المقام الأوّل : في صلح الإمام الحسن (عليه السّلام) مع معاوية

  قد كثر الحديث في الصلح المذكور تقييماً ونقداً حسب اختلاف توجّهات المتحدّثين ومداركهم ، ولا يسعنا تعقيب ما ذكروه ، بل الأنسب الاقتصار على عرض وجهة نظرنا وتقريبه ، فنقول :

تعذّر انتصار الإمام الحسن (عليه السّلام) عسكرياً

  الذي يتراءى لنا أنّ إصرار الإمام الحسن (صلوات الله عليه) على حرب معاوية وثباته عليها حتى النهاية إن كان من أجل الانتصار ، والحفاظ على استقامة مسار السلطة في الإسلام ، فالنظرة الموضوعية لظروف الصراع بين الإمام ومعاوية تشهد بتعذّر انتصار الإمام (عليه السّلام) عسكرياً ، وذلك لتصاعد قوّة معاوية وطغيانه ، ووهن أهل العراق بعد التحكيم الذي أشعرهم بالخيبة ، وسبّب لكثير منهم الإحباط .
  ولاسيما بعد انشقاقهم على أنفسهم في فتنة الخوارج وحربهم معهم ، وما تسبب عن ذلك أو قارنه من ظهور الأحقاد بينهم ، ومللهم من الحرب ، وضعف بصائر كثير منهم ، وانفتاح عيون جماعة من رؤسائهم على الدنيا ، وانخداعهم بالمغريات التي كانوا ينتظرونها من معاوية ، ولا يتوقّعون شيئاً منها من الإمام الحسن (عليه السّلام) ، نتيجة مبدئيته وسيره على نهج أبيه (صلوات الله عليه) ... إلى غير ذلك .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 455 _

  وإذا كان في معسكر الإمام (صلوات الله عليه) جماعة ـ من ذوي البصائر والإصرار على المضي في الحرب ـ قد ظهر منهم التبرّم من موقف الإمام (عليه السّلام) كما يأتي من بعضهم ، فذلك منهم ناشئ عن قوّة بصيرتهم في حقّهم وفي باطل معاوية ، وشدّة إبائهم للضيم بحيث فقدوا النظرة الموضوعية لواقع القوّتين المتصارعتين ، والموازنة بينهم ، وملاحظة نتائج الحرب وتأثيرها على الدعوة الحقّة على الأمد القريب والبعيد .

خطبة الإمام الحسن (عليه السّلام)

  وقد أوضح ذلك الإمام الحسن (صلوات الله عليه) في خطبته لأصحابه التي رواها ابن الأثير بسنده عن ابن دريد ، وفيها : (( إنّا والله ما ثنانا عن أهل الشام شك ولا ندم ، وإنّا كنّا نقاتل أهل الشام بالسلامة والصبر ، فسُلبت السلامة بالعداوة ، والصبر بالجزع ، وكنتم في منتدبكم إلى صفين ودينكم أمام دنياكم ، فأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم ، ألا وإنّا لكم كما كنّا ، ولستم لنا كما كنتم ، ألا وقد أصبحتم بين قتيلين : قتيل بصفين تبكون له ، وقتيل بالنهروان تطلبون ثاره ، فأمّا الباقي فخاذل وأمّا الباكي فثائر ، ألا وإنّ معاوية دعانا إلى أمر ليس فيه عزّ ولا نصفة ، فإن أردتم الموت رددناه عليه ، وحاكمناه إلى الله (عزّ وجلّ) بظبا السيوف ، وإن أردتم الحياة قبلناه ، وأخذنا لكم الرضى )) .
  قال : فناداه القوم من كلّ جانب : البقيّة البقيّة ، فلمّا أفردوه أمضى الصلح (1) .
  وقد روى هذه الخطبة الديلمي بتغيير يسير ، وفيه : (( فأمّا الباكي فخاذل ،

---------------------------
(1) أسد الغابة 2 / 13 في ترجمة الحسن بن علي بن أبي طالب ، واللفظ له ، سير أعلام النبلاء 3 / 269 في ترجمة الحسن بن علي بن أبي طالب ، الكامل في التاريخ 3 / 406 أحداث سنة إحدى وأربعين من الهجرة ، ذكر تسليم الحسن بن علي الخلافة إلى معاوية ، وغيرها من المصادر .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 456 _

  وأمّا الطالب فثائر )) (1) .
  ويأتي منه (عليه السّلام) كلام آخر يناسب ذلك ، ونحوهما غيرهما وإن كان الأمر أظهر من ذلك .
مخاطر الانكسار العسكري على دعوة الحقّ وحملته

  وحينئذ فخروج الإمام الحسن (صلوات الله عليه) من الصراع بصلح يبتني على الشروط والعهد والميثاق ، خير من خروجه بانكسار عسكري ينفرد به معاوية بالقرار ، لوجوه :
  الأوّل : إنّ الانكسار العسكري لا يحصل إلاّ بعد أن تأكل الحرب ذوي البصائر الذين هم حصيلة جهود أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) ، لقوّة إصرارهم وتصميمهم على التضحية .
  مع إنّ دعوة التشيّع في أمسّ الحاجة لهم من أجل حملها والتبليغ بها والدعوة له ، لأنّها كانت حديثة الظهور على الصعيد العام في المجتمع الإسلامي ، وكان حاميها القوّة بسبب تسنّم أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) للسلطة من دون أن تتركّز عقائدياً على الصعيد العام ، ولم تأخذ موقعها المناسب في المسلمين ، فتبقى مهزوزة في مهبّ الرياح بعد انحسار سلطان أهل البيت (صلوات الله عليهم) .
  وحينئذ يسهل على معاوية اكتساحها بعد انتصاره وقوّة سلطانه كما حاول ذلك وبذل غاية جهده ، وإن لم يفلح نتيجة جهود هذه الجماعة ، ووقوفها أمام مشروعه المذكور .
  وهذا بخلاف الحال عند نهضة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) ، حيث قد تركّزت الدعوة عقائدياً ، وتجذّرت في المجتمع الإسلامي ، فالتضحية به (عليه السّلام) وبالنخبة الصالحة معه لم تؤثّر على سير الدعوة ، بل كانت نقطة تحوّل فيه زادتها

---------------------------
(1) أعلام الدين / 292 ـ 293 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 457 _

  عزّةً وبهاءً ، وقوّةً ورسوخاً ، وظهوراً وانتشاراً كما سبق .
  ومعاوية وإن كان قد نقض العهد ، وتتبّع كثيراً من الشيعة بعد ذلك قتلاً وسجناً وتشريداً وتنكيلاً ، إلاّ إنّ ذلك لا يبلغ محذور القضاء عليهم واستئصالهم في الحرب ، أو بعد أن يتمّ له الانتصار :
  أوّلاً : لأنّ معاوية لم يقضِ عليهم كلّهم ، بل بقي كثير منهم ، وقد بذلوا جهودهم لصالح دعوة الحقّ في حياة معاوية وبعد موته .
  وثانياً : لأنّه لم يقضِ على كثير ممّنْ قضى عليهم إلاّ بعد فترة استطاع فيها الضحية أن يؤدّي وظيفته في التبليغ بالدعوة الشريفة وتوضيح معالمها ، وطبع بصماتها في المجتمع ، وكان لذلك أثره الحميد في بقاء دعوة التشيّع ، وتوارث الأجيال لها ، واتساع رقعتها .
  وثالثاً : لأنّ ظلامات الضحايا ، ومواقفهم الصلبة في سبيل مبادئهم صارت وسام شرف للتشيّع ؛ حيث اصطبغ بالدماء ، وصار عنواناً لمقارعة الباطل ، والصرخة في وجوه الظالمين ، والتضحية من أجل المبادئ الحقّة ، وقد تحقّق ذلك لأوّل مرّة في داخل المجتمع الإسلامي .
  نظير موقف المسلمين المستضعفين الذين تعرّضوا للأذى والتعذيب من المشركين في مبدأ ظهور الإسلام ، مع فارق الكمّ والكيف .
  كما صارت تلك الظلامات سمة عارٍ على الحكم الأموي ، وأحد الأسباب المهمّة في تشويه صورته ، وزعزعة شرعيته ، ولاسيّما إنّه يذكّر بموقف الأمويين السيئ من الإسلام في مبدأ ظهوره ، وإنّ القوم أبناء القوم .
  وخصوصاً إنّ ذلك ابتنى على نقض العهد والاستهانة به ، استهتاراً بالمبادئ والقيم ، وقد صرّح معاوية بذلك من أوّل الأمر ، فقد قال في خطبته بالنخيلة عند دخوله الكوفة : ألا إنّ كلّ شيء أعطيته الحسن بن علي تحت قدمي

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 458 _

  هاتين لا أفي به (1) .
  مع إنّ كثيراً من أولئك الضحايا لهم أثرهم المحمود في الإسلام ، ومكانتهم السامية في نفوس المسلمين ، وقد هزّ مقتل حجر بن عدي وأصحابه المجتمع الإسلامي ، وهو أحد أحداث معاوية وموبقاته المذكورة ، فكيف صارت نظرة المسلمين لمعاوية بسبب ما سبقه ولحقه من جرائمه وتعدياته الكثيرة ؟!
  الثاني : إنّ قتل مَنْ يُقتل من الشيعة في الحرب أمر تقتضيه طبيعة الحرب ، لا يُعَدّ بنظر جمهور الناس جريمة من معاوية ، بل حتى قتلهم بعد حصول الانكسار العسكري ، لأنّ المحاربين يكونون أسرى لا يستنكر من المنتصر قتلهم في تلك العصور .
  ولذا عدّ عفو النبي (صلّى الله عليه وآله) عن المشركين بعد فتح مكة ، وعفو أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) عن المقاتلين بعد حرب الجمل ، تفضّلاً منهما .
  أمّا قتل الإمام الحسن (صلوات الله عليه) وأهل بيته وشيعته بعد الموادعة وأخذ العهود والمواثيق فهو من أعظم الجرائم الإنسانية والمستنكرات بنظر الخاصة والعامة .
  وبذلك استطاع الإمام الحسن (عليه السّلام) أن يعصم دمه الزكي ودماء أهل بيته وشيعته ، ويحفظ لهم حرمتهم ، ويجعل قتل مَنْ قُتل منهم ، والاعتداء على الباقين بوجوه أُخر جرائم مستنكرة دينياً وإنسانياً تشوّه صورة الحكم الأموي ، وسبباً للتشنيع عليه والتنفير منه ، وهو من أهم المكاسب في الصراع المبدئي .
  الثالث : إنّ معاوية ليس كيزيد في الطيش والعنجهية ، بل يختلف عنه بالحنكة وبُعْد النظر . والظاهر أنّ ذلك يمنعه من قتل الإمام الحسن (صلوات

---------------------------
(1) مقاتل الطالبيين / 45 في ترجمة الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السّلام) ، واللفظ له ، شرح نهج البلاغة 16 / 46 ، أنساب الأشراف 3 / 291 أمر الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهم السّلام) .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 459 _

  الله عليه) وأهل بيته لو لم يُقتلوا في المعركة ، لما لهم من المقام الديني الرفيع ، والمكانة السامية في نفوس المسلمين ، فلا يثير على نفسه غضب المسلمين بقتلهم ، بل يستبقيهم ، ليظهر بمظهر الحليم المتفضّل بعفوه بعد المقدرة .
  وفي ذلك أعظم الوهن عليهم ، وعلى دعوتهم الشريفة ، كما يكون حاجزاً لهم عن الإنكار عليه في ممارساته الإجرامية ضدّ الدين والمسلمين ، حيث يكون بنظر عامّة الناس من الردّ على الإحسان بالإساءة .
  ولا أقلّ من أن يستغل معاوية ذلك ضدّهم ويوظّف قدراته التثقيفية والإعلامية للتهريج عليهم به ، وتشويه صورتهم ، من أجل أن يستغفل الناس ، ويشغلهم به عن التوجّه لجرائمه ونقده .

تصريحات الإمام الحسن وبقيّة الأئمّة (عليهم السّلام) في توجيه الصلح

  وقد أشار الإمام الحسن (صلوات الله عليه) وبقيّة الأئمّة (عليهم السّلام) لكثير ممّا ذكرنا من أجل توجيه موقفه مع معاوية ، وإقدامه على صلحه ومهادنته ، وإقناع خواص أصحابه ، والتخفيف من غلواء انفعالهم من الحدث المذكور ، وأسفهم له .
  ففي حديث له (عليه السّلام) عن صلحه مع معاوية : (( والله ، ما سلّمت الأمر إليه إلاّ إنّي لم أجد أنصاراً ، ولو وجدت أنصاراً لقاتلته ليلي ونهاري حتى يحكم الله بيني وبينه ، ولكنّي عرفت أهل الكوفة وبلوتهم ، ولا يصلح لي منهم مَنْ كان فاسداً ، إنّهم لا وفاء لهم ولا ذمّة في قول ولا فعل ، إنّهم لمختلفون ، ويقولون لنا إنّ قلوبهم معنا ، وإنّ سيوفهم لمشهورة علينا )) (1) .
  وفي حديث له (سلام الله عليه) طويل مع أبي سعيد عقيصا قال : (( يا

---------------------------
(1) الاحتجاج 2 / 12 ، بحار الأنوار 44 / 147 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 460 _

  أبا سعيد ، إذا كنت ممّا مَنْ قبل الله تعالى ذكره لم يجب أن يسفّه رأيي فيما أتيته من مهادنة أو محاربة وإن كان وجه الحكمة فيما أتيته ملتبس ، ألا ترى الخضر لمّا خرق السفينة ، وقتل الغلام ، وأقام الجدار سخط موسى (عليه السّلام) فعله ، لاشتباه وجه الحكمة عليه حتى أخبره فرضي ، هكذا أنا سخطتم عليّ بجهلكم بوجه الحكمة فيه ، ولولا ما أتيت لما تُرك من شيعتنا على وجه الأرض أحد إلاّ قُتل )) (1) .
  وفي رواية أُخرى عنه (عليه السّلام) أنّه قال : (( إنّما هادنت حقناً للدماء وصيانته ، وإشفاقاً على نفسي وأهلي والمخلصين من أصحابي )) (2) .
  وقال (عليه السّلام) لحجر بن عدي : (( يا حجر ، إنّي قد سمعت كلامك في مجلس معاوية ، وليس كلّ إنسان يحبّ ما تحبّ ، ولا رأيه كرأيك ، وإنّي لم أفعل ما فعلت إلاّ إبقاء عليكم ، والله تعالى كلّ يوم هو في شأن )) (3) .
  وفي حديث له (عليه السّلام) آخر معه قال : (( إنّي رأيت هوى عظم الناس في الصلح وكرهوا الحرب ، فلم أحبّ أن أحملهم على ما يكرهون ، فصالحت بقياً على شيعتنا خاصة من القتل ، ورأيت دفع هذه الحروب إلى يوم ما ، فإن الله كلّ يوم هو في شأن )) (4) .
  وفي حديث ثقيف البكّاء قال : رأيت الحسن بن علي (عليه السّلام) عند منصرفه من معاوية وقد دخل عليه حجر بن عدي ، فقال : السّلام عليك يا مذلّ المؤمنين .
  فقال : (( مه ، ما كنت مذلّهم ، بل أنا معزّ المؤمنين ، وإنّما أردت البقاء عليهم ... )) (5) .

---------------------------
(1) بحار الأنوار 44 / 2 ، علل الشرائع 1 / 211 ، الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف / 196 .
(2) مناقب آل أبي طالب ـ لابن شهرآشوب 3 / 196 ، تنزيه الأنبياء / 222 ، بحار الأنوار 44 / 56 .
(3) الفتوح ـ لابن أعثم 4 / 295 ذكر مسير معاوية إلى العراق لأخذ البيعة لنفسه من الحسن بن علي ، واللفظ له ، مناقب آل أبي طالب ـ لابن شهرآشوب 3 / 197 ، بحار الأنوار 44 / 57 ، شرح نهج البلاغة 16 / 15 .
(4) الأخبار الطوال / 220 عند ذكر زياد بن أبيه .
(5) دلائل الإمامة / 166 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 461 _

  وقال (صلوات الله عليه) لعلي بن محمد بن بشير الهمداني : (( ما أردت بمصالحتي معاوية إلاّ أن أدفع عنكم القتل عندما رأيت من تباطؤ أصحابي عن الحرب ، ونكولهم عن القتال ، والله ، لئن سرنا إليه بالجبال والشجر ما كان بد من إفضاء هذا الأمر إليه )) (1) .
  وقال فضيل بن مرزوق : أتى مالك بن ضمرة الحسن بن علي ، فقال : السّلام عليك يا مسخم وجوه المؤمنين .
  قال : (( يا مالك لا تقل ذلك ، إنّي لمّا رأيت الناس تركوا ذلك إلاّ أهله خشيت أن تُجتثّوا عن وجه الأرض ، فأردت أن يكون في الأرض ناعياً )) .
  فقال : بأبي وأُمّي ذرية بعضها من بعض (2) .
  وفي حديث له (صلوات الله عليه) مع زيد بن وهب الجهني عن أصحابه لمّا طُعن (عليه السّلام) بالمدائن قال : (( أرى والله أنّ معاوية خير لي من هؤلاء ، يزعمون أنّهم لي شيعة ، ابتغوا قتلي ، وانتهبوا ثقلي ، وأخذوا مالي ، والله لئن آخذ من معاوية عهداً أحقن به دمي ، وأومن به في أهلي خير من أن يقتلوني فيضيع أهل بيتي وأهلي ، والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سلماً ، والله لئن أُسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا أسير ، أو يمنّ عليّ فتكون سبة على بني هاشم إلى آخر الدهر ، ومعاوية لا يزال يمنّ بها وعقبه على الحي منّا والميت )) (3) .
  وفي حديث له (عليه السّلام) لمّا دخل عليه الناس فلامه بعضهم على بيعته قال (عليه السّلام) : (( ويحكم ! ما تدرون ما عملت ، والله الذي عملت خير لشيعتي ممّا طلعت عليه الشمس أو غربت ، ألا تعلمون أنّني إمامكم مفترض الطاعة عليكم ، وأحد سيّدي شباب أهل الجنّة بنصّ من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عليّ ؟! )) .
  قالوا : بلى .
  قال : (( أما

---------------------------
(1) الأخبار الطوال / 221 عند ذكر زياد بن أبيه .
(2) تاريخ دمشق 13 / 280 في ترجمة الحسن بن علي بن أبي طالب .
(3) الاحتجاج 2 / 10 ، بحار الأنوار 44 / 20 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 462 _

  علمتم أنّ الخضر (عليه السّلام) لمّا خرق السفينة ... )) (1) .
  وفي حديث للإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر (صلوات الله عليه) : (( والله ، للذي صنعه الحسن بن علي (عليهما السّلام) كان خيراً لهذه الأُمّة ممّا طلعت عليه الشمس )) (2) ... إلى غير ذلك ممّا ورد عن الإمام الحسن وعن بقيّة الأئمّة (صلوات الله عليهم أجمعين) .
  والحاصل : إنّ الإمام الحسن (صلوات الله عليه) قد نقل الشيعة بصلحه هذا من مقاتلين في حرب فاشلة ، لا حرمة لهم في أعراف الحرب ـ خصوصاً في ذلك العصر ـ إلى معارضة يعتصمون بالعهد ، ويتمتعون بكافة حقوق المسلمين ، ولهم حرمة الدم والمال .
  وبذلك يكون من حقّهم أن يقوموا بنشاطهم في خدمة خطّ أهل البيت (صلوات الله عليهم) ، وهو ما حصل فعلاً ، فقد بذلوا في سبيل ذلك جهوداً مكثفة أدّت إلى ظهور الدعوة الحقّة ، وانتشارها على الصعيد العام بين المسلمين .
  ولاسيما بعد أن تفرّغ الإمام الحسن (صلوات الله عليه) ومَنْ معه من بني هاشم بعد الصلح للجانب الثقافي ، وواصلوا الشوط الذي بدأه أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسّلام) وأكّدوا المفاهيم التي طرحها بين المسلمين .
  غاية الأمر أنّ معاوية بعدوانه وغشمه لم يمتع الشيعة بالحقوق المذكورة كاملة ، ونكل بهم بعد ذلك ، وحاول القضاء عليهم وتطويق الدعوة لخطّ أهل البيت (عليهم السّلام) .
  لكنّ ذلك ـ في واقعه ـ زاد من قوّة خطّ أهل البيت (صلوات الله عليهم) ، وصار سبباً في بلورة دعوتهم وظهوره ، وتركزها وانتشارها بين المسلمين .

---------------------------
(1) كمال الدين وتمام النعمة / 316 ، الاحتجاج 2 / 9 ، بحار الأنوار 51 / 132 ، إعلام الورى بأعلام الهدى 2 / 230 .
(2) الكافي 8 / 330 ، بحار الأنوار 44 / 25 ، تفسير العياشي 1 / 258 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 463 _

لا مجال لاستمرار الإمام (عليه السّلام) في الحرب حتى النفس الأخير

  ومن جميع ما ذكرنا ظهر أنّه لا مجال لقول مَنْ يقول : كان على الإمام الحسن (صلوات الله عليه) الاستمرار في الحرب ، لا من أجل الانتصار العسكري ، لما سبق من تعذّره ، بل كان عليه أن يستمر في الحرب حتى النفس الأخير وإن ضحى بنفسه وأهل بيته كما فعل الإمام الحسين (صلوات الله عليه) .
  إذ نقول في جواب ذلك : إنّ تضحية الإمام الحسين (عليه السّلام) لم تكن لمجرد الإباء والامتناع عن الخضوع للظالم ترفّعاً وإنكاراً للمنكر ، ليشترك الإمام الحسن (عليه السّلام) معه في ذلك ، وإنّما كان من أجل صلاح الدين على الأمد البعيد ، ولا يتحقق ذلك في حق الإمام الحسن (عليه السّلام) ، لاختلاف ظروفه (عليه السّلام) عن ظروف نهضة الإمام الحسين (عليه السّلام) :
  أوّلاً : لأنّ معاوية قد استولى على الخلافة بعد حرب طاحنة ، برّرها بالطلب بدم عثمان ، ثمّ استتبعت التحكيم الذي أضفى على خلافته شرعية صورية .
  كما إنّ استمراره في الصراع بقوّة عسكرية آخذة بالتزايد جعلت منه واقعاً مفروضاً لا يُقهر ، ويجب التعامل معه بحكمة بنظر جمهور الناس ، وكثير من خاصتهم .
  وليس هو كيزيد الذي استولى على الخلافة بولاية العهد على غرار القيصرية أو الكسروية ممّا لم يعهده المسلمون بعد ، بل أنكروه أشدّ الإنكار ، وهو بعد لم يفرض على الأرض بقوّة كقوّة معاوية .
  واحتمال التغلّب عليه بسبب نقمة الناس لخلافته كان وارداً بنظر عامّة الناس ، وإنّما كان التخوف من قبل بعض الخاصة لحسابات منطقية لا يدركها الجمهور .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 464 _

  ومجرّد علم الإمام (عليه السّلام) بعدم شرعية خلافة معاوية لا يكفي في ترتيب الأثر على تضحيته ، ما لم تكن نظرته مدعومة بالرأي الإسلامي العام ولو في الجملة .
  وثانياً : لأنّ الإمام الحسن (صلوات الله عليه) في موقع الصراع على السلطة ، والدفاع العسكري عن خلافة قد ثبتت له ببيعة أهل الكوفة بنظر جمهور المسلمين ، وبالنصّ عند الخاصة من شيعته بناءً على نظرية لم تأخذ موقعها المناسب عند جمهور المسلمين .
  وليس هو كالإمام الحسين (صلوات الله عليه) في موقف الامتناع من البيعة والإنكار للمنكر ، قانعاً بأن يترك من دون أن يقود حرباً إنّما فرضت الحرب عليه فرضاً .
  وبعبارة أخرى : الإمام الحسن (عليه السّلام) كان يقود حرباً خاسرة بنظر الناس ، لا يبرّرها إلاّ الإصرار الانفعالي والعناد ، وليس كالإمام الحسين (عليه السّلام) في موقف الدفاع في حرب ظالمة تريد أن تفرض عليه بيعة يأباها ، ولا مبرّر لإلزامه بها ، بل هي فاقدة للشرعية بمقتضى الموازين المعروفة بين المسلمين آنذاك .
  وثالثاً : لما ذكرناه آنفاً من أنّ دعوة التشيّع في أمسّ الحاجة لخواص الشيعة الذين سوف تأكلهم الحرب ، أو يجتثّون عن جديد الأرض .
  ورابعاً : لما سبق أيضاً من أنّ معاوية ليس كيزيد في طيشه وعنجهيته ، فهو ـ على الظاهر ـ لا يقوم كما قام يزيد بكثير من الجرائم الوحشية التي زادت في فظاعة فاجعة الطفّ ، وتأثيرها في نفوس المسلمين ضدّ الحكم الأموي .
  بل من القريب جدّاً أن يستبقي معاوية الإمام الحسن (صلوات الله عليه) وأهل بيته لوحدهم بعد أن يقضي على أنصارهم كما سبق ، وسبق بيان آثاره السلبية .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 465 _

  وخامساً : لأنّ تجربة الحكم الأموي المرّة في عهد معاوية الطويل قد زادت في مبرّرات الخروج عليه من قِبَل الإمام الحسين (صلوات الله عليه) في نظر عامّة المسلمين عمّا كان عليه في عهد الإمام الحسن (صلوات الله عليه) قبل مرور تلك التجربة .
  وسادساً : لأنّ ظهور الاستهتار بالدين ، والاستهانة بالقيم في يزيد أكثر من ظهورهما في معاوية بنظر عامّة الناس ... إلى غير ذلك ممّا يظهر للمتأمّل ، ويتّضح به الفرق الشاسع بين ظروف الإمامين (صلوات الله عليهما) المستتبع للفرق بينهما في المواقف ، وفي أهمية التضحية ومبرّراتها ، والآثار المترتبة عليها لصالح الدين .

تأييد الإمام الحسين (عليه السّلام) لموقف الإمام الحسن (عليه السّلام)

  ولذا نرى الإمام الحسين (عليه السّلام) يؤيّد موقف الإمام الحسن (عليه السّلام) ، ويدخل فيما دخل فيه ، ويبقى على ذلك الموقف بعد وفاة الإمام الحسن (صلوات الله عليه) عشر سنين مع معاوية .
  ولمّا امتنع (صلوات الله عليه) من الاستجابة لمعاوية في البيعة ليزيد بولاية العهد ، وعرف رفضه (عليه السّلام) لها تطلّعت الشيعة لخلع معاوية ، وكتب إليه جعدة بن هبيرة من الكوفة كتاباً يقول فيه : أمّا بعد ، فإنّ من قبلنا من شيعتك متطلّعة أنفسهم إليك ، لا يعدلون بك أحداً ، وقد كانوا عرفوا رأي أخيك الحسن في دفع الحرب ، وعرفوك باللين لأوليائك ، والغلظة على أعدائك ، والشدّة في أمر الله ، فإن كنت تحبّ أن تطلب هذا الأمر فاقدم علينا ، فقد وطّنا أنفسنا على الموت معك .
  فأجابه الإمام الحسين (صلوات الله عليه) بكتاب أعمّه إلى جميع أهل

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 466 _

  الكوفة يقول فيه : (( أمّا أخي فأرجو أن يكون الله قد وفّقه وسدّده فيما يأتي ، وأمّا أنا فليس رأيي اليوم ذلك ، فالصقوا رحمكم الله بالأرض ، واكمنوا في البيوت ، واحترسوا من الظنّة مادام معاوية حي ، فإنّ يحدث الله به حدثاً وأنا حي كتبت إليكم برأيي ، والسّلام )) (1) .

عظمة الإمام الحسن (عليه السّلام) في موقفه

  والإنصاف أنّ النظرة الموضوعية لظروف الإمام الحسن (صلوات الله عليه) تقضي بعظمة موقفه الجريء في خدمة الدين ، وفنائه في ذات الله (عزّ وجلّ) من أجل ذلك ، لأنّه أقدم بموقفه هذا على أن يتجرّع الأذى والغصص من معاوية وأتباعه ، ويتعرّض للتشنيع عليه بالجبن وحبّ العافية ونحوهما من أعدائه ومن جهلة الناس .
  كما يتعرّض للّوم والتقريع من شيعته وأوليائه ، لقِصَر نظرهم وجهلهم بوجه الحكمة في موقفه بحيث يصعب تفهمّهم له واقتناعهم به .
  ويمكن التعرّف على مرارة ما كان يقاسيه (عليه السّلام) ممّا روي عن هزان ، قال : قيل للحسن بن علي : تركت إمارتك وسلّمتها إلى رجل من الطلقاء ، وقدمت المدينة ؟!
  فقال : (( إنّي اخترت العار على النار )) (2) .
  فإنّ هذا الحديث إن صدق فأيّ معاناة كان (عليه السّلام) يعانيها وهو يرى نفسه ـ مع جلالته ورفعة مقامه ـ قد جنى العار بصلحه ، وإن كان كذباً وافتراءً عليه (عليه السّلام) فما أعظم معاناته وهو يرى أنّه قد تعرّض لأن يرميه الأعداء والجاهلون بتحمّل

---------------------------
(1) الأخبار الطوال / 222 موت الحسن بن علي .
(2) تاريخ دمشق 13 / 266 في ترجمة الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) ، واللفظ له ، ترجمة الإمام الحسن (عليه السّلام) من طبقات ابن سعد / 81 ح 140 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 467 _

  العار ، والرضى به .
  فهو (صلوات الله عليه) في صبره على ذلك كلّه من أجل صلاح الدين قد بلغ القمّة في الجهاد في سبيل الله تعالى والفناء في ذاته ، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون .
  فجزاه الله (عزّ وجلّ) عن دينه وأوليائه خير جزاء المحسنين ، والسّلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً ، ورحمة الله وبركاته وصلواته وتحياته ، أنّه حميد مجيد .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 468 _

المقام الثاني : في عدم مواجهة الإمام الحسن (عليه السّلام) لمعاوية بعد ظهور غدره

  من الظاهر أنّ معاوية قد أعلن من يومه الأوّل عن عدم التزامه بشروط الصلح ، وقد سبق أنّه خطب في النخيلة عندما ورد الكوفة بعد الصلح ، فقال في جملة ما قال : ألا إنّ كلّ شيء أعطيته الحسن بن علي تحت قدمي هاتين ، لا أفي به (1) .
  ومن المعلوم أنّ تصريح معاوية هذا وإن كان ـ في واقعه ـ مبرّراً للإمام الحسن (صلوات الله عليه) في تخليه عن الصلح ، بغض النظر عمّا يأتي التعرّض له ، إلاّ إنّ الأوضاع والموانع السابقة لم تتغيّر لصالحه بحيث يستطيع التخلّي عن الصلح وإعلان الحرب .
  بل ربما زادت الأوضاع سوءاً بعد انفراط جيش الإمام (عليه السّلام) ، ووصول معاوية بجيشه في راحة إلى مشارف الكوفة ، وظهور الشقاق بين أصحاب الإمام ، لاختلاف وجهات نظرهم من الصلح .
  ومن القريب أنّ معاوية أدرك ذلك ، فأعلن موقفه المذكور من الشروط ، وإلاّ فمن البعيد جدّاً أن يغامر ويتسرّع من دون أن يأمن من مغبّة عمله .

---------------------------
(1) تقدّمت مصادره في / 458 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 469 _

  نعم ، بطول المدّة ربما تكون الأوضاع قد تغيّرت لصالح الإمام الحسن (صلوات الله عليه) من جهتين :
  الأولى : تركّز عقيدة الشيعة عقائدياً في الجملة بحيث لا يخشى من انهيارها بتضحية جملة من خواص الشيعة مع الإمام الحسن (عليه السّلام) ، كما ضحّوا أخيراً مع الإمام الحسين (عليه السّلام) .
  الثانية : تشوّه صورة الحكم الأموي ، نتيجة استهتار معاوية بقيم المسلمين وحقوقهم ، وظهور نقضه للعهد عملياً ، وتعديه على أهل البيت (صلوات الله عليهم) وعلى شيعتهم .

تحرّك الشيعة في حياة الإمام الحسن (عليه السّلام)

  ولعلّ ذلك هو الذي حمل جماعة من الشيعة في الكوفة على أن يراجعوا الإمام الحسن (صلوات الله عليه) ، ويطلبوا منه الخروج على معاوية .
  فعن أبي الكنود عبد الرحمن بن عبيد أنّه قال : لمّا بايع الحسن بن علي معاوية أقبلت الشيعة تتلاقى بإظهار الأسف والحسرة على ترك القتال ، فخرجوا إليه بعد سنتين من يوم بايع معاوية ، فقال له سليمان بن صرد الخزاعي : ما ينقضي تعجبّنا من بيعتك معاوية ومعك أربعون ألف مقاتل من أهل الكوفة كلّهم يأخذ العطاء ، وهم على أبواب منازلهم ، ومعهم مثلهم من أبنائهم وأتباعهم سوى شيعتك من أهل البصرة وأهل الحجاز ، ثمّ لم تأخذ لنفسك ثقّة في العقد ، ولا حظّاً في العطية ... ولكنّه أعطاك شيئاً بينك وبينه ثمّ لم يفِ به ، ثمّ لم يلبث أن قال على رؤوس الناس : إنّي كنت شرطت شروطاً ، ووعدت عدات إرادة لإطفاء نار الحرب ، ومداراة لقطع هذه الفتنة ، فأمّا إذا جمع الله لنا الكلمة والألفة ، وآمننا من الفرقة فإنّ ذلك تحت قدمي ، فوالله ما اغترّني بذلك إلاّ ما كان بينك وبينه وقد

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 470 _

  نقض . فإذا شئت فأعد الحرب جذعة ، وأنذر لي في تقدّمك إلى الكوفة ، فأخرج عنها عاملها ، وأظهر خلعه ، وتنبذ إليهم على سواء ، إنّ الله لا يحبّ الخائنين ، وقال الآخرون مثل ما قال سليمان بن صرد .
  فقال لهم الإمام الحسن (صلوات الله عليه) : (( أنتم شيعتنا ، وأهل مودّتنا . فلو كنت بالحزم في أمر الدنيا أعمل ، ولسلطانها أربض وأنصب ، ما كان معاوية بأبأس منّي بأساً ، ولا أشدّ شكيمة ، ولا أمضى عزيمة ، ولكنّي أرى غير ما رأيتم ، وما أردت فيما فعلت إلاّ حقن الدم ، فارضوا بقضاء الله ، وسلّموا لأمره ، والزموا بيوتكم ، وأمسكوا ، أو قال : كفّوا أيديكم حتى يستريح برّ أو يُستراح من فاجر )) (1) .
  وربما يكون تمسّكه (عليه أفضل الصلاة والسّلام) بموقفه وإصراره على الموادعة ، من أجل أنّ الأوضاع وإن تغيّرت لصالحه (عليه السّلام) من الجهتين السابقتين إلاّ إنّها لم تتغيّر من بقيّة الجهات السابقة ، بل زاد في المشكلة أمران :

تقوية معاوية لسلطانه في فترة حكمه

  الأوّل : إنّ معاوية وإن استهتر بقيم المسلمين وحقوقهم ، إلاّ إنّه اشترى ضمائر كثير من ذوي المكانة والنفوذ في المجتمع ، كما إنّه أحكم أمر سلطانه ، وزاد في قوّة دولته بالترغيب والترهيب بنحو قد لا يتهيّأ استجابة فئة معتدٍ بها للإمام الحسن (صلوات الله عليه) كما حصل للإمام الحسين (صلوات الله عليه) ، حيث استجابت له فئة كبيرة من الناس بحيث كان خروجه مبرّراً نسبياً ، وإن غدروا به بعد ذلك ، أو عجزوا عن الالتحاق به ونصره .

---------------------------
(1) أنساب الأشراف 3 / 290 ـ 291 أمر الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهم السّلام) ، واللفظ له ، الإمامة والسياسة 1 / 133 ـ 134 إنكار سليمان بن صرد .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 471 _

استغلال معاوية للعهد

  الثاني : إنّ الإمام الحسن (صلوات الله عليه) كان مقيّداً مع معاوية بصلح وميثاق يمنعه من الخروج عليه والمواجهة معه .
  ونقض معاوية للشروط وإن كان مبرّراً شرعياً وواقعياً لخروج الإمام (عليه السّلام) عن الصلح ، إلاّ إنّ معاوية بما يملك من قوى إعلامية وتثقيفية هائلة يستطيع أن يغفل عامّة المسلمين عن جريمته في البدء بنقض الشروط ، ويظهر الإمام الحسن (صلوات الله عليه) بمظهر الناقض للعهد ، من أجل أن يكثّف القوى ضدّه .
  كما إنّه بذلك يضعف قوّة الإمام (عليه السّلام) المعنوية ، ويشوّه صورته بنحو يتنافى مع مقام الإمام الرفيع في القدسية والمبدئية والمثالية ، وصورة الدعوة الشريفة التي يتبنّاها (صلوات الله عليه) بحيث يضرّ بها عقائدياً .
  وبعبارة أُخرى : لا يكفي في الحفاظ على قدسية رموز الدين وقدسية دعوتهم ـ بحيث تأخذ موقعها المناسب عقائدياً ـ الحفاظ على المبادئ والمثالية واقعاً ، وفي علم الله تعالى ، بل لا بدّ مع ذلك من البعد من مواقع التهم ، وتجنّب كلّ ما يمكن أن يستغله الخصوم في تشويه صورتهم وإن ابتنى على تجاهل الحقائق والكذب والبهتان والتهريج غير المسؤول .
  ولذا ورد عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّه حينما طلبوا منه قتل عبد الله بن أُبي ـ بعد أن أعلن بمواقفه السلبية منه ومن دعوته ـ قال : (( لا يتحدّث الناس أنّ محمداً يقتل أصحابه )) (1) .

---------------------------
(1) صحيح البخاري 6 كتاب التفسير ، باب تفسير سورة المنافقين / 65 باب قوله سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين ، / 67 باب يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذلّ ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون ، صحيح مسلم 8 / 19 كتاب البرّ والصلّة والآداب ، باب نصر الأخ ظالماً أو مظلوماً ، وغيرهما من المصادر الكثيرة .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 472 _

  ولمّا عرضوا عليه أن يقتل مَنْ نفّر ناقته وحاول إلقاءه في العقبة قال (صلّى الله عليه وآله) : (( لا ، أكره أن تتحدّث العرب بينها أنّ محمداً قاتل بقوم حتى إذا أظهره الله بهم أقبل عليهم يقتلهم ... )) (1) .
  ولمّا نقض معاوية شروط الموادعة مع أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسّلام) وأخذ يشنّ الغارات على بلاده خطب أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، فقال : (( ما لمعاوية قاتله الله ؟! لقد أرادني على أمر عظيم ، أراد أن أفعل كما يفعل ، فأكون قد هتكت ذمّتي ، ونقضت عهدي ، فيتّخذها عليّ حجّة ، فتكون عليّ شيناً إلى يوم القيامة كلّما ذُكرت ، فإن قيل له : أنت بدأت ، قال : ما علمت ولا أمرت ، فمن قائل يقول : قد صدق ، ومن قائل يقول : كذب ، أمَ والله ، إنّ الله لذو أناة وحلم عظيم ، لقد حلم عن كثير من فراعنة الأوّلين ، وعاقب فراعنة ، فإن يمهله الله فلن يفوته ، وهو له بالمرصاد على مجاز طريقه ، فليصنع ما بدا له ، فإنّا غير غادرين بذمتنا ، ولا ناقضين لعهدنا ، ولا مروعين لمسلم ولا معاهد حتى ينقضي شرط الموادعة بيننا إن شاء الله )) (2) .
  ونظير ذلك ما سبق في أواخر المقصد الأوّل ـ عند الكلام في تبدّل موقف السلطة من فاجعة الطفّ ومحاولتها التنصّل منها ـ من كلام معاوية مع عبيد الله بن العباس في التنصّل ممّا فعله بسر بن أرطاة وقتله لولديه (3) .
  وعلى ذلك فمعاوية وإن جدّ في نقض الشروط التي بينه وبين الإمام الحسن (صلوات الله عليه) ، إلاّ إنّ الإمام (عليه السّلام) لو استعمل حقّه الواقعي وخرج

---------------------------
(1) تفسير ابن كثير 2 / 386 ـ 387 ، واللفظ له ، البداية والنهاية 5 / 25 في أحداث سنة تسع من الهجرة ، تخريج الأحاديث والآثار ـ للزيلعي 2 / 84 الحديث الخامس والثلاثون ، الدرّ المنثور 3 / 260 ، تاريخ الإسلام 2 / 648 في فائدة ، السيرة الحلبية 3 / 121 ، وغيرها من المصادر .
(2) الإرشاد 1 / 275 ـ 276 ، بحار الأنوار 34 / 152 ـ 153 .
(3) تقدّم في / 129 ـ 130 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 473 _

  عليه لأغفل معاوية ما سبق منه ، وسلّط الأضواء على موقف الإمام (صلوات الله عليه) ، وركّز إعلامه عليه ، وأخذ يشنّع على الإمام (عليه السّلام) بأنّه قد نقض العهد ، وخاس بشرطه ، وجنّد قوّته الإعلامية الهائلة ، ورواة السوء من أجل ذلك بحيث يخدش في قدسية الإمام (صلوات الله عليه) ، وقدسية دعوته ، ويزعزع بعدهما العقائدي .
  وهي طريقة المبطلين المألوفة في صراعهم مع غيرهم ، وما أكثر مفردات ذلك ، بل نحن قد عشنا ولازلنا نعيش مع بعض تلك المفردات .
  وهذا معاوية نفسه كتب له مروان أنّه لا يأمن وثوب الإمام الحسين (صلوات الله عليه) ، فكتب للإمام (عليه السّلام) : أمّا بعد ، فقد انتهت إليّ أمور عنك إن كانت حقّاً ـ فقد أظنّك تركتها رغبة ـ فدعها ، ولعمر الله إنّ مَنْ أعطى الله عهده وميثاقه لجدير بالوفاء ... وعظ نفسك فاذكر ، ولعهد [وبعهد ، خ] الله أوف ... .
  وهو بذلك يغفل بدءه بنقض العهد ، ولذا أجابه الإمام الحسين (صلوات الله عليه) بكتاب يقول فيه بعد كلام طويل يتضمّن استعراض موبقاته ، ومنها قتله لجماعة من الشيعة : (( إنّك قد ركبت بجهلك ، وتحرّضت [تحرصت] على نقض عهدك ، ولعمري ، ما وفيت بشرط ، ولقد نقضت عهدك بقتلك هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والأيمان والعهود والمواثيق ... )) (1) .
  فإذا كان هذا خطابه للإمام الحسين (عليه السّلام) الذي عانى من مرارة خروقاته

---------------------------
(1) اختيار معرفة الرجال 1 / 120 ـ 124 عند ذكر عمرو بن الحمق ، وقد ذكر الكتابين بتغيير يسير واختصار في تاريخ دمشق 14 / 205 ـ 206 في ترجمة الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) ، وتهذيب الكمال 6 / 413 ـ 414 في ترجمة الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) ، وتاريخ الإسلام 5 / 6 في أحداث سنة واحد وستين من الهجرة ، مقتل الحسين (ع) ، والبداية والنهاية 8 / 174 أحداث سنة ستين من الهجرة ، صفة مخرج الحسين إلى العراق ، وغيرها من المصادر .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 474 _

  للعهود والمواثيق ، واستهانته بها ، فكيف يكون خطابه لعامّة الناس مع ما يملك من قوى إعلامية هائلة ، وأعوان نفعيين لا يبالون بتشويه الحقيقة وتحريفها لصالح مشروعه الجهنمي ؟!
  والحاصل : إنّ الإمام الحسن (صلوات الله عليه) لم يكن مع معاوية في وضع يسمح له بالتضحية والفداء كما فعل الإمام الحسين (صلوات الله عليه) مع يزيد ، فضلاً عن أن يدخل في صراع مع معاوية من أجل إصلاح الأوضاع وتعديل مسيرة الإسلام التي انحرفت بعد النبي (صلّى الله عليه وآله) ، وزاد انحرافها في عهد معاوية كما هو الوضع الطبيعي في كلّ انحراف .
  وإذا كان كثير من الشيعة في الكوفة قد حاولوا حمل الإمام الحسن (عليه السّلام) على الثورة والتغيير بعد نقض معاوية للعهد وسوء سيرته فيهم ، فذلك منهم ناشئ عن فقدهم النظرة الموضوعية نتيجة تأجّج عاطفتهم نحو أهل البيت (صلوات الله عليهم) وشدّة أسفهم لاعتزالهم السلطة ، وإنكارهم سوء سيرة معاوية ، ولذا لم يستجب الإمام (عليه السّلام) لهم وإن طيّب خواطرهم وأثنى عليهم .

موقف الإمام الحسين (عليه السّلام) في عهد معاوية بعد أن تقلّد الإمامة

  وبذلك يظهر تعذّر كلا الأمرين أيضاً من الإمام الحسين (صلوات الله عليه) في عهد معاوية بعد تقلّده للإمامة خلفاً لأخيه الإمام الحسن (صلوات الله عليه) ، فإنّ جميع ما سبق في وجه تعذّر خروج الإمام الحسن (عليه السّلام) على معاوية جارٍ في حقّه (عليه السّلام) ، حيث لم يتغيّر شيء كما هو ظاهر .
  وقد سبق منه (صلوات الله عليه) في جوابه لكتاب أهل الكوفة التصريح بامتناعه عن الخروج مادام معاوية حيّاً (1) ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم ، وإليه يرجع الأمر كلّه .

---------------------------
(1) تقدّم في / 465 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 475 _

الفصل الثالث : في موقف الأئمّة من ذرية الحسين (عليه السّلام)

  أوضحنا فيما سبق تعذّر الإصلاح وإرجاع السلطة في الإسلام إلى مسارها الصحيح بعد الانحراف الذي حصل ، وأنّ الأئمّة (صلوات الله عليهم) كلّهم على بصيرة من ذلك من اليوم الأوّل وإن لم يتسنَّ لهم التصريح به ، والتأكيد عليه إلاّ بعد فاجعة الطفّ .

لا موجب للتضحية بعد فاجعة الطفّ

  وأمّا التضحية بالنحو الذي أقدم عليه الإمام الحسين (صلوات الله عليه) في نهضته المباركة ، فلا مجال لها من الأئمّة من ذريته (عليهم السّلام) .
  لما سبق من أنّ دوافع التضحية المذكورة ليست انفعالية مزاجية ، أو نتيجة التنفّر من الفساد والانحراف ، أو لمجرد الإباء والشمم ، أو نحو ذلك ، ليشاركوا (عليهم السّلام) الإمام الحسين (صلوات الله عليه) فيه ، أو في شيء منه ، بل لا بدّ من كون الهدف منها مكاسب للدين الحنيف تناسب حجم التضحية .
  وقد سبق أنّ الذي ظهر لنا من فوائد نهضة الإمام الحسين (عليه السّلام) وثمراتها هو إكمال مشروع أمير المؤمنين (عليه السّلام) في إيضاح معالم الدين ، وسلب شرعية السلطة التي كانت تتحكّم فيه ، وتركيز دعوة التشيّع ، ودفعها باتجاه التوسّع والانتشار .
  وبعد حصول ذلك كلّه بجهود الأئمّة الأوّلين (عليهم السّلام) وخاصة شيعتهم ،

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 476 _

  وتضحياتهم التي بلغت القمّة في فاجعة الطفّ ، لا يبقى مبرّر للتضحية من الأئمّة الباقين (عليهم السّلام) أو من شيعتهم .
  ولاسيما بعد أن فُتِح بعد فاجعة الطفّ باب الإنكار على السلطة وتعريته ، والتذكير بجرائمه ، والتأكيد على عدم شرعيته من قبل فئات كثيرة غير الشيعة الإمامية ، وبدأ الخروج عليها حتى من غير الخوارج .

اهتمام الأئمّة (عليهم السّلام) بالحفاظ على شيعتهم

  ولذا بدأوا (صلوات الله عليهم) يحثّون شيعتهم على أن يحافظوا على أنفسهم ، ويحقنوا دماءهم ، ولا يتعرّضوا للسلطان ، ولا يذلّوا أنفسهم بالاحتكاك به ، وظهور مخالفتهم له ، ويتجنّبوا الجدل والخصومة مع الجمهور ، ويبعدوا عن مظان الشهرة ، ويحذروا من التعرّض لتشهير الناس بهم وتهريجهم عليهم .
  وأكّدوا على التقيّة في الدين ، وكتمان الحقّ عن غير أهله ، وتجرّع الغيظ والصبر على ما يقاسونه من أعدائهم ... إلى غير ذلك ممّا يجري هذا المجرى .
  وما ورد عنهم (عليهم أفضل الصلاة والسّلام) في ذلك من الكثرة بحيث يتعذّر استيعابه هنا ، ويسهل التعرّف عليه بأدنى مراجعة لتراثهم الثقافي الرفيع ، وملاحظة لسلوكهم (عليهم السّلام) وسلوك خواصّ أصحابهم .
  وقد استطاعوا بذلك أن يكبحوا جماح غضب الشيعة وانفعالهم ، ويحدّوا من اندفاعاتهم الانفعالية والعاطفية ؛ حفاظاً عليهم .
  كلّ ذلك لشدّة اهتمامهم (صلوات الله عليهم) ببقاء المؤمنين وتكثيرهم من أجل أن يؤدّوا ما عليهم من حمل دعوة الحقّ والحفاظ عليها والتبليغ به ، وتجسيد تعاليمها عملاً ، كي تبقى حيّة فاعلة جيلاً بعد جيل .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 477 _

اهتمام الأئمّة (عليهم السّلام) بتقوية كيان الشيعة

  وبعد ذلك انصبّت جهود الأئمّة (عليهم أفضل الصلاة والسّلام) ـ بعهد من الله (عزّ وجلّ) ورسوله (صلّى الله عليه وآله) وتوجيه منهما ـ على تقوية كيان التشيّع وبلورة مفاهيمه ، واستثمار مكاسبه السابقة لصالح دعوته الشريفة ، وذلك بأمور :

التأكيد على تعذّر تعديل مسار السلطة ولزوم مهادنتها

  الأوّل : التأكيد على الحقيقة السابقة ، وإقناع الشيعة بها ، وهي تعذّر إقامة الحكم الصالح ، وتعديل مسار السلطة في الإسلام بعد الانحراف الذي حصل ، وما ترتّب عليه من سلبيات في المجتمع الإسلامي ، وإنّه نتيجة لذلك صاروا هم (صلوات الله عليهم) وأتباعهم في هدنة مع السلطة الغاشمة حتى قيام الإمام الثاني عشر ، الحجّة المهدي المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) من دون أن يغفلوا (عليهم السّلام) جور السلطة الظالمة ، وعدم شرعيتها ، ووجوب مباينتها ، وحرمة التعاون معها والركون إليها ، وما جرى مجرى ذلك ممّا يؤكّد الحاجز النفسي بينهم وبينها .

ثمرات مهادنة السلطة

  وكان نتيجة المهادنة المذكورة ، وعدم التصدّي لمواجهة الحاكم ، وظهور ذلك عنهم (عليهم السّلام) وعن شيعتهم أن كسب التشيّع :
  أوّلاً : عدم التفريط بقدرات الشيعة وطاقاتهم ، وصرفها في محاولات غير مجدية ، بل قد تعود عليهم بأضرار فادحة ، وتوجيه تلك القدرات والطاقات الهائلة لما ينفعهم في دينهم ودنياهم ، ويركّز دعوتهم الحقّة ويشيدها .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 478 _

  بل انصراف الشيعة عن الصراع السياسي والعسكري يجعلهم ـ من حيث يريدون أو لا يريدون ـ أحرص على نشاطاتهم الدينية ـ خصوصاً المذهبية منها ـ من أجل التنفيس عن كبتهم ، وتثبيت هويتهم وشخصيتهم ، وإثبات وجودهم ، كردّ فعل صامت على مواقف السلطات المتعاقبة ضدّهم ، وجورها عليهم .
  وثانياً : تخفيف ضغط السلطات على الشيعة والتشيّع نسبياً رغم ابتناء الإمامة عند الشيعة على عدم شرعية تلك السلطات ، وقيام الشيعة بكثير من الممارسات التي لا تعجبه ، وعدم تجاوبهم مع كثير من ممارسات السلطة ، بل استنكارهم لبعضها ولو برفق وهدوء .
  وذلك لانشغال السلطة عنهم بمكافحة المعارضة المسلحة التي تهدّدها بالمباشرة ، وإلى ذلك يشير ما ورد عنهم (صلوات الله عليهم) من أنّ الله (عزّ وجلّ) جعل الزيدية وقاء للشيعة (1) .
  وحتى لو تفرّغ الحاكم للشيعة ، وحاول التنكيل بهم ـ كما حدث كثيراً ـ فإنّه يعدّ لدى المنصف ظالماً بعد أن لم يمارسوا الكفاح المسلح ، ولا ينازعونه سلطانه ، وذلك يرفع معنوياتهم في أنفسهم ، ويوجب تعاطف الناس معهم ، وكلاهما مكسب مهمّ في حساب المبادئ .

التركيز على فاجعة الطفّ وعلى ظلامة أهل البيت (عليهم السّلام)

  الثاني : التركيز على فاجعة الطفّ وعلى الجانب العاطفي منها بالخصوص ، والانطلاق من ذلك للتذكير بظلامة أهل البيت (صلوات الله عليهم) ، وظلامة الحقّ الذي يحملونه ويدعون إليه ، ولشجب الظالمين ، والإنكار عليهم ، والتنفير منهم .
  ثمّ تثبيت هوية التشيّع في التولّي لأولياء الله (عزّ وجلّ) ، والبراءة من أعدائه

---------------------------
(1) الغيبة ـ للنعماني / 204 ، بحار الأنوار 52 / 139 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 479 _

  وأعداء أهل البيت (عليهم السّلام) وظالميهم وغاصبي حقوقهم ، والاهتمام بالحقيقة من أجل الحقيقة ، لا من أجل المكاسب المادية .
  وكان الأئمّة (صلوات الله عليهم) يتحرّون المناسبات المختلفة للتذكير بالفاجعة ، وللتفاعل بها ، ويؤكّدون على إحيائها بالحثّ على قول الشعر في الإمام الحسين (صلوات الله عليه) ، والبكاء عليه ، والتأكيد على أهمية الدمعة في ذلك ، والقيام بمظاهر الحزن المختلفة من أجله (عليه السّلام) ، وحضور مجالس العزاء .
  مع بيان عظيم أجر ذلك وجزيل ثوابه بوجه مذهل ، كلّ ذلك في نصوص وممارسات كثيرة منهم (عليهم السّلام) تفوق حدّ الإحصاء .
  وبذلك فتحوا لشيعتهم الباب لأمرين لم يألفهما عامّة المسلمين ولو بسبب الظروف الخانقة ، والفتن المتلاحقة والعصبية العمياء التي أذهلتهم عن التعرّف على واقع دينهم ، والأخذ بتعاليمه الحقّة التي رووها (1) ، وأمروا بالرجوع فيها لأهل البيت (صلوات الله عليهم) .

---------------------------
(1) فقد روى الجمهور الحثّ على زيارة قبور أهل البيت (صلوات الله عليهم) والإمام الحسين (عليه السّلام) خاصة ، راجع مقتل الحسين ـ للخوارزمي 2 / 166 ـ 172 الفصل الرابع عشر في ذكر زيارة تربة الحسين صلوات الله عليه وفضله ، وذخائر العقبى / 151 ذكر ما جاء في زيارة قبر الحسين بن علي (ع) ، والفتوح ـ لابن أعثم 4 / 331 ـ 332 ابتداء أخبار مسلم بن عقيل والحسين بن علي وولده وشيعته من ورائه ، وأهل السُنّة وما ذكروا في ذلك من الاختلاف ، وغيرها من المصادر .
كما روى الجمهور أيضاً استحباب صوم يوم الغدير تجديداً ، لذكرى نصب النبي (صلّى الله عليه وآله) لأمير المؤمنين (عليه السّلام) وإعلان ولايته ، تاريخ بغداد 8 / 284 في ترجمة حبشون بن موسى بن أيوب ، تاريخ دمشق 42 / 233 في ترجمة علي بن أبي طالب (ع) ، البداية والنهاية 5 / 233 في فصل لم يسمه ، وج 7 / 386 في حديث غدير خم ، السيرة النبوية ـ لابن كثير 4 / 425 فصل في إيراد الحديث الدال على أنّه (عليه السّلام) خطب بمكان بين مكة والمدينة مرجعه من حجّة الوداع يُقال له غدير خم ، شواهد التنزيل 1 / 200 ، 203 ، وغيرها من المصادر .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 480 _

التأكيد على زيارة الإمام الحسين (عليه السّلام) وجميع أهل البيت (عليهم السّلام)

  أحدهما : زيارة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) ، ومنها انطلقوا لزيارة جميع المعصومين (صلوات الله عليهم) ، وزيارة كثير من أبنائهم والأبرار من أوليائهم ، مذكّرين بأحاديث للنبي (صلّى الله عليه وآله) في ذلك .
  مع تأكيد مكثف منهم (عليهم السّلام) على ذلك لا يسعنا استقصاؤه ، إلاّ إنّه يحسن بنا أن نثبت حديثاً واحداً يتضمّن جوانب مثيرة وملفتة للنظر .

حديث معاوية بن وهب

  فقد روي بطرق كثيرة عن معاوية بن وهب قال : استأذنت على أبي عبد الله (عليه السّلام) فقيل لي : ادخل ، فدخلت فوجدته في مصلاّه في بيته ، فجلست حتى قضى صلاته ، فسمعته وهو يناجي ربّه ، وهو يقول : (( اللّهمّ يا مَنْ خصّنا بالكرامة ، ووعدنا بالشفاعة ، وخصّنا بالوصية ، وأعطانا علم ما مضى وعلم ما بقي ، وجعل أفئدة من الناس تهوي إلينا .
  اغفر لي ولإخواني وزوّار قبر أبي عبد الله الحسين الذين أنفقوا أموالهم ، وأشخصوا أبدانهم رغبة في برّنا ، ورجاءً لما عندك في صلتنا ، وسروراً أدخلوه على نبيّك ، وإجابة منهم لأمرنا ، وغيظاً أدخلوه على عدونا ، أرادوا بذلك رضوانك .
  فكافهم عنّا بالرضوان ، واكلأهم بالليل والنهار ، واخلف على أهاليهم وأولادهم الذين خلفوا بأحسن الخلف وأصحبهم ، وأكفّهم شرّ كلّ جبار عنيد ، وكلّ ضعيف من خلقك وشديد ، وشرّ شياطين الإنس والجن ، وأعطهم أفضل ما أمّلوا منّك في غربتهم عن أوطانهم ، وما آثرونا به على أبنائهم وأهاليهم وقراباتهم .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 481 _

  اللّهمّ إنّ أعداءنا عابوا عليهم بخروجهم ، فلم ينههم ذلك عن الشخوص إلينا خلافاً منهم على مَنْ خالفنا .
  فارحم تلك الوجوه التي غيّرتها الشمس ، وارحم تلك الخدود التي تتقلّب على حفرة أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) ، وارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمة لنا ، وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا ، وارحم تلك الصرخة التي كانت لنا .
  اللّهمّ إنّي أستودعك تلك الأبدان وتلك الأنفس حتى توافيهم [ترويهم] من الحوض يوم العطش [الأكبر] )) .
  فما زال يدعو وهو ساجد بهذا الدعاء ، فلمّا انصرف قلت : جعلت فداك ، لو أنّ هذا الذي سمعت منك كان لمَنْ لا يعرف الله (عزّ وجلّ) لظننت أنّ النار لا تطعم منه شيئاً أبداً ، والله ، لقد تمنّيت إنّي كنت زرته ولم أحج .
  فقال لي : (( ما أقربك منه ، فما الذي يمنعك من زيارته ؟ )) .
  ثمّ قال لي : (( يا معاوية ، ولِمَ تدع ذلك ؟ )) .
  قلت : جعلت فداك ، لم أدرِ أنّ الأمر يبلغ هذا كلّه .
  فقال : (( يا معاوية ، مَنْ يدعو لزوّاره في السماء أكثر ممّنْ يدعو لهم في الأرض )) (1) .
  ويبدو أنّ الشيعة أو عموم المسلمين اندفعوا لذلك من اليوم الأوّل بصورة مكثفة ، وكأنّهم كانوا مهيئين إلى أنّه إذا قُتل الإمام الحسين (صلوات الله عليه) فينبغي أن يُزار ، ويُحيى ذكره .
  فقد ورد أنّ الإمام زين العابدين (صلوات الله عليه) حينما رجع بالعائلة الثاكلة من الشام إلى المدينة المنوّرة طلبوا من الدليل أن يمرّ بهم على كربلاء ، فوصلوا

---------------------------
(1) كامل الزيارات / 228 ـ 229 ، واللفظ له ، الكافي 4 / 582 ـ 583 ، ثواب الأعمال / 95 ، بحار الأنوار 98 / 8 ـ 9 .