37 ـ وقال عمرو بن الحجّاج في المعركة يوم عاشوراء : يا أهل الكوفة ، ألزموا طاعتكم وجماعتكم ، ولا ترتابوا في قتل مَنْ مرق من الدين ، وخالف الإمام .
  فقال له الإمام الحسين (عليه السّلام) : (( يا عمرو بن الحجّاج ، أعليّ تحرّض الناس ؟! أنحن مرقنا من الدين وأنتم ثبتم عليه ؟! أما والله ، لتعلمنّ لو قد قُبضت أرواحكم ، ومتّم على أعمالكم ، أيّنا مرق من الدين ، ومَنْ هو أولى بصلي النار )) (1) .
  38 ـ وعن أبي إسحاق قال : كان شمر بن ذي الجوشن يصلّي معنا الفجر ، ثمّ يقعد حتى يصبح ، ثمّ يصلّي فيقول : اللّهمّ إنّك شريف تحبّ الشرف ، وأنت تعلم أنّي شريف ، فاغفر لي .
  فقلت : كيف يغفر الله لك وقد خرجت إلى ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فأعنت على قتله ؟!
  قال : ويحك ! فكيف نصنع ؟! إن أمراءنا هؤلاء أمرونا بأمر ، ولو خالفناهم كنّا شرّاً من هذه الحمر (2) .
  39 ـ ولمّا خلع أهل المدينة يزيد أنكر عبد الله بن عمر ذلك (3) ، ودعا بنيه وجمعهم ، وقال : إنّا بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله ، وإنّي سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول : (( إنّ الغادر يُنصب له لواء يوم القيامة ، فيقول : هذه غدرة فلان ... )) .

---------------------------
(1) تاريخ الطبري 4 / 331 أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة ، واللفظ له ، الكامل في التاريخ 4 / 67 أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة ، ذكر مقتل الحسين (ع) ، البداية والنهاية 8 / 197 أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة ، ذكر مقتله مأخوذة من كلام أئمّة الشأن .
(2) تاريخ الإسلام 5 / 125 في ترجمة شمر بن ذي الجوشن ، واللفظ له ، تاريخ دمشق 23 / 189 في ترجمة شمر بن ذي الجوشن ، ميزان الاعتدال 2 / 280 في ترجمة شمر بن ذي الجوشن ، وغيرها من المصادر .
(3) صحيح البخاري 8 / 99 كتاب الفتن ، باب إذا قال عند قوم شيئاً ثم خرج فقال بخلافه ، السنن الكبرى ـ للبيهقي 8 / 159 كتاب قتال أهل البغي ، باب إثم الغادر للبر والفاجر ، مسند أحمد 2 / 48، 96 مسند عبد الله بن عمر بن الخطاب ، تفسير ابن كثير 2 / 605 ، الطبقات الكبرى 4 / 183 في ذكر عبد الله بن عمر بن الخطاب ، وغيرها من المصادر الكثيرة .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 199 _

  فلا يخلعنّ أحد منكم يزيد ... فتكون الصيلم بيني وبينه (1) .
  40 ـ وكان أهل المدينة حينما خلعوا بيعة يزيد قد حبسوا بني أُميّة وضيّقوا عليهم ، فلمّا أقبل جيش أهل الشام بقيادة مسلم بن عقبة أفرجوا عنهم ، وسمحوا لهم بالخروج من المدينة بعد أن أخذوا منهم عهد الله تعالى وميثاقه على أن لا يبغوهم غائلة ، ولا يدلوا على عورة لهم ، ولا يُظاهروا عليهم عدوّاً .
  لكنّ عبد الملك بن مروان حينما دخل على مسلم بن عقبة في الطريق ، واستشاره مسلم في خطّة القتال أشار عليه بخطّة محكمة ـ سار عليها مسلم ـ ثمّ قال له : ثمّ قاتلهم واستعن بالله عليهم ، فإن الله ناصرك ؛ إذ خالفوا الإمام ، وخرجوا من الجماعة (2) .
  41 ـ ولمّا رأى مسلم بن عقبة ضَعفَ قتال أهل الشام في قتال أهل المدينة نادى : يا أهل الشام ، هذا القتال قتال قوم يريدون أن يدفعوا به عن دينهم ، وأن يعزوا به نصر إمامهم ؟! (3) .
  وقال أيضاً في تحريضهم على القتال : يا أهل الشام ، إنّكم لستم بأفضل العرب في أحسابها ولا أنسابها ، ولا أكثرها عدداً ، ولا أوسعها بلداً ، ولم يخصصكم الله بالذي خصّكم به ـ من النصر على عدوّكم ، وحسن المنزلة عند

---------------------------
(1) الطبقات الكبرى 4 / 183 في ذكر عبد الله بن عمر بن الخطاب ، واللفظ له ، صحيح البخاري 8 / 99 كتاب الفتن ، باب إذا قال عند قوم شيئاً ثمّ خرج فقال بخلافه ، السنن الكبرى ـ للبيهقي 8 / 159 كتاب قتال أهل البغي ، باب إثم الغادر للبرّ والفاجر ، مسند أحمد 2 / 48 ، 96 مسند عبد الله بن عمر بن الخطاب ، البداية والنهاية 8 / 255 أحداث سنة أربع وستين من الهجرة ، ترجمة يزيد بن معاوية ، وغيرها من المصادر الكثيرة .
(2) تاريخ الطبري 4 / 373 أحداث سنة ثلاث وستين من الهجرة ، واللفظ له ، البداية والنهاية 8 / 240 أحداث سنة ثلاث وستين من الهجرة .
(3) تاريخ الطبري 4 / 375 أحداث سنة ثلاث وستين من الهجرة ، واللفظ له ، جمهرة خطب العرب 2 / 327 خطبة مسلم بن عقبة يؤنب أهل الشام .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 200 _

  أئمتكم ـ إلاّ بطاعتكم واستقامتكم ، وإنّ هؤلاء القوم وأشباههم من العرب غيّروا فغيّر الله بهم ، فتمّوا على أحسن ما كنتم عليه من الطاعة يتمم الله لكم أحسن ما ينيلكم من النصر والفلج (1) .
  42 ـ ولمّا انتصر على أهل المدينة ، واستباحها وفعل بها الأفاعيل ، وانتهك الحرمات العظام ، خرج إلى مكة لقتال ابن الزبير ، فاحتضر في الطريق ، فقال عند الموت : اللّهمّ إنّي لم أعمل عملاً قطّ بعد شهادة أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمداً عبده ورسوله ، أحبّ إليّ من قتلي أهل المدينة ، ولا أرجى عندي في الآخرة (2) .
  وقال : اللّهمّ إن عذّبتني بعد طاعتي لخليفتك يزيد بن معاوية ، وقتل أهل الحرّة ، فإنّي إذاً لشقي (3) .
  43 ـ ثمّ قدم الحصين بن نمير مكة ، فناوش ابن الزبير الحرب في الحرم ، ورماه بالنيران حتى أحرق الكعبة . وكان عبد الله بن عمير الليثي قاضي ابن الزبير إذا تواقف الفريقان قام على الكعبة ، فنادى بأعلى صوته : يا أهل الشام ، هذا حرم الله الذي كان مأمناً في الجاهلية ، يأمن فيه الطير والصيد ، فاتّقوا الله يا أهل الشام .
  فيصيح الشاميون : الطاعة الطاعة ، الكرّة الكرّة ، الرواح قبل المساء .
  فلم يزل على ذلك حتى أُحرقت الكعبة ، فقال أصحاب ابن الزبير : نطفي النار ، فمنعهم وأراد أن يغضب الناس للكعبة ، فقال بعض أهل الشام : إنّ الحرمة والطاعة اجتمعت ، فغلبت الطاعة الحرمة (4) .

---------------------------
(1) تاريخ الطبري 4 / 376 أحداث سنة ثلاث وستين من الهجرة .
(2) تاريخ الطبري 4 / 384 أحداث سنة أربع وستين من الهجرة ، واللفظ له ، الكامل في التاريخ 4 / 123 أحداث سنة أربع وستين من الهجرة ، ذكر مسير مسلم لحصار ابن الزبير وموته ، البداية والنهاية 8 / 246 أحداث سنة أربع وستين من الهجرة ، وقريب منه في الفتوح ـ لابن أعثم 5 / 185 ذكر حرّة واقم وما قُتل فيها من المسلمين .
(3) تاريخ اليعقوبي 2 / 251 مقتل الحسين بن علي .
(4) تاريخ اليعقوبي 2 / 251 ـ 252 مقتل الحسين بن علي .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 201 _

  44 ـ وقال ابن أبي الحديد : قال المسعودي : وكان عروة بن الزبير يعذر أخاه عبد الله في حصر بني هاشم في الشعب وجمعه الحطب ليحرقهم ، ويقول : إنّما أراد بذلك ألاّ تنتشر الكلمة ، ولا يختلف المسلمون ، وأن يدخلوا في الطاعة ، فتكون الكلمة واحدة ، كما فعل عمر بن الخطاب ببني هاشم لمّا تأخّروا عن بيعة أبي بكر ، فإنّه أحضر الحطب ، ليحرق عليهم الدار (1) .
  45 ـ ولمّا اختلف أهل الشام بعد معاوية بن يزيد في البيعة لابن الزبير ، أو

---------------------------
(1) شرح نهج البلاغة 20 / 147.
ويبدو طروء التحريف والتشذيب على هذا الموضوع من كتاب مروج الذهب ، ففي طبعة بولاق في مصر عام 1283 هـ ، 2 / 79 ، والطبعة الأولى من المطبعة الأزهرية المصرية عام 1303 هـ الذي بهامشه تاريخ روضة المناظر في أخبار الأوائل والأواخر ـ للعلامة ابن شحنة 2 / 72 ، والطبعة التي بهامش الكامل 6 / 160 ـ 161 هكذا : وحدّث النوفلي في كتابه في الأخبار عن ابن عائشة ، عن أبيه ، عن حمّاد بن سلمة قال : كان عروة بن الزبير يعذر أخاه إذا جرى ذكر بني هاشم ، وحصره إيّاهم في الشعب ، وجمعه الحطب لتحريقهم ، ويقول : إنّما أراد بذلك إرهابهم ، ليدخلوا في طاعته ، كما أرهب بنو هاشم وجمع لهم الحطب لإحراقهم ، إذ هم أبوا البيعة فيما سلف ، وهذا خبر لا يحتمل ذكره هنا ، وقد أتينا على ذكره في كتابنا في مناقب أهل البيت وأخبارهم المترجم بكتاب حدائق الأذهان .
بينما الموجود في الطبعة الثانية من مطبعة دار السعادة بمصر عام 1367 هـ / 1948 م تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد 3 / 86 ، والطبعة الأولى من مطبعة دار الفكر ببيروت عام 1421 هـ /2000 م تحقيق وتعليق سعيد محمد اللحام 3 / 87 : وحدّث النوفلي في كتابه في الأخبار عن ابن عائشة ، عن أبيه ، عن حمّاد بن سلمة قال : كان عروة بن الزبير يعذر أخاه إذا جرى ذكر بني هاشم وحصره إيّاهم في الشعب وجمعه لهم الحطب لتحريقهم ويقول : إنّما أراد بذلك إرهابهم ، ليدخلوا في طاعته ، إذ هم أبوا البيعة فيما سلف ، وهذا خبر لا يحتمل ذكره هنا ، وقد أتينا على ذكره في كتابنا في مناقب أهل البيت وأخبارهم المترجم بكتاب حدائق الأذهان .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 202 _

  لبني أُميّة خطب روح بن زنباع وجاء في جملة خطبته : وأمّا ما يذكر الناس من عبد الله بن الزبير ، ويدعون إليه من أمره ، فهو والله كما يذكرون بأنّه لابن الزبير حواري رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وابن أسماء ابنة أبي بكر الصديق ذات النطاقين ، وهو بعد كما تذكرون في قدمه وفضله ، ولكنّ ابن الزبير منافق ، قد خلع خليفتين يزيد وابنه معاوية بن يزيد ، وسفك الدماء ، وشقّ عصا المسلمين ، وليس صاحب أمر أُمّة محمد (صلّى الله عليه وآله) المنافق ، وأمّا مروان بن الحكم فوالله ما كان في الإسلام صدع قطّ إلاّ كان مروان ممّن يشعب ذلك الصدع ، وهو الذي قاتل عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان يوم الدار ، والذي قاتل علي بن أبي طالب يوم الجمل ... (1) .
  46 ـ ولمّا انشقّ عمرو بن سعيد الأشدق عن عبد الملك بن مروان واستولى على دمشق صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : أيّها الناس ، إنّه لم يقم أحد من قريش قبلي على هذا المنبر إلاّ زعم أنّ له جنة ونار ، يدخل الجنّة مَنْ أطاعه والنار مَنْ عصاه ، وإنّي أخبركم أنّ الجنّة والنار بيد الله ، وأنّه ليس إليّ من ذلك شيء ، غير أنّ لكم عليّ حسن المواساة والعطية (2) .
  47 ـ وقال الوليد بن عبد الملك : أيّها الناس ، عليكم بالطاعة ، ولزوم الجماعة ، فإنّ الشيطان مع الفرد ، أيّها الناس ، مَنْ أبدى لنا ذات نفسه ضربنا الذي فيه عيناه ، ومَنْ سكت مات بدائه (3) .

---------------------------
(1) تاريخ الطبري 4 / 414 أحداث سنة خمس وستين من الهجرة ، ذكر السبب في البيعة لمروان بن الحكم ، واللفظ له ، الكامل في التاريخ 4 / 184 أحداث سنة أربع وستين من الهجرة ، ذكر بيعة مروان بن الحكم ، شرح نهج البلاغة 6 / 161 .
(2) تاريخ الطبري 4 / 596 ـ 597 أحداث سنة تسع وستين من الهجرة ، واللفظ له ، تهذيب التهذيب 8 / 35 في ترجمة عمرو بن سعيد بن العاص .
(3) تاريخ الطبري 5 / 214 أحداث سنة ست وثمانين من الهجرة ، خلافة الوليد بن عبد الملك ، واللفظ له ، الكامل في التاريخ 4 / 523 أحداث سنة ست وثمانين من الهجرة ، خلافة الوليد بن عبد الملك ، البداية والنهاية 9 / 85 أحداث سنة ست وثمانين من الهجرة ، خلافة الوليد بن عبد الملك باني جامع دمشق ، تاريخ ابن خلدون 3 / 59 وفاة عبد الملك وبيعة الوليد ، تاريخ اليعقوبي 2 / 283 أيام الوليد بن عبد الملك .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 203 _

  48 ـ ولمّا حاصر الحجّاج مكة المكرّمة في قتاله لابن الزبير رُميت بالمنجنيق ، فرعدت السماء وبرقت ، فتهيّب ذلك أهل الشام ، فرفع الحجّاج بيده حجراً ووضعه في كِفّة المنجنيق ، ورمى بعضهم ، فلمّا أصبحوا جاءت صاعقة فقتلت من أصحاب المنجنيق اثني عشر رجلاً ، فانكسر أهل الشام .
  فقال الحجّاج : يا أهل الشام ، لا تنكروا ما ترون ، فإنّما هي صواعق تُهامة .
  وعظم عندهم أمر الخلافة وطاعة الخلفاء (1) .
  49 ـ وذكر الجاحظ أنّ الحجّاج قال : والله لطاعتي أوجب من طاعة الله ، لأنّ الله تعالى يقول : ( اتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) ، فجعل فيها مثنوية ، وقال : ( وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا ) ، ولم يجعل فيها مثنوية ، ولو قلت لرجل : ادخل من هذا الباب ، فلم يدخل لحلّ لي دمه (2) .
  وفي حديث الأعمش أنّ الحجّاج قال : اسمعوا وأطيعوا ، ليس فيها مثنوية لأمير المؤمنين عبد الملك ، والله ، لو أمرت الناس أن يخرجوا من باب من أبواب المسجد ، فخرجوا من باب آخر ، لحلّت لي دماؤهم وأموالهم (3) .
  50 ـ وقال أبو اليقظان : بعث الحجّاج إلى الفضيل بن بزوان العدواني ـ وكان خيرِّاً من أهل الكوفة ـ فقال : إنّي أريد أن أولّيك .
  قال : أوَ يُعفيني الأمير ؟

---------------------------
(1) أنساب الأشراف 7 / 122 أمر عبد الله بن الزبير في أيام عبد الملك ومقتله .
(2) كتاب الحيوان للجاحظ 3 / 15 علّة الحجّاج بن يوسف ، واللفظ له ، البصائر والذخائر المجلد 2 ق 1 / 230 سياسة الحجّاج ، نثر الدرّ 5 / 23 الباب الثاني ، كلام الحجّاج ، ربيع الأبرار 2 / 791 باب الطاعة لله ولرسوله ولولاة المسلمين ، التذكرة الحمدونية 1 / 340 الباب الثاني عشر ما جاء في العدل والجور .
(3) سنن أبي داود 2 / 400 كتاب السُنّة ، باب في الخلفاء ، واللفظ له ، البداية والنهاية 9 / 148 أحداث سنة خمس وتسعين من الهجرة ، ترجمة الحجّاج بن يوسف الثقفي ووفاته .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 204 _

  فأبى ، وكتب عهده ، فأخذه وخرج من عنده ، فرمى بالعهد وهرب .
  فأُخِذَ وأُتي به الحجّاج ، فقال : يا عدوّ الله .
  فقال : لست لله ولا للأمير بعدو .
  قال : ألم أكرمك ؟
  قال : بل ، أردت أن تهينني .
  قال : ألم أستعملك ؟
  قال : بل أردت أن تستعبدني .
  قال : ( إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ) ... الآية .
  قال : ما استوجبت واحدة منهنّ .
  قال : كلّ ذلك قد استوجبت بخلافك .
  وأمر رجلاً من أهل الشام أن يضرب عنقه (1) .
  51 ـ وقال ابن الكلبي : رأيت قاتل الحسين بن علي (عليهما السّلام) قد أُدخل على الحجّاج وعنده عنبسة بن سعيد ، فقال : أأنت [قتلت] حسين ؟
  قال : نعم .
  قال : كيف ؟
  قال : دسرته بالرمح دسراً ، وهبرته هبراً ، ووكلت رأسه إلى أمر غيري .
  فقال الحجّاج : والله ، لا يجتمعان في الجنة أبداً .
  فخرج أهل العراق يقولون : والله ، لا يجتمع ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقاتله في الجنة أبداً .
  وخرج أهل الشام يقولون : صدق الأمير ، لا يجتمع مَنْ شقّ عصا المسلمين وخالف أمير المؤمنين وقاتِلَه في طاعة الله في الجنة (2) .
  52 ـ وقد تقدّم في أوائل هذا المبحث كتاب الوليد بن يزيد بن عبد الملك لرعيته المتضمّن لتعظيم أمر طاعة الخلفاء ولزوم جماعتهم (3) ... إلى غير ذلك ممّا يجده المتتبّع من أجل التعرّف على نظرتهم للطاعة ولزوم الجماعة وفهمهم له من دون ملاحظة لأهلية الخليفة ، وسلوكه في نفسه ، وسيرته في المسلمين ، وعدله وجوره ، بل مع التأكيد على عدم دخلها في وجوب الطاعة والحفاظ على الجماعة .
  وقد بقيت السلطة وأتباعها يحاولون التذكير بهذه المفاهيم المشوهة

---------------------------
(1) عيون الأخبار 2 / 210 كتاب العلم والبيان ، التلطف في الكلام والجواب وحسن التعريض ، واللفظ له ، أنساب الأشراف 13 / 272 نسب عدوان .
(2) البصائر والذخائر 3 / 471 ، واللفظ له ، نثر الدرّ ـ للآبي 5 / 21 الباب الثاني ، كلام الحجّاج .
(3) تقدّم في / 168 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 205 _

  والتأكيد عليها حتى بعد أن سقطت السلطة عن الاعتبار ، وفقدت مكانتها الدينية ، نتيجة فاجعة الطفّ ومضاعفاته ، كما يظهر بأدنى ملاحظة لتاريخ المسلمين وتراثهم ، ولهم في ذلك نكات ملفتة للنظر .

تبدّل موقف العباسيين من خلافة الأمويين

  ومنها ما يأتي في أواخر المقام الثاني من محاولة المنصور العباسي ومَنْ بعده من حكّام بني العباس الاعتراف بشرعية خلافة الأمويين ، وبوجوب طاعتهم (1) تأكيداً لشرعية الخلافة بالقهر والقوّة ، ولترتّب وجوب الطاعة ولزوم الجماعة على الخلافة المذكورة .
  مع إنّ من المعلوم أنّ دولة بني العباس قامت بناءً على عدم شرعية خلافة بني أُميّة ، بل على أنّ الخلافة حق لبني هاشم ، ولا شرعية لخلافة غيرهم حتى الأوّلين ، كما يأتي بعض شواهد ذلك في أواخر المقام الثاني من المبحث الثاني إن شاء الله تعالى (2) .

أثر هذه الثقافة على العامّة

  وقد كان لهذه الثقافة تأثيرها المهم على العامّة في طاعتهم للخلفاء ، بل تقديسهم لهم ، لولا موقف المعارضة المضاد ، ويبدو ذلك بوضوح في الشام ، حيث اقتصر الأمر فيها على ثقافة السلطة ، ولم يكن فيها للمعارضة نشاط يذكر ، وقد تقدّم عرض بعض شواهد ذلك .
  وحتى في إفريقية ، فإنّها كانت مدّة طويلة معزولة لا يصل إليها نشاط المعارضة ، ولا تعرف إلاّ ثقافة السلطة .

---------------------------
(1) يأتي في / 325 .
(2) يأتي في / 323 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 206 _

أثر هذه الثقافة في إفريقية

  ومن الطريف ما رواه الطبري بسنده عن أبي حارثة وأبي عثمان في حديثهما عن فتح إفريقية في عهد عثمان ، ثمّ عن أهل إفريقية بعد الفتح ، قالا : فمازالوا من أسمع أهل البلدان وأطوعهم إلى زمان هشام بن عبد الملك ، أحسن أُمّة إسلاماً وطاعة حتى دبّ إليهم أهل العراق ، فلمّا دبّ إليهم دعاة أهل العراق واستثاروهم ، شقّوا عصاهم ، وفرّقوا بينهم إلى اليوم .
  وكان سبب تفريقهم أنّهم ردّوا على أهل الأهواء ، فقالوا : إنّا لا نخالف الأئمّة بما تجني العمّال ، ولا نحمل ذلك عليهم .
  فقالوا لهم : إنّما يعمل هؤلاء بأمر أولئك .
  فقالوا لهم : لا نقبل ذلك حتى نبورهم (1) .
  فخرج ميسرة في بضعة عشر إنساناً حتى يقدم على هشام ، فطلبوا الإذن ، فصعب عليهم .
  فأتوا الأبرش فقالوا : أبلغ أمير المؤمنين أنّ أميرنا يغزو بنا وبجنده ، فإذا أصاب نَفَلَهم دوننا ، وقال : هم أحق به ، فقلنا : هو أخلص لجهادنا ، لأنّا لا نأخذ منه شيئاً ، إن كان لنا فهم منه في حلّ ، وإن لم يكن لنا لم نُرِده .
  وقالوا : إذا حاصرنا مدينة قال : تقدّموا ، وأخّر جنده ، فقلنا : تقدّموا ، فإنّه ازدياد في الجهاد ، ومثلكم كفى إخوانه ، فوقيناهم بأنفسنا وكفيناهم .
  ثمّ إنّهم عمدوا إلى ماشيتنا فجعلوا يبقرونها عن السخال يطلبون الفراء البيض لأمير المؤمنين ، فيقتلون ألف شاة في جلد ، فقلنا : ما أيسر هذا لأمير المؤمنين ، فاحتملنا ذلك وخليناهم وذلك .
  ثمّ إنّهم سامونا أن يأخذوا كلّ جميلة من بناتنا ، فقلنا : لم نجد هذا في كتاب ولا سنة ، ونحن مسلمون .

---------------------------
(1) بارَ الرجلَ : جرّبه واختبره .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 207 _

  فأحببنا أن نعلم أعن رأي أمير المؤمنين ذلك أم لا ؟
  قال : نفعل .
  فلما طال عليهم ، ونفدت نفقاتهم ، كتبوا أسماءهم في رقاع ، ورفعوها إلى الوزراء ، وقالوا : هذه أسماؤنا وأنسابنا ، فإن سألكم أمير المؤمنين عنّا فأخبروه .
  ثمّ كان وجههم إلى إفريقية ، فخرجوا على عامل هشام فقتلوه ، واستولوا على إفريقية .
  وبلغ هشاماً الخبر ، فإذا هم النفر الذين جاء الخبر أنّهم صنعوا ما صنعوا (1) .
  وهو يكشف بوضوح عن تأثير هذه الثقافة في تشويه مفهوم وجوب الطاعة حتى يُتحمّل من أجلها مثل هذا الظلم ، كما يكشف عن استغفال الناس ـ نتيجة العوامل السابقة ـ حتى صاروا يحترمون هؤلاء الخلفاء الجبّارين ، ويعظّمونهم هذا التعظيم مع شدّة تعلّقهم بالدنيا ، وانغماسهم في الملذات بإسراف وإفساد بحيث يبلغ بهم الأمر أن يطلبوا جلد السخال البيض ولو توقف تحصيل الواحد منه على أن يبقروا بطن ألف شاة لعامّة الرعية من المسلمين .
  وبدلاً من أن يأنف هؤلاء المستغفلون أن يكون هؤلاء ولاة عليهم وأمراء للمؤمنين ، يحتملون ذلك ويخلون أمراءهم يفعلونه ، ويقولون : ما أيسر هذا لأمير المؤمنين .
  ومن الملفت للنظر أنّ الراوي لا ينعى على الخلفاء ظلمهم وظلم عمّالهم لهؤلاء ، واحتجابهم عنهم بحيث لا يتسير لهم إبلاغ ظلامتهم حتى يضطرّهم ذلك لشق العصا والخروج عن طاعتهم ، بعد أن كانوا ـ كما يقول ـ أحسن أُمّة إسلاماً وطاعة ، بل يظهر عليه الأسف لإفساد أهل العراق ودعاتهم لهؤلاء

---------------------------
(1) تاريخ الطبري 3 / 313 أحداث سنة سبع وعشرين من الهجرة ، ذكر الخبر عن فتح أفريقية وعن سبب ولاية عبد الله بن سعد بن أبي سرح مصر وعزل عثمان عمرو بن العاص عنه ، واللفظ له ، الكامل في التاريخ 3 / 92 ـ 93 أحداث سنة سبع وعشرين من الهجرة ، ذكر انتقاض افريقية وفتحها ثانية .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 208 _

  المساكين ، وحملهم على شق العصا والخروج عن الطاعة ، ممّا أدّى إلى خروجهم وخلافهم بعد ما غضوا النظر عن الظلامات الكثيرة حتى بلغ الظلم إلى أعراضهم وغصب نسائهم ، وبعد أن طال احتجاب الخليفة عنهم حتى نفدت نفقاتهم ، وكانوا قد قصدوه من تلك المسافات البعيدة ، ليرفعوا له ظلامتهم .
  هذه هي مفاهيم الخلافة والطاعة والجماعة والفتنة وشقّ العصا التي حاولت السلطات المنحرفة نشرها بين المسلمين وتثقيفهم بها .

موقف عبد الله بن عمر من الإمامة والجماعة

  وقد عُرف عن عبد الله بن عمر أنّه لا يبايع إلاّ بعد اجتماع الناس على خليفة واحد من دون نظر إلى كيفية حصول الاجتماع ، وأنّه هل حصل بطريق مشروع ، أو بطريق عدواني غير مشروع .
  وعنه أنّه قال : لا أُقاتل في الفتنة ، وأصلّي وراء مَنْ غلب (1) .
  وقال ابن حجر : وكان رأي ابن عمر ترك القتال في الفتنة ولو ظهر أنّ إحدى الطائفتين محقّة والأُخرى مبطلة (2) .
  وقال زيد بن أسلم : كان في زمان الفتنة لا يأتي أمير إلاّ صلّى خلفه ، وأدّى إليه زكاة ماله (3) .
  وروى عبد الرزاق عن عبد الله بن محرز قال : أخبرني ميمون بن مهران

---------------------------
(1) الطبقات الكبرى 4 / 149 في ترجمة عبد الله بن عمر بن الخطاب ، واللفظ له ، إرواء الغليل 2 / 304 .
(2) فتح الباري 13 / 40 ، ومثله في عمدة القاري 24 / 200 .
(3) الطبقات الكبرى 4 / 149 في ترجمة عبد الله بن عمر بن الخطاب ، واللفظ له ، البداية والنهاية 9 / 8 أحداث سنة أربع وسبعين من الهجرة ، في ترجمة عبد الله بن عمر ، إرواء الغليل 2 / 303 ـ 304 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 209 _

  قال : دخلت على ابن عمر أنا وشيخ أكبر منّي ـ قال : حسبت أنّه قال : ابن المسيّب ـ فسألته عن الصدقة أدفعها إلى الأمراء ؟
  فقال : نعم .
  قال : قلت : وإن اشتروا به الفهود والبيزان ؟
  قال : نعم .
  فقلت للشيخ حين خرجنا : تقول ما قال ابن عمر ؟
  قال : لا .
  فقلت أنا لميمون بن مهران : أتقول ما قال ابن عمر ؟   قال : لا (1) .
  وروى نحو ذلك عنه غير واحد (2) .
  وقد سبق من ابن عمر أن طلب من الإمام الحسين (عليه السّلام) وعبد الله بن الزبير أن يبايعا يزيد ولا يُفرّقا جماعة المسلمين (3) .
  وهو بذلك يُعطي الشرعية لخلافة مَنْ يغلب وإن كان ظالماً باغياً قد غلب على الإمارة بالقسر والإكراه والطرق الإجرامية المنحطّة .
  وما أكثر ما ورد في ذلك عن السلطة وأتباعها ومَنْ سار في خطّها ، وعليه جرى عملهم وسيرتهم .

الأحاديث والفتاوى في دعم هذا الاتجاه

  بل حاولوا دعم ذلك بأحاديث رواها أتباع السلطة ، لتكون ديناً يُتديّن به ، كحديث ابن عباس عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال : مَنْ رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه ، فإنّه مَنْ فارق الجماعة شبراً فمات إلاّ مات ميتة جاهلية (4) ، وغيره ،

---------------------------
(1) المصنّف ـ لعبد الرزاق 4 / 47 كتاب الزكاة ، باب موضع الصدقة ودفع الصدقة في مواضعه .
(2) راجع المصنّف ـ لعبد الرزاق 4 / 46 كتاب الزكاة ، باب موضع الصدقة ودفع الصدقة في مواضعه ، وص 50 باب لا تحل الصدقة لآل محمد (صلّى الله عليه وآله) ، والسنن الكبرى ـ للبيهقي 4 / 115 كتاب الزكاة ، باب الاختيار في دفعها إلى الولي ، والمصنّف ـ لابن أبي شيبة 3 / 47 كتاب الزكاة ، من قال تدفع الزكاة إلى السلطان ، والمجموع للنووي 6 / 164 ، ونيل الأوطار 4 / 220 ، وكتاب المسند ـ للشافعي / 94 ، وغيرها من المصادر الكثيرة .
(3) تقدّمت مصادره في / 198 .
(4) صحيح البخاري 8 / 87 كتاب الفتن ، ما جاء في قوله تعالى: ( وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّة ) ، وما كان النبي (صلّى الله عليه وآله) يحذّر من الفتن ، واللفظ له ، صحيح مسلم 6 / 21 كتاب الإمارة ، باب الأمر بلزوم الجماعة عند ظهور الفتن ، السنن الكبرى ـ للبيهقي 8 / 157 كتاب قتال أهل البغي ، باب الصبر على أذى يصيبه من جهة إمامه وإنكار المنكر بقلبه وترك الخروج عليه ، مسند أحمد 1 / 275 ، 297 مسند عبد الله بن العباس بن عبد المطلب (رضي الله تعالى عنه) ، سنن الدارمي 2 / 241 كتاب الجهاد ، باب لزوم الطاعة والجماعة ، كتاب السنة ـ لابن أبي عاصم / 510 ، مسند أبي يعلى 4 / 235 ، معرفة السنن والآثار 6 / 289 ، إرواء الغليل 8 / 105 ، وغيرها من المصادر الكثيرة جدّاً .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 210 _

  وعلى ذلك جرت فتاوى كثير من فقهاء الجمهور .
  قال الشوكاني تعقيباً على الحديث المذكور : فيه دليل على وجوب طاعة الأمراء وإن بلغوا في العسف والجور إلى ضرب الرعية وأخذ أموالهم ، فيكون هذا مخصّصاً لعموم قوله تعالى : ( مَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) ، وقوله تعالى : ( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَ ) (1) .
  وقال ابن حجر : قال ابن بطال : في الحديث حجّة في ترك الخروج على السلطان ولو جار ، وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلّب والجهاد معه ، وأنّ طاعته خير من الخروج عليه ، لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء ، وحجّتهم هذا الخبر وغيره ممّا يساعده ، ولم يستثنوا من ذلك إلاّ إذا وقع من السلطان الكفر الصريح ، فلا تجوز طاعته في ذلك ، بل تجب مجاهدته لِمَنْ قدر عليه ... (2) والحديث في ذلك طويل .

مشابهة الاتجاه المذكور للتعاليم المسيحية الحالية

  وهم يسيرون في ذلك باتجاه التعاليم المسيحية الشائعة الآن في الطاعة للحكام ، فقد جاء في العهد الجديد :

---------------------------
(1) نيل الأوطار 7 / 360 .
(2) فتح الباري 13 / 5 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 211 _

  لتخضع كلّ نفس للسلاطين الفائقة ، لأنّه ليس سلطان إلاّ من الله ، والسلاطين الكائنة هي مرتّبة من الله حتى إنّ مَنْ يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله ، والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة ، فإنّ الحكّام ليسوا خوفاً للأعمال الصالحة ، بل للشريرة (1) .

حديث أمير المؤمنين (عليه السّلام) في حقوق الوالي والرعية

  بينما نرى أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) يقول في خطبة له : (( أمّا بعد ، فقد جعل الله لي عليكم حقّاً بولاية أمركم ، ولكم عليّ من الحقّ مثل الذي عليكم ، فالحقّ أوسع الأشياء في التواصف ، وأضيقها في التناصف ، لا يجري لأحد إلاّ جرى عليه ، ولا يجري عليه إلاّ جرى له ... وأعظم ما افترض الله سبحانه من تلك الحقوق حقّ الوالي على الرعية ، وحقّ الرعية على الوالي ، فريضة فرضها الله سبحانه لكلّ على كلّ ، فجعلها نظاماً لأُلفتهم ، وعزّاً لدينهم ، فليست تصلح الرعية إلاّ بصلاح الولاة ، ولا تصلح الولاة إلاّ باستقامة الرعية ، فإذا أدّت الرعية إلى الوالي حقّه ، وأدّى الوالي إليها حقّها ، عزّ الحقّ بينهم وقامت مناهج الدين ، واعتدلت معالم العدل ... وإذا غلبت الرعية واليها ، وأجحف الوالي برعيته اختلفت هنالك الكلمة ، وظهرت معالم الجور ... )) (2) .
  ويقول في خطبة أخرى : (( أيّها الناس ، إنّ لي عليكم حقّ ، ولكم عليّ حقّ ، فأما حقّكم عليّ فالنصيحة لكم ، وتوفير فيئكم عليكم ، وتعليمكم كيلا تجهلوا ، وتأديبكم كيما تعلموا ، وأمّا حقّي عليكم فالوفاء بالبيعة ، والنصيحة في المشهد والمغيب ، والإجابة حين أدعوكم ، والطاعة حين آمركم )) (3) .

---------------------------
(1) رسالة بولس إلى أهل رومية الإصحاح الثالث عشر : 1 ـ 4 .
(2) نهج البلاغة 2 / 198 ـ 199 ، واللفظ له ، الكافي 8 / 352 .
(3) نهج البلاغة 1 / 84 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 212 _

ما تقتضيه القاعدة في البيعة

  بل من الظاهر أنّ البيعة لمّا كانت على شروط خاصّة من العمل بالكتاب والسُنّة ، والتناصح بين الوالي والرعية ونحو ذلك ، فوجوب الوفاء بها من كلّ من الطرفين إنّما يكون مع التزامهما معاً بما اتفقا عليه ، كما هو الحال في سائر العقود والعهود ، ولا منشأ لوجوب التزام أحدهما بها مع عدم التزام الآخر ، كما يحاول أتباع الانحراف في السلطة حمل الناس عليه .

ما آل إليه أمر وجوب البيعة والطاعة ولزوم الجماعة
  والحاصل : إنّ وجوب بيعة الإمام وطاعته ، ولزوم جماعته والنهي عن الخلاف والفتنة التي جعلها الله (عزّ وجلّ) وشرّعها من أجل نظم أمر الأُمّة ، واجتماعها في دعم الحقّ ، وتماسكها في وجه الباطل ، قد صارت وسيلة لدعم الباطل ، وانتهاك الحرمات العظام .
  كحرمة مكة المكرّمة ، والكعبة المعظّمة ، والمدينة المنوّرة ، ومسجد النبي (صلّى الله عليه وآله) وقبره الشريف (1) ، وبيت ابنته الصديقة (عليها السّلام) الذي هو من أفاضل البيوت التي أذن الله (عزّ وجلّ) أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه ، كما في الحديث الشريف (2) ... إلى غير ذلك من الحرّمات .
  كما صارت وسيلة للوقوف في وجه رموز الدين وذوي المقام الرفيع فيه ، والإيقاع بهم ، كأمير المؤمنين والصديقة الزهراء (صلوات الله عليهما) ، والإمام الحسين (عليه السّلام) وأهل بيته وصحبه الكرام ، والمقداد بن الأسود وأبي ذرّ (رضوان الله

---------------------------
(1) جوامع السيرة 1 / 357 ولاية يزيد ابنه ، فيض القدير 1 / 58 ، السيرة الحلبية 1 / 268 .
(2) تفسير الثعلبي 7 / 107 ، شواهد التنزيل 1 / 534 ، الدرّ المنثور 5 / 50 ، روح المعاني ـ للآلوسي 18 / 174 ، وغيرها من المصادر .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 213 _

  عليهما) ، ومحمد بن الحنفية وابن عباس وبقية بني هاشم في مكة المكرّمة ... إلى غير ذلك ممّا تقدّم التعرّض له .
  كلّ ذلك في محاولة لفرض طاعة السلطة عليهم ، ومنعهم من أداء وظيفتهم في الأمر بالمعروف وإنكار المنكر ، والوقوف في وجه الفساد ، ومحاولة الإصلاح ، والامتناع من بيعة الضلال .
  بينما نجد الإنكار لهذه المفاهيم ، والردّ عليه ومحاولة تصحيحها من الخطّ الآخر ، وفيهم أعلام الإسلام وذوو التقوى والمقام الرفيع في الدين ، وهو الحقيق بالقبول ، لانسجامه مع الفطرة ، وموافقته للأدلّة العقلية والنقلية .

اختلاف الأُمّة في الحقّ خير من اتفاقها على الباطل

  وفي الحقيقة أنّ اتفاق الأُمّة إنّما يحسن ، بل يجب ، إذا كان اتفاقاً على الحقّ ، أمّا إذا تعذّر ذلك فاختلافها في الحقّ خير من اتفاقها على الباطل ، لما في الاختلاف المذكور من التنبيه للحقّ والتذكير به والدعوة إليه ، وجعله في متناول الطالب له .
  ولو تمّ الاتفاق على الباطل لضاع الحقّ ، واختفت معالمه ، ولم يتيسّر لأحد الوصول إليه ، وفي ذلك تفويت للغرض والحكمة الداعية لتشريع الدين الحقّ ، وإرسال الأنبياء به ، وجهاد المؤمنين في سبيله ، وتضحياتهم الجسيمة من أجله ، وربما يأتي عند الكلام في نتائج فاجعة الطفّ مزيد من التوضيح لذلك .

استعانة السلطة بالمنافقين وحديثي الإسلام

  الأمر الرابع ممّا قام به الولاة في سبيل دعم سلطانهم : الاستعانة بالمنافقين وحديثي الإسلام في قيادة الجيوش ، وولاية الأمصار ، وتمكينهم من مقدّرات المسلمين ، كما تضمّنه ما تقدّم من كلام أمير المؤمنين (عليه السّلام) في أسباب اختلاف الحديث .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 214 _

  وذلك إمّا لعدم تجاوب المهاجرين الأوّلين والأنصار مع السلطة ، كما تعرّضنا لذلك بتفصيل في جواب السؤال الرابع من الجزء الثاني من كتابنا (في رحاب العقيدة) .
  وإمّا لأنّ المنافقين وحديثي الإسلام ليس لهم بأشخاصهم مكانة واحترام في نفوس عامة المسلمين ، وإنّما يستمدّون حرمتهم من ارتباطهم بالسلطة ، بما لها من نفوذ واحترام في المجتمع .
  وذلك يجعلهم في حاجة للالتزام بتعاليمه ، والطاعة العمياء له ، والحفاظ على نهجها من أجل أن تدعمهم وترفع من شأنهم ، وتمكنهم في البلاد والعباد ، فهم أرضية صالحة للولاء للسلطة ، وأداة فاعلة في تركيز ولائها في نفوس عامة المسلمين .
  مضافاً إلى أنّهم ـ نوعاً ـ يفقدون الوازع الديني الذي يمنعهم من تنفيذ تعاليم السلطة إذا انحرفت عن واقع الإسلام ، ومن تركيزها بالطرق غير المشروعة ، كالاستئثار بالمال ، وتفضيل ذوي النفوذ في العطاء ، واختلاق الأحاديث لصالحها ، كما تضمّنه كلام أمير المؤمنين (عليه السّلام) السابق .
  وقد ورد عن عمر بن الخطاب أنّه قال : نستعين بقوّة المنافق ، وإثمه عليه (1) .
  وقيل له : إنّك استعملت يزيد بن أبي سفيان ، وسعيد بن العاص ، ومعاوية ، وفلاناً وفلاناً من المؤلّفة قلوبهم من الطلقاء وأبناء الطلقاء ، وتركت أن تستعمل عليّاً والعباس والزبير وطلحة ؟
  فقال : أمّا علي فأنبه من ذلك ، وأمّا هؤلاء النفر من قريش فإنّي أخاف أن ينتشروا في البلاد ، فيكثروا فيها الفساد (2) .

---------------------------
(1) المصنّف ـ لابن أبي شيبة 7 / 269 كتاب الأمراء ، ما ذكر من حديث الأمراء والدخول عليهم ، واللفظ له ، السنن الكبرى ـ للبيهقي 9 / 36 كتاب السير ، باب من ليس للإمام أن يغزو به بحال ، كنز العمّال 4 / 614 ح 11775 ، وقريب منه في كنز العمّال 5 / 771 ح 14338 .
(2) شرح نهج البلاغة 9 / 29 ـ 30 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 215 _

السلطة تمكّن للأمويين وخصوصاً معاوية

  وإنّ ممّا يُلفت النظر ويدعو للتساؤل والعجب تمكين السلطة في الصدر الأوّل للأمويين من مقدّرات المسلمين وخصوصاً معاوية .
  فقد كان عمر بن الخطاب يحاسب جميع ولاته سوى معاوية ، حيث كان يقول له : لا آمرك ولا أنهاك (1) .
  وكان يغضّ الطرف عنه وينهى عن ذمّه ، ويقول : دعونا من ذمّ فتى قريش (2) .
  ويقول عنه أيضاً : هذا كسرى العرب (3) .
  ويا ترى هل جاء الإسلام ليبدل كسرى فارس بكسرى العرب ؟! وهل إنّ ذلك يتناسب مع ما يُنسب لعمر من خشونة العيش والتركيز على محاسبة العمّال ومنعهم من التوسّع والترف ؟!
  ويزيد العجب والتساؤل إذا صحّ عن عمر أنّه كان يتوقّع من معاوية الطمع وتحيّن الفرصة للاستيلاء على الخلافة ، فقد ورد عنه أنّه حذّر أهل الشورى منه ، وقال : إيّاكم والفرقة بعدي ، فإن فعلتم فاعلموا أنّ معاوية

---------------------------
(1) الاستيعاب 3 / 1417 في ترجمة معاوية بن أبي سفيان ، تاريخ دمشق 59 / 112 ، 113 ، 114 في ترجمة معاوية بن صخر أبي سفيان ، سير أعلام النبلاء 3 / 133 في ترجمة معاوية بن أبي سفيان ، البداية والنهاية 8 / 133 أحداث سنة ستين من الهجرة النبوية ، ترجمة معاوية ، شرح نهج البلاغة 8 / 300 ، وغيرها من المصادر .
(2) الاستيعاب 3 / 1418 في ترجمة معاوية بن أبي سفيان ، تاريخ دمشق 59 / 112 في ترجمة معاوية بن صخر أبي سفيان .
(3) الاستيعاب 3 / 1417 في ترجمة معاوية بن أبي سفيان ، أسد الغابة 4 / 386 ، في ترجمة معاوية بن صخر بن حرب ، الإصابة 6 / 121 في ترجمة معاوية بن أبي سفيان ، سير أعلام النبلاء 3 / 134 في ترجمة معاوية بن أبي سفيان ، تاريخ دمشق 59 / 114 ، 115 في ترجمة معاوية بن صخر أبي سفيان ، البداية والنهاية 8 / 134 أحداث سنة ستين من الهجرة النبوية ، ترجمة معاوية ، أنساب الأشراف 5 / 155 في ترجمة معاوية بن أبي سفيان ، وغيرها من المصادر .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 216 _

  بالشام ، فإذا وكلتم إلى رأيكم عرف كيف يستبزّها منكم (1) .
  بل ورد عنه أنّه كان يتوقّع من بني أُميّة عامّة أن يكيدوا للإسلام ، فعن المغيرة بن شعبة أنّه قال : قال لي عمر يوماً : يا مغيرة ، هل أبصرت بهذه عينك العوراء منذ أُصيبت ؟
  قلت : لا .
  قال : أما والله ليُعوِرنّ بنو أُميّة الإسلام كما أعورت عينك هذه ، ثمّ ليعمينّه حتى لا يدري أين يذهب ولا أين يجيء ... (2) .

ظهور الاستهتار من المنافقين

  وعلى كلّ حال يبدو أنّ ظهور المنافقين وحديثي الإسلام في الساحة ، وفسح المجال لهم حملهم على الاستهتار ، وجرّأهم على أن يبوحوا بما في نفوسهم ، ويجهروا به من دون أن يراقبوا أحداً ، أو يخافوا مغبّة ذلك بنحو قد يؤدّي إلى تشوّه المفاهيم المتداولة بين عامّة المسلمين .
  1 ـ فعن عائشة أنّه لمّا توفّي النبي (صلّى الله عليه وآله) اشرأب النفاق بالمدينة (3) .
  2 ـ وفي حديث حذيفة : إنّ المنافقين اليوم شرّ منهم على عهد النبي (صلّى الله عليه وآله)

---------------------------
(1) الإصابة 6 / 122 في ترجمة معاوية بن أبي سفيان ، تاريخ دمشق 59 / 124 في ترجمة معاوية بن صخر أبي سفيان ، البداية والنهاية 8 / 136 أحداث سنة ستين من الهجرة النبوية ، ترجمة معاوية ، وغيرها من المصادر .
(2) شرح نهج البلاغة 12 / 82 .
(3) السنن الكبرى ـ للبيهقي 8 / 199 كتاب المرتد ، باب ما يحرم به الدم من الإسلام زنديقاً كان أو غيره ، معرفة السنن والآثار 6 / 304 ، المصنّف ـ لابن أبي شيبة 8 / 574 كتاب المغازي ، ما جاء في خلافة عمر بن الخطاب ، بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث / 291 ، أمالي المحاملي / 140 ، تاريخ خليفة بن خياط / 65 الردّة ، تاريخ دمشق 30 / 311 ، 312 ، 314 ، 315 في ترجمة أبي بكر الصديق ، فتوح البلدان 1 / 114 خبر ردة العرب في خلافة أبي بكر الصديق ، بلاغات النساء / 6 ـ 7 كلام عائشة وخطبها ، تاريخ الإسلام 3 / 28 أحداث سنة إحدى عشر من الهجرة ، خبر الردّة ، وغيرها من المصادر الكثيرة .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 217 _

  كانوا يومئذ يسرون ، واليوم يجهرون (1) .
  3 ـ وعن أبي وائل عن حذيفة قال : قلت : يا أبا عبد الله ، النفاق اليوم أكثر أم على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ؟
  قال : فضرب بيده على جبهته وقال : أوه ! وهو اليوم ظاهر ، إنّهم كانوا يستخفونه على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) (2) .
  وفي حديث آخر عن أبي وائل أنّ حذيفة قال : بل هم اليوم أكثر ؛ لأنّه كان يومئذ يستسرّونه ، واليوم يستعلنونه (3) .
  4 ـ وفي حديث آخر عن حذيفة أنّه قال : إن كان الرجل ليتكلّم بالكلمة على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فيصير منافقاً ، وإنّي لأسمعها من أحدكم في المقعد الواحد أربع مرّات ... (4) .
  5 ـ وعنه أنّه قال : إنّكم اليوم معشر العرب لتأتون أموراً إنّها لفي عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) النفاق على وجهه (5) .
  6 ـ وعنه أيضاً أنّه قال : إنّما كان النفاق على عهد النبي (صلّى الله عليه وآله) ، فأمّا اليوم

---------------------------
(1) صحيح البخاري 8 / 100 كتاب الفتن : باب إذا قال عند قوم شيئاً ثمّ خرج فقال بخلافه ، واللفظ له ، السنن الكبرى ـ للبيهقي 8 / 200 كتاب المرتد ، باب قتل مَنْ ارتدّ عن الإسلام ، المحلّى 11 / 225 ، وغيرها من المصادر .
(2) البحر الزخار المعروف بمسند البزار 7 / 303 ح 2900 مسند حذيفة بن اليمان (رضي الله عنهم) ، واللفظ له ، فتح الباري 13 / 64 .
(3) السنن الكبرى ـ للنسائي 6 / 491 كتاب التفسير ، سورة المنافقين .
(4) مسند أحمد 5 / 390 حديث حذيفة بن اليمان عن النبي (صلّى الله عليه وآله) ، واللفظ له ، المصنّف ـ لابن أبي شيبة 8 / 609 كتاب الفتن ، من كره الخروج في الفتنة وتعوّذ عنها ، مجمع الزوائد 10 / 297 كتاب الزهد ، باب في ما يحتقره الإنسان من الكلام ، كتاب الزهد ـ لابن حنبل / 43 ، حلية الأولياء 1 / 279 في ترجمة حذيفة بن اليمان ، تفسير ابن كثير 2 / 312 ، كنز العمّال 3 / 686 ح 8461 .
(5) مسند أحمد 5 / 391 حديث حذيفة بن اليمان عن النبي (صلّى الله عليه وآله) ، واللفظ له ، مجمع الزوائد 10 / 64 كتاب المناقب ، باب ما جاء في الكوفة .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 218 _

  فإنّما هو الكفر بعد الإيمان (1) .
  7 ـ وقد مرّ أبو سفيان بقبر شهيد واقعة أُحد أسد الله ورسوله حمزة بن عبد المطلب (رضي الله عنه) فضربه برجله ، وقال : يا أبا عمارة ، إنّ الأمر الذي اجتلدنا عليه بالسيف أمسى في يد غلماننا اليوم يتلعّبون به (2) .
  8ـ وكان يقول : اللّهمّ اجعل هذا الأمر أمر جاهلية ، والملك ملك غاصبية ، واجعل أوتاد الأرض لبني أُميّة (3) .
  9ـ وعن الحسن أنّ أبا سفيان دخل على عثمان حين صارت الخلافة إليه ، فقال : قد صارت إليك بعد تيم وعدي ، فأدرها كالكرة واجعل أوتادها بني أُميّة ، فإنّما هو الملك ، ولا أدري ما جنة ولا نار .
  فصاح به عثمان : قم عنّي ، فعل الله بك وفعل (4) .
  قال ابن عبد البر : وله أخبار من نحو هذا ردية ، ذكرها أهل الأخبار ، ولم أذكرها (5) .
  وإذا كان عثمان قد صاح به في هذه الواقعة فهو ـ إن صحّ ـ لا يزيد على ردّ فعل مؤقّت من دون أن يؤثّر على علاقته به وبأولاده ، ولا يمنع من تقريبهم وتمكينهم من مقدّرات الإسلام والمسلمين .

---------------------------
(1) صحيح البخاري 8 / 100 كتاب الفتن ، باب إذا قال عند قوم شيئاً ثمّ خرج فقال بخلافه ، واللفظ له ، تفسير الطبري 18 / 213 ، الدرّ المنثور 5 / 55 ، تفسير القرطبي 8 / 214 ، وغيرها من المصادر .
(2) شرح نهج البلاغة 16 / 136 .
(3) تاريخ دمشق 23 / 471 في ترجمة صخر بن حرب بن أُميّة .
(4) الاستيعاب 4 / 1679 في ترجمة أبي سفيان صخر بن حرب ، واللفظ له ، النصائح الكافية / 110 ، وقريب منه في تاريخ الطبري 8 / 185 أحداث سنة 284 هـ ، ومروج الذهب 2 / 341 ذكر خلافة عثمان ، قبل حديثه عن الثورة على عثمان ، وأنساب الأشراف 5 / 19 في ترجمة أبي سفيان ، وتاريخ دمشق 23 / 471 في ترجمة صخر بن حرب بن أمية ، وشرح نهج البلاغة 2 / 45 ، 9 / 53 ـ 54 ، وسبل الهدى والرشاد 10 / 91 ، وغيرها من المصادر .
(5) الاستيعاب 4 / 1679 في ترجمة أبي سفيان صخر بن حرب .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 219 _

  10 ـ وباع معاوية سقاية من ذهب أو من ورق بأكثر من وزنه ، فقال له أبو الدرداء : سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ينهى عن مثل هذا إلاّ مثلاً بمثل .
  فقال معاوية : ما أرى بهذا بأساً .
  فقال أبو الدرداء : مَنْ يعذرني من معاوية ؟! أُخبره عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، ويخبرني عن رأيه ، لا أساكنك بأرض أنت بها .
  ثمّ قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) فذكر له ذلك ، فكتب عمر إلى معاوية أن لا يبيع ذلك إلاّ مثلاً بمثل ، وزناً بوزن (1) .
  11 ـ كما باع معاوية الخمر (2) .
  12 ـ وباع سمرة بن جندب الخمر أيضاً ، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب ، فقال : قاتل الله سمرة ! ألم يعلم أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال : (( لعن الله اليهود ، حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها )) (3) .

---------------------------
(1) السنن الكبرى ـ للبيهقي 5 / 280 كتاب البيوع ، باب من قال الربا في الزيادة ، واللفظ له ، موطأ مالك 2 / 634 كتاب البيوع ، باب بيع الذهب بالفضة تبراً وعيناً ، المجموع 10 / 30 ، الاستذكار ـ لابن عبد البر 6 / 347 ، 354 كتاب البيوع ، باب بيع الذهب بالفضة تبراً وعيناً ، أضواء البيان 1 / 180 ، وغيرها من المصادر .
(2) الرياض النضرة 2 / 183 الباب الثالث في مناقب أمير المؤمنين عثمان بن عفان الفصل الحادي عشر ، ذكر ما نقم على عثمان مفصلاً والاعتذار عنه بحسب الإمكان ، في مقتله وما يتعلّق به ، الأوائل ـ للعسكري / 130 أوّل ما وقع الاختلاف من الأُمّة فخطّأ بعضهم بعضاً حين نقموا على عثمان أشياء نحن ذاكروه .
وقد استبدل في بعض المصادر اسم معاوية بفلان راجع تاريخ دمشق 26 / 197 في ترجمة عبادة بن الصامت ، وسير أعلام النبلاء 2 / 10 في ترجمة عبادة بن الصامت ، ومسند الشاشي 3 / 451 ح 1196 ما روى أبو الوليد عبادة بن الصامت ، في ما رواه عبيد بن رفاعة عن عبادة بن الصامت .
(3) صحيح مسلم 5 / 41 كتاب البيوع ، باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام ، واللفظ له ، مسند أحمد 1 / 25 مسند عمر بن الخطاب ، السنن الكبرى ـ للبيهقي 6 / 12 كتاب البيوع ، باب تحريم التجارة في الخمر ، السنن الكبرى ـ للنسائي 3 / 87 كتاب الفروع والعتيرة ، النهي عن الانتفاع بما حرم الله (عزّ وجلّ) ، 6 / 342 كتاب التفسير ، تفسير سورة الأنعام ، قوله تعالى : ( وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَ ... ) ، سنن الدارمي 2 / 115 كتاب الأشربة ، باب في التغليظ لِمَنْ شرب الخمر ، سنن ابن ماجة 2 / 1122 كتاب الأشربة ، باب التجارة في الخمر ، صحيح ابن حبان 14 / 146 كتاب التاريخ ، ذكر لعن المصطفى (صلّى الله عليه وآله) اليهود باستعمالهم هذا الفعل ، المصنّف ـ لعبد الرزاق 6 / 75 بيع الخمر ، و 8 / 195 كتاب البيوع ، باب بيع الخمر ، مسند أبي يعلى 1 / 178 مسند عمر بن الخطاب ، مسند الحميدي 1 / 9 ، وغيرها من المصادر الكثيرة جدّاً ، وروي في صحيح البخاري 3 / 40 كتاب البيوع ، باب كم يجوز الخيار ، و 4 / 145 كتاب بدء الخلق ، إلاّ إنّ فيه بدل (سمرة) (فلان) .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 220 _

  13 ـ وروى عائذ بن ربيعة حديث وفد بني نمير على النبي (صلّى الله عليه وآله) ، وقال في جملته : ثمّ دعا شريح واستعمله على قومه ، ثمّ أمره أن يصدقهم ويزكيهم ... .
  قال : ولم يزل شريح عامل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على قومه ، وعامل أبي بكر ، فلمّا قام عمر أتاه بكتاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فأخذه فوضعه تحت قدمه ، وقال : لا ، ما هو إلاّ مُلك انصرف (1) ... إلى غير ذلك ، وما رواه الشيعة من ذلك كثير .
  وذلك يتناسب مع ما صدر من كثير منهم من التحريف في الدين ، والمواقف المشينة والأفعال الشنيعة التي تضمّنتها كتب الحديث والتاريخ والسيرة ممّا لا يسعنا استقصاؤه ، وربما يأتي في حديثنا هذا الإشارة لبعضه .

موقف أُبي بن كعب وموته

  ولعلّه لذا ضاقت الأمور بأُبي بن كعب ، ففي حديث قيس بن عباد عنه قال : ثمّ استقبل القبلة ، فقال : هلك أهل العقد ـ ثلاثاً ـ وربّ الكعبة ، ثمّ قال : والله ما عليهم آسى ، ولكنّي آسى على ما أضلّوا .
  قال : قلت : مَنْ تعني بهذا ؟
  قال : الأُمراء (2) .

---------------------------
(1) تاريخ المدينة 2 / 596 .
(2) المستدرك على الصحيحين 1 / 214 كتاب الصلاة ، ومن كتاب الإمامة وصلاة الجماعة ، واللفظ له ، صحيح ابن خزيمة 3 / 33 كتاب الصلاة ، باب ذكر البيان إنّ أولي الأحلام والنهي أحق بالصف الأوّل ، إذ النبي أمر بأن يلوه ، الأحاديث المختارة 4 / 29 ـ 30 ما رواه قيس بن عباد البصري أبو عبد الله عن أبي بن كعب (رضي الله عنه) ، موارد الظمآن 2 / 95 كتاب الصلاة ، باب في مَنْ يلي الإمام ، وغيرها من المصادر .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 221 _

  وقريب منه حديثه الآخر ، لكن فيه : قلت : يا أبا يعقوب ، ما يعني به أهل العقد ؟
  قال : الأُمراء (1) .
  وقريب منهما أحاديث له أُخر (2) .
  ومثله ما عن الحسن قال : قال حذيفة : هلك أصحاب العقد وربّ الكعبة ، والله ما عليهم آسى ، ولكن على مَنْ يهلكون من أصحاب محمد (صلّى الله عليه وآله) ، وسيعلم الغالبون العقد خطّ [حظ ، صح] مَنْ ينقصون (3) .
  بل يبدو أنّه ضاق صدر أُبي بن كعب فأراد أن يجهر بالحقيقة وإن تعرّض للخطر ، ففي حديث جندب بن عبد الله البجلي عنه قال : فسمعته يقول : هلك أصحاب العقدة وربّ الكعبة ، ولا آسى عليهم ، أحسبه قال مراراً ... ثمّ قال : اللّهمّ إنّي أعاهدك لئن أبقيتني إلى يوم الجمعة لأتكلّمنّ بما سمعت من رسول الله ، لا أخاف فيه لومة لائم ... (4) .
  وفي حديث عتي بن ضمرة عن أبي أيضاً : فقال : لئن عشت إلى هذه الجمعة لأقولنّ فيها قولاً لا أُبالي استحييتموني عليه أو قتلتموني ... (5) .

---------------------------
(1) السنن الكبرى ـ للنسائي 1 / 287 كتاب الإمامة والجماعة ، من يلي الإمام ثمّ الذي يليه .
(2) مسند أحمد 5 / 140 حديث قيس بن عباد عن أبي بن كعب (رضي الله عنه) ، شعب الإيمان 6 / 15 ، مسند ابن الجعد / 197 ، حلية الأولياء 1 / 252 في ترجمة أبي بن كعب ، تاريخ دمشق 49 / 436 في ترجمة قيس بن عباد .
(3) المصنّف ـ لعبد الرزاق 11 / 322 باب الإمام راعٍ .
(4) الطبقات الكبرى 3 / 501 في ترجمة أبي بن كعب ، واللفظ له ، الأحاديث المختارة 3 / 346 ـ 347 ما رواه جندب أظنه ابن عبد الله بن سفيان ... عن أبي بن كعب (رضي الله عنه) ، تاريخ دمشق 7 / 341 في ترجمة أبي بن كعب ، وغيرها من المصادر .
(5) الطبقات الكبرى 3 / 500 ـ 501 في ترجمة أبي بن كعب ، واللفظ له ، تاريخ دمشق 7 / 340 في ترجمة أبي بن كعب ، وغيرها من المصادر ، تهذيب الكمال 2 / 270 في ترجمة أبي بن كعب ، سير أعلام النبلاء 1 / 399 في ترجمة أبي بن كعب ، وغيرها من المصادر .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 222 _

  لكنّه لم يبقَ للجمعة ، بل مات يوم الخميس أو يوم الجمعة ، كما في تتمّة حديثي جندب بن عبد الله وعتي بن ضمرة المتقدّمين .
  وعلم الله كيف مات وما سبب موته ؟! إذ يبدو أنّ الوضع كان حرج خصوصاً في عهد عمر ، كما يناسبه ما تقدّم في كلام أمير المؤمنين (عليه السّلام) وعثمان بن عفّان وطلحة بن عبيد الله وغيرهم عنه ، والنظر في تاريخه وسيرته .
  حتى إنّ السيد المرتضى (قدّس سرّه) حينما ذكر أنّ غرض عمر من تدبير الشورى بالوجه المعروف هو التحايل لصرف الخلافة عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، تجنّباً عن محذور التصريح بصرفها عنه (عليه السّلام) ، حاول ابن أبي الحديد الردّ عليه ، فقال : فقد قلنا في جوابه ما كفى ، وبيّنا أنّ عمر لو أراد ما ذكر لصرَفَ الأمر عمّن يريد صرفه عنه ، ونصَّ على مَنْ يريد إيصال الأمر إليه ولم يبالِ بأحد ، فقد عرف الناس كلّهم كيف كانت هيبته وسطوته وطاعة الرعية له حتى إنّ المسلمين أطاعوه أعظم من طاعتهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في حياته ، ونفوذ أمره فيهم أعظم من نفوذ أمره (عليه السّلام) ، فمَنْ ذا الذي كان يجسر أو يقدر أن يراجعه في نصّه ، أو يرادّه ، أو يلفظ ـ عنده أو غائباً عنه ـ بكلمة تنافي مراده ؟! ... فلقد كان أبو بكر وهو خليفة يهابه وهو رعية وسوقة بين يديه ، وكلّ أفاضل الصحابة كان يهابه وهو بعد لم يلِ الخلافة ... فمَنْ كانت هذه حاله وهو رعية وسوقة فكيف يكون وهو خليفة قد ملك مشارق الأرض ومغاربها ، وخطب له على مئة ألف منبر ؟! ... (1) .

تبرير السلطة بعض مواقفها بالقضاء والقدر

  وزاد في تعقّد الأمر محاولة السلطة وأتباعها الاعتذار عن بعض مواقفهم

---------------------------
(1) شرح نهج البلاغة 12 / 280 ـ 281 .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 223 _

  الخاطئة وتبريرها بالقضاء والقدر ، وكأنّه قضاء قهري يكفي في العذر ورفع المسؤولية .
  فعن ابن عباس في حديث له مع عمر عندما خرج إلى الشام أنّه قال : فقال لي : يابن عباس ، أشكو إليك ابن عمّك ، سألته أن يخرج معي فلم يفعل ، ولم أزل أراه واجداً ، فيم تظنّ موجدته ؟
  قلت : يا أمير المؤمنين ، إنّك لتعلم .
  قال : أظنّه لا يزال كئيباً لفوت الخلافة .
  قلت : هو ذاك ، إنّه يزعم أنّ رسول الله أراد الأمر له .
  فقال : يابن عباس ، وأراد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الأمر له فكان ماذا إذا لم يُرد الله تعالى ذلك ؟! إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أراد أمراً ، وأراد الله غيره فنفذ مراد الله تعالى ، ولم ينفذ مراد رسوله ، أوَ كلّما أراد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان ؟! ... (1) .
  وقال الطبري في الحديث عن مقتل عمر والشورى : فخرجوا ثمّ راحوا ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ، لو عهدت إلينا عهداً .
  فقال : قد كنت أجمعت بعد مقالتي لكم أن أنظر فأولّي رجلاً أمركم ، هو أحراكم أن يحملكم على الحقّ ـ وأشار إلى علي ـ ورهقتني غشية ، فرأيت رجلاً يدخل جنّة قد غرسها ، فجعل يقطف كلّ غضّة ويانعة فيضمّها إليه ويصيّرها تحته ، فعلمت أنّ الله غالب على أمره ومتوفٍّ عمر ، فما أريد أن أتحمّلها حيّاً وميّتاً ، عليكم هؤلاء الرهط ... .
  ثمّ ذكر تدبير عمر في الشورى بما هو معروف مشهور (2) .
  فانظر إليه كيف جعل رؤياه مطابقة لقضاء الله تعالى وقدره ، ومبرّراً لتركه في اختيار مَنْ هو أحرى أن يحملهم على الحقّ وتدبير أمر الشورى ، مع إنّ من المظنون ـ إن لم يكن من المعلوم ـ أنّه يؤدّي إلى خلافة عثمان الذي تفرّس فيه أن يلي الخلافة ، فيحمل بني أُميّة وبني أبي معيط على رقاب الناس (3) .

---------------------------
(1) شرح نهج البلاغة 12 / 78 ـ 79 .
(2) تاريخ الطبري 3 / 293 أحداث سنة ثلاث وعشرين من الهجرة ، قصّة الشورى .
(3) الاستيعاب 3 / 1119 في ترجمة علي بن أبي طالب (ع) ، تاريخ دمشق 44 / 439 في ترجمة عمر بن الخطاب ، تاريخ المدينة 3 / 881 ، 883 ، 884 ، تاريخ اليعقوبي 2 / 158 أيام عمر بن الخطاب ، كنز العمّال 5 / 738 ح 14262 ، وص 741 ح 14266 ، شرح نهج البلاغة 1 / 186 ، بحار الأنوار 6 / 326 ، و 1 2 / 52 ، 259 ، و 31 / 394 ، وغيرها من المصادر .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 224 _

  وقد استمرت السلطة على تأكيد هذا المفهوم حتى تبلورت عقيدة الجبر وظهرت في جمهور المسلمين ، والحديث في ذلك طويل لا يسعنا استقصاؤه .

قيام كيان الإسلام العام على الطاعة العمياء للسلطة

  إذا عرفت هذا فمن الطبيعي أن ينشأ المسلمون ـ بعد تلك الفتوح الكبرى ، وانتشار الإسلام الواسع ، ودخول مَنْ لا عهد له بالنبي (صلّى الله عليه وآله) وتعاليمه ـ على ذلك ، ويبتني كيانهم العام عليه .
  وكان نتيجته تشوّه المفاهيم الإسلامية التي تشيع عند عامّة المسلمين ، واحترام السلطة كيف كانت ، وتحكّم غير المعصوم في الدين ، يحلّ ما يشاء ، ويحرّم ما يشاء ، ويبتدع ما يشاء من دون أن يحيط بأحكام الدين ويعرفها معرفة كاملة ، ولا أن يلتزم بحرفية التشريع ويتقيّد به .
  والمفروض على المسلمين القبول منه ، والطاعة له ، واللزوم لجماعته ، والرضا بما قضى الله (عزّ وجلّ) من دون اعتراض على الحاكم .
  وفي حديث بين عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس حول مَنْ يستخلفه بعده جاء فيه : يابن عباس ، أترى صاحبكم لها موضعاً ؟
  قال : فقلت : وأين يبتعد من ذلك مع فضله وسابقته وقرابته وعلمه ؟!
  قال : هو والله كما ذكرت ، ولو وليهم لحملهم على منهج الطريق ، فأخذ المحجّة الواضحة ... والله يابن عباس ، إنّ عليّاً ابن عمّك لأحقّ الناس به ، ولكنّ قريشاً لا تحتمله ، ولئن وليهم ليأخذنهم بمرّ الحقّ لا يجدون عنده رخصة ، ولئن فعل لينكثنّ بيعته ثمّ ليتحاربَنّ (1) .

---------------------------
(1) تاريخ اليعقوبي 2 / 158 ـ 159 أيام عمر بن الخطاب .

فاجعة الطف أبعادها ـ ثمراتها ـ توقيتها _ 225 _

  حيث يبدو من ذلك بوضوح أنّ اتّجاه السلطة كان نحو التحلّل من قيود الدين ، وافتعال الرخص ، وعدم الالتزام بمرّ الحقّ ، إرضاءً لقريش التي دخل أكثرها في الإسلام خوفاً أو طمعاً من دون أن يستحكم في نفوسها كعقيدة ثابتة بحيث تجري على تعاليمه وإن خالف أهواءها .

تعرّض الدين للتحريف

  وبذلك تعرّض الدين للتحريف عن جهل أو عمد كما قال أبو موسى الأشعري : لقد ذكّرنا علي بن أبي طالب صلاة كنّا نصلّيها مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إمّا نسيناه ، وإمّا تركناها عمداً ... (1) .
  وفي حديث أبي الدرداء : والله ، ما أعرف من أُمّة محمد (صلّى الله عليه وآله) شيئاً إلاّ إنّهم يصلّون جميعاً (2) .
  وفي حديث أنس قال : ما أعرف شيئاً ممّا كان على عهد النبي (صلّى الله عليه وآله) .
  قيل : الصلاة .
  قال : أليس ضيّعتم ما ضيّعتم فيها ؟ (3) ... إلى غير ذلك .
  وقد عانى الإسلام نتيجة ذلك من أمور ثلاثة :

---------------------------
(1) مسند أحمد 4 / 392 ، واللفظ له ، 400 ، 412 ، 415 حديث أبي موسى الأشعري ، المصنّف ـ لابن أبي شيبة 1 / 272 كتاب الصلوات ، مَنْ كان يتم التكبير ولا ينقصه في كلّ رفع وخفض ، علل الدارقطني 7 / 224 ، فتح الباري 2 / 224 ، عمدة القاريء 6 / 58 ـ 59 ، تفسير القرطبي 1 / 172 ، شرح معاني الآثار 1 / 221 ، التمهيد ـ لابن عبد البرج 9 / 176 ، وغيرها من المصادر الكثيرة .
(2) صحيح البخاري 1 / 159 كتاب الجماعة والإمامة ، باب فضل صلاة الجماعة ، واللفظ له ، مسند أحمد 5 / 195 باقي حديث أبي الدرداء ، شرح صحيح مسلم ـ للنووي 16 / 175 ، وغيرها من المصادر .
(3) صحيح البخاري 1 / 134 كتاب مواقيت الصلاة ، باب تضييع الصلاة عن وقته ، ونحوه في الكافي 8 / 64 .