الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم }(1).
وجاء مثل ذلك عن عمار وحذيفة رحمة الله عليهما (2) ، وغيرهما من أصحاب النبي ( صلى الله عليه آله و وسلم ) ، فالأمر في اجتماع أصحاب أمير المؤمنين ( عليه السلام )على إكفار عثمان والطالبين بدمه وأهل النهروان أظهر من أن يحتاج فيه إلى شرح وبيان ، وعنه أخذت الخوارج مذهبها الموجود في أخلافها اليوم من الإكفار لعثمان بن عفان وأهل البصرة والشام ، وإن كانت الشبهة دخلت عليهم في سيرته ( عليه السلام )فيهم ، وما استعمله من الأحكام حتى ناظره أسلافهم عند مفارقتهم له فحججهم (3) بما قد تواترت به الأخبار .
فصل
على أنا لو سلمنا لهم الحديث في وصفهم بالإخوة له ( عليه السلام ) ، لما منع من كفرهم ، كما لم يمنع من بغيهم ، ولم يضاد ضلالهم باتفاق مخالفينا ، ولا فسقهم عن الدين واستحقاقهم اللعنة والاستخفاف والإهانة وسلب اسم الإيمان عنهم والإسلام ، والقطع عليهم بالخلود في الجحيم.
---------------------------
(1) أمالي الطوسي 1 : 130 ، تفسير العياشي 2 : 79 / 27 ، مناقب ابن شهرآشوب 3: 148 ، شواهد التنزيل 1 : 209 / 280 و 281 ، والآية من سورة المائدة 5 : 54 .
(2) تفسير التبيان 3 : 555 ، مجمع البيان 3 : 321 ، مناقب ابن شهرآشوب 3 : 148 .
(3) في م : في حبهم .
الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 127 _
قال الله تعالى : { وإلى عاد أخاهم هودا }(1)، فأضافه إليهم بالإخوة وهو نبي الله وهم كفار بالله عز وجل .
وقال تعالى : { وإلى ثمود أخاهم صالحا }(2).
وقال : { وإلى مدين أخاهم شعيبا }(3) ولم يناف ذلك كفرهم ، ولا ضاد ظلالهم وشركهم ، فأحرى أن لا يضاد تسمية أمير المؤمنين ( عليه السلام )محاربيه بالإخوة مع كفرهم بحربه ، وضلالهم عن الدين بخلافه ، وهذا بين لا إشكال فيه .
فصل
ومما يدل على كفر محاربي أمير المؤمنين ( عليه السلام )علمنا بإظهارهم التدين بحربه ، والاستحلال لدمه ودماء المؤمنين من ولده وعترته وأصحابه، وقد ثبت أن استحلال دماء المؤمنين أعظم عند الله من استحلال (4) جرعة خمر ، لتعاظم المستحق (5) عليه من العقاب بالاتفاق .
وإذا كانت الأمة مجمعة على إكفار مستحل الخمر، وإن شهد الشهادتين وأقام الصلاة وآتى الزكاة، فوجب القطع على كفر مستحل
---------------------------
(1) سورة الأعراف 7 : 65 ، سورة هود 11 : 50 .
(2) سورة الأعراف 7 : 73 ، سورة هود 11 : 61.
(3) سورة الأعرف 7 : 85 ، سورة هود 11 : 84 .
(4) في أ زيادة : شرب .
(5) في ب : المستحل.
الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 128 _
دماء المؤمنين ، لأنه أكبر (1) من ذلك وأعظم في العصيان بما ذكرناه ، وإذا ثبت ذلك صح الحكم بإكفار محاربي أمير المؤمنين ( عليه السلام )على ما وصفناه .
دليل آخر: ويدل على ذلك أيضا ما تواترت به الأخبار من قول النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لعلي ( عليه السلام ) : ( حربك ـ يا علي ـ حربي ، وسلمك سلمي ) (2).
وقد ثبت أنه لم يرد بذلك الخبر عن كون حرب أمير المؤمنين ( عليه السلام )حربه على الحقيقة ، وإنما أراد التشبيه في الحكم دون ما عداه ، وإلا كان الكلام لغوا ظاهر الفساد ، وإذا كان حكم حربه ( عليه السلام )كحكم حرب الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وجب إكفار محاربيه ، كما يجب بالإجماع إكفار محاربي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
دليل آخر : وهو أيضا ما أجمع على نقله حملة الآثار من قول الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( من آذى عليا فقد آذاني ، ومن آذاني ، فقد آذى الله تعالى )(3) ولا خلاف بين أهل الإسلام أن المؤذي للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالحرب والسب والقصد له بالأذى والتعمد لذلك كافر ، خارج عن ملة الإسلام ، فإذا ثبت ذلك وجب الحكم بإكفار محاربي أمير المؤمنين ( عليه السلام )بما أوجبه
---------------------------
(1) في أ: أكثر ، وفي ب ، م : أكفر .
(2) أمالي الطوسي 1 : 374 ، تفسير فرات : 181 ، مناقب ابن شهرآشوب 3 : 217 ، مناقب الخوارزمي : 76 ، مناقب ابن المغازلي: 50 / 73 ، الفصول المختارة : 197 .
(3) الرياض النضرة 3 : 122 ، ذخائر العقبى : 65 ، الجامع الصغير للسيوطي : 122 ، ينابيع المودة : 205 ، مناقب ابن شهرآشوب 3 : 211.
الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 129 _
النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من ذلك بما بيناه.
دليل آخر : وهو أيضا ما انتشرت به الأخبار، وتلقاه العلماء بالقبول عن رواة الآثار ، من قول النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه ) .
وقد ثبت أن من عادى الله تعالى وعصاه على وجه المعاداة فهو كافر خارج عن الإيمان ، فإذا ثبت أن الله تعالى لا يعادي أولياءه وإنما يعادي أعداءه ، وصح أنه تعالى معاد لمحاربي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لعداوتهم له ، بما ذكرناه من حصول العلم بتدينهم بحربه ( عليه السلام )بما ثبت به عداوة محاربي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ويزول معه الارتياب ، وجب إكفارهم على ما قدمناه .
وقد استقصيت الكلام في هذا الباب في كتابي المعروف بـ (المسألة الكافئة) (2) وفيما أثبته منه هاهنا كفاية ، إن شاء الله.
فصل
ثم يقال للمعتزلة ومن وافقهم في إنكار إمامة معاوية بن أبي
---------------------------
(1) أمالي الصدوق : 460 / 2 ، عيون أخبار الرضا ( عليه السلام )2 : 47 / 183 و 59 / 227 ، مشكل الآثار 2 : 307 ، مسند أحمد 1 : 88 و 4 : 370 ، أخبار أصفهان 2 : 227، تاريخ بغداد 14 / 236 ، مستدرك الحاكم 3 : 110 .
(2) ذكر هذا الكتاب تلميذاه النجاشي والطوسي وسمياه ( المسألة الكافئة في إبطال توبة الخاطئة ) ، أنظر رجال النجاشي : 399 ، فهرست الطوسي : 158 .
الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 130 _
سفيان وبني أمية من عقلاء أصحاب الحديث : ما الفرق بينكم فيما تأولتم به الآية ، وأوجبتم به منها طاعة أبي بكر وعمر ، وبين الحشوية فيما أوجبوا به منها طاعة معاوية وبني أمية وجعلوه حجة لهم على إمامتهم ، وعموا بالمعني بها أبا بكر وعمر وعثمان ومن ذكرناه .
وذلك أن أكثر فتوح الشام وبلاد المغرب والبحرين والروم وخراسان كانت على يد معاوية بن أبي سفيان وأمرائه كعمرو بن العاص وبسر بن أرطاة ومعاوية بن حديج وغير من ذكرناه، ومن بعدهم على أيدي بني أمية وأمرائهم بلا اختلاف.
فإن جروا (1) على ذلك خرجوا عن أصولهم ، وزعموا أن الله سبحانه أوجب طاعة الفاسقين ، وأمر باتباع الظالمين ، ونص على إمامة المجرمين ، وإن امتنعوا منه لعلة من العلل مع ما وصفناه من قتالهم بعد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لقوم كفار أولي بأس شديد منعوا من ذلك في الرجلين بمثلها ، فلا يجدون فصلا مع ما يلحق مقالتهم من الخلل والتناقض بالتخصيص على التحكم دون الحجة والبيان ، ومن الله نسأل التوفيق .
---------------------------
(1) في ب ، ح ، أ : أقروا.
الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 131 _
فصل
فإن قال : قد قطعتم عذري في الجواب عما تعلق به خصماؤكم من تأويل هذه الآية ، وأزلتم ـ بحمد الله ـ ما اشتبه علي من مقالهم فيها ، ولكن كيف يمكنكم تأويل قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم }(1).
وقد علمتم أنه لم يقاتل المرتدين بعد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلا أبو بكر ، فوجب أن يكون إماما وليا لله تعالى بما ضمنه التنزيل ، وهذا ما لا نرى لكم عنه محيصا ؟!
قيل له : قد بينا فيما سلف وجه التأويل لهذه الآية، وذكرنا (2) عن خيار الصحابة أنها نزلت في أهل البصرة، بما رويناه عن حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر ، وقد جاءت الأخبار بمثل ذلك عن أمير
---------------------------
(1) سورة المائدة 5 : 54 .
(2) تقدم البحث حوله مع التخريجات في ص 125 و 126 .
الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 132 _
المؤمنين ( عليه السلام ) ، ووردت بمعناه عن عبد الله بن مسعود ، ودللنا أيضا على كفر محاربي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بما لا يخفى الصواب فيه على ذوي الإنصاف ، وذلك موجب لردتهم عن الدين الذي دعا الله تعالى إليه العباد ، فبطل صرف تأويلها عن هذا الوجه إلى ما سواه .
فصل
مع أن متضمن الآية وفوائدها وما يتصل بها مما بعدها يقضي بتوجهها إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فإنه المعني بالمدحة فيها ، والمشار إليه في جهاد المرتدين دون من ظنوه بغير بصيرة وتوهموه .
وذلك أن الله سبحانه توعد المرتدين عن دينه بالانتقام منهم بذي صفات مخصوصة بينها في كتابه ، وعرفها كافة عباده ، بما يوجب لهم العلم بحقائقها ، وكانت بالاعتبار الصحيح خاصة لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) دون المدعى له ذلك بما لا يمكن دفعه إلا بالعناد :
فأولها : وصفهم بأنهم يحبون الله تعالى ويحبهم الله.
وقد علم كل من سمع الأخبار اختصاص أمير المؤمنين ( عليه السلام )بهذا الوصف من الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم )، وشهادته له به يوم خيبر حيث يقول : ( لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، كرارا غير فرار ، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه ) (1) فأعطاها عليا ( عليه السلام ) ، ولم
---------------------------
(1) تقدم مع تخريجاته في ص 34 .
الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 133 _
يرد خبر ولا جاء أثر بأنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وصف أبا بكر ولا عمر ولا عثمان بمثل ذلك في حال من الأحوال ، بل مجئ هذا الخبر بوصف أمير المؤمنين ( عليه السلام )بذلك عقيب ما كان من أبي بكر وعمر في ذلك اليوم من الانهزام ، واتباعه بوصف الكرار دون الفرار ، موجب لسلب الرجلين معنى هذه المدحة كما سلبهما مدحة الكر ، وألزمهما ذم الفرار .
وثانيها: وصف المشار إليه في الآية باللين على المؤمنين والشدة على الكافرين ، حيث يقول جل اسمه : { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم }(1).
وهذا وصف لا يمكن أحدا دفع أمير المؤمنين ( عليه السلام )عن استحقاقه بظاهر ما كان عليه من شدته على الكافرين ، ونكايته في المشركين ، وغلظته على الفاسقين، ومقاماته المشهورة في تشييد الملة ونصرة الدين ، ورأفته بالمؤمنين ، ورحمته للصالحين .
ولا يمكن أحدا ادعاؤه لأبي بكر إلا بالعصبية ، أو الظن دون اليقين ، لأنه لم يعرف له قتيل في الإسلام ، ولا بارز قرنا ، ولم ير له (2) موقف عني فيه بين يدي النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )(3)، ولا نازل بطلا ، ولا سفك بيده لأحد المشركين دما ، ولا كان له فيهم جريح ، ولم يزل من قتالهم هاربا ، ومن حربهم ناكلا ، وكان على المؤمنين غليظا ، ولم يكن بهم رحيما .
---------------------------
(1) سورة المائدة 5 : 54 .
(2) ( بارز ... له ) ليس في أ ، ب ، م .
(3) في ب ، زيادة : ولا بارز قرنا .
الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 134 _
ألا ترى ما فعله بفاطمة سيدة نساء العالمين عليها السلام وما أدخله من الذل على ولدها ، وما صنع بشيعتها (1) ، وما كان من شدته على صاحب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعامله على الصدقات، ومن كان في حيزه من المسلمين حتى سفك دماءهم بيد المنافق الرجيم (2) ، واستباح حريمهم بما لا يوجب ذلك في الشرع والدين.
فثبت أنه كان من الأوصاف على ضد ما أوجبه الله تعالى في حكمه لمن أخبر عن الانتقام به من المرتدين.
ثم صرح تعالى فيما أوصله بالآية (3) من الذكر الحكيم ينعت (4) أمير المؤمنين عليه السلام، وأقام البرهان الجلي على أنه عناه بذلك وأراده خاصة ، بما أشار به من صفاته التي تحقق بالانفراد بها من العالمين.
فقال جل اسمه: { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون }(5) .
فصارت الآية متوجهة إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام )بدلالة متضمنها ، وما اتصل بها على حسب ما شرحناه ، وسقط توهم المخالف فيما ادعاه لأبي
---------------------------
(1) للتوسع في هذا البحث راجع الشافي 4 : 57 ـ 123 ، تقريب المعارف : 163 ـ 168 ، الصراط المستقيم 2 : 282 ـ 302 ، نهج الحق : 265 ـ 272.
(2) في أ : الذميم .
(3) في ب ، ح ، م : ثم خرج به جل اسمه بما وصله في الآية .
(4) في ب ، ح ، م : حازه بدل ( بنعت ) .
(5) سورة المائدة 5 : 55 : 56 .
الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 135 _
بكر على ما بيناه .
فصل
ويؤيد ذلك إنذار رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قريشا بقتال أمير المؤمنين ( عليه السلام )لهم من بعده ، حيث جاءه سهيل بن عمرو (1) في جماعة منهم ، فقالوا : يا محمد ، إن أرقاءنا لحقوا بك فأرددهم علينا .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ): ( لتنتهن ـ يا معشر قريش ـ أو ليبعثن الله عليكم رجلا يضر بكم على تأويل القرآن كما ضربتكم على تنزيله ).
فقال له بعض أصحابه: من هو ـ يا رسول الله ـ أبو بكر ؟!
فقال : ( لا ) فقال : فعمر ؟! فقال : ( لا ، ولكنه خاصف النعل في الحجرة ) وكان علي ( عليه السلام )يخصف نعل رسول الله صلى عليه وآله في الحجرة (2) .
وقوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( تقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين ) (3)
---------------------------
(1) سهيل بن عمرو بن عبد شمس ، القرشي العامري من لؤي، خطيب قريش وأحد ساداتها في الجاهلية، أسلم يوم الفتح بمكة ، وهو الذي تولى أمر الصلح بالحديبية ، توفي بالشام في 18 هـ ، ( سير أعلام النبلاء 1 : 194 / 25 ، الجرح والتعديل 4 : 245 / 1058 ، صفوة الصفوة 1 : 731 / 112 ، الإصابة 3 : 146 / 3566 ) .
(2) إرشاد المفيد : 64 ، صحيح الترمذي 5 : 634 / 3751 ، مستدرك الحاكم 2 : 125 و 137 ، مسند أحمد 3 : 82 ، مناقب ابن المغازلي: 438 ـ 440 ، دلائل النبوة للبيهقي 6 : 435.
(3) مستدرك الحاكم 3 : 139 ، أسد الغابة 4 : 33 ، تاريخ بغداد 13 : 187 ، مجمع الزوائد 6 : 235 ، مناقب الخوارزمي : 122 و 125 ، الطرائف : 104 / 154 ، فرائد السمطين 1 : 282 / 221 .
الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 136 _
وقول الله عز وجل: { فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون }(1).
وهي في قراءة عبد الله بن مسعود : منهم بعلي منتقمون (2) وبذلك جاء التفسير عن علماء التأويل (3) .
وإذا كان الأمر على ما وصفناه ، ولم يجر لأبي بكر وعمر في حياة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما ذكرناه ، فقد صح أن المراد بمن ذكرناه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) خاصة على ما بيناه .
وقد صح أنه المراد بقوله تعالى : { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه }(4) على ما فصلنا القول به من انتظام الكلام ودلالة معانيه ، وما في السنة مما بينا الغرض فيه وشرحناه .
فصل
على أنا متى حققنا النظر في متضمن هذه الآية ، ولم نتجاوز المستفاد من ظاهرها ، وتأويله على مقتضى اللسان إلى القرائن من الأخبار على نحو ما ذكرناه آنفا ، لم نجد في (5) ذلك أكثر من الأخبار
---------------------------
(1) سورة الزخرف 43 : 41 .
(2) ( وهي ف ي ... منتقمون ) ليس في ب ، ح .
(3) أنظر الفرودس 3 : 154 / 4417 ، شواهد التنزيل ج 2 : 151 ـ 155 ، الدر المنثور 7 : 380 .
(4) سورة المائدة 5 : 54 .
(5) في أ ، ب ، م : نفي .
الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 137 _
بوجود بدل من (1) المرتدين في جهاد من فرض الله جهاده من الكافرين ، على غير تعيين لطائفة من مستحقي القتال ، ولا عموم الجماعة بما يوجب استغراق الجنس في المقال .
ألا ترى لو أن حكيما أقبل على عبيد له ، وقال لهم : يا هؤلاء ، من يعصني منكم ويخرج عن طاعتي فسيغنيني الله عنه بغيره ممن يطيعني ، ويجاهد معي على الاخلاص في النصحية لي ، ولا يخالف أمري .
لكان كلامه هذا مفهوما مفيدا لحث عبيده على طاعته، وإخباره بغناه عنهم عند مخالفتهم ، ووجود من يقوم مقامهم في طاعته على أحسن من طريقتهم، ولم يفد بظاهره ولا مقتضاه الأخبار بوجود من يجاهدهم أنفسهم على القطع ، وإن كان محتملا لوعيدهم بالجهاد على الجواز له دون الوجوب لموضع الإشارة بذكر الجهاد إلى مستحقه .
وهذا هو نظير الآية فيما انطوت عليه ، ومماثل ألفاظها فيما تفضي إليه ، ومن ادعى فيه خلاف ما ذكرناه لم يجد إليه سبيلا ، وإن رام فيه فصلا عجز عن ذلك ، ورجع بالخيبة حسيرا ، ومن الله نسأل التوفيق .
---------------------------
(1) في أ ، ب ، م : بوجوده يدل على ، وزاد عليها في ب ، م : أن .
الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 139 _
فصل
فإن قال : أفليس الله تعالى يقول في سورة الفتح : { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه }(1).
وقد علمت الكافة أن أبا بكر وعمر وعثمان من وجوه أصحاب رسول الله (صلى الله وعليه وآله وسلم ) ، ورؤساء من كان معه، وإذا كانوا كذلك فهم أحق الخلق بما تضمنه القرآن من وصف أهل الإيمان ، ومدحهم بالظاهر من البيان، وذلك مانع من الحكم عليهم بالخطأ والعصيان (2) ؟!
قيل لهم : إن أول ما نقول في هذا الباب أن أبا بكر وعمر وعثمان ومن تضيفه (3) الناصبة إليهم في الفضل كطلحة والزبير وسعد وسعيد وأبي عبيدة وعبد الرحمن لا يتخصصون من هده المدحة بما خرج عنه
---------------------------
(1) سورة الفتح 48 : 29.
(2) في ب ، ح ، م : النسيان.
(3) في أ : يصفه ، وفي ب ، م : تضفه .
الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 140 _
أبو هريرة وأبو الدرداء ، بل لا يتخصصون بشئ لا يعم عمرو بن العاص وأبا موسى الأشعري والمغيرة بن شعبة وأبا الأعور السلمي ويزيد و (1) معاوية بن أبي سفيان ، بل لا يختصون منه بشئ دون أبي سفيان صخر بن حرب وعبد الله بن أبي سرح والوليد بن عقبة بن أبي معيط والحكم بن أبي العاص ومروان بن الحكم وأشباههم من الناس ، لأن كل شئ أوجب دخول من سميتهم في مدحة القرآن ، فهو موجب دخول من سميناه ، وعبد الله بن أبي سلول ومالك بن نويرة (2) وفلان وفلان .
إذ أن جميع هؤلاء أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومن كان معه، ولأكثرهم من النصرة للإسلام والجهاد بين يدي النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والآثار الجميلة والمقامات المحمودة ما ليس لأبي بكر وعمر وعثمان ، فأين موضع الحجة لخصومنا في فضل من ذكره على غيره من جملة من سميناه ، وما وجه دلالتهم منه على إمامتهم ، فإنا لا نتوهمه ، بل لا يصح أن يدعيه أحد من العقلاء ؟!
فصل
ثم يقال لهم : خبرونا عما وصف الله تعالى به من كان مع نبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بما تضمنه القرآن ، أهو شامل لكل من كان معه عليه الصلاة والسلام
---------------------------
(1) في ب ، ح : بن .
(2) ( ومالك بن نويرة ) ليس في ب ، ح ، م .
الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 141 _
في الزمان، أم في الصقع والمكان ، أم في ظاهر الإسلام ، أم في ظاهره وباطنه على كل حال، أم الوصف به علامة تخصيص مستحقه بالمدح دون من عداه ، أم لقسم آخر غير ما ذكرناه ؟
فإن قالوا: هو شامل لكل من كان مع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في الزمان أو المكان أو ظاهر الإسلام، ظهر سقوطهم وبان جهلهم وصرحوا بمدح الكفار وأهل النفاق ، وهذا ما لا يرتكبه عاقل.
وإن قالوا: إنه يشمل كل من كان معه على ظاهر الديانة وباطنها معا دون من عددتموه من الأقسام.
قيل لهم: فدلوا على أئمتكم وأصحابكم ، ومن تسمون من أوليائكم، أنهم كانوا في باطنهم على مثل ما أظهروه من الإيمان ، ثم ابنوا حينئذ على هذا الكلام، وإلا فأنتم مدعون ومتحكمون بما لا تثبت معه حجة ، ولا لكم عليه دليل ، وهيهات أن تجدوا دليلا يقطع به على سلامة بواطن القوم من الضلال، إذ ليس به قرآن ولا خبر عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )، ومن اعتمد فيه على غير هذين فإنما اعتمد على الظن والحسبان .
وإن قالوا : إن متضمن القرآن من الصفات المخصوصة إنما هي علامة على مستحقي المدحة من جماعة مظهري الإسلام دون أن تكون منتظمة لسائرهم على ما ظنه الجهال .
قيل لهم : فدلوا الآن على من سميتموه كان مستحقا لتلك الصفات ، لتتوجه إليه المدحة ويتم لكم فيه المراد ، وهذا ما لا سبيل إليه حتى يلج الجميل في سم الخياط .
الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 142 _
فصل
ثم يقال لهم : تأملوا معنى الآية، وحصلوا فائدة لفظها ، وعلى أي وجه تخصص متضمنها من المدح، وكيف مخرج القول فيها ؟ تجدوا أئمتكم أصفارا مما ادعيتموه لهم منها ، وتعلموا أنهم باستحقاق الذم وسلب الفضل بدلالتها منهم بالتعظيم والتبجيل من مفهومها ، وذلك أن الله تعالى ميز مثل قوم من أصحاب نبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في كتبه الأولى، وثبوت صفاتهم بالخير والتقى (1) في صحف إبراهيم وموسى وعيسى ( عليه السلام ) ، ثم كشف عنهم بما ميزهم به من الصفات التي تفردوا بها من جملة المسلمين، وبانوا بحقيقتها عن سائر المقربين.
فقال سبحانه : { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل }(2).
وكأن تقدير الكلام : إن الذين بينت (3) أمثالهم في التوراة والإنجيل من جملة أصحابك ومن معك ـ يا محمد ـ هم أشداء على الكفار ، والرحماء بينهم الذين تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا .
---------------------------
(1) في أ : بالجبر والنفي .
(2) سورة الفتح 48 : 29 .
(3) في ب : يثبت ، وفي ح : ثبت .
الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 143 _
وجرى هذا في الكلام مجرى من قال : زيد بن عبد الله إمام عدل ، والذين معه يطيعون الله، ويجاهدون في سبيل الله، ولا يرتكبون شيئا مما حرم الله وهم المؤمنون حقا دون من سواهم ، إذ هم أولياء الله الذين تجب مودتهم دون من معه ممن عداهم ، وإذا كان الأمر على ما وصفناه ، فالواجب أن تستقرئ الجماعة في طلب هذه الصفات ، فمن كان عليها منهم فقد توجه إليه المدح وحصل له التعظيم ، ومن كان على خلافها فالقرآن إذن منبه على ذمه، وكاشف عن نقصه ، ودال على موجب لومه ، ومخرج له عن منازل التعظيم .
فنظرنا في ذلك واعتبرناه ، فوجدنا أمير المؤمنين ( عليه السلام )وجعفر بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث وعمار بن ياسر والمقداد بن الأسود وأبا دجانة ـ وهو سماك بن خرشة الأنصاري (1) ـ وأمثالهم من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم ، قد انتظموا صفات الممدوحين من الصحابة في متضمن القرآن .
وذلك أنهم بارزوا من أعداء الملة الأقران، وكافحوا منهما الشجعان ، وقتلوا منهم الأبطال ، وسفكوا في طاعة الله سبحانه دماء الكفار، وبنوا بسيوفهم قواعد الإيمان ، وجلوا عن نبيهم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الكرب
---------------------------
(1) أبو دجانة الأنصاري : صحابي ، شجاعا بطلا ، له آثار جميلة في الإسلام ، شهد بدرا، وثبت يوم أحد ، وأصيب بجراحات كثيرة ، واستشهد باليمامة في الإسلام (11 ه) ( معجم رجال الحديث 8 : 303 ، سير أعلام النبلاء 1 : 243 / 39 ، أسد الغابة 2 : 352 ) .
الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 144 _
والأحزان ، وظهر بذلك شدتهم على الكفار ، كما وصفهم الله تعالى في محكم القرآن ، وكانوا من التواصل على أهل الإسلام والرحمة بينهم على ما ندبوا إليه ، فاستحقوا الوصف في الذكر والبيان .
فأما إقامتهم الصلاة وابتغاؤهم من فضل الله تعالى القربات ، فلم يدفعهم عن علو الرتبة في ذلك أحد من الناس ، فثبت لهم حقيقة المدح لحصول مثلهم فيما أخير الله تعالى عنهم في متقدم الكتب ، واستغنينا بما عرفنا لهم مما شرحناه في استقراء غيرهم ، ممن قد ارتفع في حاله الخلاف ، وسقط الغرض بطلبه على الاتفاق .
ثم نظرنا فيما ادعاه الخصوم لأجل أئمتهم وأعظمهم قدرا عندهم من مشاركة من سميناه فيما ذكرنا من الصفات وبيناه ، فوجدنا هم على ما قدمناه من الخروج عنها واستحقاق أضدادها على ما رسمناه .
وذلك أنه لم يكن لأحد منهم مقام في الجهاد ، ولا عرف لهم قتيل من الكفار، ولا كلم كلاما في نصرة الإسلام ، بل ظهر منه الجزع في مواطن القتال ، وفر في يوم خيبر واحد وحنين ، وقد نهاهم الله تعالى عن الفرار ، وولوا الأدبار مع الوعيد لهم على ذلك في جلي البيان، وأسلموا النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) للحتوف (1) في مقام بعد مقام ، فخرجوا بذلك عن الشدة على الكفار ، وهان أمرهم على أهل الشرك والضلال ، وبطل أن يكونوا
---------------------------
(1) في ب ، م : للخوف .
الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 145 _
من جملة المعنين (1) بالمدحة في القرآن ولو كانوا على سائر ما عدا ما ذكرناه من باقي الصفات، وكيف وأنى يثبت لهم شئ منها بضرورة ولا استدلال ، لأن المدح إنما توجه إلى من حصل له مجموع الخصال في الآية دون بعضها ، وفي خروج القوم من البعض بما ذكرناه (2) مما لا يمكن دفعه إلا بالعناد وجوب الحكم عليهم بالذم بما وصفناه ؟! وهذا بين جلي والحمد لله.
فصل
ثم يقال لهم : قد روى مخالفوكم عن علماء التفسير من آل محمد عليهم السلام أن هذه الآية إنما نزلت في أمير المؤمنين والحسن والحسين والأئمة عليهم السلام من بعدهم خاصة دون سائر الناس ، وروايتهم لما ذكرنا عمن سمينا أولى بالحق والصواب مما ادعيتموه بالتأويل والظن الحسبان والرأي ، لإسنادهم مقالتهم في ذلك إلى من ندب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى الرجوع إليه عند الاختلاف ، وأمر باتباعه في الدين ، وأمن متبعه من الضلال.
ثم إن دليل القرآن يعضده البيان ، وذلك إن الله تعالى أخبر عمن ذكره بالشدة على الكفار ، والرحمة لأهل الإيمان ، والصلاة له ، والاجتهاد في الطاعات ، بثبوت صفته في التوراة والإنجيل ، وبالسجود لله تعالى
---------------------------
(1) في ب ، ح : المعينين .
(2) ( من البعض بما ذكرناه ) ليس في ب ، م .
الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 146 _
وخلع الأنداد ، ومحال وجود صفة ذلك لمن سجوده للأوثان ، وتقربه للات والعزى دون الله الواحد القهار ، لأنه يوجب الكذب في المقال ، أو المدحة بما يوجب الذم من الكفر والعصيان .
وقد اتفقت الكافة على أن أبا بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعدا وسعيدا وأبا عبيدة وعبد الرحمن قد عبدوا قبل بعثة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
الأصنام ، وكانوا دهرا طويلا يسجدون للأوثان من دون الله تعالى ، ويشركون به الأنداد ، فبطل أن تكون أسماؤهم ثابتة في التوراة والإنجيل بذكر السجود على ما نطق به القرآن .
وثبت لأمير المؤمنين والأئمة من ذريته )( عليهم السلام ) ذلك ، للاتفاق على أنهم لم يعبدوا قط غير الله تعالى ، ولا سجدوا لأحد سواه ، وكان مثلهم في التوراة والإنجيل واقعا موقعه على ما وصفناه ، مستحقا به المدحة قبل كونه لما فيه من الاخلاص لله سبحانه على ما بيناه .
ووافق دليل ذلك برهان الخبر عمن ذكرناه من علماء آل محمد صلوات الله عليهم، بما دل به النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من مقاله الذي اتفق العلماء عليه ، وهذا أيضا مما لا يمكن التخلص منه مع الإنصاف .
فصل
على أنه يقال لهم : خبرونا عن طلحة والزبير ، أهما داخلان في جملة الممدوحين بقوله تعالى : { محمد رسول الله والذين معه أشداء على
الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 147 _
الكفار }(1) إلى آخره ، أم غير داخلين في ذلك ؟
فإن قالوا: لم يدخل طلحة والزبير ونحوهما في جملة القوم.
خرجوا من مذاهبهم وقيل لهم : ما الذي أخرجهم من ذلك وأدخل أبا بكر وعمر وعثمان ، فكل شئ تدعونه في استحقاق الصفات ، فطلحة والزبير أشبه أن يكونا عليها منهم ، لما ظهر من مقاماتهم في الجهاد الذي لم يكن لأبي بكر وعمر وعثمان فيه ذكر على جميع الأحوال ؟! فلا يجدون شيئا يعتمدون عليه في الفرق بين القوم أكثر من الدعوى الظاهرة الفساد.
وإن قالوا : إن طلحة والزبير في جملة القوم الممدوحين بما في الآي.
قيل لهم : فهلا عصمهما المدح الذي ادعيتموه لهم من دفع أمير المؤمنين ( عليه السلام )عن حقه ، وإنكار إمامته ، واستحلال حربه ، وسفك دمه ، والتدين بعداوته على أي جهة شئتم: كان ذلك من تعمد ، أو خطأ ، أو شبهة ، أو عناد ، أو نظر ، أو اجتهاد!
فإن قالوا : إن مدح القرآن ـ على ما يزعمون ـ لم يعصمهما من ذلك ، ولا بد من الاعتراف بما ذكرناه ، لأن منع دفعه جحد الاضطرار.
قيل لهم : فبما تدفعون أن أبا بكر وعمر وعثمان قد دفعوا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) عن حقه ، وتقدموا عليه وكان أولى بالتقدم عليهم ، وأنكروا إمامته وقد كانت ثابتة، و دفعوا النصوص عليه وهي له واجبة ، ولم
---------------------------
(1) سورة الفتح 48 : 29 .
الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 148 _
يعصمهم ذلك ، ثم توجه المدح لهم من الآية ، كما لم يعصم طلحة والزبير مما وصفناه ووقع منهم في إنكار حق أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، كما وقع من الرجلين المشاركين لهم فيما ادعيتموه من مدح القرآن وعلى الوجه الذي كان منهما ذلك من تعمد أو خطأ أو شبهة أو اجتهاد أو عناد ؟ وهذا ما لا سبيل لهم إلى دفعه ، وهو مبطل لتعلقهم بالآية ودفع أئمتهم عن الضلالة ، وإن سلم لهم منها ما تمنوه تسليم جدل للاستظهار .
فصل
ويؤكد ذلك أن الله تعالى مدح من وصف بالآية بما كان عليه في الحال ، ولم يقض بمدحه له على صلاح العواقب ، ولا أوجب العصمة له من الضلال ، ولا استدامة لما استحق به المدحة في الاستقبال .
ألا ترى أنه سبحانه قد اشترط في المغفرة لهم والرضوان الإيمان في الخاتمة، ودل بالتخصيص لمن اشترط له ذلك ، على أن في جملتهم من يتغير حاله فيخرج عن المدح إلى الذم واستحقاق العقاب، فقال تعالى فيما اتصل به من وصفهم (1) ومدحهم بما ذكرناه من مستحقهم في الحال : { كزرع أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما }(2) .
---------------------------
(1) ( به من وصفهم ) ليس في ب ، ح ، م .
(2) سورة الفتح 48 : 29 .
الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 149 _
فبعضهم في الوعد ولم يعمهم به ، وجعل الأجر مشترطا لهم بالأعمال الصالحة، ولم يقطع على الثبات ، ولو كان الوصف لهم بما تقدم موجبا لهم الثواب ، ومبينا لهم المغفرة والرضوان ، لاستحال الشرط فيهم بعده وتناقض الكلام ، وكان التخصيص لهم موجبا بعد العموم ظاهر التضاد ، وهذا ما لا يذهب إليه ناظر ، فبطل ما تعلق به الخصم من جميع الجهات، وبان تهافته على اختلاف المذاهب في الأجوبة والاسقاطات ، والمنة لله .