فنقول : الأحكام المترتبة على أفعال العباد ، إما أن تكون وضعية ـ كما في باب العقود والإيقاعات والطهارة والنجاسة وأمثال ذلك ـ وإما أن تكون تكليفية ، وهي إما أن تكون مترتبة على الفعل بلحاظ صرف الوجود بحيث لا يكون لوجوده الثاني ذلك الأثر ، وإما أن تكون مترتبة عليه بلحاظ مطلق الوجود بحيث كلما وجد الفعل كان الأثر مترتبا عليه .
  ثم إن معروض الحكم والأثر ، إما أن يكون هو الفعل الصادر عن الفاعل بمعنى أن الفاعل يكون هو المخاطب بالحكم كحرمة شرب الخمر حيث إن خطاب ( لا تشرب ) متوجه إلى شخص الشارب ، وإما أن يكون الفعل الصادر عن الفاعل علة لتوجه حكم إلى غير الفاعل ، كوجوب إقامة الحد على من شرب الخمر ، حيث إن شرب الخمر من شخص يكون علة لتوجه خطاب ( إقامة ولئن شئت قلت : إن الاضطرار مرفوع في خصوص التكليفيات ما لم يكن حفظه حرجيا ولا يشمل المعاملات أبدا ، والإكراه عليه مختص بالمعاملات ولا يشمل التكاليف أصلا .
نعم : إذا بلغ بحد الحرج في ترك ارتكاب المكره عليه كان الأثر أيضا مرفوعا ، لكن ذلك أيضا من جهة الحرج لا الإكراه ، ولئن شئت فسمه الإكراه أيضا ، ولكن لا إطلاق فيه ، كما أشرنا .
  ثم أن الأثر المرفوع في المكره ليس إلا صحة المعاملة لا الأحكام التكليفية المترتبة على الصحة ، إذ هي أيضا خلاف امتنان في حق المشترى ، لانتهائه إلى كونه مالكا بلا سلطنة ، بخلاف المرفوع في البقية ، فان المرفوع فيها نفس التكليف الواقعي المستتبع لنفي ايجاب التحفظ الواصل إلى حد الحرج المستتبع لنفي استحقاق العقوبة على مخالفتها .
  ثم إن في رفع التكليف في باب الاضطرار وغيره لا فرق بين كون التكليف متعلقا بالوجود أو العدم وبين كون الاضطرار متعلقا بالوجود أو العدم ، إذ مرجع الجميع إلى رفع التكليف عما اضطر على خلاف مقتضاه نفيا أو إثباتا ، وسيجيء توضيح المقال في الحاشية الآتية .
  وأما في ( ما لا يعلمون ) فالمرفوع فيه ما كان في ظرف الجهل ، وليس هو إلا ايجاب الاحتياط ، ولا مجال في المقام لتعلق الرفع بنفس التكليف الواقعي ، حتى في صورة الانفتاح ، إذ لا يكون ما في وضعه عليه خلاف امتنان ، فله إبقاء حكم عقله بالاحتياط أو الفحص ، فرفع هذا الحكم بقلب موضوعه ، حيث إنه تعليقي ، ولا يحتاج رفعه برفع نفس التكليف الواقعي ، كما أنه في القاصر كان المرفوع ايجاب احتياطه شرعا بلا رفع التكليف الواقعي إلا عناية وتنزيلا .
ونتيجة جميع المرفوعات بالأخرة رفع المؤاخذة عما كان لولا ( حديث الرفع ) ولئن تتأمل فيما ذكرنا ترى ما في كلمات الماتن المقرر مواقع النظر ، فتدبر .

فوائد الأصول ـ 352 ـ
  الحد ) إلى الحاكم المقيم للحد ، فهذه جملة الأحكام والآثار المترتبة على أفعال العباد .
  فان كان الحكم من الأحكام التكليفية وكان مترتبا على الفعل بلحاظ مطلق الوجود وكان الفاعل هو المخاطب بالحكم ، فلا إشكال في سقوط الحكم إذا صدر الفعل عن إكراه أو اضطرار أو نسيان أو خطأ ، فان نتيجة رفع الفعل الصادر على هذا الوجه في عالم التشريع هو ذلك ، فمن شرب الخمر عن إكراه أو اضطرار لم يكن فعله حراما شرعا ، ولا يخرج بذلك عن العدالة لو كان واجدا لها قبل الشرب ، لأن الشرب عن إكراه كالعدم ، والحكم تابع لموضوعه ، فرفع الموضوع يقتضي رفع الحكم ، فلا حرمة ، وهو واضح .
  وإن كان الأثر مترتبا على الفعل بلحاظ صرف الوجود ، فان أكره المكلف على الفعل أو اضطر إليه ، فهذا يختلف حسب اختلاف الآثار ، فقد يكون الأثر من الآثار التي لا تقتضي المنة رفعه ، كمن نذر أن يكرم عالما فأكره على الإكرام أو اضطر إليه ، فإنه لا يصح أن يكون الإكراه المكره عليه مشمولا لحديث الرفع ، لأن فرض الإكرام كالعدم وجعله كأن لم يكن يقتضي عدم تحقق الامتثال ووجوب الإكرام عليه ثانيا ، وذلك ينافي الامتنان .
وقد يكون الأثر من الآثار التي تقتضي المنة رفعه ، كما لو نذر المكلف أن لا يكرم شخصا خاصا أو لا يشرب ماء الدجلة فأكره على الإكرام أو الشرب ، فان رفع ما يترتب على الإكرام والشرب من الحنث والكفارة يوافق المنة ، فيصح أن يقال : إن الإكرام كذلك إكرام وجعله كالعدم لرفع ما يترتب عليه من الحنث والكفارة .
  وان أكره المكلف على الترك أو اضطر إليه أو نسى الفعل : ففي شمول ( حديث الرفع ) لذلك إشكال ، مثلا لو نذر أن يشرب من ماء الدجلة فأكره على العدم أو اضطر إليه أو نسى أن يشرب ، فمقتضى القاعدة وجوب الكفارة عليه لو لم تكن أدلة وجوب الكفارة مختصة بصورة تعمد الحنث ومخالفة النذر

فوائد الأصول ـ 353 ـ
  عن إرادة والتفات ، فان شأن الرفع تنزيل الموجود منزلة المعدوم ، لا تنزيل المعدوم منزلة الموجود ، لأن تنزيل المعدوم منزلة الموجود إنما يكون وضعا لا رفعا ، والمفروض أن المكلف قد ترك الفعل عن إكراه أو نسيان فلم يصدر منه أمر وجودي قابل للرفع ، ولا يمكن أن يكون عدم الشرب في المثال مرفوعا وجعله كالشرب ، حتى يقال : إنه لم يتحقق مخالفة النذر فلا حنث ولا كفارة .
  والحاصل : أنه فرق بين الوضع والرفع ، فان الوضع يتوجه على المعدوم فيجعله موجودا ويلزمه ترتيب آثار الوجود على الموضوع ، والرفع يتوجه على الموجود فيجعله معدوما ويلزمه ترتيب آثار العدم على المرفوع ، فالفعل الصادر من المكلف عن نسيان أو إكراه يمكن ورود الرفع عليه وجعله كأن لم يصدر ، فلا يترتب عليه آثار الوجود إن كان موافقا للتوسعة والامتنان ، وأما الفعل الذي لم يصدر من المكلف وكان تاركا له عن النسيان وإكراه فلا محل للرفع فيه (1) لأن رفع المعدوم لا يمكن إلا بالوضع والجعل ، و ( حديث الرفع ) لا يتكفل الوضع ، بل مفاده الرفع .
  ومن هنا يظهر : أنه لا يمكن تصحيح العبادة الفاقدة لبعض الأجزاء والشرايط لنسيان أو إكراه ونحو ذلك بحديث الرفع ، فإنه لا محل لورود الرفع على السورة المنسية في الصلاة مثلا لخلو صفحة الوجود عنها ، مضافا إلى أن الأثر المترتب على السورة ليس هو إلا الإجزاء وصحة العبادة ، ومع الغض عن أن الإجزاء والصحة ليست من الآثار الشرعية التي تقبل الوضع والرفع لا يمكن أن يكون رفع السورة بلحاظ رفع أثر الإجزاء والصحة ، فان ذلك يقتضي عدم الإجزاء وفساد العبادة ، وهذا ينافي الامتنان وينتج عكس المقصود ، فان


(1) أقول : لنا مجال السؤال بنذر شرب أحد المايعين إجمالا واضطر بترك أحد الطرفين معينا أو غير معين ، فهل أحد في البين يلتزم بلزوم امتثال الطرفين ؟ ما أظن التزامك به أيضا ، بل تلتزم بالتكليف التوسطي ، وهل هذا من غير جهة الاضطرار ؟

فوائد الأصول ـ 354 ـ
  المقصود من التمسك بحديث الرفع تصحيح العبادة لا فسادها ، فنفس الجزء أو الشرط المنسى موضوعا وأثرا لا يشمله ( حديث الرفع ) ولا يمكن التشبث به لتصحيح العبادة .
  وأما بالنسبة إلى المركب الفاقد للجزء أو الشرط المنسى : فهو وإن كان أمرا وجوديا قابلا لتوجه الرفع إليه ، إلا أنه أولا : ليس هو المنسى أو المكره عليه ليتوجه الرفع إليه ، وثانيا : لا فائدة في رفعه ، لأن رفع المركب الفاقد للجزء أو الشرط لا يثبت المركب الواجد له ، فان ذلك يكون وضعا لا رفعا ، وليس للمركب الفاقد للجزء أو الشرط أثر يصح رفع المركب بلحاظه ، فان الصلاة بلا سورة مثلا لا يترتب عليها أثر إلا الفساد وعدم الإجزاء وهو غير قابل للرفع الشرعي .
  ومن ذلك يظهر فساد ما قيل : من أن المرفوع في حال النسيان إنما هو جزيئة المنسى للمركب ، وما أشكل عليه : من أن الجزئية لا تقبل الجعل فلا تقبل الرفع ، وما أجيب عن ذلك : من أن الجزئية مجعولة بتبع جعل منشأ انتزاعها فتقبل الرفع برفع منشأ الانتزاع .
  فان ذلك كله خروج عن مفروض الكلام ولا ربط له بالمقام ، لأن جزئية الجزء لم تكن منسية وإلا كان ذلك من نسيان الحكم ، ومحل الكلام إنما هو نسيان الموضوع ونسيان قراءة السورة مثلا ، فلم يتعلق النسيان بالجزئية حتى يستشكل بأن الجزئية غير مجعولة فيجاب بأنها مجعولة بجعل منشأ الانتزاع .
  والحاصل : أن الإشكال في شمول ( حديث الرفع ) للجزء المنسى ليس من جهة عدم قابلية الجزء للرفع الشرعي ، إذ لا إشكال في أنه عند الشك في جزئية شيء للمركب أو شرطيته تجرى فيه البراءة الشرعية ويندرج في قوله ـ صلى الله عليه وآله ـ ( رفع ما لا يعلمون ) بل الإشكال إنما هو من جهة أنه عند ترك الجزء نسيانا مع العلم والالتفات بجزئيته ليس في البين ما يرد الرفع الشرعي عليه من حيث الموضوع والأثر ، فلا يمكن تصحيح العبادة الفاقدة للجزء أو الشرط بمثل ( حديث الرفع ) بل لابد من التماس دليل آخر على

فوائد الأصول ـ 355 ـ
  الصحة ، وهو في الصلاة قوله ـ عليه السلام ـ ( لا تعاد الصلاة إلا عن خمس ) .
  وعلى ذلك يبتني جملة من القواعد التي تسالم عليها الأصحاب في باب الخلل الواقع في الصلاة ، من جملتها : أنه لو كان المنسى من الأركان فما لم يدخل المصلى في ركن آخر يجب عليه العود لتدارك الركن المنسى ومع الدخول في ركن آخر تبطل الصلاة ، بخلاف ما إذا كان المنسى من غير الأركان ، فإنه لا تبطل الصلاة بنسيانه وإن دخل في ركن آخر ، بل إن كان الجزء من الأجزاء التي يجب قضائها بعد الصلاة يقضى ، وإلا فلا شيء عليه إلا سجدتا السهو ، ونحو ذلك من الفروع والقواعد التي تستفاد من ( حديث لا تعاد ) وقد استقصينا الكلام فيها في ( رسالة الخلل ) .
  ولو كان المدرك في صحة الصلاة الفاقدة للجزء أو الشرط نسيانا ( حديث الرفع ) كان اللازم صحة الصلاة بمجرد نسيان الجزء أو الشرط مطلقا من غير فرق بين الأركان وغيرها ، فإنه لا يمكن استفادة التفصيل من ( حديث الرفع ) ، ويؤيد ذلك : أنه لم يعهد من الفقهاء التمسك بحديث الرفع لصحة الصلاة وغيرها من ساير المركبات .
  هذا إذا كان النسيان مستوعبا في تمام الوقت المضروب للمركب ، وأما في النسيان الغير المستوعب فالأمر فيه أوضح ، فإنه لا يصدق نسيان المأمور به عند نسيان الجزء في جزء من الوقت مع التذكر في بقية الوقت ، لأن المأمور به هو الفرد الكلي الواجد لجميع الأجزاء والشرائط ولو في جزء من الوقت الذي يسع فعل المأمور به ، فمع التذكر في أثناء الوقت يجب الإتيان بالمأمور به لبقاء وقته ـ لو كان المدرك حديث الرفع ـ لأن المأتى به الفاقد للجزء أو الشرط لا ينطبق على المأمور به ، فلو لا ( حديث لا تعاد ) كان اللازم هو إعادة الصلاة الفاقدة للجزء نسيانا مع التذكر في أثناء الوقت .
  فتحصل مما ذكرنا : أنه في كل مورد مست الحاجة إلى تنزيل الفاقد منزلة الواجد لابد من التماس دليل آخر غير ( حديث الرفع ) كما أنه في كل

فوائد الأصول ـ 356 ـ
  مورد مست الحاجة إلى تنزيل الواجد منزلة الفاقد يتمسك لذلك بحديث الرفع (1) ومن هنا يمكن أن يفرق بين الأجزاء والشرائط وبين الموانع وأنه في صورة ايجاد المانع نسيانا يصح التمسك بحديث الرفع إذا كان النسيان مستوعبا لتمام الوقت ، فتأمل جيدا .
  هذا كله في الأحكام التكليفية .
  وأما الأحكام الوضعية ـ كالعقود والايقاعات والطهارة والنجاسة ـ فالكلام فيها تارة : يقع في الأسباب : الايجاب والقبول مثلا ، وأخرى : في المسببات :

الآثار والأحكام المترتبة على المسببات :
  أما الأسباب : فمجمل الكلام فيها ، هو أن وقوع النسيان والإكراه أو الاضطرار في ناحية الأسباب لا تقتضي تأثيرها في المسبب ولا تندرج في ( حديث الرفع ) لما تقدم في باب الأجزاء والشرائط : من أن ( حديث الرفع ) لا يتكفل تنزيل الفاقد منزلة الواجد ولا يثبت أمرا لم يكن ، فلو اضطر إلى ايقاع


(1) أقول : المستفاد من الرفع ما اضطروا إليه إذا كان بقوله رفعه تشريعيا ـ ومعنى رفعه التشريعي خلو صفحة التشريع عنه ـ مرجعه إلى عدم تشريع الحكم له أو عدم أخذه موضوعا لحكمه ، لا أن مرجعه إلى قلب الوجود بعدم ذاته ، أو قلب العدم بوجود ذاته ، بل غاية اقتضائه قلب أخذ في طي التشريع بعدم أخذه ، وفي هذا المعنى لا فرق بين كون الموضوع فعلا أو تركا وأن المضطر إليه فعل أو ترك ، إذ كما أن رفع الوجود تشريعا يرجع إلى خلو صفحة التشريع عن هذا الوجود ، كذلك رفع العدم تشريعا إلى خلو صفحة التشريع عن هذا العدم ، ومآله إلى رفع الحكم المترتب على هذا العدم ، لا جعله وجودا ، كي يرجع إلى وضع شيء لا يناسب رفعه ، ولذا لم يتوهم أحد مسألة الاضطرار بترك أحد طرفي العلم ـ خصوصا إذا كان معينا ـ بوجوب الإتيان بكل الطرفين تحصيلا للموافقة القطعية ، وحينئذ فلا قصور في شمول ( الحديث ) للسورة المنسية ، ومرجعه إلى إخراجها عن الجزئية لا جعلها بمنزلة الوجود ، إذ معنى خلو صفحة التشريع عنه هو الأول لا الثاني ، نعم : هذا المقدار لو كان مستوعبا في الوقت لا يقتضي الإجزاء إذ معنى رفعه ما دام النسيان عدم كونه تحت التكليف الذي هو منشأ انتزاع الجزئية ما دام النسيان ، وأما كونه واجدا لمصلحة الواقع فلا ، فإنه لا يكون تحت الرفع تشريعا ، إذ ليس أمر رفعه ووضعه بيد الشرع ، وحينئذ فالمصلحة المقتضية للجزئية باقية ، فبعد رفع النسيان يؤثر المصلحة في خارج الوقت أثره ، كما لو لم يكن في البين ( حديث الرفع ) وهذا نكتة عدم تشبثهم بمثل ( حديث الرفع ) لتصحيح المنسيات جزءا أو شرطا أو مانعا ، فتدبر .

فوائد الأصول ـ 357 ـ
  العقد بالفارسية أو أكره عليه أو نسى العربية كان العقد باطلا بناء على اشتراط العربية في العقد ، فان رفع العقد الفارسي لا يقتضي وقوع العقد العربي (1) وليس للعقد الفارسي أثر يصح رفعه بلحاظ رفع أثره ، وشرطية العربية ليست هي المنسية حتى يكون الرفع بلحاظ رفع الشرطية .
  وأما المسببات : فهي على قسمين : فإنها تارة : تكون من الأمور الاعتبارية ليس لها ما بحذاء في وعاء العين ، بل وعائها وعاء الاعتبار ـ كالملكية والزوجية والرقية ونحو ذلك من الوضعيات الاعتبارية التي أمضاها الشارع ـ وأخرى : تكون من الأمور الواقعية التي كشف عنها الشارع ـ كالطهارة والنجاسة الخبثية ـ على احتمال قواه الشيخ ( قدس سره ) وإن ضعفناه نحن في محله ، ويأتي بيانه في مبحث الاستصحاب .
  أما القسم الأول : فهو بنفسه مما تناله يد الوضع والرفع التشريعي ، على ما هو الحق عندنا : من أن هذا القسم من الأحكام الوضعية يستقل بالجعل وليس منتزعا من الأحكام التكليفية ، فلو فرض أنه أمكن أن يقع المسبب عن إكراه ونحوه كان للتمسك بحديث الرفع مجال (2) فينزل المسبب منزلة العدم وكأنه لم


(1) أقول : قد أشرنا ـ في الحاشية السابقة ـ أن مرجع رفع المضطر إليه إذا كان من التروك خلو صفحة التشريع عن مثله ، ومآله إلى خروج هذا الترك عن حيز تشريع الجاعلية ، ولازم تطبيقه على عدم العربية الموجبة لتشريع الفساد به ـ بملاحظة دخل نقيضه في الصحة هو أن هذا العدم ما شرع في مورد الفساد الملازم لعدم كون نقيضه دخيلا في الصحة ، لا أن مفاد رفعه جعله منزلة الوجود كي يرد عليه ما أفيد ، وحينئذ ليس وجه عدم جريانهم مثل ( حديث الرفع ) بجميع فقراته في أبواب المعاملات حتى في فرض الاضطرار بايجاد المانع الغير الجاري فيه هذا التقريب باعترافه ، بل عمدة الوجه في أن قضية نفي الشرطية أو غيره في المعاملة ايجاب الوفاء بالفاقد ، وهو خلاف الامتنان في حق المكلف ، ولذا نفرق بين شرائط الوجوب وشرائط الواجب وأن ( الحديث ) مختص بالثاني دون الأول ، لما عرفت : من أن لازم نفي شرط الوجوب إثبات الوجوب على المكلف على خلاف امتنانه ، كما لا يخفى ، فتدبر .
(2) أقول : هذا التقريب بعينه يجئ في الاضطرار ، ولم يلتزم أحد فيه فساد المعاملة ، فلابد من بيان فارق بينهما ، كما شرحناه في الحاشية السابقة .

فوائد الأصول ـ 358 ـ
  يقع ، ويلزمه عدم ترتيب الآثار المترتبة على المسبب : من حلية الأكل وجواز التصرف في باب العقود والايقاعات .
  لا أقول : إن الرفع تعلق بالآثار ، بل تعلق بنفس المسبب ، لأنه بنفسه مما تناله يد الرفع ، ولكن رفعه يقتضي رفع الآثار ، لارتفاع العرض بارتفاع موضوعه ، ولكن فرض وقوع المسبب عن إكراه ونحوه في غاية الإشكال (1) فان الإكراه إنما يتعلق بايجاد الأسباب ، وقد ذكرنا في ( كتاب البيع ) ما قيل وما يمكن أن يقال في المقام .
  وأما القسم الثاني : وهو ما إذا كان المسبب من الأمور الواقعية التي كشف عنها الشارع ـ كالطهارة والنجاسة ـ فهو مما لا تناله يد الرفع والوضع التشريعي (2) لأنه من الأمور التكوينية وهي تدور مدار وجودها التكويني متى تحققت ووجدت ، لا تقبل الرفع التشريعي ، بل رفعها لابد وأن يكون من سنخ وضعها تكوينا .
  نعم : يصح أن يتعلق الرفع التشريعي بها بلحاظ ما رتب عليها من الآثار الشرعية .
  ولا يتوهم : أن لازم ذلك عدم وجوب الغسل على من أكره على الجنابة أو عدم وجوب التطهير على من أكره على النجاسة ، بدعوى : أن الجنابة المكره عليها وإن لم تقبل الرفع التشريعي إلا أنها باعتبار ما لها من الأثر ـ وهو الغسل ـ قابلة للرفع ، فان الغسل والتطهير أمران وجوديان قد أمر الشارع بهما


(1) أقول : لا بأس به بناء على ما هو التحقيق : من أن الأمر بالمسبب لا يرجع إلى السبب ، كما بيناه في محله .
(2) أقول : إذا كان معنى الرفع التشريعي ما أفاده سابقا : من خلو صفحة التشريع عنه ، فلا مانع من تعلقه بالأمور الواقعية التكوينية ، غاية الأمر نتيجة رفعه تشريعا رفع أثره الشرعي ، كما لا يخفى ، ومن هنا ظهر : أنه لا يبقى مجال لقوله : ( نعم ) بعد هذا الكلام ، إذ لا معنى للرفع التشريعي إلا هذا المعنى ، وحينئذ أي شيء منفى غير ما أثبت هنا ؟ .

فوائد الأصول ـ 359 ـ
  عقيب الجنابة والنجاسة مطلقا ، من غير فرق بين الجنابة والنجاسة الاختيارية وغيرها (1) فتأمل ، فان المقام يحتاج إلى بسط من الكلام لا يسعه المجال ، والبحث عن ذلك وقع استطرادا .
  والمقصود الأصلي بالبحث هو البحث عن مفاد قوله ـ صلى الله عليه وآله ـ ( رفع ما لا يعلمون ) فإنه هو المدرك في البراءة الشرعية ، وقد عرفت : أن الرفع في ( ما لا يعلمون ) يغاير الرفع في البقية ، فان الرفع في البقية رفع واقعي ينتج نتيجة التخصيص الواقعي ـ بالبيان المتقدم ـ والرفع في ( ما لا يعلمون ) رفع ظاهري ينتج عدم وجوب الاحتياط في موارد الشك والشبهات على ما تقدم بيانه بما لا مزيد عليه ـ والغرض من إعادة الكلام فيه هو بيان ما يندرج في قوله ـ صلى الله عليه وآله ـ ( رفع ما لا يعلمون ) من الشبهات .
  فنقول : المشكوك فيه تارة : يكون هو التكليف النفسي الاستقلالي ، كالشك في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال وكالشك في حرمة تصوير الصور المجردة من ذوات الأرواح .
  وأخرى : يكون هو التكليف الغير الاستقلالي ـ كالشك في جزئية شيء للمأمور به أو شرطيته أو مانعيته .
  وثالثة : يكون في


(1) أقول : ما أدرى جواب التوهم السابق أين صار ؟ فان كان قوله ( فان الغسل والتطهير أمران وجوديان ) إلى قوله ( فتأمل ) جوابا فهو غلط ، فان الأمر في كل مورد يشمله ( الحديث ) باطلاق دليله شامل لصورة الاختيار والاضطرار ، وبالاضطرار أو الإكراه يرتفع ، فالأولى حينئذ : الالتزام بالإشكال ، ويلتزم بأنه في مورد الاضطرار على الجنابة ينتقل التكليف من الغسل إلى التيمم ، كما أن في مورد الاضطرار على ارتكاب النجس يرتفع وجوب الغسل أو حرمة شرب النجس ، بلا محذور فيه ولا احتياج إلى حوالة المقام ببسط الكلام فيه في مقام آخر ، ثم إن من العجب أن المقرر لم ما ثبت في الجواب عن توهمه بما أسسه من الأساس ؟ بتوضيح أن وجوب الغسل في النجاسة وكذا وجوب الغسل في الجنابة من آثار الطهارة الخبثية والحدثية وإسناده إليها بالعرض والمجاز ، لأنهما من مقدمات الطهارة الملازم لرفع الجنابة والنجاسة ، وحينئذ فحديث الرفع لا يشملهما من حديث عنوان الإكراه على الجنابة والنجاسة ، وحينئذ لا يبقى في البين إلا عنوان ترك الطهارة حدثية أو خبثية ، و ( حديث الرفع ) باعترافه لا يشمل التروك .

فوائد الأصول ـ 360 ـ
  المحصلات والأسباب العقلية أو العادية أو الشرعية الاختراعية أو الإمضائية ، كالشك في اعتبار الغسلة الثانية في التطهير من النجاسة الخبثية ، وكالشك في اعتبار أن يكون المسح ببلة الوضوء ـ بناء على أن تكون الغسلات والمسحات في باب الطهارة الخبثية والحدثية من المحصلات والأسباب لا أنها بنفسها وبما هي هي متعلقات التكليف ، وكالشك في اعتبار العربية والماضوية في العقد ونحو ذلك مما كان الشك فيما هو السبب والمحصل لمتعلق التكليف أو الوضع .
  فان كان الشك في التكليف النفسي الاستقلالي ، فهذا هو المتيقن في اندراجه في قوله ـ صلى الله عليه وآله ـ ( رفع ما لا يعلمون ) سواء كانت الشبهة وجوبية أو تحريمية ، وسواء كانت الشبهة حكمية أو موضوعية .
  وقد تقدم ضعف الإشكال في عموم ( حديث الرفع ) للشبهات الحكمية والموضوعية ، وسيأتي مزيد توضيح لذلك .
  وإن كان الشك في التكليف الغير الاستقلالي ، فهذا هو المبحوث عنه في باب الأقل والأكثر الارتباطي ، وسيأتي البحث عنه بما لا مزيد عليه في مبحث الاشتغال ، وأن الأقوى شمول ( حديث الرفع ) له .
  وإن كان الشك في الأسباب والمحصلات ، فالأقوى : أنها بجميع أقسامها لا تجري فيها البراءة ولا يعمها ( حديث الرفع ) وإن حكى عن بعض الأعلام جريان البراءة في خصوص الأسباب الشرعية ، كالغسلات والمسحات في باب الطهارة الخبثية والحدثية ، بناء على أن تكون الغسلات والمسحات من الأسباب والمحصلات وأن المأمور به في باب الطهارة الخبثية هو إفراغ المحل عن القذارة الظاهرية فيكون الغسل سببا لذلك ، وفي باب الطهارة الحدثية هو تطهير الباطن عن القذارة المعنوية الحاصلة من الأحداث والغسلات والمسحات أسباب لذلك ، لا أن المأمور به نفس الغسلات والمسحات وتطهير الباطن حكمة للأمر بها ، وسيأتي البحث عن ذلك أيضا ( إن شاء الله تعالى ) في مبحث الاشتغال .

فوائد الأصول ـ 361 ـ
  وعلى ذلك يبتني الخلاف المعروف في باب الوضوء : من أنه هل يعتبر في الوضوء مع عدم القصد إلى إحدى الغايات الواجبة أو المستحبة قصد رفع الحدث أو الكون على الطهارة ؟ أو لا يعتبر قصد ذلك ؟ بل يكفي مجرد قصد أفعال الوضوء من الغسلات والمسحات بقصد امتثال الأمر المتعلق بها ، فان قلنا : إن المأمور به هو نفس الغسلات والمسحات ، فلا يعتبر قصد رفع الحدث أو الكون على الطهارة .
  وإن قلنا : إن المأمور به هو الطهارة وتلك الأفعال محصلات لها ، فلابد مع عدم قصد إحدى الغايات من قصد الكون على الطهارة ، لأن قصد حقيقة المأمور به مما لابد منه في كل عبادة .
  ومنشأ الخلاف : هو وقوع كل من التطهير والأفعال في حيز الطلب في ( القرآن المجيد ) .
  فمن الأول : قوله تعالى : ( وإن كنت جنبا فاطهروا ) (1) بضميمة عدم الفرق بين الوضوء والغسل في ذلك .
  ومن الثاني قوله تعالى : ( إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم ) الآية (2) .
  فمن قال : بأنه يعتبر في الوضوء قصد الكون على الطهارة وأنها من المسببات التوليدية للأفعال حمل الأمر بالأفعال في آية الوضوء على أن الأمر بها لأجل كونها محصلة للطهارة لا من حيث هي هي ، فإنه في المسببات التوليدية يصح تعلق الأمر بكل من المسبب والسبب لكن لا بما هو هو ، بل بما أنه يتولد منه المسبب ، وهذا إذا كان الربط بين السبب والمسبب على وجه يكون الأمر بالسبب عين الأمر بالمسبب عرفا ، كما لو أمر بالإلقاء في النار ، فان الأمر به عرفا أمر بالإحراق .
  والظاهر أن تكون جميع الأسباب والمسببات التوليدية من هذا القبيل .


(1) سورة المائدة الآية 6 .
(2) سورة المائدة الآية 6 .

فوائد الأصول ـ 362 ـ
  ومن قال : إنه لا يعتبر في الوضوء قصد الكون على الطهارة (1) حمل الأمر بالتطهير في آية الغسل على أن المراد منه نفس الأفعال لا المعنى الحاصل منها ويكون التطهير من قبيل الحكم والمصالح ، ويؤيد ذلك ما ورد في بعض الأخبار : من ( أن الله تعالى إنما أمر بالوضوء ليكون العبد متطهرا بين يدي الله تعالى ) (2) فان الظاهر منه هو أن تكون الطهارة من الخواص والآثار المترتبة على أفعال الوضوء ، لا أنها من المسببات التوليدية ، وذكرنا ـ في مبحث الاشتغال ـ الفرق بين المسببات التوليدية والمقدمات الإعدادية ، وأن باب المصالح والمفاسد ليست من المسببات التوليدية ، بل إنما هي من الخواص والآثار المترتبة على متعلقات التكاليف ، فراجع ذلك المبحث ، فإنه قد استوفينا الكلام فيه بما لا مزيد عليه ، وغرضنا في المقام مجرد الإشارة ، فلا فائدة في تكرار الكلام في ذلك ، مع أنه أمامنا مباحث مهمة ينبغي صرف عنان الكلام فيها ، ولعل الله يوفقنا للتعرض إلى جملة مما يتعلق بلباس المشكوك من المباحث النفيسة التي أفادها شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) ما لم تخطر ببال من سبقه من الأعلام .
  وقد تحصل من جميع ما ذكرنا : أن دلالة قوله ـ صلى الله عليه وآله ـ ( رفع ما لا يعلمون ) على ما هو محل البحث بين الأصوليين والأخباريين ـ وهو جواز الاقتحام في الشبهات التحريمية ـ في غاية الوضوح .


(1) أقول : لو قلنا في باب الوضوء : إنه من المطلوبات النفسية علاوة عن مطلوبيتها غيريا ـ كما قيل به في الغسل ـ فما أفيد من ابتناء النزاع في لزوم قصد الغاية وعدمه في غاية المتانة ، وحينئذ يكون الوضوء بنفسه عبادة وقعت مقدمة لعبادة أخرى ، وأما لو قلنا بأنه ممحض في المطلوبية الغيرية وأن عباديته من جهة دعوة أمره الغيري إليه بلا أمر آخر نفسي فيه ، فربما يكون منشأ النزاع السابق شيء آخر ، وهو أن دعوة الأمر الغيري هل يمكن بلا قصد التوصل به إلى الغير ؟ أو لا يمكن إلا مع القصد المزبور ؟ فعلى الأول : لا يجب قصد الغاية ، بخلافه على الثاني ، فإنه لا يمكن الامتثال به إلا مع قصد الغاية ، حتى بناء على كون الوضوء مقدمة لا الكون على الطهارة ، فراجع المسألة في محله وتدبر .
(2) الوسائل : الباب 1 من أبواب الوضوء الحديث 9 ولفظ الحديث ( إنما امر بالوضوء وبدئ به لأن يكون العبد طاهرا إذا قام بين يدي الجبار ) الحديث .

فوائد الأصول ـ 363 ـ
  وقد استدل للبرائة بأخبار أخر ، أظهرها دلالة قوله ـ عليه السلام ـ ( كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهى ) (1) .
  والاستدلال به مبنى على أن يكون ( الورود ) بمعنى الوصول إلى المكلفين ، لا الورود المقابل للسكوت ، وإلا كان مفاده أجنبيا عن محل البحث ، فان الورود المقابل للسكوت هو بمعنى الجهل بالتشريع ، فيكون مفاد الحديث المبارك : ( كل شيء مطلق والناس منه في سعة ما لم يبين الله تعالى حكمه ) أي ما دام مسكوتا عنه ، كما ورد في الخبر : ( إن الله تعالى سكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا ) الخبر (2) وأين هذا مما هو مورد البحث من الشك في التكليف بعد تبين الأحكام وتبليغها إلى الأنام وعروض الاختفاء لبعضها لبعض موجبات الاختفاء ! .
  وقد استدل على البراءة بقوله ـ عليه السلام ـ ( كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه ) أو ( حتى تعرف الحرام منه بعينه ) على اختلاف النسخ (3) .
  وقوله ـ عليه السلام ـ : ( كل شيء لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه (4) .
  ولا يخفى : ظهور كلمة ( فيه ) و ( منه ) و ( بعينه ) في الانقسام والتبعيض الفعلي ـ أي كون الشيء بالفعل منقسما إلى الحلال والحرام ـ بمعنى أن يكون قسم منه حلالا وقسم منه حراما واشتبه الحلال منه بالحرام ولم يعلم أن المشكوك من القسم الحلال أو الحرام ، كاللحم المطروح المشكوك كونه من الميتة أو المذكى ، أو المايع المشكوك كونه من الخل أو الخمر ، فان اللحم أو المايع


(1) الوسائل الباب 12 من أبواب صفات القاضي الحديث 60 .
(2) نهج البلاغة قصار الحكم 105 .
(3) الوسائل : الباب 4 من أبواب ما يكتسب به الحديث 1 .
(4) الوسائل : الباب 4 من أبواب ما يكتسب به الحديث 4 .

فوائد الأصول ـ 364 ـ
  بالفعل منقسم إلى ما يكون حلالا وإلى ما يكون حراما ، وذلك لا يتصور إلا في الشبهات الموضوعية .
  وأما الشبهات الحكمية : فليس القسمة فيها فعلية وإنما تكون القسمة فيها فرضية ، ـ أي ليس فيها إلا احتمال الحل والحرمة ـ فان شرب التتن الذي فرض الشك في كونه حلالا أو حراما ليس له قسمان : قسم حلال وقسم حرام ، بل هو إما أن يكون حراما وإما أن يكون حلالا ، فلا يصح أن يقال : إن شرب التتن فيه حلال وحرام ، إلا بضرب من التأويل والعناية التي لا يساعد عليها ظاهر اللفظ .
  فكلمة ( فيه ) ظاهرة في اختصاص الحديث في الشبهات الموضوعية ، وكذا كلمة ( بعينه ) فان معرفة الشيء بعينه إنما يكون في الموضوعات الخارجية (1) ولا معنى لأن يقال : حتى تعرف الحكم بعينه .
  ومن ذلك يظهر : اختصاص قوله ـ عليه السلام ـ ( كل شيء لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه ) بالشبهات الموضوعية ، فإنه لولا كلمة ( بعينه ) كان الخبر عاما للشبهات الحكمية والموضوعية ، كقوله ـ عليه السلام ـ ( كل شيء لك طاهر حتى تعلم أنه قذر ) ولكن لفظة ( بعينه ) توجب ظهور الخبر في الشبهات الموضوعية .
  وقد استدل للبرائة بقوله ـ صلى الله عليه وآله ـ ( الناس في سعة ما لا يعلمون ) (2) وفي دلالته تأمل إلا على بعض الوجوه .


(1) أقول : معنى معرفة الحرام بعينه تشخيص الحرام من الحلال ، لا تشخيصه خارجا ، فلا قصور في شمول الحديث ـ لولا الأمثلة في ذيله ـ للشبهات الحكمية ، هذا مع إمكان حمل ( بعينه ) على بيان التأكيد لموضوع الحرمة وأنه حقيقة معروضها ، لا أنه من توابع المعروض ، فيرتفع حينئذ الإشكال رأسا ، نعم : العمدة في هذه الرواية الأمثلة الواقعة في ذيلها ، والذي يسهل الخطب أن هذه الأمثلة لا يناسب ( قاعدة الحلية ) حتى على اختصاصها في الشبهات الموضوعية ، فلابد من التفصي عنها على كلا التقديرين ، كما لا يخفى .
(2) مستدرك الوسائل : الباب 12 من أبواب مقدمات الحدود الحديث 4 ، لفظ الحديث فيه ( ... ما لم يعلموا ) .

فوائد الأصول ـ 365 ـ
  والإنصاف ، أن أظهر ما استدل به على البراءة من الأخبار هو ( حديث الرفع ) وفيه الكفاية .

وأما الإجماع :
  فقد أفاد الشيخ ( قدس سره ) في تقريره وجوها .
  ولكن الذي ينفع منه في المقام هو إجماع العلماء كافة من الأصوليين والأخباريين على البراءة ، والإجماع على هذا الوجه لم ينعقد ، بل هو مقطوع العدم ، كيف ! وجل الأخباريين ذهبوا إلى وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية الحكمية التي هو مورد البحث ، ولا يمكن دعوى عدم قدح مخالفتهم في تحقق الإجماع مع أن جملة منهم من أجلاء الأصحاب وأعيانهم .
  وأما بقية تقريرات الإجماع : فلا يمكن الركون إليها والاعتماد عليها ، بحيث تقدم أو تعارض ما سيأتي من الوجوه التي تمسك بها الأخباريون على وجوب الاحتياط ، لو تمت دلالتها وسلمت عن المناقشة في حد نفسها .

وأما العقل :
  فحكمه بالبرائة مما لا يكاد يخفى ، لاستقلاله بقبح العقاب بلا بيان واصل إلى المكلف بعد إعمال العبد ما تقتضيه وظيفته من الفحص عن حكم الشبهة واليأس عن الظفر به في مظان وجوده ، ولا يكفي في صحة المؤاخذة واستحقاق العقوبة مجرد البيان الواقعي مع عدم وصوله إلى المكلف ، فان وجود البيان الواقعي كعدمه غير قابل لأن يكون باعثا ومحركا لإرادة العبد ما لم يصل إليه ويكون له وجود علمي .
  فتوهم : أن البيان في موضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان هو البيان الواقعي ـ سواء وصل إلى العبد أو لم يصل ـ فاسد ، فان العقل وإن استقل بقبح العقاب مع عدم البيان الواقعي ، إلا أنه استقلاله بذلك لمكان أن مبادئ الإرادة الآمرية بعد لم تتم ، فلا إرادة في الواقع ، ومع عدم الإرادة لا مقتضى لاستحقاق العقاب ، لأنه لم يحصل تفويت لمراد المولى واقعا ، بخلاف البيان

فوائد الأصول ـ 366 ـ
  الغير الواصل فإنه وإن لم يحصل مراد المولى وفات مطلوبه واقعا ، إلا أن فواته لم يستند إلى المكلف بعد إعمال وظيفته ، بل فواته إما أن يكون من قبل المولى إذا لم يستوفى مراده ببيان يمكن وصول العبد إليه عادة ، وإما أن يكون لبعض الأسباب التي توجب اختفاء مراد المولى عن المكلف ، وعلى كل تقدير : لا يستند الفوات إلى العبد ، فلأجل ذلك يستقل العقل بقبح مؤاخذته ، فمناط حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان واقعي غير مناط حكمه بقبح العقاب من غير بيان واصل إلى المكلف .
  فان قلت : يكفي في البيان حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل ، فان الشك في التكليف يلازم الشك في الضرر ، والعقل يستقل بلزوم دفع الضرر المحتمل ، فيرتفع موضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان .
  قلت : قد تقدم الكلام في كل من الصغرى والكبرى بما لا مزيد عليه ـ في مبحث الظن قبل دليل الانسداد ـ وإجماله : أن المراد من الضرر في حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل ، إما أن يكون هو الضرر الدنيوي من نقص في الأنفس والأطراف والأعراض ، وإما أن يكون هو الضرر الأخروي من العذاب والعقاب ، وإما أن يكون هو المصالح والمفاسد التي تبتنى عليها الأحكام من القرب والبعد ونحو ذلك مما لا يرجع إلى الضرر الدنيوي ولا إلى العقاب الأخروي ، فإنه يمكن أن تكون مناطات الأحكام أمورا اخر غير المضار الدنيوية والعقاب الأخروي .
  وحكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل في هذه الوجوه الثلاثة ليس بمناط واحد ، بل حكمه بوجوب دفع الضرر الدنيوي بالنسبة إلى خصوص الأنفس والأطراف أو الأعراض أيضا يمكن أن يكون لأجل ما في الضرر الواقعي من المفسدة التي أدركها العقل فاستقل بقبح الإقدام عليه ، ويتبعه حكم الشرع بحرمته لقاعدة الملازمة ، فان الحكم العقلي في ذلك واقع في سلسلة علل الأحكام ، وكلما كان الحكم العقلي واقعا في هذه السلسلة يكون مورد

فوائد الأصول ـ 367 ـ
  القاعدة الملازمة فيستتبعه الحكم الشرعي .
  فعلى هذا يكون حكمه بقبح الإقدام على ما يحتمل فيه الضرر أو يظن طريقا محضا للتحرز عن الوقوع في الضرر الواقعي ، فلا يترتب على موافقته ومخالفته غير ما يترتب على نفس الواقع عند موافقة الظن أو الاحتمال للواقع أو مخالفته .
  ويمكن أن يكون تمام موضوع حكم العقل هو الإقدام على ما لا يأمن معه من الوقوع في الضرر الواقعي ، من غير فرق بين صورة القطع بالضرر أو الظن أو الاحتمال ، نظير حكمه بقبح التشريع ، على ما تقدم بيان ذلك .
  وعلى كل تقدير : سواء كان حكم العقل في باب الضرر الدنيوي بهذا الوجه أو بذلك الوجه يستتبع الحكم الشرعي المولوي على وفقه (1) .
  هذا كله إن كان المراد من الضرر في حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل هو الضرر الدنيوي .
  وإن كان المراد منه الضرر الأخروي ، فحكمه بلزوم دفع المقطوع والمظنون والمحتمل بل الموهوم إنما يكون إرشادا محضا ليس فيه شائبة المولوية ، ولا يمكن أن يستتبع حكما شرعيا ، لأن حكم العقل في ذلك إنما يكون واقعا في سلسلة معلولات الأحكام فلا يكون موردا لقاعدة الملازمة ـ كما أوضحناه في محله ـ ولكن ذلك فرع احتمال العقاب ، ومع عدم وصول التكليف بوجه لا تفصيلا ولا إجمالا يحتمل العقاب ، لقبح العقاب بلا بيان ، فحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان يكون حاكما وواردا على حكمه بلزوم دفع الضرر المحتمل .
  وبالجملة : بعد استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان واصل إلى المكلف ، تختص ( قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل ) بأطراف العلم الإجمالي


(1) أقول : في الضرر الواقعي على الأول ، وفي محتمله على الثاني .

فوائد الأصول ـ 368 ـ
  أو الشبهة البدوية قبل الفحص ، وأما الشبهة البدوية بعد الفحص فلا يحتمل فيها العقاب ، لأن حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان يوجب القطع بعدم العقاب .
  والحاصل : أن حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل لا يصلح أن يكون بنفسه بيانا للتكليف المشكوك (1) لأنه لا يكون رافعا للشك ، وتمام الموضوع لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان هو نفس الشك في التكليف ، فإنه بمجرده يستقل العقاب بقبح العقاب عليه فينقطع بعد العقاب ، فيرتفع موضوع قبح الإقدام على ما لا يأمن معه من الضرر .
  هذا إذا كان المراد من الضرر في القاعدة الضرر العقابي .
  وإن أريد منه المصالح والمفاسد التي تكون مناطات الأحكام ، فالشك في التكليف وإن كان يلازم الشك في المصلحة والمفسدة ، إلا أن التحرز عن احتمال المفسدة وفوات المصلحة ليس مما يستقل العقل بلزومه ، بل إن أدرك العقل المصلحة والمفسدة التامة وأحاط بجميع الجهات ولم ير مزاحما لها حكم بقبح تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة ، وأما مجرد احتمال وجود المصلحة والمفسدة مع احتمال وجود المزاحم فلا سبيل إلى دعوى استقلال العقل بقبح الاقتحام على ما فيه احتمال المفسدة وترك ما فيه احتمال المصلحة .
  نعم : قد تكون المفسدة أو المصلحة المحتملة بمثابة من الأهمية يلزم التحرز عن الوقوع في مخالفتها ولو احتمالا ، إلا أنه لو كانت بهذه المثابة فعلى الشارع جعل المتمم وايجاب الاحتياط ، كما أوجبه في باب الدماء والفروج والأموال ، ومع الشك في ايجاب الاحتياط كان المرجع هو البراءة ، لأنه كأحد التكاليف المجهولة ، فيعمه ( حديث الرفع ) .
  ومما ذكرنا يظهر : ما في كلام الشيخ ( قدس سره ) من الخلل ، حيث


(1) أقول : لو اقتصر بالبيان الأول لكان أولى ، لأن في بيانية التكاليف الطرقية لا يحتاج إلى رفع الشك ، نظير ايجاب الاحتياط في الشبهات البدوية .

فوائد الأصول ـ 369 ـ
  قال ( قدس سره ) : ( ودعوى أن حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل بيان عقلي فلا يقبح بعده المؤاخذة مدفوعة بأن الحكم المذكورة على تقدير ثبوته لا يكون بيانا للتكليف المجهول المعاقب عليه ، وإنما هو بيان لقاعدة كلية ظاهرية وإن لم يكن في مورده تكليف في الواقع ، فلو تمت عوقب على مخالفتها ) إلى أن قال : ( وإن أريد بها مضرة أخرى غير العقاب التي لا يتوقف ثبوتها على العلم ، فهو وإن كان محتملا لا يرتفع احتماله بقبح العقاب من غير بيان ، إلا أن الشبهة من هذه الجهة موضوعية ) إلى آخر ما أفاده .
  والإنصاف : أنه ما كنا نترقب من الشيخ ( قدس سره ) ذلك (1) فان حكم العقل بقبح الإقدام على ما يحتمل فيه الضرر العقابي إنما يكون إرشادا محضا لا يمكن أن يستتبع حكما مولويا شرعيا ، فكيف يمكن أن يكون العقاب على مخالفته وإن لم يكن في مورده تكليف واقعي ؟ وكيف صار هذا الحكم العقلي من القواعد الظاهرية ؟ مع أن مخالفة الأحكام الظاهرية لا تستتبع


(1) أقول : لا نفهم من كلمات الشيخ ( قدس سره ) أزيد مما أخذت بقوله : والحاصل إلى آخره ، وأن قوله : ( وإنما هو بيان لقاعدة كلية ظاهرية ) مبنى على تسليم البيانية ولا يكون إرشادا ، لا أنه مسلم عنده ، كيف ! وصريح كلماته في الشبهة المحصورة وغيرها إرشادية هذا الحكم بالنسبة إلى احتمال العقاب ، كما أن لازم كونه حكما مولويا ظاهريا الالتزام بالعقوبة على نفسه ولو لم يكن في الواقع تكليف ، كما هو شأن موضوعية الطريق عند المخالفة .
وتوهم : أن الأحكام الظاهرية لا يعاقب عليها عند مخالفتها للواقع ، صحيح في الأوامر الطرقية لا في الأوامر النفسية المجعولة نفسيا في ظرف الجهل بالحكم .
وما أفيد أيضا بأن في الأصول الغير المحرزة يعاقب على مخالفتها بشرط وجود التكليف في موردها ، كلام ظاهري ، إذ الأمر في هذه القاعدة إن كان طريقيا يعاقب على الواقع ، وإن كان نفسيا يعاقب على نفسها وإن خالف الواقع .
  ولا نرى وجها لهذا الشرط الضمني ولا طعنا على مثل هذا ( المؤسس ) بعدم ترقبه منه صدور هذا الكلام ، ولقد صدر نظيره في ايجاب الاحتياط الشرعي ردا على الأخباريين أيضا .
نعم : الذي يرد عليه هو الذي أشرنا في ذيل قول المقرر ( والحاصل الخ ) وهو أن مجرد كونه حكما في ظرف الشك لا يقتضي أن يكون ايجابا نفسيا موجبا للعقوبة على نفسه مطلقا ، بل من الممكن كون أمره طريقيا حاكيا عن الإرادة الواقعية في ظرف الجهل بها وترخيصا محضا عند مخالفته للواقع ، وبه أجبنا عما أفاده في منع بيانية ايجاب الاحتياط الشرعي أيضا ، كما لا يخفى .

فوائد الأصول ـ 370 ـ
  استحقاق العقاب مع عدم مصادفتها للواقع ، بل العقاب يدور مدار مخالفة الواقع مع وجود طريق إليه ، وفي جميع موارد القواعد الظاهرية يكون العقاب على مخالفة الواقع أو على مخالفة القاعدة عند إدائها إلى مخالفة الواقع لا مطلقا ، على اختلاف فيها : من كونها محرزة للواقع كالأمارات والأصول التنزيلية فالعقاب على الواقع ، أو غير محرزة كأصالة الاحتياط فالعقاب على مخالفة القاعدة ولكن بشرط كونه مؤديا إلى مخالفة الواقع ، ويأتي بيان ذلك ( إن شاء الله تعالى ) في خاتمة الاشتغال .
  وعلى كل حال : ما أفاده الشيخ ( قدس سره ) من أن العقاب على مخالفة نفس القاعدة الظاهرية وإن لم تؤدى إلى مخالفة الواقع مما لا يستقيم .
  وأغرب من ذلك : ما أفاده أخيرا : من أنه لو كان المراد من الضرر غير العقاب من المصالح والمفاسد فاحتماله لا يرتفع بقاعدة قبح العقاب بلا بيان .
وهذا الكلام منه ( قدس سره ) يعطى أن المصالح والمفاسد من أفراد الضرر (1) وتعمها قاعدة ( قبح الإقدام على ما لا يأمن معه من الضرر ) ولكن الشارع رخص في الاقتحام في موارد احتمال المفسدة .
  وأنت خبير بما فيه ، فان باب المصلحة والمفسدة غير باب الضرر الذي يستقل العقل بلزوم التحرز عن محتمله .
  وعلى كل تقدير : فقد ظهر لك : أن حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان وارد على حكمه بقبح الاقتحام على ما لا يأمن معه عن الضرر العقابي ، وهذا الحكم العقلي يعم جميع الشبهات الحكمية والموضوعية التحريمية والوجوبية .
  ثم إنه ربما يستدل للبرائة باستصحاب البراءة المتيقنة حال الصغر ، وسيأتي البحث عن حال هذا الاستصحاب وأن استصحاب البراءة مما لا يجرى في شيء من المقامات ، سواء كان المراد من العدم المستصحب العدم



(1) أقول : ظاهر كلامه بيان أن مراده لو كان ذلك ، وذلك لا يدل على اختياره ، كما لا يخفى .

فوائد الأصول ـ 371 ـ
  حال الصغر قبل البلوغ ، أو العدم قبل الوقت في الموقتات ، فانتظر ما يأتي في مبحث الاشتغال ، فإنه قد استوفينا الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه في ذلك المقام .
  وقد استدل للبرائة بوجوه أخر لا تخلو عن ضعف ، فلا يهمنا التعرض لها وفيما ذكرناه كفاية .
  فلنشرع في أدلة الأخباريين وقد استدلوا بالأدلة الثلاثة :
  فمن الكتاب قوله تعالى : ( فاتقوا الله حق تقاته ) (1) وقوله تعالى : ( واتقوا الله ما استطعتم ) (2) وقوله تعالى : ( ولا تقف ما ليس لك به علم ) (3) فان الاقتحام في الشبهة ينافي التقوى المأمور بها .
وكذا الحكم بالترخيص وجواز الاقتحام فيها قول بغير علم .
  ولا يقال : إن الحكم بحرمة الاقتحام فيها أيضا قول بغير علم ، فان الأخباريين لا يقولون بالحرمة ، وإنما قالوا بترك الاقتحام فيها لاحتمال الحرمة ، فتأمل .
  ولا يخفى : أن الآيات الشريفة بمعزل عن الدلالة على مذهب الأخباريين .
أما آيات التقوى : فمع أنها لا تدل على الوجوب ، لا تنافى الاقتحام في الشبهة اعتمادا على حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان واتكالا على قوله ـ صلى الله عليه وآله ـ ( رفع ما لا يعلمون ) ومنه يظهر : أن القول بجواز الاقتحام ليس قولا بغير علم ، لدلالة حكم العقل والشرع على عدم استحقاق العقاب على التكليف الغير الواصل ، فيكون القول بالجواز قولا عن علم .



(1) سورة آل عمران الآية 102 .
(2) سورة التغابن الآية 16 .
(3) سورة الأسراء الآية 36 .

فوائد الأصول ـ 372 ـ
ومن السنة طوائف :
  منها : أخبار التوقف كقوله ـ عليه السلام ـ ( الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ) (1) وهي كثيرة مستفيضة ، بل تبلغ حد التواتر ، وظاهر التوقف هو السكون وعدم الحركة فالتوقف في الشبهات عبارة عن الاحتياط فيها وترك المضي فيها .
  ومنها : الأخبار الدالة على وجوب الاحتياط ، وهي كثيرة أيضا تبلغ حد الاستفاضة ، ففي الصحيح : عن رجلين أصابا صيدا وهما محرمان الجزاء بينهما أو على كل واحد منهما جزاء ؟ قال لا ، بل عليهما أن يجزى كل واحد منهما الصيد ، قلت : إن بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه ، فقال : إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتى تسئلوا عنه فتعلموا (2) .
  وفي موثقة عبد الله ، قال : كتبت إلى العبد الصالح ـ عليه السلام ـ يتوارى القرص ويقبل الليل ثم يزيد الليل ارتفاعا وتستتر عين الشمس ويرتفع فوق الجبل حمرة ويؤذن عندنا المؤذنون فأصلي حينئذ وأفطر إن كنت صائما أو أنتظر حتى تذهب الحمرة التي فوق الليل [ الجبل ] فكتب إلى : أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائط لدينك ، الخبر (3) .
  وعن ( المفيد الثاني ) قال : إن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ قال لكميل بن زياد : أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت (4) .
  وقوله ـ عليه السلام ـ ليس بناكب عن الصراط من سلك سبيل الاحتياط (5) .



(1) الوسائل : الباب 12 من أبواب صفات القاضي الحديث 13 .
(2) الوسائل : الباب 12 من أبواب صفات القاضي الحديث 1 .
(3) الوسائل الباب 52 من أبواب ما يمسك عنه الصائم الحديث 2 .
(4) الوسائل الباب 12 من أبواب صفات القاضي الحديث 41 .
(5) قال الشيخ (ره) في ( الفرائد ) أرسله الشهيد .

فوائد الأصول ـ 373 ـ
  إلى غير ذلك من الروايات الدالة على حسن الاحتياط ووجوبه .
  ومنها : أخبار التثليث ، كقوله ـ عليه السلام ـ في ذيل مقبولة عمر بن حنظلة : وإنما الأمور ثلاثة : أمر بين رشده فيتبع ، وأمر بين غيه فيجتنب ، وأمر مشكل يرد علمه إلى الله تعالى وإلى رسوله ـ صلى الله عليه وآله ـ قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك فمن ترك الشبهات نجى من المحرمات ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم (1) .
  وتقريب الاستدلال بها : هو أن ( المقبولة ) دلت على وجوب ترك الشاذ معللا بأنه فيه الريب ، ومقتضى عموم العلة هو وجوب ترك كل ما كان فيه الريب والشك ، ومنه ما هو المبحوث عنه من الشبهات التحريمية ، بل مورد الرواية مختص بما كان الشك فيه لأجل احتمال الحرمة ، كما يظهر من قوله ـ صلى الله عليه وآله ـ ( حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك ) أي بين الحلال والحرام .
  فدلالة أخبار التثليث على وجوب التحرز عن الشبهات التحريمية وحرمة الاقتحام فيها أوضح من الأخبار السابقة ، هذا .
  والجواب أما عن الطائفة الأولى : فالأمر بالتوقف فيها لا يصلح إلا للإرشاد ، ولا يمكن أن يكون أمرا مولويا يستتبع الثواب والعقاب ، فان المراد من ( الهلكة ) في قوله ـ عليه السلام ـ ( الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ) هي العقاب ولا يمكن أن يكون المراد منه العقاب الجائي من قبل مخالفة الأمر بالتوقف ، لأن الظاهر أن يكون قوله ـ عليه السلام ـ ذلك لبيان الملازمة بين الاقتحام والوقوع في الهلكة ، فلابد وأن تكون الهلكة مفروضة الوجود والتحقق مع قطع النظر عن الأمر بالتوقف ، لتكون في البين ملازمة بين .



(1) الوسائل الباب 12 الحديث 9 .

فوائد الأصول ـ 374 ـ
  عدم التوقف والهلكة ، ولا يمكن فرض وجود الهلكة إلا بعد فرض تنجز التكليف ، وذلك لا يكون إلا في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي ، فيكون حاصل مفاد قوله ـ عليه السلام ـ ( الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ( هو أن ترك التعرض للشبهة التي يحتمل انطباق التكليف عليها خير من الوقوع في عقاب مخالفة التكليف إذا صادفت الشبهة متعلق التكليف ، فعلى هذا يكون الأمر بالتوقف للإرشاد وهو تابع للمرشد إليه ، فان صادفت الشبهة متعلق التكليف يستحق المكلف العقوبة لفرض تنجز التكليف ، وإن خالفت الشبهة متعلق التكليف لم يكن في البين شيء إلا التجري .
  ويحتمل قريبا أن تكون روايات التوقف لإفادة معنى آخر ، وهو أن الاقتحام في الشبهات يوجب وقوع المكلف في المحرمات ، لا أن نفس الاقتحام في الشبهة حرام إذا صادف الحرام المعلوم بالإجمال ـ كما هو مفاد الوجه الأول ـ بل ترك الوقوف عندها والاقتحام فيها مظنة الوقوع في المحرمات ، فان الشخص إذا لم يجتنب عن الشبهات وعود نفسه على الاقتحام فيها هانت عليه المعصية وكان ذلك موجبا لجرئته على فعل المحرمات ، وقد ورد نظير ذلك في باب المكروهات (1) فإنه لو لم يعتنى المكلف بالمكروهات وأكب على فعلها أدى ذلك إلى الجرئة على فعل المحرمات ، كما أن الشخص لو لم يعتنى بالمعصية الصغيرة هانت عليه الكبيرة ( أعاذنا الله من ذلك ) وأما إذا لم يعود الشخص نفسه على الاقتحام في الشبهات بل عود نفسه على التجنب عنها والوقوف عندها حصلت ملكة التجنب عن المعاصي ، وإلى ذلك يشير قوله ـ عليه السلام ـ ( والمعاصي حمى الله فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها ) (2) .
  وعلى هذا فالأمر بالوقوف عند الشبهة يكون استحبابيا ، كما هو الظاهر


(1) لم أجده بعد الفحص والسؤال ( المصحح ) .
(2) الوسائل الباب 12 من أبواب صفات القاضي الحديث 22 .

فوائد الأصول ـ 375 ـ
  من قوله ـ عليه السلام ـ في بعض أخبار التوقف ( أورع الناس من وقف عند الشبهة ) (1) وقوله ـ عليه السلام ـ ( لا ورع كالوقوف عند الشبهة ) (2) .
  وعلى كل حال : من راجع أخبار التوقف وتأمل فيها يقطع بأن الأمر فيها ليس أمرا مولويا بنفسه يستتبع الثواب والعقاب ، فلا يصلح للأخباري الاستدلال بها على مدعاه .
  وأما الطائفة الثانية : وهي الأخبار الواردة في الأمر بالاحتياط ، فأظهرها دلالة ما تقدم منها ، وهي لا تصلح للاستدلال بها على وجوب الاحتياط في الشبهات البدوية .
  أما الصحيحة الأولى : فلعدم العمل بها في موردها ، فان الشك في وجوب الجزاء على كل من اللذين اصطادا ، إما أن يرجع إلى الأقل والأكثر الارتباطيين ، وإما أن يرجع إلى الأقل والأكثر الغير الارتباطيين ، لأن في صورة اشتراك الشخصين في الصيد ، إما أن نقول بوجوب إعطاء نفس البدنة ، وإما ان نقول بوجوب إعطاء قيمة البدنة .
  فان قلنا : بوجوب إعطاء القيمة فالشك في مورد السؤال يرجع إلى الأقل والأكثر الغير الارتباطيين ، لأن اشتغال ذمة كل منهما بنصف قيمة البدنة متيقن ويشك في اشتغال الذمة بالزائد ، نظير تردد الدين بين الأقل والأكثر .
  وإن قلنا : بوجوب إعطاء نفس البدنة فالشك في مورد السؤال يرجع إلى الأقل والأكثر الارتباطيين ، لأنه يدور الأمر بين وجوب إعطاء تمام البدنة على كل منهما أو نصفها ، وعلى تقدير كون الواجب هو تمام البدنة لا يجزى الأقل ولا يسقط به التكليف (3) نظير تردد أجزاء الصلاة بين الأقل والأكثر ،


(1) الوسائل الباب 12 من أبواب صفات القاضي الحديث 24 .
(2) الوسائل الباب 12 من أبواب صفات القاضي الحديث 20 .
(3) أقول : من الممكن على هذا التقدير أن الواجب عليه البدنة بما لها من المالية في ضمن خصوصية العين ، فإنه حينئذ لو أعطى نصف البدنة مشاعا في تمامها يجزى عن تكليفه بمقداره ولو كان الواجب عليه تمام .