واحتج على أفضلية أبي بكر على نفسه بقضية الغار!! فليراجع كلامه في هذا الصدد (1) .
كما أن يزيد بن المهلب قد وعد الناس بالعمل بسنة العمرين (2) .
وقد احتج الحجاج في مسألة عقاب الوالي غير العادل ، فكان من ذلك قوله : (إني لأحبّ إليّ أن أحشر مع أبي بكر وعمر مغلولاً ، من أن أحشر معكم مطلقاً ) (3) .
ولسنا هنا في صدد تتبع ذلك واستقصائه ، فإنه كثير جداً وأكثر مما يتوقع .
---------------------------
(1) البداية والنهاية ج3 ص180 ومنتخب كنز العمال المطبوع بهامش مسند أحمد ج4 ص348 وحياة الصحابة ج1 ص340 عنهما وعن كنز العمال ج7 ص335 عن البغوي .
(2) محاضرات الأدباء ج2 ص188 .
(3) بهج الصباغة ج7 ص144 عن العقد الفريد.
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول
_ 71 _
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول
_ 73 _
الحروب الطويلة :
لقد طال أمد الحروب على العراقيين وكانت تحمل لهم خسائر كبيرة ، وويلات كثيرة ... وقد بلغت تلك الخسائر عشرات الألوف في حربي الجمل وصفين .
ويكفي أن نذكر : أنه حينما رجع علي (عليه السلام) من صفين مرّ ببيوت الثوريين ، فسمع البكاء على قتلاهم في تلك الحرب ، ثم مر بغيرهم ، فكذلك ... فلما وصل إلى الشباميين سمع مثل ذلك أيضاً ، وأخبروه : أنه قد قتل من الشباميين مئة وثمانون ، فليس من دار إلا وفيها بكاء
(1) .
أما آثار تلك الحرب على الصعيد الاجتماعي ، والمادي ، والسياسي ، فهي أيضاً كبيرة وخطيرة ، فهناك أيتام وأرامل ، وشهداء ، وهناك أسر تمزقت ، أو تلاشت ، بالإضافة إلى مشاكل حياتية ومعيشية ، وخلافات عائلية وعاطفية وعلاقات أًصيبت بانتكاسات وكوارث .
نعم ... وهذا ما يفسر لنا قوله (عليه السلام) في نهج البلاغة : (أيها
---------------------------
(1) تاريخ الطبري ج4 ـ ص45 والمعيار والموازنة ص193 والفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص83.
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول
_ 74 _
الناس ، إنه لم يزل أمري معكم على ما أحب ، حتى نهكتكم الحرب الخ ... ) حسبما تقدم .
وحينما طلب الحرورية منه (عليه السلام) نقض العهد ، ورفض التحكيم ، والخروج مجددا إلى صفين ، قال لهم علي (عليه السلام) : (هذا حيث بعثنا الحكمين ! وأخذنا منهم العهد ، وأعطيناهموه ؟!! هلاّ قلتم هذا قبل ؟!
قالوا : كنا قد طالت الحرب علينا ، واشتد البأس ، وكثر الجراح ، وحلا الكراع ، والسلاح ، فقال لهم : أفحين اشتد البأس عليكم عاهدتم ، فلما وجدتم الجمام قلتم : ننقض العهد ؟! إن رسول الله كان يفي للمشركين : أفتأمرونني بنقضه ) (1) .
وفي مقابل ذلك نجد معاوية في الشام يبذل الأموال ، ويشتري دين الرجال ، ويمد يده إلى الذين حول أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فيعدهم ويمنيهم ، ويغريهم بالمناصب ، والولايات ، والأموال ... ويستجيب له عدد من رؤساء القبائل في العراق ، سراً وجهراً ، الأمر الذي من شأنه أن يؤثر بصورة مباشرة على معنويات الذين كانوا يتعاملون معه (عليه السلام) كخليفة له في عنقهم بيعة ، وهم الأكثرون ، لا كإمام مفترض الطاعة ، وهم الأقلون.
وبكلمة ... فإن أهل الشام يعتبرون قضية معاوية قضيتهم ، وليس كذلك أهل العراق ...
---------------------------
(1) بهج الصباغة ج7 ص161/162 عن ابن ديزيل في صفين وشرح النهج للمعتزلي ج2 ص310 .
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول
_ 75 _
العراقيون ... يجهلون علياً (عليه السلام) :
وبعد ... فإن جهل الناس وخصوصاً العراقيين بعلي (عليه السلام) ، وبمزاياه وفضائله ، وجهاده ، وبأقوال النبي (صلى الله عليه وآله) وسلم فيه قد كان من أهم أسباب عدم الانقياد له ، حيث كان يراه الناس رجلاً عادياً كسائر من عرفوه من رجال الحكم والسياسة ، فهو عندهم يخطئ ويصيب ، ويحب ويبغض ، ويعدل ويظلم ، ويحسد ويحقد ، ويطيع ويعصي ، فلم تكن له تلك القدسية في نفوسهم ، ولا كانوا يثقون به ثقة مطلقة ، تخولهم
اتباعه فيما أحبوا وكرهوا .
وقد كانت سياسة الذين سبقوه هي محو ذكره (عليه السلام) ، وطمس مزاياه وفضائله ، ولم تكن معه إلا ثلة قليلة من العارفين به ، والمعتقدين بإمامته سرعان ما التهمتهم الحروب الضارية ، وقد كان (عليه السلام) يتلهف عليهم ، ويتأسف على فقدهم ، فهو يقول : (أوّه على إخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه ، وتدبروا الفرض فأقاموه ، أحيوا السنة ، وأماتوا البدعة ، دعوا للجهاد ، فأجابوا ، ووثقوا بالقائد فاتبعوه )
(1) .
وحول محاولات خصومه (عليه السلام) محو ذكره ، وإذهاب صوته وصيته ، نجد المعتزلي الحنفي يقول : (وهذا يدلك على أن علياً (عليه السلام) اجتهدت قريش كلها ، من مبدأ الأمر في إخماد ذكره ، وستر فضائله ، وتغطية خصائصه ، حتى محي فضله ومرتبته من صدور الناس كافة إلا قليلاً منهم )
(2) .
---------------------------
(1) نهج البلاغة شرح محمد عبده خطبة رقم177 مطبعة الاستقامة.
(2) شرح النهج للمعتزلي ج8 ص18 ...
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول
_ 76 _
ويقول أيضاً ، نقلاً عن محمد بن سليمان ، الذي (لم يكن يتعصب لمذهب بعينه ) (1) .
(لأن علياً دحضه الأوّلان ، وأسقطاه ، وكسرا ناموسه بين الناس ، فصار نسياً منسياً ، ومات الأكثر ممن يعرف خصائصه ، التي كانت في أيام النبوة وفضله ، ونشأ قوم لا يعرفونه ، ولا يرونه إلا رجلاً من عرض المسلمين ، ولم يبق مما يمتّ به إلا أنه ابن عم الرسول ، وزوج ابنته ، وأبو سبطيه ، ونسي الناس ما وراء ذلك كله ، واتفق له من بغض قريش وانحرافها ما لم يتفق لأحد الخ ... ) (2) .
بل إن بعض النصوص تشير إلى أن الناس كانوا لا يطيقون سماع شيء من فضائله ، ويرون الخوض فيها بلا فائدة ولا عائدة ، فقد قال جندب بن عبد الله في حديث له : (فانصرفت إلى العراق ، فكنت أذكر فضل علي على الناس ، فلا أعدم رجلاً يقول لي ما أكره ، وأحسن ما أسمعه قول من يقول : دع عنك هذا وخذ في ما ينفعك ، فأقول : إن هذا مما ينفعني وينفعك ، فيقوم عني ، ويدعني ) (3) .
وهو (عليه السلام) نفسه يقدم لنا أوضح صورة للحال التي كان عليها صلوات الله وسلامه عليه ، فإنه هو نفسه (عليه السلام) يقول ، وهو يجيب على سؤال : لو أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلم مات وترك ولداً ، أكانت العرب تسلم إليه أمرها ...
---------------------------
(1) المصدر السابق ج9 ص25 ...
(2) المصدر السابق ج9 ص28/29.
(3) المصدر السابق ج9 ص58.
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول
_ 77 _
قال (عليه السلام) : (لا ، بل كانت تقتله ، إن لم يفعل ما فعلت ) ثم يستمر (عليه السلام) في إجابته ، فيذكر الفتوح ، التي جاءت بالثروة والمال ، ويقول : (ثم نسبت تلك الفتوح إلى آراء ولاتها ، وحسن تدبير الأمراء القائمين بها ، فتأكد عند الناس نباهة قوم ، وخمول آخرين ، فكنا نحن ممن خمل ذكره ، وخبت ناره ، وانقطع صوته وصيته ، حتى أكل الدهر علينا وشرب ، ومضت السنون ، والأحقاب بما فيها ، ومات كثير ممن يعرف ، ونشأ كثير ممن لا يعرف الخ ... ) (1) .
إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة ، والتي لا مجال لتتبعها .
وأما السبب في أنهم قد أخفوا فضائله (عليه السلام) ، فهو إما العداوة والحسد ، أو الخوف ، أو ما إلى ذلك ، حتى إذا ما أراد هو نفسه أن يذكرّ الناس بتلك الفضائل ، أو يذكرها لهم ، فإنهم يرمونه بأنه أراد بذلك الافتخار والإدلال ، والتكبر ، أو يكذبونه في ذلك ، ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً .
قلة المخلصين في جيش علي (عليه السلام) : من جهة أخرى : فإن أولئك الذين حاربوا علياً (عليه الصلاة والسلام) في الجمل ، والذين كانوا يتعاطفون مع عثمان في محنته ، قد أصبحوا الآن ولأكثر من سبب في جيش أمير المؤمنين (عليه السلام) ، يحاربون معه عدوه ، ويدافعون عن قضيته !!
وواضح أنهم ، أو كثيراً منهم ، كانوا لا يمتلكون حداً معقولاً من الروادع الدينية والوجدانية .
---------------------------
(1) المصدر السابق ج20 ص298/299.
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول
_ 78 _
وكانت علاقاتهم القبلية ومفاهيمهم الجاهلية ، وانفعالاتهم الشخصية أكثر تحكُّماً في موقفهم السياسي من الحكم الشرعي ، أو الوجداني .
ولأجل ذلك وسواه من أسباب ، فلا يجب أن نتوقع من هؤلاء : أن يكونوا متحمسين كثيراً لمقارعة أعدائه (عليه السلام) ، ومنازلة خصومه تحت رايته ، وبزعامته ، ولا كان لديهم ذلك الحماس للدفاع عن الحق والدين ، والمثل العليا.
والنصوص التي تشير إلى قلة المخلصين في جيش أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) كثيرة ، وقد صرح البعض بأنه قد كان في جيش علي المخلص والمدخول (1) .
وقال (عليه الصلاة والسلام) ، وهو يدافع عن الأشتر : (وأما ما ذكرتم من خلافه علي ، وتركه أمري ، فليس من أولئك ، ولست أخافه على ذلك ، وليت فيكم مثله اثنان ، وليت فيكم مثله واحد ، يرى في عدوكم مثل رأيه ، إذن لخفَّت علي مؤونتكم ) (2) .
وبعد ، فإننا لا نبعد كثيراً إذا قلنا : إن الحجاج بن الصمة كان يقصد أمثال هؤلاء ، بل العراقيين بصورة عامة ، حينما قال لمعاوية محرضاً له على طلب الخلافة ، بعد عثمان : ( ... وإني أخبرك ، أنك تقوى بدون ما يقوى ، لأن معك قوماً لا يقولون إذا سكت ، ويسكتون إذا نطقت ، ولا يسألون إذا أمرت ، ومع علي قوم يقولون إذا
قال ويسألون إذا سكت ) (3) .
وآية ذلك هو الحوادث الكثيرة التي نجدها في التاريخ ، ومنها قضية
---------------------------
(1) الفتنة الكبرى ج2 ص81.
(2) المعيار والموازنة ص183/184.
(3) الأخبار الطوال ص155.
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول
_ 79 _
التحكيم وما جرى فيها ، فإنها من أعظم العبر. حتى إننا لنجد أصحاب علي (عليه السلام) يصرون عليه بأن يكتب ما يريدون لابن عباس ، أما أصحاب معاوية فلا يسألون عمرواً عن شيء إطلاقاً
(1) .
وقد لاحظ ذلك يوليوس فلهوزن فهو يقول : (إن (الخوارج ) في العراق يحاربونه حرباً شديدة ، وكان أهل البصرة متراخين متثاقلين عن نصرته إذا استثنينا أشخاصاً قلائل مثل أبي الأسود الدؤلي ... وكان أهل الكوفة معه بأهوائهم ، ولكنهم لم يكونوا معه بكل قواهم ، وكان بينهم بعض المحاربين وبعض المائلين إلى عثمان ، ولحق
بعضهم بمعاوية )
(2) .
(ومن مظاهر الفساد في معسكر علي (عليه السلام) كثرة تدخل الجنود في شؤون قائدهم ، فكانوا يلاحقون كل رسول يروح ويجيء ويظنون بأميرهم الظنون ، بينما كانت رسل معاوية تروح وتجيء فلا يسأل أصحابه عن سبب ذهابهم ، وأخبار عودتهم )
(3) .
حالة البصرة بالخصوص :
وعن خصوص البصرة نقول : إنها كانت قادرة على أن تجند عشرات الألوف قد تزيد على ستين ألف مقاتل ، ولكن رغم ذلك لا ينفر منهم إلى علي (عليه السلام) سوى ألف وخمسمائة ، وبعد التهديد والوعيد ينضم إليهم مثلهم
(4) .
---------------------------
(1) راجع الأخبار الطوال ص197/198.
(2) تاريخ الدولة العربية ص94.
(3) الخوارج في العصرالأموي ص69 والطبري ج6 ـ ص 3351 ط ليدن.
(4) تاريخ ابن خلدون ـ ج2 ـ قسم2 ص179 وتاريخ الطبري ج4 ص58 والكامل لابن الأثير ج3 ص340 والإمامة والسياسة ج1 ص144/145.
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول
_ 80 _
ومن يدري ، فلعل هؤلاء إنما كانوا من خصوص قبائل عبد القيس ، الذين كان رؤساؤهم أبناء صوحان ، وهم المخلصون الأوفياء لأمير المؤمنين (عليه السلام) ، ويعتقدون بإمامته ، ففشا هذا الاعتقاد في قبيلتهم وشاع ، فكانت عبد القيس في البصرة كقبيلة همدان في اليمن ، في إخلاصها لعلي (عليه السلام) ، واعتقادها بإمامته .
ولعل بعضهم كان من بني تميم أيضاً ، بتأثير من جارية بن قدامة والأحنف بن قيس .
ومما يدخل في هذا السياق أننا نلاحظ : أن خوارج الكوفة كانوا أقل عدداً بالنسبة لخوارج البصرة (1) ولعل حياة أمير المؤمنين (عليه السلام) بينهم وسيرته فيهم ، قد أثرت في الكوفيين ، فمنعتهم من الانسياق الشديد نحو التأثر بالإعلام المعادي ، فإنهم كانوا يلمسون الكذب والافتراء ، والتزوير ، أكثر من غيرهم .
وعلى كل حال ... فإننا نجد عمرو بن العاص يقول : (أهل البصرة مخالفون لعلي ، قد وترهم وقللهم ، وقد تفانت صناديدهم ، وصناديد أهل الكوفة يوم الجمل ) (2) .
ويقول الأصمعي : (البصرة عثمانية من يوم الجمل ) (3) .
فترى ابن العاص يشير إلى أن سرّ انحراف البصرة عن علي (عليه السلام) هو تأثرهم بما جرى يوم الجمل .
وقد جاء قول ابن عبد ربه أكثر صراحة هنا حيث قال : (إذ قاموا مع
---------------------------
(1) العراق في العصر الأموي ص242 .
(2) تاريخ الطبري ج3 ص562 والكامل لابن الأثير ج3 ص279 .
(3) روض الأخبار المنتخب من ربيع الأبرار ص67 والعقد الفريد ج6 ص248 .
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول
_ 81 _
عائشة ، وطلحة ، والزبير ، فقتلهم علي (رض) )
(1) .
ولبني عدي بن عبد مناف مسجد بالبصرة ينتاب وينزل به ، ويقال : إن جمل عائشة عقر في موضعه ، فابتني على ذلك
(2) .
الكوفة في عهد أمير المؤمنيين (عليه السلام) :
أما الكوفة فإن : (أهلها أخلاط من الناس على حد تعبير اليعقوبي )
(3) .
كما أن حي الناعطيين كان جلُّهم من العثمانية
(4) .
وكانت باهلة تعادي علياً
(5) ، وكرهت الخروج معه إلى صفين
(6) .
ولما ذهب أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) إلى قتال أهل النهروان كانت قبيلتا غني وباهلة تدعوان الله أن يظفر به عدوه
(7) .
ويقول الثقفي : (كان بعض العثمانية ـ وهم جند علي (عليه السلام) ـ يتجسسون الأخبار لمعاوية ، وكان أبو بردة ابن عوف الأزدي يكاتب معاوية من الكوفة ، فلما ظهر معاوية أقطعه قطيعة بالفلوجة ، وكان كريماً عليه )
(8) .
---------------------------
(1) العقد الفريد ج6 ص248 .
(2) ربيع الأبرار ج1 ص307 .
(3) كتاب البلدان ص309 .
(4) تاريخ الأمم والملوك ج4 ص45 والكامل في التاريخ 0 ج3 ص325 .
(5) الغارات ج1 ص20 و21 والبحار [طبعة حجرية] ج8 ـ ص556 ونقل عن ج9 ص458 .
(6) صفين للمنقري ص116 والأمالي للطوسي ج1 ص116 والأمالي للشيخ المفيد ص200/201 وبصائر الدرجات 759 .
(7) الغارات ج1 ص18 والبحار ج8 ص556 .
(8) الشيعة في التاريخ ص43 عن شرح النهج للمعتزلي ج1 ص185 و257 .
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول
_ 82 _
وحينما طلب ابن الحر من علي (عليه السلام) أن يحضر إلى دومة الجندل ، ليشهد أمر الحكمين ، أجاب (عليه السلام) يزيد بن الحر العبسي بقوله : (يا ابن الحر ، إني آخذ بأنفاس هؤلاء ، فإن تركتهم وغبت عنهم كانت الفتنة في هذا المصر أعظم من الحرب بينهم وبين أهل الشام ) (1) .
وقد تقدم : أن جلَّ أهل الكوفة وقرّاءها كانوا مخالفين لعلي (عليه السلام) ، وأن من كان يعتقد بإمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) من العراقيين كانوا لا يبلغون خمسين رجلاً .
بل لقد روي عن المفضل بن قيس ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : كم شيعتنا بالكوفة ؟
قال : قلت : خمسين ألفاً .
قال : فمازال يقول : حتى قال : أترجو أن يكونوا عشرين ؟!
ثم قال (عليه السلام) : (والله ، لوددت أن يكون بالكوفة خمس وعشرون رجلاً يعرفون أمرنا الذي نحن عليه ، ولا يقولون علينا إلا بالحق ) (2) .
وهذا الكلام إنما صدر بعد أن شاع وذاع : أن الكوفة علوية الاتجاه. فأّنيَّ لك بالحقبة التي سبقت ذلك ؟!
ومهما يكن من أمر فإن من المؤكد : أن جماعة العثمانية كان لا يزال لهم وجودهم المؤثر إلى زمان خلافة الإمام الحسن (عليه السلام) ،
---------------------------
(1) أنساب الأشراف [بتحقيق المحمودي] ج2 ص346 .
(2) صفات الشيعة ص14/15.
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول
_ 83 _
فقد (أوصى بالإمامة إلى ولده الحسن بن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسليله ، وشبيهه في خلقه وهديه ، فبايعت الشيعة كلها ، وتوقف ناس ممن كان يرى رأي العثمانية ، ولم يظهروا أنفسهم بذلك ، وهربوا إلى معاوية )
(1) .
كما أن قراء الكوفة كانوا في أصل نشأتهم تابعين لابن مسعود
(2) الذي كان إلى عمر وسياساته أميل منه إلى علي (عليه السلام) ، بل لقد محى صحيفة جاءت من اليمن كان فيها أحاديث حول أهل البيت (عليهم السلام)
(3) .
والكل يعلم ما كان لهؤلاء المخالفين لأهل البيت (عليهم السلام) من دور في إفشال خطط الإمام الحسن (عليه السلام) ، وتقوية أمر معاوية ، حتى انتهى الأمر إلى المعاهدة وتسليم الأمر إلى معاوية .
آثار حرب صفين ، والتحكيم :
أما حرب صفين : فقد رأى العراقيون أن نتائجها لم تكن لصالحهم ، فقد لقي عبد الله بن وديعة الأنصاري علياً (عليه السلام) على مشارف الكوفة ، فسايره ، (فقال علي (عليه السلام) : ما سمعت الناس يقولون ؟
قال : يقولون : إن علياً كان له جمع عظيم ، ففرقه ، وكان له حصن حصين ، فهدمه الخ ... )
(4) .
---------------------------
(1) الشيعة في التاريخ ص44 ـ عن الأغاني ج11 ص116.
(2) راجع : حياة الشعر في الكوفة ، ص246 عن الإتقان ، ج1 ص73 وعن طبقات ابن سعد ، ج6.
(3) تقييد العلم ص54 والسنة قبل التدوين ص312 وراجع غريب الحديث لابن سلام ج4 ص48 وليس فيه أن الأحاديث في أهل البيت (عليهم السلام).
(4) الفصول المهمة لابن الصباغ ص82 وراجع : تاريخ الطبري ج4 ص44 والكامل لابن الأثير ج3 ـ ص323 وصفين للمنقري ص529.
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول
_ 84 _
وكان الناس بعد حرب صفين فيهم المعجب بنتائجها ، وفيهم الكاره ، والغاش والناصح (1) .
وربما نجد المبررات الموضوعية للقول : إن محاربة العراقيين لمعاوية كانت عن خوف ووجل ... فقد قال عمرو بن العاص لمعاوية في صفين ، حين مرت ليلة الهرير : (أرى أن رجالك لا يقومون لرجاله ، ولست مثله ، فهو يقاتلك على أمر ، وأنت تقاتله على أمر آخر ، إن أهل العراق يخافون منك إن ظفرت بهم ، وأهل الشام لا يخافون من علي إن ظفر بهم ... ) (2) .
والفقرة الأخيرة تشير إلى أن عدل علي (عليه السلام) قد كان معروفاً ومعترفاً به ، ومشهوداً حتى من أعدائه أهل الشام .
وبعد ... (فقد خرج الناس إلى صفين وهم أحباء متوادون ، ورجعوا وهم أعداء متباغضون ، يضطربون بأسياط الخ ... ) (3) .
وتقدم قول علي (عليه السلام) لابن الحر (إني آخذ بأنفاس هؤلاء ، فإن تركتهم وغبت عنهم كانت الفتنة في هذا المصر أعظم من الحرب بينهم وبين أهل الشام ، ولكني أسرح أبا موسى الخ ... ) (4) .
وقال صالح بن كيسان : (إن علياً لما كتب كتاب القضية نفروا من ذلك ، فحكم من حكم منهم ، ثم افترقوا ثلاث فرق ، فرجعت فرقة منهم
---------------------------
(1) راجع : تاريخ الطبري ج4 ص43 و44 والكامل لابن الأثير ج3 ص323 وصفين للمنقري ص529 .
(2) حياة الحسن بن علي (عليه السلام) للقرشي ج1 ص241 وصفين للمنقري ص476 و477 .
(3) أنساب الأشراف ، [بتحقيق المحمودي] ج2 ص342 .
(4) المصدر السابق ص346 .
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول
_ 85 _
إلى أمصارهم ومنازلهم ، فأقاموا بها ، فكان ممن رجع : الأحنف وشبث بن ربعي ، وأبو بلال مرداس بن أدية ، وابن الكواء ، بعد أن ناشدهم علي ، وقال : الخ ... )
(1) .
فحتى الأحنف إذن ، كان قد مال إلى رأي (الخوارج ) ، وانجرف في تيارهم ، فما ظنك بسواه .
حروب الإخوة :
ثم تأتي حروب النهروان ، حيث فرض فيها على العراقيين ، الذين يفضلون رابطة الدم ، على كل ما سواها ، أن يحاربوا إخوانهم بالعصبية ، حيث كان في صفوف هؤلاء (الخوارج ) : من هم إخوانهم ، وابناؤهم ، وآباؤهم ، وابناء العشيرة ، حتى إن عدي بن حاتم ، وهو من القواد المعروفين في جيش أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) كان ولده في جملة من قتل من (الخوارج ) ، وقد دفنه أبوه بعد انتهاء المعركة ، ودفن رجال من الناس قتلاهم بإذن أمير المؤمنيين (عليه السلام)
(2) .
وطبيعي أن يتزايد لدى العراقيين شعور بالحزن والأسى إزاء حالة كهذه ، وأن يكون لديهم شعور عميق بالضيق وسأم وتململ ثم صدود عن الاستمرار في طريق عسير وشاق كهذا ، مع شعور بضرورة الخروج من هذه الحالة إلى ما يرون أنه الافضل والأسلم ، لاسيما وأنه (عليه السلام) كان قد حارب أهل العراق أيضاً بأهل العراق في وقعة الجمل ، ثم أهل العراق بأهل الشام في حرب صفين .
---------------------------
(1) أنساب الأشراف ، [بتحقيق المحمودي] ج2 ص342 .
(2) راجع : تاريخ الطبري ج4 ص66 والكامل لابن الأثير ج3 ص348 ، وتاريخ ابن خلدون ج2 ـ قسم2 ص181 وتذكرة الخواص ص105.
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول
_ 86 _
قتل أماثلكم :
وبعد هذا ... فلقد كان هناك جهل شبه تام بالإسلام وبأحكامه ، ولاسيما في الجانب السياسي منه .
قال ابن الإسكافي ، وهو أبو القاسم ، جعفر بن محمد الإسكافي
(1) .
(فلم يؤت علي رضي الله عنه في أموره لسوء تدبير كان منه ، أو لغلط في رأي ، غير أنه كان يؤثر الصواب عند الله في مخالفة الرأي ، ولا يؤثر الرأي في مخالفة رضا ربه .
وقد كانت له خاصة من أهل البصائر واليقين ، من المهاجرين ، والأنصار ، مثل : ابن عباس ، وعمار ، والمقداد ، وأبي أيوب الأنصاري ، وخزيمة بن ثابت ، وأبي الهيثم بن التيهان ، وقيس بن سعد ، ومن أشبه هؤلاء من أهل البصيرة ، واخترمهم الموت .
وحمل معه من العامة قوم لم يتمكن العلم من قلوبهم ، تبعوه مع ضعف البصيرة واليقين ، ليس لهم صبر المهاجرين ، ولا يقين الأنصار ، فطالت بهم تلك الحروب ، واتصلت بعضها ببعض ، وفني أهل البصيرة واليقين ، وبقي من أهل الضعف في النية ، وقصر المعرفة ، من قد سئموا الحرب ، وضجروا من القتل ، فدخلهم الفشل ، وطلبوا الراحة ، وتعلقوا بالأعاليل الخ ... )
(2) .
ولنا تحفظ على بعض من ذكر أنهم قد ماتوا وكانوا من أهل البصائر الذين كانوا مع علي (عليه السلام) فإن ابن عباس وأبا أيوب ،
---------------------------
(1) راجع كتابنا : دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام ج2 ص84 و85 .
(2) المعيار والموازنة ص98 .
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول
_ 87 _
وقيس بن سعد ، كانوا لا يزالون على قيد الحياة.
هذا ... وقد جاء أن الأشتر ، قال للمحكِّمة في صفين : (فحدثوني عنكم وقد قتل أماثلكم ، وبقي أراذلكم متى كنتم محقين ؟ الخ ... ) (1) .
ويقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبة له : ( ... ما ضر إخواننا الذين سفكت دماؤهم ، وهم بصفين ، أن لا يكونوا اليوم أحياءاً ، يسيغون الغصص ، ويشربون الرنق ؟ فقد والله لقوا الله فوفاهم أجورهم ، وأحلهم دار الأمن بعد خوفهم .
أين إخواني الذين ركبوا الطريق ، ومضوا على الحق ؟ أين عمار ؟ وأين ابن التيهان ؟ وأين ذو الشهادتين ؟ وأين نظراؤهم ، من إخوانهم الذين تعاقدوا على النية ، وأبردوا برؤوسهم إلى الفجرة .
(قالوا : ثم ضرب بيده على لحيته الشريفة الكريمة ، فأطال البكاء ، ثم قال (عليه السلام) : أوّه على إخواني الذين قرؤوا القرآن فأحكموه ، وتدبروا الفرض فأقاموه ، أحيوا السنة ، وأماتوا البدعة ، دعوا للجهاد ، فأجابوا ، وثقوا بالقائد ، فاتبعوه ) (2) .
وجاء في رسالة لعبد الله بن وهب الراسبي أرسلها إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله : (فلما حميت الحرب ، وذهب الصالحون : عمار بن ياسر ، وأبو الهيثم ابن التيهان ، وأشباههم ، اشتمل عليك من لا فقه له في
---------------------------
(1) صفين للمنقري ص491 والمعيار والموازنة ص164 وشرح النهج للمعتزلي ج2 ص219 .
(2) نهج البلاغة ، بشرح عبده ج2 ص130/131 ومصادر نهج البلاغة ج2 ص450/451 وفيه عن الزمخشري في ربيع الأبرار ، باب التفاضل والتفاوت وهذا التفاوت موجود في عبارة الفتوح ج4 ص102.
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول
_ 88 _
الدين ، ولا رغبة له في الجهاد ، مثل : الأشعث بن قيس وأصحابه ... الخ ... ثم يذكر قصة التحكيم ، ويعترف بما كان منهم فيها فيقول : (وكانت منا في ذلك هفوة ) (1) .
فالواعون من أصحابه (عليه السلام) ، المتقون ، الذين عرفوا الحق ، ووثقوا بالقائد وأحكموا القرآن ، وأقاموا الفرض ، وأحيوا السنة ، وضحوا بأنفسهم في سبيل دينهم وعقيدتهم ، وكانوا الحريصين على مستقبل الإسلام والإيمان. والذين كان لهم دور كبير في ربط الناس بالإمام ، وتعريفهم على صواب موقفه ، وتحريضهم على طاعته ونصرته ، وكانوا أول من لبى نداءه .
وبقي الأراذل ، ضعفاء البصيرة واليقين من أمثال الأشعث وغيره ممن لم يتمكن العلم من قلوبهم ، والذين ظهر فيهم مصداق قوله (عليه السلام) : (ما تتعلقون من الإسلام إلا باسمه ، ولا تعرفون من الإيمان إلا رسمه ) (2) .
وقوله (عليه السلام) : (لا تعرفون الحق كمعرفتكم الباطل ) (3) .
---------------------------
(1) أنساب الأشراف ، [بتحقيق المحمودي] ج2 ص370 .
(2) نهج البلاغة ـ الخطبة رقم 192 بترقيم المعجم المفهرس .
(3) نهج البلاغة ـ الخطبة رقم 69.
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول
_ 89 _
الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول
_ 91 _
علي (عليه السلام) يفقه العراقيين :
هذا وقد بذل علي (عليه السلام) جهوداً كبيرة في تعليم أهل العراق ، وتثقيفهم ، حتى ليقول لهم : (وركزت فيكم راية الإيمان ، وعرفتكم على حدود الحلال والحرام )
(1) .
كما أن أبا أيوب الأنصاري يقول لأهل العراق : (إن الله قد أكرمكم به كرامة ما قبلتموها حق قبولها ، حيث نزل بين اظهركم ابن عم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وخير المسلمين ، وأفضلهم وسيدهم بعده ، يفقهكم في الدين الخ ... )
(2) .
كما أنه (عليه السلام) كان يعمل على أن يوضح لهم الضوابط العامة للسياسة الإسلامية ، ومنطلقاتها ، وأهدافها .
وتلك كلماته ، وخطبه زاخرة بهاتيكم التعاليم، ومشحونة بتلكم المعاني ... ولا مجال لاستقصاء النقاط التي كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يهتم بالتركيز عليها ، فإن ذلك يحتاج إلى توفر تام ، وجهد مستقل .
---------------------------
(1) نهج البلاغة ـ شرح عبده ج1 ص153 .
(2) الإمامة والسياسة ج1 ص152/153 .