لا يخفى أنّنا لازلنا بحاجة إلى تكريس الجهود ومضاعفتها نحو الفهم الصحيح والافهام المناسب لعقائدنا الحقّة ومفاهيمنا الرفيعة ، ممّا يستدعي الالتزام الجادّ بالبرامج والمناهج العلمية التي توجد حالة من المفاعلة الدائمة بين الاُمّة وقيمها الحقّة ، بشكل يتناسب مع لغة العصر والتطوّر التقني الحديث.
وانطلاقاً من ذلك ، فقد بادر مركز الابحاث العقائدية التابع لمكتب سماحة آية الله العظمى السيد السيستاني ـ مدّ ظلّه ـ إلى اتّخاذ منهج ينتظم على عدّة محاور بهدف طرح الفكر الاسلامي الشيعي على أوسع نطاق ممكن .
ومن هذه المحاور : عقد الندوات العقائديّة المختصّة ، باستضافة نخبة من أساتذة الحوزة العلمية ومفكّريها المرموقين ، التي تقوم نوعاً على الموضوعات الهامّة ، حيث يجري تناولها بالعرض والنقد
إمامة بقية الائمّة (عليهم السلام) _ 6 _
والتحليل وطرح الرأي الشيعي المختار فيها ، ثم يخضع ذلك الموضوع ـ بطبيعة الحال ـ للحوار المفتوح والمناقشات الحرّة لغرض الحصول على أفضل النتائج .
ولاجل تعميم الفائدة فقد أخذت هذه الندوات طريقها إلى شبكة الانترنت العالمية صوتاً وكتابةً .
كما يجري تكثيرها عبر التسجيل الصوتي والمرئي وتوزيعها على المراكز والمؤسسات العلمية والشخصيات الثقافية في شتى أرجاء العالم .
وأخيراً ، فإنّ الخطوة الثالثة تكمن في طبعها ونشرها على شكل كراريس تحت عنوان ( سلسلة الندوات العقائدية ) بعد إجراء مجموعة من الخطوات التحقيقية والفنيّة اللازمة عليها .
وهذا الكرّاس الماثل بين يدي القارئ الكريم واحدٌ من السلسلة المشار إليها .
سائلينه سبحانه وتعالى أن يناله بأحسن قبوله .
مركز الابحاث العقائدية
فارس الحسّون إمامة بقية الائمّة (عليهم السلام) _ 7 _
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين من الاولين والاخرين .
قال الله عزّوجلّ: ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ) (1) .
موضوع بحثنا في هذه الليلة إمامة بقيّة الائمّة ( عليهم السلام ) .
بعد أن فرغنا من بيان الادلّة بنحو الاختصار والايجاز من الكتاب والسنّة والعقل على إمامة أمير المؤمنين سلام الله عليه ، وبحثنا أيضاً عن أدلّة القوم على إمامة أبي بكر ، كان لابدّ من
---------------------------
(1) سورة السجدة: 24.
إمامة بقية الائمّة (عليهم السلام) _ 8 _
التعرض للبحث عن إمامة بقية الائمّة سلام الله عليهم .
القول بإمامة الحسن المجتبى بعد أمير المؤمنين ، والحسين سلام الله عليه بعد الحسن ، وعلي بن الحسين السجاد ، ومحمّد بن علي الباقر ، وجعفر بن محمّد الصادق ، وموسى بن جعفر الكاظم ، وعلي بن موسى الرضا ، ومحمّد بن علي الجواد ، وعلي بن محمّد الهادي ، والحسن بن علي العسكري ، والامام المهدي صلوات الله عليهم أجمعين .
القول بإمامة هؤلاء الائمّة هو من ضرورات مذهب الشيعة الاماميّة الاثني عشرية ، فلو أنّ أحداً يشكّك في إمامة أحدهم أو يشك يكون بذلك خارجاً عن هذا المذهب ، فالقول بإمامة الائمّة من ضروريات هذا المذهب، وهذه الطائفة تسمّى بالطائفة الاثني عشرية بهذه المناسبة ، وبعد أن كان هذا الاعتقاد من ضروريات هذا المذهب لا تبقى حاجة للبحث عن أدلة هذا الاعتقاد في داخل المذهب .
ومع ذلك فهناك كتب كثيرة ألّفها علماء الطائفة في إثبات إمامة هؤلاء الائمّة سلام الله عليهم ، عن طريق النص، وعن طريق العصمة ، وعن طريق الافضليّة .
وقد ذكرنا منذ اليوم الاوّل: أنّ طريق إثبات الامامة لامام ، إمّا
إمامة بقية الائمّة (عليهم السلام) _ 9 _
يكون بالافضليّة ، وإمّا بالنص ، وإمّا بالعصمة .
والحق إجتماع الادلّة الثلاثة في إمامة أمير المؤمنين وسائر الائمّة الطاهرين ، ولاسيّما على صعيد النصوص الواردة في إمامة الائمّة سلام الله عليهم ، فقد ثبت نصّ الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) على الحسن (عليه السلام) وهكذا على الحسين (عليه السلام) إلى آخر الائمّة ، وثبت نصّ رسول الله على إمامة كلّ هؤلاء .
والكتب المؤلّفة في خصوص النصوص كثيرة ، بإمكانكم الرجوع إلى كتاب كفاية الاثر في النص على الائمّة الاثني عشر ، وهكذا كتاب الانصاف في النصّ على الائمّة الاشراف ، وكتاب إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات ، وغير هذه الكتب المؤلّفة في هذا الباب .
وهل بالامكان إثبات إمامة بقية الائمّة على ضوء أدلّة أهل السنّة ؟ وهل يمكن أن نستند إلى كتب أهل السنّة المشهورة ورواياتهم في إثبات إمامة بقيّة الائمّة عليهم الصلاة والسلام أوْ لا ؟
التحقيق أنّنا يمكننا إثبات إمامة بقيّة الائمّة أيضاً على ضوء كتب أهل السنّة فقط ، وعن طريق النصّ والعصمة والافضليّة كلّها ، وقد تتعجّبون وتستغربون من هذا الذي أدّعيه الان، ولكن لا تستعجلوا ، وسترون أنّ أيّ باحث محقّق حرّ منصف يستمع إلى ما
إمامة بقية الائمّة (عليهم السلام) _ 10 _
أقوله في هذه الليلة ، سوف لا يمكنه أن يناقش في شيء ممّا أقوله ، اللهمّ إلاّ أنْ يتعصّب ، وليس لنا مع التعصّب والمتعصّب بحث .
إنّنا نسأل أهل السنّة ونراجع كتبهم ، ونفحص في رواياتهم ، عمّا إذا كان عندهم شيء عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في الامامة ، وعدد الائمّة بعد رسول الله، هل هناك دليل على حصر الائمّة بعد رسول الله في عدد معيّن أو لا يوجد دليل ؟ وإذا كان يوجد دليل فما هو ذلك العدد ؟ ومن هم أُولئك الائمّة الذين دلّت عليهم وعلى إمامتهم تلك الادلّة ؟
الجواب واضح تماماً ، فحديث الائمّة إثنا عشر أو الخلفاء من بعدي إثنا عشر ، هذا الحديث مقطوع الصدور ، اتفق عليه الشيخان وغيرهما من أئمّة الحديث ، وأخرجوه بطرق وأسانيد معتبرة ، ورووه عن عدة من الصحابة ، أقرأ لكم نصوصاً من هذا الحديث ، وأرجو الدقّة في ألفاظ هذه النصوص ، والتأمّل فيما تختلف فيه هذه الالفاظ ، والتوصل إلى نتيجة قطعية على ضوء الدقّة في هذه النصوص .
إمامة بقية الائمّة (عليهم السلام) _ 12 _
نصوص من حديث الائمّة اثنا عشر
أخرج أحمد في المسند عن جابر بن سمرة قال : سمعت النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : ( يكون لهذه الاُمّة اثنا عشر خليفة ) (1) .
وأخرج أحمد أيضاً عن مسروق قال : كنّا جلوساً عند عبدالله ابن مسعود وهو يقرؤنا القرآن فقال له رجل : يا أبا عبد الرحمن هل سألتم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كم تملك هذه الاُمّة من خليفة ؟ فقال : ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك ، ثمّ قال : نعم ، ولقد سألنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال : ( إثنا عشر كعدّة نقباء بني إسرائيل ) (2) ، في هذا اللفظ توجد هذه الاضافة : ( كعدّة نقباء بني إسرائيل ) .
وأخرج أحمد عن عامر بن سعد بن أبي وقّاص قال : كتبت إلى جابر بن سمرة مع غلامي : أخبرني بشيء سمعته من رسول الله، قال : فكتب إليّ: سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوم جمعة عشية رجم الاسلمي ـ يعطي علامة أنّه في ذلك اليوم المعين الذي رجم فيه فلان ـ سمعته يقول : ( لا يزال الدين قائماً حتّى تقوم الساعة أو
---------------------------
(1) مسند أحمد 5/106 .
(2) مسند أحمد 1/398 .
إمامة بقية الائمّة (عليهم السلام) _ 13 _
يكون عليكم اثنا عشر خليفة ، كلّهم من قريش ) (1) .
لاحظوا الاضافات في هذا اللفظ عن نفس جابر الراوي لهذا الحديث .
وأخرج مسلم في صحيحه عن جابر بن سمرة ، نفس هذا الشخص قال : دخلت مع أبي على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فسمعته يقول : ( إنّ هذا الامر لا ينقضي حتّى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة ) ، ثمّ تكلّم بكلام خفي عَلَيّ، فقلت لابي : ما قال ؟ قال : قال : ( كلّهم من قريش ) (2) .
في هذا اللفظ إضافة، والتفتوا إلى هذه الفوارق.
وأمّا البخاري فيروي في صحيحه عن جابر نفسه: سمعت النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول : ( إثنا عشر أميراً ) ، فقال كلمة لم أسمعها ، فقال أبي : إنّه يقول : ( كلّهم من قريش ) (3) .
وأخرج الترمذي عن جابر نفسه قال : قال رسول الله: ( يكون من بعدي اثنا عشر أميراً ) ، ثمّ تكلّم بشيء لم أفهمه فسألت الذي يليني فقال : قال : ( كلّهم من قريش ) ، قال الترمذي : هذا حديث
---------------------------
(1) مسند أحمد : 5/86 .
(2) صحيح مسلم 3/1452 رقم 5 .
(3) صحيح البخاري 9/101 ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت .
إمامة بقية الائمّة (عليهم السلام) _ 14 _
حسن صحيح ، وقد روي من غير وجه عن جابر بن سمرة ، وفي الباب عن ابن مسعود وعبدالله بن عمرو (1) .
وأمّا في صحيح أبي داود يقول جابر ، ـ الرواية عن جابر نفسه ـ : سمعت رسول الله يقول : ( لا يزال هذا الدين عزيزاً إلى اثني عشر خليفة ) ، قال : فكبّر الناس وضجّوا ، ثمّ قال كلمة خفيت ، قلت لابي : يا أبه ، ما قال ؟ قال : قال : ( كلّهم من قريش ) (2) .
يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني : أصل هذا الحديث في صحيح مسلم بدون كلمة : فكبّر الناس وضجّوا (3) .
وقد قرأنا عبارته ، لم تكن فيه هذه الجملة : فكبّر الناس وضجّوا ، لكنّها موجودة في صحيح أبي داود .
وللطبراني لفظ آخر ، يقول الطبراني عن جابر بن سمرة : ( يكون لهذه الاُمّة اثنا عشر قيّماً ) ـ لم يقل خليفة ، ولم يقل أميراً ـ ( لا يضرّهم من خذلهم ، كلّهم من قريش ) (4) .
---------------------------
(1) سنن الترمذي 4/106 رقم 2223 .
(2) سنن أبي داود 4/106 رقم 4280 ـ دارالفكر ـ بيروت .
(3) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 13/180 ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ـ 1402 .
(4) المعجم الكبير للطبراني 2/196 رقم 1794 ـ دار إحياء التراث العربي .
إمامة بقية الائمّة (عليهم السلام) _ 15 _
قال ابن حجر في فتح الباري في شرح البخاري : ووقع عند الطبراني من وجه آخر هذا الحديث في آخره يقول جابر هذا الراوي يقول : فالتفتُ فإذا أنا بعمر بن الخطّاب وأبي في أُناس ، فأثبتوا إليّ الحديث (1) .
هذه هي الالفاظ التي انتخبتها ، واكتفيت بها لالقائها في هذه الجلسة .
ولاحظوا أوّلاً ألفاظ الحديث إلى الان، في بعض الالفاظ : ( إثنا عشر خليفة ) ، في بعض الالفاظ : ( إثنا عشر أميراً ) ، في بعض الالفاظ : ( إثنا عشر قيّماً ) ، وبين الكلمات فرق كبير .
ثمّ في بعض الالفاظ : ( لا يزال هذا الدين عزيزاً ) ، وفي بعض الالفاظ توجد جملة : ( لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة... ) ، وفي بعض الالفاظ : ( لا يضرّهم من خذلهم ) .
أمّا هذه الالفاظ التي لم ينقلها كلّ الرواة ونقلها بعضهم دون بعض ، لماذا ؟ لماذا لم تكن جملة ( فكبّر الناس وضجّوا ) في صحيح مسلم ، والحال أنّ الحديث نفس الحديث كما ينصّ الحافظ ابن حجر ؟ غير مسلم يأتي بهذه الجملة لكن ليست الجملة في
---------------------------
(1) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 13/180 .
إمامة بقية الائمّة (عليهم السلام) _ 16 _
صحيح مسلم ! أمّا البخاري فلم ينقل من هذه النقاط الاضافيّة المهمة شيئاً !
تارة المتكلم يتكلّم ثمّ يخفض صوته فلا يسمع كلامه ، وتارة المتكلم لا يخفض صوته ، وإنّما الصياح في أطرافه والضجّة من حوله تمنع من وصول كلامه وبلوغ لفظه فلا يسمع كلامه ، وفي أكثر الالفاظ يقول جابر : إنّه قال كلمة لم أسمعها ، قال كلمة لم أفهمها ، قال كلمة خفيت عَلَيّ .
ولسائل أن يسأل : ما هو السبب في خفاء هذه الكلمة أو غيرها من الكلمات على جابر ؟ جابر الذي ينقل الحديث من رسول الله ويقول : سمعته ... فلمّا وصل إلى هنا خفّض رسول الله صوته أو كانت هناك أسباب وعوامل خارجية ؟ فهذه العوامل الخارجية مَن الذي أحدثها وأوجدها ؟ لماذا قال رسول الله بعض الحديث وسُمع كلامه وبعض الحديث خفي ولم يُسمَع ؟ وماذا قال ؟ وهل كان لعمر بن الخطّاب وأصحابه دور في خفاء صوته وعدم بلوغ لفظه إلى الحاضرين ؟ أو لم يكن ؟
لسائل أن يسأل عن هذه الاُمور ، والمحقق لا يترك مثل هذه القضايا على حالها ، المحقق لا يتجاوز هذه الاشياء بلا حساب ، تارةً يراد منّا أن نقرأ ونسكت ، وتارة يراد منّا أن نسمع ونسلّم ،
إمامة بقية الائمّة (عليهم السلام) _ 17 _
وتارة يراد منّا أن نحقق ونفهم .
لقد وجدنا أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لمّا أمر بإتيان دواة وقرطاس إليه ، كثر اللغطُ من حوله ، وجعل الحاضرون يتصايحون ، لئلاّ يسمع كلامه ، ولئلاّ يلبّ طلبه ! وحينئذ قال عمر كلمته المشهورة في تلك القضية !! أتستبعدون أن يكون رسول الله قد قال هنا كلمات ومنعوا الحاضرين من سماع تلك الكلمات لئلاّ ينقلوها إلى من بعدهم ، عن طريق إحداث الضجّة من حوله والتكبير ؟ وماذا قال رسول الله حتّى يكبّروا كما جاء في الحديث : فكبّر الناس وضجّوا ؟ لماذا ؟ وأيّ مناسبة بين قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( يكون بعدي خلفاء... ) وبين التكبير ، وبين الضجّة ولماذا ؟
وعندما بحثت عن ألفاظ الحديث ، وجدت في عمدة المصادر لا يلتفتون إلى هذه الحقيقة ، أوْ لا ينبّهون على هذه النقطة ، حتّى عثرت على اسم عمر بن الخطّاب في أحد ألفاظه ، هذا المقدار الذي بحثت عنه ، وقارنت بين القضيّة هذه وبين قضية الدواة والقرطاس .
وإن أردتم مزيداً من التأكيد والتوضيح ، فراجعوا بعض مؤلفات أهل السنّة من المتأخرين ، فإذاً لوجدتم الحديث عن نفس جابر وبنفس السند الذي في صحيح البخاري ، كانت تلك الكلمة
إمامة بقية الائمّة (عليهم السلام) _ 18 _
التي خفيت على جابر: ( كلّهم من بني هاشم ) وليس ( كلّهم من قريش ) فماذا حدث ؟ وماذا فعل القوم ؟ وكيف انقلبت ألفاظ رسول الله وتغيّرت من لفظ إلى لفظ على أثر الضجّة ؟ منعوا من سماع الكلمة وحالوا دون وصول كلامه ، فإذا سئلوا ماذا قال ؟ أجابوا بغير ما قال رسول الله، عندما سأل : يا أبه أو يا عمر أو يا فلان ، يقول : سألت الذي يليني ماذا قال رسول الله ؟ قال : ( كلّهم من قريش ) .
لكن عبد الملك بن عمير ، يروي الرواية عن جابر نفسه أنّه قال : ( كلّهم من بني هاشم ) ، وعبد الملك بن عمير نفس الراوي عن جابر في صحيح البخاري ، فراجعوا .
نحن وإنْ كنّا لا نوافق على وثاقة عبد الملك بن عمير ، هذا الرجل عندنا مطعون ومجروح ، لانّه كان قاضي الكوفة ، وعندما أرسل الحسين ( عليه السلام ) إلى الكوفة رسولاً من قبله ، وأمر عبيد الله بن زياد بأن يأخذوا هذا الشخص إلى القصر وأمر بإلقائه من أعلى القصر إلى الارض فسقط على الارض وبه رمق ، جاء عبد الملك ابن عمير ، وذبح هذا الرجل في الشارع ، فلمّا اعترض عليه قال : أردت أنْ أُريحه .
هذا الشخص ـ عبد الملك ـ ليس عندنا بثقة ، لكنّه من رجال
إمامة بقية الائمّة (عليهم السلام) _ 19 _
الصحاح الستّة .
عبد الملك بن عمير يروي الحديث عن جابر وفيه بدل ( كلّهم من قريش ) جملة ( كلّهم من بني هاشم ) .
وأيضاً ، يوافق عبد الملك بن عمير في رواية الحديث عن جابر بلفظ ( كلّهم من بني هاشم ) : سماك بن حرب ، وسماك بن حرب من رجال مسلم ، ومن رجال البخاري في تعليقاته ، ومن رجال الصحاح الاربعة الاُخرى .
فعبدالملك وسماك كلاهما يرويان عن جابر الحديث نفسه بلفظ ( كلّهم من بني هاشم ) .
وإذا ما رجعتم إلى كتب أصحابنا وجدتموهم يروون هذا الحديث بأسانيدهم إلى جابر نفسه ، وتجدون الحديث مشتملاً على ألفاظ وخصوصيات أُخرى ، وسأقرأ لكم تلك الخصوصيات عندما أُريد أنْ أستدلّ بهذا الحديث على إمامة الائمّة (عليهم السلام) .
وإلى الان عرفنا من هذه الاحاديث :
أوّلاً:
عدد الائمّة على وجه التحديد ، عدد الخلفاء ، أو القوّام على هذا الدين على وجه التحديد : اثنا عشر .
ثانياً :
يقول رسول الله بأنّ هؤلاء باقون إلى قيام الساعة .
ثالثاً :
يقول رسول الله بأنّ عزّ الاسلام منوط بوجود هؤلاء ،
إمامة بقية الائمّة (عليهم السلام) _ 20 _
بإمامة هؤلاء ، بخلافة هؤلاء .
رابعاً :
هؤلاء أئمّة قوّام للدين ، وإن خذلوا وإن خولفوا .
يقول أصحابنا بأنّ المراد من هذا العدد وهؤلاء الذين ذكرهم رسول الله أو أشار إليهم هم أئمّتنا الاثنا عشر سلام الله عليهم .
ومن العجيب أنّ إمامة أئمّتنا بنفس العدد والنص موجود في الكتب السماوية السابقة ، وثابت عند أهل الكتاب وأهل الاديان السالفة ، ولذا لو أنّ أحداً من أهل الكتاب أسلم ، صار شيعيّاً ، وهذا ما ينصّ عليه ابن تيميّة في منهاج السنّة (1) .
---------------------------
(1) منهاج السنة 8 / 242 .
فإذا كان المراد بنظر أصحابنا من هذا الحديث أئمّتنا الاطهار الاثنا عشر ، فلنرجع إلى أئمّة أهل السنّة ومحدّثيهم الحفّاظ الكبار ، لنلاحظ ماذا يقولون في معنى هذا الحديث ، ومَن المراد من هؤلاء الائمّة في هذا الحديث الثابت ؟ فهنا أُمور :
الامر الاوّل:
هذا الحديث لا يمكنهم ردّه، لصحّته ووجوده في الصحيحين وغيرهما من الكتب .
الامر الثاني :
إنّهم لا يريدون أن يعترفوا بما تقوله الشيعة الامامية .
الامر الثالث :
إنّ الذين تولّوا الامر بعد رسول الله عددهم أكثر من هذا العدد بكثير .
ومع الالتفات إلى هذه الاُمور الثلاثة ، لاحظوا ما يقولون في شرح هذا الحديث ، وانظروا كيف يضطربون وتتضارب أفكارهم
إمامة بقية الائمّة (عليهم السلام) _ 22 _
وآراؤهم وأقوالهم في شرح هذا الحديث وبيان معناه ، ولو أردتُ أنْ أذكر لكم كلّ ما حصلت عليه من كلماتهم لطال بنا المجلس ، وعندنا بحوث لاحقة أيضاً فلا يبقى لها مجال .
أقول :
لقد اضطربوا في معنى هذا الحديث اضطراباً كبيراً ، فابن حجر العسقلاني في فتح الباري يذكر آراء ابن الجوزي والقاضي عياض ، ويباحثهم فيما قالا ، وابن كثير الدمشقي يذكر في كتابه البداية والنهاية ـ حيث يعنون هذا الحديث ـ يذكر آراء البيهقي وغيره ويناقشهم ، ولا بأس أنْ أقرأ لكم رأي ابن كثير فقط ، وبه أكتفي لئلاّ يطول بنا البحث .
يقول ابن كثير بعد أنْ يذكر رأي البيهقي وغيره : وفيه نظر ، وبيان ذلك : إنّ الخلفاء إلى زمن الوليد بن يزيد أكثر من اثني عشر على كل تقدير ، وبرهانه إنّ الخلفاء الاربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي خلافتهم محققة بنص حديث سفينة : ( الخلافة بعدي ثلاثون سنة ) ، ثمّ بعدهم الحسن بن علي كما وقع ـ لانّ عليّاً أوصى إليه ، وبايعه أهل العراق وركب وركبوا معه لقتال أهل الشام ـ ثمّ معاوية ، ثمّ ابنه يزيد بن معاوية ، ثمّ ابنه معاوية بن يزيد ، ثمّ مروان بن الحكم ، ثمّ ابنه عبد الملك بن مروان ، ثمّ ابنه الوليد بن عبد الملك ، ثمّ سليمان بن عبد الملك ، ثمّ عمر بن عبد العزيز ، ثمّ يزيد
إمامة بقية الائمّة (عليهم السلام) _ 23 _
بن عبد الملك ، ثمّ هشام بن عبد الملك . فهؤلاء خمسة عشر ، فزادوا ثلاثة ، وعلى كلّ تقدير فهم اثنا عشر قبل عمر بن عبد العزيز ، فهذا الذي سلكه أي البيهقي على هذا التقدير يدخل في الاثني عشر يزيد بن معاوية ، ويخرج منهم عمر بن عبد العزيز ، الذي أطبق الائمّة على شكره وعلى مدحه ، وعدّوه من الخلفاء الراشدين ، وأجمع الناس قاطبة على عدله ، وأنّ أيّامه كانت من أعدل الايّام ، حتّى الرافضة يعترفون بذلك (1) .
فإن قال : ـ يعني البيهقي ـ أنا لا أعتبر إلاّ من اجتمعت الاُمّة عليه ، لزمه على هذا القول أنْ لا يعدّ علي بن أبي طالب ولا ابنه ، لانّ الناس لم يجتمعوا عليهما ، وذلك لانّ أهل الشام بكاملهم لم يبايعوهما ، وعدّ حينئذ معاوية وابنه يزيد وابن ابنه معاوية بن يزيد ، ولم يعتد بأيّام مروان ولا ابن الزبير ، لانّ الاُمّة لم تجتمع على واحد منهما ، ولكن هذا لا يمكن أن يسلك ، لانّه يلزم منه إخراج علي وابنه الحسن من هؤلاء الاثني عشر ، وهو خلاف ما نصّ عليه أئمّة
---------------------------
(1) إذن ، يظهر : إنّ الملاك في الائمّة أن يكونوا عدولاً ، حتّى يُعَدوا في الاثني عشر الذين أرادهم رسول الله، فيعترض على القوم لماذا أدخلتم يزيد بن معاوية وأخرجتم عمر بن عبد العزيز ؟ والحال أنّ عمر بن عبد العزيز معروف بالعدل ؟
إمامة بقية الائمّة (عليهم السلام) _ 24 _
السنّة بل الشيعة (1) .
فهذا قول من أقوالهم ، وهو من البيهقي ، ثمّ هذا قول ابن كثير باعتراضه على البيهقي حيث يقول بأنّ لازم كلامكم إخراج علي والحسن من الاثني عشر .
ولو أردتم التفصيل ، فراجعوا : شرح النووي على صحيح مسلم ، راجعوا فتح الباري في شرح صحيح البخاري ، وراجعوا تفصيل كلام ابن كثير في تاريخه ، فقد ذكروا في هذه الكتب أن بعضهم أخرج الامام عليّاً ( عليه السلام ) والحسن من الائمّة الاثني عشر ، وأدخلوا في مقابلهما ومكانهما معاوية ويزيد ابن معاوية وأمثالهما (2) .
---------------------------
(1) البداية والنهاية المجلد 3 الجزء 6/249 ـ 250 ـ دارالفكر ـ بيروت .
(2) لنا بحث طويلٌ حول هذا الحديث ، يقع في جهتين :
الاولى: في تحقيق الوجوه التي ذكرها القوم في معناه ، ونقدها واحداً واحداً .
والثانية : في بيان معناه على ضوء الادلّة المتقنة من الكتاب والسنّة ، لاسيّما سائر الاحاديث الصحيحة الواردة في الموضوع ، لانّ الحديث يفسّر بعضه بعضاً .
وبعبارة أُخرى : يتكوّن البحث في معنى هذا الحديث من فصلين :
أحدهما : في الموانع عن انطباق الحديث على الاشخاص الذين ذكرهم القوم .
والثاني : في مصاديقه الذين قصدهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
وكلّ ذلك بالنظر إلى الاحاديث الصحيحة وأخبار أولئك الاشخاص المدوّنة في كتب السير والتواريخ .
هذا ، وقد توافق القوم على ذكر جملة من ملوك بني أُميّة في عداد الخلفاء الاثني عشر ، وذلك باطلٌ بالنظر إلى أن الحديث في ( الخلفاء ) لا ( الملوك ) وبالنظر إلى ما ورد في كتب الفريقين في ذمّ بني أُميّة ، لاسيّما الحديث المعتبر بتفسير قوله تعالى : ( ... وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) [ الاسراء: 60 ] من أنّ المراد بنو أُميّة .
إمامة بقية الائمّة (عليهم السلام) _ 25 _
لكن ممّا يهوّن الخطب أنّهم بعد أنْ شرّقوا وغرّبوا ، اضطرّوا إلى الاعتراف بعدم فهمهم للحديث ، وكما ذكرنا في الاُمور الثلاثة ، فإنّ الحقيقة هي أنّهم لا يريدون أن يعترفوا بما تقوله الشيعة ، ورغم جميع محاولاتهم ، وعلى مختلف آرائهم ، فإنّ الحديث لا ينطبق على خلفائهم وأئمّتهم ، فماذا يفعلون ؟ يعترفون بأنّا لم نفهم معنى هذا الحديث ، لاحظوا هذه الكلمات :
يقول الحافظ ابن العربي المالكي كما في شرح الترمذي (1) : لم أعلم للحديث معنى .
وفي فتح الباري عن ابن البطال إنّه حكى عن المهلب قوله ـ وهي عبارة مهمة ـ: لم ألق أحداً يقطع في هذا الحديث بشيء معيّن (2) .
وعن ابن الجوزي : قد أطلت البحث عن معنى هذا الحديث
---------------------------
(1) عارضة الاحوذي في شرح الترمذي 9/69 .
(2) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 13/180 .