كان يجمعها قصور الجعل الأولى عن أن يستوفى جميع ما يعتبر استيفائه في عالم التشريع ، ولاستقصاء الكلام في ذلك محل آخر . والغرض في المقام : بيان أن من أحد أقسام متمم الجعل هو الذي يتكفل لبيان وجود الحكم في زمان الشك فيه إذا كان الحكم الواقعي على وجه يقتضي المتمم ، وإلا فقد يكون الحكم لا يقتضي جعل المتمم في زمان الشك . وتوضيح ذلك : هو أن للشك في الحكم الواقعي اعتبارين : بالموضوعات المقدرة يحكم حكما فعليا عن إرادة فعلية تابعة للحاظ موضوعه الكلي ، بلا انتظار لوجوده ـ كما هو التحقيق في كلية الأحكام ـ وأن المحركية من تبعات الإرادة وهو المعلق على وجود الموضوع خارجا ، وعلى هذا المبنى ينثلم الإشكال في الواجب المعلق ، وينخرم أساس جعل الأحكام الطلبية من القضايا الحقيقية التي شأنها كون الحكم تابع الموضوع فرضيا وفعليا ، إذ بناء على ما ذكر تصير الأحكام الطلبية فعلية قبل وجود موضوعاتها وفي زمان فرضه ، كما لا يخفى ، فتدبر . فوائد الأصول ![]() إلى وجوبه فالاحتياط إنما يكون واجبا نفسيا للغير لا واجبا بالغير ، ولذا كان العقاب على مخالفة التكليف بالاحتياط عند تركه وإدائه إلى مخالفة الحكم الواقعي ، لا على مخالفة الواقع ، لقبح العقاب عليه مع عدم العلم به ، كما أوضحناه بما لا مزيد عليه في خاتمة الاشتغال . فان قلت : إن ذلك يقتضي صحة العقوبة على مخالفة الاحتياط صادف الواقع أو خالفه ، لأن المفروض كونه واجبا نفسيا وإن كان الغرض من وجوبه هو الوصلة إلى الأحكام الواقعية وعدم الوقوع في مفسدة مخالفتها ، إلا أن تخلف الغرض لا يوجب سقوط الخطاب ، فلو خالف المكلف الاحتياط وأقدم على قتل المشتبه وصادف كونه مهدور الدم كان اللازم استحقاقه للعقوبة ، لأنه قد خالف تكليفا نفسيا . قلت : فرق بين علل التشريع وعلل الأحكام ، والذي لا يضر تخلفه ولا يدور الحكم مداره هو الأول ، لأنها تكون حكمة لتشريع الأحكام ، فيمكن أن يكون تحقق الحكمة في مورد علة لتشريع حكم كلي ، وأما علة الحكم ، فالحكم يدور مدارها ولا يمكن أن يتخلف عنها ـ كما أوضحناه في محله ـ ولا إشكال أن الحكم بوجوب حفظ نفس المؤمن علة للحكم بالاحتياط (1) .
فوائد الأصول ![]() المصادفة وعدم وجوب الاحتياط في مورد المخالفة ? فأين التضاد : هذا كله إذا كانت مصلحة الواقع تقتضي جعل المتمم : من ايجاب الاحتياط . وإن لم تكن المصلحة الواقعية تقتضي ذلك ولم تكن بتلك المثابة من الأهمية بحيث يلزم للشارع رعايتها كيفما اتفق ، فللشارع جعل المؤمن ، كان بلسان الرفع ، كقوله صلى الله عليه وآله ـ ( رفع ما لا يعلمون ) ، أو بلسان الوضع كقوله ـ صلى الله عليه وآله ـ ( كل شيء لك حلال ) فان المراد من الرفع في قوله ـ صلى الله عليه وآله ـ ( رفع ما لا يعلمون ) ليس رفع التكليف عن موطنه حتى يلزم التناقض ، بل رفع التكليف عما يستتبعه من التبعات وايجاب الاحتياط ، فالرخصة المستفادة من قوله ـ صلى الله عليه وآله ـ : ( رفع ما لا يعلمون ) نظير الرخصة المستفادة من حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، فكما أن الرخصة التي تستفاد من حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان لا تنافى الحكم الواقعي ولا تضاده ، كذلك الرخصة التي تستفاد من قوله ـ عليه السلام ـ ( رفع ما لا يعلمون ) والسر في ذلك : هو أن هذه الرخصة تكون في طول الحكم الواقعي ومتأخر رتبتها عنه (1) لأن الموضوع فيها هو الشك .
فوائد الأصول ![]() فيه فهو افتراء ، إما موضوعا ، وإما حكما . ومن السنة : قوله عليه السلام ( رجل قضى بالحق وهو لا يعلم ) (1) بناء على كون التوبيخ لأجل القضاء بما لا يعلم ، لا لأجل التصدي للقضاء مع عدم كونه أهلا له . ومن الإجماع : ما ادعاه الوحيد البهبهاني ( قدس سره ) من أن حرمة العمل بما لا يعلم من البديهيات عند العوام فضلا عن الخواص . ومن العقل : إطباق العقلاء على تقبيح العبد وتوبيخه على تشريعه وإسناده إلى المولى ما لا يعلم أنه منه ، فان ذلك تصرف في سلطنة المولى وخروج عما يقتضيه وظائف العبودية . وبالجملة : لا إشكال ولا كلام في قبح التشريع واستتباعه استحقاق العقوبة . نعم : وقع الكلام في مسألة قبح التشريع من جهات : الجهة الأولى : هل حكم العقل بقبح التشريع نظير حكمه بقبح المعصية مما لا تناله يد الجعل الشرعي ولا يستتبع خطابا مولويا بحرمته ؟ أو أن حكمه بقبح التشريع يستتبع الحكم الشرعي بحرمته ولو بقاعدة الملازمة ؟ ذهب إلى الأول المحقق الخراساني ( قدس سره ) وحمل ما ورد في الكتاب والسنة في هذا الباب على الإرشاد ، نظير قوله تعالى : ( أطيعوا الله ورسوله ) . وظاهر كلام الشيخ ( قدس سره ) هو الثاني ، حيث استدل على حرمة التشريع بالأدلة الأربعة ، وهو الأقوى ، لأن الأحكام العقلية التي لا تستتبع الخطابات الشرعية إنما هي فيما إذا كانت واقعة في سلسلة معلولات الأحكام كقبح المعصية وحسن الطاعة ، لا في ما إذا كانت واقعة في سلسلة علل الأحكام الراجعة إلى باب التحسين والتقبيح العقلي الناشئ عن إدراك المصالح .
فوائد الأصول ![]() بذلك جهة مفسدة تقتضي قبحه عقلا وحرمته شرعا ، وظاهر قوله : ( رجل قضى بالحق وهو لا يعلم ) (1) حرمة القضاء واستحقاق العقوبة عليه ، فيدل على حرمة نفس العمل . الجهة الثالثة : هل صحة التعبد بالأمارة والالتزام بمؤداها على أنه حكم الله تعالى يلازم حجيتها بحيث يستكشف من عدم جواز التعبد عدم الحجية ؟ أو أن الحجية من اللوازم الأعم ؟ فقد تكون الأمارة حجة مع عدم جواز التعبد بها وإسنادها إلى الشارع . ظاهر كلام المحقق الخراساني ( قدس سره هو الثاني ، بل صريح كلامه ذلك ، حيث قال : وأما صحة الالتزام بما أدى إليه من الأحكام وصحة نسبته إليه تعالى فليسا من آثارها ، ضرورة أن حجية الظن عقلا على تقرير الحكومة في حال الانسداد لا يوجب صحتهما الخ . ولا يخفى ما فيه ، فان معنى جعل الأمارة حجة هو كونها وسطا لإثبات متعلقها وإحراز مؤداها (2) فيكون حالها حال العلم ، وهل يمكن أن يقال : إنه لا يصح التعبد بمتعلق العلم ولا يجوز إسناده إلى الشارع إذا كان المتعلق من الأحكام الشرعية ؟ والأمارة بعد جعلها حجة تكون كالعلم وما .
فوائد الأصول ![]() التصرف في أموال الناس وأعراضهم ؟ أو أن حكم العقل بذلك ليس طريقيا ؟ الظاهر أن يكون هو الثاني ، بل لا ينبغي التأمل فيه ، فان تمام المناط في نظر العقل هو الإسناد إلى الشارع ما لا يعلم أنه منه ، من غير دخل للواقع في ذلك ، فلو فرض أن المتعبد به كان في الواقع مما شرعه الشارع ولكن المكلف لم يعلم بتشريعه وأسنده إلى الشارع من غير علم كان ذلك من التشريع القبيح ، لتحقق تمام المناط والموضوع الذي يستقل العقل بقبحه ، ولو انعكس الأمر وأسند المكلف إلى الشارع ما علم بتشريعه إياه وكان في الواقع مما لم يشرعه الشارع لم يكن المكلف مشرعا ، لا أنه يكون مشرعا ولمكان جهله يكون معذورا عند العقل . وبالجملة : ليس للتشريع واقع يمكن أن يصيبه المكلف أو لا يصيبه ، بل واقع التشريع هو إسناد الشيء إلى الشارع مع عدم العلم بتشريعه إياه ، سواء علم المكلف بالعدم أو ظن أو شك ، وسواء كان في الواقع مما شرعه الشارع أو لم يكن ، فليس حكم العقل بقبح التشريع نظير حكمه بقبح الظلم ، فان العقل إنما يستقل بقبح الظلم ، وهو عبارة عن التصرف في أموال الناس وأنفسهم وأعراضهم ، غايته أنه من الشك في كون المال مال الناس يحكم العقل حكما طريقيا بقبح التصرف فيه ، مخافة أن يكون المال مال الناس فيقع المكلف في مفسدة التصرف في مال الناس ظلما وعدوانا ، فللعقل في باب الظلم حكمان : حكم موضوعي بقبح التصرف فيما هو مال الناس واقعا عند الالتفات إليه ، وحكم آخر طريقي بقبح التصرف فيما يشك كونه مال الناس (1) فلو خالف المكلف وأقدم على التصرف في المشكوك ولم يكن .
فوائد الأصول |