وزعموا أن الراسبي صحابي ، ذكره ابن حجر وغيره ، وكذا حرقوص بن زهير ، وشجرة بن أوفى السلامي ، وأبو الهيثم بن التيهان ، وفروة بن نوفل الأشجعي ، وسارية بن لجام السعدي ، ويزيد بن قيس الأزدي ، وجعفر بن مالك السعدي ، وبشر بن جبلة العامري ، وشريك بن الحكم الأزدي ، ومرداس أبو بلال ، وإخوة حيان ، والمستورد بن علاثة ، والأشعث بن بشر العبدي ، وميسرة بن خالد الفهري ، وابو الصهباء ، وحمزة بن سنان ، وزيد بن حصن الطائي ، وعباد بن الحرشاء الطائي ، والحويرث بن ودع الأسدي ، وعمر بن الحارث الأنصاري ، ويزيد بن عاصم ، وأربعة أخوة له ممن بايع تحت الشجرة ، وشجرة بن الحارث السلامي ، وعبد الله بن شجرة ، بايع رسول الله (صلى الله عليه وآله) تحت الشجرة ، وأربعة اخوة له ، وثلاثة بني أخوة له ، و ... (1) .
  ويستمر في ذكر أسماء من زعم أنهم كانوا من الصحابة ، وكانوا من (الخوارج ).
  ثم إن الحارثي الإباضي يقول إزاء ما ورد في حق المارقة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) : (فيجب احترام الصحابة ، وقول الحق فيهم.
  وتحمل الأحاديث الواردة في (الخوارج ) ، على الصفرية والأزارقة ، الذين يستحلون دماء أهل القبلة ، وسبي ذراريهم ، ونسائهم ) (2) .
  وقد أشار الحارثي إلى أن المراد بـ (الخوارج ) ، هم خصوص الأزارقة والصفرية في غير هذا الموضع من كتابه أيضاً ، فراجعه .

---------------------------
(1) العقود الفضية ص 47 و48 وراجع ص 46 و63 و64.
(2) العقود الفضية ص 63.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول _ 315 _

  ونقول : إننا نسجل هنا ما يلي :
  1 ـ إن الذين ذكر أسماءهم على أنهم من الصحابة لا تجد للكثير منهم حتى الأسماء ذكراً في كتب الصحابة ، ولو على سبيل الاحتمال ، ومعنى هذا أن ثمة خداعاً واضحاً وتزويراً ظاهراً ، لا مجال لتبريره.
  2 ـ إن الالتجاء إلى ما شاع لدى بعض الفرق من تقديس لكل من رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يجدي في تصويب ما عليه (الخوارج ) ، ولا يعطيهم شرعية لمواقفهم ، لاسيما وأن (الخوارج ) أنفسهم يحكمون على مشاهير الصحابة بالكفر ، والخروج من الدين (1) .
  وتكفيرهم للصهرين ، وكل من شايعهما وتابعهما لا يستطيع أحد أن ينكره ، أو أن يشكك فيه.
  3 ـ إن وجود هؤلاء الأشخاص ـ حتى لو كانوا من الصحابة ـ لا يستطيع أن يلغي قول النبي (صلى الله عليه وآله) في (الخوارج ) ، ولا يمكن أن يبرئهم من جريمة مروقهم من الدين التي أثبتها عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله).
  وإحالة الأمر على الأزارقة ، والصفرية لا يلغيه عمن عداهم ، لاسيما وأن النبي (صلى الله عليه وآله) قد وصفهم لعلي (عليه السلام) بالمارقين ، وأخبره أنه (عليه السلام) سوف يقاتلهم ... وأخبره (صلى الله عليه وآله) أيضاً عن وجود ذي الثدية فيهم ، إلى غير ذلك مما هو معروف ومشهور ، وفي مختلف المصادر والمراجع مسطور.

---------------------------
(1) راجع العقود الفضية ص 70 و167.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول _ 316 _

  4 ـ إن عدّ أبي الهيثم بن التيهان في جملة (الخوارج ) ، هو كعد صعصعة بن صوحان في جملتهم أيضاً ، لا يمكن أن يصح ، بل لا يستحق الالتفات ، إليه فضلا عن الاستدلال على بطلانه ...
  5 ـ إن عد ابن ملجم في جملة الصحابة هو الآخر جريمة كبيرة ، وخزي عظيم ، يدل على الجهل الذريع بحقيقة هذا الرجل ، أو على التعصب البغيض الذي يجرّ صاحبه للكذب والاختلاق ، والتزوير المفضوح ...

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول _ 317 _

الباب الرابع : علي (عليه السلام) ... والخوارج

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول _ 319 _

الفصل الأول : علي (عليه السلام) وشعارات الخوارج

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول _ 321 _

شعارات (الخوارج ) :
  إن شعارات (الخوارج ) كانت دينية في ظاهرها ، ورنانة ومثيرة ، وقادرة على أن تجتذب إليها أولئك الناس الذين ينطلقون في مواقفهم من خلال مشاعرهم وأحاسيسهم ، ولا يملكون من المعايير الفكرية ما يمكنهم من تقييم الأمور بطريقة صحيحة وموضوعية.
  بل كانت تلك المشاعر والأحاسيس تختلس منهم فرصة التفكير الهادئ والرصين ، لتكون ترجمتها هيجاناً عارماً ، وفتكاً فظيعاً ، وبطشاً بشعاً ومريعاً.
  ويزيد هذه الشعارات تأثيراً في عنف حركة (الخوارج ) هو كونها تنطلق في تلك المناخات الموبوءة والمريضة ، وفي ظل مظاهر الانحراف الأموي عن جادة الحق والدين.
  بالإضافة إلى : أن تلك الشعارات كانت تتناغم مع مشاعر الشباب الذين يميلون إلى التمرد ، وحب الاستقلال ، والرغبة بالاضطلاع بأعمال كبيرة ، تجذب أنظار الآخرين ، وغير ذلك من حالات تختزنها شخصية الشباب الناشئ ، والحدث الذي لم يجرب الأمور ، بل يندفع إليها برعونة وطيش ، وبلا حساب.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول _ 322 _

  ولعل هذه الشعارات وتلك العواطف الجياشة في مثل هاتيكم المناخات كانت هي السبب في بقاء (الخوارج ) في أصلاب الرجال ـ كما أخبر به علي (عليه السلام) ـ فكانت تظهر بصورة وبأخرى فورات تتميز بالعنف والطيش والرعونة ، ثم تخمد تحت وطأة الضغوط والظروف الموضوعية ، التي تنشأ من حالات الفعل وردات الفعل ، مما لم يكونوا يحسبون له حسابات صحيحة أو كافية لاستيعاب تداعيات الحدث الذي يثيرونه في الواقع العام.
  وهكذا ... فقد كانت تلك الشعارات تسقط أمام ضغط الواقع ، وتتلاشى في زحمة نزوات الأهواء ، وعثرات الميول ـ وينتهي الأمر بحاملي تلك الشعارات إلى أن يصبحوا ـ حسبما تنبأ به علي أمير المؤمنين (عليه السلام) ـ في نهاية الأمر لصوصا سلابين.

سمات ... وحالات :
  وإذا أردنا أن نستعرض سمات وحالات (الخوارج ) في النصوص التاريخية ، فسنجد ـ كما قد تقدم في تمهيد الكتاب : أن من هذه الصفات والحالات التي عرفوا بها : أن السنتهم ذليقة بالقرآن ... وأن لهم سمت وخشوع.
  وأنهم يحسنون القيل.
  ويسيئون الفعل.
  وأنهم يسألون كتاب الله ، وهم أعداؤه.
  ويدعون إلى كتاب الله ، وليسوا منه في شيء.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول _ 323 _

  وأن جباههم سود من كثرة العبادة ... وأن شعارهم هو : لا حكم إلا لله .
  وأن ازرهم تكون إلى نصف الساق ، وان سيماهم التحليق ، أو التسبيل.
  إلى غير ذلك مما يجده المتتبع لسيرتهم وأحوالهم.

بين الواقع والشعار :
  وإذا راجعنا الأحاديث الواردة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في وصف (الخوارج ) ، وبيان علاماتهم وصفاتهم ، فإنها تفيدنا : أن على الإنسان المؤمن والواعي أن لا ينخدع بالمظاهر ، وان لا يعتبرها الميزان والمعيار في الحق والباطل ، وفي الصلاح والفساد ، وأن عليه أن لا ينساق وراء الشعارات الثورية والبراقة ، ما لم يتأكد من محتوى الشعار وخلفياته.
  أي أن عليه أن يرصد حركة الواقع بدقة ووعي ليتعرف على دوافع إطلاق الشعار ، وعلى العوامل التي أفرزت تلك المظاهر.
  وقد كان أصحاب الطموحات ، وطلاب اللبانات وما زالوا يحاولون الاستفادة من شعارات مغرية ، وأساليب ذات طابع إنساني ، أو ديني في سبيل الوصول إلى مآرب ، وتحقيق أهداف لا تنسجم ولا تتلاءم معها ، إن لم تكن أقرب إلى الانحراف والخيانة واللصوصية منها إلى الإنسانية والشرف والدين .

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول _ 324 _

أمير المؤمنيين (عليه السلام) وشعارات (الخوارج ) :
  وقد كان أمر (الخوارج ) واضحاً بيناً لكل من مارس الأمور ، وأحكمته التجارب ، وجرى وفق المعايير الصحيحة في فهم الأمور وتقييمها.
  ومن هنا ، فإننا نجد أمير المؤمنين (عليه السلام) قد بذل محاولات مضنية وكبيرة في سبيل تعريف (الخوارج ) على مواقع خطئهم في فهم الأمور ، وقد ناظرهم ، وأقام عليهم الحجة ، فرجع منهم إلى الحق من رجع ، وهم كثيرون ، وبقيت ثلة كبيرة منهم ، لم يرتدعوا عن غيهم ، رغم أنه (عليه السلام) قد أوضح لهم أنه : لم يحكم الرجال في دين الله ، وإنما حكم القرآن ، لأن حكم الكتاب واحد (1) .
  وقد أدان هذا النوع من العمل ، وهذه الطريقة من الممارسة وأوضح حقيقة ما يرمون إليه حين أعلن أن شعارهم الذي يقول : لا حكم إلا لله كان مجرد خدعة ، رسمت معالمها عن سابق علم وتصميم ، وأطلق كلمته التي ذهبت مثلاً : (كلمة حق يراد بها باطل ) (2) .

---------------------------
(1) راجع : المعيار والموازنة ص 172 و177 و199 وكنز العمال ج11 ص 291 عن ابن أبي حاتم في السنة ، والبيهقي في الأسماء والصفات والأصبهاني واللالكائي.
(2) راجع : مسند أحمد ج5 ص 44 و36 والمعيار والموازنة ص 170 وكنز العمال ج11 ص 180 و294 ورمز للمصادر التالية : [حم ، ق ، ط وابن جرير] ومجمع الزوائد ج 6 ص 230 عن أحمد ، والبزار والطبراني ، وتاريخ بغداد ج1 ص 160 وج10 ص 305 وفرائد السمطين ج1 ص 277 والبداية والنهاية ج7 ص 292 والخصائص للنسائي ص 139.
  ونظم درر السمطين ص 116 وكشف الغمة ج1 ص 264 ومناقب آل أبي طالب ج3 ص 188 وذخائر العقبى ص 110 وعن تاريخ اليعقوبي ج2 ص 191 وعن الاشتقاق ص 220 والرياض النضرة ج3 ص 224 والثقات ج2 ص 295 وتذكرة الخواص ص 99 ونهج البلاغة ج3 ص 197 وج1 ص 87 وبشرح النهج للمعتزلي ج1 ص 104 والكامل لابن الأثير 3/334 و335.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول _ 325 _

  فقد روي ، عن أبي إسحاق ، قال :
  لما حكمت الحرورية قال علي (عليه السلام) : ما يقولون ؟.
  قيل : لا حكم إلا لله .
  قال : الحكم لله ، وفي الأرض حكام ، ولكنهم يقولون : لا إمارة ، ولابد للناس من إمارة يعمل فيها المؤمن ، ويستمتع فيها الفاجر ، والكافر ، ويبلغ الله فيها الأجل (1) .
  وعن قتادة قال : لما سمع علي المحكِّمة قال : من هؤلاء ؟!.
  قيل له : القراء.
  قال : بل هم الخيابون العيابون.
  قيل : إنهم يقولون : لا حكم إلا لله .
  قال : كلمة حق عزي بها [أو أريد بها] باطل الخ ... (2) .
  فهذه الشعارات التي كانوا يطلقونها ، والتي كانت تفعل فعل السحر في نفوس السذج والبسطاء من الناس ، قد جعلت استجابة هؤلاء ، الناس إليهم ، سريعة ورعناء ، ومن دون أن يكلف المستجيبون أنفسهم عناء

---------------------------
(1) المصنف ج10 ص 150 وكنز العمال ج11 ص 286 و309 ورمز له بـ [عب ، ق ، ش] وراجع : العقد الفريد ج2 ص 388 وراجع : أنساب الأشراف ج2 ص 377 [بتحقيق المحمودي] ونهج البلاغة ج1 الخطبة رقم 40 وفجر الإسلام ص 259.
(2) المصنف للصنعاني ج10 ص 150 والمعيار والموازنة ص 170 وكنز العمال ج11 ص 273 وفي هامشه عن منتخب كنز العمال ، وعن جمع الجوامع ، وعن الجامع الكبير.
  والكلمة الأخيرة في كنز العمال 11/281 عن [ابن وهب ، م ، ابن جرير ، أبي عوانة ، حب ، ابن أبي عاصم ، ق].

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول _ 326 _

  التأمل والتفكير في ابعاد تلك الشعارات وخلفياتها ، ومنطلقاتها ، وركائزها العقائدية ، ومدى صحتها ، إن كان ثمة أساس أو مرتكز عقائدي وإيماني لها.
  والذي ساعد على ذلك : أن الذين كانوا على مستوى مقبول من الثقافة والمعرفة ، وكان يمكنهم تعريف الناس على حقائق الأمور ، كانوا غير موجودين في صفوف (الخوارج ) ، وإذا كان منهم من لديه شيء من المعرفة ، فإنه كان قد اختار طريق الانحراف ، وكان يعمل على انتهاز الفرصة لتحقيق طموحاته ومآربه.
  وقد روى سعيد بن جمهان قال : كنا مع عبد الله بن أبي أوفى ، يقاتل (الخوارج ) ـ وقد لحق غلام لابن أبي أوفى بالخوارج ـ فناديناه : يا فيروز ، هذا ابن أبي أوفى!.
  قال : نعم الرجل لو هاجر.
  قال : ما يقول عدو الله ؟.
  قال : يقول : نعم الرجل لو هاجر.
  فقال : هجرة بعد هجرتي مع رسول (صلى الله عليه وآله) ؟ يرددها ثلاثاً ـ سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول : طوبى لمن قتلهم ، ثم قتلوه ، قال عفان في حديثه : وقتلوه ، ثلاثاً (1) .
  وعن أبان قال : خرجت خارجة من البصرة ، فقتلوا ، فأتيت أنساً : فقال : ما للناس فزعوا ؟

---------------------------
(1) مسند أحمد ج4 ص 382 و357.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول _ 327 _

  قلت : خارجة خرجت.
  قال : يقولون ماذا ؟!.
  قال : قلت : يقولون : مهاجرين.
  قال : إلى الشيطان هاجروا ، أو ليس قد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : لا هجرة بعد الفتح (1) .
  ومهما يكن من أمر فإن ما قام به (عليه السلام) من تعريف الناس على خلفيات تلك الشعارات ، وبيان زيفها لهم قد آتى ثماره ، حيث لم يستطع زعماء (الخوارج ) أن يربحوا إلى صفوفهم إلا الأحداث والجهال الذين ليس لديهم أثارة من علم ، ولا سابقة في الإسلام ، وقد رجع الألوف من نفس أولئك الذين خدعوهم بشعاراتهم في بادئ الأمر ـ رجعوا بسبب ـ ما ظهر لهم ، بعد أن أقام (عليه السلام) عليهم الحجة ، وجلىّ لهم الحقيقة.
  وقد رأينا : أن أنساً ، وابن أبي أوفى اللذين كانا على اطلاع تام بما جرى بين علي (عليه السلام) وبين (الخوارج ) ، وباحتجاجاته (عليه السلام) عليهم ، وبإيضاحاته المتتالية لفساد ما يستندون إليه ، وما يعتمدون عليه ـ قد رأينا ـ أنهما قد اتخذا الموقف الصحيح من تلكم الشعارات الخادعة ، وأعلنا للناس بفسادها تأسياً بعلي (عليه السلام).

تفصيلات عن موقف علي (عليه السلام) :
  وبعد ... فإن مراجعة حياة أمير المؤمنين (عليه السلام) وسيرته تفيدنا :

---------------------------
(1) المصنف ج10 ص 152.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول _ 328 _

  1 ـ إنه (عليه السلام) قد رفض هذه الأساليب في التعامل في جميع أدوار حياته ، ولم ينس (الخوارج ) ، ولا غيرهم ، رفضه (عليه السلام) لمكيدة رفع معاوية وجيشه للمصاحف في صفين (1) .
  ثم إنه قد أطلق في حرب الجمل كلمته المشهورة الأخرى ، حينما قال : إنما يعرف الرجال بالحق ، ولا يعرف الحق بالرجال.
  وقال : إعرف الحق تعرف أهله (2) .
  2 ـ قد يقال : إن علينا أن نفهم موقف (الخوارج ) على أنه منطلق من شبهة دخلت عليهم ، أو جعلتهم يشكون في صواب مواقف علي (عليه السلام) فاتخذوا على أساس ذلك مواقف حادّة ، تنطلق من حقد يجيش في صدورهم ، ثم خالط ذلك حب الدنيا ، والطموح إلى الحصول على شيء من حطامها ، ولاسيما لدى زعمائهم ... ونقول في مقام توضيح ذلك وتصحيحه : إن علينا أن نضيف إلى ذلك أيضاً : أنه يفهم من الروايات الواردة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن الجهل الذريع ، إذا استحكم في الإنسان ، وخالطه شيء من العجب بالنفس نتيجة لقراءتهم القرآن من دون تدبر ، وعبادتهم المضنية من دون خشوع ، فإنه يؤدي إلى الهلاك المحتم ، وإلى الدمار المريع ، ويهلك ذلك الحرث والنسل ، حيث يكون ذلك سبباً في أن يصبح الهوى شريعة ، والانحراف ديناً ، ولا يبقى ثمة ميزان يعرف فيه الحق من

---------------------------
(1) لا يحتاج ذلك إلى مصادر فإن أغلب من تحدث عن صفين ذكر ذلك عنه (عليه السلام).
(2) كتاب الأربعين للشيخ الماحوزي ص 84 و195 والطرائف ص 5 والبحار ج27 ص 279 وج4 ص 126 ومستدرك سفينة البحار ج2 ص 344 والمعيار والموازنة ص 5 والتدقيق الرباني ص 195.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول _ 329 _

  الباطل ، والدين من اللادين ، وتتحكم بمصير الأمة الأهواء الطاغية ، والطموحات الباطلة ، والنزوات والشهوات ...
  3 ـ إن الأمر الصادر بقتل هؤلاء رغم تظاهرهم بالعبادة ، وبقراءة القرآن ، لا يبقي مجالاً للتعلل ، والقعود ، والسكوت عن الانحراف بحجة : أن جهلهم عذر لهم ، وان إسلامهم وعبادتهم سياج وحصن لهم يلوذون به ويلجأون إليه ... وحتى لو فرضنا : أنهم مقتنعون بمواقفهم ، فإن قطعهم ويقينهم لا يبرر مواقفهم الخاطئة التي تمس في خطئها جوهر الدين ، أو على حساب حياة ووحدة واستقرار ، وطمأنينة ، وانتظام أمور المسلمين جماعات ، وأفرادا ... بل إن عليهم أن يلتزموا خط الطاعة والانقياد لولي أمرهم العارف بالدين ، والصادع بالحق ، الذي هو مع الحق والحق معه ، يدور معه حيثما دار.
  وحتى لو كان ذلك يصدر منهم من منطلق رؤيتهم لأنفسهم ، بأن لهم الحق في أن يجتهدوا ، وأن يقرروا ، ولو على تقدير تصنيفهم في دائرة الجاهل المركب ، أو رؤية الناس لهم ، على أنهم قد اجتهدوا فأخطأوا ، وأرادوا الحق ، فوقعوا في الباطل ، بحسن نية ، وسلامة طوية ، فإن ذلك كله لا يصلح عذراً لهم في معصية إمامهم ، ثم الولوغ في دماء المسلمين بهذه الطريقة البشعة ، كما أنه لا يصلح للاعتذار به عن التصدي لفسادهم وانحرافهم ، ودفع غائلتهم ، ومنعهم من الفساد في الأرض ، وفي الدين.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول _ 330 _

  4 ـ إنه نتيجة لجهل هؤلاء بالدين وأحكامه قد ارتكبوا في حق الأمة والدين تلك الجرائم والعظائم ، وهذا يشير إلى أن خطر الجهل يفوق كل خطر ، حتى إنه قد يودي بحياة أمم وأجيال ، ويكرس الانحراف ليصبح سنة قائمة ، وشريعة دائمة ...
  5 ـ إن الجاهل إذا اتخذ سبيل النسك ، والعبادة ، طريقاً له فانه لا يخدع الناس بمظاهره وحسب ، بل إنه هو نفسه أيضاً ينخدع بنفسه حيث يتخيل أنه قد وصل إلى درجات عالية لم يصل إليها غيره ، وأنه أصبح يمثل إرادة الله سبحانه على الأرض ، وتصبح لديه الجرأة على التصدي لأعمال ، لم يكن يجرؤ على التفكير فيها من قبل ، ويقدم على مواقف خطيرة ، قد تمس مصير الأمة بأسرها ، وقد يعطي لنفسه الحق بان يقول في الدين ، ويصدر الفتاوى ويبتكر النظريات فيه ، فيخبط خبط عشواء ، وتظهر من جراء ذلك البدع ، وتصبح الأهواء شريعة ، والشهوات ديناً ... وينخدع بمثل هؤلاء السذج والبسطاء ، حيث يرون هؤلاء الجهلة عباداً ونساكاً ، ويدعون لأنفسهم العلم والمعرفة ، ويطلقون الشعارات البراقة والخادعة ، ويصورون لهم أنفسهم على أنهم هم القيمون على الدين ، وعلى شريعة سيد المرسلين ... كما كان الحال بالنسبة للخوارج موضع بحثنا هنا ... ومن ذلك كله نعرف بعضاً من المغزى العميق ، الذي تشير إليه كلمة علي أمير المؤمنين (عليه السلام) : (قصم ظهري اثنان : عالم متهتك.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول _ 331 _

  وجاهل متنسك ) (1) .
  كما أننا مما تقدم وسواه ندرك بعض السر لما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حق (الخوارج ) ، من أنهم : شر الخلق والخليقة ، يقتلهم خير الخلق والخليقة (2) .
  وفي لفظ آخر : يقتلهم خيار أمتي ، وهم شرار أمتي (3) .
  6 ـ إن الجريمة التي ارتكبها (الخوارج ) في حق الدين والأمة ، والتي ستبقى آثارها إلى يوم القيامة ... بسبب جهلهم ، وانقيادهم لأهوائهم ، وإظهارهم النسك والعبادة ووو ... الخ ... إن هذه الجريمة تفوق في هولها وفظاعتها وعمقها كل جريمة على الإطلاق ، حتى استحقوا أن يصفهم الرسول (صلى الله عليه وآله) بأنهم شر الخلق والخليقة.
  فلو أنهم لم يقفوا ذلك الموقف حين رفع معاوية وجيشه المصاحف ، وسمعوا قول إمامهم ، وامتثلوا أمره بمواصلة الحرب ، حتى تفيء الفئة الباغية لأمر الله سبحانه ، لتغير مجرى الحوادث في التاريخ ، ولكانت اجتثت الشجرة الخبيثة من فوق الأرض، ولم يبق لها ثمة من قرار ...

---------------------------
(1) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج20 ص 284.
(2) مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي ص 56 وأرجح المطالب ص 599 ط لاهور وعن مجمع الزوائد ج6 ص 239 والشيعة في التاريخ ص 42 عن مسند احمد بن حنبل عن مسروق عن عائشة وقريب منه عن تاريخ بغداد ج1/160 وشرح النهج للمعتزلي ج2/267.
(3) مجمع الزوائد ج6 ص 239 عن البزار والطبراني في الأوسط وفي المحاسن والمساوئ ج2 ص99 : أن النبي (صلى الله عليه وآله): عن ذي الثدية : أنه يقتل مع شر جيل يقتلهم خير جيل.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول _ 332 _

  كما أن موقفهم بعد ذلك من أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وإفسادهم في الأرض ، حتى انجر ذلك إلى حربهم ، قد جعل العراقيين يملون الحرب ، ويتثاقلون عنها ، بعد أن قتلوا آباءهم وابناءهم وإخوانهم في النهروان ، فلم يستجيبوا لدعوة أمير المؤمنين (عليه السلام) لهم للنفر إلى حرب القاسطين ، وهم معاوية وحزبه من جديد.
  ثم إنهم قتلوا أمير المؤمنين علياً صلوات الله وسلامه عليه ، غيلة بعد ذلك ... فمكنوا لمعاوية ، ولكل من هم على شاكلته من أن يستمروا في خططهم لهدم الإسلام ، وطمس معالمه ، وتسخير كل شيء في سبيل أهواءهم ومصالحهم.
  وقد كانت تلك خدمة جليلة أسداها (الخوارج ) للحكم الأموي ، ولكل المنحرفين عن خط الرسالة ، وعن أهل بيت النبوة ، عليهم الصلاة والسلام ، دون أي مقابل ... سوى ما جروا على أنفسهم ، وعلى الأمة ، وعلى الدين من ويلات وكوارث.
  ويبتلي (الخوارج ) بعد وفاة أمير المؤمنين بمحاربة نفس هذا الحكم الذي مكنوا هم أنفسهم له ، فيكيلون له ويكيل لهم الضربات القاصمة.
  7 ـ إن ما ورد في الروايات عنه (صلى الله عليه وآله) من كونهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية ، يدل على أنهم ليسوا على شيء من الدين ، وأنهم قد خرجوا منه كما دخلوا فيه.
  إذن فاعتبارهم على شيء من الدين والإسلام ، لا يتناسب مع هذه الروايات ، ولا ينسجم معها ، وقد قال الجاحظ رداً على من كان يحمد الله على أنه لم يشهد حروب الجمل ، وصفين ، والنهروان ، وفتنة ابن الزبير.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول _ 333 _

  إنا لا نعرف لبعض ما قال وجهاً ، لأنك لا تعرف فقيهاً من أهل الجماعة لا يستحل قتال (الخوارج ) ، كما أنا لا نعرف أحداً منهم من لا يستحل قتال اللصوص ، وهذا ابن عمر ـ وهو رئيس الحلسية بزعمهم ـ قد لبس السلاح لقتال نجدة (1) .
  ونحن لا نوافق الجاحظ على الفقرة الأخيرة ، فإن ابن عمر قد وافق نجدة وصلى خلفه ، كما سنرى.
  8 ـ إن قوله (عليه السلام): (نعم ، إنه لا حكم إلا لله ولكن هؤلاء يقولون : لا إمرة إلا لله ، وإنه لا بد للناس من أمير الخ ) (2) .
  يفيدنا أن الخوارج يرون : أنه ليس للحاكم أن يتصرف أي تصرف يرى فيه صلاح المسلمين ودفع شر أعدائهم ، وفي هذا تعطيل لدوره كحاكم ، فهم إذن يريدونه مأموراً للرعية لا آمراً ، فأوقعهم ذلك في الخطأ والتناقض ، فهم أنفسهم لا يمكنهم أن يضبطوا أمورهم إلا بواسطة تعيين حاكم وأمير لهم ، وكانوا يفعلون ذلك ، ولا يصبرون على العيش بدونه ، بل لا يتهيأ لهم ذلك ولا يقدرون عليه ، ولكنهم يصرون على أمير المؤمنين أن لا يتصرف كأمير وحاكم ، زاعمين له أن حق الحاكمية : إنما هو لله فلا يصح لغيره أن يتصرف!!.
  9 ـ والغريب في الأمر : أنهم قد خلطوا أيضاً بين التحكيم وبين الحاكمية مع أن التحكيم غير الحاكمية ، فإنه يمكن التحكيم والطلب من الحكمين أن يحكما بموجب القرآن ، وهذا ليس معناه : أنهما قد

---------------------------
(1) البيان والتبيين ج3 ص 130.
(2) شرح نهج البلاغة ج2 ص307 وفجر الإسلام ص 259.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول _ 334 _

  جعلا الحكمين حاكمين في قبال الله، فإن اكتشاف الحكم من القرآن لا يعني الحاكمية والإمرة للمكتشف ... قال المعتزلي بعد أن ذكر أن قول يعقوب : إن الحكم إلا لله معناه : أنه إذا أراد شيئاً من أفعال نفسه فلا بد من وقوعه ، بخلاف غيره من القادرين بالقدرة ، فالذي ينفذ مراده لما هو من أفعاله ، هو الله تعالى فقط ، قال : (فهذا معنى الكلمة ، وضلت (الخوارج ) عندها ، فأنكروا على أمير المؤمنين (عليه السلام) موافقته على التحكيم ، وقالوا : كيف يحكم وقد قال الله سبحانه : (إن الحكم إلا لله) ؟ فغلطوا لموضع اللفظ المشترك ، وليس هذا الحكم هو ذلك الحكم ، فإذن هي كلمة حق يراد بها باطل ، لأنها حتى على المفهوم الأول، يريد بها (الخوارج ) في كل ما يسمى حكماً إذا صدر عن غير الله تعالى ، وذلك باطل لأن الله تعالى قد أمضى حكم المخلوقين في كثير من الشرائع ) (1) .
  وحسبنا ما ذكرناه هنا ، فان ما سوف نشير إليه إن شاء الله في ثنايا هذا الكتاب يكفي لإعطاء تصوير على درجة من الوضوح عن هذه الفئة ، وذلك بالمقدار الذي يسمح لنا به الوقت المحدود ، والفرصة المتاحة ، وما توفره لنا النصوص التي أفصح لنا عنها تاريخ هذه الفئة ، وأمكننا الرجوع إليها ، والحصول عليها.

---------------------------
(1) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج9 ص 17.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول _ 335 _

الموقف الرسالي :
  عن كثير بن نمر ، قال : دخلت مسجد الكوفة عشية جمعة ، وعلي يخطب الناس ، فقاموا في نواحي المسجد يحكمون ، فقال بيده : هكذا ، ثم قال : (كلمة حق يراد بها باطل ، حكم الله أنتظر فيكم ، أحكم فيكم بكتاب الله ، وسنة رسوله ، وأقسم بينكم بالسوية ، ولا نمنعكم من هذا المسجد أن تصلوا فيه ، ما كانت أيديكم مع أيدينا ، ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا ) (1) .
  وفي نص آخر : (لكم علينا ثلاث ، لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله ، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا ، ولا نبدؤكم بقتال ) (2) .
  ومن الواضح : أن أدنى ما يمكن توقعه من أي حاكم من الحكام الزمنيين ، الذين رأينا عبر القرون والأحقاب أنحاء تعاطيهم مع أمور كهذه هو ـ أنه حين يواجه أمثال هؤلاء ، ويكون في موقف كهذا ، أن يأمر باعتقال كل الذين يطلقون شعاراً يسيء إلى حكمه ، وإلى موقعه ، ثم يحاسبهم ويعاقبهم بالصورة التي تضمن عدم تكرار ذلك منهم ، بحيث يكون ذلك عبرة لغيرهم .
  ولكن أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) ـ وهو الحاكم الإلهي المعصوم ـ لا يقيم وزناً للحكم بما هو حكم ، لأن الحكم عنده إنما هو

---------------------------
(1) مجمع الزوائد ج6 ص242 و 243 وراجع الإلمام ج1 ص36 وراجع أنساب الأشراف ج2 ص 325 [بتحقيق المحمودي].
(2) المبسوط ج7 ص269 وراجع : الإباضية عقيدة ومذهباً ص39 عن فتح الباري ج12 ص301 وراجع البداية والنهاية ج7 ص282 و285 والكامل لابن الأثير ج3 ص335.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول _ 336 _

  وسيلة لإقامة الحق ، ودفع الباطل ، فليس الحكم بما هو حكم امتيازاً ، وإنما هو مسؤولية وأمانة ، لابد من القيام بها على أحسن وجه ، وأدائها إلى أصحابها .
  ومن هنا ... يصبح من الطبيعي أن نجده (عليه السلام) لا ينطلق في مواقفه من مبدأ هيبة الحكم ، وهيمنة السلطان ، ولا يعاقب على الجرأة على ذلك ولا يهتم له .
  فان ذلك ليس إلا مجرد اعتبارات وعناوين صنعها ضعف الإنسان ، وصورها له خوفه من فقدان ما يراه امتيازاً شخصياً له .
  أما علي (عليه السلام) فإنه ـ يسجل مبدأه في التعامل مع الآخر ، وأنه من موقع التكليف الشرعي والمسؤولية الإلهية ، فلا تثيره تلك الشعارات ، ولا تخرجه عن حالة التوازن ، بل هو يقرر القاعدة الإسلامية التي تقوم على الأسس الأربعة التالية :
  1 ـ الحكم فيهم بكتاب الله، وسنة نبيه.
  2 ـ يقسم بينهم الفيء بالسوية.
  3 ـ لا يمنعهم من مساجد الله سبحانه أن يصلوا فيها ، ما دامت أيديهم مع أيديهم.
  4 ـ لا يبدؤهم بقتال حتى يبدؤوه.
  لماذا هذه الأربعة :
  ويبقى أن نشير هنا إلى سر التركيز على هذه الأصول الأربعة دون غيرها ، فإن ذلك واضح ، من حيث أنه يمس حياة الناس ، ويلامس وجودهم ومصيرهم فالمطلوب من أي حاكم كان أن لا يتجاوز هذه

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول _ 337 _

  الأصول الأربعة ، فإن الرعية إنما تطلب من الحاكم أن يتعامل معها على أساس ضوابط محددة ومقبولة ، ولا يسعدها أن يتعامل معها على أساس نوازعه الشخصية ، وطموحاته وأهوائه ، لأنها لا تجد في ذلك حلاً لمشاكلها التي تعاني منها ، إن لم تجد فيه ما يزيدها شقاءً وبلاء وعناءً ... وهي أقرب إلى التسليم والانقياد والوثوق بما يأتيها من قبل الله سبحانه ، الذي عرفته خالقاً مدبراً ، حكيماً ، عالماً بكل صغيرة وكبيرة، لا يريد لها إلا الخير ، ولا يجر نفعاً إلى نفسه سبحانه ، ولا يخالجها أدنى شك بصواب تدبيره ، وصحة تشريعاته .
  وبالنسبة للأصل الثاني ، فإنه قد جاء موافقاً لواقعية النظرة الإسلامية ، في مجال العدالة الاجتماعية ، مادام أن المقتضي لقسمة الفيء، والهدف منه لا يختلف من شخص لآخر ، ولا من فريق بالنسبة إلى غيره ، بعد أن شارك الجميع وساعدوا في الحصول على ذلك الفيء ، بعد أن كانت مبررات إنفاقه فيهم متساوية من حيث الهدف والمنشأ على حد سواء .
  وبالنسبة للأصل الثالث ، فإنه هو الذي ينسجم مع أصل الحرية المشروطة ، التي هي منحة إلهية للإنسان على أساس حفظ أصول التعايش، والحفاظ على المصالح المشتركة لابناء بني الإنسان ، فهم أحرار في مجال الاستفادة من المرافق العامة ، مادام أن هذه الاستفادة توجب القوة والمنعة ، وتذليل الصعاب ... أما إذا أصبحوا في موقع التآمر ، والعداء ، فإن وجودهم في المساجد حينئذ يصبح سبباً في التشتت والخلاف ، والتمزق والضعف ، وإشاعة حالة النفاق والنميمة ، والاطلاع على مواضع الضعف والقوة ، ومعرفة

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول _ 338 _

  الثغرات التي يمكن من خلالها تسديد الضربات للقوى الصالحة والمؤمنة.
  وحول الأصل الرابع والأخير ، نقول : إن ذلك هو ما تمليه المسؤولية الشرعية وأخلاق الإسلام وتعاليمه ، فان الحاكم ، لابد أن يرعى حالة الأمن للأمة بطريقة صحيحة.
  ومن الطبيعي أن يكون لاحتمالات شن الحكم حرباً على الرعية بصورة ابتدائية ، وبمبادرة غير مسبوقة ، سيجعل الناس يعيشون حالة الرعب والخوف ، وعدم الثقة بالحكم وبالحاكم ، ويفسح المجال ـ من ثم ـ لمن في قلوبهم مرض لإشاعة هذه الحالة ، وتشكيك الناس بنوايا الحكم والحاكم تجاههم في أي وقت بلا مبرر ولا جهة.
  ولا يعود للحكم ولا للحاكم تلك القداسة ، ولسوف تختل الرابطة بينهم وبينه ، والتي لابد أن تقوم على أساس الحب والثقة ، فلا حب بعد ولا ثقة ، ولا يعود الحكم هو الحامي والحافظ ، والملجأ لهم والملاذ.

الإمتحان ... والناجحون والمخفقون :
  عن أبي سعيد الخدري : أن أبا بكر جاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فقال : يا رسول الله ، إني مررت بوادي كذا وكذا ، فإذا رجل متخشع حسن الهيئة ، يصلي.
  فقال له النبي (صلى الله عليه وآله) : إذهب إليه ، فاقتله.
  قال : فذهب إليه أبو بكر ، فلما رآه على تلك الحال كره أن يقتله ، فرجع إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله).
  قال : فقال النبي (صلى الله عليه وآله) لعمر : إذهب فاقتله.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول _ 339 _

  فذهب عمر : فرآه على تلك الحال التي رآه أبو بكر ، قال : فكره أن يقتله.
  قال : فرجع ، فقال : يا رسول الله ، إني رأيته يصلي متخشعاً ، فكرهت أن أقتله.
  قال : يا علي ، إذهب فاقتله.
  قال : فذهب علي فلم يره ، فرجع علي ، فقال : يا رسول الله لم أره.
  فقال النبي (صلى الله عليه وآله) : إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم في فوقه فاقتلوهم هم شر البرية (1) .
  وعند البزار وغيره : أن أبا بكر وعمر قد تبرعا بأن يقتلاه ، فأذن لهما رسول الله ، فرجع كل واحد منهما وقال : إني وجدته يصلي ، فلم استطع أن اقتله.
  تقول الرواية : (فقال علي : أفلا أقتله أنا يا رسول الله.
  قال : بلى ، أنت تقتله إن وجدته.
  فانطلق علي ، فلم يجده ).
  وحسب نص الصنعاني : أنت له ، إن أدركته! ولا أراك أن تدركه.

---------------------------
(1) مسند احمد ج3 ص15 وراجع : المصنف للصنعاني ج10 ص 155 و156 ومجمع الزوائد ج6 ص 225 و226 و227 والبداية والنهاية ج7 ص 299 وشرح النهج للمعتزلي ج2 ص266/267 ، والكامل في الأدب ج3 ص 220 و221.
  وفي كنز العمال ج11 ص 307 عن سعيد بن يحيى الأموي في مغازيه : أن الرسول أمر أبا بكر بأن يذهب ليقتله ، فذهب فلم يجده فقال (ص) : لو قتلته لرجوت أن يكون أولهم وآخرهم.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول _ 340 _

  فقام ، ثم رجع ، فقال : والذي نفسي بيده لو وجدته لجئتك برأسه (1) .

إشارات ودلالات الحديث :
  ولهذا الحديث العديد من الدلالات والإشارات ، نذكر بعضاً منها هنا ، على سبيل الاختصار.
  فنقول :
  1 ـ إن هذه الرواية قد ذكرت : أن هذا الرجل ، يتخشع ، حسن الهيئة يصلي ... وقد أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقتل هذا الرجل بالذات ، فلم يمنعه (صلى الله عليه وآله) ما كان يتظاهر به من عبادة وصلاح من اصدار الأمر بقتله حين كان مستحقاً لذلك ... وهذا يدل على أن العبرة ليست بالمظهر ، وإنما بالجوهر.
  وفي هذا السياق بالذات جاء الحديث الشريف في مورد آخر لينهى الناس عن أن ينظروا إلى كثرة صلاة الرجل ، وصومه ، وطنطنته بالليل ، بل عليهم أن ينظروا إلى صدقه في الحديث ، وأدائه للأمانة.
  2 ـ إنه (صلى الله عليه وآله) حين أمر أولئك الثلاثة بقتل هذا الرجل ، لم يعط تفسيراً ، ولا تبريراً لإصدار هذا الأمر ، رغم أنهم قالوا له : إنهم رأوه يصلي ، ويتخشع ، وأنه حسن الهيئة.

---------------------------
(1) كشف الأستار عن مسند البزار ج2 ص 360/361 والعقد الفريد ج2 ص404 وراجع : المصنف للصنعاني ج10 ص 155/156 ومجمع الزوائد ج6 ص 226 و227 والمناقب لابن شهر آشوب ، 3 ص 187/188 عن مسند أبي يعلى وإبانة ابن بطة والعكبري وزينة ابي حاتم الرازي وكتاب أبي بكر الشيرازي وغيرهم ، والنص والاجتهاد ص 93/94 ، وفي هامشه عن الإصابة ج1 ص484 وحلية الأولياء ج2 ص317 وج3 ص227 والبداية والنهاية ج7 ص298 والغدير ج7 ص216 والطرائف ج2 ص429.

الإمام علي عليه السلام والخوارج ـ الجزء الأول _ 341 _

  الأمر الذي يعني : أن التعامل مع مقام النبوة والإمامة المعصومة لابد أن يكون من موقع الطاعة والانقياد والتسليم ، (ثم لا يكن في أنفسهم حرج مما قضيت ، ويسلموا تسليما) (1) .
  تماماً كما كان الحال بالنسبة لإبراهيم (عليه السلام) ، حينما أمره الله بذبح ولده ، حيث لم يكن منهما (عليهما السلام) سوى التسليم والانقياد لأمر الله تعالى ، والرضا بقضائه ، دون أي تردد ، أوشك أو حيرة ، أو تساؤل ، مهما كانت طبيعته ونوعه ، ومداه.
  وبذلك يكون الله سبحانه قد جسد لنا في إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) ، ميزة التزامهما جانب الصبر والثبات في مواجهة الغيب المرتبط بالله سبحانه ، من موقع الإيمان واليقين بهذا الغيب ، كما أراده الله سبحانه لكل مؤمن يتقي الله سبحانه : (هدى للمتقين ، الذين يؤمنون بالغيب ، ويقيمون الصلاة ، ومما رزقناهم ينفقون) (2) .
  3 ـ تحدثت الرواية المتقدمة : أن الرجلين الأولين لم ينفذا أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ولم يكن لديهما أي مبرر لذلك سوى أنهما وجداه يصلي.
  مع ملاحظة :
  أ : أنه لم تستجد أية حالة جديدة تستدعي أن يراجعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيها.
  ب : أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان على علم بصلاته وخشوعه ، وقد أصدر أمره لهما بقتله بناءً على نفس هذه الصفات والحالات التي اخبراه هما بها ، وأطلعاه عليها.

---------------------------
(1) سورة النساء الآية 165.
(2) سورة البقرة ، الآية 3.