الطبقة من النساء فيتزوّجها طالباً بها رفع العنت أوّلاً وتشكيل الا َُسرة بمالها من الخصوصيات ثانياً.
والحق أنّ ما اختمر في ذهن الكاتب وغيره من المتعة أشبه بالنساء المبذولات في بيوت خاصة ، ومحلاّت معيّنة فمثل ذلك لا يمكن أن تضفى عليه المشروعية ، غير أنّ المتعة الشرعية غير ذلك ، وربّما يتوقّف التزوّج بهنّ على طي عقبات ، فيشترط فيها ما يشترط في الدائم ، ويفارق الدائم بأمرين : الطلاق والنفقة ، وأمّا التوارث فيتوارثان بالاشتراط ومثل ذلك يلازم الغايات المطلوبة للنكاح غالباً ، وقد أوضحنا حقيقة زواج المتعة في صدر البحث.
والحق أنّ الغاية القصوى في كل مورد رخّص فيه الشارع العلاقة الجنسية بعامّة أقسامها حتى ملك اليمين وتحليل الاِماء ... هو صيانة النفس عن الوقوع في الزنا والسفاح ، وأمّا سائر الغايات من تشكيل الا َُسرة ، و التكافل الاجتماعي ، فإنّما هي غايات ثانوية تحصل بالنتيجة سواء توخّاها الزوجان أم لا.
والغاية القصوى موجودة في الزواج الموَقت ، وأنّ الهدف من تشريعه هو صيانة النفس عن الحرام لمن لا يتمكّن من الزواج الدائم ، ولاَجل ذلك استفاض عن ابن عباس قال : ( يرحم اللّه عمر ما كانت المتعة إلاّ رحمة من اللّه رحم بها أُمّة محمد ولولا نهيه عنها ما احتاج إلى الزنا إلاّ شقي ) (1)
إنّ قوله سبحانه : ( و ليستعفِفِ الَّذِينَ لا يجدونَ نِكاحاً حتى يُغنيهمُ اللّهُ من فضلِهِ ... ) (النور | 33) دليل على أنّ الغاية من تجويز النكاح ، والنهي عن الرهبانية
---------------------------
(1) السيوطي : الدر المنثور : 2|141 وروى النص عن عليّ (عليه السلام) أيضاً لاحظ تفسير الاِمام الرازي : 3|200 المسألة الثالثة في بياننكاح المتعة.
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 140 _
هو صيانة النفس عن الفحشاء ودفعها إلى التعفّف ، وهذه الغاية كما عرفت موجودة في جميع الاَنكحة والعلاقات الجنسية من الزواج الدائم إلى الزواج الموَقّت إلى ملك اليمين إلى تحليل الاِماء بشروطها المقرّرة في الفقه.
3 ـ المتعة داخلة تحت السفح المنهى عنه في الآية : ذكر الا َُستاذ أنّ مجرّد قضاء الشهوة والاستمتاع ، هو ما أطلق عليه القرآن (السفاح) ولذا حذّر الاِسلام من اتّباع هذا السبيل بقوله : ( وأُحلَّ لَكُمْ ما وراءَ ذلِكُمْ أنْ تَبتَغُوا بأموالِكُمْ مُحصنينَ غَيرَ مسافِحِين ) (النساء | 24) إذ موَداه أن تتزوّجوا النساء بالمهور ، قاصدين ما شرع اللّه النكاح لاَجله من الاحصان ، وتحصيل النسل دون مجرّد سفح الماء وقضاء الشهوة كما يفعل الزناة ، وفي هذا اشعار بتحريم أن تبتغى المرأة من أجل مجرد الاستمتاع بها وسفح الماء في رحمها (1)
يلاحظ عليه بأمرين :
الاَوّل : أنّ السفح في الآية إنّما هو بمعنى الزنا لا بمعنى صبَّ الماء حتى ولو كان الطرف زوجة شرعية ، وبعبارة أُخرى أُريد من قوله : ( محصنين غير مسافحين ) كونهم متزوّجين غير زانين ، ويظهر ذلك بتوضيح معنى الاحصان ، وبالتالي معنى السفح الواردين في الآية ، وإليك نصَّ الآية وما بعدها.
( والمحصَناتُ منَ النِّساءِ إلاّ ما مَلكَتْ أيمانُكُمْ كتابُ اللّهِ عَلَيكُمْ وأُحِلَّ لَكُمْ ما وراءَ ذلكم أن تَبتغُوا بأموالِكُم محصِنيِنَ غيرَ مسافِحيِنَ فما استَمْتَعتُمْ بهِ منهُنَّ فآتوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ... ) (النساء | 24).
---------------------------
(1) المقدمة : 15 اقرأ مضمون كلامه في تفسير المنار 5 / 6 .
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 141 _
( ومَن لم يَسْتَطِعْ مِنكُم طَوْلاً أنْ ينكِحَ المُحْصَنَاتِ المُوَْمناتِ فَمِنْ ما مَلَكتْ أيمانُكُمْ مِن فتياتِكُمُ المُوَمِناتِ واللّهُ أعْلَمُ بإيمانِكُمْ بَعضُكُم مِن بعضٍٍ فانكِحُوهُنَّ بإذنِ أهلِهِنَّ وآتوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بالمعرُوفِ مُحصناتٍ غيرَ مُسافِحاتٍ ولا مُتَّخِذاتِ أخْدَانٍ فإذا أُحْصِنَّ فإنْ أتينَ بفاحِشَةٍ فعليهِنَّ نِصفُ ما على المحصَناتِ منَ العذابِ ذلِكَ لمن خَشِىَ العَنَتَ مِنكُم ... ) (النساء | 25).
ترى أنّ مادة الاِحصان وردت بصورها المختلفة في الآيتين ست مرات وأمّا معناه لغة فليس له إلاّ معنىً واحداً وهو المنع ، غير أنّ أسباب المنع أو متعلقاته يختلف ، فالمرأة تكون محصنة بأُمور :
1 ـ الاِسلام 2 ـ العفاف 3 ـ الحرية 4 ـ الزواج.
فالاِسلام يمنعها عن التزوّج بالمشرك مثلاً ، والعفاف يصدّها عن الزنا ، والحرية تمنعها عن التبذّل الجنسي أكثر من الاَمة ، أو التزوّج بغير الكفوء ، والزواج يصد المرأة عن الفحشاء أو الزواج مع الغير (1)
روى السيوطي في الدر المنثور عن النبي الاَكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال : الاحصان احصانان : احصان نكاح ، واحصان عفاف (2) وعلى ضوئه يتبيّن المقصود من الاحصان الوارد في الآيتين ، فقد أُريد : من قوله : (والمحصنات من النساء إلاّ ما ملكت) . وقوله : (محصنين غير مسافحين) وقوله : (فإذا أُحصنَّ) الاحصان بالتزويج.
---------------------------
(1) ابن الاَثير : الهناية ، مادة (الحصن) بنوضيح منّا .
(2) السيوطي : الدر المنثور : 2|139.
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 142 _
كما أُريد من قوله : ( محصنات غير مسافحات ) هو الاحصان بالعفة.
وأُريد : من قوله : ( أن ينكح المحصنات الموَمنات ) وقوله : ( نصف ما على المحصنات من العذاب ) الاحصان بالحرية.
إلى هنا تبيّن المقصود من الاحصان واتّضح أنّ المراد من قوله ( محصنين غير مسافحين ) هو كونهم متزوّجين ، كما أنّ المراد من قوله ( محصنات غير مسافحات ) أي كونهنَّ عفائف (1)
هذا حول الاحصان ، وأمّا السفح فهو في اللغة بمعنى صبّ الماء ، يقال : سفحتُ الماء : إذا صببتَه.
ودم مسفوح أي مراق ، والسفاح : الزنا مأخوذ من سفحت الماء إذا صببته ، وفي الحديث أوّله سفاح وآخره نكاح ، والمراد أنّ المرأة تسافح رجلاً مدّة ثم يتزوّجها بعد ذلك.
إذا تبيّن ذلك تقف على أنّ المراد من قوله : ( غير مسافحين ) هو غير زانين كما هو الحال في قوله : ( غير مسافحات ) وذلك بحكم كونهما قرينين لـ ( محصنين ) أو ( محصنات ).
فقوله سبحانه في الآية : ( محصنين غير مسافحين ) يدعو إلى أنّ مباشرة الرجل للمرأة يجب أن يكون بالتزويج ، لا بالزنا ، كما أنّ قوله سبحانه في الآية الثانية : ( محصنات غير مسافحات ) يدعو إلى أنّ الاَمة التي يباشرها الرجل يجب أن تكون عفيفة لا زانية ، والهدف هو الدعوة إلى التزوّج والنهي عن الزنا ، لا الدعوة إلى تكوين النسل والنهي عن مطلق صبّ الماء.
---------------------------
(1) نظيره قوله سبحانه (ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها) (التحريم : الآية 12) أي منعت فرجها من دنس المعصية وعفّت عن الحرام.
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 143 _
وأظنّ أنّ من حمل قوله سبحانه : ( غير مسافحين ) على المعنى اللغوي ، لاَجل أنّه اتّخذ موقفاً خاصاً من المتعة وهو موقف التحريم فحاول البرهنة على مدعاه فتمسّك بهذه الكلمة حاملاً إيّاه على المعنى اللغوي ، أي تحريم صبّ الماء سواء كانت المرأة زوجة أو غيرها.
ثمّ إنّه كيف يمكن القول بحرمة صبّ الماء فيما إذا كان الطرف للرجل زوجته الشرعية فيجامعها التذاذاً و دفعاً للعنت والشبق ، ولا يطلب الولد أفيمكن لفقيه الافتاء بالحرمة ؟
فإذا كان المتمتّع بها زوجة شرعية كما هو المفترض ، فمباشرتها للالتذاذ بلا طلب للولد نفس المباشرة للزوجة الدائمة بهذه الكيفية ، فكما أنّ الثاني مباح ، فهكذا الاَوّل.
فلو كان القائل بالتحريم يريد البرهنة على مدّعاه فليركّز على نفي كونها زوجة وإلاّ مع التسليم بكونها زوجة لا دليل على حرمة صبّ الماء بلا طلب للولد ، وقد وقع الكاتب في هذا الاشتباه تبعاً لما ذكره الاِمام عبده في تفسيره (1) وأنا ـ شخصياً ـ أجلُّ الاِمام عن هذا التفسير ، إنّما هو من منشىَ المنار السيد محمد رشيد رضا وقد أدخل أفكاره في ثنايا نظريات الاِمام عبده.
الثاني : لو كان سبب الحرمة كون التزوّج متعة لغاية صبّ الماء لا لتكوين الولد وتشكيل الا َُسرة ، يلزم التفصيل بين كون الغاية منه هو صبّ الماء وما إذا
---------------------------
(1) الاِمام عبده : المنار : 5|9 : ليكنّ عفيفات طاهرات ولا يكون التزوّج لمجرد التمتع وسفح الماء وإراقته وهو يدل على بطلان النكاح الموَقّت وهو نكاح المتعة الذي يشترط فيه الاَجل.
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 144 _
كانت الغاية تشكيل الا َُسرة أو طلب الولد ، فهل الا َُستاذ يُفتي به أو لا ؟
4 ـ الآية تهدف إلى تأكيد المهر بعد الاستمتاع : إنّ القائلين بحلّية المتعة تبعاً للنصوص الواردة في السنّة (وإن أغفل الكاتب ذكرها ، وذكر القائلين بنزول الآية فيها من أهل السنّة) يستدلّون على حلّية المتعة بقوله سبحانه : ( فما استمتعتم بِهِ منهنّ فآتوهنَّ أُجورهنَّ فريضة ... ) وسيوافيك كيفية الاستدلال بها ولاَجل إخلاء الآية عن الدلالة على حكم المتعة حملها الا َُستاذ على معنى آخر وقال : إنّما أوردها تعالى هنا للدلالة على تأكيد المهر بعد الاستمتاع وعدم قابليته للسقوط بعد هذا الاستمتاع إذ من المعلوم أنّ ( عقد الزواج ) وإن كان يثبت به المهر كاملاً إثر إبرامه ، وتستحقّه الزوجة بنفس العقد ، غير أنّه يثبت ثبوتاً قابلاً لسقوط بعضه ، كالطلاق قبل الدخول مثلاً ، حيث يثبت نصفه فقط ، أمّا بعد ( الاستمتاع ) بالزوجة فيتأكد ( المهر ) كملاً ويصبح العقد غير قابل لاَن يسقط شيء منه.
فالآية الكريمة ( فما استمتعتم به منهنّ ) تفيد أنّ المهر ـ كما ذكرنا ـ يتأكّد وجوبه كاملاً بالاستمتاع ، لا بعقد الزواج وحده ، لاَنّه عرضة لاَن يسقط نصفه بالطلاق قبل الدخول ، فيتأكد حقّ المرأة في تمام المهر بالدخول.
فالاستمتاع هنا ، أثر لعقد النكاح الصحيح الدائم الذي يثبت به المهر كملاً غير قابل للسقوط ، وليس انشاءً لعقد المتعة (1)
---------------------------
(1) مقدمة الدريني على كتاب ( الاَصل في الاَشياء ... ) ص 16 ـ 17.
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 145 _
يلاحظ عليه بأمرين :
الاَوّل : أنّ الاستمتاع ورد في الآية على وجه الاطلاق ، وهو كما يشمل الدخول ، يشمل سائر الوجوه من الاستمتاعات من التقبيل إلى سائر ألوانها ، فلو حملنا الآية على أنّها بصدد بيان استقرار جميع المهر على الزوج يلزم القول بوجوبه عليه بمجرّد التمتع وهذا باطل بضرورة الفقه ، لاَنّ استقراره كاملاً يتوقّف على الدخول وإلاّ فلا يجب إلاّ النصف ، قال سبحانه : ( وإن طَلَّقتُمُوهُنََّّ مِن قَبل أَن تَمسُّوهُنَّ وقَدْ فرضتُمْ لهُنَّ فريضةً فنِصفُ ما فَرَضتُمْ ) (البقرة | 237).
فعلى ما فسّـر به الآية يجب دفع جميع المهر لمطلق التمتّع وهو أمر باطل ، والقول بتخصيص الآية باخراج جميع ألوان التمتع ، يستلزم الاستهجان في الكلام لاَنّه يكون من قبيل تخصيص الاَكثر.
الثاني : أنّ القرآن الكريم تكفّل ببيان حكم المهر في الآية السابقة حيث فرّق بين المس وعدمه فلا حاجة إلى اعادة مضمونه بلا ملزم.
أضف إليه أنّه سبحانه ذكر حكم المهور قبل هذه الآية في نفس السورة فقال : ( وآتُوا النِّساءَ صَدُقاتهنَِّ نحلةً فإِن طِبنَ لكُمْ عن شىْءٍ منهُ نفساً فكُلُوهُ هنيئاً مريئاً ) (النساء | 4).
وقال سبحانه : ( وإنْ أردتم استبدالَ زوجٍ مكانَ زوجٍ وَآتَيتُمْ إِحداهُنَّ قِنطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنهُ شيئاً أتأخذونَهُ بُهتاناً وإِثماً مُبينا ) (النساء | 20).
وعلى ذلك فلا حاجة للاعادة مع هذه الآيات الصريحة.
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 146 _
5 ـ حمل الآية على المتعة يوجب انقطاعها عن قبلها : إنّ حمل الآية على المتعة يستلزم كونها كلاماً جديداً منقطعاً عمّـا قبلها وعمّـا بعدها لاَنّه ـ من وجهة نظرهم ـ يتناول موضوعاً جديداً وهو ( عقد المتعة ) خلافاً لما قبله ، وهو النكاح الصحيح الدائم ، وهذا غير صحيح لغة ، لاَنّ المعلوم أنّ ( الفاء ) في قوله تعالى : ( فما استمتعتم ) تربط ما بعدها بما قبلها ، وإلاّ تفكّك النظم القرآني ، فالعطف بالفاء مانع من قطع المعنى بعدها ، عمّـا قبلها ، فيتعيّن أن يكون قوله تعالى : ( فما استمتعتم به منهنّ ) منصرفاً إلى الاستمتاع بالنكاح الدائم الصحيح ، لا بالمتعة ، لاَنّ العطف يمنع هذا الانقطاع .
يدلّك على هذا ، آخر الآية الكريمة من قوله تعالى : ( ومَنْ لَم يَستطعْ مِنكُمْ طَولاً أنْ يَنكِحَ المُحصناتِ الموَمناتِ فَمِن ما مَلكتْ أيْمانُكم ) ويتبع ذلك قوله تعالى معلّلاً السبب : ( ذلكَ لِمَن خَشِىَ العَنَتَ مِنكم وان تَصبروا خير لكم ) .
ولا جرم ، أنّ هذا السياق من أوّل الآية إلى آخرها خاص بالنكاح المشروع الدائم ، فكان هذا مانعاً من أن يقحم نكاح المتعة في وسطها ، ومانعاً أيضاً من الدلالة على ذلك ، لوحدة السياق الذي ينتظم وحدة الموضوع التي تتناولها الآيات بأحكامها ، إذ لو كانت ( المتعة ) جائزة لما نصّت الآية صراحة على التزوّج من الاماء ، ولما اضطر الناس إلى ذلك ، ولما جعل الشارع خشية العنت ، ثم جعل الصبر على ترك نكاح الاَمة خيراً من نكاحهنّ ، ولكان في نكاح المتعة مندوحة عن ذلك كلّه ، لو كان جائزاً !! (1)
---------------------------
(1) المصدر السابق : ص 17 ـ 18.
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 147 _
يلاحظ عليه بأُمور :
ألف : أنّ حاصل كلامه في المقام يرجع إلى أمرين :
أحدهما : أنّ حمل قوله سبحانه : ( فما استمتعتم ... ) على المتعة يوجب تفكيك النظم القرآني.
الثاني : أنّه لو كانت المتعة جائزة لما نصّت الآية صراحة على التزوّج بالاماء ولما اضطرّ الناس إلى ذلك مع أنّه سبحانه يقول : ( ومن لم يستطع منكم طولاً ... ).
و الاَوّل مأخوذ من كتاب ( الوشيعة في نقض عقائد الشيعة ) لموسى جار اللّه قال فيها : ( وأرى أنّ أدب البيان يأبى ، وعربية هذه الجملة الكريمة تأبى أن تكون هذه الجملة الجليلة الكريمة قد نزلت في المتعة لاَنّ تركيب هذه الجملة يفسد ، ونظم هذه الآية الكريمة يختل لو قلنا بأنّها نزلت فيها ) (1) وأدب المناظرة تقتضي بيان مصادر الفكرة وأداء حق كلّ ذي حق حقّه ، ولكن الا َُستاذ شطب على هذا الاَصل الاَخلاقي بقلم عريض ، وقد تكرّر منه ذلك كما عرفت.
ب : أنّ دراسة الظروف السائدة للبيئـة التي نزلت فيها الآية تُعين على دراسة الآية وتحديد مفهومها ، فيجب على المفسّـر الواعي النظر إلى الشرائط الموجودة في زمان نزولها بذهن خالٍ عن كل رأي مسبَّق وإلاّ فدراسة الآية ، بالذهن المكتظّ بالمفاهيم السلبيّة ، تعرقل خطى المفسّـر وتصدّه عن الوصول إلى الحقيقة فنقول : إنّ الظاهر من السنّة ، أنّ المتعة شرّعت بسنّة النبي الاَكرم وتحليله ، أو
---------------------------
(1) موسى جار اللّه : الوشيعة في نقض عقائد الشيعة | 32.
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 148 _
بامضائه ما هو الموجود في صدر الاِسلام والآية نزلت تأكيداً لما شرّعه النبيّ الاَكرم بأمر منه سبحانه ويدل على ذلك :
1 ـ ما رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كانت متعة النساء في أوّل الاِسلام ، كان الرجل يقدم البلدة ليس معه من يصلح له ضيعته ولا يحفظ متاعه فيزوّج المرأة إلى قدر ما يرى أنّه يفرغ من حاجته فتنظر له متاعه وتصلح له ضيعته ...
2 ـ ورواه الطبراني والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : كانت المتعة في أوّل الاِسلام ... فكان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوّج بقدر ما يرى أنّه يفرغ من حاجته لتحفظ متاعه وتصلح له شأنه ...
3 ـ أخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبخاري ومسلم عن ابن مسعود قال : كنّا نغزو مع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وليس معنا نساوَنا فقلنا : ألا نستخصي ؟ فنهانا عن ذلك ورخّص لنا أن نتزوّج المرأة بالثوب إلى أجل ثم قرأ عبد اللّه : ( يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحرّموا طيّباتِ ما أحلَّ اللّه لَكُم ْ) .
4 ـ وأخرج عبد الرزاق وأحمد ومسلم عن سبرة الجهني قال : أذن لنا رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) عام فتح مكة في متعة النساء ، فخرجت أنا ورجل من قومي ولي عليه فضل في الجمال وهو قريب من الدمامة ...
5 ـ وأخرج ابن شيبة وأحمد ومسلم عن سبرة قال : رأيت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قائماً بين الركن والباب وهو يقول : يا أيُّها الناس إنّي كنت أذنت في الاستمتاع ألا وأنّ اللّه حرّمها إلى يوم القيامة ... (1)
6 ـ روى البخـاري في صحيحه بسنده عن جابر بن عبد اللّه وسلمة بن الاَكوع قال : كنّا في جيش فأتانا رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال : إنّه قد أُذن لكم أن تستمتعوا فاستمتعوا (1)
7 ـ روى مسلم في صحيحه بسنده : خرج علينا منادي رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال : إنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أذن لكم أن تستمتعوا ، يعني متعة النساء (2)
8 ـ روى مسلم في صحيحه أيضاً بسنده عن سلمة بن الاَكوع ، وجابر بن عبد اللّه : أنّ رسول اللّهأتانا فأذن لنا في المتعة (3)
إلى غير ذلك من الروايات التي دعت الفخر الرازي وغيره في تفسيره إلى القول بأنّها كانت مباحة في ابتداء الاِسلام (4)
وبما أنّ الآية مدنية فقد نزلت في أجواء كان هنا وراء النكاح الدائم الذي هو الاَصل في النكاح ، نكاح المتعة ، وتزويج الاماء ، والآية واردة في سورة النساء التي تكفّلت لبيان أحكام النساء وما يرجع إليهم في مختلف الاَحوال ، وعلى ذلك فلا يكون هنا اقتضاب ولا ارتجال في أن تبيّن حكم المتعة أوّلاً وتزويج الاِماء ثانياً ، بعد الفراغ من حكم النكاح الدائم.
إنّ الناظر في آيات السورة من أوّلها إلى الآية الخامسة والعشرين التي تكفّلت ببيان تزويج الاِماء ، يقف على أنّ المحور للاَحكام الواردة فيها هو النكاح الدائم فأصدرت فيها أحكاماً بالشكل التالي :
---------------------------
(1) البخاري : الصحيح : 7|13 كتاب النكاح.
(2) مسلم : الصحيح : 4|130 باب نكاح المتعة.
(3) مسلم : الصحيح : 4|130 باب نكاح المتعة.
(4) الفخر الرازي : مفاتيح الغيب : 10| 49.
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 150 _
1 ـ يجـوز نكاح ما طاب من النسـاء إلى أربع بشرط رعاية العدالة وإلاّ فواحدة (الآية 3).
2 ـ يجـب ايتاء صدقات النسـاء ومهورهنّ ولا يجوز أخذ شيء ، منها إلاّ بإذنهنّ (الآية 4).
3 ـ حكم من يأتي الفاحشة من النساء (الآية 7).
4 ـ ميراث الاَزواج زوجاً وزوجة ، ذات ولد أو غير ذات ولد (الآية 12).
5 ـ ردع السنّة الجاهلية من ارث النساء حيث كانت نساء الموتى معدودة من التركة (الآية 19).
6 ـ النهي عن امساك الزوجة التي لا رغبة له فيها ، اضراراً ليأخذ بعض ما آتاها من المهر.
7 ـ الاَمر بالمعاشرة معها بالمعروف في القول والنفقة والمبيت (الآية 19).
8 ـ إذا أراد استبدال زوج مكان زوج ، وأعطى لواحدة من زوجاته مالاً كثيراً صداقاً فليس له الاَخذ ، فلو أخذ ، فقد أخذ ظلماً وزوراً (الآية 20).
ثمّ بيّن المحرّمات اللاتي ، لا يجوز نكاحهنّ ضمن آيات ثلاث (21 و 22 وصدر الآية 23).
فبقوله سبحانه : ( والمحصنات من النساء إلاّ ما ملكت أيمانكم كتاب اللّه عليكم ) تمّ بيان ما يرجع إلى أحكام النكاح الدائم وما حوله من وظائف للزوجين.
غير أنّ التشريع لمّـا كان بصدد بيان حكم ما هو الرائج يوم ذاك ، ذكر حكم
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 151 _
أمرين :
1 ـ النكاح الموَقت فأشار إليه بقوله : ( فما استمتعتم به منهنّ فآتوهنّ أُجورهنّ فريضة ) .
2 ـ تزويج الاِماء فأشار إليه بقوله : ( ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات الموَمنات فمن ما ملكت أيمانكم ) .
ولا يعد مثل ذلك الانتقال من الدائم ، إلى الموَقّت ، ثمّ إلى نكاح الاِماء ، اقتضاباً في الكلام أو ارتجالاً في البيان ، لما عرفت أنّ الآية نزلت ، والمتعة كانت أمراً رسمياً ، مثل نكاح الاِماء فالاكتفاء ببيان حكم النكاح الدائم والسكوت عن الآخرين مخالف لاِكمال التشريع.
ومن هنا يعلم : أنّ قوله : ( استمتعتم ) ليس بمعناه اللغوي أي التمتع والالتذاذ ، بل بمعنى عقد المتعة ، يظهر ذلك بملاحظة ما سبق من الروايات ، حيث جاءت فيها المتعة ، بمعنى العقد على المرأة متعة. والذي أوقع الا َُستاذ وغيره فيما أوقع ، هو تصوّر أنّ اللفظ بمعناه اللغوي ، غافلاً عمّـا هو المصطلح في ذلك اليوم ، وحمله على المعنى اللغوي ، أشبه بحمل ألفاظ الصلاة والصوم والحج على معانيها اللغوية.
فلو رجع الا َُستاذ ومن لفَّ لفَّه إلى النصوص الواردة حول المتعة جوازاً ومنعاً في التفاسير بالاَثر ، نظير تفسير الطبري والدر المنثور لاَذعن بأنّ اللفظة ، كانت في ذلك اليوم حقيقة في النكاح الموَقت ، بحيث لا يراد منها سوى هذا. وأمّا العدول عن لفظ النكاح والزواج إلى هذا اللفظ فللاشعار إلى ما هو الغاية من هذا العقد ، ولاَجل ذلك أتى بلفظ الاَجر مكان المهر ، للايماء إلى لزوم ادائه وعدم
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 152 _
التهاون في دفعه.
فاتّضح أنّ السورة من أوّلها إلى نهاية الآية الخامسة والعشرين عالجت الموضوعات المطروحة في ذلك اليوم ، وبيّن أحكامها وأوضح معالمها وحدودها وكان ذلك مقتضى اكمال الشريعة.
وجه تصدير الجملة بـ ( فاء ) التفريع : بقي الكلام في أنّه لماذا صُدّر بيان الزواج الموَقت بلفظة (فاء) التفريع حيث قال : ( فما استمتعتم به منهنَّ فآتوهنَّ أُجورهنّ ) مع أنّه لم يسبق منه في الظاهر شيء في الآيات المتقدمة : ولكن الاجابة عنه واضحة لاَنّ المصحّح لدخولها ، تقدّم جملتين في كل واحدة ايماء إلى هذا النوع من النكاح :
أحدهما : ( أن تبتغوا بأموالكم ).
ثانيهما : (محصنين غير مسافحين).
وفي كل من هذين القيدين اشارة إلى الزواج الموَقّت.
قال سبحانه : ( وأحلّ لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم ... ).
توضيحه : ماذا يريد سبحانه من قوله : ( وأحلّ لكم ما وراء ذلكم ) هل يريد حل ما وراءه بالنكاح الدائم فقط أو يريد شيئاً وراء ذلك ؟ والاحتمال الاَوّل يوجب خروج الكلام مخرج توضيح الواضح للعلم الضروري ، بحلّية نكاح ما وراء المحرمات بالنكاح الدائم ، فما هو الدافع على توضيح الواضح خصوصاً أنّه تقدم
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 153 _
في صدر السورة قوله : ( فانكِحوا ما طابَ لكُم مِن النساءِ مثنَى وثُلاثَ ورُباع ) (النساء | 3).
فلا مناص عن احتمال آخر ، وهو : أنّه يهدف إلى بيان حلّية النكاح الذي يُبتغى بالاَموال بحيث يكون للمال (الصداق) هناك دور واسع ، بحيث لولاه لبطل ، أو لما تحقق ، فيوضح قوله : ( ما وراء ذلكم ) بقوله : ( أن تبتغوا بأموالكم ) وليس ذلك إلاّ نكاح المتعة ، لا النكاح الدائم ، فانّ الصداق في الثاني ليس بركن ، بل يجوز تركه قال سبحانه : ( لا جُناحَ عليكُمْ إِن طلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لم تَمَسُّوهُنَّ أو تَفرِضُوا لَهُنَّ فَريضَـة ) (البقرة | 236) قال ابن قدامة : ويستحب أن لا يعرى النكاح عن تسمية الصداق ، لاَنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يزوّج بناته وغيرهنّ ويتزوّج ، فلم يكن يخلي ذلك من صداق (1)
وهذا بخلاف المتعة ، فانّ الاَجل والصداق فيها ركن ، تبطل بترك واحد منهما ، قال الاِمام الصادق : ( لا تكون متعة إلاّ بأمرين : أجل مسمّى ، وأجر مسمّى ) (2) ولاَجل ذلك صحّ الاتيان بفاء التفريع.
ثمّ وصف الزوج بأن يكون محصناً لا زانياً وقال : (محصنين غير مسافحين) بأن يكون اللقاء بنيّة الزواج لا الزنا ، وبما أنّ عقد المتعة ربّما ينحرف عن مجراه ومسيره الصحيح فيتخذ لنفسه لون السفاح لا الزواج ، أمر سبحانه بأن يكون الهدف هو الزواج لا السفاح. فصار ذلك أيضاً مصححاً لدخول الفاء في الجملة لما فيها من الاِيماء إلى ما ربّما يكون الرجل فيه زانياً لا متزوّجاً.
---------------------------
(1) المغني : 7|136 وكلامه صريح في عدم الوجوب وعدم الخلاف فيه بين المذاهب.
(2) الحر العاملي : الوسائل : 14 الباب 17 من أبواب المتعة الحديث 1 والسند صحيح.
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 154 _
وبما أنّ نكاح الاِماء أيضاً ، مظنّة لذلك الاَمر إذ الغالب على الاِماء هو روح الابتذال قيّد سبحانه العفة في نكاحين بقوله : (محصنات غير مسافحات ولا متّخذات أخدان) (النساء | 25).
وبالجملة : إنّ افتتاح الكلام ، بجملتين ، حاملتين مفهوم المتعة ، هو المسوّغ لدخول الفاء.
وبذلك تقف على أنّ النظم القرآني بعد لم يتفكك ، وأنّ أدب البيان يقتضي حمله على ما فهمه السلف الصالح من هذه الجملة وإن اختلفوا في نسخها وعدمها.
ومن رجع إلى كتب الحديث والتفسير والفقه ، يرى أنّ المحدّثين والمفسّـرين والفقهاء ، تسلّموا نزول الآية في عقد المتعة وانّما اختلفوا في بقاء حلّيتها ، فقد رووا عن النبي الاَكرم أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) حرّمها ، كما رووا عن غيره ، ولم يخطر ببال أحد منهم أنّ حملها على الزواج الموَقت يهدم نظم الآية ، أو يوجد خللاً في بيانها.
هذا كلّه حول الاَمر الاَوّل وأمّا الاَمر الثاني وهو لو كانت المتعة جائزة لما وصلت النوبة إلى نكاح الاِماء ، مع أنّه سبحانه قيّد نكاحهنّ بعدم الاستطاعة على نكاح الحرائر دائماً أو منقطعاً حسب الفرض.
يلاحظ عليه : أنّ الاِماء بطبيعة الحال تكون مبتذلة ولاَجل ذلك لا يجوز نكاحهنّ إلاّ عند الضرورة وعدم الطول لنكاح المحصنات ، ولاَجل ذلك اشترط فيهنّ الاحصان ، قال سبحانه : (محصنات غير مسافحات ولا متّخذات أخدان)
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 155 _
ولا ترى هذا الشرط في جانب الحرائر وما هذا إلاّ للابتذال السائد عليهن.
وأمّا اغناء نكاح المتعة عن نكاح الاِماء فهو رجم بالغيب إذ ليست بالوفرة التي يتخيّلها الكاتب حتى يستغنى بها عن نكاح الاِماء ، فانّ كثيراً من النساء الثيّب تأبى نفسها عن العقد المنقطع ، فضلاً عن الابكار ، فليس للشارع إلاّ فتح طريق ثالث وهو نكاح الاِماء عند عدم الطول.
إنّ المرأة المتمتع بها عند الكاتب لا تختلف عن النساء المبتذلات اللاتي يعرضن أنفسهنّ في النوادي والفنادق وبيوت الدعارة والالتذاذ بهن يغني عن نكاح الاِماء ، لكن المتمتع بهنّ متعة مشروعة بالكتاب والسنّة حرائر عفاف لا صلة بينهنّ وبين المتواجدات في دمن الفحشاء أعاذنا اللّه وإيّاكم من شرور أنفسنا.
إلى هنا تبيّن أنّ دلالة الذكر الحكيم على جواز الزواج الموَقت ممّا لا غبار عليها ، بشرط أن يتجرّد الناظر عن كل رأي مسبق وعمّـا يقوله هذا الاِمام ، أو ذاك ، فلا محيص عن الاَخذ بمفاد الذكر الحكيم إلاّ إذا ثبت النسخ بالدليل القاطع وأنّى للقائل بالتحريم اثباته فقد اختلفوا في زمان النسخ إلى أقوال مختلفة تسلب الركون إلى الجميع ، كما عرفت.
وأمّا قراءة الآية بزيادة (إلى أجل مسمّى) فلا تعني كونها جزءاً من الآية سقطت منها ، بل تعني إلى تبيين المراد ، وقد قرأ بها ابن مسعود ، وأُبي بن كعب وابن عباس وليست خاصّة بابن مسعود كما زعمه الكاتب فلاحظ (1)
6 ـ نقد استدلال المجيزين بالسنّة : إنّ الكاتب عطف عنان البيان إلى نقد استدلال المجيزين وقال : ( قالوا إنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أباح المتعة لاَصحابه ، ويرد عليهم أنّ هذه الاباحة إنّما كانت عارضة لاَمر عارض يوم فتح مكّة ، وهذا استثناء من أصل التحريم ، وقد ثبت قطعاً نسخها بالاَحاديث الصحيحة فتعود إلى الاَصل وهو التحريم ) (1).
كان المترقّب من كاتب موضوعي ، أن ينقل دليل المخالف برحابة صدر والاَسف أنّه تخلّف عن ذلك الطريق فنقل دليل المجوّز بصورة ناقصة جدا ً، إنّ المجيز يستدل بروايات صحيحة في الصحاح والمسانيد تدلّ بوضوح على أنّ النبيّ الاَكرم شرّع المتعة بوحي منه سبحانه ولم يحرّمها إلى رحيله ، وقد نصّت على أنّ التحريم انّما جاء بعد رحيله وإليك بعض ما روي فانّ الاستيعاب لا يناسب المقام :
1 ـ روى مسلم بسنده : عن أبي نضر قال : كنت عند جابر بن عبد اللّه فأتاه آت فقال : ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين ، فقال جابر : فعلناهما مع رسول اللّه ثم نهانا عنهما عمر فلم نعد لهما (2)
2 ـ روى البيهقي عن أبي نضرة عن جابر ـ رضي اللّه عنه ـ قال : قلت : إنّ ابن الزبير ينهى عن المتعة وانّ ابن عباس يأمر ، قال : على يدي جرى الحديث تمتّعنا مع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ومع أبي بكر ـ رضى اللّه عنه ـ فلمّـا
---------------------------
(1) المقدمة : 22.
(2) مسلم : الصحيح ، الجزء 4 باب نكاح المتعة ، ص 131 الحديث 8 ، البيهقي : السنن : 7|206.
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 157 _
ولي عمر خطب الناس : إنّ رسول اللّه هذا الرسول ، وإنّ القرآن هذا القرآن ، وإنّهما كانتا متعتان على عهد رسول اللّه وأنا أنهى عنهما وأُعاقب عليهما : إحداهما متعة النساء ولا أقدر على رجل تزوّج امرأة إلى أجل إلاّ عيبته بالحجارة ، والا َُخرى متعة الحج ... (1).
3 ـ روى الاِمام أحمد باسناد رجال كلّهم ثقات ، عن عمران بن حصين قال : نزلت آية المتعة في كتاب اللّه تبارك وتعالى وعملنا بها مع رسول اللّه فلم تنزل آية تنسخها ولم ينه عنها النبي حتى مات (2)
4 ـ روى أبو جعفر الطبري في تفسيره باسناد صحيح ، عن شعبة ، عن الحكم قال ، قال : سألته عن هذه الآية أمنسوخة هي ؟ قال : لا ، قال الحكم : وقال علي ـ رضي اللّه عنه ـ لولا أنّ عمر ـ رضى اللّه عنه ـ نهى عن المتعة ما زنى إلاّ شقي (3)
إلى غير ذلك من المرويات في السنن والمسانيد ، الدالّة على جوازها شرعاً في عصر الرسول وأنّها بقيت على ما كانت عليه ، غير أنّه قال فيها رجل برأيه ، وصارت السنّة بدعة.
وأوضح دليل على أنّ مبدأ التحريم هو منع الخليفة عنها ، ما جاء في بعض خطبه : متعتان كانتا على عهد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنا أنهى عنهما وأُعاقب عليهما : متعة الحج ومتعة النساء.
وقد اشتهر هذا الكلام منه ، اشتهار الشمس في رابعة النهار رواه عنه نظراء
---------------------------
(1) البيهقي : السنن : 7|206 ، ومسلم : الصحيح الجزء 4 باب في المتعة بالحج الحديث 1.
(2) الاِمام أحمد : المسند : 4|436.
(3) الطبري : التفسير : 5|9.
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 158 _
الجاحظ في البيان والتبيين 2|223 ، الجصاص في أحكام القرآن 1|342 و345 ، القرطبي : جامع الاَحكام 2|370 ، التفسير الكبير : الرازي 2|167 ، ابن قيم : زاد المعاد 1|444 إلى غيرها من المصادر التي جاءت فيها هذه الجملة.
قال الراغب في المحاضرات : قال يحيى بن أكثم لشيخ بالبصرة : بمن اقتديت في جواز المتعة ؟ قـال : بعمر بن الخطاب ـ رضى اللّه عنه ـ قال : كيف وعمر كان أشد الناس فيها ؟ فقال : لاَنّ الخبر الصحيح أنّه صعد المنبر فقال : إنّ اللّه ورسوله قد أحلاّ لكم متعتين وإنّي محرّمهما عليكم وأُعاقب عليهما ، فقبلنا شهادته ولم نقبل تحريمه (1)
7 ـ أدلّة جماهير الا َُمّة القائلين بتحريم نكاح المتعة : ذكر الا َُستاذ في هذا الفصل أدلّة القائلين بتحريم نكاح المتعة ، وجعل القول بالحرمة رأياً لجماهير الا َُمّة كما عرفت ، وكأنّ الشيعة وهم ربع المسلمين أو ثلثهم ليسوا من جماهير الا َُمة ، وكأنّهم شذّاد الآفاق ، كما أنّ أئمّة أهل البيت الذين هم أعدال الكتاب وقرناوَه ليسوا منهم ، ولو أنصف كان عليه أن يقول : أدلّة القائلين بالتحريم ، بحذف كلمة ( جماهير الا َُمة ).
وعلى كلّ تقدير فقد نقل استدلالهم بقوله تعالى : ( والَّذِينَ هُمْ لفروجِهِمْ حافِـظونَ * إلاّ على أزواجِهِمْ أو مَا مَلَكَتْ أيمانُهم فإنَّهُم غيرُ ملومينَ * فمَنِ ابتَغَى وراءَ ذلكَ فأُولئكَ هُمُ العَادُون ) (الموَمنون | 5 ـ 7).
وجه الاستدلال : أنّ المرأة المتمتّع بها ليست أمة كما هو واضح ، ولا زوجة ،
لعدم ترتّب آثار عقد النكاح الصحيح كالنفقة والارث والطلاق (1)
يلاحظ عليه : بأنّه خلط آثار الشيء بمقوّماته ، فالذي يضر هو فقدان المقوّمات لا الآثار ، فانّ النكاح رابطة وعلقة بين الزوجين ، كما أنّ البيع رابطة بين المالين ، فالذي يجب وجوده هو ما جاء في التعريف من وجود الزوجين ، أو وجود المالين ، وأمّا ما وراء ذلك فإنّما هي آثار ربّما تترتّب ، وربّما تتخلّف ، فقد ذكر من آثار النكاح : النفقة ، والارث ، والطلاق ، وزعم أنّ فقدان واحد منها يوجب فقدان حقيقة النكاح ، ولكنّ الاَمر ليس كذلك ، بشهادة الموارد التالية التي تفقد الآثار ولا تفقد حقيقة النكاح :
1 ـ الزوجة الناشزة لا تجب نفقتها مع أنّها زوجة.
2 ـ الزوجة الصغيرة زوجة ولا تجب نفقتها.
3 ـ الزوجة القاتلة لا ترث الزوج مع أنّها زوجة.
4 ـ الزوجة الكافرة لا ترث زوجها المسلم مع أنّها زوجة ، وكذا الزوجة المسلمة زوجة ولا ترث زوجها الكافر عند أهل السنّة.
5 ـ الزوجة المجنونة وغيرها من ذوي العاهات (2) تبين بلا طلاق.
إلى غير ذلك من الموارد التي يبين فيها الزوجان بلا طلاق ممّا ذكره الفقهاء في مجوّزات الفسخ.
6 ـ الزوجة التي باهلها الزوج تبين بلا طلاق.
---------------------------
(1) مقدمة كتاب ( الاَصل في الاَشياء ... ) ص 26.
(2) قال الخرقي في متن المغني : ( وأي الزوجين وجد بصاحبه جنوناً أو جذاماً أو برصاً أو كانت المرأة رتقاء أو قرناء أو عفلاء أو فتقاء أوالرجل مجنوناً فلمن وجد ذلك منهما يصاحبه الخيار في فسخ النكاح ) المغني : 7| 109 تصحيح محمد خليل ، ولاحظ الخلاف للطوسي : 2|396 فصل في العيوب المجوّزة للفسخ المسألة 124.
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 160 _
و كان على الا َُستاذ أن يدرس مقوّمات الموضوع ويميّزها عن آثاره ، وعلى ذلك فالمتمتّع بها داخلة في قوله : ( إلاّ على أزواجهم ) بلا إشكال.
ثمّ نقل استدلالاً آخر للقائلين بالمنع ، وهو قوله تعالى : ( وَلْيَستَعفِفِ الذينَ لا يجِدُونَ نِكَاحاً حتّى يُغْنِيَهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِه ) (النور| 33) قائلين بأنّ المتعة لو كانت جائزة لما أمر اللّه تعالى بالاستعفاف ، لاَنّ أعباء الاستمتاع وتكاليفه سهلة ميسورة ، فلا حاجة إذن إلى الاَمر بالاستعفاف (1)
يلاحظ عليه : أنّ الكاتب خلط بين النساء المتعفّفات ، والمبتذلات في النوادي والفنادق وبيوت الدعارة ، وقد عرفت أنّ كثيراً من النساء لعلوّ طبعهنّ لا يخضعن للمتعة وإن كانت حلالاً ، إذ ليس كل حلالٍ مرغوباً عند الكل ، ولاَجل ذلك تصل النوبة إلى الاستعفاف ولا يجد الشاب نكاحاً موَقتاً ولا دائماً.
والعجب أنّه استدلّ على التحريم بالسنّة بروايتين ، وأغفل عمّـا تدلّ على الاباحة من السنّة (ما هكذا تورد يا سعد الاِبل) وقد سمعت أُذن العالم أنّ السلطة أيام خلافة عمر بن الخطاب حالت بين الا َُمة وحلالها ، ولولاه لما كان للمنع صخب وهياج.
ولاَجل ذلك أخرج ابن أبي شيبة النافع : أنّ ابن عمر سئل عن المتعة فقال : حرام ، فقيل له : إنّ ابن عباس يفتي بها ، قال : فهلاّ تزمزم بها في زمان عمر .
نعم ، لو تزمزم بها في أيامه لعلتـه الدرّة التي كانت أهيب من سيف الحجاج.
وأخيراً نذكر كلام السدّي أحد التابعين ، قال في تعريفه نكاح المتعة : الرجل
---------------------------
(1) المقدّمة : 28.
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 161 _
ينكح المرأة بشرطٍ إلى أجلٍ مسمّى ويشهد شاهدان ، وينكح باذن وليّها ، وإذا انقضت المدّة فليس له عليها سبيل ، وهي منه بريئة وعليها أن تستبرىَ ما في رحمها ، وليس بينهما ميراث (1)
8 ـ هل المتعة من أقسام السفاح ؟
إنّ في كلام الكاتب ايماء إلى أنّ المتعة من أقسام الزنا ، يقول : ( ولطالما نهى القرآن عن السفاح ، وحرّمه تحريماً قاطعاً وحاسماً بالنسبة إلى الرجال والنساء على السواء ، ودعا إلى النكاح المشروع الدائم ورغّب فيه ... ) (2)
يلاحظ عليه : أنّ المسلمين عامّة أصفقوا على أنّ الاِسلام أحلَّ المتعة ، أياماً قلائل في فتح مكة ـ على قول الكاتب ـ أو قبله في خيبر وغيره على قول الاَخيرين ، ومعنى كون المتعة داخلة تحت السفاح ، أنّ الوحي السماوي أمر به في أيام أو شهور أو سنوات ، والسفاح من أقسام الفحشاء واللّه سبحانه لا يأمر به وإن بلغ الاَمر ما بلغ ( قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأمُرُ بِالفَحشَـاءِ أَتَقُولُونَ على اللّهِ مَا لا تَعْلَمُون ) (الاَعراف | 28).
والمسلم الموَمن بكتاب اللّه وسنّة رسوله ، لا يخطر بباله أنّ التشريع ، الاِسلامي جوّز الزنا للمسلمين فترة من الزمن ، وأمر بالقبيح ، مكان الاَمر بالحسن ولا محيص إلاّ بتفكيك المتعة عن السفاح ، موضوعاً وحدّاً وخصوصيّة ، وقد عرفت تعريف السدّي لها.
وأظنّ ـ وظن الاَلمعي يقين ـ أنّ العناية بحفظ كرامة الخليفة وتبرئته من
تحريم ما أحلّ اللّه سبحانه ، جرّ القوم إلى هذه التسويلات ، مع أنّ المتتبّع لسيرة الخلفاء يقف على أنّها ليست أوّل قارورة كسرت في الاِسلام ، وليست أوّل مرّة ، صارت السنّة بدعة ، ولعبت يد الهوى في التشريع فغيّرت الكلم عن مواضعها ، وسيوافيك أنّ الخليفة حكم على الطلاق ثلاثاً ـ في مجلس واحد ـ بلا تخلّل العدّة والرجوع ، بأنّها تحسب تطليقات ثلاث ، مع أنّها على خلاف نص الكتاب والسنّة ، وقد وقف عليه الخليفة بعد أن بلغ السيل الزبى.
زلّة لا تستقال : إنّ الدكتور الدريني يصرّ على أنّ المتعة أُبيحت يوم فتح مكة ثلاثة أيام فقط (أي أباح نبي العظمة والعصمة الفروج ثلاثة أيام لجنوده يوم فتح مكة سفاحاً) ولمّا رأى أنّ هناك أحاديث تدلّ على أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى يوم خيبر وهي تدل التزاماً على وجود اباحة لها قبل هذا اليوم وكانت غزوة خيبر في العام السابع من الهجرة وفتح مكة في الثامن منها ، حاول أن يجمع بينها بوجه يمس كرامة الصحابة العدول ، وقال : ( إنّ نهي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عن المتعة يوم خيبر ، لا يدلّ على أنّه أذن لاَصحابه بها أوّلاً ثم نهاهم عنها ، فَلِمَ لا يكون من بعضهم استمرار العادات الجاهلية وكانوا حديثي عهد بها ، فيكون النهي عنها كغيرها من العادات الجاهلية التي حرّمها الاِسلام دون أن تكون مسبوقة باذن أو ترخيص (1).
يلاحظ عليه : أنّ بين المستمتعين ، عبد اللّه بن مسعود ، وجابر بن عبد اللّه الاَنصاري ، ولا يمكن رميهما بالجهل بحكم اللّه ، ومعنى ما ذكره الكاتب أنّهم كانوا
---------------------------
(1) المقدّمة : 23.
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 163 _
يقترفون الزنا ، مدة طويلة إلى أن وصل إليهم نهي النبي في خيبر وهذا ممّا لا يلتزم به أحد في أمثال ذينك الصحابيين الجليلين ، قال ابن مسعود : كنّا نغزوا مع رسول اللّه وليس معنا نساوَنا فقلنا : ألا نستخصي ؟ فنهانا عن ذلك ورخّص لنا أن نتزوّج المرأة بالثوب إلى أجل ثم قرأ عبد اللّه ( يا أيّها الذينَ آمنوا لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ اللّهُ لكم ) (1)
وفي ذيل كلامه ايماء إلى التحريم البدعي الذي قامت به السلطة ، وليست استباحة فروج النساء أمراً نادراً يعذر فيه المقترف ، خصوصاً إذا كان نظير عبد اللّه ابن مسعود وجابر بن عبد اللّه ، وكان الاَوّل كثير الولوج على النبي وقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : ( إذنك عليَّ أن ترفع الحجاب ) أسلم بمكة قديماً ، وتوفّي عام 32 هـ (2) وهل يصحّ أن يجهل مثله حكم اللّه وينجرف في سنن الجاهلية.
ولو رمى شيعي أحد الصحابة بهذا الاَمر لثارت ثورة القائلين بعدالة كل صحابي ولكن ...
هذا بعض الكلام حول هذه السنّة التي اتخذت لنفسها في هذه الاَيام عند إخواننا أهل السنّة لون البدعة ، وكثير منهم غير واقفين على منطق القائلين بالجواز ، ولو أنّهم رجعوا إلى الكتاب والسنّة من غير رأي مسبّق لعادوا إلى الحقّ.
وأقصى ما يمكن أن يقال تبريراً لعمل الخليفة هو أنّ النهي كان نهياً حكومياً لا إلهياً ، ومثله يتبع المصالح والمفاسد ، فلو فقد الملاك ارتفع النهي.
---------------------------
(1) البيهقي : السنن : 7|206 ، ومسلم : الصحيح الجزء 4 باب في المتعة بالحج الحديث 1.
(2) الاِمام أحمد : المسند : 4|436.
(3) الطبري : التفسير : 5|9.