في الصحابة ، واحتماله تآمرهم عليه لمّا طُعن .

تنبؤ الصديقة الزهراء (عليها السّلام) باضطراب أوضاع المسلمين

  وهو ما توقّعته الصديقة فاطمة الزهراء (صلوات الله عليه) للأُمّة في مبدأ انحراف مسار السلطة وخروجها عن موضعها الذي جعلها الله (عزّ وجلّ) فيه ، حيث قالت (عليها السّلام) في ختام خطبتها الصغيرة : (( أما لعمري ، لقد لقحت فنظرة ريثما تنتج ، ثمّ احتلبوا ملأ القعب دماً عبيطاً ، وزعافاً مبيداً ، هنالك ( يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ ) ، ويعرف البطالون غبّ ما أسس الأوّلون ، ثمّ طيبوا عن دنياكم أنفساً ، واطمئنوا للفتنة جأشاً ، وابشروا بسيف صارم ، وسطوة معتدٍ غاشم ، وبهرج شامل ، واستبداد من الظالمين يدع فيئكم زهيداً ، وجمعكم حصيداً ... )) (1) .

مجمل الأوضاع في أوائل عهد عثمان

  وأخيراً انتهى عهد عمر وجاء عهد عثمان ، وعامّة المسلمين بعد في غفلتهم ، قد غلبت عليهم سكرة الفتوح والغنائم ، وتوسّع رقعة الإسلام ، ودخول الناس فيه أفواجاً ، وما استتبع ذلك من تمجيد الحكّام الذين حصلت الفتوح على عهدهم ، وظهرت الأحاديث المكذوبة على النبي (صلّى الله عليه وآله) والألقاب المنتحلة التي ترفع من شأنهم ، على ما سبق .

غفلة العامّة عن ابتناء بيعة عثمان على الانحراف

  وقد أذهلهم ذلك كلّه عن تمادي السلطة في الانحراف عن الخطّ السليم

---------------------------
(1) راجع ملحق رقم 2 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 256 _

  في الإسلام ، نتيجة المخالفات الكثيرة ، ومنها ما تمّت على أساسه بيعة عثمان ، وهو أخذ سيرة أبي بكر وعمر شرطاً في البيعة يُضاف إلى موافقة كتاب الله (عزّ وجلّ) وسُنّة نبيه (صلّى الله عليه وآله) ، وجعلها في مرتبة واحدة ، من أجل إقصاء أمير المؤمنين (عليه السّلام) الذي يعلم الخاصّة الذين بيدهم الحلّ والعقد ومَنْ سار في خطّهم أنّه كما قال له عمر : أما والله ، لئن وليتهم لتحملنّهم على الحقّ الواضح والمحجّة البيضاء (1) ، وكما قال عنه لابن عباس : ولئن وليهم ليأخذنّهم بمرّ الحقّ لا يجدون عنده رخصة ... (2) .
  وفي حديث عبد الرحمن بن عبد القاري في حوار بين عمر وبين رجل من الأنصار : ثمّ قال عمر للأنصاري : مَنْ ترى الناس يقولون يكون الخليفة بعدي ؟
  قال : فعدّد رجالاً من المهاجرين ، ولم يسمِّ عليّاً .
  فقال عمر : فما لهم من أبي الحسن ؟ فوالله إنّه لأحراهم إن كان عليهم أن يقيمهم على طريقة من الحقّ (3) .
  وفي حديث عمر بن ميمون الأودي قال : كنت عند عمر بن الخطاب حين وليَ الستة الأمر ، فلمّا جازوا أتبعهم بصره ، ثمّ قال : لئن ولّوها الأجيلح ليركبن بهم الطريق ، يريد عليّاً (4) .

---------------------------
(1) شرح نهج البلاغة 1 / 186 ، واللفظ له ، ويوجد هذا المعنى بألفاظ مختلفة في شرح نهج البلاغة 6 / 327 ، و 12 / 52 ، 259 ـ 260 ، والمستدرك على الصحيحين 3 / 95 كتاب معرفة الصحابة ، ومن مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، والاستيعاب 3 / 1130 في ترجمة علي بن أبي طالب ، والمصنّف ـ لعبد الرزاق 5 / 446 ـ 447 كتاب المغازي ، بيعة أبي بكر في سقيفة بني ساعدة ، والطبقات الكبرى 3 / 342 في ترجمة عمر ، ذكر استخلاف عمر ، والأدب المفرد / 128 البغي ، وكنز العمّال 5 / 734 ح 14254 ، وص 736 ح 14258 ، وص 736 ـ 737 ح 13260 ، وغيرها من المصادر الكثيرة .
(2) تاريخ اليعقوبي 2 / 159 أيام عمر بن الخطاب .
(3) المصنّف ـ لعبد الرزاق 5 / 446 كتاب المغازي ، بيعة أبي بكر في سقيفة بني ساعدة ، واللفظ له ، الأدب المفرد ـ للبخاري / 128 البغي ، كنز العمّال 5 / 736 ـ 737 ح 14260 ، وغيرها من المصادر ، وقريب منه في أنساب الأشراف 3 / 14 ـ 15 بيعة علي بن أبي طالب (عليه السّلام) .
(4) المصنّف ـ لعبد الرزاق 5 / 446 ـ 447 كتاب المغازي ، بيعة أبي بكر في سقيفة بني ساعدة ، واللفظ له ، أنساب الأشراف 2 / 353 وأما أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام) ، تاريخ دمشق 42 / 427 ـ 428 في ترجمة علي بن أبي طالب (ع) ، الكامل في التاريخ 3 / 399 أحداث سنة أربعين من الهجرة ، ذكر بعض سيرته (أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام) ) ، شرح نهج البلاغة 12 / 108 ، وغيرها من المصادر .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 257 _

  وفي حديث أبي مجلز في مثل ذلك : قال عمر : مَنْ تستخلفون بعدي ؟... .
  فقال رجل من القوم : نستخلف عليّاً .
  فقال : إنّكم لعمري لا تستخلفونه . والذي نفسي بيده لو استخلفتموه لأقامكم على الحقّ وإن كرهتم ... (1) .
  كما يعلمون أنّه (عليه السّلام) لو وليَ الخلافة لوسعه أن يظهر الحقيقة ، ثمّ لم تخرج الخلافة عن أهل البيت (صلوات الله عليهم) .
  وإذا كان مقام أمير المؤمنين (عليه السّلام) مجهولاً عند عامّة المسلمين نتيجة ما سبق ، فالمفترض أن لا يخفى عليهم مقام الكتاب المجيد والسُنّة الشريفة ، وانحصار المرجعية في العلم والعمل بهما ، لولا الذهول والاندفاع في تمجيد الحكّام والتبعية لهم في الدين ، الأمر الذي سبق الكلام فيه في المبحث الأوّل .
  واكتفى أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) بالامتناع عن قبول الشرط المذكور ـ وإن أدّى ذلك إلى إقصائه عن الخلافة ـ التزاماً منه بمبادئه ، وإقامة للحجّة على عدم شرعية هذا الشرط .
  ولم يكن في وسعه (عليه السّلام) حينئذ أن يشنّع على ذلك الشرط ، ويحمل العامّة على الإنكار والتغيير ، لعدم وجود الأرضية الصالحة لذلك ، بعدما سبق من اندفاع الناس مع أولياء الأمور ، مع إنّه ربما كان لا يرى الصلاح في أن يبدأ هو بشقّ كلمة المسلمين ، وزرع بذور الخلاف بينهم على ما أشرنا إليه آنفاً .

---------------------------
(1) كنز العمّال 5 / 735 ـ 736 ح 14258 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 258 _

مدى اندفاع العامّة مع السلطة في تلك الفترة

  ويمكن أن نعرف مدى اندفاع الناس مع أولياء الأمور في ذلك الوقت ، وعدم اهتمامهم بمعرفة الحقيقة والدفاع عنها ، ممّا تقدّم في قصّة صبيغ بن عسل (1) من امتناع الناس عن مجالسته لمنع عمر عن ذلك من دون أن يذكروا جرمه .
  وما رواه جندب بن عبد الله الأزدي عند تعرّضه للمشادّة بين المقداد وعبد الرحمن بن عوف من أجل إقصاء أمير المؤمنين (عليه السّلام) في تلك الشورى ، وما تقدّم من قول المقداد : أما والله ، لو أنّ لي على قريش أعواناً لقاتلتهم قتالي إيّاهم ببدر وأُحد (2) .
  قال جندب : فأتبعته ، وقلت له : يا عبد الله ، أنا من أعوانك .
  فقال : رحمك الله ، إنّ هذا الأمر لا يغني فيه الرجلان ولا الثلاثة .
  قال : فدخلت من فوري ذلك على علي (عليه السّلام) فقلت : يا أبا الحسن ، والله ما أصاب قومك بصرف هذا الأمر عنك .
  فقال : (( صبر جميل ، والله المستعان )) .
  فقلت : والله إنّك لصبور .
  قال : (( فإن لم أصبر فماذا أصنع ؟ )) .
  فقلت : تقوم في الناس فتدعوهم إلى نفسك ، وتخبرهم أنّك أولى بالنبي (صلّى الله عليه وآله) ، وتسألهم النصر على هؤلاء المظاهرين عليك ، فإن أجابك عشرة من مئة شددت بهم على الباقين ، فإن دانوا لك فذاك ، وإلاّ قاتلتهم وكنت أولى بالعذر قُتلت أو بقيت ، وكنت أعلى عند الله حجّة .
  فقال : (( أترجو يا جندب أن يبايعني من كلّ عشرة واحداً ؟ )) .
  قلت : أرجو ذلك .
  قال : (( لكنّي لا أرجو ذلك . لا والله ، ولا من المئة واحداً ... )) .

---------------------------
(1) تقدّم في / 173 ـ 174 .
(2) تقدّم في / 190 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 259 _

  هذا في المدينة المنوّرة التي هي موطن المهاجرين والأنصار ، والتي يعرف الكثير من أهلها أو جميعهم مقام أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) وحقّه ، وما حصل من الظلم عليه خاصة وعلى أهل البيت عموماً نتيجة الانحراف .
  أمّا في غيرها من أمصار المسلمين فمن الطبيعي أن يكون الحال أشدّ ، والناس أبعد عن معرفة الحقيقة والاهتمام بأمره .
  قال جندب بعد أن ذكر حديث أمير المؤمنين (عليه السّلام) السابق حول موقف الناس معه : فقلت : جُعلت فداك يابن عمّ رسول الله ! لقد صدعت قلبي بهذا القول ، أفلا أرجع إلى المصر فأوذن الناس بمقالتك ، وأدعو الناس إليك ؟
  فقال : (( يا جندب ، ليس هذا زمان ذاك )) .
  قال : فانصرفت إلى العراق ، فكنت أذكر فضل علي على الناس فلا أعدم رجلاً يقول لي ما أكره ، وأحسن ما أسمعه قول مَنْ يقول : دع عنك هذا ، وخذ فيما ينفعك ، فأقول : إنّ هذا ممّا ينفعني ، فيقوم عنّي ويدعني (1) .
  وعن أبي الطفيل قال : خرجت أنا وعمرو بن صليع المحاربي حتى دخلنا على حذيفة ... فقال : حدّثنا يا حذيفة .
  فقال : عمّا أحدّثكم ؟
  فقال : لو أنّي أحدّثكم بكلّ ما أعلم قتلتموني ، أو قال : لم تصدّقوني .
  قالوا : وحقّ ذلك ؟
  قال : نعم .
  قالوا : فلا حاجة لنا في حقّ تحدّثناه فنقتلك عليه ، ولكن حدّثنا بما ينفعنا ولا يضرّك .
  فقال : أرأيتم لو حدّثتكم أن أُمّكم تغزوكم إذاً صدّقتموني ؟
  قالوا : وحقّ ذلك ؟! (2) .
  وقريب منه حديث خيثمة بن عبد الرحمن عن حذيفة (3) .

---------------------------
(1) شرح نهج البلاغة 9 / 58 .
(2) المصنّف ـ لعبد الرزاق 11 / 52 ـ 53 باب القبائل .
(3) المستدرك على الصحيحين 4 / 471 كتاب الفتن والملاحم ، وقال بعد إيراد الحديث : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 260 _

  وهي تدل على أنّ عامّة المسلمين قد تمسّكوا بثقافة خاصّة لا يقبلون بغيرها حتى إنّ حذيفة ـ مع ما له من مقام رفيع ـ لو حدّثهم بخلافها لكذّبوه ، بل قد يقتلونه .

اختلاف عثمان عن عمر في الحزم والسلوك

  ولكنّ تداعيات الانحراف في أمر السلطة بدأت تظهر للناس ، لأنّ عثمان يختلف عن عمر بأمرين :
  الأوّل : ضعف الإدارة وفقد الحزم ، وسوء التعامل مع الأحداث .
  الثاني : إنّه توسّع في إنفاق المال ، وظهرت عليه وعلى زمرته مظاهر التسامح والترف ، وقرّب بني أُميّة ومكّنهم في البلاد ، وولاّهم الأمصار مع ما عرف عنهم من العداء للنبي (صلّى الله عليه وآله) وللإسلام ، والكيد لهما في بدء الدعوة ، ثمّ النفاق بعد أن اضطروا للدخول في الإسلام ، ولم يمنعه ذلك من تقريبهم وتحكيمهم فاتّخذوا مال الله دولاً وعباده خولاً ، وانتهكوا حرماتهم وحرمات دينهم بتخالع واستهتار بنحو لم يعهده عامّة المسلمين من قبل .

ظهور الإنكار على عثمان من عامّة المسلمين

  وقد أضرّ ذلك بمصالح الخاصّة والعامّة ، فأثار حفيظتهم كما أثار حفيظة أهل الدين ، وكلّ مَنْ يهمّه الصالح العام .
  وبذلك بدأ الإنكار على عثمان والتشنيع عليه ، وإثارة مشاعر الناس ضدّه ، وتهييج الرأي العام عليه ، وظهرت بوادر التغيير .
  تحقّق الجو المناسب لإظهار مقام أمير المؤمنين (عليه السّلام) وبيان ظلامته وحينئذ تحقّقت الأرضية الصالحة لتعريف العامّة بمقام الإمام أمير

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 261 _

  المؤمنين (صلوات الله عليه) ونشر فضائله ، وهو الذي كان في الشورى الطرف الوحيد المقابل لعثمان ، والذي أقصته المصالح الضيّقة ، وقدّمت عليه عثمان ، تجاهلاً لمصلحة الإسلام العلي ، وتجاوزاً عليه .
  وهو (عليه السّلام) يحظى بأعظم رصيد من الفضائل والمناقب ، وبالمؤهّلات المميّزة في قيادة الأُمّة ، والسير بها على الطريق الواضح والصراط المستقيم .
  ولاسيما أنّ خاصّة شيعته المتفانين في الدعوة له قد كانت لهم المكانة السامية من بين الصحابة والتابعين بحيث يسمع منهم جمهور المسلمين ، ويتفاعل بتوجيهاتهم وإرشاداتهم في خضمّ الهيجان والصراع .

جهود الخاصة في التعريف بمقامه (عليه السّلام) وكشف الحقيقة

  وهنا جاء دورهم ليقوموا بمهمّتهم الكبرى التي أعدّوا لها ، وذلك ببيان الحقيقة والدعوة له من أجل أن يكون التغيير المتوقّع لصالحه ، لا للأسوأ ، أو من أجل إقامة الحجّة على الناس لو لم يتقبّلوه ، ويؤدّوا وظيفتهم إزاءه .
  ولا يتيسّر لنا فعلاً الاطّلاع الكافي على مفردات ما حصل ، إلاّ إنّ خير شاهد على ما ذكرنا هو هتاف الجماهير باسم أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في أواخر أيّام عثمان عند ظهور النقمة عليه مع إنّه (عليه السّلام) كان أخفّ النفر على عثمان .
  نعم ، من المظنون قويّاً أنّ الأمر مع عامّة الناس لم يكن يتجاوز بيان الفضائل التي تقتضي تقديمه على غيره من الموجودين ، بل ربما على جميع المسلمين حتى على الشيخين ، لكن من دون تركيز على النصّ القاضي باختصاص الحقّ به وبذرّيته ، وعدم شرعية خلافة مَنْ سبق كما هو مذهب أهل البيت (صلوات الله عليهم) ؛ لعدم تهيؤ عامّة المسلمين نفسيّاً لذلك ، وعدم تقبّلهم له .
  ولاسيما أنّ سيرة عثمان ، وتدهور الأوضاع في عهده ، وظهور الخلاف

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 262 _

  والشقاق في الكيان الإسلامي بعد استقراره ، قد أكّدت في نفوسهم ما سبق من احترام الشيخين أو تقديسهم ، نتيجة انتشار الإسلام في عهدهم ، وما استتبعه من الغنائم التي لم تكن العرب تحلم بها ، وألقاب التمجيد والأحاديث التي وضعت في تلك الفترة كما سبق .
  مضافاً إلى أنّ في المعارضة لعثمان عناصر مهمّة هي على خلاف خطّ أهل البيت ، والاعتراف بالنصّ يفوّت عليها أطماعها ، كما أنّها تهتم بالتركيز على سيرة الشيخين وتمجيدهم ، من أجل التنفير من عثمان والتهريج عليه .
  وإذا كان النصّ قد ذكر وركّز عليه فمن الغريب أن يكون ذلك مقتصراً على القليل من ذوي التعقّل والدين ، ممّن يهمّه معرفة الحقيقة والوصول إليها .
  وعلى كلّ حال فقد أدّت الخاصة من شيعة أهل البيت (صلوات الله عليهم) ـ فيما يظهر ـ دورها الذي أعدّت له ، وحقّقت خدمة كبرى للحقيقة المضطهدة التي عُتّم عليها في الفترة السابقة .
  وبالمناسبة يقول ابن قتيبة عند عرض أحداث واقعة الجمل : فلمّا قدم علي طيء أقبل شيخ من طيء قد هرم من الكبر ، فرفع له من حاجبيه فنظر إلى علي ، فقال له : أنت ابن أبي طالب ؟
  قال : (( نعم )) .
  قال : مرحباً وأهلاً ... لو أتيتنا غير مبايعين لك لنصرناك ، لقرابتك من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وأيّامك الصالحة ، ولئن كان ما يُقال فيك من الخير حقّاً إنّ في أمرك وأمر قريش لعجب ، إذ أخرجوك وقدّموا غيرك ... (1) .
  وبذلك ظهرت ثمرة الصبر والموادعة من أجل الحفاظ على هذه الثلّة الصالحة ، وعدم التفريط بها في مبدأ الانحراف في السلطة عند ارتحال النبي (صلّى الله عليه وآله) للرفيق الأعلى .

---------------------------
(1) الإمامة والسياسة 1 / 52 استنفار عدي بن حاتم قومه لنصرة علي (ع) .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 263 _

توجّهات المعارضة لعثمان

  هذا ويبدو أنّ المعارضين لعثمان على قسمين :
  الأوّل : النفعيون والانتهازيون الذين يريدون القضاء على عثمان ، لتضرّر مصالحهم ، أو بأمل الحصول على مكاسب مادية ، أو تبوّء مراكز قيادية من دون رؤية واضحة للنتائج المترتّبة على ذلك ، أو لعدم الاهتمام بها من أجل أهدافهم .
  وقد كشفتهم الأحداث بعد مقتل عثمان ، والتداعيات التي ترتّبت عليه ، ممّا يسهّل التعرّف عليه بالرجوع لتاريخ تلك الفترة .
  الثاني : الناقمون من سوء الأوضاع الذين يريدون تحسّنها ، وتحقيق السلطة للعدالة والتزامها بها من دون أن يكون لهم مشروع خاصّ لحلّ المشكلة ، وهم الأكثرية .

مقتل عثمان بعد فشل مساعي أمير المؤمنين (عليه السّلام) لحلّ الأزمة

  أمّا أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) فقد بذل جهده من أجل إصلاح الأمور ، وحلّ المشكلة بين عثمان والناس ، تجنّباً للفتنة حيث يعلم (عليه السّلام) بما يترتّب عليها من تداعيات وسلبيات على الإسلام والمسلمين .
  ويشير إلى ذلك كلامه (عليه السّلام) مع عثمان حينما دخل عليه بعد أن شكاه الناس له ، حيث قال في جملته : (( وإنّي أنشدك الله أن لا تكون إمام هذه الأُمّة المقتول ، فإنّه كان يُقال : يُقتل في هذه الأُمّة إمام يفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة ، ويلبس أمورها عليها ، ويبثّ الفتن عليها ، فلا يبصرون الحقّ من الباطل ، يموجون فيها موجاً ، ويمرجون فيها مرجاً )) (1) .

---------------------------
(1) نهج البلاغة 2 / 69 ، واللفظ له ، تاريخ الطبري 3 / 376 أحداث سنة أربع وثلاثين من الهجرة ، ذكر الخبر عن صفة اجتماعهم لذلك وخبر الجرعة ، الكامل في التاريخ 3 / 151 أحداث سنة أربع وثلاثين من الهجرة ، ذكر ابتداء قتل عثمان ، البداية والنهاية 7 / 188 ـ 189 أحداث سنة أربع وثلاثين من الهجرة ، إمتاع الأسماع 13 / 208 ، وغيرها من المصادر .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 264 _

  وقد كاد أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسّلام) يستوعب الخلاف ، ويحلّ الأزمة بسلام ، لولا سوء إدارة عثمان ، وفساد بطانته ، وضعف شخصيته ، وتأرجح موقفه .
  وانتهى الأمر بحصار عثمان ثمّ قتله ، بل المنع من دفنه لولا استنجاد ذويه بأمير المؤمنين (عليه السّلام) (1) .

مطالبة الجماهير ببيعة أمير المؤمنين (عليه السّلام)

  واندفعت بعد ذلك الجماهير من خاصة المسلمين وعامّتهم تريد بيعة أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، لأنّه الشخصية الأولى ـ ولو في عصره ـ بنظرهم ، ولما يتميّز به من مؤهّلات ـ وعمدتها عندهم العلم ، والاستقامة ، والسابقة ، والأثر الحميد في الإسلام ، والقرابة من النبي (صلّى الله عليه وآله) بأمل تحقّق الإصلاح على يديه ، وسير عجلة الإسلام في الطريق الصحيح وفي مأمن من الاستئثار والفساد .
  وربما كان هدف كثير ممّن يعرف حق أهل البيت (صلوات الله عليهم) تعديل مسار السلطة في الإسلام بذلك ، ورجوع الحقّ إلى أهله في مأمن من الزيغ والانحراف .

إباء أمير المؤمنين (عليه السّلام) البيعة تنبئه بالمستقبل القاتم

  وكيف كان فقد امتنع (صلوات الله عليه) من القبول بالبيعة ، لعلمه بأنّه

---------------------------
(1) شرح نهج البلاغة 2 / 158 ، و 10 / 6 ، تاريخ الطبري 3 / 438 أحداث سنة خمس وثلاثين من الهجرة ، ذكر الخبر عن الموضع الذي دفن فيه عثمان ، الكامل في التاريخ 3 / 180 أحداث سنة خمس وثلاثين من الهجرة ، ذكر الموضع الذي دُفن فيه ومَنْ صلّى عليه ، وغيرها من المصادر .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 265 _

  لا يتم لهم ما أرادوا ، لأنّ الناس ـ ولاسيما الخاصة ـ لا تطيق عدله ، والتزامه بنصوص الدين بعد أن تعودّت على التسامح ، وفتحت عيونها على الدنيا ، وراقهم زبرجها .
  وكان فيما قال إيضاحاً للحال ، وكبحاً لجماح التفاؤل والآمال : (( دعوني والتمسوا غيري ، فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان ، لا تقوم به القلوب ، ولا تثبت عليه العقول )) (1) .
  وقد أشار (عليه أفضل الصلاة والسّلام) إلى ما توقّعته الصديقة فاطمة الزهراء (صلوات الله عليه) في كلامها السابق ، وهما يأخذان من أصل واحد .
  ولمّا أصرّوا عليه قال (عليه السّلام) إقامة للحجّة : (( قد أجبتكم ، واعلموا أنّي إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ، وإن تركتموني فإنّما أنا كأحدكم ، إلاّ أنّي أسمعكم وأطوعكم لِمَنْ ولّيتموه )) (2) .

بيعة أمير المؤمنين (عليه السّلام) وما استتبعها من تداعيات

  وأخيراً تمّت البيعة ، وتوالت الفتن والأحداث على النحو المعلوم تاريخياً ، وكان آخرها مقتل أمير المؤمنين ، وصلح الإمام الحسن (صلوات الله عليهما) ، واستيلاء معاوية على السلطة ، والقضاء على مشروع الإصلاح ، حيث لم يُكتب

---------------------------
(1) نهج البلاغة 1 / 181 ، واللفظ له ، تاريخ الطبري 3 / 456 أحداث سنة خمس وثلاثين من الهجرة ، خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، الكامل في التاريخ 3 / 193 أحداث سنة خمس وثلاثين من الهجرة ، ذكر بيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، الفتوح ـ لابن أعثم 2 / 431 ذكر بيعة علي بن أبي طالب (ع) ، وغيرها من المصادر .
(2) الكامل في التاريخ 3 / 193 أحداث سنة خمس وثلاثين من الهجرة ، ذكر بيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، واللفظ له ، تاريخ الطبري 3 / 456 أحداث سنة خمس وثلاثين من الهجرة ، خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، نهج البلاغة 1 / 182 ، وغيرها من المصادر .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 266 _

  له الاستمرار ست سنين ، رغم الجهود الجبّارة والتضحيات الكبرى من أجل المحافظة عليه وتنفيذه .
  قد يبدو فشل أمير المؤمنين (عليه السّلام) في تسلّمه للسلطة وبذلك يبدو لأوّل وهلة فشل أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في تسلّمه السلطة ، وأنّه لم يحقّق نجاحاً ، بل زادت الأمور سوءاً ، لأنّه (عليه السّلام) اضطر لمباشرة حروب ثلاثة ذهب ضحيّتها كثير من المسلمين ، وزادت بسببها مشاكلهم وخلافاتهم ، ثمّ تسنّم السلطة معاوية ومَنْ بعده من الأمويين وغيرهم ، وكانت عهودهم أسوأ بكثير بحسب المنظور العام من عهد عثمان ومَنْ قبله .

علمه (عليه السّلام) بفشل مشروع الإصلاح الجذري

  لكنّ أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) كان يعلم من أوّل الأمر بفشل مشروع الإصلاح الذي طلبوا منه البيعة من أجله ، كما يشير إلى ذلك ما تقدّم من قوله (عليه السّلام) : (( فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه وله ألوان ، لا تقوم به القلوب ، ولا تثبت عليه العقول )) ، وما يأتي من خطبته حين بويع .
  وقد عهد له النبي (صلّى الله عليه وآله) ـ بل للأُمّة عامّة ـ بخروج الناكثين والقاسطين والمارقين عليه (1) ، وبكثير من تفاصيل ذلك ، ومنها إرغامه على

---------------------------
(1) المستدرك على الصحيحين 3 / 139 ،140 كتاب معرفة الصحابة ، فضائل علي بن أبي طالب (ع) ، إخبار رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بقتل علي ، مجمع الزوائد 5 / 186 كتاب الخلافة ، باب الخلفاء الأربعة ، و 6 / 235 كتاب قتال أهل البغي ، باب ما جاء في ذي الثدية وأهل النهروان ، و 7 / 238 كتاب الفتن ، باب فيما كان بينهم في صفين ، السُنّة ـ لعمرو بن أبي عاصم / 425 ، مسند أبي يعلى 1 / 397 مسند علي بن أبي طالب (ع) ، و 3 / 194 ـ 195 مسند عمار بن ياسر ، المعجم الكبير 4 / 172 فيما رواه محنف بن سليم عن أبي أيوب ، و 10 / 91 ـ 92 باب من روى عن ابن مسعود ، المعجم الأوسط 8 / 213 ، و 9 / 165 ، الاستيعاب 3 / 1117 في ترجمة علي بن أبي طالب ، وغيرها من المصادر الكثيرة .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 267 _

  التحكيم (1) ، وما استتبعه من فتنة الخوارج (2) ، ثمّ قتله (عليه السّلام) بعد أن يتجرّع الغيظ (3) ، وبقيام دولة بني أُميّة الشجرة الملعونة في القرآن (4) .
  وهو القائل : (( أتاني عبد الله بن سلام ، وقد وضعت رجلي في الغرز ، وأنا أريد العراق ، فقال : لا تأتي [كذا في المصدر] العراق ، فإنّك إن أتيته أصابك به

---------------------------
(1) السنن الكبرى ـ للنسائي 5 / 167 كتاب الخصائص ، ذكر خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) ، ذكر ما خصّ به علي من قتال المارقين ، ذكر الأخبار المؤيدة لما تقدّم وصفه ، فتح الباري 7 / 386 ، شرح نهج البلاغة 2 / 232 ، تاريخ الإسلام 2 / 391 قصّة غزوة الحديبية ، السيرة الحلبية 2 / 707 غزوة الحديبية ، مجمع البيان ـ للطبرسي 9 / 199 ، وغيرها من المصادر .
(2) مجمع الزوائد 6 / 241 كتاب قتال أهل البغي ، باب منه في الخوارج ، فتح الباري 12 / 264 ـ 265 ، مسند أبي يعلى 1 / 370 ـ 371 مسند علي بن أبي طالب (ع) ، المصنّف ـ لعبد الرزاق 3 / 358 كتاب فضائل القرآن ، باب سجود الرجل شكر ، السُنّة ـ لعمرو بن أبي عاصم / 585 ، السنن الكبرى 5 / 163 كتاب الخصائص ، ثواب من قاتلهم (الخوارج) ، المعجم الأوسط 4 / 224 ، تاريخ بغداد 12 / 448 في ترجمة قيس بن أبي حازم ، و 13 / 97 في ترجمة مسلم بن أبي مسلم ، وص 223 في ترجمة ميسرة أبي صالح ، كنز العمّال 11 / 289 ـ 290 ح 31548 ، وغيرها من المصادر الكثيرة .
(3) المستدرك على الصحيحين 3 / 139 كتاب معرفة الصحابة ، ومن مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) ممّا لم يخرجاه ، ذكر إسلام أمير المؤمنين علي (ع) ، تاريخ دمشق 42 / 422 ، 536 في ترجمة علي بن أبي طالب ، الكامل في التاريخ 3 / 388 أحداث سنة أربعن من الهجرة ، ذكر مقتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام) ، ذكر أخبار أصبهان 2 / 147 في ترجمة عطاء بن السائب ، كنز العمّال 11 / 618 ح 32999 ، الفصول المهمّة 1 / 609 الفصل الأوّل في ذكر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) ، فصل في مقتله ومدّة عمره وخلافته (عليه السّلام) ، وغيرها من المصادر .
(4) سنن الترمذي 5 / 115 كتاب تفسير القرآن عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، باب سورة القدر ، المستدرك على الصحيحين 3 / 170 ـ 171 كتاب معرفة الصحابة ، ومن فضائل الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) وذكر مولده ومقتله ، سير أعلام النبلاء 3 / 272 في ترجمة الحسن بن علي بن أبي طالب ، المعجم الكبير 3 / 89 ـ 90 فيما رواه يوسف بن مازن الراسبي عن الحسن بن علي (ع) ، مسند الشاميين 2 / 152 ، فضائل الأوقات ـ للبيهقي / 211 باب فضل ليلة القدر ، تاريخ دمشق 13 / 278 ـ 279 في ترجمة الحسن بن علي بن أبي طالب ، أُسد الغابة 2 / 14 في ترجمة الحسن بن علي بن أبي طالب ، وغيرها من المصادر الكثيرة .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 268 _

  ذباب السيف )) .
  قال أبو الأسود الدؤلي : قال علي : (( وأيم الله ، لقد قالها لي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قبلك )) (1) .
  والقائل في حرب صفين ، وهو في أوج قوّته العسكرية : (( ما اختلفت أُمّة قطّ بعد نبيّها إلاّ ظهر أهل باطلها على أهل حقّها )) (2) ، والقائل في الكوفة : (( إنّي أُقاتل على حقّ ؛ ليقوم ، ولن يقوم ، والأمر لهم )) (3) .
  كما قال (عليه السّلام) أيضاً : (( أما إنّه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم ، مندحق البطن ، يأكل ما يجد ، ويطلب ما لا يجد فاقتلوه ، ولن تقتلوه ، ألا وإنّه سيأمركم بسبّي والبراءة منّي ... )) (4) ، إلى غير ذلك ممّا يجده الناظر في تاريخ تلك الحقبة وما يتعلّق بها ، ولاسيما ما ورد في أخبار أهل البيت (صلوات الله عليهم) .

أهداف أمير المؤمنين (عليه السّلام) من تسلّمه للسلطة

  ومن هنا لا بدّ أن يكون هدفه (صلوات الله عليه) من تسنّم السلطة ليس هو ما اندفعت الجماهير له وتخيّلته ممكن من إصلاح الأوضاع العامّة ، أو تعديل مسار السلطة في الإسلام ، وإنّما الدافع المهم له عهد النبي (صلّى الله عليه وآله) له بالقيام بالأمر

---------------------------
(1) المستدرك على الصحيحين 3 / 140 كتاب معرفة الصحابة ، ومن مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) ممّا لم يخرجاه ، ذكر إسلام أمير المؤمنين علي (ع) ، واللفظ له ، صحيح ابن حبان 15 / 127 باب إخباره (صلّى الله عليه وآله) عمّا يكون في أُمّته من الفتن والحوادث ، ذكر الإخبار عن خروج علي بن أبي طالب (ع) إلى العراق ، مسند الحميدي 1 / 30 ، الآحاد والمثاني 1 / 144 ، موارد الظمآن 7 / 148 ، تاريخ دمشق 42 / 545 في ترجمة علي بن أبي طالب ، أُسد الغابة 4 / 34 في ترجمة علي بن أبي طالب ، وغيرها من المصادر الكثيرة .
(2) وقعة صفين / 224 ، شرح نهج البلاغة 5 / 181 ، الأمالي ـ للمفيد / 235 ، الأمالي ـ للطوسي / 11 .
(3) الفتن ـ لابن حماد / 70 ما يذكر في ملك بني أُميّة وتسمية أسمائهم بعد عمر ، واللفظ له ، إمتاع الأسماع 12 / 211 إخباره (صلّى الله عليه وآله) بملك معاوية ، الملاحم والفتن ـ لابن طاووس / 339 ب 37 .
(4) نهج البلاغة 1 / 105 ـ 106 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 269 _

  إذا وجد أنصاراً حيث يأتي منه (عليه السّلام) التصريح حين بويع بأنّه قد نُبئ بهذا المقام وهذا اليوم .
  وهو (عليه السّلام) القائل في الخطبة الشقشقية : (( أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، لولا حضور الحاضر ، وقيام الحجّة بوجود الناصر ، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم ، لألقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها ، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عَنز )) (1) ... إلى غير ذلك ممّا يشهد بأنّه (عليه السّلام) ينفذ عهداً عُهِد له وأمراً فرض عليه ، وربما يأتي بعض كلامه (عليه السّلام) في ذلك .
  وعلم الله تعالى ما هي المصالح والأهداف التي ألزمته (عليه السّلام) بذلك ، لكنّ الذي يظهر لنا أمران مهمّان جدّاً في صالح الإسلام بعد تحقّق الانحراف في مسيرته ، وفرضه عليه كواقع لا يمكن التخلّص منه .

سعيه (عليه السّلام) لإيضاح الحقائق الدينية

  الأمر الأوّل : ما أشرنا إليه آنفاً من أنّ جمهور المسلمين كانوا في غفلة عن انحراف مسار السلطة في الإسلام ، وتحكّمها في الدين بحيث كان معرضاً للضياع والتشويه ، فإبقاؤهم على غفلتهم يضيّع عليهم معالم الحقّ ، ويعرّض الدين للتحريف التدريجي بتعاقب السلطات غير المشروعة حتى يُمسخ كما مُسخت بقيّة الأديان ، نتيجة تحكّم غير المعصوم فيه .
  فكان الهدف من تسنمه (صلوات الله عليه) للسلطة أن يُفسح المجال له ولمَنْ يعرف حقّه من الصحابة لكشف حقيقة الحال ، وتنبيه الأُمّة من غفلتها ،

---------------------------
(1) نهج البلاغة 1 / 36 ـ 37 ، واللفظ له ، علل الشرائع 1 / 151 ، الإفصاح ـ للمفيد / 46 ، ينابيع المودّة 1 / 438 ، وغيرها من المصادر .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 270 _

  وتعريفها بدعوة الحقّ ، وإيضاح معالمه ، ليحملها ـ بل قد يدعو لها ـ مَنْ يوفّقه الله تعالى لذلك .
  وذلك من أجل أن تظهر هذه الدعوة الشريفة في المجتمع الإسلامي والإنساني على الصعيد العام بحيث يسمع صوته ، لتقوم الحجّة على الناس حتى لو عاد مسار السلطة للانحراف كما هو المتوقّع له (عليه السّلام) والذي حصل فعلاً .
  وقد يشير إلى ذلك ما ورد عنه (صلوات الله عليه) في بيان ما دعاه لقبول الخلافة من قوله : (( والله ، ما تقدّمت عليها إلاّ خوفاً من أن ينزو على الأمر تيس من بني أُميّة فيلعب بكتاب الله عزّ وجلّ )) (1) .

إصحاره (عليه السّلام) بالحقيقة وبحقّه في الخلافة وبظلامته

  وعلى كلّ حال فقد تحقّق له ذلك ، حيث وجد الأرضية الصالحة ، خصوصاً في الكوفة ، فأصحر (عليه السّلام) هو ومَنْ يعرف حقّه من الصحابة بالحقيقة ، وبمقامه ومقام أهل البيت (صلوات الله عليهم) ، والتأكيد على استحقاقهم الخلافة ، واختصاص الإمامة الحقّة بهم ، وأنّهم (عليهم السّلام) المرجع للأُمّة في دينها يعصمونها من الزيغ والضلال مع الاستدلال على ذلك بالكتاب المجيد ، والنصوص النبويّة الشريفة التي هي أكثر من أن تُحصى .
  ثمّ أصحر بالشكوى من الانحراف الذي حصل ، وسلْب الشرعية عنه ، وشجْب مَنْ قام به وغير ذلك ممّا سجّله التاريخ واستوعبته كتب الكلام ، واشتمل على كثير منه كتاب نهج البلاغة .

---------------------------
(1) أنساب الأشراف 2 / 353 في ترجمة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام) ، ونحوه في بحار الأنوار 34 / 358 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 271 _

إيضاحه للمراد من الجماعة التي يجب لزومهاه

  كما إنّه (عليه أفضل الصلاة والسّلام) أوضح أنّ المراد بالجماعة التي لا يجوز الخروج عنها هي جماعة الحقّ التي تُعتصم بأئمّة الحقّ (صلوات الله عليهم) ، وهو (عليه السّلام) أوّلهم .
  ففي حديث عبد الله بن الحسن قال : كان علي يخطب ، فقام إليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين ، أخبرني مَنْ أهل الجماعة ؟ ومَنْ أهل الفرقة ؟ ومَنْ أهل السُنّة ؟ ومَنْ أهل البدعة ؟
  فقال : (( ويحك ! أمّا إذ سألتني فافهم عنّي ، ولا عليك أن تسأل عنها أحداً بعدي ، فأمّا أهل الجماعة : فأنا ومَنْ اتّبعني وإن قلّوا ، وذلك الحقّ عن أمر الله وأمر رسوله ، فأمّا أهل الفرقة : فالمخالفون لي ومَنْ اتّبعهم وإن كثروا ... )) (1) .
  وهو كالصريح من قول النبي (صلّى الله عليه وآله) عندما خطب في مسجد الخيف : (( ثلاث لا يغلُ عليهنّ قلب امرئ مسلم : إخلاص العمل لله ، والنصيحة لأئمّة المسلمين ، واللزوم لجماعتهم ، فإنّ دعوتهم محيطة من ورائهم ... )) (2) .
  إذ بعد أن كانت الإمامة الحقّة في أهل البيت (صلوات الله عليهم) ـ على ما ثبت في محلّه ـ فجماعة أئمّة المسلمين هم جماعة أئمّة أهل البيت دون غيرهم من الفرق .

---------------------------
(1) كنز العمّال 16 / 183 ـ 184 ح 44216 ، واللفظ له ، الاحتجاج 1 / 246 .
(2) الكافي 1 / 403 ، واللفظ له ، الأمالي ـ للصدوق / 432 ، المستدرك على الصحيحين 1 / 87 كتاب العلم ، صحيح ابن حبان 1 / 270 باب الزجر عن كتبة المرء السنن مخافة أن يتكل عليها دون الحفظ لها ، ذكر رحمة الله (جلّ وعلا) مَنْ بلّغ أُمّة المصطفى (صلّى الله عليه وآله) حديثاً صحيحاً عنه ، مسند أحمد 3 / 225 مسند أنس بن مالك ، و 4 / 82 حديث جبير بن مطعم (رضي الله عنه) ، مجمع الزوائد 1 / 137 ـ 139 كتاب العلم ، باب في سماع الحديث وتبليغه ، المعجم الكبير 2 / 127 باب محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه ، و 5 / 154 فيما رواه وهب أبو محمد عن زيد بن ثابت ، مسند الحميدي 1 / 48 ، مسند أبي يعلى 13 / 408 ، وغيرها من المصادر الكثيرة جدّاً .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 272 _

  ويناسبه ما عن الثعلبي بسنده عن عبد الله البجلي قال : قال : قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (( مَنْ مات على حبّ آل محمد مات شهيداً ... ألا ومَنْ مات على حبّ آل محمد مات على السُنّة والجماعة ... )) (1) .
  كما إنّه الأنسب بما عن النبي (صلّى الله عليه وآله) حينما سأله رجل عن جماعة أُمّته ، فأجابه بقوله : (( جماعة أُمّتي أهل الحقّ وإن قلّوا )) (2) .
  وما عن عمرو بن ميمون قال : صحبت معاذاً باليمن ... ثمّ صحبت بعده أفقه الناس عبد الله بن مسعود ، فسمعته يقول : عليكم بالجماعة ، فإنّ يد الله على الجماعة ، ويرغّب في الجماعة ، ثمّ سمعته يوماً من الأيام وهو يقول : سيلي عليكم ولاة يؤخّرون الصلاة عن مواقيتها ، فصلّوا الصلاة لميقاتها ، فهو الفريضة ، وصلّوا معهم ، فإنّها لكم نافلة .
  قال : قلت : يا أصحاب محمد ، ما أدري ما تحدّثوا .
  قال : وما ذاك ؟
  قلت : تأمرني بالجماعة وتحضّني عليها ، ثمّ تقول لي : صلِّ الصلاة وحدك ... ؟
  قال : يا عمرو بن ميمون ، قد كنت أظنّك أفقه أهل هذه القرية ، تدري ما الجماعة ؟
  قال : قلت : لا .
  قال : إنّ جمهور الجماعة الذين فارقوا الجماعة ، الجماعة ما وافق الحقّ وإن كنت وحدك .
  وفي طريق للحديث آخر : الجماعة ما وافق طاعة وإن كنت وحدك (3) .

---------------------------
(1) العمدة ـ لابن البطريق / 54 ، تخريج الأحاديث والآثار ـ للزيلعي 3 / 238 ، تفسير الكشّاف 3 / 467 في تفسير قوله تعالى : ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى ) ، تفسير الرازي 27 / 166 في تفسير الآية المتقدّمة ، تفسير القرطبي 16 / 23 في تفسير الآية المتقدّمة ، ينابيع المودّة 1 / 91 ، و 2 / 333 ، و 3 / 140 ، الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف / 159 ـ 160 ، سعد السعود / 141 ، وغيرها من المصادر الكثيرة .
(2) المحاسن ـ للبرقي 1 / 220 ، معاني الأخبار / 154 ، تحف العقول عن آل الرسول / 34 مواعظ النبي (صلّى الله عليه وآله) وحكمه .
(3) تاريخ دمشق 46 / 409 في ترجمة عمرو بن ميمون ، واللفظ له ، تهذيب الكمال 22 / 264 ـ 265 في ترجمة عمرو بن ميمون ، النصائح الكافية / 219 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 273 _

  وبالجملة : قد أوضح أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في أيام حكمه القليلة كثيراً من الحقائق الدينية التي كان عامّة المسلمين في غفلة عنها .

مميّزاته الشخصية ساعدت على تأثيره وسماع دعوته

  وقد ساعد على تأثيره (عليه السّلام) في رفع غفلتهم مميّزاته الشخصية ، من السبق للإيمان ، والقرابة القريبة من النبي (صلّى الله عليه وآله) ، وعظيم الأثر في رفع منار الإسلام بجهاده الفريد في سبيل الله تعالى ، والعدل بين الرعية ، والفناء في ذات الله تعالى ، والشجاعة الخارقة ، والتحبّب للعامّة أخلاقاً وسلوكاً ، وما ظهر منه (صلوات الله عليه) من فنون العلم والمعرفة ، والكرامات الباهرة ، والأخبار الغيبية الصادقة ... إلى غير ذلك ممّا يشهد بتميّزه عن عامّة الناس بنحو يناسب اختياره (عليه السّلام) واختيار أهل بيته لخلافة النبوّة من قبل الله (عزّ وجلّ) .
  كما إنّ ذلك من شأنه أن يوجب إعجاب كثير من الناس به وانشدادهم له عاطفيّاً ، وتعلّقهم به ، وموالاتهم له ، وحبهّم إيّاه حبّاً قد يبلغ العشق .
  وبعبارة أُخرى : إنّ شجرة التشيّع التي غرسها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وأقام الحجّة عليها ، وثبت عليها الخاصة من أصحابه (رضي الله عنهم) ، قد استطاع أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في فترة حكمه القصيرة المليئة بالمتاعب والمشاكل أن يسقيها وينميها ، ويعمق جذورها ، وينشر فروعها ، بعد أن ذبلت وكادت تموت ، نتيجة جهود الأوّلين ، وسياستهم التي سبق التعرّض لها .
  وإنّ النظر في كتاب نهج البلاغة ـ الواسع الانتشار ـ بتروٍّ واستيعاب ومقارنة ، وبموضوعية بعيدة عن التكلّف والتعسّف ، يكفي في استيضاح ذلك ، فهو يصلح لأن يكون أطروحة مستوفية لأبعاد العقيدة الشيعيّة التي توارثتها الأجيال حتى عصرنا الحاضر ، أمّا التراث والجهود الواردة عنه (عليه السّلام) في غير نهج البلاغة فالأمر فيها أظهر .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 274 _

إيمان ثلّة من الخاصّة بدعوته (عليه السّلام) وتضحيتهم في سبيلها

  ووجد (صلوات الله عليه) من ذوي المقام الرفيع في العقل والدين وقوّة الشخصية ، والذين فرضوا احترامهم على المسلمين ـ بورعهم وأثرهم الحميد في الإسلام ـ من تقبّلها بتفّهم وتبصّر وإخلاص وإصرار ، وتبّنى حمل رايتها والدعوة لها متحدّياً قوى الشرّ والطغيان .
  وتحمّل في سبيل ذلك ضروب المصائب والمحن ، ومختلف أنواع التنكيل من السجن والتشريد ، والقتل والتمثيل ، والصلب وتشويه السمعة والتشنيع غير المسؤول ، وانتهاك الحرمات العظام بوحشيّة مسرفة .
  ثمّ تعاهد شجرتها من بعده بقيّة الأئمّة من ولده (صلوات الله عليهم) ، ودعمها الإمداد والتسديد الإلهي على طول الخطّ .
  وبذلك بقيت هذه الدعوة الشريفة وانتشرت بين المسلمين ، بل في جميع أنحاء العالم ، وتوارثتها الأجيال جيلاً بعد جيل ، مرفوعة الراية ، مسموعة الصوت على طول المدّة ، وشدّة المحنة ، وتتابع الفتن .
  بل لم يشهد التاريخ ـ فيما نعلم ـ دعوة حافظت على أصالتها ونقائها ، واستمرت في مسيرتها وتوسّعها وانتشارها ـ رغم المعوّقات الكثيرة ـ كهذه الدعوة الشريفة .

العقبة الكؤود في طريق الدعوة احترام الأوّلين

  نعم ، كانت العقبة الكؤود التي تقف في طريقه (عليه السّلام) وطريق دعوته هذه هي إعجاب كثير من المسلمين بسيرة الشيخين أبي بكر وعمر ، وحبّهم لهما حبّاً قد يبلغ حدّ التقديس ، نتيجة العوامل التي سبق التعرّض لها ، بحيث اضطر (صلوات الله عليه) إلى ترك بعض ما سنّاه في الدين على حاله مداراة لهم .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 275 _

  حتى إنّه ربما اتّخذ البعض ذلك شاهداً على إقراره لها وشرعيتها عنده (عليه السّلام) ، وهو يجهل أو يتجاهل الظروف الحرجة التي كان (صلوات الله عليه) يمرّ بها ويعيشها ، والتصريحات الكثيرة منه ومن الأئمّة من ولده (صلوات الله عليهم) بعدم شرعيتها ، والحديث في ذلك طويل لا يسعنا استيعابه .

خطبة له (عليه السّلام) يستعرض فيها كثيراً من البدع

  إلاّ إنّه يحسن بنا أن نذكر خطبة له (صلوات الله عليه) رواها الكليني بطريق معتبر قال (عليه السّلام) فيها : (( وإنّما بدء وقوع الفتن من أهواء تُتبع وأحكام تُبتدع يُخالَف فيها حكم الله ، يتولّى فيها رجال رجالاً ، ألا إنّ الحقّ لو خلُص لم يكن اختلاف ، ولو أنّ الباطل خلُص لم يخفَ على ذي حِجا ، لكنّه يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيُمزجان فيُجللان معاً ، فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه ، ونجا الذين سبقت لهم من الله الحسنى .
  إنّي سمعت رسول الله يقول (صلّى الله عليه وآله) : كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير ، ويهرم فيها الكبير ، يجري الناس عليها ، ويتّخذونها سُنّة ، فإذا غُيّر منها شيء قيل : قد غُيّرت السُنّة ، وقد أتى الناس منكراً ، ثمّ تشتدّ البلية ، وتُسبى الذريّة ، وتدقهم الفتنة كما تدق النار الحطب ، وكما تدق الرحا بثفالها ، ويتفقّهون لغير الله ، ويتعلّمون لغير العمل ، ويطلبون الدنيا بأعمال الآخرة )) .
  ثمّ أقبل بوجهه ، وحوله ناس من أهل بيته وخاصته وشيعته ، فقال : (( قد عمل الولاة قبلي أعمالاً خالفوا فيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) متعمّدين لخلافه ، ناقضين لعهده ، مغيّرين لسُنّته ، ولو حملت الناس على تركه ، وحوّلتها إلى مواضعها وإلى ما كانت في عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، لتفرّق عنّي جندي حتى أبقى

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 276 _

  وحدي ، أو قليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي ، وفرض إمامتي من كتاب الله (عزّ وجلّ) وسُنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) .
  أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم (عليه السّلام) فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) (1) ، ورددت فدك إلى ورثة فاطمة (عليها السّلام) ، ورددت صاع رسول

---------------------------
(1) فقد روي عن الإمام الباقر (عليه السّلام) أنّه قال : (( كان المقام لازقاً بالبيت فحوّله عمر )) ، راجع تهذيب الأحكام 5 / 454 .
روى الفاكهي عن عائشة أنّ المقام كان في زمن النبي (صلّى الله عليه وآله) سقع البيت ، أخبار مكة 1 / 455 ذكر موضع المقام من أوّل مرّة ، وروى أيضاً عن عبد الله بن سلام : أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قدم مكة من المدينة فكان يصلّي إلى المقام وهو ملصق بالكعبة حتى توفّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، أخبار مكة 1 / 443 ذكر المقام وفضله ، شفاء الغرام 1 / 393 ذكر موضع المقام في الجاهلية والإسلام .
وقد نص غير واحد على أنّ عمر هو الذي أخّر المقام بعد أن كان ملصقاً بالبيت ، الطبقات الكبرى 3 / 284 ذكر استخلاف عمر ، الثقات ـ لابن حبان 2 / 218 ، الكامل في التاريخ 2 / 562 أحداث سنة ثمان عشرة من الهجرة ، فتح الباري 8 / 129 ، تفسير ابن كثير 1 / 176 ، عمدة القاري 4 / 241 ، التمهيد ـ لابن عبد البر 13 / 100 ، وغيرها من المصادر .
وقد روي عن عائشة أنّها قالت : إنّ المقام كان في زمن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وفي زمن أبي ملتصقاً بالبيت ثمّ أخّره عمر ، فتح الباري 8 / 129 ، وتفسير ابن كثير 1 / 176 ، وكنز العمّال 14 / 117 ح 38102 ، الدرّ المنثور 1 / 120 ، وعلل الحديث ـ لابن أبي حاتم 1 / 298 علل أخبار رويت في مناسك الحجّ وأدائه وثوابه ونحو ذلك ، وقال سفيان بن عيينة : كان المقام في سقع البيت على عهد النبي (صلّى الله عليه وآله) فحوّله عمر إلى مكانه بعد النبي (صلّى الله عليه وآله) تفسير ابن أبي حاتم 1 / 226 ، واللفظ له ، تفسير ابن كثير 1 / 176 .
وروي عن ابن جريج أنّه قال : سمعت عطاء وغيره من أصحابنا يزعمون أنّ عمر أوّل مَنْ رفع المقام فوضعه موضعه الآن ، وإنّما كان في قبل الكعبة ، المصنّف ـ لعبد الرزاق 5 / 48 كتاب المناسك ، باب المقام ، أخبار مكة ـ للفاكهي 1 / 454 ذكر موضع المقام من أوّل مرّة ... شفاء الغرام 1 / 393 ذكر موضع المقام في الجاهلية والإسلام .. .
وروي عن سعيد بن جبير أنّه قال : كان المقام في وجه الكعبة ، وإنّما قام إبراهيم حين ارتفع البنيان فأراد أن يشرف على البناء ، قال : فلمّا كثر الناس خشي عمر بن الخطاب أن يطأوه بأقدامهم فأخرجه إلى موضعه هذا الذي هو به اليوم حذاء موضعه الذي كان به قدّام الكعبة ، أخبار مكة 1 / 454 ذكر موضع المقام من أوّل مرّة ... شفاء الغرام 1 / 393 ذكر موضع المقام في الجاهلية والإسلام .
وقد فصّل الكلام في ذلك محمد طاهر الكردي ذاكراً جميع الروايات والأقوال في ذلك ، وقد انتهى إلى أنّ الأصح كون عمر هو الذي أخّر المقام إلى موضعه اليوم ، راجع التاريخ القويم 4 / 24 موضع المقام .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 277 _

  الله (صلّى الله عليه وآله) كما كان (1) ، وأمضيت قطائع أقطعها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لأقوام

---------------------------
(1) قال الفضل بن شاذان : ورويتم أنّ عمر بن الخطاب زاد في مدّ النبي (صلّى الله عليه وآله) ثمّ زعمتم ذلك فضيلة لعمر ، الإيضاح / 198 .
وقد ورد في أحاديث الجمهور أنّ لعمر صاعاً يختلف مقداره عن مقدار صاع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فقد ورد أنّ مقدار صاع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) خمسة أرطال وثلث ، بينما كان صاع عمر ثمانية أرطال ، ولهذا وقع الخلاف بين فقهاء الجمهور في تحديد الصاع .
روى البيهقي عن الحسين بن الوليد قال : قدم علينا أبو يوسف من الحجّ فأتيناه ، فقال : إنّي أريد أن افتح عليكم باباً من العلم همّني ، تفحصت عنه فقدمت المدينة فسألت عن الصاع ، فقالوا : صاعنا هذا صاع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، قلت لهم : ما حجّتكم في ذلك ؟
فقالوا : نأتيك بالحجّة غداً ، فلمّا أصبحت أتاني نحو من خمسين شيخاً من أبناء المهاجرين والأنصار مع كلّ رجل منهم الصاع تحت ردائه ، كلّ رجل منهم يخبر عن أبيه أو أهل بيته أنّ هذا صاع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فنظرت فإذا هي سواء ، قال : فعايرته ، فإذا هو خمسة أرطال وثلث بنقصان معه يسير ، فرأيت أمراً قويّاً ، فقد تركت قول أبي حنيفة في الصاع ، وأخذت بقول أهل المدينة ... .
قال الحسين : فحججت من عامي ذلك ، فلقيت مالك بن انس فسألته عن الصاع ، فقال : صاعنا هذا صاع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) .
فقلت : كم رطلاً هو ؟
قال : إنّ المكيال لا يُرطل . هو هذا .
قال الحسين : فلقيت عبد الله بن زيد بن أسلم ، فقال : حدّثني أبي عن جدّي أنّ هذا صاع عمر .
السنن الكبرى ـ للبيهقي 4 / 171 كتاب الزكاة ، جماع أبواب زكاة الفطرة ، باب ما دلّ على أنّ صاع النبي (صلّى الله عليه وآله) كان عياره خمسة أرطال وثلث .
وقال السمرقندي : ثمّ مقدار الصاع ثمانية أرطال عندنا ، وقال أبو يوسف والشافعي : خمسة أرطال وثلث رطل ، لأنّ صاع أهل المدينة كذلك ، وتوارثوه خلفاً عن سلف ، لكنّا نقول : ما ذكرنا صاع عمر ، ومالك من فقهاء المدينة ، قال : إنّ صاع المدينة أخرجه عبد الملك بن مروان ، فأمّا قبله كان ثمانية أرطال فكان العمل بصاع عمر أولى .
تحفة الفقهاء 1 / 338 ـ 339 ، ومثله ما قاله أبو بكر الكاشاني ، بدائع الصنائع 2 / 73 .
وقد روى البخاري عن السائب أنّه قال : كان الصاع على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مدّاً وثلثاً بمدكم اليوم ، وقد زيد فيه ، صحيح البخاري 8 / 153 كتاب الاعتصام بالكتاب والسُنّة ، وقد رواه بهذا اللفظ النسائي ، السنن الكبرى 2 / 29 كتاب الزكاة ، باب كم الصاع .
وقد كان للحجّاج صاع يسمّى بالصاع الحجّاجي ، وقد روي عن إبراهيم النخعي أنّه قال : وضع الحجّاج قفيزه على صاع عمر ، شرح معاني الآثار 2 / 52 كتاب الزكاة ، باب وزن الصاع ، نصب الراية 2 / 520 أحاديث وآثار في مقدار الصاع .
وهذا الصاع يختلف عن مقدار الصاع عند أهل المدينة الذي تقدّم مقداره ، قال ابن أبي ليلى : عيّرنا صاع المدينة فوجدناه يزيد مكيالاً على الحجّاجي ، المصنّف ـ لابن أبي شيبة 3 / 94 كتاب الزكاة ، قوله تعالى : ( وَيَمْنَعُونَ الماعُونَ ) .
وقد روي عن موسى بن طلحة أنّه قال : الحجّاجي صاع عمر بن الخطاب ، المصنّف ـ لابن أبي شيبة 3 / 94 كتاب الزكاة ، قوله تعالى : ( وَيَمْنَعُونَ الماعُونَ ) ، مسند ابن الجعد / 370 ، شرح معاني الآثار 2 / 51 ـ 52 .
وكان الحجّاج يمنّ بهذا الصاع على أهل العراق ويقول : ألم أخرج لكم صاع عمر ؟ المبسوط ـ للسرخسي 3 / 90 .
وقال البيهقي : والصاع أربعة أمداد بمدّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ـ بأبي هو وأُمّي ، قال في القديم : والصاع خمسة أرطال وثلث وزيادة شيء أو نقصانه ، وقال قائل : الصاع ثمانية أرطال ، فكانت حجّته أن قال : قال إبراهيم : وجدنا صاع عمر حجّاجي ، قال : وقد عُيّر المكيال على عهد عمر فأراد ردّه فكأنّه نسيه ... وصاع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في بيوت أزواجه والمهاجرين والأنصار وغيرهم من المسلمين قد رأينا عند أهل الثقة يتوارثونه لا يختلف فيه ويحمل على أطراف الأصابع ، فهو كما وصفنا ، فكيف جاز لأحد ـ وقلّ بيت إلاّ وهو فيه ـ أن يدخل علينا في علمه التوهم ؟! ولأنّ جاز هذا أن يدخل ليجوزنّ أن يقول ليس ذو الحليفة حيث زعمتم ، ولا الجحفة ولا قرن ، وإن عُلم المكيال بالمدينة لأعم من بعض عُلم هذا ، فرجع بعضهم وقال : ما ينبغي أن يدخل على أهل المدينة في علم هذا ، معرفة السنن والآثار 3 / 269 ـ 270 .
وقال ابن حزم بعد ذكر الخلاف في الصاع : إنّنا لم ننازعهم في صاع عمر ولا في قفيزه ، إنّما نازعناهم في صاع النبي (صلّى الله عليه وآله) ، ولسنا ندفع أن يكون لعمر صاع وقفيز ومدّ رتّبه لأهل العراق لنفقاتهم وأرزاقهم ، كما بمصر الويبة والأردب ، وبالشأم المدى ، وكما كان لمروان بالمدينة مدّ اخترعه ، ولهشام بن إسماعيل مدّ اخترعه ، ولا حجّة في شيء من ذلك ... ولو كان صاع عمر بن الخطاب هو صاع النبي (صلّى الله عليه وآله) لما نُسب إلى عمر أصلاً دون أن يُنسب إلى أبي بكر ، ولا إلى أبى بكر أيضاً دون أن يُضاف إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فصح بلا شك أنّ مدّ هشام إنّما رتّبه هشام ، وأنّ صاع عمر إنّما رتّبه عمر ، وهذا إن صح أنّه كان هنالك صاع يُقال له : (صاع عمر) فإنّ صاع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ومدّه منسوبان إليه لا إلى غيره ، باقيان بحسبهم .
وأمّا حقيقة الصاع الحجّاجي الذي عوّلوا عليه فإّننا روينا من طريق إسماعيل بن إسحاق ، عن مسدد ، عن المعتمر بن سليمان ، عن الحجّاج بن أرطاة قال : حدّثني مَنْ سمع الحجّاج بن يوسف يقول : صاعي هذا صاع عمر أعطتنيه عجوز بالمدينة ... وهذا أصل صاع الحجّاج ، فلا كثر ولا طيب ، ولا بورك في الحجّاج ولا في صاعه ، المحلّى 5 / 243 .
وحديث الجمهور عن الصاع كثير أثبتنا منه ما يناسب كلام أمير المؤمنين (عليه السّلام) .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 250 _

المقام الأوّل : في جهود أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)
وجهود الخاصّة من الصحابة والتابعين الذين كانوا معه


  أشرنا آنفاً إلى أنّ قيام السلطة بعد انحرافها عن خطّ أهل البيت بالفتوح الكبرى ، وما استتبعها من الغنائم العظيمة كان هو السبب في نشر الإسلام بواقعه المنحرف .
  كما إنّ له أعظم الأثر في احترام الإسلام المذكور ، واحترام رموزه في نفوس عامّة المسلمين ، خصوصاً بعد ما سبق من التحجير على السُنّة النبويّة ، ومنع الحديث عن النبي (صلّى الله عليه وآله) إلاّ بما يتناسب مع نهج السلطة وتوجّهاته ، ولو بوضع الأحاديث ، والكذب على النبي (صلّى الله عليه وآله) لصالحها .
  إلاّ إنّ الانحراف لمّا ابتنى على عدم نظام للسلطة ، فقد صارت السلطة معرضة لأن تكون مطمعاً لكلّ أحد من قريش قبيلة النبي (صلّى الله عليه وآله) ـ التي ابتنى الانحراف الفاتح على اختصاص حقّ الخلافة بها من دون فرق بين قبائلها ـ مهما كان حال الشخص ومقامه في الإسلام .
  وقد روي عن سلمان الفارسي (رضي الله عنه) أنّه قال لمّا بويع أبو بكر : كرديد نكرديد ، أما والله ، لقد فعلتم فعلة أطمعتم فيها الطلقاء ولعناء رسول الله (1) .

---------------------------
(1) الإيضاح / 457 ـ 458 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 279 _

  لم تمضِ لهم ولم تنفذ (1) ،

---------------------------
(1) روى ابن خزيمة عن الحارث بن بلال عن أبيه : أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أخذ من معادن القبيلة الصدقة ، وأنّه أقطع بلال بن الحارث العقيق أجمع ، فلمّا كان عمر قال لبلال : إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لم يقطعك لتحجزه عن الناس ، لم يقطعك إلاّ لتعمل .
قال : فقطع عمر بن الخطاب للناس العقيق ، صحيح ابن خزيمة 4 / 44 كتاب الزكاة ، باب ذكر أخذ الصدقة من المعادن ، ومثله في السنن الكبرى ـ للبيهقي 4 / 152 كتاب الزكاة ، باب زكاة المعدن ومَنْ قال المعدن ليس بركاز ، و 6 / 149 كتاب إحياء الموات ، باب من أقطع قطيعة أو تحجر أرضاً ثمّ لم يعمّرها أو لم يعمّر بعضها ، والمستدرك على الصحيحين 1 / 404 كتاب الزكاة .
وروي عن عبد الله بن أبي بكر قال : جاء بلال بن الحارث المزني إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فاستقطعه أرض ، فقطعها له طويلة عريضة ، فلمّا ولي عمر قال له : يا بلال ، انّك استقطعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أرضاً طويلة عريضة قطعها لك ، وإنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لم يكن ليمنع شيئاً يسأله ، وإنّك لا تطيق ما في يديك .
فقال : أجل .
قال : فانظر ما قويت عليه منها فأمسكه ، وما لم تطق فادفعه إلينا نقسمه بين المسلمين .
فقال : لا أفعل والله ، شيء أقطعنيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) .
فقال عمر : والله لتفعلن .
فأخذ منه ما عجز عن عمرته فقسمه بين المسلمين ، السنن الكبرى ـ للبيهقي 6 / 149 كتاب إحياء الموات ، باب مَنْ أقطع قطيعة أو تحجّر أرضاً ثمّ لم يعمّرها أو لم يعمّر بعضها ، واللفظ له ، تاريخ دمشق 10 / 426 ـ 427 في ترجمة بلال بن الحارث ، تاريخ المدينة 1 / 150 ـ 151 .
وروى ابن طاوس عن أبيه ، عن رجل من أهل المدينة قال : قطع النبي (صلّى الله عليه وآله) العقيق رجلاً واحداً ، فلمّا كان عمر كثر عليه ، فأعطاه بعضه وقطع سائره الناس ، السنن الكبرى ـ للبيهقي 6 / 149 كتاب إحياء الموات ، باب مَنْ أقطع قطيعة أو تحجّر أرضاً ثمّ لم يعمّرها أو لم يعمّر بعضها .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 280 _

  ورددت دار جعفر إلى ورثته وهدمتها من المسجد (1) ، ورددت قضايا من

---------------------------
(1) روي في غير واحد من المصادر أنّ عمر بن الخطاب وسّع المسجد الحرام ومسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وقد أبى جماعة ممّن كانت دورهم في ضمن التوسعة ، فهدمت وأُدخلت فيه على غير رضى منهم ، وروي أنّ عثمان فعل ذلك أيضاً .
فقد روى الفاكهي أنّ المسجد كان مُحاطاً بالدور على عهد النبي (صلّى الله عليه وآله) وأبي بكر وعمر فضاق على الناس ، فوسّعه عمر واشترى دوراً فهدمها ، وأعطى مَنْ أبى أن يبيع ثمن داره ، فتح الباري 7 / 112 .
وعن ابن جريج قال : كان المسجد الحرام ليس عليه جدران محيطة ، إنّما كانت الدور محدقة به من كلّ جانب غير أنّ بين الدور أبواباً يدخل منها الناس من كلّ نواحيه ، فضاق على الناس ، فاشترى عمر بن الخطاب دوراً فهدمها ، وهدم على قرب من المسجد ، وأبى بعضهم أن يأخذ الثمن وتمنّع من البيع فوضعت أثمانها في خزانة الكعبة حتى أخذوها بعد ، ثمّ أحاط عليه جداراً قصيراً .
ثمّ كثر الناس في زمان عثمان بن عفان فوسّع المسجد ، فاشترى من قوم ، وأبى آخرون أن يبيعوا ، فهدم عليهم فصيحوا به ، فدعاهم فقال : إنّما جرّأكم عليّ حلمي عنكم ، فقد فعل بكم عمر هذا فلم يصح به أحد ، فأحدثت على مثاله فصحتم بي ، ثمّ أمر بهم إلى الحبس حتى كلّمه فيهم عبد الله بن خالد بن أسيد .
تاريخ مكة المشرّفة والمسجد الحرام / 151 الباب الأوّل ، تاريخ مكة المشرّفة ، ذكر عمل عمر بن الخطاب وعثمان ، ومثله في فتوح البلدان 1 / 53 مكة .
وقد شملت التوسعة دار جعفر بن أبي طالب (رضي الله عنه) التي خطّها النبي (صلّى الله عليه وآله) وهو بأرض الحبشة ، راجع وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى 2 / 76 الباب الرابع في ما يتعلّق بأمور مسجدها الأعظم النبوي ، الفصل الثاني عشر في زيادة عمر في المسجد .
وفي رواية أنّ عمر اشترى نصفها بمئة ألف فزادها في المسجد ، وفي رواية أُخرى أنّ عثمان هو الذي اشتراها .
راجع خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى 2 / 86 الباب الرابع في ما يتعلّق بأمور مسجدها الأعظم النبوي ، الفصل الرابع عشر في زيادة عثمان .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 281 _

  الجور قُضي بها (1) ، ونزعت نساء تحت رجال بغير حق فرددتهن إلى أزواجهنّ ، واستقبلت بهنّ الحكم في الفروج والأرحام (2) ، وسبيت ذراري بني تغلب (3) ،

---------------------------
(1) راجع كتاب الغدير في الكتاب والسُنّة والأدب 6 / 157 ، 164 ، 168 ، 172 ، 176 ، 181 ، 191 ، 192 ، 196 ، وغيره .
(2) ربما يشير (عليه السّلام) إلى السبي غير الشرعي الذي حدث في عهد الخلفاء أو ما شرعه عمر من إمضاء الطلاق الثلاث في مجلس واحد ، وردّ سبي العرب وغير ذلك ممّا يذكره الفقهاء .
(3) بنو تغلب من نصارى العرب ، قدم وفدهم على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ستة عشر رجلاً مسلمين ونصارى عليهم صلب الذهب ، فصالحهم رسول الله على أن يقرّهم على دينهم على أن لا يصبغوا أولادهم على النصرانية ، وأجاز المسلمين منهم بجوائزهم ، الطبقات الكبرى 1 / 316 وفد تغلب ، البداية والنهاية 5 / 108 وفد بني تغلب ، السيرة النبوية 4 / 178 وفد تغلب .
ولم يفوا بهذا الشرط ، قال داود بن كردوس : ليس لبني تغلب ذمّة قد صبغوا دينهم ، المحلّى 6 / 112 المسألة 701 ، السنن الكبرى ـ للبيهقي 9 / 216 كتاب الجزية ، باب نصارى العرب تضعف عليهم الصدقة .
وقد أبوا أن يدفعوا الجزية في زمن عمر ، وقالوا : نحن عرب ولا نؤدّي ما تؤدّي العجم ، ولكن خذ منّا كما يأخذ بعضكم من بعض ، يعنون الصدقة ، فقال عمر : لا ، هذا فرض على المسلمين ، فقالوا : فزد ما شئت بهذا الاسم ، لا باسم الجزية ، ففعل ، فتراضى هو وهم على أنّ ضعّف عليهم الصدقة ، السنن الكبرى ـ للبيهقي 9 / 216 كتاب الجزية ، باب نصارى العرب تضعّف عليهم الصدقة ، وكتاب الأُم 4 / 300 .
وروى زياد بن حدير الأسدي قال : قال علي (ع) : (( لئن بقيت لنصارى بني تغلب لأقتلنّ المقاتلة ، ولأسبينّ الذريّة ، فإنّي كتبت الكتاب بين النبي (صلّى الله عليه وآله) وبينهم على أن لا ينصّروا أبناءهم ، راجع السنن الكبرى ـ للبيهقي 9 / 217 كتاب الجزية ، باب نصارى العرب تُضعّف عليهم الصدقة ، وسنن أبي داود 2 / 42 كتاب الخراج والإمارة ، باب في أخذ الجزية ، وتهذيب الكمال 9 / 450 في ترجمة زياد بن حدير الأسدي ، وكنز العمّال 4 / 614 ح 11773 ، وغيرها من المصادر .
وعن علي بن أبي طالب أنّه قال : لئن تفرّغت لبني تغلب لأقتلنّ مقاتلتهم ولأسبينّ ذراريهم ، فقد نقضوا ، وبرئت منهم الذمّة حين نصّروا أولادهم ، راجع المحلّى 6 / 112 المسألة : 701 ، واللفظ له ، المغني ـ لابن قدامة 10 / 591 ، كنز العمّال 4 / 510 ح 11507 ، فتوح البلدان ـ للبلاذري 1 / 218 أمر نصارى بني تغلب بن وائل ، الأموال ـ للقاسم بن سلام / 539 باب العشر على بني تغلب وتضعيف الصدقة عليهم .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 282 _

  ورددت ما قسم من أرض خيبر (1) ، ومحوت دواوين العطايا ، وأعطيت كما كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يعطي بالسويّة ، ولم أجعلها دولة بين الأغنياء (2) ،

---------------------------
(1) قال ابن جريج : أخبرني عامر بن عبد الله بن نسطاس عن خيبر ، قال : فتحها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وكانت جمعاً له حرثها ونخلها ، قال : فلم يكن للنبي (صلّى الله عليه وآله) وأصحابه رقيق ، فصالح رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يهوداً على أنّكم تكفونا العمل ولكم شطر التمر على أنّي أقرّكم ما بدا لله ورسوله ، فذلك حين بعث النبي (صلّى الله عليه وآله) ابن رواحة يخرص بينهم ، فلمّا خيّرهم أخذت اليهود التمر ، فلم تزل خيبر بأيدي اليهود على صلح النبي (صلّى الله عليه وآله) حتى كان عمر فأخرجهم .
فقالت اليهود : أليس قد صالحنا النبي (صلّى الله عليه وآله) على كذا وكذا ؟!
فقال : بل على أنّه يقرّكم فيها ما بدا لله ورسوله ، فهذا حين بدا لي أن أخرجكم ، فأخرجهم ، ثمّ قسّمها بين المسلمين الذين افتتحوها مع النبي (صلّى الله عليه وآله) ، ولم يعطِ منها أحداً لم يحضر افتتاحها .
قال ابن جريج : وأخبرني عبد الله بن عبيد بن عمير عن مقاضاة النبي (صلّى الله عليه وآله) يهود أهل خيبر على أنّ لنا نصف التمر ولكم نصفه وتكفونا العمل ، راجع المصنّف ـ لعبد الرزاق 8 / 102 ـ 103 كتاب البيوع ، باب ضمن البذر إذا جاءت المشاركة ، ومثله في مجمع الزوائد 4 / 123 كتاب البيوع ، باب المزارعة .
(2) كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقسم بين المسلمين بالسواء ، كما روي ذلك في قسمة الأنفال ببدر .
السنن الكبرى ـ للبيهقي 6 / 348 كتاب قسم الفيء والغنيمة ، باب التسوية بين الناس بالقسمة .
ولكنّ عمر فاضل في العطاء بين المسلمين ، فقد روى علي بن زيد عن أنس بن مالك وسعيد بن المسيب أنّ عمر بن الخطاب كتب المهاجرين على خمسة آلاف ، والأنصار على أربعة آلاف ، ومَنْ لم يشهد بدراً من أولاد المهاجرين على أربعة آلاف ، المصنّف ـ لابن أبي شيبة 7 / 618 كتاب الجهاد ، ما قالوا في الفروض وتدوين الدواوين ، والسنن الكبرى ـ للبيهقي 6 / 350 كتاب قسم الفيء والغنيمة ، باب التفضيل على السابقة والنسب .
وقد فرّق في العطاء بين زوجات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فقد روى أبو الحويرث أنّ عمر فرض لعائشة وحفصة عشرة آلاف ، ولأُمّ سلمة وأُمّ حبيبة وميمونة وسودة ثمانية آلاف ثمانية آلاف ، وفرض لجويرية وصفية ستة آلاف ستة آلاف ، وفرض لصفية بنت عبد المطلب نصف ما فرض لهنّ .
فأرسلت أُمّ سلمة وصواحبها إلى عثمان بن عفان فقلنَ له : كلّم عمر فينا ؛ فإنّه قد فضّل علينا عائشة وحفصة ، فجاء عثمان إلى عمر فقال : إنّ أُمّهاتك يقلنَ لك : سوِّ بيننا ، لا تفضّل بعضنا على بعض .
فقال : إن عشت إلى العام القابل زدتهنّ لقابل ألفين ألفين .
فلمّا كان العام القابل جعل عائشة وحفصة في اثني عشر ألفا اًثني عشر ألف ، وجعل أُمّ سلمة وأُمّ حبيبة في عشرة آلاف عشرة آلاف ، وجعل صفية وجويرية في ثمانية آلاف ثمانية آلاف ، المصنّف ـ لابن أبي شيبة 7 / 617 كتاب الجهاد ، ما قالوا في الفروض وتدوين الدواوين .
وقال ابن قدامة : إنّ أبا بكر سوّى بين الناس في العطاء وأعطى العبيد ، وخالفه عمر ففاضل بين الناس ، المغني ـ لابن قدامة 11 / 405 .
وقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) أنّه أمر عمّار بن ياسر وعبيد الله بن أبي رافع وأبا الهيثم بن تيهان أن يقسّموا فيئاً بين المسلمين ، وقال لهم : اعدلوا فيه ، ولا تفضّلوا أحداً على أحد ، فحسبوا ، فوجدوا الذي يصيب كلّ رجل من المسلمين ثلاثة دنانير ، فأعطوا الناس ، فأقبل إليهم طلحة والزبير ومع كلّ واحد منهما ابنه ، فدفعوا إلى كلّ واحد منهم ثلاثة دنانير .
فقال طلحة والزبير : ليس هكذا كان يعطينا عمر ، فهذا منكم أو عن أمر صاحبكم ؟
قالوا : بل هكذا أمرنا أمير المؤمنين (عليه السّلام) .
فمضيا إليه فوجداه في بعض أمواله قائماً في الشمس على أجير له يعمل بين يديه ، فقالا : ترى أن ترتفع معنا إلى الظل ؟
قال : (( نعم )) .
فقالا له : إنّا أتينا إلى عمّالك على قسمة هذا الفيء فأعطوا كلّ واحد منّا مثل ما أعطوا سائر الناس .
قال : (( وما تريدان ؟ )) .
قالا : ليس كذلك كان يعطينا عمر .
قال : (( فما كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يعطيكما ؟ )) ، فسكتا .
فقال : (( أليس كان (صلّى الله عليه وآله) يقسم بالسوية بين المسلمين من غير زيادة ؟ )) .
قالا : نعم .
قال : (( أفسُنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أولى بالاتباع عندكما أم سُنّة عمر ؟ )) .
قالا : سُنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، دعائم الإسلام 1 / 384 .