فصل
فإن قال قائل : فإني أترك التعلق بالخبر عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأن القوم في الجنة لما طعنتم به فيه ، مما لا أجد منه مخلصا ، ولكن خبروني عن قوله تعالى : { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم }(1) .
أليس قد أوجب لأبي بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وسعيد جنات عدن ، ومنع بذلك من تجويز الخطأ عليهم في الدين والزلل عن الطريق المستقيم ، فكيف يصح القول مع ذلك بأن الإمامة كانت دونهم لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) وأنهم دفعوه بالتقدم عليه عن حق وجب له على اليقين ، وهل هذا إلا متناقض ؟!
قيل له : إن الله سبحانه لا يعد أحدا بالثواب إلا على شرط الاخلاص والموافاة بما يتوجه الوعد بالثواب عليه ، وأجل من أن يعري
---------------------------
(1) سورة التوبة 9 : 100 .
الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 78 _
ظاهر اللفظ بالوعد عن الشروط ، لما في العقل من الدليل على ذلك والبرهان .
وإذا كان الأمر على ما وصفناه ، فالحاجة ماسة إلى ثبوت أفعال من ذكرت في السبق والطاعة لله تعالى في امتثال أوامره ظاهرا على وجه الاخلاص ، ثم الموافاة بها على ما ذكرناه حتى يتحقق لهم الوعد بالرضوان والنعيم المقيم وهذا لم يقم عليه دليل ، ولا تثبت لمن ذكرت حجة توجب العلم واليقين ، فلا معنى للتعلق بظاهر الآية فيه ، مع أن الوعد من الله تعالى بالرضوان إنما توجه إلى السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، دون أن يكون متوجها إلى التالين الأولين.
والذين سميتهم من المتقدمين على أمير المؤمنين ( عليه السلام )ومن ضممت إليهم في الذكر، لم يكونوا من الأولين في السبق، وإنما كانوا من التالين للأولين ، والتالين للتالين .
والسابقون الأولون من المهاجرين ، هم : أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وجعفر بن أبي طالب ، وحمزة بن عبد المطلب ، وخباب ، وزيد بن حارثة ، وعمار وطبقتهم .
ومن الأنصار النقباء المعروفون (1) ، كأبي أيوب ، وسعد بن معاذ ، وأبي الهيثم بن التيهان ، وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين ، ومن كان في طبقتهم من الأنصار .
---------------------------
(1) في أ : المقربون.
الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 79 _
فأما أصحابك فهم الطبقة الثانية ممن ذكرناه ، والوعد إنما حصل للمتقدمين في الإيمان دونهم على ما بيناه ، وهذا يسقط ما توهمت .
فصل
ثم يقال له : قد وعد الله المؤمنين والمؤمنات في الجملة مثل وعد به السابقين من المهاجرين والأنصار ، ولم يوجب ذلك نفي الغلط عن كل من استحق اسم الإيمان ، ولا إيجاب العصمة له من الضلال ، ولا القطع له بالجنة على كل حال .
قال الله عز وجل : { وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم }(1) .
فإن وجب للمتقدمين على أمير المؤمنين ( عليه السلام )الثواب على كل حال ، لاستحقاقهم الوصف بأنهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار على ما ادعيت لهم في المقال ، فإنه يجب مثل ذلك لكل من استحق اسم الإيمان في حال من الأحوال ، بما تلوناه ، وهذا ما لا يذهب إليه أحد من أهل الإسلام.
ويقال له أيضا : قد وعد الله الصادقين مثل ذلك ، فقطع لهم بالمغفرة والرضوان ، فقال سبحانه : { هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم
---------------------------
(1) سورة التوبة 9 : 72 .
الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 80 _
ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم }(1) .
فهل يجب لذلك أن يقطع على كل من صدق في مقاله بالعصمة من الضلال، ويوجب له الثواب المقيم ، وإن ضم إلى فعله قبائح الأفعال ؟!
فإن قال : نعم ، خرج عن ملة الإسلام ، وإن قال : لا يجب ذلك لعلة من العلل. قيل له في آية السابقين مثل ما قال ، فإنه لا يجد فرقا .
ويقال له أيضا : ما تصنع في قول الله تعالى : { وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون }(2)؟!
أتقول أن كل من صبر (3) على مصاب فاسترجع مقطوع له بالعصمة والأمان من العذاب ، وإن كان مخالفا لك في الاعتقاد ، بل مخالفا للإسلام ؟!
فإن قال : نعم ظهر خزيه ، وإن قال : لا يجب ذلك ، وذهب في الآية إلى الخصوص دون الاشتراط ، سقط معتمده من عموم آية السابقين ، ولم يبق معه ظاهر فيما اشتبه به الأمر عليه في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وخطأ المتقدمين عليه حسب ما ذكرناه .
وهذا باب إن بسطنا القول فيه ، واستوفينا الكلام في معانيه ،
---------------------------
(1) المائدة 5 : 119 .
(2) سورة البقرة 2 : 155 ـ 157 .
(3) في ب : أتقول إن كان من خبر .
الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 81 _
طال به الخطاب ، وفيما اختصرناه كفاية لذوي الألباب .
فصل
فإن قال في أصل الجواب أنه لا يجوز تخصيص السابقين الأولين ، ولا الاشتراط فيهم ، لأنه سبحانه قد اشترط في التابعين ، وخصهم بقوله : { والذين اتبعوهم بإحسان }(1) .
فلو كان في السابقين الأولين من يقع منه غير الحسن الجميل، لما أطلق الرضا عنهم في الذكر ذلك الاطلاق ، واشترط فيمن وصله بهم من التابعين.
قيل له : أول ما في هذا الباب ، أنك أوجبت للسابقين بهذا الكلام العصمة من الذنوب، ورفعت عنهم جواز الخطأ وما يلحقهم به من العيوب ، والأمة مجمعة على خلاف ذلك لمن زعمت أن الآية فيه صريحة (2)، لأن الشيعة تذهب إلى تخطئة المتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام، والمعتزلة والشيعة وأكثر المرجئة وأصحاب الحديث يضللون طلحة والزبير في قتالهم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، والخوارج تخطئ أمير المؤمنين ( عليه السلام )وتبرأ منه ومن عثمان ، وطلحة والزبير ومن كان في حيزهما ، وتكفرهم بحربهم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وولايتهم (3) عثمان بن عفان ، فيعلم
---------------------------
(1) سورة التورة 9 : 100 .
(2) ( صريحة ) ليس في أ ، ب ، ح .
(3) في م : وتوليتهم .
الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 82 _
أن إيجاب العصمة لمن يزعم أن الله تعالى عناه في الآية (1) بالرضوان باطل ، والقول به خروج عن الاجماع.
على أن قوله تعالى: { والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه }(2) ليس هو شرطا في التابعين ، وإنما هو وصف للاتباع ، وتمييز له من ضروبه التي لا يوجب شئ منها الرحمة والغفران ، وهذا مما لا يبطل الخصوص في السابقين ، والشرط في أفعالهم على ما ذكرناه .
مع أنا قد بينا أن المراد بالسابقين الأولين ، هم الطبقة الأولى من المهاجرين والأنصار ، وذكرنا أعيانهم وليس من المتقدمين على أمير المؤمنين ( عليه السلام )والمخالفين عليه من كان من الأولين ، وإن كان فيهم جماعة من التالين ، ولسنا ندفع ظاهر الأولين من القوم ، وأنهم من أهل الثواب وجنات النعيم على عمومهم دون الخصوص ، وهذا أيضا يسقط تعلقهم بما ذكروه في التابعين ، على أنه لا يمتنع أن يكون الشرط في التابعين شرطا في السابقين ، ويكتفى به بذكر السابقين للاختصار ، ولأن وروده (3) في الذكر على الاقتران .
ويجري ذلك مجرى قوله تعالى: { والله ورسوله أحق أن يرضوه }(4)
---------------------------
(1) ( في الآية ) ليس في ب ، ح ، م .
(2) سورة التوبة 9 : 100 .
(3) ( وروده ) ليس في ب ، ح ، وفي أ : الجميع .
(4) سورة التوبة 9 : 62 .
الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 83 _
وقوله تعالى: { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم }(1).
ويقال له أيضا: أليس الله تعالى يقول : { كل نفس بما كسبت رهينة * إلا أصحاب اليمين }(2).
وفي الأنفس من لم يرده ، ولم يستثنه لفظا ، وهم : الأطفال والبله (3) والبهائم والمجانين ؟! وإنما يدل استثناؤهم لفظا (4) على استثناء أهل (5) العقول .
فبم ينكر أن يكون الشرط في السابقين مثل الشرط في التابعين، وأن اللفظ من ذكر السابقين موجود في التابعين؟ وهذا بين لمن تدبره.
على أن الذي ذكرناه في الخبر ، وبينا أنه لا يجوز من الحكيم تعالى أن يقطع بالجنة إلا على شرط الاخلاص ، لما تحظره الحكمة من الاغراء بالذنوب ، يبطل ظنهم في تأويل هذه الآية ، وكل ما يتعلقون به من غيرها في القطع على أمان أصحابهم من النار ، للاجماع على ارتفاع العصمة عنهم ، وأنهم كانوا ممن يجوز عليه اقتراف الآثام ، وركوب الخلاف لله تعالى على العمد والنسيان ، وقد تقدم ذلك فيما سلف ، فلا حاجة بنا إلى الإطالة فيه .
---------------------------
(1) سورة التوبة 9 : 34 .
(2) سورة المدثر 74 : 38 ، 39 .
(3) البله : جمع أبله : ضعيف العقل ، ( مجمع البحرين ـ بله ـ 6 : 343 ) .
(4) ( وهم الأطفال ... لفظا ) ليس في أ .
(5) ( أهل ) ليس في أ ، ب ، ح .
الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 84 _
فصل آخر
ويمكن أيضا مما ذكرناه من أمر طلحة والزبير وقتالهما لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وهما عند المخالفين من السابقين (1) الأولين ، ويضم إليه ما كان من سعد بن عبادة ، وهو سيد الأنصار ومن السابقين الأولين ، ونقباء رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في السقيفة ، ترشح (2) للخلافة ، ودعا أصحابه إليه ، وما راموه من البيعة له على الإمامة حتى غلبهم المهاجرون على الأمر ، فلم يزل مخالفا لأبي بكر وعمر ، ممتنعا عن بيعتهما في أهل بيته وولده وأشياعه إلى أن قتل بالشام على خلافهما ومباينتهما (3) .
وإذا جاز من بعض السابقين دفع الحق في الإمامة ، واعتقاد الباطل فيها ، وجاز من بعضهم استحلال الدم على الضلال ، والخروج من الدنيا على غير توبة ظاهرة للأنام ، فما تنكر من وقوع مثل ذلك من المتقدمين على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ـ وإن كانوا من السابقين الأولين (4) ـ وما الذي يعصمهم مما وقع من شركائهم في السبق والهجرة وغير ذلك مما تعدونه لهم في الصفات ، وهذا مما لا سبيل إلى دفعه .
---------------------------
(1) في ب ، ح ، م : التابعين .
(2) في ب : توشحه .
(3) أنظر تفصيل ذلك ف ي : الكامل في التاريخ 2 : 331 ، الطبقات الكبرى 3 : 616 ، أسد الغابة 2: 284 .
(4) ( وإن ... الأولين ) ليس في ب ، ح ، م .
الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 85 _
فصل
فإن قال : فإذا كنتم قد أخرجتم المتقدمين على أمير المؤمنين والمحاربين له والقاعدين عنه من رضا الله تعالى ، وما ضمنته آية السابقين بالشرط على ما ذكرتم ، والتخصيص الذي وصفتم ، ولما اعتمدتموه من تعريهم من العصمة، وما واقعه ـ من سميتموه منهم على الاجماع ـ من الذنوب ، فخبروني عن قوله تعالى : { لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة }(1).
فكيف يصح لكم تأويله بما يخرج القوم من الرضا والغفران ، والاجماع منعقد على أن أبا بكر وعمر (2) وطلحة والزبير وسعدا وسعيدا قد بايعوا تحت الشجرة ، وعاهدوا النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، أوليس هذا الاجماع يوجب الرضا على البيان ؟
قيل له : القول في الآيتين جميعا سواء، وهو في هذه الآية أبين
---------------------------
(1) سورة الفتح 48 : 18 .
(2) زاد في م : وعثمان ، والثابت أنه لم يبايع تحت الشجرة ، أنظر الدر المنثور 7 / 521 .
الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 86 _
وأوضح وأقرب طريقا ، وذلك أن الله تعالى ذكر المبايعين (1) ، وخصص من توجه إليه الرضا من جملتهم بعلامات نطق بها التنزيل، ودل بذلك على أن أصحابك ـ أيها الخصم ـ خارجون عن الرضا على التحقيق ، فقال جل اسمه: { لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا }(2).
فخص سبحانه بالرضا منهم من علم الله منهم الوفاء، وجعل علامته من بينهم ثباته في الحروب بنزول السكينة عليه ، وكون الفتح القريب به وعلى يديه ، ولا خلاف بين الأمة أن أول حرب لقيها رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد بيعة الرضوان حرب خيبر ، وأنه قدم أبا بكر فيها فرجع منهزما فارا من مرحب ، وثنى بعمر فرجع منهزما فارا ، يجبن أصحابه ويجبنونه .
فلما رأى ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم )، قال: ( لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، كرارا غير فرارا ، لا يرجع حتى يفتح الله تعالى على يديه ) (3) فأعطاها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فلقي مرحبا فقتله ، وكان الفتح على يديه واختص الرضا به (4) ، ومن كان معه من أصحابه وأتباعه ، وخرج صاحباك من الرضا بخروجهما عن الوفاء ،
---------------------------
(1) في ب ، م : السابقين .
(2) سورة الفتح 48 : 18 .
(3) تقدم مع تخريجاته في ص 34 .
(4) ( واختص الرضى به ) ليس في ب ، م .
الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 87 _
وتعريهما من السكينة ، لانهزامهما وفرارهما وخيبتهما من الفتح القريب ، لكونه على يد غيرهما ، وخرج من سميت من أتبعاهما (1) منه ، إذ لا فتح لهم ولا بهم على ما ذكرناه (2) وانكشف عن الرجلين خاصة ، بدليل قول رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( ويحبه الله ورسوله ) ما كان مستورا ، لاستحقاقهما في الظاهر ضد ذلك من الوصف ، كما استحقا اسم الفرار دون الكرار ، ولولا أن الأمر كما وصفناه لبطل معنى كلام النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ولم يكن له فائدة ، وفسد تخصيصه عليا ( عليه السلام )بما ضمنه من الثناء على ما شرحناه .
ومما يؤيد ذلك ويزيده بيانا قول الله عز وجل: { ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولا }(3).
فدل على أنه تعالى يسأل المولين (4) يوم القيامة عن العهد ، ويعاقبهم بنقض العهد، وليس يصح اجتماع الرضا والمسألة والعقاب لشخص واحد ، فدل ذلك على خصوص الرضا ، ووجب إلحاقه في الحكم بما لا يتوجه إليه السؤال ، وإذا وجب ذلك بطل تعلق الخصم في الآية بالعموم ، وسقط اعتماده على البيعة في الجملة .
وعلى كل حال ، هذا إن لم يكن في الآية نفسها وفيما تلوناه بعدها دليل على خروج القوم من الرضا، وكان الأمر ملتبسا ، فكيف وفيها
---------------------------
(1) في أ : أتباعا .
(2) ( على ما ذكرناه ) ليس في ب ، ح ، م .
(3) سورة الأحزاب 33 : 15 .
(4) في أ : المؤمنين .
الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 88 _
أوضح برهان بما رتبناه ؟!
ومما يدل على خصوص الآية أيضا قوله تعالى : { ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير }(1) .
فتوعد على الفرار بالغضب والنار ، كما وعد على الوفاء بالرضا والنعيم ، فلو كانت آية الرضا في المبايعين على العموم وعدم الشرط لبطل الوعيد ، وخرجت الآية النازلة عن الحكمة (2) ، ولم يحصل لها فائدة ولا مفهوم ، وذلك فاسد بلا ارتياب.
ومما يدل على ذلك أيضا قوله تعالى : { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا }(3).
وهذا صريح باختصاص الرضا بطائفة من المبايعين دون الجميع، وبثبوت الخصوص في الموفين بظاهر التنزيل الذي لا يمكن لأحد دفعه ، إلا بالخروج عن الدين.
على أن بعض أصحابنا قد سلم لهم ما ظنوه من توجه الرضا إلى جميع المبايعين (4) ، وأراهم أنه غير نافع لهم فيما اعتقدوه ، لأن الرضا
---------------------------
(1) سورة الأنفال 8 : 16 .
(2) في ب ، ح ، م : النازلة منافية للحكمة .
(3) سورة الأحزاب 33 : 23 .
(4) في م : المتابعين.
الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 89 _
للماضي من الأفعال ، وما هو في الحال لا يعصم من وقوع ضده الموجب للسخط في المستقبل ، وما يتوقع من الأحوال ، وهذا ما لا يمكن لأحد من خصومنا دفعه ، إلا من قال منهم بالموافاة فإنه يتعلق بها ، وكلامي المتقدم يكفي في الكثير على الجميع ، والحمد لله .
الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 90 _
فصل
فإن قال : قد فهمت ما ذكرتموه في هذه وما قبلها من الآي، ولست أرى لأحد حجة في دفعه لوضوحه في البيان، ولكن خبروني عن قوله تعالى في سورة النور : { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون }(1).
أليس قد ذكر المفسرون أنها في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب (عليه السلام ) ؟! واستدل المتكلمون من مخالفيكم على صحة ذلك ، بما حصل لهم من جميع هذه الصفات : فأولها : أنهم كانوا حاضرين لنزولها بدليل كاف المواجهة (2) بلا اختلاف ، ثم أنهم كانوا ممن خاف في أول الإسلام ، فآمنهم الله تعالى ، ومكن لهم في البلاد، وخلفوا النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأطاعهم العباد ، فثبت أنها
---------------------------
(1) سورة النور 24: 55.
(2) المراد منها كاف الخطاب في الآية.
الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 91 _
نزلت فيهم بهذا الضرب من الاعتبار ، وإلا فبينوا لنا الوجه في معناها ، إن لم يكن الأمر على ما ذكرناه .
قيل له : إن تفسير القرآن لا يؤخذ بالرأي ، ولا يحمل على اعتقادات الرجال والأهواء ، وما حكيته من ذلك عن المفسرين فليس هو إجماعا منهم ، ولا مرجوعا به إلى ثقة ممن تعاطاه ومن ادعاه ، ولم يسنده إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )، ولا إلى من تجب طاعته على الأنام .
وممن فسر القرآن عبد الله بن عباس ، والمحكي عنه في تأويل هذه الآية غير ما وصفت بلا تنازع بين حملة الآثار ، وكذلك المروي عن محمد بن علي ( عليهما السلام ) ، وعن عطاء ومجاهد (1) ، وإنما ذكر ذلك برأيه وعصبيته مقاتل بن سليمان ، وقد عرف نصبه لآل محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وجهله وكثرة تخاليطه في الجبر والتشبيه ، وما ضمنته كتبه في معاني القرآن.
على أن المفسرين للقرآن طائفتان : شيعة ، وحشوية ، فالشيعة لها في هذه الآية تأويل معروف تسنده إلى أئمة الهدى ( عليهم السلام ) ، والحشوية مختلفة في أقاويلها على ما ذكرناه ، فمن أين يصح إضافة ما ادعوه من التأويل إلى مفسري القرآن جميعا على الاطلاق ، لولا عمى العيون وارتكاب العناد ؟!
فأما ما حكوه (2) في معناها عن المتكلمين منهم ، فقد اعتمده
---------------------------
(1) أنظر سعد السعود : 166 ـ 173 ، مجمع البيان 7 : 239 ، تفسير الطبري 18 : 122 ، تفسير القرطبي 12 : 297 .
(2) في ب ، م : حكموه .
الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 92 _
جميعهم على ما وصفوه بالاعتبار الذي ذكروه ، وهو ضلال عن المراد (1) ، وخطأ ظاهر الفساد ، من وجوه لا تخفى على من وفق للرشاد : أحدها : أن الوعد مشترط بالإيمان على التحقيق بالأعمال الصالحات ، وليس على ما يذهب إليه مخالفونا من إيمان أصحابهم على الحقيقة ، وأنهم كانوا من أصحاب الصالحات بإجماع ، ولا دليل يقطع به على الحق عند الله، بل الخلاف في ذلك ظاهر بينهم وبين خصومهم ، والمدافعة عن الأدلة على ذلك موجودة كالعيان .
والثاني : أن المراد في الآية بالاستخلاف إنما هو توريث الأرض والديار ، والتبقية (2) لأهل الإيمان بعد هلاك الظالمين لهم من الكفار ، دون ما ظنه القوم من الاستخلاف في مقام النبوة ، وتملك الإمامة وفرض الطاعة على الأنام .
ألا ترى أن الله سبحانه قد جعل ما وعد به من ذلك مماثلا لما فعله بالمؤمنين وبالأنبياء ( عليهم السلام ) قبل هذه الأمة في الاستخلاف (3)، وأخبر بكتابه عن حقيقة ذلك وصورته ومعناه ، وكان بصريح ما أنزله من القرآن مفيدا لما ذكرناه ، من توريث الديار والنعم والأموال عموم المؤمنين دون خصوصهم ومعنى ما بيناه ، دون الإمامة التي هي خلافة للنبوة والإمرة والسلطان .
---------------------------
(1) في أ : المرام.
(2) في أ : التنقية ، وفي م : النعمة.
(3) في ب ، م : الآية بالاستخلاف .
الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 93 _
قال الله تعالى في سورة الأعراف: { قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين * قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون }(1) .
فبشرهم بصبرهم على أذى الكافرين بميراث أرضهم، والملك لديارهم من بعدهم ، والاستخلاف على نعمتهم ، ولم يرد بشئ من ذلك تمليكهم مقام النبوة والإمامة على سائر الأمة ، بل أراد ما بيناه .
ونظير هذا الاستخلاف من الله سبحانه لعباده ، ومما هو في معناه ، قوله جل اسمه في سورة الأنعام: { وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين }(2) وليس هذا الاستخلاف من الإمامة وخلافة النبوة في شئ وإنما هو ما قدمنا ذكره ووصفناه .
وقوله تعالى : { ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون }(3) فإنما أراد بذلك تبقيتهم (4) بعد هلاك الماضين، وتوريثهم ما كانوا فيه من النعم ، فجعله (5) من مننه عليهم ولطفه بهم
---------------------------
(1) سورة الأعراف 7 : 128 ، 129 .
(2) سورة الأنعام 6 : 133 .
(3) سورة يونس 10 : 14 .
(4) في أ : تبعيتهم .
(5) في م : فجعلوا .
الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 94 _
ليطيعوه ولا يكفروا به كما فعل الأولون .
ومنه قوله تعالى : { آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير }(1) وقد علم كل ذي عقل أن هذا الاستخلاف مباين للعامة في معناه ، وقد وفى الله الكريم موعده لأصحاب نبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) جميعا في حياته وبعد وفاته ، ففتح لهم البلاد ، وملكهم رقاب العباد ، وأحلهم الديار ، وأغنمهم الأموال ، فقال عز من قائل : { وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطؤها }(2).
وإذا كان الأمر على ما وصفناه ، ثبت أن المراد بالآية من الاستخلاف ما ذكرناه ، ولم يتضمن ذلك الإمامة وخلافة النبوة على ما بيناه ، وكان الوعد به عموما لأهل الإيمان (3) بما شرحناه ، وبطل ما تعلق به خصومنا في إمامة المتقدمين على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ووضح جهلهم في الاعتماد على التأويل الذي حكيناه عنهم للآية لما تلوناه من كتاب الله تعالى وفصلنا وجهه وكشفناه .
وقد حكى هذا المعنى بعينه في تأويل هذه الآية الربيع عن أبي العالية (4) ، والحسين بن محمد ، عن الحكم ، وغيرهما ، عن جماعات من
---------------------------
(1) سورة الحديد 57 : 7 .
(2) الأحزاب 33 : 27 .
(3) في أ : البيان و .
(4) هو رفيع بن مهران الرياحي البصري ، أدرك الجاهلية لكنه أسلم بعد وفاة
=>
الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 95 _
التابعين، ومفسري القرآن (1) .
فصل
على أن عموم الوعد بالاستخلاف للمؤمنين الذي عملوا الصالحات من أصحاب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )، على ما اختصوا به من الصفات في عبادتهم لله تعالى على الخوف والأذى والاستسرار بدين الله جل اسمه، على ما نطق به القرآن، يمنع مما ادعاه (2) أهل الخلاف من تخصيص أربعة منهم دون الجميع، لتناقض اجتماع معاني العموم على الاستيعاب والخصوص ، ووجوب دفع أحدهما صاحبه بمقتضى العقول (3) .
وإذا ثبت عموم الوعد ، وجب صحة ما ذكرناه في معنى الاستخلاف من توريث الديار والأموال ، وظهور عموم ذلك لجميعهم (4) في حياة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبعده بلا اختلاف ، بطل ما ظنه الخصوم في ذلك وتأولوه على المجازفة ، والعدول عن النظر الصحيح .
---------------------------
<=
النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، قارئ حافظ مفسر ، روى عنه الربيع بن أنس الخراساني ، راجع تهذيب الكمال 9 : 214 وسير أعلام النبلاء : 4 / 207
(1) أنظر تفسير الطبري 18 : 122 ، الدر المنثور 6 : 215 .
(2) في ب : أعاده .
(3) في أ : القول .
(4) في أ : والظهور بالدين لعموم ذلك جميعهم .
الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 96 _
فصل
فإن قال منهم قائل : إن الآية وإن كان ظاهرها العموم ، فالمراد بها الخصوص ، بدليل وجود الخلافة فيمن عددناه دون الجميع ، وعلى هذا يعتمد متكلموهم .
قيل له : أحلت في ذلك من قبيل أنك إنما أوجبت لأصحابك الإمامة ، وقضيت لهم بصحة الخلافة بالآية ، وجعلتها ملجأ لك في حجاج خصومك ، ودفعهم عما وصفوا به من فساد عقلك ، فلما لم يتم (1) لك مرادك من الآية ، بما أوجبه عليك عمومها بظاهرها ، ودليل متضمنها ، عدلت إلى تصحيح تأويلك منها ، بادعاء ما تورعت فيه من خلافة القوم ، وثبوت إمامتهم، الذي أفقرك عدم البرهان عليه إلى تصحيحه عندك بالآية ، فصرت دالا على وجوده معنى تنازع فيه بوجود شئ تتعلق صحة وجوده بوجود ما دفعت (2) عن وجوده ، وهذا تناقض من القول، وخبط أوجبه لك (3) الضلال، وأوقعك فيه التقليد والعصبية للرجال ، نعوذ بالله من الخذلان.
ثم يقال له : خبرنا عما تدعيه من استخلاف الله تعالى لأئمتك على الأنام ، وصحة إمامتهم على ما زعمت فيما سلف لك من الكلام ، أبظاهر أمرهم ونهيهم وتملكهم علمت ذلك ، وحكمت به على
---------------------------
(1) في م : لم يتبين .
(2) في ب ، ح ، م : وقعت .
(3) في ب ، م : أوجبك .
الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 97 _
القطع والثبات ، أم بظاهر الآية ودليلها على ما قدمت من الاعتبار ، أم بغير ذلك من ضروب الاستدلال ؟
فإن قال : بظاهر أمرهم ونهيهم في الأمة، ورئاستهم الجماعة ، ونفوذ أمرهم و (1) أحكامهم في البلاد ، علمت ذلك وقطعت به على أنهم خلفاء الله تعالى : والأئمة بعد رسوله ( عليه السلام ) ، وجب على وفور هذه العلة القطع بصحة إمامة كل من ادعى خلافة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ونفذت إحكامه وقضاياه في البلاد ، وهذا ما لا يذهب إليه أحد من أهل الإيمان .
وإن قال : إنما علمت صحة خلافتهم بالآية ودلائلها على الاعتبار.
قيل له : ما وجه دلالة الآية على ذلك ، وأنت دافع لعمومها في جميع أهل الإيمان، وموجب خصوصها بغير معنى في ظاهرها ، ولا في باطنها ، ولا مقتضاها على الأحوال ؟ فلا يجد شيئا يتعلق به فيما ادعاه.
وإن قال : إن دلالتي على ما ادعيت من صحة خلافتهم معنى غير الآية نفسها ، بل من الظاهر (2) من أمر القوم ونهيهم ، وتأمرهم على الأنام ، خرجت الآية عن يده ، وبانت فضيحته فيما قدره منها وظنه في تأويلها وتمناه ، وهذا ظاهر بحمد الله.
---------------------------
(1) ( أمرهم و ) ليس في ب ، م .
(2) في أ ، ح : والظاهر ، بدل : بل من الظاهر.
الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 98 _
فصل
مع أنا لو سلمنا لهم في معنى الاستخلاف أن المراد في الآية ما ذكروه من إمامة الأنام ، لما وجب به ما ذهبوا إليه من صحة خلافة المتقدمين على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بل كانت الآية نفسها شاهدة بفساد أمرهم وانتقاضه على البيان ، وذلك أن الله جل اسمه وعد المؤمنين من أصحاب نبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالاستخلاف ، ثوابا لهم على الصبر والإيمان ، والاستخلاف من الله تعالى للأئمة لا يكون استخلاف من العباد ، ولما ثبت أن أبا بكر كان منصوبا باختيار عمر وأبي عبيدة بن الجراح ، وعمر باستخلاف أبي بكر دون النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )، وعثمان باختيار عبد الرحمن ، فسد أن يكونوا داخلين تحت الوعد بالاستخلاف ، لتعريهم من النص بالخلافة من الله تعالى ، وإقرار مخالفينا ـ إلا من شذ منهم ـ أن إمامتهم كانت باختيار ، وثبت أن الآية كانت مختصة بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام )دونهم ، لإجماع شيعته على أن إمامته باستخلاف الله تعالى له ، ونصه عليه ، وأقامه ( عليه السلام )نبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) علما للأمة وإماما لها بصريح المقال.
فصل آخر
ويقال لهم : ما تنكرون أن يكون خروج أبي بكر وعمر وعثمان من الخوف في أيام النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يخرجهم (1) عن الوعد بالاستخلاف ، لأنه
---------------------------
(1) في ب ، ح ، م : بخروجهم والظاهر أنها : خروجهم.
الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 99 _
إنما توجه إلى من كان يلحقه الخوف من أذى المشركين، وليس له مانع منهم ، كأمير المؤمنين (1) ( عليه السلام )وما مني به النبي صلى الله وآله وعمار وأمه وأبيه ، والمعذبين بمكة ، ومن أخرجهم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، مع جعفر بن أبي طالب إلى بلاد الحبشة لما كان ينالهم من الفتنة والأذى في الدين (2) .
فأما أبو بكر فإن الشيعة تذكر أنه لم يكن خائفا في حياة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لأسباب نحن أغنياء عن شرحها ، وأنتم تزعمون أن الخوف مرتفع عنه لعزته في قريش ومكانه منهم وكثرة ماله واتساع (3) جاهه ، وإعظام القوم له لسنه وتقدمه ، حتى أنه كان يجير ولا يجار عليه ، ويؤمن ولا يحتاج إلى أمان ، وزعمتم إنه اشترى تسعة نفر من العذاب.
وأن عمر بن الخطاب لم يخف قط ، ولا هاب أحدا من الأعداء ، وأنه جرد سيفه عند إسلامه ، وقال : لا يعبد الله اليوم سرا ، ثقة بنفسه ، وطمأنينة إلى سلامته ، وأمنا من الغوائل ، وأنه لن يقدم عليه أحد بسوء ، لعظم رهبة الناس منه وإجلالهم لمكانه .
وأن عثمان بن عفان كان آمنا ببني أمية ، وهم ملاك الأمر إذ ذاك ، فكيف يصح لكم مع هذا القول أن تستدلوا بالآية على صحة خلافتهم ودخولهم (4) تحت الوعد بالاستخلاف ، وهم من الوصف المنافي لصفات
---------------------------
(1) في ب ، م : مانع في أمير المؤمنين.
(2) في ب ، م : والأذى فيه .
(3) في ب ، م : وامتناع .
(4) ( أن تستدلوا ... ودخلوهم ) ليس في ب ، م .
الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 100 _
الموعودين بالاستخلاف على ما ذكرناه ، لولا أنكم تخبطون فيما تذهبون إليه خبط عشواء ؟!
فصل
ويقال لهم : أليس يمكنكم إضافة ما تلوتموه من هذه الآية في أئمتكم إلى صادق عن الله تعالى فيجب العمل به ، وإنما أسندتم قولكم فيه إلى ضرب من الرأي والاعتبار الفاسد بما أوضحناه .
وقد ورد عن تراجمة القرآن من آل محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في تأويلها ما هو أشبه من تأويلكم وأولى بالصواب ، فقالوا : إنها نزلت في عترة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وذريته الأئمة الأطهار ( عليهم السلام ) وتضمنت البشارة لهم بالاستخلاف ، والتمكن في البلاد ، وارتفاع الخوف عنهم عند قيام المهدي منهم ، فكانوا ( عليه السلام )هم المؤمنين العاملين الصالحات ، بعصمتهم (1) من الزلات.
وهم أحق بالاستخلاف على الأنام ممن عداهم ، لفضلهم على سائر الناس، وهم المدالون (2) على أعدائهم في آخر الزمان ، حتى يتمكنوا في البلاد ، ويظهر دين الله تعالى بهم ظهورا لا يستخفي على أحد من العباد ، ويأمنون بعد طول خوفهم من الضالمين المرتكبين في
---------------------------
(1) في ب ، م : الصالحين عصمهم الله.
(2) المدالون : المنصورون ، يقال : أداله على عدوه : نصره ، ( الصحاح ـ دول ـ 4 : 1700 ) .
وفي أ : الموالون ، وفي ب ، م : المذلون.