الجيشان :
  سيأتي أن عدد (الخوارج ) الذين قتلوا في النهروان كان يتراوح ما بين الألف وخمس مئة قتيل ، وعشرة آلاف، ورقم الأربعة آلاف هو المرجح من بين تلك الأقوال لدى عدد من المؤرخين .
  وإذا كان الذين قتلوا هم جميع جيشهم ، ولم يفلت منهم إلا أقل من عشرة ، فانه يصبح واضحاً أن هذا الرقم بالذات هو عدد جيشهم في واقعة النهروان .
  وأما بالنسبة لعدد جيش علي (عليه السلام) ، فإنه كان قليلاً فقد كان معه (عليه السلام) جمعية يسيرة ، لأنه إنما جاء ليردهم بالكلام حسبما قاله ابن حبان (1) ... وأما قول بعضهم إن عدد جيشه (عليه السلام) كان اثني عشر ألفاً (2) ، فهو بعيد .
  ويؤيد قول ابن حبان : أن ابن اعثم يذكر : أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قد بذل محاولات جادة لجمع الناس لحرب (الخوارج ) ، وخطب

---------------------------
(1) الثقات ج2 ص296.
(2) أنساب الأشراف [بتحقيق المحمودي] ج2 ص271 ...

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول _ 172 _

  الناس لأجل ذلك عدة مرات .
  وبعد خطبته الثالثة : أجابه الناس سراعاً ، فاجتمع إليه أربعة آلاف رجل ، أو يزيدون ، قال : فخرج بهم من الكوفة وبين يديه عدي بن حاتم الطائي ، يرفع صوته ، وهو يقول :
نـسير  إذا مـا كـاع قـوم وبلدوا      برايات صدق كالنسور الخوافق (1)
  ويشهد لذلك أيضاً ، ما عرفناه ، عن أهل العراق ، من أنهم بعد حرب صفين كانوا شديدي التخاذل عن الحرب ، وأن علياً (عليه السلام) قد لاقى الأمرين في استنفارهم لحرب معاوية ، ولم يتمكن من ذلك حتى استشهد صلوات الله وسلامه عليه ، والغصة في قلبه والشكوى منهم على لسانه .

علي (عليه السلام) والمنجم :
  وروى ابن ديزيل قال : عزم علي (عليه السلام) على الخروج من الكوفة إلى الحرورية ، وكان في أصحابه منجّم ، فقال له : يا أمير المؤمنين ، لا تسر في هذه الساعة ، وسر على ثلاث ساعات مضين من النهار ، فإنك إن سرت في هذه الساعة أصابك وأصحابك أذى ، وضر شديد ، وإن سرت في الساعة التي أمرتك بها ظفرت وظهرت ، وأصبت ما طلبت .
  فقال (عليه السلام): أتدري ما في بطن فرسي هذه ، أذكر هو أم أنثى ؟
  قال : إن حسبت علمت .
  فقال علي (عليه السلام): من صدقك بهذا فقد كذب القرآن ، قال الله تعالى :

---------------------------
(1) الفتوح لابن اعثم ج4 ص105 ...

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول _ 173 _

  (إن الله عنده علم الساعة ، وينزل الغيث ، ويعلم ما في الأرحام) ، الآية .
  ثم قال (عليه السلام) : إن محمداً صلى الله عليه ما كان يدعي علم ما ادّعيت علمه ، اتزعم أنك تهدي إلى الساعة التي يصيب النفع من سار فيها ؟ وتصرف عن الساعة التي يحيق السوء بمن سار فيها ، فمن صدقك بهذا فقد استغنى عن الاستعانة بالله جل ذكره في صرف المكروه عنه.
  وينبغي للموقن بأمرك أن يوليك الحمد دون الله جل جلاله ، لأنك بزعمك هديته إلى الساعة التي يصيب النفع من سار فيها، وصرفته عن الساعة التي يحيق السوء بمن سار فيها ، فمن آمن بك في هذا لم آمن عليه أن يكون كمن اتخذ من دون الله ضداً ونداً .
  اللهم لا طير إلا طيرك ، ولا ضر إلا ضرك ، ولا إله غيرك .
  ثم قال : نخالف ونسير في الساعة التي نهيتنا عنها .
  ثم أقبل على الناس فقال : أيها الناس ، إياكم والتعلم للنجوم إلا ما يهتدى به في ظلمات البر والبحر ، إنما المنجم كالكاهن ، والكاهن كالكافر ، والكافر في النار.
  أما والله لئن بلغني أنك تعمل بالنجوم لأخلدنك السجن أبداً ما بقيت ، ولأحرمنك العطاء ما كان لي من سلطان .
  ثم سار في الساعة التي نهاه عنها المنجم ، فظفر بأهل النهر ، وظهر عليهم .
  ثم قال : لو سرنا في الساعة التي أمرنا بها المنجم لقال الناس : سار في الساعة التي أمر بها المنجم ، فظفر وظهر ، أما أنه ما كان لمحمد

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول _ 174 _

  صلى الله عليه منجم ولا لنا من بعده ، حتى فتح الله علينا بلاد كسرى وقيصر ، أيها الناس توكلوا على الله ، وثقوا به فإنه يكفي ممن سواه (1) .
  وإن هذا البيان المسهب منه (عليه السلام) يغني عن أي بيان ، بل هو أغنى بيان وأوفاه فكل لسان سواه عييّ ، وكل من يدعي المعرفة عنده غبي ، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى الأئمة من ولده الطاهرين.

التحدي الفاشل لليقين بالغيب :
  قد ذكرت النصوص : أن الحرورية جاءوا فكانوا أولاً من وراء النهر ، فأخبروا علياً بذلك ، فقال : والله ، لايقتل اليوم رجل من وراء النهر.
  فقالوا له : قد نزلوا : فأعاد (عليه السلام) قوله هذا ... ثم أعادوا قولهم ، فكرر (عليه السلام) مقالته .
  وقالت الحرورية ، بعضهم لبعض : يرى علي أنا نخافه ؟! ... فأجازوا أي عبروا النهر.
  فقال (عليه السلام) لأصحابه : (لا تحركوهم حتى يحدثوا ).
  ثم تذكر الرواية : أنهم ذهبوا إلى منزل ابن خباب ، وكان على شط الفرات ، فأخرجوه ... ثم قتلوه وشقوا عما في بطن أم ولده .
  فطالبهم (عليهم السلام) بقاتله ، فقالوا : كلنا قتله ... فأعادوا عليهم ذلك ثلاثاً ، فسمعوا نفس الإجابة ، فقتلوهم جميعاً ، ثم طلب منهم أن يطلبوا المخدج في القتلى ، فقالوا : ما وجدنا ، فقال : والله ما كذبت ولا كذبت ... ثم

---------------------------
(1) شرح النهج للمعتزلي ج2 ص270.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول _ 175 _

  تذكر الرواية أنه (عليه السلام) بحث بين القتلى حتى وجده في حفرة فيها قتلى كثير الخ ...(1) .
  فترى انه (عليه السلام) لا يقبل ما أخبروه به من أنهم قد عبروا النهر ، ويقسم أنه لا يقتل رجل من وراء النهر .
  بل إنه يحدد موقع قتلهم بصورة دقيقة وواضحة ، بعد أن أقسم له من أخبره ثلاث مرات : أنه رآهم قد عبروا النهر ، لما بلغهم وصوله (عليه السلام) خوفاً من قتاله ، فلا يقبل منه ، ويقسم على عدم صحة ما أخبره به ، وذلك في النص التالي : وذكر المدائني قال : لما خرج علي (عليه السلام) إلى أهل النهر أقبل رجل من أصحابه ممن كان على مقدمته يركض ، حتى انتهى إلى علي (عليه السلام) ،
  فقال : البشرى يا أمير المؤمنين.
  قال : ما بشراك ؟
  قال : إن القوم عبروا النهر لما بلغهم وصولك ، فأبشر ، فقد منحك الله أكتافهم.
  فقال له : الله! أنت رأيتهم عبروا ؟!
  قال : نعم .
  فأحلفه ثلاث مرات ، في كلها يقول : نعم .
  فقال علي (عليه السلام) : والله ، ما عبروه ، ولن يعبروه ، وإن مصارعهم لدون النطفة ، والذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة لن يبلغوا الأثلاث ، ولا قصر

---------------------------
(1) راجع : تاريخ بغداد ج1 ص205ز206 وراجع ج2 ص290 و291 وأمثال هذا الحديث مذكور في عشرات المصادر التي تتحدث عن حرب النهروان ...

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول _ 176 _

  بوازن حتى يقتلهم الله ، وقد خاب من افترى.
  قال : ثم أقبل فارس آخر يركض ، فقال كقول الأول ، فلم يكترث علي (عليه السلام) فجال في متن فرسه.
  قال : فيقول شاب من الناس : والله لأكونن قريباً منه ، فإن كانوا عبروا النهر لأجعلن سنان هذا الرمح في عينه ، أيدعي علم الغيب ؟!
  فلما انتهى (عليه السلام) إلى النهر وجد القوم قد كسروا جفون سيوفهم ، وعرقبوا خيولهم ، وجثوا على ركبهم ، وحكموا تحكيمة واحدة ، بصوت عظيم ، له زجل.
  فنزل ذلك الشاب : فقال : يا أمير المؤمنين ، إني كنت شككت فيك آنفاً ، وإني تائب إلى الله وإليك !
  فقال علي (عليه السلام) : إن الله هو الذي يغفر الذنوب ، فاستغفره (1) .
  إذا عرف السبب بطل العجب : ويوضح بعضهم السبب في الاعتقاد بأنهم قد عبروا النهر على النحو التالي : (إن الخوارج قصدوا جسر النهر ، وكانوا غربه ، فقال لعلي أصحابه : إنهم قد عبروا النهر ... فقال : لن يعبروا .
  فأرسلوا طليعة ، فعاد وأخبرهم انهم عبروا النهر.
  وكان بينهم وبينه عطفة من النهر ، فلخوف الطليعة منهم لم يقربهم ،

---------------------------
(1) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص272 عن المدائني في كتاب الخوارج ، ومناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي ص406 و407 وراجع الفتوح لابن اعثم ج4 ص120 ...

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول _ 177 _

  فعاد فقال : إنهم قد عبروا النهر.
  فقال علي : والله ما عبروه ، وإن مصارعهم لدون الجسر ، والله ، لا يقتل منكم عشرة ، ولا يسلم منهم عشرة.
  فتقدم علي إلى (الخوارج ) ، فرآهم عند الجسر لم يعبروه.
  وكان الناس قد شكوا في قوله ، وارتاب به بعضهم ، فلما رأوا (الخوارج ) لم يعبروا كبروا ، وأخبروا علياً بحالهم ، فقال : والله ، ما كذبت ولا كذبت الخ ... ) (1) .
  ومن كل هذا يتجلى لهم يقين علي (عليه السلام) بالغيب الذي يخبرهم به ، حتى إنه لا يتزعزع حتى مع تعدد المخبرين بخلافه ، وحتى مع حلفهم ثلاث مرات على صحة ما يخبرون به.
  وذلك لأنه (عليه السلام) يرى الأمور على حقيقتها ، إلى درجة أنه لو كشف له الغطاء ، ما ازداد يقيناً .

احتجاجات علي (عليه السلام) وتراجعات (الخوارج ) :
  لقد كانت احتجاجات علي (عليه السلام) وأصحابه على (الخوارج ) كثيرة ، وكانت لها آثارها الإيجابية الكبيرة ... حيث رجع منهم الألوف التي قد تصل إلى العشرين ألفاً حسب بعض النصوص.
  وقد ذكرنا شطراً من تلك الاحتجاجات في فصل مستقل غير اننا نشير هنا إلى بعض ما يكشف لنا حجم تأثير تلك الاحتجاجات ، وذلك من خلال تراجع الألوف من ( الخوارج ) بسبب تلك الاحتجاجات ، فنقول : إنهم يروون : أنه بسبب احتجاجات ابن عباس على الخوارج (رجع

---------------------------
(1) الكامل في التاريخ ج3 ص345.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول _ 178 _

  منهم عشرون ألفاً ، وبقي منهم اربعة آلاف فقتلوا ) (1) .
  وقال ابن اعثم ، وابن شهر آشوب ، والإربلي : (استأمن إليه منهم ثمانية آلاف ، وبقي على حربه آربعة آلاف ) (2) .
  وقيل : (بل استأمن إليه منهم ألفان )(3) .
  وقال أبو وائل : (خرجنا أربعة آلاف فخرج إلينا علي ، فما زال يكلمنا حتى رجع منا ألفان )(4) .
  وذكر ابن عساكر : أنه قد نتج عن الاحتجاج عليهم أن (رجع ثلثهم ، وانصرف ثلثهم ، وقتل سائرهم على ضلالة )(5) .
  غير أن البعض يذكر : ان احتجاج ابن عباس عليهم في حروراء لم يؤثر شيئاً ، وطلبوا علياً ليكلمهم ، فلما كلمهم علي (عليه السلام) رجع ابن الكواء ، وعشرة من أصحابه (6) ، وأقام الباقون على غيهم ، وأمَّروا عليهم الراسبي ، وعسكروا بالنهروان ، فسار إليهم علي (عليه السلام) حتى بقي على فرسخين منهم .
  وكاتبهم ، وراسلهم ، فلم يرتدعوا.
  فأرسل إليهم ابن عباس ، فكلمهم وكان علي (عليه السلام) وراءه يسمع ما

---------------------------
(1) مجمع الزوائد ج6 ص241 وقال : رواه الطبري ، وأحمد بعضه ، ورجالهما رجال للصحيح .
(2) الفتوح ج4 ص125 والمناقب لابن شهر آشوب ج3 ص189 ، وكشف الغمة ج1 ص365 و367.
(3) مصادر هذا النص كثيرة فراجع : الخصائص للنسائي ص147 ، وشرح النهج للمعتزلي ج4 ص99 وستأتي مصادر أخرى إن شاء الله تعالى ...
(4) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج4 ص99 ...
(5) ترجمة الإمام علي من تاريخ دمشق [بتحقيق المحمودي] ج3 ص152 ...
(6) راجع : كشف الغمة للأربلي ج1 ص264 و265.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول _ 179 _

  يقولون .
  فتقدم علي (عليه السلام) إليهم ، فكلموه ، وذكروا ما نقموه عليه ، فأجابهم عنها ، فاستأمن ثمانية آلاف.
  فأمرهم بأن يعتزلوه في ذلك الوقت ، ثم حارب الباقين ، فقتلهم. وكانوا أربعة آلاف (1) .
  ولعل بعض المؤرخين يتحدث عن مرحلة وواقعة ، ويتحدث غيره عن مرحلة وواقعة أخرى ، فإن الألفين إنما رجعوا حين كلمهم ابن عباس. ويبدو أن ذلك كان بتوجيه وتلقين مباشر حيناً ، وبمشاركة حيناً آخر من أمير المؤمنين (عليه السلام) نفسه .
  ونسجل ملاحظة هنا : وهي أن من يراجع احتجاجات ابن عباس يجد أنها قوية وحاسمة ، وقد نص عدد من المؤرخين على ان ألفين على الأقل قد رجعوا نتيجة لتلك الاحتجاجات فلا يصح قولهم : إن احتجاجاته لم تؤثر شيئاً.
  ويقال : إنه بعد أن احتج عليهم ابن عباس : (رجع عبد الله بن الكواء في ألفي رجل ، وبقي الباقون ، وأمروا عليهم عبد الله بن وهب الراسبي ، ثم سمّوا الراسبية ، ثم أخذوا في الفساد ، فقال علي (عليه السلام) : دعوهم .
  حتى إذا أخذوا الأموال وسفكوا الدماء ، ومروا بالمدائن ولقيهم عبد الله بن خباب ... ).
  إلى أن يقول النص : (فقتلوه ، وبقروا عن بطن امرأته ، وقتلوا نسوة ، وولداناً ، فخرج إليهم ، وقال : إدفعوا إلينا قتلة إخواننا ، ونحن تاركوكم.

---------------------------
(1) راجع : كشف الغمة ج1 ص265 و267.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول _ 180 _

  فأبوا عليه ، وثاروا به ، فتهيأ علي (عليه السلام) لقتالهم ، ودعا المسلمين إليهم ، فقتلهم بالنهروان )(1) .
  بهذا وعظهم (عليه السلام) : قد عرفنا أنه (عليه السلام) قد خطب (الخوارج ) بخطب ذات عدد ، وأنه قد ردهم بكلامه الحلو في غير موطن ... مما يعني أن تجمع النهروان لم يكن هو الأول ، ولا كان هو الأخير في سلسلة بغيهم على إمامهم ، وجمعهم الجموع لحربه (عليه السلام).
  ونورد هنا فقرة واحدة مما خطبهم (عليه السلام) يوم النهروان ، فقد قال : (نحن أهل بيت النبوة ، وموضع الرسالة ، ومختلف الملائكة ، وعنصر الرحمة ، ومعدن العلم والحكمة ، نحن أفق الحجاز ، بنا يلحق البطيء ، وإلينا يرجع التائب )(2) .
  ويلاحظ : أن هذه هي نفس كلمات الإمام الحسين (عليه السلام) ، التي واجه بها الوليد بن عتبة ، حين طلب منه البيعة ليزيد لعنه الله، ثم يلاحظ : أن هذه الصفات تناقض تماماً صفات (الخوارج ) ، حسبما سيأتي بعض التوضيح له في فصول هذا الكتاب ...

آخر ما وعظهم به علي (عليه السلام) :
  (لما استوى الصفان بالنهروان تقدم أمير المؤمنين علي بن أبي

---------------------------
(1) البدء والتاريخ ج5 ص136 و137 ...
(2) راجع : نهج البلاغة ج2 ص283 ...

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول _ 181 _

  طالب (عليه السلام) بين الصفين ، ثم قال :
  أما بعد ... أيتها العصابة التي أخرجتها عادة المراء والضلالة ، وصدف بها عن الحق الهوى والزيغ ، إني نذير لكم أن تصبحوا غداً صرعى بأكناف هذا النهر ، أو بملطاط من الغائط ، بلا بينةٍ من ربكم ، ولا سلطان مبين.
  ألم أنهكم عن هذه الحكومة ، وأحذركموها ، وأعلمكم أن طلب القوم لها دهن منهم ، ومكيدة ، فخالفتم أمري ، وجانبتم الحزم فعصيتموني ، حتى أقررت بأن حكمت ، وأخذت على الحكمين ، فاستوثقت ، وأمرتهما أن يحييا ما أحيا القرآن ، ويميتا ما أمات القرآن ، فخالفاً أمري ، وعملا بالهوى ، ونحن على الأمر الأول ، فأين تذهبون ، وأين يتاه بكم ).
  ثم تذكر الرواية : أن خطيبهم طلب من علي (عليه السلام) أن يتوب من الكفر كما تابوا فقال علي (عليه السلام) : أصابكم حاصب ولا بقي منكم وابر ، أبعد إيماني بالله ، وجهادي في سبيل الله ، وهجرتي مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) أقر بالكفر ؟! لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين ، ولكن منيت بمعشر أخفّاء الهام سفهاء الأحلام ، والله المستعان.
  ثم حمل عليهم ، فهزمهم (1) وسنتحدث عن بعض تفاصيل الحرب فيما يأتي

---------------------------
(1) الموفقيات ص325 و327 والخطبة موجودة في تاريخ الأمم والملوك ج4 ص62 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج1 ص458 والإمامة والسياسة ج1 ص109 والمستدرك على نهج البلاغة ص68 راجع الأخبار الطوال ص207 و208.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول _ 182 _

كيفية إقرارهم بقتل ابن خباب :
  وقد بادر أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى انتزاع اعتراف من القتلة بما صدر عنهم ، حيث يقول النص التاريخي : إنه (عليه السلام) قال : (الله أكبر ، نادوهم : اخرجوا إلينا قاتل عبد الله بن خباب ، قالوا : كلنا قتله ، فناداهم ثلاثاً كل ذلك يقولون هذا القول ) (1) .
  وفي نص آخر : أنه (عليه السلام) قال : ( ... أيكم قتل عبد الله بن خباب بن الأرت وزوجته ، وابنته ، يظهر لي أقتله بهم ، وأنصرف عهداً إلى مدة ، حكم الله أنتظر فيكم ؟
  فنادوا : كلنا قتل ابن خباب ، وزوجته ، وابنته ، وأشرك في دمائهم.
  فناداهم أمير المؤمنين : إظهروا إلي كتائب ، وشافهوني بذلك ، فإني أكره أن يقر به بعضكم في الضوضاء ، ولا يقر بعض ولا أعرف ذلك في الضوضاء ، ولا استحل قتل من لم يقر بقتل من أقر ، لكم الأمان حتى ترجعوا إلى مراكزكم كما كنتم.
  ففعلوا ، وجعلوا كلما جاء كتيبة ، سألهم عن ذلك ، فإذا أقروا عزلهم ذات اليمين ، حتى أتى على آخرهم.
  ثم قال : إرجعوا إلى مراكزكم . فلما رجعوا ناداهم ثلاث مرات : رجعتم كما كنتم قبل الأمان من صفوفكم ؟
  فنادوا كلهم : نعم.
  فالتفت إلى الناس ، فقال : الله أكبر ، الله أكبر ، والله ، لو أقر بقتلهم

---------------------------
(1) تاريخ بغداد ج1 ص206.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول _ 183 _

  أهل الدنيا ، وأقدر على قتلهم لقتلتهم ، شدوا عليهم ، فأنا أول من شد عليهم .
  وعزل بسيف رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثلاث مرات ، كل ذلك يسويه على ركبتيه من اعوجاجه ، ثم شد الناس معه ، فقتلوهم ، فلم ينج منهم تمام عشرة ).
  ثم تذكر الرواية : أنهم لما لم يجدوا ذا الثدية قال : ائتوني بالبغلة ، فإنها هادية مهدية ، فركبها ، ثم انطلق حتى وقف على قليب الخ ... (1) .

علي (عليه السلام) يدعوهم إلى حكم المصحف :
  وتذكر رواية جندب أنه (عليه السلام) بعد أن ردّ قول الذين أخبروه بأنهم قد عبروا النهروان.
  بل في بعض الروايات : أنه (عليه السلام) كان يقسم أنهم لم يعبروه ، وأن مصارعهم دونه (1) ... قد أخبر جندباً بأنه سوف يرسل إليهم رجلاً يقرأ المصحف ، فيدعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيه ، ولكنهم سوف يقتلونه ، وأنه لن يقتل من أصحابه (عليه السلام) عشرة ، ولا ينجو منهم عشرة ، قال جندب : ( ... فانتهينا إلى القوم ، وهم في معسكرهم الذي كانوا فيه ، لم يبرحوا ، فنادى علي في أصحابه ، فصفّهم ، ثم أتى الصف من رأسه ذا إلى رأسه ذا ، مرتين ، ثم قال : من يأخذ هذا المصحف ، فيمشي به إلى هؤلاء القوم ، فيدعوهم إلى

---------------------------
(1) مناقب الإمام علي (عليه السلام) ، لابن المغازلي ص413 و414 ، وفي هوامشه عن مصادر كثيرة أخرى فلتراجع ، وقاموس الرجال ج5 ص436/437 عن أبي عبيدة وشرح النهج للمعتزلي ج2 ص282 عن أبي عبيدة.
(2) راجع : مروج الذهب ج2 ص405.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول _ 184 _

  كتاب الله [ربهم] ، وسنة نبيهم ، وهو مقتول ، وله الجنة ؟!
  فلم يجبه إلا شاب من بني عامر بن صعصعة.
  فقال له علي : خذ.
  فأخذ المصحف [فقال له] : أما إنك مقتول ، ولست مقبلاً علينا بوجهك حتى يرشقوك بالنبل.
  فخرج الشاب بالمصحف إلى القوم ، فلما دنا منهم حيث يسمعون قاموا ، ونشبوا الفتى قبل أن يرجع [قال] فرماه إنسان ، فأقبل علينا بوجهه ، فقعد.
  فقال علي : دونكم القوم.
  قال جندب : فقتلت بكفي هذه [بعد ما دخلني ما كان دخلني] ثمانية قبل أن أصلي الظهر ، وما قتل منا عشرة ، وما نجا منهم عشرة ، كما قال ) (1) .

تأثير نهج علي (عليه السلام) في (الخوارج ) :
  إن أهل العراق لم يعرفوا علياً إلا لمدة وجيزة كانت مليئة بالحروب والمآسي ، مشحونة بالكوارث على مختلف المستويات ، والاتجاهات.
  وكان العراقيون يعيشون أجواء الحرب والقتال منذ عهد عمر بن الخطاب ، الذي جعل العراق منطلقاً لحملاته العسكرية في فتوحات بلاد فارس ، وسائر المناطق الشرقية ...

---------------------------
(1) راجع : كنز العمال ج11 ص276 عن الطيالسي ، مجمع الزوائد ج6 ص241 و242 عن الطبراني في الأوسط ، وذكره أيضاً في منتخب كنز العمال ، مطبوع مع مسند أحمد ...