الأخبار على عدم المؤاخذة على القصد :
  نعم : يمكن أن يكون الجامع هو القصد مع الجري على طبقه ، وبعبارة أخرى : القصد الذي يكون له مظهر ، فإن هذا المعنى موجود في قسمي التجري ، وبذلك يجمع بين الأخبار الدالة على عدم المؤاخذة على قصد السوء والأخبار الدالة على المؤاخذة بحمل الطائفة الأولى على القصد المجرد ، والثانية على القصد الذي يكون له مظهر ، ولكن الكلام حينئذ في الشاهد على هذا الجمع ، فإنه بدون ذلك يكون من الجمع التبرعي الذي لا عبرة به ، وليس في الأخبار ما يمكن أن يكون شاهدا على ذلك .
  ومما ذكرنا يظهر ما في دعوى الإجماع في المقام ، لا من جهة كون المسألة عقلية ولا عبرة بالإجماع في المسائل العقلية فان المسألة ـ على ما حررناها ـ تكون فقهية ومن المسائل الشرعية ، بل لعدم الإجماع في المسألة ، فإنه لم ينعقد الإجماع على حرمة القصد الذي يكون له مظهر ولا ادعاه أحد .
  نعم : ادعى الإجماع في موردين : أحدهما : فيمن ظن ضيق الوقت و أخر الصلاة ثم تبين الخلاف وسعة الوقت ، حيث ادعى الإجماع على عصيانه بتأخير الصلاة واستحقاقه العقاب ، وذلك لا يكون إلا بناء على حرمة التجري .
  ثانيهما : فيمن سلك طريقا مظنون الضرر ، حيث ادعى الإجماع أيضا على عصيانه ووجوب الإتمام عليه لكون سفره سفر معصية ولو انكشف عدم الضرر ، وهذا أيضا لا يتم إلا بناء على حرمة التجري ، هذا .
  ولكن يمكن أن يقال : إن كلا من الموردين اللذين ادعى عليهما الإجماع خارج عما نحن فيه ، وليس من موارد التجري .
  أما في الأول : فلان خوف الضيق يكون تمام الموضوع لوجوب المبادرة بالصلاة شرعا (1) ويكون وجوب المبادرة حينئذ نفسيا لا طريقيا إرشاديا .


(1) أقول : الأولى أن يقال : إن موضوع التجري إنما يتحقق بارتكاب ما قام عنده الطريق على الحرمة

فوائد الأصول ـ 52 ـ
  وأما في الثاني : فلأن للعقل في باب الضرر الدنيوي حكم واحد ، و هو قبح الإقدام على ما لا يؤمن معه من الوقوع في الضرر ، نظير حكمه بقبح التشريع ، وليس حكم العقل بقبح الإقدام على مظنون الضرر أو مشكوكه طريقيا نظير حكمه بقبح ما لا يؤمن معه من الوقوع في التصرف في مال الغير ، فان محل الكلام إنما هو الضرر الدنيوي ، إذ الضرر الأخروي ليس هو إلا العقاب وحكم العقل في لزوم دفعه يكون إرشاديا محضا لا يستتبع حكما مولويا ، كحكمه بقبح المعصية .
  وأما الضرر الدنيوي فالعقل وإن استقل بلزوم دفع بعض مراتبه ، إلا أن حكم العقل في باب الضرر يكون في صورة العلم و الظن بل الاحتمال العقلائي بمناط واحد ، وهو قبح الإقدام على ما لا يؤمن منه من الضرر ، وعلى هذا يخرج من موضوع التجري وليس فيه انكشاف الخلاف .
  فتحصل : أنه لم يتم إجماع على حرمة التجري بالقسم المبحوث عنه في المقام ولا دل عليه دليل .
  نعم : يمكن القول بحرمة القسم الآخر من التجري (1) وهو ما إذا قصد المعصية وتلبس بمقدماتها ومنعه عن وقوع المعصية مانع .
  وعلى ذلك تحمل الواقعية قطعا أو قطعيا مع فرض مخالفة الطريق للواقع ، وهذا المعنى أجنبي عن معقد الإجماع ، إذ ظاهر معقد الإجماع في المسئلتين هو قيام مطلق الظن على الضيق والضرر ، فلا محيص حينئذ من الالتزام بموضوعية الظن المزبور ، كيف ولولاه لا ملزم في البين مع عدم الحجية الظن المزبور أصلا ! وعلى التقديرين لا يتصور عنوان التجري في المقام حينئذ ، فتدبر .


(1) أقول : لو التزمت بحرمة التجري فيما ذكرت فأنشدك بالله ! أن عدم منع المانع عن العمل مانع عن حرمته ؟ بل لنا أن نقول : إن مناطه بالأولوية يجرى في المقام .
والتحقيق أن يقال : إن بنينا بعدم استقلال العقل بأزيد من سوء سريرة الفاعل الكاشف عن تجريه ، فقيام دليل تعبدي على الحرمة في التجري ـ ولو لمورد من موارده ـ دونه خرط القتاد ! بل لابد من حمل أخبار حرمة قصد المعصية على إثبات حرمة هذا العنوان المخصوص الغير المرتبط بباب التجري الكاشف عن سوء سريرته وإن كان ملازما له .
وإن قلنا باستقلال العقل بقبحه ، فلا محيص من حمل أخبار العقوبة على الإرشاد ، لاستحالة إعمال جهة المولوية مع الاستقلال العقلي المزبور .
فعلى أي حال لا يبقى مجال إثبات حرمة التجري شرعا مولويا ، كما لا يخفى .

فوائد الأصول ـ 53 ـ
  الأخبار الواردة على المؤاخذة على القصد كما هو مورد بعضها ، وعليه يكون حرمة التجري المبحوث عنه في المقام خاليا عن الدليل ، فالأقوى عدم حرمته .
  بقى في المقام أمران ينبغي التنبيه عليهما :
  الأول : لا فرق في قبح التجري أو استحقاق المتجرى للعقاب بين مخالفة العلم أو مخالفة الطرق والأصول المثبتة للتكليف ، فإنه في الجميع يتحقق عنوان التجري ، ولا خصوصية للعلم بعد ما كانت الطرق والأصول منجزة للواقع ، والعبرة إنما تكون بمخالفة المنجز علما كان أو غيره ، بل في غير العلم يمكن أن يقع التجري على وجهين ، فإنه لو قامت الأمارة على خمرية مايع فتارة : يشربه المكلف على أنه خمر ، وأخرى : يشربه برجاء أنه لم يكن خمرا ، لاحتمال مخالفة الأمارة للواقع ، فعلى الأول : يكون متجريا بالنسبة إلى الواقع إذا كانت الأمارة مخالفة له .
  وعلى الثاني : يكون متجريا بالنسبة إلى الطريق (1) والتعبد بإلقاء احتمال الخلاف والبناء على أنه خمر ، فتأمل .
  وهذا في العلم لا يأتي ، لعدم جريان احتمال الخلاف في نظر العالم ، فالتجري في حقه لا يكون إلا بالنسبة إلى الواقع .
  هذا إذا لم نقل بالسببية في باب الطرق والأصول ، وإلا كان المخالف لها عاصيا حقيقة ، وليس من التجري ، هذا في الأصول والأمارات المثبتة للتكليف .
  وأما النافية : فلا إشكال في رجحان الاحتياط معها ، ولكن لو فعل متعلقها برجاء مخالفتها للواقع فلا يبعد أن يكون من التجري ، كما لو قامت


(1) أقول : الأمر بإلغاء الاحتمال إذا كان طريقيا ففي صورة المخالفة لا يكون إلا ترخيصا ، فبنائه في المقام على العمل برجاء المخالفة مرجعه إلى البناء على كونه ترخيصا ، فأين يتصور حينئذ تجرى بالنسبة إلى الطريق ، ولعل أمره بالتأمل يشير إليه .

فوائد الأصول ـ 54 ـ
  البينة على عدم خمرية مايع وشرب المكلف ذلك المايع برجاء أنه خمر وأن البينة مخالفة للواقع ، فحيث لم يكن شربه ذلك مستندا إلى الترخيص الشرعي كان ذلك من التجري ، بل لا يبعد أن يكون ذلك من المعصية الحقيقية إذا كانت البينة في الواقع مخالفة وكان ما شربه خمرا ، ويكون المقام نظير الاقتحام في الشبهات قبل الفحص ، فتأمل .
  الثاني : ذكر ( صاحب الفصول ) ان قبح التجري يختلف بالوجوه و الاعتبار ، وربما يطرء عليه ما يخرجه عن القبح ، كما إذا علم بحرمة ما يكون في الواقع واجبا وكان مصلحة الوجوب غالبة على مفسدة التجري أو مساوية ، و على هذا يختلف التجري حسنا وقبحا شدة وضعفا باختلاف الفعل المتجرى به .
  ثم ذكر أن التجري لو صادف المعصية الحقيقية يتداخل عقابه مع عقاب المعصية ولا يتعدد عقابه ، هذا .
  ولكن لا يخفى عليك أنه لا يستقيم شيء مما ذكره ، أما في دعواه الأولى : من كون قبح التجري يختلف بالوجوه والاعتبار .
  ففيها أنه لا يعقل الاختلاف في قبح التجري (1) فان القبح ذاتي له ، كقبح المعصية وحسن الطاعة وقبح الظلم وما شابه ذلك من العناوين التي تتغير عما هي عليها ، و ليس كقبح الكذب وحسن الصدق مما يمكن أن يطرء عليه جهة توجب حسن الأول وقبح الثاني ، وكيف يعقل أن يطرء على التجري جهة توجب حسنه ؟ فكما لا يمكن أن تتصف الطاعة بالقبح والمعصية بالحسن كذلك لا يمكن أن يتصف التجري بالحسن .


(1) أقول : ما أفاده ( الفصول ) وما أجابه المجيب إنما يجرى بناء على وحدة الموضوع بين الواقع والتجري ، ولقد أشرنا سابقا أنه بمعزل عن التحقيق ، كما بينا من أن موضوع الواقع والتجري عنوانان طوليان بنحو يسرى الحكم من أحدهما إلى الآخر ، فأين تزاحم في البين حينئذ ؟ فتدبر .

فوائد الأصول ـ 55 ـ
  وأما في دعواه الثانية : من أن العلم بحرمة ما يكون واجبا مغير لجهة قبح التجري .
  ففيها أنه لو سلمنا اختلاف قبح التجري بالوجوه والاعتبار ، و لكن الجهات المغيرة للحسن والقبح لابد وأن تكون ملتفتا إليها ، لما تقدم من أن العلم في باب الحسن والقبح العقلي له جهة موضوعية ، ولا يمكن أن يكون الشيء قبيحا عقلا بلا أن يكون الموجب للقبح ملتفتا إليه (1) فالكذب الذي يتوقف عليه إنجاء البنى قبيح إذا لم يلتفت إلى التوقف ، والصدق الموجب لهلاك البنى حسن إذا لم يلتفت إلى ذلك ، وباب الحسن والقبح غير باب المصلحة والمفسدة التي لا دخل للعلم بها ، فمجرد كون الفعل المتجرى به ذا مصلحة واقعا لا يوجب تغيير قبح التجري بعد ما لم تكن المصلحة معلومة ولم يكن المكلف ملتفتا إلى وجوبه ، ففي مثل هذا قبح التجري يكون على حاله ، كما هو واضح .
  وأما ما في دعواه الثالثة : من أن التجري لو صادف المعصية يتداخل عقابه ، ففيها أن التجري لا يعقل أن يجتمع مع المعصية حتى يتداخل العقاب ، بل التجري في طرف النقيض للمعصية ، إذ قوام التجري هو عدم المصادفة و مخالفة الواقع (2) كما أن قوام المعصية هو المصادفة للواقع ، فكيف يجتمع التجري


(1) أقول : ما أفيد صحيح بالنسبة إلى العامل ، وأما بالنسبة إلى سائر الأنظار الملتفتين إلى الجهتين ، فلا قصور في اختلاف الجهات المحسنة والمقبحة من هذه الجهة ، نعم : الأولى الاقتصار إلى الجهة الأولى ، فتدبر .
(2) أقول : الذي به قوام التجري صدق إبراز الجرئة على المولى مع عدم صدق العصيان عليه ، وهذا المعنى ربما يتحقق ولو بايجاد مقدمة من المقدمات حتى عزمه على العصيان ، ومن المعلوم : أن هذه المقدمات غير نفس العصيان سواء صادف معه أم لا ، وليس من مقوماته عدم مصادفة هذه المقدمات مع العصيان ، وحينئذ لا قصور في اجتماع التجري مع العصيان في جميع موارد العصيان ، نعم : قد يتحقق بلا عصيان ، فتكون دائرة التجري أوسع من العصيان لا مبائنا معه موردا ، نعم : يباينه في الوجود ، فإن العصيان بنفسه غير التجري ، فهو لا يجتمع معه حتى موردا ، كما لا يخفى ، وحينئذ الذي يرد عليه : هو أن موضوع القبح لو كان هذا العنوان المقابل للعصيان لا موجب لتداخل عقابها ، نعم : لو كان صادقا حتى على نفس العصيان فعقابهما يتأكد لا أنه يتداخل ، ولكنه أيضا كما ترى ! ، نعم : بناء على التحقيق ـ كما أشرنا إليه ـ من أن موضوع القبح مطلق الطغيان الجامع بينهما ، لا بأس بالالتزام بأن الطغيان شخص واحد لا يكون إلا عقابا واحدا ، فإن أراد من التداخل هذا فلا بأس به ، فتدبر .

فوائد الأصول ـ 56 ـ
  مع المعصية ؟ .
  نعم : يمكن أن يوجه كلامه بحيث يرجع إلى أمر معقول وإن كان خلاف ظاهر كلامه ، بأن يقال : إن مراده من المعصية المجتمعة مع التجري غير المعصية التي علم بها وتجري فيها ، بل معصية أخرى ، كما لو علم بخمرية مايع فتجري وشربه ، ثم تبين أنه مغصوب (1) فان في مثل هذا يمكن أن يقال : إن المكلف تجرى بالنسبة إلى شرب الخمر وعصى بالنسبة إلى شرب المغصوب ، بناء على أن العلم بجنس التكليف والإلزام يكفي في تنجز التكليف وإن لم يعلم فصله ـ كما سيأتي في العلم الإجمالي ـ فيقال في المثال : إنه قد تعلق علمه بحرمة شرب المايع على أنه خمر ، فبالنسبة إلى كونه خمرا أخطأ علمه ، وبالنسبة إلى الحرمة لم يخطأ وصادف الواقع ، لأنه كان مغصوبا ، فيكون قد فعل محرما و يعاقب عليه وإن لم يعاقب على خصوص الغصبية لعدم تعلق العلم بها ، بل يعاقب على القدر المشترك بين الخمرية والغصبية ، فلو فرض أن عقاب الغصب أشد يعاقب عقاب الخمر ـ أي عقاب مقدار شرب الخمر ـ ولو انعكس الأمر و كان عقاب الخمر أشد يعاقب عقاب الغصب ، لأن المفروض أنه لم يشرب الخمر فلا يعاقب عليه .
  وفي الصورة الأولى إنما كان يعاقب عقاب شرب الخمر مع أنه لم يشرب الخمر ، من جهة أن عقاب ما يقتضيه شرب الخمر هو المتيقن الأقل والمنفى عنه هو العقاب الزائد الذي يقتضيه الغصب ، فتأمل جيدا .


(1) أقول : الظاهر من المثال كون القضية مشكوكة بدوية ، وإلا فلو كان طرفا للعلم الإجمالي فتكون الخمرية أيضا مشكوكة مثل الغصبية ، وهو خلاف ظاهر فرضه ، وحينئذ نقول : إن حرمة الغصب بعدما كان شخص حرمة أخرى غير حرمة الخمر ، فالعلم بشخص حرمة الخمر لا يكاد يسرى إلى حرمة الغصب ، وهما وإن كانا تحت جامع الحرمة ، لكن الذي هو معلوم الحصة من الجامع المختص بشخص حرمة الخمر ، ولا يسرى العلم إلى حصة أخرى الموجودة في الغصب ، وما قرع سمعك : من كفاية العلم بجنس التكليف ، إنما هو في الجنس القابل للانطباق على كل واحد من الشخصين ، كما في فرض العلم الإجمالي بأحد الحرمتين ، لا مثل المقام الذي أحدهما معلوم والآخر مشكوك ، ولو فرض المثال بصورة العلم الإجمالي بالخمرية والغصبية وأتى به برجاء الخمرية فبان غصبيا كان أولى ، فتدبر .

فوائد الأصول ـ 57 ـ
المبحث الخامس : ينسب إلى جملة من الأخباريين :
  عدم اعتبار القطع الحاصل من المقدمات العقلية ، وقد أنكر بعض الأعاظم هذه النسبة وادعى أن الأخباريين إنما ينكرون الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع .
  وذهب آخرون منهم إلى عدم حصول القطع من المقدمات العقلية وأنها لا تفيد إلا الظن .
  وحيث انجر الكلام إلى ذلك ، ينبغي بيان نبذة من المباحث الراجعة إلى المستقلات العقلية .
  والقوم وإن أطالوا البحث عن ذلك وصنفوا فيها رسائل ، إلا أنه لما كان خارجا عن المقصود فالأنسب أن نقتصر بالإشارة إلى الجهات التي وقع البحث عنها ، وتفصيلها يطلب من المطولات .
  الجهة الأولى :
  قد نسب إلى جملة من الأشاعرة إنكار الحسن والقبح العقليين وأن العقل لا يدرك حسن الأشياء وقبحها ، بل بالغ بعضهم وأنكر ثبوت جهة الحسن والقبح للأشياء وأن الحسن ما حسنه الشارع والقبيح ما قبحه ، وليست الأحكام تدور مدار المصالح والمفاسد .
  بل الشارع يكون مقترحا في أحكامه من دون أن يكون هناك مرجح ، وأنه لا مانع من الترجيع بلا مرجح .
  ولما كان هذا القول في غاية السخافة والسقوط أعرض عنه المحققون من الأشاعرة والتزموا بثبوت المصالح والمفاسد ، ولكن اكتفوا بالمصلحة والمفسدة النوعية القائمة بالطبيعة في صحة تعلق الأمر ببعض أفراد تلك الطبيعة ، وإن لم تكن لتلك الأفراد خصوصية توجب تعلق الأمر بها بل كانت الأفراد متساوية الأقدام بالنسبة إلى الطبيعة التي تقوم بها المصلحة ويصح ترجيح بعض الأفراد على بعض بلا مرجح بعد ما كان هناك مرجح في أصل

فوائد الأصول ـ 58 ـ
  الطبيعة .
  ولهم على ذلك براهين ، ويمثلون لذلك برغيفي الجايع وطريقي الهارب مع تساوى الرغيفين والطريقين من جميع الجهات ، فإنه لا إشكال في اختيار أحد الرغيفين والطريقين مع أنه ليس في اختيار ذلك مرجح أصلا ، لأن المفروض تساوى الفردين في الغرض من جميع الجهات (1) .
  وكان شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) يميل إلى هذا بعض الميل .
  وهذا القول ليس بتلك المثابة من الفساد (2) ويمكن الالتزام به ولا ينافيه تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ، لكفاية المصلحة النوعية في ذلك ، والذي لا يمكن الالتزام به هو إنكار المصالح والمفاسد في متعلقات الأوامر وأنها كلها تكون محض الاقتراح ، لعدم معقولية الترجيح بلا مرجح ، مضافا إلى إمكان دعوى تواتر الأخبار على خلافه ، كقوله صلى الله عليه وآله ( ما من شيء يقربكم إلى الجنة ويبعدكم عن النار إلا وقد


(1) أقول : يمكن توجيه كلامهم على نحو يخرج عن هذا المقدار من السخافة ، بأن يقال أو لا : بأن المراد من المرجح الممكن في ظرف وجوده ليس إلا تمامية علل وجوده المتمم لها إرادة الباري ( عز اسمه ) وهذه العلل ربما تكون خفية لا يحيط بها إلا ذاته المقدسة ، ولا يلزم أن يكون من سنخ المصالح والمفاسد الموجبة لرجحان العمل لدى العباد ، وعليه : فلا غرو في دعوى عدم إدراك العقل تلك العلل الخفية مع عدم وجدان العقل أيضا للمصالح الراجحة في أنظارهم ، وحينئذ لهم أن يدعى أن للباري أن يحكم على ما يرى مقتضيا لوجوده ، كما أنه قد يريد تكوينا ما فيه المفسدة بأنظار الغير المنكرين لها لجهة خفية بنظر ، فصح مع إنكارهم للجهة المحسنة بأنظارهم وأنه تحت اختيار الباري ، بلا التزام بلزوم الترجيح بلا مرجح واقعا في فعله ، وإن اتفق تخيل العباد ذلك ، لعدم دركهم مرجحا لوجوده .
وثانيا : من الممكن حمل كلامهم على منع تحسين الفاعل لا منع رجحان الفعل من جهة التزامهم مجبورية العباد ، وحينئذ مرجع سخافة مذهبهم إلى هذه النقطة لا غيره ، كما أن إنكارهم المصالح والمفاسد في الأفعال كلية أيضا سخيف ، لوجدان العقل في بعض الأفعال المصالح والمفاسد ، ولكن هذا المقدار قابل للشبهة ولم تبلغ إلى درجة لا يلتزم به ذو مسكة ، غاية الأمر الشبهة بأنظار صحيحة مندفعة بالوجدان السليم والذوق المستقيم ، نظير مشيهم في مجبورية العباد ، كما لا يخفى .
(2) أقول : مع فرض بطلان الترجيح بلا مرجح لا يرى العقل فرقا بين النوع والشخص ، فهما في السخافة سيان .

فوائد الأصول ـ 59 ـ
  أمرتكم به ) الخبر (1) .
  ويتلو هذا في الضعف دعوى تبعية الأوامر والنواهي لمصالح في نفسها من دون أن يكون هناك مصلحة في المتعلق ، بل المصلحة في نفس الأمر والنهى .
  ومن ادعى هذه المقالة وإن لم يدعيها كلية وفي جميع الأوامر والنواهي ، بل ادعاها موجبة جزئية ، ومثل لها بالأوامر الامتحانية ، حيث إنه ليس في متعلقاتها مصلحة ، فلابد وأن تكون هناك مصلحة في نفس الأمر والجعل .
  ألا أن الأنصاف فساد هذا الدعوى ولو بنحو الإيجاب الجزئي ، فان المصلحة في الأمر مما لا معنى لها (2) وإلا يلزم أن تتحقق المصلحة بمجرد الأمر بلا انتظار شيء آخر ، والأوامر الامتحانية ليست كذلك ، فان المصلحة فيها إنما تكون قائمة في إظهار العبد الإطاعة وكونه بصدد امتثال الأوامر الصادرة من المولى ، وإظهار الإطاعة لا يتحقق إلا بالجري على وفق ما تعلق الأمر به ، وأين هذا من كون المصلحة في نفس الأمر ؟ .
  فتحصل : أنه لا سبيل إلى إنكار تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات ، وأن في الأفعال في حد ذاتها مصالح ومفاسد كامنة مع قطع النظر عن أمر الشارع ونهيه وأنها تكون عللا للأحكام ومناطاتها ، كما أنه لا سبيل إلى إنكار إدراك العقل تلك المناطات موجبة جزئية وأن العقل ربما يستقل بقبح شيء وحسن آخر .
  ولا يمكن عزل العقل عن إدراك الحسن والقبح ـ كما عليه بعض الأشاعرة ـ فان عزل العقل عن ذلك يوجب هدم أساس إثبات الصانع ، ويلزم إفحام الأنبياء ، لأنه على هذا لا يستقل بقبح إعطاء المعجزة بيد الكاذب ولا قبح المعصية وحسن الطاعة .
  وبالجملة : عزل العقل عن الإدراك مما يوجب هدم أساس الشريعة ، فلا إشكال


(1) الوسائل : الباب 12 من أبواب مقدمات التجارة الحديث 2 .
(2) أقول : الأولى أن يقال : إن المصلحة الناشئة من قبل الأمر معلول الأمر فكيف يكون مقتضيا له ! .

فوائد الأصول ـ 60 ـ
  في أن العقل يدرك حسن الأشياء وقبحها ولو موجبة جزئية وفي بعض الموارد ، ولا ندعي الكلية ولا يمكن دعواها ، بل نتكلم في قبال السلب الكلي الذي عليه بعض الأشاعرة .
  الجهة الثانية :
  في الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، بمعنى أنه في المورد الذي استقل العقل بحسن شيء أو قبحه فعلى طبقه يحكم الشرع بوجوبه أو حرمته ، وهو المراد من قولهم ( كلما حكم به العقل حكم به الشرع ) وقد أنكر هذه الملازمة بعض الأخباريين ، وتبعهم بعض الأصوليين ك‍ ( صاحب الفصول ) حيث أنكر الملازمة الواقعية بين حكم العقل وحكم الشرع والتزم بالملازمة الظاهرية ، بدعوى أن العقل وإن كان مدركا للمصالح والمفاسد والجهات المحسنة والمقبحة ، إلا أنه من الممكن أن تكون لتلك الجهات موانع ومزاحمات في الواقع وفي نظر الشارع ولم يصل العقل إلى تلك الموانع والمزاحمات ، إذ ليس من شأن العقل الإحاطة بالواقعيات على ما هي عليها ، بل غاية ما يدركه العقل هو أن الظلم مثلا له جهة مفسدة فيقبح والإحسان له جهة مصلحة فيحسن ، و لكن من المحتمل أن لا تكون تلك المفسدة والمصلحة مناطا للحكم الشرعي لمقارنتها بالموانع والمزاحم في نظر الشارع ، فربما تكون مصلحة ولم يكن على طبقها حكم شرعي ، كما يظهر من قوله ( صلى الله عليه وآله ) ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك ) (1) وقوله ( صلى الله عليه وآله ) ( إن الله سكت عن أشياء ولم يسكت عنها نسيانا ) الخبر (2) فان الظاهر منه هو أنه ( تعالى ) سكت


(1) بحار الأنوار : كتاب الطهارة باب سنن الوضوء وآدابه الحديث 17 ج 80 ص 340 .
(2) نهج البلاغة : قصار الحكم 105 .

فوائد الأصول ـ 61 ـ
  مع ثبوت المصلحة والمقتضى في تلك الأشياء ، والمراد من السكوت هو عدم جعل الحكم ، فمن المحتمل أن يكون المورد الذي أدرك العقل جهة حسنه أو قبحه كان من الموارد التي سكت الله عنها ، وربما يكون حكم بلا مصلحة في المتعلق ، كما في الأوامر الامتحانية والأوامر الصادرة تقية .
  وغير ذلك مما حكاه في ( التقريرات ) عن ( الفصول ) من الوجوه الستة التي أقامها على منع الملازمة الواقعية بين حكم العقل وحكم الشرعي والتزم بالملازمة الظاهرية ، ببيان أن مجرد احتمال وجود المانع والمزاحم لما أدركه العقل لا يكون عذرا في نظر العقل ، بل لابد من البناء على الملازمة إلى أن يتبين المانع والمزاحم ، فلو خالف وصادف عدم المزاحم كان عاصيا ، وهو المراد من الملازمة الظاهرية .
  هذا حاصل ما أفاده ( صاحب الفصول ) في وجه منع الملازمة .
  ولا يخفى عليك ضعفه ، فان الكلام إنما هو في المستقلات العقلية ، والعقل لا يستقل بحسن شيء أو قبحه إلا بعد إدراكه لجميع ماله دخل في الحسن والقبح .
  و دعوى أن العقل ليس له هذا الإدراك ترجع إلى منع المستقلات العقلية ولا سبيل إلى منعها ، فإنه لا شبهة في استقلال العقل بقبح الكذب الضار الموجب لهلاك النبي مع عدم رجوع نفع إلى الكاذب ، ومع استقلال العقل بذلك يحكم حكما قطعيا بحرمته شرعا (1) لأن المفروض تبعية الأحكام الشرعية


(1) أقول لا شبهة في أن العقل بعد استقلاله يدرك المفسدة الغير المزاحمة يقبح العمل ويلوم على فاعله ، ولكن مع ذلك لا يلزم أن يكون ذلك تمام المناط في حكم الشارع ، إذ ربما يرى الشارع مصلحة في صبره على ارتكاب العبد للقبيح لمصلحة أعظم في تسهيل الأمر عليه ، ومثل هذه المصلحة في صبر المولى على ارتكاب القبيح لا يوجب منع استقلال العقل عن حكمه بقبح العمل ، وإلا فلا قبح في البين ، كي يصير موضوعا لصبر المولى عليه ، ومجرد تبعية الحكم من المولى لمفسدة المتعلق لا ينافي ذلك ، إذ معنى التبعية عدم حكمه بدونها لا حكمه بمجرد وجودها ، كيف وهذا المعنى أول شيء ينكر ! .
ومن هنا نقول : إن مبادئ الحكم لدى العقل ربما يكون دائرته أوسع من مبادئ الحكم العقلي لدى الشارع ، ومع هذا الاحتمال كيف يستقل العقل بالملازمة واقعا ؟ نعم : لا بأس به ظاهرا ـ كما أفيد ـ من جهة عدم إحراز وجهه ، كما هو الشأن في جميع صور مزاحمات التكليف ، فتدبر .

فوائد الأصول ـ 62 ـ
  للمصالح والمفاسد ، وقد استقل العقل بثبوت المفسدة في مثل هذا الكذب ، و معه كيف يحتمل تخلف حكم الشارع ؟ وما ذكره من الموارد التي ثبت فيها المصلحة ولم يكن على طبقها حكم شرعي لا يرد نقضا على ما ذكرناه ، فانا لا ننكر أنه يمكن أن تكون للمصالح والمفاسد النفس الأمرية موانع ومزاحمات ، فان ذلك مما لا سبيل إلى إنكاره ، وإنما ندعي أنه يمكن موجبة جزئية إدراك العقل لجميع الجهات من المقتضيات والموانع والمزاحمات .
  ودعوى أنه مع ذلك يحتمل أن يكون من الموارد التي سكت الله عنها مما لا يلتفت إليها ، وكيف يكون مما سكت الله عنها مع أن العقل رسول باطني وقد استقل به ! .
  وأما ما ذكره من الموارد التي كان هناك حكم ولم تكن مصلحة فهو مما لا يصغى إليه ، فإنه لا يعقل حكم بلا مصلحة ، غايته أن المصلحة قد تكون خفية لم يطلع عليها العقل .
  وأضعف من ذلك كله دعوى الملازمة الظاهرية ، فان احتمال المانع والمزاحم إن تطرق عند العقل فلا يكون مستقلا ولا حكم له بالقبح والحسن مطلقا لا واقعا ولا ظاهرا ، وإن لم يتطرق فيستقل ويحكم بالملازمة الواقعية ولا معنى للملازمة الظاهرية ، إلا أن تبتنى على قاعدة المقتضى والمانع الفاسدة من أصلها ، كما سيأتي في محله ( إن شاء الله تعالى ) .
  فتحصل : أنه لا سبيل إلى منع الملازمة بعد الاعتراف بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد وبعد الاعتراف بادراك العقل لتلك المصالح والمفاسد .
  ومن هذا البيان أيضا ظهر : أن العقل إنما يكون رسولا باطنيا في صورة إحراز أن الشارع اتكل في بيان مرامه بحكم عقله ، وإلا فمع احتمال عدم اتكاله عليه وأن صبره وسكوته عن إظهار مرامه لمصلحة أعظم من قبح العمل ، فكيف يكون العقل رسولا باطنيا ؟ كما لا يخفى .

فوائد الأصول ـ 63 ـ
  الجهة الثالثة :
  ما نسب إلى بعض الأخباريين أيضا : من أن القاعدة وان اقتضت الملازمة بين حكم العقل والشرع ، إلا أنه قامت الأدلة السمعية على منع العمل بهذه الملازمة وأنه لابد من توسيط تبليغ الحجة ، ولا عبرة بالحكم الواصل من غير تبليغ الحجة ، ولذلك حكى عن بعض الأخباريين من المنع عن العمل بالقطع الحاصل من المقدمات العقلية .
  وهذا المعنى لو تم وصحت النسبة فلابد و أن يكون ذلك بنتيجة التقييد (1) ـ على ما تقدم بيانه في حجية القطع ـ ولا يرد عليه إشكال عدم المعقولية إلا أن الشأن في دلالة الأخبار المذكورة على ذلك ، فان الأخبار على كثرتها بين طوائف ثلاث : طائفة منها ظاهرة في المنع عن الأخذ بالقياس والاستحسانات الظنية والاعتبارات الوهمية (2) كما عليه العامة ، وهذا لا ربط له بما نحن فيه .
  وطائفة منها ظاهرة في اعتبار الولاية في صحة العبادات (3) وهذا أيضا لا ربط له بما نحن فيه .
  وطائفة منها ظاهرة في مدخلية تبليغ الحجة (4) وهي التي يمكن أن يستدل بها في المقام (5) وأوقعت الأخباريين في الوهم .
  والانصاف : أنه لا دلالة لها على مدعاهم ، فان الحكم الشرعي المستكشف من المستقلات العقلية يكون مما وصل إلى المكلف بتبليغ الحجة


(1) أقول : قد تقدم أن نتيجة التقييد على فرض تماميته ينتج عدم حصول القطع بحكم شرعي ، لا أنه مع القطع به العقل يحكم بعدم العمل به ، أو الأخبار يوجب ردع المكلف عن العمل بهذا العلم ـ كما هو ظاهر مقالتهم ـ وهو المعنون أيضا في كلامه هذا ، فتدبر .
(2) و (3) راجع الوسائل الباب 6 من أبواب صفات القاضي .
(4) راجع الوسائل الباب 7 من أبواب صفات القاضي .
(5) أقول : يمكن أن يوجه كلام الأخباري بمنع موجبية القطع الناشئ عن الخوض في العقليات لعذر العباد ـ كالقطع أو الغفلة الناشئة عن تقصيره في المقدمات ـ وذلك لا ينافي مع حكمه بلزوم اتباعه حين وجوده ، و بمثل ذلك أيضا أمكن توجيه كلام ( الشيخ ) في قطع القطاع ، فتدبر .

فوائد الأصول ـ 64 ـ
  الباطنية ، وهو العقل الذي به يثاب وبه يعاقب ، كما في الخبر (1) .
   وبالجملة : لا دلالة في الأخبار على مدخلية السماع عن الصادقين ( عليهم السلام ) وإن شئت الإحاطة بهذه الجهات فراجع تقريرات الشيخ ( قدس سره ) .

المبحث السادس : حكى عن ( الشيخ الكبير ) عدم اعتبار قطع القطاع :
  وهو بظاهره فاسد ، فإنه إن أراد من قطع القطاع القطع الطريقي الذي لم يؤخذ في موضوع الدليل فهو مما لا يفرق فيه بين القطاع وغيره (2) لعدم اختلاف الأشخاص والأسباب والموارد في نظر العقل في طريقية القطع وكونه منجزا للواقع عند المصادفة وعذرا عند المخالفة .
وإن أراد القطع الموضوعي فهو وإن كان له وجه ، لأن العناوين التي تؤخذ في ظاهر الدليل تنصرف إلى ما هو المتعارف من غير فرق في ذلك بين الشك والظن والقطع ، فالشك المأخوذ في باب الركعات ينصرف إلى ما هو المتعارف ، ولا عبرة بشك كثير الشك ولو فرض أنه لم يرد قوله ( عليه السلام ) ( لا شك لكثير الشك ) غايته أنه لو لم يرد ذلك كان شك كثير الشك مبطلا للصلاة ولو تعلق في الأخيرتين ، لأنه لا يندرج في أدلة البناء على الأكثر ، فلا يكون له طريق إلى إتمام الصلاة ، فتبطل ، ولكن بعد ورود قوله ( عليه السلام ) ( لا شك لكثير الشك ) يلزمه البناء على الأقل أو الأكثر ، أي


(1) أصول الكافي : كتاب العقل والجهل الحديث 12 .
(2) أقول : قد أشرنا بان ذلك كله لو كان نظره إلى عدم لزوم العمل به حين وجوده ، وإلا فلو كان نظره في عدم اعتباره إلى عدم معذوريته فلا يمنعه العقل بما توهم .

فوائد الأصول ـ 65 ـ
  هو في الخيار بين ذلك .
  وكذا الحال في الظن الذي أخذ موضوعا في عدد الركعات ، فإنه أيضا ينصرف إلى المتعارف ولا يعم كثير الظن ، فيكون حكم ظن كثير الظن حكم الشك .
  وكذا الحال في القطع المأخوذ موضوعا ينصرف إلى المتعارف ولا يعم قطع القطاع ، إلا أن الشأن في إمكان التفات القاطع حال قطعه إلى أنه قطاع (1) فإنه يمكن أن يقال بعدم التفاته إلى ذلك .
  نعم : تظهر الثمرة بالنسبة إلى غير القاطع ، كما لو فرض أن الحاكم علم أن الشاهد قطاع ، فيمكن أن يقال بعدم قبول شهادته ، ولكن المحكى عن ( الشيخ الكبير ) هو عدم اعتبار قطع القطاع في القطع الطريقي المحض ، وقد عرفت أن ذلك مما لا سبيل إليه .

المبحث السابع : لا فرق في نظر العقل في الآثار المترتبة على العلم بين العلم التفصيلي والعلم الإجمالي :
   فان العلم الإجمالي من حيث كونه علما هو العلم التفصيلي ، و إن كان من حيث شوبه بالإجمال وخلطه بالجهل يفارق العلم التفصيلي على ما سيأتي تفصيله .
  ولا يخفى أن المباحث الراجعة إلى العلم الإجمالي كثيرة طويلة الذيل ، يذكر جملة منها في هذا المقام ، وجملة منها في مباحث البراءة والاشتغال ، ونحن وإن كان قد استقصينا الكلام فيما يتعلق بالعلم الإجمالي من المباحث ( في الجزء الرابع من الكتاب ) عند البحث عن أصالة الاشتغال ، إلا أنه تبعا للقوم لا بأس


(1) أقول : لا قصور في التفاته بكونه قطاعا ، نعم : لا يلتفت إلى مخالفة قطعه هذا للواقع ولو من باب الاتفاق .

فوائد الأصول ـ 66 ـ
  بالإشارة إليها هنا أيضا .
  فنقول : إن المباحث التي تذكر في المقام ، منها ما ترجع إلى مرحلة ثبوت التكليف بالعلم الإجمالي ، ومنها ما ترجع إلى مرحلة سقوط التكليف به ، فالكلام يقع في مقامين :   ولنقدم الكلام في المقام الثاني مع أنه كان حقه التأخير تبعا للشيخ ( قدس سره ) .
  فنقول : المراد من سقوط التكليف بالعلم الإجمالي هو سقوطه بالامتثال الإجمالي على وجه الاحتياط ، ولا إشكال في سقوطه بذلك في الجملة .
  وتفصيل ذلك : هو أن التكليف المعلوم بالإجمال ، إما أن يكون توصليا وإما أن يكون تعبديا .
  فان كان توصليا فلا ينبغي الإشكال في حسن الاحتياط وسقوط التكليف بذلك ، سواء استلزم التكرار أو لم يستلزم ، كانت الشبهة موضوعية أو حكمية ، قبل الفحص أو بعد الفحص ، كان الترديد بين الوجوب والاستحباب أو مع احتمال الإباحة أيضا ، فإنه على جميع التقادير يحسن الاحتياط ويسقط التكليف به ولو مع التمكن من الامتثال التفصيلي ، لحصول الغرض ، وذلك واضح .
  وإن كان تعبديا ففي حسن الاحتياط وسقوط التكليف به مطلقا ولو مع التمكن من الامتثال ، أو عدم حسنه مطلقا ، أو التفصيل بين ما إذا لم يستلزم منه تكرار جملة العمل وبين ما إذا استلزم ذلك وجوه ، وقبل بيان ذلك ينبغي التنبيه على أمور :   الأمر الأول : ينسب إلى جمهور المتكلمين وبعض الفقهاء اعتبار معرفة الوجه وقصده في العبادة ، وقد حكى الإجماع على ذلك أيضا .
  والأقوى : عدم اعتبار ذلك ، لأن حقيقة الطاعة عند العقل عبارة عن الانبعاث وكون الإرادة الفاعلية منبعثة عن الإرادة الآمرية ، وهذا المعنى لا

فوائد الأصول ـ 67 ـ
  يتوقف على معرفة الوجه وقصده ، بل المعتبر هو أن يكون الداعي إلى الفعل إرادة الآمر .
  وأما معرفة كون البعث إلزاميا أو غير إلزامي فلا دخل لها في ذلك أصلا عند العقل والعقلاء الحاكم في هذا الباب ، فلو كان قصد الوجه معتبرا فلابد وأن يكون اعتباره بأمر شرعي ، وليس فيما بأيدينا من الأدلة ما يستشم منه اعتبار ذلك ، مع أنه مما تعم به البلوى وتكثر الحاجة إليه ، وليس المقام من المقامات التي تتوفر الدواعي إلى إخفائها في الأمور التي ترجع إلى باب الولاية والإمامة ، فالمقام يكون من أظهر المقامات التي كان عدم الدليل فيها دليل العدم ، بل مما يقطع بعدم اعتبار ذلك شرعا ، وإلا لاستفاضت به الروايات .
  والإجماع المحكى في المقام مما لا اعتبار به ، لأنه من الممكن أن يكون مدعى الإجماع قد سلك مسلك المتكلمين وادعى الإجماع على مذاق المتكلمين في المسألة الكلامية لا في المسألة الفقهية ، مع أنه لو سلم يكون من الإجماع المنقول الذي لا عبرة به .
  فالإنصاف : أن مدعى القطع بعدم اعتبار قصد الوجه في العبادات لا يكون مجازفا في دعواه .
  ثم لو سلم عدم القطع ، فلا أقل من الشك والأصل في ذلك يقتضي البراءة لا الاشتغال ، لأن الشك في اعتبار قصد الوجه يرجع إلى الشك في اعتبار قيد في المأمور به شرعا زائد عما يعتبره العقل في الطاعة ، لما تقدم من أن العقل لا يعتبر في الإطاعة أزيد من كون الشخص منبعثا عن البعث ومتحركا عن الإرادة ، فقصد الوجه لو كان معتبرا فلابد وأن يكون ذلك من جهة الشرع ، والمرجع حينئذ عند الشك في الاعتبار هو البراءة ، كما أن المرجع عند الشك في أصل التعبدية والتوصلية ذلك ، بناء على ما هو المختار : من أن التعبدية تتوقف على الأمر بها ولو بمتمم الجعل ، على ما تقدم تفصيله في مبحث التعبدي والتوصلي .
  نعم : بناء على أن اعتبار قصد الامتثال من باب دخله في الغرض و

فوائد الأصول ـ 68 ـ
  أن اللازم هو تحصيل الغرض يكون المرجع عند الشك هو الاشتغال (1) من غير فرق بين الشك في أصل اعتبار قصد الامتثال أو الشك فيما يستتبعه من قصد الوجه ومعرفته ، فإنه على هذا المعنى لا يرجع الشك إلى ما يكون مجعولا شرعيا حتى تجرى فيه البراءة الشرعية ، وصاحب هذا المسلك لابد له من دعوى القطع بعدم اعتبار قصد الوجه ، وإلا فلو وصلت النوبة إلى الشك يكون الأصل فيه هو الاشتغال .
  ولكن المبنى عندنا فاسد ، فالأصل يقتضي البراءة .
  الأمر الثاني : لا إشكال في أن الحاكم بالاستقلال في باب الطاعة و حسنها هو العقل ، لا بمعنى أنه ليس للشارع التصرف في كيفية الإطاعة .
فان ذلك بمعزل عن الصواب ، لوضوح أن حكم العقل في باب الطاعة إنما هو لأجل رعاية امتثال الأوامر الشرعية والخروج عن عهدتها ، فللشارع أن يتصرف في كيفية إطاعة أوامره زائدا عما يعتبره العقل كبعض مراتب الرياء ، حيث قامت الأدلة الشرعية على اعتبار خلو العبادة عن أدنى شائبة الرياء مع أن العقل لا يستقل بذلك ، وللشارع أيضا أن يكتفى في امتثال أوامره بما لا يكتفى به العقل لو خلى ونفسه ، كما في الأصول الشرعية الجارية في وادى الفراغ ، ولكن كل ذلك يحتاج إلى قيام الدليل عليه ، فلو لم يقم دليل شرعي على التصرف في بيان كيفية الإطاعة فالأمر موكول إلى نظر العقل ، فان استقل بشيء فهو ، وإلا فالمرجع هو أصالة الاشتغال لا البراءة ، لأن الشك في اعتبار شيء في كيفية


(1) أقول : لازم هذا المسلك لزوم الاحتياط في كلية الأقل والأكثر ، والأولى في وجه الاحتياط المختص بمثل هذه القيود كونها خارجة عن دائرة المأمور به ، لمحذور الدور ، فلا يرجع الشك فيها إلا إلى الشك في سقوط الأمر عما تعلق به جزما ، وبه تمتاز عن بقية الأجزاء ، فان الشك فيها يرجع إلى الشك في أصل توجه الأمر إليها ، فالشك فيها يرجع إلى الشك في أصل الاشتغال ، بخلاف الشك في القيود المزبورة ، فإنه يرجع إلى الشك في الفراغ عما اشتغل الذمة به ، كما لا يخفى ، فتدبر فيه وفي دفع هذه الشبهة أيضا ، كما سيتضح في محله ( إن شاء الله تعالى ) .

فوائد الأصول ـ 69 ـ
  الإطاعة عقلا يرجع بالأخرة إلى الشك في التعيين والتخيير لا الأقل والأكثر ، والأصل يقتضي التعيين ، كما سيأتي توضحيه في محله .
  ولا يقاس الشك في اعتبار شيء في كيفية الإطاعة العقلية بالشك في اعتبار مثل قصد التعبد والوجه ، لما عرفت من أن اعتبار مثل قصد التعبد والوجه إنما يكون بتقييد العبادة شرعا بذلك ولو بنتيجة التقييد (1) فالشك فيه يرجع إلى الشك في الأقل والأكثر الارتباطي ، وهذا بخلاف الشك في اعتبار شيء في كيفية الإطاعة العقلية ، فإنه يرجع إلى الشك في التعيين والتخيير (2) كما لو فرض الشك في كون الامتثال التفصيلي في عرض الامتثال الاحتمالي أو طوله ، كما سيأتي بيانه .
  الأمر الثالث : مراتب الامتثال والإطاعة عند العقل أربعة (3)


(1) سيأتي في مبحث الاشتغال أن اعتبار الامتثال التفصيلي لابد وأن يرجع إلى تقييد العبادة به شرعا ولو بنتيجة التقييد ، ولكن مع ذلك الأصل الجاري فيه عند الشك هو الاشتغال ، لدوران الأمر فيه بين التعيين والتخيير ( منه ) .
(2) أقول : ويمكن إرجاع قيود الامتثال أيضا إلى الأقل والأكثر بارجاع الشك فيها أيضا إلى الشك في دخل مرتبة زائدة من بقية المراتب من حيث دخل خصوصية زائدة في بعضها دون بعض ، مع فرض حفظ الفاقد في ضمن الواجد ، نعم : لو كان نسبتها من قبيل الكلي المتواطي ـ بنحو لا يكون الفاقد محفوظا في ضمن الواجد ـ كان المرجع التعيين والتخيير ، فتدبر في ملاك الفرق بين المسألتين ، وتدبر أيضا في أن ما نحن فيه من أيهما ؟ .
(3) أقول : بعد ما كان في المقام مرحلتان : أحدهما مقام إثبات التكليف بعلم ولو إجمالا أو غيره ، و الآخر مرحلة إسقاطه وامتثال ما ثبت بأي طريق وأن قطعية مرحلة الإسقاط غير مرتبط بمرحلة إثباته ، لأنه ربما يكون المثبت للتكليف علما ولكن المسقط له ظنا ، وربما يكون الأمر بالعكس ، فلنا حينئذ مجال السؤال بأنه ما المراد من مراتب الامتثال ؟ فإن أريد به مراتبه الناشئة عن مراتب طريقه ، فلا يزال يكون مرتبة الامتثال قطعيا ، وإنما ظنه بظنية طريقه ، وحينئذ المراتب المسطورة محسوبة للطريق لا الامتثال مع أنه على هذا لا يتصور الامتثال الإجمالي في أطراف العلم الإجمالي ولا الظني ، أيضا ، وإن أريد به مراتب الامتثال في التكليف الثابت بأي طريق ، فهو ربما يختلف ، ولكن ليس ظنيته من جهة كيفية طريقه ، بل لابد وأن يكون ظنيا بظن ثابت في هذه المرحلة ، كما هو الشأن في مرجعية الظن بناء على التبعيض في الاحتياط ، وفي مثله لا يتصور حجية الظن على الكشف .

فوائد الأصول ـ 70 ـ
  المرتبة الأولى : الامتثال التفصيلي ، سواء كان بالعلم الوجداني أو بالطرق والأمارات والأصول المحرزة التي تقوم مقام العلم ، فان الامتثال بالظنون الخاصة وبالأصول المحرزة يكون في حكم الامتثال بالعلم الوجداني ، بل الامتثال بالظن المطلق عند انسداد باب العلم بناء على الكشف أيضا يكون حكمه حكم الامتثال بالعلم وفي عرضه ، فان حال الظن المطلق بناء على الكشف حال الظن الخاص ، لأن معنى الكشف هو أن الشارع جعل الظن حجة مثبتا للأحكام الواقعية وطريقا محرزا لها ، فيكون الامتثال به في عرض الامتثال العلمي .
  وما ربما يتوهم : من أنه كيف يكون الظن بناء على الكشف في عرض العلم مع أن اعتباره موقوف على انسداد باب العلم ، فهو واضح الفساد ، فان المراد من انسداد باب العلم انسداده في معظم الأحكام لا في جميعها (1) .
  وبالجملة نقول : إن أراد المقرر من المراتب المزبورة المعنى الأول ، فلا يتصور فيه الامتثال الظني أو الاحتمالي في أطراف العلم الإجمالي ، فان هذا الظن غير ناش من ظنية طريقه أو احتماله ، بل لابد وأن يتصور في الحجة الظنية أو الاحتمالية .
 وإن أراد المقرر من المراتب المعنى الثاني ، فلا يتصور الامتثال الظني بناء على الكشف ، إذ ليس للشارع تصرف في مرحلة الإسقاط .
  كيف ! وفي هذا المقام مع التمكن من الاحتياط التام يستقل العقل بالامتثال القطعي ، ومع عدم التمكن من الاحتياط التام يتبعض ويأخذ بالاحتمال مع عدم رجحان ذلك الطرف ، وإلا فيستقل بطرف الظن و لا ينتهى النوبة بتصرف الشارع في هذه المرحلة إلا بعد اسقاط العلم عن الحجية ، فترجع حينئذ إلى الفرض الأول .


(1) أقول : لا شبهة في أن باب العلم بالحكم الكلي الشرعي في كل مسألة إذا كان مفتوحا لا تصل النوبة إلى الظن في تلك المسألة ، وأن الانسداد في معظم الأحكام إنما ينتج حجية الظن في موارد الانسداد من معظم الأحكام ، لا غيره ، فالأولى أن يقال بطولية مرجعية الظن المزبور عن العلم في مقام الإثبات مطلقا ، وأن تعجب ( الشيخ ) عن ( المحقق القمي ) في محله لو كان غرضه من الظن المطلق ما كان حجيته بدليل الانسداد ، وإلا فلو كان مرامه حجية الظن المطلق ببناء العقلاء ـ كما يشهد به استشهاده عليه بأنه أساس عيش بني آدم ـ فهو بمصطلح ( الشيخ ) داخل في الظن الخاص لا المطلق ، وحينئذ يرد على ( شيخنا العلامة ) بأن نتيجته تمام على مصطلحه من الظن .

فوائد الأصول ـ 71 ـ
 ففي المورد الذي يمكن تحصيل العلم مع انسداد بابه في معظم الأحكام يكون المستنتج حجيته من مقدمات الانسداد بناء على الكشف في عرض العلم .
  وظاهر كلام الشيخ ( قدس سره ) عدم الفرق في الظن بين القول بالكشف وبين القول بالحكومة في تأخر رتبة الامتثال به عن الامتثال العلمي ، قال ( قده ) في مقام الرد على مقالة المحقق القمي (ره) ( والعجب ممن يعمل بالأمارات من باب الظن المطلق ثم يذهب إلى عدم صحة عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد والأخذ بالاحتياط ) انتهى .
  والإنصاف : أن تعجب ( الشيخ ) ليس في محله ، فان ( المحقق القمي ره ) من القائلين بالكشف ، فيكون حال الظن حال العلم .
  فتحصل : انه لا فرق بين العلم الوجداني والظن الخاص والظن المطلق على الكشف في حصول الامتثال بكل واحد منها .
  نعم : بين الامتثال بالعلم الوجداني والامتثال بالطرق والظنون الخاصة فرق لا دخل له فيما نحن فيه ، وهو أنه بعد الامتثال بالعلم الوجداني لا يبقى موقع للاحتياط ، لعدم تطرق احتمال مخالفة الامتثال للواقع ، بخلاف الامتثال بالظنون الخاصة ، فإنه يبقى موقع للاحتياط ، لتطرق احتمال مخالفة الظن للواقع .
  ولكن ينبغي بل يمكن أن يقال : إنه يتعين أولا العمل بمقتضى الطريق (1) ثم العمل بما يقتضيه الاحتياط .
  وعلى ذلك يبتني الخلاف الواقع بين العلمين ( الشيخ الأنصاري ) و ( السيد الشيرازي ) ( قدس سرهما ) في المطلق لا مصطلح ( المحقق القمي ) الذي هو داخل في الظن الخاص على اصطلاح ( الشيخ ) إذ في مثله لا غرو بدعوى عرضيتها مع الامتثال بالعلم ، كما لا يخفى .


(1) أقول : في تعينه لولا لزوم قصد الوجه أو التميز منع واضح .
نعم : لا بأس بمراعاة احتماله استحبابا لا لزوما .

فوائد الأصول ـ 72 ـ
  مسألة تقديم القصر على التمام أو تقديم التمام على القصر في المسافر إلى أربع فراسخ مع إرادة الرجوع ليومه ، فان ( الشيخ قده ) لما اختار في المسألة تقديم أدلة وجوب التمام جعل الاحتياط بالقصر بعد فعل التمام ، و ( السيد ) اختار تقديم أدلة وجوب القصر جعل الاحتياط بالتمام بعد فعل القصر .
  المرتبة الثانية : ( من مراتب الامتثال ) الامتثال العلمي الإجمالي ، كالاحتياط في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي .
  المرتبة الثالثة : الامتثال الظني ، سواء في ذلك الظن الذي لم يقم دليل على اعتباره ، أو الظن المطلق عند انسداد باب العلم بناء على الحكومة ، فان معنى الحكومة هو حكم العقل بتعين الامتثال الظني عند تعذر الامتثال العلمي ، فيكون الظن بناء على الحكومة واقعا في طريق الامتثال ، على ما سيأتي توضيحه .
  المرتبة الرابعة : الامتثال الاحتمالي ، كما في الشبهات البدوية أو الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي عند تعذر الامتثال الإجمالي أو الظني .
 ولا إشكال في أنه لا تصل النوبة إلى الامتثال الاحتمالي إلا بعد تعذر الامتثال الظني (1) ولا تصل النوبة إلى الامتثال الظني إلا بعد تعذر الامتثال الإجمالي ، إنما الإشكال في المرتبتين الأولتين .
  فقيل : إنهما في عرض واحد ، وقيل بتقديم رتبة الامتثال التفصيلي مع الإمكان على الامتثال الإجمالي ، وعلى ذلك يبتني بطلان عبادة تاركي طريق


(1) أقول : يمكن أن يقال : إن الداعي على العمل ليس إلا ما هو معلوم له ولو إجمالا ، وأن الاحتمال مقدمة لتطبيق ما يدعوه جزما على مورده ، لا أن ما يدعوه إليه احتماله بنفسه ، فتدبر .

فوائد الأصول ـ 73 ـ
  الاجتهاد والتقليد والعمل بالاحتياط .
  وهذا هو الأقوى ، ولكن في خصوص ما إذا استلزم منه تكرار جملة العمل ، فان حقيقة الإطاعة عند العقل هو الانبعاث عند بعث المولى ، بحيث يكون الداعي والمحرك له نحو العمل هو تعلق الأمر به و انطباق المأمور به عليه ، وهذا المعنى في الامتثال الإجمالي لا يتحقق ، فان الداعي له نحو العمل بكل واحد من فردي الترديد ليس إلا احتمال تعلق الأمر به ، فإنه لا يعلم انطباق المأمور به عليه بالخصوص .
  نعم : بعد الإتيان بكلا فردي الترديد يعلم بتحقق ما ينطبق المأمور به عليه ، والذي يعتبر في حقيقة الطاعة عقلا هو أن يكون عمل الفاعل حال العمل بداعي تعلق الأمر به حتى يتحقق منه قصد الامتثال التفصيلي فيما بيده من العمل ، ومجرد العلم بتعلق الأمر بأحد فردي الترديد لا يقتضي أن يكون الانبعاث عن البعث المولوي ، بل أقصاه أن يكون الانبعاث عن احتمال البعث بالنسبة إلى كل واحد من العملين .
  نعم : الانبعاث عن احتمال البعث وإن كإن أيضا نحوا من الطاعة عند العقل إلا أن رتبته متأخرة عن الامتثال التفصيلي .
  فالإنصاف : أن مدعى القطع بتقدم رتبة الامتثال التفصيلي على الامتثال الإجمالي في الشبهات الموضوعية والحكمية مع التمكن من إزالة الشبهة لا يكون مجازفا في دعواه (1) مع أنه لو سلم الشك في ذلك فقد عرفت أن الأصل يقتضي الاشتغال لا البراءة ، لأن مرجع الشك في ذلك إلى الشك في التخيير بين الامتثال التفصيلي والإجمالي أو تعين الامتثال التفصيلي .
  هذا إذا كان المعلوم بالإجمال مرددا بين المتباينين بحيث استلزم من الاحتياط تكرار جملة العمل .
  وإن كان مرددا بين الأقل والأكثر ـ كالشك في


(1) أقول : على ما ذكرنا آنفا لا يخلو عن مجازفة ، كما أنه على الشك أمكن دعوى : أن لجهة الإجمال جهة نقص عن التفصيل بملاحظة سعة علمه الحاوي لشراشر وجوده دونه مع انحفاظ جهة نقصه في مرتبة كماله ، وفي مثله المرجع هو البراءة ـ كالأقل والأكثر ـ لا التعيين والتخيير ، لعدم كونها من قبيل الكلي المتواطئ ، فتدبر بعين الدقة ولا تسرع في المطلب عميانا .

فوائد الأصول ـ 74 ـ
  وجوب السورة مثلا في الصلاة ـ فالأقوى أنه لا يجب على المكلف إزالة الشبهة و إن تمكن منها بالعلم والاجتهاد أو التقليد ، لأنه يمكن قصد الامتثال التفصيلي بالنسبة إلى جملة العمل ، للعلم بتعلق الأمر به وإن لم يعلم بوجوب الجزء المشكوك ، إلا إذا قلنا باعتبار قصد الوجه في الأجزاء ، وقد تقدم ضعفه .
  وهذا من غير فرق بين ما إذا تردد أمر الجزء المشكوك بين الوجوب والاستحباب كالسورة ، أو مع احتمال الإباحة أيضا كجلسة الاستراحة ، بل لو تردد أمره بين المتباينين ـ كالجهر والإخفات في ظهر الجمعة ـ فإنه للمكلف الاحتياط بتكرار القراءة بلا تكرار الصلاة .
  هذا كله إذا كانت الشبهة مقرونة بالعلم الإجمالي .
  وإن كانت الشبهة بدوية : ففي الشبهات الموضوعية يحسن الاحتياط مطلقا قبل الفحص وبعده ، لعدم وجوب الفحص فيها .
  وإن كانت الشبهة حكمية : فلا يحسن الاحتياط إلا بعد الفحص ، لأن التكاليف في الشبهات الحكمية تتنجز بما يعتبر فيها بمجرد الالتفات إليها ، إلا إذا تفحص المكلف ولم يعثر عليها فإنه يكون حينئذ معذورا .
  وبعد البناء على اعتبار الامتثال التفصيلي في حسن الطاعة يكون حاله حال ساير القيود والأجزاء يتنجز التكليف به على تقدير ثبوت التكليف واقعا مع التمكن من إزالة الشبهة بالفحص .
  هذا تمام الكلام في المقام الأول وهو سقوط التكليف بالعلم الإجمالي .

  المقام الثاني : في ثبوت التكليف بالعلم الإجمالي :
  وينبغي أن نقتصر في المقام على فهرست ما يتعلق بذلك من المباحث والإشارة الإجمالية إلى ما هو المختار فيها : ونحيل تفصيلها إلى الجزء الرابع من

فوائد الأصول ـ 75 ـ
  كتابنا ، فإنه قد استقصينا الكلام فيها بما لا مزيد عليه ، إلا بعض الأمور التي تختص ذكرها هنا .
  فنقول : إن الأمور التي وقع البحث عنها في باب العلم الإجمالي كثيرة .
  الأمر الأول :
  قد توهم أن العلم الذي يكون موضوعا عند العقل في باب الطاعة والمعصية يختص بالعلم التفصيلي ولا يعم العلم الإجمالي ، بتقريب : أن العقل إنما يستقل بقبح الإقدام على عمل يعلم أنه معصية لأمر المولى ونهيه ، وهذا يتوقف على العلم بتعلق الأمر أو النهى بما يأتي به من العمل ، وفي العلم الإجمالي لا يكاد يتحقق هذا المعنى ، لانه عند الاقتحام بكل واحد من أطراف المعلوم بالإجمال لا يعلم بأن اقتحامه يكون معصية لأمر المولى أو نهيه ، لعدم العلم بتعلق الأمر أو النهى به بخصوصه ، غايته أنه بعد الاقتحام بجميع الأطراف يعلم بتحقق المخالفة ، والعقل لا يستقل بقبح الاقتحام على ما يعلم بعد ذلك بحصول المخالفة ، هذا .
  ولكن فساد هذا التوهم بمكان من الوضوح ، بداهة أن العقل يستقل بقبح مخالفة التكليف المحرز الواصل إلى المكلف بأحد طرق الوصول .
  ومن جملتها العلم الإجمالي ، فان التكليف في موارد العلم الإجمالي واصل إلى المكلف ومحرز لديه ، والإجمال إنما يكون في المتعلق ، وإلا فنفس التكليف والإلزام معلوم تفصيلا (1) وهو على ما عليه من إجمال المتعلق يصلح لأن يكون بعثا مولويا و


(1) أقول : بعد ما كان المتعلق مورد الإجمال والترديد ، فقهرا التكليف المتعلق بكل منهما أيضا طرف الترديد ، وما هو معلوم الجامع المهملة بين الشخصين المردد انطباقه على أيهما بلا إطلاق في هذا الجامع ، فلا يقاس المقام بالتكليف بالجامع في باب التخيير ، لأن في شخص الجامع إطلاق قابل للانطباق على أيهما ، بخلاف الجامع في المقام فإنه مهملة غير صالح للانطباق إلا على واحد منهما ، غاية الأمر بنحو الترديد ، ومن هذه الجهة نقول : لا يصح دعوى العلم بشيء تفصيلا في موارد العلم الإجمالي ، لا في الحكم ولا في المتعلق .