غاية الأمر أنّ التعامل وتمشية الأمور يكون معه ، تبعاً للقوّة ، رضوخاً للأمر الواقع ، وانسجاماً معه في شرعية مهزوزة مادامت القوّة من دون إيمان بها في الأعماق ، فضلاً عن التقديس المفترض لمقام الخلافة والإمامة ، وكلّما زاد إجراماً وانتهاكاً للحرمات زاد بُعداً عن الحقيقة الدينية .
  والحاصل : إنّه سبق أنّ الكتاب المجيد والسُنّة النبوية الشريفة قد أكّدا على وجوب معرفة الأئمّة ، وفرض طاعتهم وموالاتهم والنصيحة لهم ، ولزوم جماعتهم ، وحرمة الخروج عليهم ، وسقوط حرمة الخارج بحيث يكون باغياً يجب على المسلمين قتاله ... إلى غير ذلك ممّا يفترض أن يترتّب عليه انشداد جمهور المسلمين للخلفاء وتقديسهم لهم بحيث يكونون هم الممثلين للدين بنظرهم والقدوة التي يقتدون بها في حياتهم .
  وقد حاول الأوّلون بمختلف الوسائل ، وبجهود مكثّفة استغلال ذلك كلّه لصالحهم ، ونجحوا في ذلك نسبياً ، كما يظهر ممّا سبق .
  إلاّ إنّ الصراع الذي بدأه أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) ، واستمر عليه خواص شيعته ، وتحمّلوا صنوف الأذى والتنكيل من أجله ، وختم بفاجعة الطفّ وتداعياتها ، كلّ ذلك قد جعل من واقع الخلفاء بنظر جمهور المسلمين أمراً لا ينسجم مع شيء من ذلك .
  بل هم ينظرون لهم كذئاب كاسرة لا يؤمنون على دنيا ولا دين ، وأصبح تقييمهم للخليفة منوطاً بعمله وسلوكه معهم من دون صبغة دينية ترفع من شأنه ، وتجعلهم يتفاعلون معه .

اتضاح أنّ بيعة الخليفة لا تقتضي شرعية خلافته

  كما إنّ البيعة للخليفة ـ حتى من الخاصة ـ لا تعني إضفاء الشرعية على

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 369 _

  خلافة الخليفة ، بل الرضوخ له والتعايش معه ، دفعاً لشرّه ، وتقيّة منه .
  أوّلاً : لتبلور مفهوم التقيّة تدريجاً نتيجة إفراط الخلفاء في الظلم والجبروت والطغيان ، نظير ما تقدّم من الإمام علي بن الحسين زين العابدين (صلوات الله عليه) حول البيعة التي طلبها مسلم بن عقبة بعد واقعة الحرّة (1) .
  وثانياً : لتسافل أمر الخلافة بتسافل وسائل الوصول إليه ، وتحوّلها إلى سلطة قمع لتثبيت الطغاة .
  وثالثاً : لتسافل واقع الخلفاء ، ونزولهم للحضيض ، وتوحّلهم في مستنقع الجريمة والرذيلة والخلاعة والتحلل .
  ومثل هذه الخلافة لا يمكن الاقتناع بشرعيتها من كلّ مسلم مهما كان التزامه الديني وثقافته ، وإن كان يتعامل معها كأمر واقع مفروض عليه .
  وإذا كان معاوية في حديثه المتقدّم (2) مع المغيرة بن شعبة قد استصعب الولاية بالعهد ليزيد لما يعرفه من واقعه المشين ، ولبقاء شيء من الحرمة للخلافة ، فإنّ الأمر بعد ذلك لم يعد صعباً ، لسقوط حرمة الخلافة ، وتحوّلها إلى أداة قمع ووسيلة للترف والاستهتار .

اتضاح أنّ وجوب الطاعة ولزوم الجماعة لا يعني الانصياع للسلطة

  وقد اضطر ذلك رجال الدين والفقهاء ـ فيما بعد ـ إلى أن يفصحوا بحرمة طاعة السلطة في معصية الله تعالى (3) ، لأنّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .

---------------------------
(1) تقدّم في / 344 .
(2) تقدّم في / 335 .
(3) المغني ـ لابن قدامة 9 / 479 ، بدائع الصنائع 7 / 100 ، الثمر الداني / 24 ، كشاف القناع ـ للبهوتي 5 / 611 ، جواهر العقود ـ للمنهاجي الاسيوطي 2 / 280 ، فقه السنة 2 / 643 ـ 644 ، عمدة القارئ 14 / 221 ، تحفة الأحوذي 5 / 298 ، وغيرها من المصادر .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 370 _

  كما إنّ الجماعة التي يجب لزومها ، ولا يجوز الخروج عنها ليست هي جماعة الخليفة الحاكم كما كان عليه الأمر في الصدر الأوّل ، وحاول الحكّام التشبّث به على طول الخطّ ، بل هي جماعة الحقّ أين كانوا ، وكيف كانوا .
  قال أبو شامة : حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة ، فالمراد لزوم الحقّ واتّباعه وإن كان المتمسّك به قليلاً والمخالف كثيراً ، لأنّ الحقّ هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبي (صلّى الله عليه وآله) وأصحابه (رضي الله عنهم) ، ولا ننظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم (1) ، وقد استحسن ذلك منه ابن أبي العزّ الحنفي (2) .
  وقال أبو حاتم : الأمر بالجماعة بلفظ العموم ، والمراد منه الخاص ، لأنّ الجماعة هي إجماع أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فمَنْ لزم ما كانوا عليه وشذّ عمّنْ بعدهم لم يكن بشاقٍّ للجماعة ، ولا مفارقٍ لها ، ومَنْ شذّ عنهم وتبع مَنْ بعدهم كان شاقّاً للجماعة ، والجماعة بعد الصحابة هم أقوام اجتمع فيهم الدين والعقل والعلم ، ولزموا ترك الهوى فيما هم فيه وإن قلّت أعدادهم ، لا أوباش الناس ورعاعهم وإن كثروا (3) ، ونحوه كلام غيرهم .
  بل بلغ الأمر بهم أنّهم رووا تفسير الجماعة التي يجب لزومها بالسواد الأعظم (4) ، ومع ذلك قال إسحاق بن راهويه : لو سألت الجهّال عن السواد الأعظم قالوا : جماعة الناس ، ولا يعلمون أنّ الجماعة عالم متمسّك بأثر النبي (صلّى الله عليه وآله) ، فمَنْ كان معه وتبعه فهو الجماعة ، ومَنْ خالفه فيه ترك الجماعة (5) .

---------------------------
(1) شرح العقيدة الطحاوية ـ لابن أبي العزّ الحنفي / 307 ـ 308 ، واللفظ له ، فيض القدير 4 / 131 ، النصائح الكافية / 219 .
(2) شرح العقيدة الطحاوية ـ لابن أبي العزّ الحنفي / 307 ـ 308 .
(3) صحيح ابن حبان 14 / 126 ـ 127 كتاب التاريخ ، باب بدء الخلق ، ذكر تشبيه المصطفى (صلّى الله عليه وآله) عيسى بن مريم بعروة بن مسعود .
(4) فتح الباري 13 / 31 ، عمدة القاري 24 / 195، تحفة الأحوذي 6 / 321 .
(5) حلية الأولياء 9 / 238 في ترجمة محمد بن أسلم .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 371 _

تخبّط الجمهور في تحديد وجوب الطاعة ولزوم الجماعة

  نعم ، هذا منهم تخبّط في تحديد وجوب الطاعة ولزوم الجماعة ، لظهور أنّه بعد أن وجبت عندهم البيعة للخليفة ، لأنّ مَنْ مات من دون بيعة مات ميتة جاهلية كما تظافرت به النصوص ، ولتوقّف حفظ كيان الإسلام وإدارة أمور المسلمين على الخلافة والإمامة ، فمن الظاهر أنّ الإمامة لا تؤدّي وظيفتها إلاّ بالطاعة ، وأي خليفة وإمام يستطيع حفظ كيان الإسلام وإدارة أمور المسلمين إذا كان لا يُطاع ؟!
  مع إنّ تمييز تصرّفات الخليفة المحلّلة من المحرّمة لا يتيسّر لعامة الناس ، وحتى الخاصة كثيراً ما يختلفون في ذلك ، وفي ذلك اضطراب أمور المسلمين ، وانفراط نظمهم ، وهو الذي حصل فعلاً .
  كما إنّ الجماعة فيما يبدو من نصوصها ـ ومنها خطبة النبي (صلّى الله عليه وآله) في مسجد الخيف المتقدّمة في أوائل المبحث الأوّل (1) ـ هي جماعة الخليفة والإمام الذي يقوم به كيان الإسلام ، وينتظم المجتمع الإسلامي .
  وببيان آخر : لزوم الجماعة إنّما ورد من أجل أن تكون الجماعة علماً على الحقّ ، يعتصم به المسلمون ، فإذا توقّف وجوب لزوم الجماعة على إحراز كونها جماعة حقّ لم تكن الجماعة علماً على الحقّ يعتصم به المسلمون ، بل يعتصمون بالحقّ الذي لا بدّ لهم من معرفته قبل أن يعتصموا بالجماعة ، كما لا يقوم بها كيان الإسلام ، لخفاء الحقّ على جمهور الناس ، واختلاف الخاصة فيه .

تناسق مفهوم الإمامة والطاعة والجماعة عند الإمامية

  ولا مخرج عن ذلك إلاّ بما سبق من أنّ المراد بالجماعة جماعة الإمام الحقّ ،

---------------------------
(1) تقدّمت مصادره في / 155 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 372 _

  بعد الفراغ عن أنّ الله (عزّ وجلّ) قد عيّن الإمام الحقّ المعصوم بالنصّ الواضح الجلي الذي يجب على الأُمّة التسليم له ، كما عليه الإمامية في أئمّة أهل البيت (صلوات الله عليهم) .
  والإمام المذكور هو الذي تجب طاعته ولزوم جماعته ، ولا يجوز الخروج عليه ، ومَنْ لا تجب طاعته ولزوم جماعته على الإطلاق ، لعدم عصمته لا بدّ أن لا يكون ممّا عند الله تعالى بحيث تجري عليه أحكام الإمام الشرعية .
  وقد تقدّم بعض الكلام في ذلك عند التعرّض لجهود أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في كشف الحقيقة ، وبيان معالم الدين في المقام الأوّل من هذا المبحث (1) .
  إلاّ إنّ الجمهور حيث لم يقرّوا بالنصّ ، ولم يذعنوا له ـ وذهبوا إلى أنّ الإمامة والخلافة تكون ببيعة الناس من دون ضابط ـ ولم يمكنهم البناء على وجوب طاعة الخليفة ، ولزوم جماعته مطلقاً وإن كان فاسقاً جائراً ـ نتيجة ما سبق ـ اضطروا لهذا التخبط .
  والمهم في المقام أنّ ضوابط الطاعة ولزوم الجماعة قد اهتزّت ، واختلفت عمّا كانت عليه قبل فاجعة الطفّ كما يظهر بمراجعة ما سبق من الصدر الأوّل في التأكيد على لزوم الجماعة .
  وقد اضطروا أخيراً للالتزام نظرياً بعدم وجوب الطاعة المطلقة لخليفة الجور ، وإن كانوا كثيراً ما لا يجرون على ذلك عملياً ، غفلة منهم أو تغافلاً .
  وترتّب على ذلك أمران في غاية الأهمية :

الخروج على السلطة لم يَعُدْ يختصّ بالخوارج

  الأوّل : إنّ الخروج على الحاكم لا يختص بالخوارج الذين تشوهّت

---------------------------
(1) تقدّم في / 250 وما بعده .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 373 _

  صورتهم ، وسقط اعتبارهم ، من أجل ما سبق ، بل خرج كثير من غيرهم على السلطات المتعاقبة ، وفيهم مَنْ يَكنّ له المسلمون ـ على اختلاف ميولهم وتوجّهاتهم ـ الاحترام أو التقديس .
  وتقييم جمهور الناس لخروج الخارج تابع لتقييمهم لشخصه ، ولِما يقتنعون به من مبادئه وأهدافه وسلوكه ، ولا يكون الخروج على الحاكم بنفسه جريمة بنظر عموم المسلمين حسب مرتكزاتهم كما هو الحال عند الشارع الأقدس في الخروج على الإمام الشرعي ، حيث يكون الخارج عليه باغياً يجب على المسلمين قتاله حتى يفيء لطاعته ويلزم جماعته .
  غاية الأمر أنّ الخليفة نفسه حيث يفترض شرعية سلطته ، فهو ومرتزقته يفترضون الخارجين عليه بغاة يعاملونهم معاملتهم ، بل كثيراً ما يزيدون في التنكيل بهم على حكم البغاة تعدّياً وطغياناً .
  إلاّ إنّ ذلك يفقد المصداقية عند جمهور المسلمين وعامّتهم ، فلا يعترفون للخليفة بذلك ، بل يرون هدفه الدفاع عن سلطته ، وإشباع شهوته في الحكم والسلطة والاستغلال والاستئثار .
  غاية الأمر أنّهم يستسلمون أخيراً للغالب بغض النظر عن شرعيته ، اعترافاً بالأمر الواقع كما هو الحال في صراع الملوك فيما بينهم .

صارت الإمامة عند الجمهور دنيوية لا دينية

  الثاني : إنّ الخلافة والإمامة في الصدر الأوّل كانت دينية ودنيوية ، فكما يكون الخليفة مرجعاً للمسلمين في أمور دنياهم وسياسة أمورهم يكون مرجعاً لهم في دينهم .
  وهو وإن كان قد يسأل غيره ، ويستعين برأيه ، إلاّ أنّ له القول الفصل فيه .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 374 _

  وعن ابن مسعود أنّه قال : إنّما نقضي بقضاء أئمّتنا (1) .
  ولا يتوجّه الجمهور للسؤال من غيره والأخذ منه إلاّ في حدود ما يسمح به .
  أمّا بعد أن سقطت قدسية الخلافة ـ نتيجة العوامل المتقدّمة ـ فقد اقتصرت الخلافة أخيراً عند الجمهور على الأمور الدنيوية وسياسة الدولة ، تدعمها في ذلك القوّة والبطش بلا ضوابط من دون أن يكون الخليفة مرجعاً في أمور الدين .
  واضطر الجمهور نتيجة ذلك للالتزام بعدم تشريع إمامة الدين في الإسلام ـ على خلاف ما عليه الشيعة ـ وأنّ على الناس أن يرجعوا للفقهاء على اختلافهم ، وأنّ الله (عزّ وجلّ) لم يجعل لهم علماً يعصمهم من الاختلاف .
  بل قد يصل الأمر بهم إلى الالتزام بصواب الكلّ على اختلافهم ، وأنّ الحقّ يتعدّد في مورد الخلاف بعدد آراء المجتهدين ، وأنّ اختلافهم رحمة للأُمّة ، لأنّ فيه سعة له .
  ومهما يكن في ذلك من التخبّط فهو فتح عظيم للدين ، حيث حرّره من تحكّم الخليفة غير المعصوم فيه ، ومسخِه له كما حصل نظيره في الأديان السابقة .

كسر طوق الضغط الثقافي في الفترة الانتقالية

  الجهة الثانية : كسر طوق الضغط الثقافي على المسلمين ، وارتفاع الحجر عملياً عن الحديث النبوي الشريف ، فأصحرت كلّ فئة بمفاهيمها التي تتبنّاها وثقافتها التي تحملها ، وأخذت تحاول تعميم تلك المفاهيم والثقافة على المسلمين ، وبدأت اات المختلفة تتضح ، وتتميّز بعضها عن بعض في المجتمع الإسلامي ، لاتجاه

---------------------------
(1) المحلّى 9 / 283 ، 286 ، الإيضاح / 341 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 375 _

  مكسب التشيّع نتيجة كسر طوق الضغط الثقافي وكان لشيعة أهل البيت (صلوات الله عليهم) الدور الأكبر في ذلك .
  أوّلاً : لِما يأتي ـ في المطلب الثاني ـ من أنّ نهضة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) شيعية الاتجاه .
  وثانياً : لأنّ الإمام الحسين (صلوات الله عليه) نفسه ـ الذي هو الرجل الأوّل عند عموم المسلمين ، والذي ضحى هذه التضحية الكبرى ـ هو الإمام الثالث للشيعة .
  حيث يترتّب على هذين الأمرين أن يكون ردّ الفعل على العدوان الذي حصل هو نشر الثقافة الشيعية من أجل الإنكار على العدوان المذكور ، وبيان بشاعته .
  وثالثاً : لأصالة المفاهيم الشيعية وعقلانيتها ، وارتفاع مستوى ثقافة الشيعة ، تبعاً لرفعة مقام أئمّتهم (صلوات الله عليهم) الذين هم ورثة النبي (صلّى الله عليه وآله) ، وأبواب مدينة علمه .
  ورابعاً : لكثرة ما تضمّنه الكتاب المجيد والسُنّة النبوية الشريفة ممّا يخدم دعوة التشيّع ، وعلم الله تعالى كم ظهر في هذه الفترة من الأحاديث التي تؤيّد الدعوة المذكورة من بقية الصحابة ومن التابعين ، خصوصاً بعد مؤتمر الإمام الحسين (عليه السّلام) الذي سبق أنّه قد عقده في الحج لحفظ ونشر التراث الذي يخص أهل البيت (عليهم السّلام) ، ويتضمّن رفعة مقامهم (1) .
  وخامساً : لوجود القيادة الحكيمة المعصومة الراعية للشيعة ولدعوتهم ، وتسديدها ودعمها بالمدّ الإلهي غير المحدود .

---------------------------
(1) تقدّم تفصيله ومصدره في / 104 ـ 105 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 376 _

  ولذا كتب لدعوة التشيّع البقاء والخلود والظهور والانتشار من بين جميع الدعوات التي ظهرت في مواجهة انحراف السلطة ، رغم كلّ المعوّقات والألغام التي زُرعت في طريقها على طول التاريخ .
  وبعد أن انتهى الحديث عن هذه الفترة الانتقالية وثمراتها المهمّة نقول :

التوجّه الديني في المجتمع الإسلامي نتيجة فاجعة الطفّ

  من الطبيعي أن يكون لفاجعة الطفّ بأبعادها السابقة وتداعياتها السريعة أثرها العميق في المسلمين بحيث أدّت إلى يقظة كثير منهم ، ورجوعهم لدينهم ، واهتمامهم بالتعرّف عليه وتحمّل ثقافته ، لعدّة عوامل أفرزتها واقعة الطفّ وتداعياتها السابقة :
  أوّلها : الشعور بتدهور المجتمع الإسلامي ، وابتعاده عن الدين وتقصيره في أمره بنحو يستوجب تأنيب الضمير على ذلك .
  خصوصاً بعد أن ركّز أهل البيت (صلوات الله عليهم) وشيعتهم على عظم الجريمة ، واهتمّوا بإحيائها والتذكير بها ، بإقامة المآتم ، وزيارة قبر الإمام الحسين (صلوات الله عليه) ، ورثائه وما يجري مجرى ذلك .
  حيث يكون ردّ الفعل المناسب لذلك من كثير ممّن لهم جذور دينية هو ترك السلطة ومَنْ يتنازع عليها جانباً والرجوع للدين ، والتعرّف عليه ، والتمسّك به .
  ثانيها : معاناة الناس من السلطة الجائرة ، ومن تدهور الأوضاع ، نتيجة الصراعات والفوضى ، فإنّ ردّ الفعل المناسب لذلك والميسور لعامّة الناس ـ ممّن لا حول له ولا قوّة ـ هو الانكفاء على النفس ، والبُعد عن الفتن ، واللجأ إلى الله (عزّ وجلّ) وطلب رضاه بالرجوع لدينه ، والتزام تعاليمه الشريفة .
  ولاسيما بعد أن ظهر على السلطة الاستهتار بالدين والاستهانة به ، فإنّ

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 377_

  ذلك يؤكّد الاندفاع نحو الدين ؛ لكونه مظهراً إرادياً ، أو لا إرادياً للتحدّي العملي للسلطة ، والاحتجاج الصامت عليها الذي فيه السلامة من خطر الاحتكاك بها ، مع ما فيه من فضح السلطة ، والتنبيه لسلبياتها .
  ولعلّ لهذين الأمرين أعظم الأثر في الصحوة الدينية التي تعيشها المجتمعات الإسلامية في أيامنا هذه بعد موجة التحلّل من الدين ، تبعاً للغرب والشرق الماديين ، ثمّ ظهور العدوان منهما والتجاوز على حقوق الشعوب .
  ثالثها : قوّة التشيّع وانتشاره بعد فاجعة الطفّ حيث إنّ من أبرز مفاهيم التشيّع وتعاليمه ضمّ العمل للعقيدة ، فقد استفاض عن النبي (صلّى الله عليه وآله) والأئمّة من أهل بيته (صلوات الله عليهم) أنّ الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان (1) ، وأكّدوا (صلوات الله عليهم) على العمل كثيراً .
  وكان التديّن والالتزام بالأحكام الشرعية من السمات البارزة في الشيعة ، وقد سبق عن سفيان الثوري قوله : وهل أدركت خير الناس إلاّ الشيعة ؟ وسبق عن الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر (صلوات الله عليه) ما يُناسب ذلك (2) .
  وذلك ينضمّ للعاملين السابقين في تنبيه عامّة المسلمين لدينهم ، وتحفيزهم على العمل بأحكامه ، والتعرّف عليها وعلى واقع دينهم في العقائد والفقه والسلوك والأخلاق .

---------------------------
(1) نهج البلاغة 4 / 50 ، الخصال / 178 ح 239 ، وص 179 ح 241 ، عيون أخبار الرضا (عليه السّلام) 2 / 204 ، سنن ابن ماجة باب في الإيمان ، المعجم الأوسط 6 / 226 ، و 8 / 262 ، تفسير القرطبي 1 / 372 ، الدرّ المنثور 6 / 100 ، تاريخ بغداد 1 / 271 في ترجمة محمد بن إسحاق بن محمد بن عبد الله ، تهذيب الكمال 18 / 82 في ترجمة عبد السّلام بن صالح ، سير أعلام النبلاء 15 / 400 في ترجمة علي بن حمشاذ ، وغيرها من المصادر الكثيرة .
(2) تقدّمت مصادره في / 346 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 378 _

حاجة المجتمع الإسلامي لمتخصصين في الثقافة الدينية

  وحيث تحرّر الدين وخرج عن هيمنة السلطة ، لسقوط شرعية الدولة ، نتيجة العوامل السابقة ، فمن الطبيعي أن يحقّق التوجّه الديني المذكور الحاجة لجمهور المسلمين ـ على اختلاف توجّهاتهم ـ إلى جماعة يتوجّهون للثقافة الدينية ، ويتخصّصون فيه ، ويعرّفون به .
  وهذه الطبقة قد كان لها وجود قبل ذلك من بقايا الصحابة والتابعين ، خصوصاً من أصحاب أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) ، إلاّ إنّها كانت محاصرة ومعزولة عن المجتمع العام ، نتيجة الحجر الثقافي الذي قوي في عهد معاوية ، ولعدم حاجة المجتمع لها ، وعدم تبنّيه لها بعد مرجعية السلطة في الدين ، ومن ثمّ كانت معرّضة للاضمحلال لو استمرت تلك المرجعية .
  أمّا بعد سقوط شرعية السلطة ، وفصل الدين عنها فقد قويت هذه الطبقة تدريجاً ، نتيجة حاجة المجتمع إليها ، وتعلّقهم بها ، وتبنّيهم لها ، وصار لها وجودها المتميّز على اختلاف توجّهاتها من حملة الحديث الشريف ، والفقهاء ، ومفسري القرآن المجيد ، والزهّاد ، والمتألهين ، والوعّاظ ونحوهم ممّنْ يتميّز بجانب من جوانب الدين ، ويكون مرجعاً أو قدوة فيها .

أهمية دور رجال الشيعة في مجال التخصص الديني

  وقد كان لشيعة أهل البيت (عليهم السّلام) الحظّ الأوفر من ذلك ، لثقافتهم العالية الأصيلة التي فتح الباب لها أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) وتعاهدها الأئمّة من ولده (عليهم السّلام) ، ولصدق لهجتهم في الحديث وثقة الناس بهم .
  وقد فرضوا أنفسهم بذلك على عموم المسلمين حتى ذكر الذهبي ـ مع ما هو عليه من التحامل على الشيعة ـ أنّه لو ردّ حديث الشيعة لذهبت جملة من

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 379 _

  الآثار النبوية (1) .
  وقال الجوزجاني ـ على نصبه ـ : وكان قوم من أهل الكوفة لا يحمد الناس مذاهبهم هم رؤوس محدّثي الكوفة ... احتملهم الناس على صدق ألسنتهم في الحديث ... (2) ... إلى غير ذلك .

عدم اقتصار الأمر على الشيعة

  غير أنّ ذلك لا يعني اقتصار الأمر على الشيعة ، فقد عمّ ذلك جميع المسلمين على اختلاف توجّهاتهم كما هو ظاهر بأدنى ملاحظة لتاريخ تلك الفترة ، بل قد يكون ظهور ذلك في الشيعة محفّزاً لغيرهم على التوجّه في هذه الوجهة ، ولو من أجل أن لا ينفرد الشيعة في الساحة ، ويستقطبوا طلاب العلم والثقافة الدينية ، فتفرض ثقافتهم على جميع المسلمين .

ظهور طبقة الفقهاء والمحدّثين

  والحاصل : إنّ جمهور المسلمين على اختلاف توجّهاتهم ومشاربهم بدؤوا يرجعون في دينهم لفقهائهم ، فظهر الفقهاء السبعة في المدينة المنوّرة ، وظهر غيرهم في بقيّة أمصار المسلمين ، وصار للحديث والفقه سوق رائج .
  وأخذوا يتسابقون في ذلك ، إمّا اهتماماً بمعرفة الحقيقة ، أو لدعم الوجهة التي يتوجّه إليها الفقيه والمحدّث ويتعصّب لها ، أو ليَبدو تفوّقه ويكون رأساً يرجع إليه الناس في دينهم ... إلى غير ذلك من العوامل المختلفة .

---------------------------
(1) ميزان الاعتدال 1 / 5 في ترجمة أبان بن تغلب .
(2) أحوال الرجال / 78 ـ 80 في ترجمة فائد أبي الورقاء ، واللفظ له ، تاريخ دمشق 46 / 233 في ترجمة عمرو بن عبد الله بن أبي شعيرة ، ميزان الاعتدال 2 / 66 في ترجمة زبيد بن الحارث اليامي ، وقال الذهبي : وقال أبو إسحاق الجوزجاني ـ كعوائده في فظاظة عبارته ـ كان من أهل الكوفة ... تهذيب التهذيب 8 / 59 في ترجمة عمرو بن عبد الله بن عبيد ، وغيرها من المصادر .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 380 _

الاتفاق على انحصار مرجعية الدين بالكتاب والسُنّة

  ولهذا الأمر ـ على سلبياته الكثيرة ـ أهميته العظمى في ظهور معالم الدين ، وقيام الحجّة عليه حيث كانت نتيجة ذلك الاتفاق على انحصار المرجعية في الدين بالكتاب المجيد والسُنّة الشريفة من دون أن تكون للسلطة ، أو غيرها حق التدخّل فيه .
  وحتى لو رجعوا في الدين لغير الكتاب والسُنّة ـ كالإجماع ، وعمل أهل المدينة ، والقياس ، وغيرها ـ فإنّهم حاولوا بعد ذلك توجيه العمل عليها بالكتاب والسُنّة ، لدعوى دلالة الكتاب والسُنّة على حجّية الأمور المذكورة ، أو كشف تلك الأمور عن دلالة الكتاب والسُنّة على ما يطابقه .
  وأخذوا تدريجاً بتثبيت الضوابط لذلك حتى تبلور الفقه عن طريق الفقهاء ـ على اختلاف مشاربهم وتوجّهاتهم ـ من دون دخل مباشر للسلطة .

تعامل السلطة مع الواقع الجديد بتنسيق وحذر

  وقد فُرض هذا الأمر أخيراً في الواقع الإسلامي ، نتيجة لما سبق حتى اضطرت السلطة لغض النظر عنه ، بل للاعتراف به .
  وقد حاولت التعامل معه بنحو من التنسيق والحذر يخفّف من وقعه عليها ، وتناقضه معها ، وذلك بأمرين :

إقدام السلطة على تدوين السُنّة

  الأوّل : الاهتمام بتدوين السُنّة ولو بالنحو الذي يعجبها ـ على خلاف ما كان عليه الأوّلون ـ في محاولة منها للسيطرة على مسيرة الحديث والفقه .
  فقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن محمد بن حزم : انظر ما كان

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 381 _

  من حديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، أو سُنّة ماضية ، أو حديث عمرة فاكتبه ، فإنّي خشيت دروس العلم وذهاب أهله (1) .
  وعن الزهري : أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن ، فكتبناها دفتراً دفتراً ، فبعث إلى كلّ أرض له عليها سلطان دفتراً (2) .

تبنّي الخلفاء لبعض الفقهاء لكسب الشرعية منهم

  الثاني : تبنّي الخلفاء لبعض الفقهاء جيلاً بعد جيل ودعمهم ، من أجل تحسين صورتهم أمام الجمهور في محاولة لإثبات شرعية سلطتهم وتصرّفاتهم ، وتسيير الفقه والحديث لصالحهم بعد فرض الدين في الواقع الإسلامي ، وتحرّره من هيمنة السلطة .

مكسب الدين نتيجة هذين الأمرين

  وباب الخطأ والتلاعب من المحدّثين والفقهاء وإن كان مفتوحاً ، خصوصاً من أجل إرضاء السلطة كما يظهر بمراجعة التاريخ ، إلاّ أنّ لهذين الأمرين أهمّيتهما في صالح الدين ، لأنّهما يتضمّنان الاعتراف ضمناً بمرجعية الكتاب المجيد والسُنّة الشريفة ، وأنّه لا مجال لتحكّم الخليفة ، أو غيره في الدين بالمباشرة .
  غاية الأمر أنّه قد يستعين بالفقهاء والمحدّثين الذين يتبنّاهم ، أو ينسّق معهم لتحقيق هدفه ، بل قد يشتدّ ويقسو في فرض ما يريد والمنع من مخالفته .

---------------------------
(1) الطبقات الكبرى 8 / 480 في ترجمة عمرة بنت عبد الرحمن ، واللفظ له ، وج 2 / 387 عند ذكر عمرة بن عبد الرحمن وعروة بن الزبير ، معرفة السنن والآثار 6 / 389 ، التمهيد ـ لابن عبد البر 17 / 251 ، الأعلام ـ للزركلي 5 / 72 ، تقييد العلم 1 / 252 ح 218 الرواية عن الطبقة الثانية والثالثة من التابعين في ذلك ، المعرفة والتاريخ 1 / 441 ، وغيرها من المصادر .
(2) جامع بيان العلم وفضله 1 / 76 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 382 _

  إلاّ إنّ ذلك لا يضيع معالم الحقّ بعد أن تسالم الجميع على أنّ المرجع في الدين هو الكتاب المجيد المحفوظ بين الدفتين المنتشر بين المسلمين ، والسُنّة الشريفة المحفوظة في الصدور والمسطورة في الزبر .

موقف مالك بن أنس صاحب المذهب

  ويبدو أنّ مالك بن أنس صاحب المذهب قد أدرك ذلك ، فعن محمد بن عمر : سمعت مالك بن أنس يقول : لمّا حجّ المنصور دعاني فدخلت عليه فحادثته ، وسألني فأجبته ، فقال : عزمت أن آمر بكتبك هذه ـ يعني الموطأ ـ فتُنسخ نسَخاً ، ثمّ أبعث إلى كلّ مصر من أمصار المسلمين بنسخة ، وآمرهم أن يعملوا بما فيه ، ويدعوا ما سوى ذلك من العلم المحدّث ، فإنّي رأيت أصل العلم رواية أهل المدينة وعلمهم .
  قلت : يا أمير المؤمنين لا تفعل ، فإنّ الناس قد سيقت لهم أقاويل ، وسمعوا أحاديث ، ورووا روايات ، وأخذ كلّ قوم بما سيق إليهم ، وعملوا به ودانوا به ، من اختلاف أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وغيرهم ، وإنّ ردّهم عمّا اعتقدوه شديد ، فدع الناس وما هم عليه ، وما اختار كلّ بلد لأنفسهم .
  فقال : لعمري ، لو طاوعتني لأمرت بذلك (1) .
  وعن ابن مسكين ومحمد بن مسلمة قالا : سمعنا مالكاً يذكر دخوله على المنصور ، وقوله في انتساخ كتبه وحمل الناس عليه ، فقلت : قد رسخ في قلوب أهل كلّ بلد ما اعتقدوه وعملوا به ، وردّ العامّة عن مثل هذا عسير (2) .

---------------------------
(1) سير أعلام النبلاء 8 / 78 ـ 79 في ترجمة مالك الإمام ، واللفظ له ، جامع بيان العلم وفضله 1 / 132 ، الانتقاء من فضائل الثلاثة الأئمّة الفقهاء / 41 ، المنتخب من ذيل المذيل / 144 القول في تاريخ التابعين والخالفين والسلف الماضين من العلماء ونقلة الآثار ، ذكر مَنْ هلك منهم في سنة 161 من الهجرة .
(2) سير أعلام النبلاء 8 / 79 في ترجمة مالك الإمام ، واللفظ له ، الانتقاء من فضائل الثلاثة الأئمّة الفقهاء / 41 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 383 _

  وروي أنّ هارون الرشيد أراد من مالك الذهاب معه إلى العراق ، وأن يحمل الناس على الموطأ كما حمل عثمان الناس على القرآن ، فقال له مالك : أمّا حمل الناس على الموطأ فلا سبيل إليه ، لأنّ الصحابة (رضي الله تعالى عنهم) افترقوا بعد موته (صلّى الله عليه وآله) في الأمصار ، فعند كلّ أهل مصر علم ، وقد قال (صلّى الله عليه وآله) : (( اختلاف أُمّتي رحمة )) (1) .
  على أنّ التلاعب والخطأ محدودان نسبياً ، نتيجة الصراع بين الفقهاء والمحدّثين ، واختلاف الأنظار والمصالح حيث يحاسب المخطئ والمتلاعب من قبل الآخرين على ضوء الكتاب والسُنّة ، ويكون هدفاً لإنكارهم وتشنيعهم .
  ولو فرض أن شذّ بعضهم في اختلاق الحديث ، أو في آرائه الفقهية ، بعيداً عمّا هو المألوف كان معزولاً عن الكيان العام ، ولا احترام لرأيه .
  كما إنّه ربما يكون انتساب الفقيه ، أو المحدّث للسلطة نقطة ضعف فيه تقلّل من احترام رأيه وحديثه ، وتكون مثاراً للإنكار عليه ، لِما سبق من وهن شرعية السلطة ، وتشوّه صورتها عند جمهور المسلمين .

قوّة الكيان الشيعي نتيجة ما سبق

  وقد ساعد على ذلك كثيراً قيام كيان معتدٍّ به لشيعة أهل البيت (صلوات الله عليهم) ، حيث يهتمّون ـ بتوجيه من أئمّتهم (صلوات الله عليهم) ـ بالحق ويدعون له ، وينكرون على الظالمين والمنحرفين ، ويتتبعون سقطاتهم ، ويشنّعون عليهم ... إلى غير ذلك ممّا يكبح جماح الانحراف ، وإن تحمّلوا في سبيل ذلك
---------------------------
(1) فيض القدير 1 / 271 ، واللفظ له ، حياة الحيوان الكبرى 2 / 571 باب الميم ، في مطية ، آداب العلماء والمتعلمين 1 / 2 الفصل الأوّل ، آداب العالم في علمه ، النوع الثالث ، وقد روي أنّ ذلك كان مع المأمون كما في تاريخ دمشق 32 / 356 في ترجمة عبد الله بن محمد ، وحلية الأولياء 6 / 361 ـ 362 في ترجمة مالك بن أنس .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 384 _

  ضروب المحن والمصائب .

تحوّل مسار الثقافة الدينية بعد الفترة الانتقالية

  والمتحصّل من جميع ما سبق : إنّه يبدو التحوّل واضحاً في مسار الثقافة الدينية على الصعيد العام بالمقارنة بين ما كان الوضع عليه من الصدر الأوّل حتى موت معاوية ، وما صارت الأمور إليه بعد الفترة الانتقالية واستيلاء المروانيين على السلطة .
  وبذلك بقيت معالم الدين ، وكيانه العام ، واتفق المسلمون على مشتركات كثيرة تحفظ صورة الدين ووحدته ، وأهمّها انحصار المرجعية بالكتاب المجيد ، والسُنّة الشريفة .

عقدة احترام سُنّة الشيخين

  نعم ، بقي أمر مرجعية سيرة الشيخين والأخذ بسنّتهم ، الذي بدا بصورة رسمية في الشورى عند بيعة عثمان ، فإنّه نظراً لاحترام الجمهور لهما احتراماً يبلغ حدّ التقديس ، نتيجة العوامل المتقدّمة حاول كثير منهم أن يقرّوا ما صدر عنهما من التشريعات ، ويجعلوا سنّتهما ماضية بنفسها ـ من دون نظر لموافقتها للكتاب المجيد والسُنّة الشريفة ـ بحيث لا يحق لأحد الخروج عنها ، كما سبق في حديث أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسّلام) (1) .
  وقد بقي ذلك بعده (عليه السّلام) مع شدّة النكير عليه منه ومن الأئمّة من ذريته (صلوات الله عليهم) ومن شيعتهم ، وبعض مَنْ اقتنع بوجهة نظرهم .
  حتى ورد في الحديث عن ابن عباس : قال : تمتّع النبي (صلّى الله عليه وآله) .
  فقال عروة بن

---------------------------
(1) تقدّم في / 275 وما بعده .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 385 _

  الزبير : نهى أبو بكر وعمر عن المتعة .
  فقال ابن عباس : ما يقول عرية ؟!
  قال : يقول : نهى أبو بكر وعمر عن المتعة .
  فقال ابن عباس : أراهم سيهلكون ، أقول : قال النبي (صلّى الله عليه وآله) ، ويقول : نهى أبو بكر وعمر (1) .
  وفي حديث آخر أنّه قال : يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء ، أقول : قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وتقولون : قال أبو بكر وعمر (2) .
  وفي حديث ثالث له : والله ما أراكم منتهين حتى يعذّبكم الله ، نحدّثكم عن النبي (صلّى الله عليه وآله) ، وتحدّثونا عن أبي بكر وعمر ... (3) .
  وقال أيضاً : أما تخافون أن يخسف الله بكم الأرض ؟! أقول لكم : قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وتقولون : قال أبو بكر وعمر ؟! ... (4) .
  وعن ابن عمر أنّه كان يأتي بمتعة الحجّ ، فيُقال له : إنّ أباك كان ينهى عنها ؟ فيقول : لقد خشيت أن يقع عليكم حجارة من السماء ، قد فعلها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، أفسُنّة رسول الله تُتبع ، أم سُنّة عمر بن الخطاب ؟! (5) .

---------------------------
(1) مسند أحمد 1 / 337 مسند عبد الله بن العباس بن عبد المطلب ، واللفظ له ، جامع بيان العلم وفضله 2 / 196 ، تذكرة الحفاظ 3 / 837 في ترجمة محمد بن عبد الملك بن أيمن ، سير أعلام النبلاء 15 / 243 في ترجمة ابن أيمن ، المغني ـ لابن قدامة 3 / 239 ، الشرح الكبير ـ لابن قدامة 3 / 239 ، الفقيه والمتفقه 1 / 377 ، حجّة الوداع 1 / 398 ح 369 الباب الرابع والعشرون الأحاديث الواردة في أمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بفسخ الحجّ بعمرة في حجّة الوداع ... وغيرها من المصادر .
(2) كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد / 149 ، واللفظ له ، زاد المعاد 2 / 178 أعذار مَنْ لم يأخذ بفسخ الحجّ إلى العمرة ، أضواء البيان 7 / 328 ، النصائح الكافية / 213 ، وغيرها من المصادر .
(3) جامع بيان العلم وفضله 2 / 196 ، واللفظ له ، التمهيد ـ لابن عبد البر 8 / 208 ، أضواء البيان 4 / 352 ، إمتاع الأسماع 9 / 31 فصل في ذكر حجّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وغيرها من المصادر .
(4) الإحكام ـ لابن حزم 2 / 148 ، و 4 / 581 ، و 5 / 650 .
(5) البداية والنهاية 5 / 159 في فصل لم يسمه بعد ذكر حجّة من ذهب إلى أنّه (عليه السّلام) كان قارناً ، وقريب منه في مسند أحمد 2 / 95 في مسند عبد الله بن عمر بن الخطاب .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 386 _

  وفي صحيح زرارة : جاء عبد الله بن عمير الليثي إلى أبي جعفر (عليه السّلام) فقال له : ما تقول في متعة النساء ؟ فقال : (( أحلّها الله في كتابه وعلى لسان نبيّه (صلّى الله عليه وآله) ، فهي حلال إلى يوم القيامة )) .
  فقال : يا أبا جعفر مثلك يقول هذا وقد حرّمها عمر ، ونهى عنها ؟!
  فقال : (( وإن كان فعل )) .
  قال : إنّي أُعيذك بالله من ذلك ، أن تحلّ شيئاً حرّمه عمر .
  قال : فقال له : (( فأنت على قول صاحبك ، وأنا على قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فهلمّ أُلاعنك أنّ القول ما قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وأنّ الباطل ما قال صاحبك ... )) (1) .
  وفي حديث أبي بصير : قال أبو عبد الله (عليه السّلام) : (( يا أبا محمد ، كان عندي رهط من أهل البصرة فسألوني عن الحجّ ، فأخبرتهم بما صنع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وبما أمر به ، فقالوا لي : إنّ عمر قد أفرد الحجّ ، فقلت لهم : إنّ هذا رأي رآه عمر ، وليس رأي عمر كما صنع رسول الله صلّى الله عليه وآله )) (2) ... إلى غير ذلك .
  وقد حاول الجمهور والسلطة الجري على ذلك حتى بعد تدوين السُنّة ، وظهور طبقة الفقهاء والمحدّثين كما يظهر ممّا تقدّم من حديث عروة بن الزبير المعدود من فقهاء المدينة السبعة .

موقف عمر بن عبد العزيز

  وقد سبق في كتاب عمر بن عبد العزيز الأمر بكتابة السُنّة الماضية (3) .
  والظاهر أنّ المراد بها ما يعمّ سُنّة الشيخين كما يناسبه قوله في خطبة له في خلافته : ألا إنّ ما سنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وصاحباه فهو دين نأخذ به وننتهي إليه ، وما سنّ سواهما فإنّا نرجئه (4) .

---------------------------
(1) الكافي 5 / 449 من أبواب المتعة ح 4 .
(2) وسائل الشيعة 8 / 173 باب 3 من أبواب أقسام الحج ح 6 .
(3) تقدّم في / 380 .
(4) تاريخ دمشق 11 / 385 في ترجمة حاجب بن خليفة ، واللفظ له ، كنز العمال 1 / 370 ح 1624 ، تاريخ الخلفاء / 241 في ترجمة عمر بن عبد العزيز .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 387 _

  وهو بذلك يجري على ما جرى عليه عبد الرحمن بن عوف حين أخذ اتّباع سيرتهما شرطاً في بيعة الخليفة ، كالعمل بكتاب الله تعالى وسُنّة نبيّه (صلّى الله عليه وآله) ، وما جرى عليه عثمان لمّا أتمّ الصلاة بمنى ، حيث ورد أنّه خطب فقال : إنّ السُنّة سُنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وسُنّة صاحبيه ، ولكنّه حدث العام من الناس فخفت أن يستنّوا (1) .
  بل في كلام لعمر بن عبد العزيز آخر : سنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وولاة الأمر من بعده سنناً الأخذ بها تصديق بكتاب الله ، واستكمال لطاعة الله ، وقوّة على دين الله ، ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ، ولا النظر فيما خالفها ، مَنْ اقتدى بها مهتدٍ ، ومَنْ استنصر بها منصور ، ومَنْ خالفها اتّبع غير سبيل المؤمنين ، وولّاه الله ما تولّى ، وصلاه جهنم وساءت مصيراً (2) .
  ومقتضاه إمضاء سُنّة عثمان أيضاً .
  كما جرى على ذلك معاوية ، فإنّه لمّا حجّ صلّى الظهر ركعتين ، ولمّا دخل فسطاطه عتب عليه الأمويون ؛ لأنّه خالف سُنّة عثمان فخرج فصلّى العصر أربعاً (3) .
  إلاّ إنّه يبدو شعور عمر بن عبد العزيز بعد ذلك بعدم إمكان فرض سُنّة عثمان على المسلمين ؛ بسبب تحرّر فقههم من سيطرة السلطة ، فتراجع عن ذلك وأرجأه ـ كما في خطبته السابقة ـ واقتصر على سُنّة الشيخين ، لما لهما من المكانة في نفوس الجمهور .

---------------------------
(1) السنن الكبرى ـ للبيهقي 3 / 144 كتاب الصلاة ، جماع أبواب صلاة المسافر والجمع في السفر ، باب مَنْ ترك القصر في السفر غير رغبة عن السُنّة ، واللفظ له ، معرفة السنن والآثار 2 / 429 ، كنز العمال 8 / 234 ح 22701 ، تاريخ دمشق 39 / 255 في ترجمة عثمان بن عفان ، وغيرها من المصادر .
(2) تفسير ابن أبي حاتم 4 / 1067 ، واللفظ له ، الدرّ المنثور 2 / 222 ، البداية والنهاية 9 / 242 أحداث سنة إحدى ومئة من الهجرة ، جامع بيان العلم وفضله 2 / 187 ، وغيرها من المصادر .
وقد نسب هذا الكلام إلى مالك أيضاً ، كما في سير أعلام النبلاء 8 / 98 في ترجمة مالك الإمام .
(3) تقدّمت مصادره في / 234 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 388_

التغلّب أخيراً على عقدة سيرة الشيخين

  لكن يظهر اتضاح الضوابط في الفقه وجميع شؤون الدين بعد ذلك وتبلورها ، نتيجة الإنكار على الظالمين وتعريتهم ، والتأكيد من أئمّة أهل البيت (صلوات الله عليهم) ومن شيعتهم ، بل من الجميع على انحصار المرجعية في الدين بالكتاب المجيد والسُنّة الشريفة ، وعدم جواز الأخذ من غيرهما ، وأنّ ذلك هو الابتداع المنهي عنه عقلاً وشرعاً .
  وقد اضطر ذلك الجمهور أخيراً إلى التراجع عن الموقف المذكور من سُنّة الشيخين ، والبناء على انحصار المرجعية في الدين بالكتاب والسُنّة ، وأنّه لا بدّ أن يكون منهما الانطلاق لتحديد الأدلّة في أحكام الدين وشؤونه .
  نعم ، تحوّل الخلاف بعد ذلك إلى الخلاف في الضوابط والأدلّة التي يدلّ الكتاب المجيد والسُنّة الشريفة على حجّيتها في أمور الدين ، ولذلك الأثر الكبير في اختلاف المسلمين ، وظهور الفرق والمذاهب فيهم .
  إلاّ إنّه ليس بتلك الأهمية بعد الاتفاق على انحصار المرجعية في الكتاب والسُنّة ، لأنّ طالب الحقّ يبقى حرّاً في الاختيار على ضوء هذين المرجعين العظيمين ، وهو كافٍ في قيام الحجّة على الدين الحقّ ووضوح معالمه ، كما تكفّل الله (عزّ وجلّ) بذلك ، ولا يضرّه بعد ذلك التكلّف والتعصّب ضدّ الحقّ وأهله .

موقف الجمهور أخيراً من سُنّة الشيخين

  أمّا موقف الجمهور من سيرة الشيخين فقد انحصر بين أمرين :
  الأوّل : ترك بعض سُنّنهم ، كما حصل في متعة الحجّ التي حرمها عمر وغيره .
  الثاني : دعوى دعم الكتاب أو السُنّة لما سنّاه ، كما حصل في متعة النساء

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 389 _

  وغيره ، في كلام طويل وتفاصيل كثيرة لا يهمّنا التعرّض له .
  وهي ترجع إمّا لوجود روايات في ذلك تضمّنتها كتبهم ، وإمّا لحسن الظنّ بهما وتنزيههما عن الابتداع في الدين ، وأنّهما لا يرضيان بذلك ، بل لا بدّ أن يكونا قد اطّلعا على دليل لم يصل إلينا .
  فعن ابن حزم في التعقيب على ما تقدّم من كلام عروة بن الزبير مع ابن عباس : إنّها لعظيمة ما رضي بها قطّ أبو بكر وعمر (1) .
  وقال الذهبي في الدفاع عن عروة : قلت : ما قصد عروة معارضة النبي (صلّى الله عليه وآله) بهم ، بل رأى أنّهما ما نهيا عن المتعة إلاّ وقد اطّلعا على ناسخ (2) .
  وهذا منهم وإن ابتنى في كثير من الموارد على التمحّل غير المقبول ، إلاّ إنّه فتح عظيم للدين حيث يستبطن الاعتراف بانحصار المرجع فيه بالكتاب المجيد والسُنّة الشريفة ، وبذلك تتمّ الحجّة ، والتمحّل لا ينفع صاحبه ، ولا يكون عذراً له مع الله (عزّ وجلّ) .
  وبذلك اتّضحت معالم الدين ، وتجلّت ضوابط الحقّ من الباطل بنحو يتيسّر لطالب الحقّ الوصول إليه ؛ لظهور حجّته ، ويكون حائلاً دون تحريف الدين وضياعه كما حصل في الأديان السابقة .
  كلّ ذلك بجهود أئمّة أهل البيت (صلوات الله عليهم) ، وفي قمّتها نهضة الإمام الحسين (عليه السّلام) التي انتهت بفاجعة الطفّ الدامية التي هزّت ضمير المسلمين ، ونبّهتهم من غفلتهم ، وغيّرت وجهتهم ، وارتفعت بسببها أصوات الإنكار على الظالمين ، وحفّزت على نقد مواقفهم وسلوكهم وتعريتهم بنحو قضى على مشروعهم في استغفال المسلمين ، وتدويل الدين والتحكّم فيه ، ممّ

---------------------------
(1) تذكرة الحفاظ 3 / 837 في ترجمة محمد بن عبد الملك بن أيمن .
(2) سير أعلام النبلاء 15 / 243 في ترجمة ابن أيمن .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 390 _

  يؤدّي إلى ضياع معالمه على طالبيه .
  فجزى الله الإمام الحسين (صلوات الله عليه) عن الإسلام والمسلمين خير جزاء المحسنين ، والسّلام عليه وعلى المستشهدين معه ورحمة الله وبركاته .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 391 _

المطلب الثاني : فيما كسبه التشيّع لأهل البيت (عليهم السّلام) بخصوصيته

  ظهر ممّا سبق في المطلب الأوّل بعض مكاسب دعوة التشيّع لأهل البيت (صلوات الله عليهم) نتيجة فاجعة الطفّ .
  كما يأتي في المقام الثاني من الفصل الثاني ـ عند الكلام في العِبَر التي تستخلص من فاجعة الطفّ ـ أنّها سهلت على الأئمّة من ذرية الحسين (صلوات الله عليهم) إقناع الشيعة بالصبر ومهادنة السلطة من أجل التفرّغ لبناء الكيان الشيعي الثقافي والعملي ، وهو مكسب مهم جدّاً .
  والمهم هنا التعرّض لمكاسب أُخرى لها أهمية كبرى في قيام كيان التشيّع وقوّته وبقائه ، فنقول بعد الاستعانة بالله تعالى :
  من الظاهر أنّ دعوة التشيّع تعتمد من يومها الأوّل :
  أوّلاً : على الاستدلال والمنطق السليم والحجّة الواضحة كما ذكرناه آنفاً ، ويظهر للناظر في محاورات الشيعة وحجاجهم مع الآخرين ممّا تناقلته الناس وسُطّر في الزبر .
  وثانياً : على العاطفة ، لِما لأهل البيت (صلوات الله عليهم) من مكانة سامية في نفوس عامّة المسلمين ، وكثير من غيرهم ، ولِما وقع عليهم (عليهم السّلام) من الظلم والأذى ، وتجرّعوه من الغصص والمصائب حيث يوجب ذلك بمجموعه

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 392 _

  انشداد الناس لهم عاطفياً .
  وثالثاً : على الإعلام والإعلان عن دعوة التشيّع ونشر ثقافته ، وإظهار حججه ، وإسماع صوته لأتباع الدعوة من أجل تثقيفهم وتعريفهم بدينهم ، وللآخرين من أجل إقناعهم ، وإقامة الحجّة عليهم .
  وقد جاءت فاجعة الطفّ الدامية ـ بأبعادها المتقدّمة ، وتداعياتها المتلاحقة ـ ، لتدعم هذه الدعوة الشريفة في الجوانب الثلاثة .
  وبيان ذلك يكون في مقامات ثلاثة :

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 393 _

المقام الأوّل : في مكسب التشيّع من حيثية الاستدلال

  سبق في المطلب الأوّل أنّ فاجعة الطفّ قد هزّت ضمير المسلمين ، ونبّهتهم من غفلتهم ، وانتهت بهم إلى الالتزام بانحصار المرجعية في الدين بالكتاب المجيد والسُنّة الشريفة .
  ومن الظاهر أنّ ذلك كما يكون مكسباً للإسلام بكيانه العام ، كذلك هو مكسب جوهري للتشيّع بالمعنى الأخص ، وهو الذي يبتني على أنّ الخلافة والإمامة بالنصّ ، وأنّ الأئمّة اثنا عشر .

اعتماد التشيّع بالدرجة الأولى على الكتاب والسُنّة

  وذلك لاعتماد التشيّع المذكور بالدرجة الأولى على الكتاب المجيد والسُنّة الشريفة ، وخصوصاً السُنّة التي حاولت السلطة في الصدر الأوّل تغييبه ، والتحجير عليه ، والمنع من روايتها إلاّ في حدود مصلحته كما سبق .
  ومن الطريف جدّاً أنّ العناية الإلهية حفظت لهذا التشيّع ما يكفي في الاستدلال عليه والردّ على خصومه من الكتاب المجيد وأحاديث الجمهور ورواياتهم ، ومن التاريخ الذي ثبتوه بأنفسهم بحيث لو تجرّد الباحث عن التراكمات والموروثات التي ما أنزل الله بها من سلطان ، ونظر في تلك الأحاديث ووقائع التاريخ بموضوعية تامّة لاتضحت له معالم الحقّ ، وبخع لدعوة التشيّع ،

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 394 _

  ولزم خطّ أهل البيت (صلوات الله عليهم) .
  وقد تقدّم في أوائل المقام الثاني عن الإمام الصادق (صلوات الله عليه) أنّ طالب الحقّ أسرع إلى هذا الأمر من الطير إلى وكره (1) .
  وقد حاول أهل العلم من خصوم التشيّع تجاهل تلك الآيات والأحاديث ، وعدم التركيز عليه ، أو الجواب عنها بوجوه ظاهرة التكلّف والتعسّف بنحو لا يخفى على طالب الحقّ وعلى المنصف .

انحصار المرجعية في الدين بالكتاب والسُنّة انتصار للتشيّع

  وعلى كلّ حال فقد اتّضحت معالم الدين ، وكانت الغلبة منطقياً للتشيّع بعد أن تمّ تسالم المسلمين بعد فاجعة الطفّ ، وما تبعها من تداعيات ـ كما سبق ـ على انحصار المرجع في الدين بالكتاب المجيد والسُنّة الشريفة ، وأنّه لا يحق لأي شخص أن يخرج عنهما ، أو يتحكّم في الدين من دون أن يرجع لهما ، وأنّ الخروج عنهما جريمة تطعن في شخص الخارج مهما كان شأنه .

الطرق الملتوية التي سلكها خصوم التشيّع لتضييع هذا الانتصار

  ولذا اضطر خصوم التشيّع على طول الخطّ وحتى يومنا الحاضر لمقاومته ، والمنع من امتداده في عمق المجتمع المسلم بطرق :
  أوّلها : القمع والتنكيل بالشيعة بمختلف الوجوه وبدون حدود ، لئلا يتسنّى لهم إسماع دعوتهم ، والاستدلال عليها .
  ثانيها : تشويه صورتهم ، وافتراء كثير من الأمور المستنكرة عليهم ، بل كثيراً ما انتهى بهم الأمر إلى تكفير الشيعة وإخراجهم من الإسلام .

---------------------------
(1) تقدّم في / 311 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 395 _

  كلّ ذلك من أجل تنفير عامّة الجمهور منهم ، وإبعادهم عنهم ، لئلا يتيسّر لهم السماع منهم ، والتعرّف على ثقافتهم وعقيدتهم الحقيقية ، وعلى أدلّتهم المنطقية عليه .
  ثالثها : إبعاد عامّة الجمهور عن كثير من تراث الجمهور أنفسهم ، وإغفالهم عمّا يخدم خطّ التشيّع منه ، والتركيز على غيره وإشغالهم به ، وإن كان دون ما سبق دلالة أو سنداً .
  رابعها : محاولة إبعاد عامّة الجمهور أيضاً عن البحث في الأمور العقائدية ، وحملهم على التمسّك بما عندهم على أنّها مسلمات لا تقبل البحث والنظر .
  خامسها : إغفال التراث والفكر الشيعي في مقام البحث والنظر ، وإبعادهما عن متناول الجمهور ، بل حتى عن الباحثين منهم .
  وقد بلغنا أنّ بعض المكتبات المهمّة في عصرنا تمتنع من عرض الكتب الشيعية وإن كانت قد تعرض كتباً تتضمّن أفكاراً تتناقض مع الدين والأخلاق .
  وقد جروا في ذلك على سيرة أسلافهم .
  قال ابن خلدون : وشذّ أهل البيت بمذاهب ابتدعوها ، وفقه انفردوا به ، وبنوه على مذهبهم في تناول بعض الصحابة بالقدح ، وعلى قولهم بعصمة الأئمّة ، ورفع الخلاف عن أقوالهم ، وهي كلّها أصول واهية ، وشذّ بمثل ذلك الخوارج .
  ولم يحتفل الجمهور بمذاهبهم ، بل أوسعوها جانب الإنكار والقدح فلا نعرف شيئاً من مذاهبهم ، ولا نروي كتبهم ، ولا أثر لشيء منها إلاّ في مواطنهم ، فكتب الشيعة في بلادهم ، وحيث كانت دولتهم قائمة ... (1) .
  بل موقفهم من الخوارج دون موقفهم من الشيعة ، إذ كثيراً ما يتعاطفون

---------------------------
(1) مقدّمة ابن خلدون 1 / 446 الفصل السابع في علم الفقه وما يتبعه من فرائض .