معهم ، ويتواصلون مع رجالهم وتراثهم كما يظهر بالرجوع للمصادر المعنية بذلك .
  ويلحق بذلك تجاهل أئمّة الشيعة (صلوات الله عليهم) وجميع رموز التشيّع وأعلامه ، أو التخفيف من شأنهم مع ما لهم من الأثر الحميد في الإسلام ، والموقع المتميز في المسلمين ، وتسالمهم على رفعة مقامهم .
  سادسها : التحذير من الاحتكاك بالشيعة والتحدّث معهم في الأمور العقائدية ، وفتح باب الجدل والاحتجاج معهم ... إلى غير ذلك ممّا يدلّ على شعور الجمهور بأصالة الفكر الشيعي وقوّة حجّته .
  ولذا كان التشيّع في غنى عن نظير ذلك مع بقيّة فرق المسلمين ، بل يؤكّد الشيعة على لزوم البحث والنظر في الدين بموضوعية كاملة ، كما ينتشر تراث الجمهور بينهم على ما تعرّضنا له في جواب السؤال الأوّل من الجزء الأوّل من كتابنا (في رحاب العقيدة) .

رفض الإمام الحسين (عليه السّلام) نظام الجمهور في الخلافة

  وفي ختام الحديث عمّا كسبه التشيّع من فاجعة الطفّ من حيثية الاستدلال والبرهان يحسن التنبيه لأمر له أهميته في ذلك .
  وهو إنّ الإمام الحسين (صلوات الله عليه) بما له من مقام رفيع عند جمهور المسلمين قد خرج على نظام الخلافة عند الجمهور .
  وإذا كان الجمهور قد تجاهلوا تلكؤ أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسّلام) عن بيعة أبي بكر ، بل إنكاره عليه ، وحاولوا تكلّف توجيه موقفه (عليه السّلام) بما ينسجم مع شرعيتها وشرعية النظام المذكور .
  وتجاهلوا أيضاً موقف الصديقة فاطمة الزهراء سيّدة النساء (صلوات الله عليه) حيث ماتت مهاجرة لأبي بكر ، غير معترفة بخلافته مع ما هو المعلوم من

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 397 _

  وجوب معرفة الإمام والبيعة له ، وأنّ مَنْ مات ولم يعرف إمام زمانه ولم يبايعه ويقرّ له بالطاعة مات ميتة جاهلية .
  فمن الظاهر أنّه لا يسعهم تجاهل موقف الإمام الحسين (صلوات الله عليه) من بيعة يزيد ورفضه لها وخروجه عليه ، وإصراره على موقفه حتى انتهى الأمر بفاجعة الطفّ بأبعادها وتداعياتها السابقة .
  وحينئذٍ يدور الأمر عقلياً بين الالتزام بعدم شرعية بيعة يزيد ، لعدم شرعية النظام الذي ابتنت عليه ، وهو السبق للبيعة ولو بالقوّة كما عليه الجمهور ، ويرفضه الشيعة جملة وتفصيلاً ، أو الالتزام بعدم شرعية خروج الإمام الحسين (صلوات الله عليه) وكونه باغياً ، يجوز ، بل يجب قتاله كما جرى عليه يزيد ومَنْ هو على خطّه من المغرقين في النصب .
  وليس بعد هذين الوجهين إلاّ الحيرة والتذبذب ، أو الهرب من الحساب كما قد يبدو من عامّة الجمهور ، وكفى بهذا مكسباً للتشيّع ببركة فاجعة الطفّ ، ويأتي في المقام الثاني ما يتعلّق بذلك وينفع فيه .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 398 _

المقام الثاني : في الجانب العاطفي

  وقد خدمت واقعة الطفّ دعوة التشيّع في هذا الجانب من جهتين :

نهضة الإمام الحسين (عليه السّلام) شيعية الاتجاه

  الجهة الأولى : إنّ الإمام الحسين (صلوات الله عليه) وإن رفع شعار الإصلاح في أُمّة الإسلام ، إلاّ إنّه رفعه بلواء التشيّع ، فهو :
  أوّلاً : يقول في وصيته لأخيه محمد بن الحنفية حينما أراد الخروج من المدينة : (( ... وإنّي لم أخرج أشرّاً ولا بطراً ، ولا مفسداً ولا ظالماً ، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي (صلّى الله عليه وآله) ، أريد أن آمر بالمعروف ، وأنهى عن المنكر ، وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب ... )) (1) .

---------------------------
(1) العوالم / 179 ، واللفظ له ، بحار الأنوار 44 / 329 ـ 330 ، مناقب آل أبي طالب ـ لابن شهرآشوب 3 / 241 فصل في مقتله (عليه السّلام) ، لكن ذكره على أنّه كلام للإمام الحسين (عليه السّلام) خاطب به محمد بن الحنفية وعبد الله بن عباس لمّا أشارا عليه بترك الخروج للعراق .
ومن الطريف أنّ ابن أعثم روى الكتاب هكذا : ... أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ، وأسير بسيرة جدّي محمد ، وسيرة أبي علي بن أبي طالب ، وسيرة الخلفاء الراشدين ... الفتوح ـ لابن أعثم 5 / 23 ذكر وصية الحسين (ع) لأخيه محمد بن الحنفية (رضي الله عنه) ، وتبعه في ذلك الخوارزمي في مقتله 1 / 189 .
هذا ولا ينبغي الإشكال في كون هذه الزيادة موضوعة :
أوّلاً : لأنّ إطلاق عنوان (الخلفاء الراشدين) على الأوّلين لم يعرف في عصور الإسلام الأولى ، وإنّما حدث بعد ذلك في عصر العباسيين .
وثانياً : لأنّ ذلك لا يتناسب مع رفض أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) لاشتراط عبد الرحمن بن عوف في بيعة الشورى الالتزام بسيرة أبي بكر وعمر .
وثالثاً : لأنّ ذلك لا يتناسب مع كون أنصار الإمام الحسين (صلوات الله عليه) الذين دعوه واستجاب لهم هم شيعته من أهل الكوفة ، وموقفهم ممّن تقدّم على أمير المؤمنين (عليه السّلام) معلوم ، ولاسيما عثمان حيث إنّ سيرته أثارتهم فيمَنْ ثار عليه .
وهذا حجر بن عدي من أعيان الشيعة في الكوفة ورد في شهادة الشهود في تجريمه : وزعم أنّ هذا الأمر لا يصلح إلاّ في آل أبي طالب ، الكامل في التاريخ 3 / 483 ذكر مقتل حجر بن عدي وعمرو بن الحمق وأصحابهما .
ولمّا قدم عبد الله بن مطيع الكوفة والياً من قبل عبد الله بن الزبير خطب الناس ، فقال في جملة ما قال : وأمرني بجباية فيئكم ، وأن لا أحمل فضل فيئكم عنكم إلاّ برضى منكم ، ووصية عمر بن الخطاب التي أوصى بها عند وفاته ، وبسيرة عثمان بن عفان التي سار بها في المسلمين ... .
فقام إليه السائب بن مالك الأشعري ، فقال : أما أمر ابن الزبير إيّاك أن لا تحمل فضل فيئنا عنّا إلاّ برضانا فإنّا نشهدك أنّا لا نرضى ... وأن لا يسار فينا إلاّ بسيرة علي بن أبي طالب ... ولا حاجة لنا في سيرة عثمان في فيئنا ، ولا في أنفسنا ، فإنّها إنّما كانت أثرة وهوى ، ولا في سيرة عمر بن الخطاب في فيئنا ، وإن كانت أهون السيرتين علينا ضرّاً ... .
فقال يزيد بن أنس : صدق السائب بن مالك وبر ، رأينا مثل رأيه وقولنا مثل قوله ، تاريخ الطبري 4 / 490 أحداث سنة ست وستين من الهجرة ، واللفظ له ، الكامل في التاريخ 4 / 213 أحداث سنة ست وستين من الهجرة ، ذكر وثوب المختار بالكوفة ، ولكنّه بتر كلام يزيد بن أنس ، البداية والنهاية 8 / 290 ـ 291 أحداث سنة ست وستين من الهجرة ، ولكنّه أجمل الرواية مع بعض التصرّف فيه ، نهاية الأرب في فنون الأدب 21 / 6 ـ 7 ذكر وثوب المختار في الكوفة ، جمهرة خطب العرب 2 / 68 ـ 69 خطبة عبد الله بن مطيع العدوي حين قدم الكوفة .
وقريب منه في الفتوح ـ لابن أعثم 5 / 249 ابتداء خروج المختار بن أبي عبيد وما كان منه ، وأنساب الأشراف 6 / 383 في أمر المختار بن أبي عبيد الثقفي وقصصه ، وغيرهما من المصادر .
ورابعاً : لأنّ المعركة في الطفّ قد تضمّنت ما لا يناسب ذلك ، ففي حديث عفيف بن زهير ـ وكان ممّنْ شهد المعركة ـ قال : وخرج يزيد بن معقل ... فقال : يا برير بن خضير كيف ترى صنع الله بك ؟
قال : صنع الله ـ والله ـ بي خيراً ، وصنع الله بك شرّاً .
قال : كذبت ، وقبل اليوم ما كنت كذّاباً ، هل تذكر وأنا أماشيك في بني لوذان وأنت تقول : إنّ عثمان بن عفان كان على نفسه مسرفاً ، وإنّ معاوية بن أبي سفيان ضالاً مضلاً ، وإنّ إمام الهدى والحق علي بن أبي طالب ؟ فقال له برير : أشهد أنّ هذا رأيي وقولي .
فقال له يزيد بن معقل : فإنّي أشهد أنّك من الضالين .
فقال له برير بن خضير : هل لك ؟ فلأباهلك ، ولندع الله أن يلعن الكاذب ، وأن يقتل المبطل ، ثمّ اخرج فلأبارزك ؟ قال : فخرج ، فرفعا أيديهما إلى الله يدعوانه أن يلعن الكاذب ، وأن يقتل المحق المبطل ، ثمّ برز كلّ واحد منهما لصاحبه ، فاختلفا ضربتين ، فضرب يزيد بن معقل برير بن خضير ضربة خفيفة لم تضرّه شيئاً ، وضربه برير بن خضير ضربة قدّت المغفر وبلغت الدماغ ، فخرّ كأنّما هوى من حالق وإنّ سيف برير بن خضير لثابت في رأسه .
فكأنّي أنظر إليه ينضنضه من رأسه ... تاريخ الطبري 4 / 328 ـ 329 في أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة .
وفي حديث هانئ بن عروة أنّ نافع بن هلال كان يقاتل يومئذ وهو يقول : أنّا الجملي ، أنّا على دين علي .
قال : فخرج إليه رجل يُقال له : مزاحم بن حريث ، فقال : أنّا على دين عثمان .
فقال له : أنت على دين شيطان ، ثمّ حمل عليه فقتله ، تاريخ الطبري 4 / 331 في أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة ، واللفظ له ، مقتل الحسين ـ للخوارزمي 2 / 5 ، وقد ذكر ابن كثير كلام نافع من غير أن يذكر تتمة الرواية ، راجع البداية والنهاية 8 / 199 في أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة .
ومن الظاهر أنّ ذلك بمرأى ومسمع من الإمام الحسين (صلوات الله عليه) ، وما كانا ليخالفانه في الرأي ، فكيف يصدق عليه (عليه السّلام) مع ذلك أن يلتزم بسيرة الخلفاء وفيهم عثمان ؟! ... إلى غير ذلك ممّا يشهد بافتعال هذه الزيادة على سيّد الشهداء (صلوات الله عليه) .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 400 _

  وهو (عليه السّلام) بذلك يشير إلى أنّ السيرة الرشيدة التي ينبغي اتّباعها والتمسّك بها هي سيرة النبي وأمير المؤمنين (صلوات الله عليهما وآلهما) ، دون سيرة غيرهما ممَنْ استولى على السلطة .
  وثانياً : يقول في كتابه إلى رؤساء الأخماس بالبصرة : (( أمّا بعد ، فإنّ الله اصطفى محمداً (صلّى الله عليه وآله) على خلقه ، وأكرمه بنبوّته ، واختاره لرسالته ، ثمّ قبضه الله

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 401 _

  إليه وقد نصح لعباده ، وبلغ ما أرسل به (صلّى الله عليه وآله) ، وكنّا أهله وأولياءه وأوصياءه وورثته وأحقّ الناس بمقامه في الناس ، فاستأثر علينا قومنا بذلك فرضينا وكرهنا الفرقة وأحببنا العافية ، ونحن نعلم أنّا أحقّ بذلك الحقّ المستحق علينا ممّنْ تولاه ... )) (1) .
  وقد أكّدت ذلك العقيلة زينب الكبرى (عليها السّلام) في خطبتها الجليلة في مجلس يزيد التي هي في الحقيقة من جملة أحداث نهضة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) وواجهاتها المضيئة .
  حيث قالت (عليها السّلام) منكرة على يزيد : فشمخت بأنفك ، ونظرت في عطفك جذلان مسروراً ، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة ، والأمور متّسقة ، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا ، فمهلاً مهلاً ... (2) .
  فإنّ كلامها هذا صريح في أنّ الخلافة حقّ لأهل البيت (عليهم السّلام) ، وأنّ السلطان الإسلامي لهم .
  وثالثاً : قد استجاب لشيعته في الكوفة ، ومن المعلوم من مذهبهم أنّ الخلافة حقّ لأهل البيت (صلوات الله عليهم) ... إلى غير ذلك ممّا يجده الناظر في تاريخ نهضته الشريفة من الشواهد الدالة على أنّها تبتني على استحقاق أهل البيت (عليهم السّلام) لهذا المنصب الرفيع .
  وهو (عليه أفضل الصلاة والسّلام) بذلك وإن كان قد يخسر تأييد مَنْ يوالي الأوّلين ، ويخفّف أو يفقد تعاطفهم معه ، إلاّ إنّه (صلوات الله عليه) كان

---------------------------
(1) تاريخ الطبري 4 / 266 أحداث سنة ستين من الهجرة ، ذكر الخبر عن مراسلة الكوفيين الحسين (عليه السّلام) للمصير إلى ما قبلهم ، وأمر مسلم بن عقيل (رضي الله عنه) ، واللفظ له ، البداية والنهاية 8 / 170 قصّة الحسين بن علي وسبب خروجه من مكة في طلب الإمارة وكيفية مقتله .
(2) راجع ملحق رقم (4) .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 402 _

  يرى أنّ التأكيد على مبادئ أهل البيت ومذهبهم في السلطة ، وتبنّيها في نهضته أهم من تكثير المؤيّدين له والمتعاطفين معه .
  ولاسيما أنّ هدفه (عليه السّلام) ليس هو الانتصار العسكري كما سبق ، بل الإنكار على الظالمين ، وسلب الشرعية عنهم ، والتضحية من أجل مصلحة الدين ، والتذكير بمبادئه ، حيث يقتضي ذلك منه (عليه السّلام) إيضاح تلك المبادئ والتركيز عليها وعلى حَفَظتها ورُعاتها ، خدمة لها .

فوز التشيّع بشرف التضحية في أعظم ملحمة دينية

  وبذلك كسب التشيّع شرف التضحية في أعظم ملحمة دينية وحركة إصلاحية في الإسلام ، بل في جميع الأديان السماوية كما يظهر من النصوص ، ويشهد به التأمّل والاعتبار ، حيث كان لها أعظم الأثر في بقاء معالم الإسلام ووضوح حجّته ، وهو خاتم الأديان وأشرفها .
  وقد تضمّخ بتلك الدماء الزكية ، وصار رمزاً للشهادة والفناء في سبيل الله (عزّ وجلّ) ، وفي سبيل دينه القويم وتعاليمه السامية ، وعنواناً للإنكار على الظالمين ، والصرخة في وجوههم بنحو يوجب المزيد من الشدّ العاطفي نحوه ، والتجاوب معه ، ولذلك أعظم الأثر في قوّة التشيّع .
  بل هي نقطة تحوّل فيه ، حيث صار له بسببها من المخزون العاطفي ما يمدّه بالقوّة على مرّ الزمن ، وشدّة المحن .
  فهو يزيد الشيعة إيماناً بقضيتهم ، وإصراراً على مواقفهم وثباتاً عليه ، ويهوّن عليهم الاضطهاد والفجائع التي تنزل بهم مهما عظمت ، إذ لا فاجعة أشدّ من فاجعة الطفّ بأبعادها التي سبق التعرّض لها ، كما قال الشاعر :

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 403 _

أنـست رزيـتُكم رزايانا iiالتي      سلفت  ، وهوّنتِ الرزايا iiالآتيه
وفـجايعُ الأيـامِ تـبقى iiمـدة      وتزولُ ، وهي إلى القيامةِ باقيه
  بل جعل الشيعة (رفع الله تعالى شأنهم) يشعرون بالفخر والاعتزاز بما يقع عليهم بسبب تشيّعهم من المصائب والمتاعب ، ويرونها أوسمة شرف لهم على مرّ العصور وتعاقب الدهور ، فتشدّ عزائمهم ، وترفع من معنوياتهم ، وتمدّهم بالحيوية والطاقة .
  كما تزيدهم ارتباطاً بالله (عزّ وجلّ) وبرسوله الكريم وأهل بيته الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين) ، وتذكّرهم بدينهم القويم وتعاليمه السامية ، وتحملهم على الرجوع إليها والتمسّك بها .

نقمة الظالمين على الشيعة في إحياء فاجعة الطفّ

  ولذا انصبّت نقمة الظالمين ـ على مرّ التاريخ وحتى عصرنا الحاضر ـ على الشيعة وممارساتهم ، ولاسيما إحياء فاجعة الطفّ ، سواء بإقامة مجالس العزاء ، أم برثاء الإمام الحسين (صلوات الله عليه) ، أم بزيارة قبره وتشييده ... إلى غير ذلك من وجوه الإحياء .
  حيث يجدون في ذلك إنكاراً من الشيعة عليهم ، وصرخة في وجوههم ، وتعرية لهم ، وتحريضاً عليهم بنحو قد يفقدهم رشدهم في معالجة المواقف ، والتعامل معها ، فيكون ردّ الفعل منهم عليها عنيفاً بنحو يؤكّد ظلامة الشيعة والتشيّع ، ويعود في صالحهما على الأمد البعيد .

فاجعة الطفّ زعزعت شرعية نظام الخلافة عند الجمهور

  الجهة الثانية : إنّ فاجعة الطفّ بأبعادها السابقة كما هزّت ضمير المسلمين

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 404 _

  زعزعت شرعية نظام الخلافة عند الجمهور ، بما في ذلك خلافة الأوّلين ، حيث لا يتعقّل المنصف شرعية نظام ينتهي بالإسلام والمسلمين في هذه المدّة القصيرة إلى هذه المأساة الفظيعة والجريمة النكراء ، وتداعياتها السريعة .
  ولاسيما أنّ هذه الفاجعة ـ مع فضاعتها في نفسها ـ قد نبّهت إلى ظلامة أهل البيت (صلوات الله عليهم) على طول الخطّ ، وإلى جميع سلبيات النظام المذكور ، ومآسيه المتتابعة في تاريخ الإسلام والمسلمين ، وإلى حجم الخسارة التي تعرّض لها الإسلام نتيجة انحراف السلطة فيه عن أهل البيت الذين أذهب الله تعالى عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً .

فاجعة الطفّ هي العقبة الكؤود أمام نظام الخلافة

  وقد أكّد على ذلك أئمّة أهل البيت (صلوات الله عليهم) في أحاديثهم الكثيرة ، وفي الزيارات الواردة عنهم للإمام الحسين (صلوات الله عليه) .
  وإذا كان احترام الجمهور للصدر الأوّل ، بل تقديسهم له ، نتيجة العوامل المتقدّمة ـ ومنها جهود معاوية الحثيثة ـ قد كان هو العقبة الكؤود أمام دعوى النصّ التي يتبّناها الشيعة كما سبق ، فإنّ فاجعة الطفّ صارت هي العقبة الكؤود أمام شرعية نظام الخلافة عند الجمهور ، واحترام الصدر الأوّل ممّنْ جرى على ذلك النظام وتقديسهم .
  بل قد آذنت بنسف ذلك كلّه بعد أن كان من الناحية الواقعية هشّاً غير محكم الأساس ، ولا قوي البرهان .

موقف بعض علماء الجمهور من إحياء الفاجعة

  وقد أدرك ذلك كثير من علماء الجمهور حتى قبل ظهور دعوة التكفيريين ،

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 405 _

  الذين جعلوا من الدين حرمة إحياء الذكريات المجيدة في الإسلام ، والقيام بمظاهر التمجيد والتقديس لرموزه العظام .
  فإنّ الجمهور ـ مع استهجانهم لفاجعة الطفّ عند الحديث عنها ، وتعظيمهم لمقام الإمام الحسين (عليه السّلام) لا يحاولون إحياء ذكرى فاجعة الطفّ بما يتناسب مع مبانيهم ، بل لا يطيق كثير منهم النيل من الظالمين والتذكير بجرائمهم .
  وقد حاول كثير منهم المنع من إحياء تلك الذكرى الأليمة ، والتذكير بظلامة أهل البيت (صلوات الله عليهم) وما جرى عليهم ، والضغط في الاتجاه المذكور بمختلف الوسائل والحجج .
  بل منعوا من لعن القائمين بتلك الجريمة النكراء والنيل منهم ، وإن كان في جرائمهم ما لا يخصّ الشيعة ، كواقعة الحرّة الفظيعة ، وهتك حرمة الحرم ، وضرب مكة المكرّمة والكعبة المعظّمة بالمنجنيق وغير ذلك .
  وقد حاولوا تجاهل ذلك كلّه أو التخفيف منه ، من أجل حمل المسلمين على نسيان فاجعة الطفّ ، وعدم التركيز عليها والاهتمام بها ، لما للتذكير بها من الآثار السلبية على مبانيهم في نظام الحكم التي تسالموا عليه من دون أن يستندوا إلى ركن وثيق يقف أمام الهزّة العاطفية التي تحدثها هذه الذكرى الأليمة ، والحساب المنطقي الذي تنبّه له ، كلام الغزالي
  بل انتهى الأمر ببعضهم إلى تحريم التعرّض لهذه الفاجعة وما يتعلّق بها ، فعن الغزالي : يحرم على الواعظ وغيره رواية مقتل الحسين (ع) وحكاية ما جرى بين الصحابة من التشاجر والتخاصم ، فإنّه يهيج بغض الصحابة ، والطعن فيهم ، وهم أعلام الدين ، وما وقع بينهم من المنازعات فيُحمل على محامل صحيحة .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 406 _

  فلعلّ ذلك لخطأ في الاجتهاد ، لا لطلب الرئاسة أو الدنيا كما لا يخفى (1) .
  كلام التفتازاني
  وقال سعد الدين التفتازاني : ما وقع بين الصحابة من المحاربات والمشاجرات ـ على الوجه المسطور في كتب التواريخ وعلى السُنّة الثقات ـ يدلّ بظاهره على أنّ بعضهم قد حاد عن طريق الحقّ ، وبلغ حدّ الظلم والفسق ، وكان الباعث له الحقد والعناد والحسد واللداد ، وطلب الملك والرياسة ، والميل إلى اللذات والشهوات ، إذ ليس كلّ صحابي معصوم ، ولا كلّ مَنْ لقي النبي (صلّى الله عليه وآله) بالخير موسوم .
  إلاّ إنّ العلماء لحسن ظنّهم بأصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ذكروا لها محامل وتأويلات بها تليق ، وذهبوا إلى أنّهم محفوظون عمّا يوجب التضليل والتفسيق ، صوناً لعقائد المسلمين عن الزيغ والضلالة في حق كبار الصحابة ، سيّما المهاجرين والأنصار المبشرين بالثواب في دار القرار .
  وأمّا ما جرى بعدهم من الظلم على أهل بيت النبي (صلّى الله عليه وآله) فمن الظهور بحيث لا مجال للإخفاء ، ومن الشناعة بحيث لا اشتباه على الآراء ، إذ تكاد تشهد به الجماد والعجماء ، ويبكي له مَنْ في الأرض والسماء ، وتنهدّ منه الجبال ، وتنشقّ الصخور ، ويبقى سوء عمله على كرّ الشهور ومرّ الدهور ، فلعنة الله على مَنْ باشر ، أو رضي أو سعى ، ولعذاب الآخرة أشدّ وأبقى .
  فإنّ قيل : فمن علماء المذهب مَنْ لم يجوّز اللعن على يزيد مع علمهم بأنّه يستحقّ ما يربو على ذلك ويزيد .

---------------------------
(1) روح البيان ـ للبروسوي 8 / 24 في تفسير آية : 25 سورة ص ، وهي قوله تعالى : ( فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ) ، الغرر البهية 5 / 71 باب البغاة .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 407 _

  قلنا : تحامياً عن أن يرتقي إلى الأعلى فالأعلى كما هو شعار الروافض على ما يُروى في أدعيتهم ، ويجري في أنديتهم .
  فرأى المعتنون بأمر الدين إلجام العوام بالكلية ، طريقاً إلى الاقتصاد في الاعتقاد وبحيث لا تزلّ الأقدام على السواء ، ولا تضلّ الأفهام بالأهواء ، وإلاّ فمَنْ يخفى عليه الجواز والاستحقاق ؟! وكيف لا يقع عليه الاتفاق ؟! (1) .

كلام الربيع بن نافع الحلبي حول معاوية

  وهما بذلك يجريان على سنن أبي توبة الربيع بن نافع الحلبي حيث يقول : معاوية سترٌ لأصحاب محمد (صلّى الله عليه وآله) ، فإذا كشف الرجل الستر اجترأ على ما وراءه (2) .
  وقد أقرّه على ذلك غير واحد ، لكنّهم غفلوا أو تغافلوا عن أنّ مبانيهم ومباني أهل مذهبهم في احترام هؤلاء وتقديسهم ، وشرعية خلافتهم لو كانت محكمة الأساس قوّية البرهان ، ولم تكن هشّة تنهار بالبحث والتحقيق لما خافوا عليها من طريقة الشيعة وشعارهم ، ولما اضطروا من أجل الحفاظ عليها إلى إلجام العوام بالكلية ، وإلى تحريم لعن الظالمين وكشف فضائحهم مع وضوح استحقاقهم لهما ، ولما يزيد عليهما ( قُلْ فَللّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ) (3) .

موقف الغلاة لم يمنع الشيعة من ذكر كرامات أهل البيت (عليهم السّلام)

  ولذا نرى الشيعة قد امتحنوا بالغلاة الذين يرتفعون بأئمّة أهل البيت

---------------------------
(1) شرح المقاصد في علم الكلام 2 / 306 ـ 307 .
(2) البداية والنهاية 8 / 148 أحداث سنة ستين من الهجرة ، ترجمة معاوية ، واللفظ له ، تاريخ دمشق 59 / 209 في ترجمة معاوية بن صخر أبي سفيان .
(3) سورة الأنعام / 149 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 408 _

  (صلوات الله عليهم) عن مراتبهم التي رتّبهم الله تعالى فيها إلى كونهم أنبياء أو آلهة .
  وقد استغل ذلك أعداء الشيعة فجعلوا الغلو والغلاة وسيلة للتشنيع على الشيعة والتشيّع والتشهير بهم من دون إنصاف ولا رحمة .
  لكنّ الشيعة ـ مع شدّة موقفهم من الغلاة ، ومباينتهم لهم ، وتصريحهم بكفرهم ـ لم يمنعهم ذلك من التركيز على رفعة مقام أهل البيت (صلوات الله عليهم) وبيان كراماتهم ومعاجزهم ، ولم يحذروا أن يجرّهم ذلك للغلو ، أو يكون سبباً للتشنيع عليهم .
  وذلك لأنّهم على ثقة تامّة من قوّة عقيدتهم بحدودها المباينة للغلو ، وقوّة أدلتها بحيث لا يخشون من أن ينجرّوا من ذلك للغلو ، أو يلتبس الأمر على جمهورهم بنحو يفقدهم السيطرة عليه .
  ولو فرض أن حصل لبعض الناس نحو من الإيهام والالتباس سهل على علماء الشيعة السيطرة على ذلك ، وكشف الالتباس ، ودفع الشبهة .
  كما لا يهمهم تشنيع أعدائهم عليهم بذلك بعد ثقتهم بسلامة عقيدتهم وقوّة أدلتها ، وشعورهم بأنّ التهريج والتشنيع أضعف من أن يوهن ذلك ، بل هو نتيجة شعور الطرف المقابل بضعفه في مقام الاستدلال والحساب المنطقي .

محاولة كثير من الجمهور الدفاع للظالمين

  بل إنّ كثيراً من الجمهور ـ من حيث يشعرون أو لا يشعرون ـ قد جرّتهم عقدة الحذر من قوّة التشيّع ـ نتيجة الظلامات التي وقعت عليه ، خصوصاً فاجعة الطفّ ـ إلى الدفاع عن جماعة من الظالمين لأهل البيت (عليهم السّلام) ولشيعتهم ، قد أمعنوا في الجريمة ، وضجّت الدنيا بفضائحهم بحيث سقطوا عن الاعتبار ، وصاروا في مزابل التاريخ ، كيزيد بن معاوية وأمثاله حتى قد يبلغ الأمر ببعضهم إلى تبنّي هؤلاء واحترامهم وتبجيلهم .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 409 _

الدفاع عن الظالمين يصبّ في صالح التشيّع

  وهم لا يدركون ـ بسبب هذه العقدة ـ أنّ هذا الدفاع والتبنّي لا ينفعان هؤلاء المجرمين ، ولا يرفعان من شأنهم ، ولا يضرّان الشيعة ، بل يترتب عليهما أمران لهما أهميتهما في صالح الشيعة والتشيّع :
  الأوّل : إنّ المدافعين والمتبنين لهؤلاء قد أسقطوا اعتبار أنفسهم ، لأنّ هؤلاء الظلمة قد بلغوا من السقوط والجريمة بحيث يبرأ منهم مَنْ يحترم نفسه ، ويشعر بكرامتها عليه .
  كما إنّ مَنْ يدافع عنهم أو يتبنّاهم يتلوّث بجرائمهم ، ويهوي للحضيض معهم ، فهو كمَنْ يحاول أن ينتشل شخصاً من مستنقع فيهوي في ذلك المستنقع معه .
  الثاني : إنّ ذلك يكشف عن نصب هؤلاء النفر ـ من المتبنين والمدافعين ـ لأهل البيت (صلوات الله عليهم) ، وإنّه لا داعي لهم للدفاع والتبنّي لهذه النماذج المتميزة في الجريمة ، والتي صارت في مزابل التاريخ إلاّ بغض أهل البيت (عليهم السّلام) .
  وكفى الشيعة فخراً أن يهوي خصومهم للحضيض ، وأن تنكشف حقيقتهم ، وأنّهم في الواقع خصوم لأهل البيت (صلوات الله عليهم) ونواصب لهم ، كما يكفي ذلك محفّزاً للشيعة على التمسّك بحقهم والاعتزاز به ، وفي قوّة بصيرتهم في أمرهم ، وإصرارهم على حقّهم .
  فهؤلاء بموقفهم من الشيعة نظير المشركين في موقفهم من النبي (صلّى الله عليه وآله) حيث سلاه الله (عزّ وجلّ) بقوله : ( قَدْ نَعْلَمُ أنّه لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فإنّهم لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ ) (1) .

---------------------------
(1) سورة الأنعام / 33 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 410 _

المقام الثالث : في الإعلام والإعلان عن دعوة التشيّع ونشر ثقافته

  إنّ فظاعة فاجعة الطفّ حقّقت الأرضية الصالحة لاستثمارها لصالح مذهب التشيّع ، وذلك برثاء سيّد الشهداء (عليه الصلاة والسّلام) والتفجّع له ، وزيارته والتأكيد على ظلامته .
  وانطلق الشيعة من ذلك لبيان ظلامة أهل البيت (صلوات الله عليهم) ، والتأكيد على رفعة مقامهم ، وعظيم شأنهم ، وعلى جور ظالميهم وخبثهم وسوء منقلبهم ، ثمّ الاهتمام بإحياء المناسبات المتعلّقة بأهل البيت جميعاً .

اهتمام الشيعة بإحياء الفاجعة وجميع مناسبات أهل البيت (عليهم السّلام)

  وإذا كان أثر فاجعة الطفّ قد خفّ في نفوس عموم المسلمين بمرور الزمن ، أو أدرك المخالفون لخطّ أهل البيت ضرورة تناسيها وتجاهلها ، نتيجة لما سبق ، فإنّ الشيعة ـ وبدفع من أئمّتهم (صلوات الله عليهم) ـ قد حاولوا التشبّث بها والتركيز عليها ، واستثمارها بالنحو المتقدّم ، ولم تمضِ مدّة طويلة حتى صار ذلك من سمات الشيعة المميّزة لهم والتي يقوم عليها كيانهم .
  ويشدّ من عزائمهم ما ورد عن أئمّتهم (صلوات الله عليهم) من عظيم أجر ذلك وجزيل ثوابه ، وما يلمسونه ـ على طول الخطّ ـ من المدّ الإلهي والكرامات المتعاقبة التي تزيدهم بصيرة في أمرهم ، وتمنحهم قوّة وطاقة على

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 411 _

  المضي فيه ، وتحمّل المتاعب والمصاعب في سبيله .

منع الظالمين من إحياء مناسبات أهل البيت (عليهم السّلام)

  وقد أثار ذلك حفيظة الظالمين ، فجدّوا في منعهم والتنكيل بهم ، وحفيظة كثير من المخالفين فجدّوا في الإنكار والتشنيع عليهم بمختلف الأساليب .
  وذلك وإن كان قد يعيقهم عن بعض ما يريدون في الفترات المتعاقبة ، إلاّ إنّه يتجلّى لهم به ظلامة أهل البيت (صلوات الله عليهم) على طول الخطّ ، وظلامة شيعتهم تبعاً لهم .
  حتى قال الشاعر تعريضاً بمواقف المتوكّل العباسي حينما هدم قبر الإمام الحسين (صلوات الله عليه) ، ومنع الناس من زيارته ، واشتدّ في ذلك :
تاللهِ إن كـانت أمـية قـد iiأتت      قـتلَ  ابـنَ بنتِ نبيّها iiمظلوما
فـلقد أتـاهُ بـنو أبـيهِ بـمثله      هـذا لـعمركَ قـبرهُ iiمـهدوما
أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا      فـي  قـتلهِ فتتبّعوهُ رميما  (1)ii
  وقد جرى الخلف على سنن السلف وإن اختلفت الأساليب والصور ، والمبرّرات والحجج .

أثر المنع المذكور على موقف الشيعة

  وبذلك يتأكّد ولاء الشيعة لأهل البيت (صلوات الله عليهم) ، وإصرارهم على إحياء أمرهم ، وصاروا يستسهلون المصاعب ، ويتحمّلون المصائب في سبيل ذلك ، تعاطفاً معهم (عليهم السّلام) ، وأداءً لعظيم حقّهم عليهم .

---------------------------
(1) وفيات الأعيان 3 / 365 في ترجمة البسامي الشاعر ، واللفظ له ، تاريخ الإسلام 17 / 19 أحداث سنة خمس وثلاثين ومئتين من الهجرة ، هدم قبر الحسين ، البداية والنهاية 11 / 143 أحداث سنة أربع وثلاثمئة ، وغيرها من المصادر .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 412 _

  كما يتجلّى لهم أهمية هذه الممارسات والشعائر في تثبيت وجودهم ، وتأكيد هويتهم ، وإغاظة عدوهم ، فيزيدهم ذلك تمسّكاً به ، وإصراراً عليه ، كردّ فعل لمواقف أعدائهم معهم ، وظلامتهم لهم .
  وبمرور الزمن وتعاقب المحن ، واستمرار الصراع وتفاقمه صارت هذه الشعائر جزءاً من كيان الشيعة وتجذّرت في أعماقهم ، وأخذت شجرتها تنمو وتورق وتخفق بظلالها عليهم .
  وكان لها أعظم الأثر لصالح دعوتهم في أمور :

  أثر إحياء المناسبات المذكورة في حيوية الشيعة ونشاطهم
  الأوّل : حيويتهم ونشاطهم ، لأنّ فعالياتهم وممارساتهم في إحيائها نشيطة جدّاً ، وملفتة للنظر كما هو ظاهر للعيان .
  مضافاً إلى ما أشرنا إليه آنفاً من أنّها فتحت الباب لإحياء جميع مناسبات أهل البيت (صلوات الله عليهم) ، وهي كثيرة جدّاً على مدار السُنّة وذلك يجعل جمهور الشيعة في عطاء مستمر ، وحركة دائمة ، والحركة دليل الحياة كما قيل .

  أثر هذا الإحياء في جمع شمل الشيعة وتقوية روابطهم
  الثاني : جمع شملهم وتماسكهم ، وتثبيت وحدتهم ، وتقوية روابطهم حيث يذكّرهم ذلك بمشتركاتهم الجامعة بينهم ، من موالاة أهل البيت (صلوات الله عليهم) ، وموالاة أوليائهم ، ومعاداة أعدائهم ، وما يتفرّع على ذلك من أحزان وأفراح يقومون بإحيائها بتعاون ودعم مشترك .
  وإنّ الأموال التي تُنفق في سبيل ذلك من الكثرة بحدّ يلفت النظر ، سواءً كانت مشاريع ثابتة ـ كالحسينيات والأوقاف ونحوها ـ أم نفقات مصروفة

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 413 _

  لسدّ الحاجيات المتجدّدة ، كالإطعام والاستضافة وسائر الخدمات ، ومكافآت الخطباء والذاكرين وغيره .
  ويقوم بذلك جمهور الشيعة وخاصّتهم حسبما يتيسّر لكلّ أحد ويقتنع به بكامل الاختيار ، بل الرغبة ، وقد يصل الأمر إلى الإصرار ، نتيجة الالتزام الشرعي ـ بسبب النذر ـ ، أو وفاءً بالوعد والالتزام النفسي ، أو جرياً على العادة المستحكمة ... إلى غير ذلك .
  ومن الطبيعي أن يكون ذلك كلّه سبباً في إثارة العواطف وتبادلها بين أفرادهم وجماعاتهم ، وتخفيف حدّة الخلاف بينهم ، بسبب وحدة المصيبة والسعي والهدف ، والشعور بشرف الروابط وسموّها .

  أثر الإحياء المذكور في تثبيت هوية الشيعة
  الثالث : تثبيت هويتهم في تولّي أهل البيت (صلوات الله عليهم) ومَنْ والاهم ، والبراءة من أعدائهم وظالميهم وأتباعهم كما تطفح بذلك الزيارات الواردة عن الأئمّة (صلوات الله عليهم) التي يتلونها ، وتعجّ به مجالس العزاء والأفراح التي يقيمونها بمختلف صورها ، وأشعار المدح والرثاء التي يكثرون من إنشائها وإنشادها . وقد أشار إلى ذلك سعد الدين التفتازاني في كلامه المتقدّم في المقام الثاني .

  نشر الثقافة العامّة والدينية بسبب الإحياء المذكور
  الرابع : تثقيف جمهورهم بالثقافة العامّة ، والثقافة الدينية والمذهبية الخاصّة وتعميقها فيهم ، فإنّ إحياء تلك المناسبات وإن كان الهدف منه بالدرجة الأولى هو عرض الجانب العاطفي الذي يخصّ المناسبة التي يراد إحياؤها وما يناسب

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 414 _

  ذلك ، إلاّ إنّه كثيراً ما تكون منبراً للثقافة العامّة ، والثقافة الدينية والمذهبية خاصة .
  وبذلك أمكن نشر الثقافة الدينية والشيعية نسبياً بين جمهور الشيعة بعد أن كان التثقيف العام في غالب الدول والمناطق التي يتواجد فيها الشيعة غير شيعي ، بل هو على الطرف النقيض للثقافة الشيعية .
  وربما كان جمهور الشيعة وعوامهم أثقف نسبياً من جمهور وعوام غيرهم ببركة تلك المناسبات الشريفة ، ولما سبق من اهتمام علماء الجمهور بإبعاد جمهورهم عن تراثهم ، لما فيه من الثغرات المنبهة لحق التشيّع .

تأثير إحياء تلك المناسبات في إصلاح الشيعة نسبياً

  كما قد تكون المناسبات المذكورة سبباً في تأثر جمهور الشيعة نسبياً بأخلاق أهل البيت (صلوات الله عليهم) الرفيعة ، في الصدق والأمانة ، وسجاحة الخلق ولين الجانب ، وغير ذلك من الصفات الحميدة .
  فإنّ الشيعة ـ كأفراد ـ وإن لم يخلوا عن سلبيات كثيرة في هذا الجانب ، إلاّ إنّه بمقارنتهم مع غيرهم قد يبدو الفرق واضحاً ، نتيجة نشر ثقافة أهل البيت (صلوات الله عليهم) عند إحياء المناسبات المذكورة حيث تترك آثارها في أنفسهم وبصماتها في سلوكهم ، ويتفاعلون بها نسبياً .
  وقد أشار إلى بعض جوانب ذلك ابن أبي الحديد حيث قال في ترجمته لأمير المؤمنين (صلوات الله عليه) : وأمّا سجاحة الأخلاق ، وبشر الوجه ، وطلاقة المحيّى والتبسّم فهو المضروب به المثل فيه حتى عابه بذلك أعداؤه ، قال عمرو بن العاص لأهل الشام : إنّه ذو دعابة شديدة ... .
  وعمرو بن العاص إنّما أخذها عن عمر بن الخطاب ، لقوله لمّا عزم على استخلافه : لله أبوك ، لولا دعابة فيك ، إلاّ إنّ عمر اقتصر عليه ، وعمرو زاد فيها

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 415 _

  وسمجه .
  قال صعصعة بن صوحان وغيره من شيعته وأصحابه : كان فينا كأحدنا ، لين جانب ، وشدّة تواضع ، وسهولة قياد ، وكنّا نهابه مهابة الأسير المربوط للسياف الواقف على رأسه ... .
  وقد بقي هذا الخلق متوارثاً متناقلاً في محبيه وأوليائه إلى الآن ، كما بقي الجفاء والخشونة والوعورة في الجانب الآخر ، ومَنْ له أدنى معرفة بأخلاق الناس وعوائدهم يعرف ذلك (1) .

  إيصال مفاهيم التشيّع بإحياء تلك المناسبات
  الخامس : رفع رايتهم وإسماع دعوتهم لغيرهم ، لأنّ تميّزهم بإحياء تلك المناسبات ، ومواظبتهم على رفع شعائر الحبّ والولاء فيه ، وتأكيدهم على ظلامة أهل البيت (صلوات الله عليهم) ، واستثارتهم للعواطف بمناسبة ذلك يلفت أنظار الآخرين إليهم ، ويحملهم على الاحتكاك بهم ، والتعرّف على ما عندهم ، ولاسيّما أنّ إحياء هذه المناسبات يكون غالباً بنحو مثير وملفت للنظر .
  وكثيراً ما يكون ذلك سبباً لهداية الآخرين وتقبّلهم لدعوتهم ودخولهم في حوزتهم ، لتفاعلهم بتلك المناسبات بنحو يكون محفّزاً لسماع أدلّة الشيعة والنظر في حجّتهم ، ثمّ الاستجابة لهم ، لما ذكرناه في المقام الأوّل من قوّة أدلّة الشيعة ، وموافقة دعوتهم للمنطق السليم ، ولاسيما أنّها قد تدعم بالمدّ الإلهي ، وظهور الكرامات الباهرة التي تأخذ بالأعناق .
  والظاهر أنّ انتشار التشيّع في كثير من بقاع المعمورة ، وظهور دعوته وتوسّعها بمرور الزمن إنّما كانت بسبب إحياء فاجعة الطفّ ، وإصرار الشيعة

---------------------------
(1) شرح نهج البلاغة 1 / 25 ـ 26 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 416 _

  على ذلك ، والانفتاح منها على بقيّة مناسبات أهل البيت (صلوات الله عليهم) وعلى ثقافتهم ، فإنّهم لا يملكون من القوى المادية ما ينهض بهذا العبء الثقيل ، ويحقّق هذه النتائج الرائعة .

  خلود دعوة التشيّع بإحياء هذه المناسبات
  السادس : إنّ دعوة التشيّع (أعزها الله تعالى) وإن تعهد الله (عزّ وجلّ) ببقائها ظاهرة مسموعة الصوت ، لتقوم بها الحجّة على الناس ، إلاّ إنّ الظاهر أنّ لفاجعة الطفّ أعظم الأثر في بقائها رغم الضغوط الكثيرة التي تعرّضت لها .
  وذلك لأنّ تفاعل الجمهور بالفاجعة واهتمامهم بإحيائها لا يتوقّف على دفع الخاصة لهم ـ كرجال الدين أو غيرهم ـ وتشجيعهم إيّاهم ، ليسهل على العدو القضاء عليها بتحجيم دور الخاصة ، بالترغيب والترهيب ، وصنوف التنكيل حتى التصفية الجسدية كما حصل ذلك قديماً وحديثاً .
  بل هي قد أخذت موقعها من نفوس الجمهور على اختلاف طبقاتهم ، وتجذّرت في أعماقهم بحيث يهتمون بإحيائها بأنفسهم ، ويندفعون لذلك بطبعهم ، وكأنّها جزء من كيانهم .
  ولا تزيدهم الضغوط في اتجاه منعه ، أو التخفيف منه إلاّ إصراراً وتمسّكاً حيث يرون فيها تعدّياً على حقّهم الذي يؤمنون به ، وتحدّياً لهم كأمّة ، وتجاهلاً لشخصيتهم ، وجرحاً لشعورهم وعواطفهم ، ونيلاً من كرامتهم .
  ولو اضطرتهم الضغوط للتوقّف عن الإعلان بممارساتهم في إحيائها فلا يؤثّر ذلك على موقعها من نفوسهم ، وتفاعلهم بها ، بل يزيدهم ذلك تعلّقاً بها ، وانشداداً لها ، ونقمة على الظالمين مع الإصرار على إحيائها سرّاً بما يتيسّر ، ويضحّون في سبيل ذلك بالغالي والنفيس .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 417 _

  وحيث لا يتيسّر القضاء على الجمهور لكثرتهم ، تبقى الجذوة كامنة في نفوسهم ، والعواطف محتدمة حتى إذا سنحت الفرصة تدفّق المخزون العاطفي فكان النشاط مضاعفاً ، والفعاليات مكثفة ، تعويضاً عمّا سبق ، وتحدّياً للظالمين ، ولذا كان مصير الضغوط عبر التاريخ الفشل الذريع والخيبة الخاسرة .
  ولمّا كان إحياء هذه المناسبة الشريفة بمختلف وجوهها رمزاً للتشيّع ، وسبباً في رسوخ قدمه وتماسكه وتثبيت هويته ـ كما سبق ـ كان لاستمرار جمهور الشيعة فيها ، وإصرارهم عليها بالوجه المذكور أعظم الأثر في بقاء التشيّع والحفاظ عليه ، بل قد يكون هو الدرع الواقي له ، والقلعة الحصينة التي تعصمه .

فاجعة الطفّ نقطة تحول مهمة في صالح التشيّع

  وقد ظهر من جميع ما سبق أنّ نهضة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) التي ختمت بفاجعة الطفّ صارت نقطة تحوّل مهمة في مذهب التشيّع ، حيث صار لها أعظم الأثر في قوّته ، ورسوخ قدمه وبقائه ، ووضوح حجّته وسماع دعوته ، وتوسّعه بمرور الزمن رغم الضغوط الكثيرة ، والصراع العنيف ، ويأتي في الفصل الثالث من المقصد الثالث ما ينفع في المقام إن شاء الله تعالى .
  قال عزّ من قائل : ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كلّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَ ... ) (1) .
  وهو المناسب لحجم التضحية التي أقدم عليها الإمام الحسين (صلوات الله عليه) صابراً محتسباً ، راضياً بقضاء الله تعالى وقدره ، مستجيباً لأمره ، واثقاً بتسديده ونصره .
  وبذلك يتّضح وجه قوله (صلوات الله عليه) في كتابه المتقدّم : (( أمّا بعد

---------------------------
(1) سورة إبراهيم / 24 ـ 25 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 418 _

  فإنّ مَنْ لحق بي استشهد ، ومَنْ لم يلحق بي لم يدرك الفتح )) (1) .
  فجزاه الله تعالى عن الدين وأهله أفضل جزاء المحسنين ، وصلّى الله عليه وعلى آبائه وأبنائه الطيبين الطاهرين ، وعلى أصحابه الميامين الذين استشهدوا معه ، والذين سمعوا الداعي فأجابوه ، ووثقوا بالقائد فاتّبعوه ، ولم تأخذهم في الله لومة لائم ، ولا عاقهم عن أداء واجبهم عائق مهما بلغ .
  و ( الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ ) (2) ، وله الشكر أبداً دائماً سرمداً ، ونسأله أن يثبّتنا بالقول الثابت في الدنيا وفي الآخرة ، ويزيدنا إيماناً وتسليماً إنّه أرحم الراحمين ، وولي المؤمنين ، وهو حسبنا ونعم الوكيل ، نعم المولى ونعم النصير .

---------------------------
(1) تقدّمت مصادره في / 45 ـ 46 .
(2) سورة الأعراف / 43 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 419 _

الفصل الثاني : في العبر التي تستخلص من فاجعة الطفّ

  ويحسن التعرّض لها هنا من أجل أن يسترشد بها الناس عامّة ، والذين يحاولون الإصلاح خاصّة .
  والكلام هنا في مقامين :

المقام الأوّل : في آليّة العمل

  إنّ الناظر في نهضة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) يرى بوضوح الحفاظ في هذه النهضة المباركة على المبادئ الشريفة والمثل السامية ، ووضوح الهدف ، والبعد عن اللف والدوران كما يظهر من كثير ممّا تقدّم وغيره .

سلامة آليّة العمل وشرفه

  1 ـ فالإمام الحسين (صلوات الله عليه) يعلن من يومه الأوّل في وصيته لأخيه محمد بن الحنفية المتقدّمة أنّ هدفه الإصلاح في الأُمّة والسير بسيرة جدّه وأبيه (صلوات الله عليهما وآلهما) ، وإن كانت هذه السيرة لا تعجب الكثيرين على ما أشرنا إليه آنفاً (1) .

---------------------------
(1) تقدّم في / 398 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 420 _

  2 ـ كما إنّه يعلن فيها عن أنّ موقفه ممّن يردّ عليه ذلك هو الصبر وانتظار حكم الله تعالى من دون أن يهدّد بالعنف والانتقام منه ، أو يلجأ للشتم والتهريج والتشنيع (1) .
  3 ـ ويعلن في كتابه إلى بني هاشم أنّ مصير مَنْ يتبعه الشهادة ، ليكونوا على بصيرة من أمرهم من دون أن يلوّح لهم بأمل النجاح العسكري من أجل حثّهم على الالتحاق به ونصره (2) .
  4 ـ وبنحو ذلك يعلن في خطبته في مكة المكرّمة المتقدّمة عندما عزم على الخروج إلى العراق حيث أعلن (عليه السّلام) أنّه سوف يُقتل ، وأنّه لا بدّ لمَنْ يتبعه أن يكون باذلاً في أهل البيت (صلوات الله عليهم) مهجته ، موطّناً على لقاء الله (عزّ وجلّ) نفسه (3) .
  5 ـ ولمّا أرسل (صلوات الله عليه) مسلم بن عقيل (عليه السّلام) إلى الكوفة لم يمنه النصر ، بل قال له : (( إنّي موجّهك إلى أهل الكوفة ، وسيقضي الله في أمرك ما يحبّ ويرضى ، وأنا أرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء ... )) (4) .
  6 ـ وحينما بلغه (عليه السّلام) في الطريق مقتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبد الله بن يقطر ، وخذلان أهل الكوفة له ، خطب مَنْ معه وأعلمهم بذلك ، وأذن لهم بالانصراف .
  فانصرف عنه كثير ممّن تبعه في الطريق ، لظنّهم أنّه يأتي بلداً أطاعه أهله ،

---------------------------
(1) تقدّم في / 56 .
(2) تقدّم في / 45 ـ 46 .
(3) تقدّم في / 27 .
(4) مقتل الحسين ـ للخوارزمي 1 / 196 في مقتل مسلم بن عقيل ، واللفظ له ، الفتوح ـ لابن أعثم 5 / 36 ذكر كتاب الحسين بن علي إلى أهل الكوفة .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 421 _

  فكره (صلوات الله عليه) أن يسيروا معه إلاّ على علم بما يقدمون عليه (1) .
  7 ـ ولمّا طلبوا من سفيره مسلم بن عقيل أن يغتال ابن زياد حينما جاء لزيارة شريك في دار هاني بن عروة لم يفعل ما أرادوا منه ، ولمّا سُئل عن ذلك كان في جملة عذره حديث النبي (صلّى الله عليه وآله) الذي قال فيه : (( إنّ الإيمان قيد الفتك )) (2) .
  8 ـ وفي شراف أمر الإمام الحسين (صلوات الله عليه) فتيانه أن يستكثروا من الماء ، وسقى به جيش الحرّ بن يزيد الرياحي تفضّلاً منه عليهم ، لتحلّيه بمكارم الأخلاق مع أنّهم في صف أعدائه ، وقد جاؤوا ليأخذوه ومَنْ معه أسرى إلى ابن زياد ، ليمضي حكمه فيهم (3) .
  9 ـ ولمّا منعه الحرّ من النزول في نينوى أو الغاضرية أو شفية قال زهير بن القين (رضوان الله تعالى عليه) للإمام الحسين (عليه السّلام) : إنّه لا يكون والله بعد ما ترون إلاّ ما هو أشدّ منه يابن رسول الله ، وإنّ قتال هؤلاء الساعة أهون علينا من قتال مَنْ يأتينا من بعدهم ، فلعمري ، ليأتينا من بعد مَنْ ترى ما لا قِبَل لنا به .
  فقال له الإمام الحسين (صلوات الله عليه) : (( ما كنت لأبدأهم بالقتال )) (4) .
  وذلك منه (عليه السّلام) غاية في التنزّه عن البغي والعدوان ، أو عن أن يتّهم بشيء

---------------------------
(1) مقتل الحسين ـ للخوارزمي 1 / 229 واللفظ له ، الكامل في التاريخ 4 / 43 أحداث سنة ستين من الهجرة ، ذكر مسير الحسين إلى الكوفة ، تاريخ الطبري 4 / 301 أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة ، الفصول المهمة 2 / 806 ـ 807 الفصل الثالث ، فصل في ذكر مخرجه (عليه السّلام) ، وقريب منه في البداية والنهاية 8 / 182 أحداث سنة ستين من الهجرة ، صفة مخرج الحسين إلى العراق ، وغيرها من المصادر .
(2) مقاتل الطالبيين / 65 مقتل الحسين بن علي (عليه السّلام) ، تاريخ الطبري 4 / 271 أحداث سنة ستين من الهجرة ، ذكر الخبر عن مراسلة الكوفيين الحسين (عليه السّلام) ، الكامل في التاريخ 4 / 27 أحداث سنة ستين من الهجرة ، ذكر الخبر عن مراسلة الكوفيين الحسين (عليه السّلام) .
(3) تقدّمت مصادره في / 31 .
(4) تقدّمت مصادره في / 34 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 422 _

  من ذلك تحريفاً للواقع ، وتشويهاً للحقيقة ، وتهريجاً عليه .
  10 ـ ومثله ما ورد من أنّ أصحاب الإمام الحسين (عليه السّلام) لمّا أشعلوا النار في الحطب في الخندق الذي حفروه حولهم عندما حوصروا ، نادى الشمر : يا حسين ، استعجلت النار في الدنيا قبل يوم القيامة .
  فقال مسلم بن عوسجة (رضوان الله عليه) للإمام الحسين (عليه السّلام) : يابن رسول الله جعلت فداك ، ألا أرميه بسهم ؟ فإنّه قد أمكنني ، وليس يسقط سهم ، فالفاسق من أعظم الجبّارين .
  فقال له الإمام الحسين (صلوات الله عليه) : (( لا ترمه ، فإنّي أكره أن أبدأهم )) (1) .
  11 ـ ولمّا حوصر (عليه السّلام) وهُدّد بالمناجزة والقتال ، خطب أصحابه ليلة العاشر من المحرّم وقال في جملة ما قال : (( أمّا بعد ، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا أخير من أصحابي ، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي ، فجزاكم الله عنّي خيراً ، ألا وإنّي لأظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً ، وإنّي قد أذنت لكم جميعاً فانطلقوا في حِلّ ليس عليكم منّي ذمام ، هذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً ، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ، فجزاكم الله جميعاً خيراً ، ثمّ تفرّقوا في البلاد في سوادكم ومدائنكم حتى يفرّج الله ، فإنّ القوم يطلبونني ، ولو أصابوني لهوا عن طلب غيري )) (2) .
  كلّ ذلك من أجل أن يكون موقف أصحابه معه عن قناعة تامّة غير مشوبة بإحراج أو حياء أو نحو ذلك ممّا قد يستغلّه المصلحيون ، خصوصاً في مثل هذه الظروف الحرجة ، حيث قد يسلكون فيها الطرق الملتوية ويتشبّثون بالذرائع الواهية في محاولة تكثير الأعوان ، وضمان نصرتهم له .

---------------------------
(1) تاريخ الطبري 4 / 322 أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة .
(2) الكامل في التاريخ 4 / 57 ـ 58 أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة ، ذكر مقتل الحسين (رضي الله عنه) ، واللفظ له ، تاريخ الطبري 4 / 317 أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 423 _

  12 ـ ومثل ذلك ما عن الأسود بن قيس العبدي قال : قيل لمحمد بن بشير الحضرمي : قد أُسر ابنك بثغر الرّي .
  قال : عند الله أحتسبه ونفسي ، ما كنت أحبّ أن يؤسر ، ولا أن أبقى بعده .
  فسمع قوله الحسين (عليه السّلام) ، فقال له : (( رحمك الله ، أنت في حلّ من بيعتي ، فاعمل في فكاك ابنك )) .
  قال : أكلتني السباع حيّاً إن فارقتك .
  قال : (( فاعط ابنك هذه الأثواب البرود يستعين بها في فداء أخيه )) ، فأعطاه خمسة أثواب قيمتها ألف دينار (1) ... إلى غير ذلك ممّا يجده الناظر في تاريخ هذه النهضة المقدّسة ممّا يشهد بالتزام المبادئ والدين والخلق الرفيع فيه .
  وهو الذي جرى عليه أئمّة أهل البيت (صلوات الله عليهم) في جميع مواقفهم ونشاطاتهم ، وعُرف عنهم ، وكان سبباً في فرض احترامهم على العدو والصديق ، بل تقديسهم لهم .

على مدّعي الإصلاح التزام سلامة آليّة العمل

  فاللازم على مدّعي الإصلاح التمسّك بذلك ، والحفاظ عليه
  أوّلاً : لأنّ ذلك هو اللازم في نفسه ، لشرف تلك المبادئ ، وسمو تلك المثل .
  وثانياً : لتكون الوسيلة مناسبة للهدف ، حيث يكشف ذلك عن صدق مدّعي الإصلاح في دعواه ، وسلامة هدفه وغايته .
  وأمّا ما قد يُدّعى من أنّ ذلك قد يُعيق عملية الإصلاح ، حيث قد يستغل الطرف الآخر ذلك من أجل الالتفاف على المصلح ، والقضاء على مشروعه كما حصل كثيراً .

---------------------------
(1) تاريخ دمشق 14 / 182 في ترجمة الحسين بن علي بن أبي طالب ، واللفظ له ، تهذيب الكمال 6 / 407 في ترجمة الحسين بن علي بن أبي طالب ، ترجمة الإمام الحسين (عليه السّلام) من طبقات ابن سعد / 71 ح 292 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 424 _

  فهو مرفوض أوّلاً ، لأنّ التخلّي عن مشروع الإصلاح والالتزام بتعذّره ، أو الاكتفاء منه بالقليل الممكن مع الحفاظ على المبادئ المذكورة أهون بكثير من الخروج في وسيلة الإصلاح عن الدين والمبادئ الشريفة والمثل السامية ، كما قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) : (( لا أرى إصلاحكم بفساد نفسي )) (1) .
  وثانياً : لأنّ الحفاظ في الأوقات الحرجة على الدين والمبادئ الشريفة هو بنفسه إصلاح للمجتمع على الأمد البعيد ، لأنّه يذكر بالدين والمبادئ المذكورة ، وينّبه إلى أهميته ، وإلى أنّ هذه المبادئ عملية قابلة للتطبيق ، ولا يتخلّى عنها أهلها مهما كلّفتهم من تضحيات ، وليست هي فرضيات صرفة ، أو شعارات برّاقة لإقناع الناس واصطياد الأتباع .
  وذلك في حقيقته حثّ عملي عليها يوجب تركزها في النفوس ، وله أعظم الأثر في إصلاح المجتمع ورفع مستواه الخلقي .

لا يتابع مدّعي الإصلاح مع عدم سلامة آليّة العمل

  ويترتب على ما ذكرنا أنّه لا ينبغي لعموم الناس التجاوب مع مدّعي الإصلاح إذا لم يلتزم بالمبادئ والمثل ، وسوّغ لنفسه الخروج عليه ، لأنّ ذلك يكشف إمّا عن كذبه في دعوى الإصلاح ، أو عن ضعفه أمام المغريات والمبرّرات المزعومة بنحو لا يؤمَن عليه من الانحراف في نهاية المطاف ، فيكون التعاون معه تغريراً وتفريطاً لا يُعذر صاحبه فيه .
  والحذر ثمّ الحذر من أن تجرّ شدّة الانفعال من الفساد ، والرغبة العارمة في الإصلاح إلى مواقف انفعالية عاطفية يفقد الإنسان بها رشده ، فيتخلّى في سبيل

---------------------------
(1) أنساب الأشراف 3 / 215 غارة بسر بن أبي أرطاة القرشي ، الإرشاد 1 / 273 ، الأمالي ـ للمفيد / 207 ، بحار الأنوار 34 / 14 .