الفهرس العام

المسألة العاشرة : الطلاق في الحيض والنفاس


الاستدلال بالكتاب
الاستدلال بالسنّة
معالجة الصور المتعارضة
المسألة الحادية عشرة : الوصية للوارث إذا لم تتجاوز الثلث
1 ـ آية الوصية منسوخة بآية المواريث
2 ـ آية الوصية منسوخة بالسنّة

  اتّفقت كلمتهم على أنّه يجب أن تكون المطلّقة في حال الطلاق طاهرة عن الحيض والنفاس بلا خلاف ، ولكن اختلفوا في أنّ الطهارة هل هي شرط الصحّة والاِجزاء ، أو شرط الكمال والتمام ، وبعبارة أُخرى هل هي حكم تكليفي متوجّه إلى المطلّق ، وهو أنّه يجب أن يحلَّ العقدة في حال كونها طاهرة من الحيض والنفاس ، فلو تخلّف أثم وصحَّ الطلاق ، أو هو حكم وضعي قيد لصحّة الطلاق ، ولولاه كان الطلاق باطلاً ؟ فالاِمامية وقليل من سائر المذاهب الفقهية على الثاني وأكثر المذاهب على الاَوّل وإليك بعض كلماتهم : قال الشيخ الطوسي في الخلاف : الطلاق المحرّم ، هو أن يطلّق مدخولاً بها غير غائب عنها غيبة مخصوصة ، في حال الحيض أو في طهر جامعها فيه ، فما هذا حكمه فانّه لا يقع عندنا ، والعقد ثابت بحاله ، وبه قال ابن عليَّة ، وقال جميع الفقهاء : انّه يقع وإن كان محظوراً.
  ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه ومالك والاوزاعي والثوري والشافعي ـ دليلنا ـ اجماع الفرقة ، وأيضاً الاَصل بقاء العقد ، ووقوع الطلاق يحتاج إلى دليل شرعي ،

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 226 _

  وأيضاً قوله تعالى : ( فطلِّقوهنَّ لعدَّتهنّ ) وقد روي لقبل عدّتهنّ ، ولا خلاف انّه أراد ذلك ، وإن لم تصحّ القراءة به ، فإذا ثبت ذلك دل على أنّ الطلاق إذا كان ما غير الطهر محرّماً منهياً عنه ، والنهي يدل على فساد المنهى عنه (1)
  وستوافيك دلالة الآية على اشتراط الطهارة من الحيض والنفاس.
  وقال ابن رشد في حكم من طلّق في وقت الحيض : فانّ الناس اختلفوا من ذلك في مواضع منها أنّ الجمهور قالوا : يُمضى طلاقه ، وقالت فرقة : لا ينفذ ولا يقع ، والذين قالوا : ينفذ ، قالوا : يوَمر بالرجعة ، وهوَلاء افترقوا فرقتين ، فقوم رأوا أنّ ذلك واجب ، وأنّه يجبر على ذلك ، وبه قال مالك ، وأصحابه ، وقالت فرقة : بل يندب إلى ذلك ولا يجبر ، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأحمد (2)
  وقد فصل الجزيري وبيّن آراء الفقهاء في كتابه (3)
  هذه هي الاَقوال ، غير أنّ البحث الحرّ يقتضي نبذ التقليد والنهج على الطريقة المألوفة بين السلف حيث كانوا يصدعون بالحق ولا يخافون لومة المخالف ، وكانوا لا يخشون إلاّ اللّه ، فلو وجدنا في الكتاب والسنّة ما يرفض آراءهم فهما أولى بالاتباع.

---------------------------
(1) الشيخ الطوسي : الخلاف : 2 ، كتاب الطلاق المسألة 2.
وما ذكره من تقدير (قبل) إنّما يتم على القول بكون العبرة في العدَّة بالحيض فيكون قبلهما بين طهرها من الحيض والنفاس فتتم الدلالة.
(2) ابن رشد : بداية المجتهد : 2|65 ـ 66.
(3) الجزيري : الفقه على المذاهب الاَربعة : 4|297 ـ 302.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 227 _

الاستدلال بالكتاب

  قال اللّه تعالى : ( يا أيُّها النَّبيُّ إذا طَلَّقتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنّ لِعدَّتِهنَّ وأحْصوا العِدَّةَ واتَّقوا اللّهَ رَبَّكُم ) (1)
  توضيح دلالة الآية يتوقّف على تبيين معنى العدَّة في الآية ، فهل المراد منها ، الاَطهار الثلاثة أو الحيضات الثلاث ؟ وهذا الخلاف يتفرّع على خلاف آخر هو تفسير (قروء) بالاَطهار أو الحيضات.
  توضيحه : أنّ الفقهاء اختلفوا في معنى قوله سبحانه : (والمُطلَّقاتُ يَتَربَّصنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثلثةَ قُروء) (2) فذهبت الشيعة الاِمامية إلى أنّ المراد من القروء هو الاَطهار الثلاثة ، وقد تبعوا في ذلك ما روي عن علي (عليه السلام) : روى زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : فقلت : أصلحك اللّه أكان عليّ يقول : إنّ الاَقراء التي سمّى اللّه في القرآن إنّما هي الطهر فيما بين الحيضتين وليست بالحيض ؟ قال : نعم ، كان يقول : إنّما القرء الطهر ، تقرأ فيها الدم فتجمعه فإذا جاء الحيض ، قذفته (3)
  وذهب أصحاب سائر المذاهب إلاّ قليل كربيعة الرأي إلى أنّ المراد منها هي الحيضات ، ولسنا في مقام تحقيق ذلك إنّما الكلام في بيان دلالة الآية ـ على كلا المذهبين ـ على اشتراط الطهارة في حال الطلاق ، بعد الوقوف على أنّ من جوّز الطلاق في الحيض قال بعدم احتساب تلك الحيضة من (القروء) فنقول :

---------------------------
(1) الطلاق : الآية 2.
(2) النساء : الآية 228.
(3)الحر العاملي : الوسائل : 15 ، الباب 15 من أبواب العدد ، الحديث 4.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 228 _

  أمّا إذا قلنا بأنّ المراد من العِدّة في قوله سبحانه : (لعدّتهنّ) هي الاَطهار الثلاثة ، فاللام متعيّنة ظاهرة في الغاية والتعليل ، والمعنى : فطلّقوهنّ لغاية أن يعتددن ، والاَصل هو ترتّب الغاية على ذيها بلا فصل ولا تريّث (ما لم يدل دليل على الخلاف) ، مثل قوله سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّـنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) (1)
  وقوله تعالى : ( وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَـبَ إِلاّ لِتُبَيِّـنَ لَـهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ ) (2) ، واحتمال كون اللام للعاقبة التي ربّما يكون هناك فيها فصل بين الغاية وذيها ، مثل قوله سبحانه : ( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَـهُمْ عَدُوَّاً وَحزَناً ) (3) غير صحيح ، لاَنّ موردها فيما إذا كانت النتيجة مرتبة على ذيها ترتّباً قهرياً غير إرادي كما في الآية ، ومثل قولهم : لدوا للموت وابنوا للخراب.
  وأمّا إذا قلنا بأنّ العدّة في الآية هي الحيضات الثلاث ، فبما أنّ الحيضة التي تُطلّق فيها لا تحسب من العدّة باتفاق القائلين بجواز الطلاق في الحيض ، يكون الاَمر به فيها لغواً ، والتعجيل بلا غاية ، فلا محيص لم يجد المفسرون حلاّ ً إلاّ بتقدير جملة مثل ( مستقبلاتٍ لعدّتهنّ ) نظير قولهم : لقيته لثلاث بقين من الشهر ، يريد مستقبلاً لثلاث ، وعندئذ يدل على وقوع الطلاق في حالة الطهر ، وذلك لاَنّها إذا كانت العدّة هي الحيضة فيكون قُبيلها ضِدَّها ، وهي الطهارة.
  ونخرج بهذه النتيجة أنّ الآية ظاهرة في شرطية الطهارة من الحيض في صحة الطلاق.
  ثمّ إنّ بعض الباحثين ذكر الحكمة في المنع من الطلاق في الحيض : أنّ ذلك يطيل على المرأة العدة ، فانّها إن كانت حائضاً لم تحتسب الحيضة من عدّتها ، فتنتظر حتى تطهر من حيضها وتتم مدّة طهرها ثمّ تبدأ العدة من الحيضة التالية (4)

---------------------------
(1) النحل : الآية 44.
(2) النحل : الآية 64.
(3) القصص : الآية 8.
(4) أحمد محمد شاكر : نظام الطلاق في الاِسلام : 27.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 229 _

  هذا على مذاهب أهل السنّة من تفسير (القروء) وبالتالي العدّة بالحيضات ، وأمّا على مذهب الاِمامية من تفسيرها بالاَطهار ، فيجب أن يقال : ... فإنّها إن كانت حائضاً لم تحتسب الحيضة من عدتها فتنتظر حتى تطهر من حيضها وتبدأ العدّة من يوم طهرت.
  وعلى كل تقدير ، فبما أنّهم اتّفقوا على أنّ الحيضة التي وقع الطلاق فيها لا تحسب من العدّة إمّا لاشتراط الطهارة أو لعدم الاعتداد بتلك الحيضة ، تطيل على المرأة العدّة سواء كان مبدوَها هو الطهر أو الحيضة التالية.

الاستدلال بالسنّة

  إنّ الروايات تضافرت عن أئمّة أهل البيت على اشتراط الطهارة ، روى الكليني بسند صحيح عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال : كلّ طلاق لغير العدّة (السنّة) فليس بطلاق : أن يطلّقها وهي حائض أو في دم نفاسها أو بعد ما يغشاها قبل أن تحيض فليس طلاقها بطلاق (1)
  هذا ما لدى الشيعة وأمّا ما لدى السنّة فالمهم لديهم في تصحيح طلاق الحائض هو رواية عبد اللّه بن عمر ، حيث طلّق زوجته وهي حائض ، وقد نقلت بصور مختلفة نأتي بها (2)
  الاَُولى : ما دلّ على عدم الاعتداد بتلك التطليقة وإليك البيان :
  1 ـ سئل أبو الزبير عن رجل طلّق امرأته حائضاً ؟ قال : طلّق عبد اللّه بن عمر امرأته وهي حائض على عهد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم )

---------------------------
(1) الحر العاملي : الوسائل : 15 ، الباب 8 من أبواب مقدمات الطلاق ، الحديث 9 ، وغيره.
(2) راجع في الوقوف على تلك الصور ، السنن الكبري للبيهقي : 7| 324ـ 325.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 230 _

  فسأل عمر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال : إنّ عبد اللّه بن عمر طلّق امرأته وهي حائض ؟ فقال النبي : ليراجعها ، فردّها عليّ وقال : إذا طهرت فليطلّق أو ليمسك ، قال ابن عمر : وقرأ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) : ( يا أيُّها النَّبيُّ إذا طَلَّقتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنّ لِعدَّتِهنّ ) أي في قبل عدّتهنّ.
  2 ـ روى أبو الزبير قـال : سألت جابـراً عن الرجـل يطلّق امرأتـه وهي حائض ؟ فقال : طلّق عبد اللّه بن عمر امرأته وهي حائض ، فأتى عمر رسول اللّه فأخبره بذلك فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : ليراجعها فانّها امرأته.
  3 ـ روى نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر أنّه قال في الرجل يطلّق امرأته وهي حائض ، قال ابن عمر : لا يعتد بها.
  الثانية : ما يتضمّن التصريح باحتساب تلك التطليقة طلاقاً صحيحاً وإن لزمت إعادة الطلاق وإليك ما نقل بهذا المضمون :
  1 ـ يونس بن جبير قال : سألت ابن عمر قلت : رجل طلّق امرأته وهي حائض ؟ فقال : تعرف عبد اللّه بن عمر ؟ قلت : نعم ، قال : فانّ عبد اللّه بن عمر طلّق امرأته وهي حائض ، فأتى عمر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فسأله ، فأمره أن يراجعها ثمّ يطلّقها من قبل عدّتها. قال ، قلت : فيعتدّ بها ؟ قال : نعم ، قال : أرأيت إن عجز واستحمق.
  2 ـ يونس بن جبير قال : سألت ابن عمر قلت : رجل طلّق امرأته ، وهي حائض ؟ قال : تعرف ابن عمر ؟ إنّه طلّق امرأته وهي حائض ، فسأل عمر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فأمره أن يراجعها ، قلت : فيعتد بتلك التطليقة ؟ قال : فمه ؟ أرأيت إن عجز واستحمق.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 231 _

  3 ـ يونس بن جبير قال : سمعـت ابن عمر قـال : طلّقـت امرأتي وهي حائض. فأتى عمر بن الخطاب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فذكر ذلك له ، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : ليراجعها ، فإذا طهرت فليطلّقها ، قال : فقلت لابن عمر : فاحتسبت بها ؟ قال : فما يمنعه ؟ أرأيت إن عجز واستحمق.
  4 ـ أنس بن سيرين قـال : سمعـت ابن عمر يقول : طلَّقت امرأتي وهي حائض ، قال : فذكر ذلك عمر للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال ، فقال : ليراجعها فإذا طهرت فليطلقها ، قال : فقلت له ـ يعني لابن عمر ـ : يحتسب بها ؟ قال : فمه ؟
  5 ـ أنس بن سيرين : ذكر نحوه غير أنّه قال : فليطلّقها إن شاء ، قال : قال عمر : يا رسول اللّه أفتحتسب بتلك التطليقة ؟ قال : نعم.
  6 ـ أنس بن سيرين قال : سألت ابن عمر عن امرأته التي طلّق ؟ فقال : طلّقتها وهي حائض ، فذكر ذلك لعمر فذكره للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال : مره فليراجعها فإذا طهرت فليطلّقها لطهرها ، قال : فراجعتها ثمّ طلّقتها لطهرها ، قلت : واعتدّت بتلك التطليقة التي طلّقت وهي حائض ؟ قال : مالي لا أعتدّ بها ، وإن كنت عجزت واستحمقت.
  7 ـ عامر قال : طلّق ابن عمر امرأته وهي حائض واحدة ، فانطلق عمر إلى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبره ، فأمره إذا طهرت أن يراجعها ثمّ يستقبل الطلاق في عدّتها ثمّ تحتسب بالتطليقة التي طلّق أوّل مرّة.
  8 ـ نافع عن ابن عمر أنّه طلّق امرأته ، وهي حائض ، فأتى عمر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فذكر ذلك له فجعلها واحدة.
  9 ـ سعيد بن جبير عن ابن عمر قال : حُسِبَتْ عليَّ بتطليقة.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 232 _

  الثالثة : ما ليس فيه تصريح بأحد الاَمرين :
  1 ـ ابن طاووس عن أبيه : أنّه سمع ابن عمر سئل عن رجل طلق امرأته حائضاً ؟ فقال : أتعرف عبد اللّه بن عمر ؟ قال : نعم ، قال : فإنّه طلّق امرأته حائضاً ، فذهب عمر إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبره الخبر ، فأمره أن يراجعها ، قال : لم أسمعه يزيد على ذلك لاَبيه.
  2 ـ منصور بن أبي وائل : إنّ ابن عمر طلّق امرأته ، وهي حائـض ، فأمره النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يراجعها حتى تطهر ، فإذا طهرت طلّقها.
  3 ـ ميمون بن مهران عن ابن عمر أنّه طلّق امرأتـه في حيضها ، قـال : فأمره رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يرتجعها حتى تطهر فإذا طهرت فإن شاء طلّق وإن شاء أمسك قبل أن يجامع.
  وهناك رواية واحدة تتميّز بمضمون خاص بها ، وهي رواية نافع قال : إنّ عبد اللّه بن عمر طلّق امرأته وهي حائض ، على عهد رسول اللّه ، فسأل عمر بن الخطاب رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك ؟ فقال رسول اللّه : فليراجعها ، فليمسك حتى تطهر ثم تحيض ثمّ تطهر ، إن شاء أمسكها بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس ، فتلك العدّة التي أمر اللّه أن يطلّق لها النساء.
  وبعد تصنيف هذه الروايات نبحث عن الفئة الراجحة منها بعد معرفة طبيعة الاشكالات التي تواجه كلاً منها ومعالجتها.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 233 _

معالجة الصور المتعارضة

  لا شك أنّ الروايات كانت تدور حول قصة واحدة ، لكن بصور مختلفة ، فالحجة بينها مردّدة بين تلك الصور والترجيح مع الا َُولى لموافقتها الكتاب وهي الحجّة القطعية ، وما خالف الكتاب لا يحتج به ، فالعمل على الا َُولى.
  وأمّا الصورة الثالثة ، فيمكن ارجاعها إلى الا َُولى لعدم ظهورها في الاعتداد والصحّة ، نعم ورد فيه الرجوع الذي ربّما يتوهّم منه ، الرجوع بعد الطلاق الملازم لصحّته ، لكن ليس بشيء.
  فانّ المراد من المراجعة فيها هو المعنى اللغوي لا مراجعة المطلّقة الرجعية ، ويوَيّد ذلك أنّ القرآن يستعمل كلمة الرد أو الامساك ، فيقول : (وبعُولتهنَّ أحقُّ بِردِّهنَّ) (1)
  وقال سبحانه : (الطلاقُ مرَّتانِ فإمساكٌ بِمَعروف) (2) وقال سبحانه : (فأمسكوهنَّ بِمعرُوفٍ) (3)وقال تعالى : (ولاتمسكُوهنَّ ضِراراً لِتعتَدوا) (4)
  نعم استعمل كلمة الرجعة في المطلقة ثلاثاً إذا تزوّجت رجلاً آخر فطلّقها ، قال سبحانه : (فإنْ طَلَّقَها فَلا تَحلُّ لَهُ مِنْ بَعدُ حَتى تَنكحَ زَوجاً غيرَه فَإنْ طَلَّقها فَلا جُناحَ عَلَيهِما أنْ يَتَراجَعا) (5)

---------------------------
(1) البقرة : الآية 228.
(2) البقرة : الآية 229.
(3) البقرة : الآية 231.
(4) البقرة : الآية 231.
(5) البقرة : الآية 230.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 234 _

  بقي الكلام في النصوص الدالة على الاحتساب أعني الصورة الثانية ، فيلاحظ عليها بأُمور :
  1 ـ مخالفتها للكتاب ، وما دلّ على عدم الاحتساب .
  2 ـ أنّ غالب روايات الاحتساب لا تنسبه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنّما إلى رأي ابن عمر وقناعته ، فلو كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أمر باحتسابها ، لكان المفروض أن يستند ابن عمر إلى ذلك في جواب السائل ، فعدم استناده إلى حكم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دليل على عدم صدور ما يدل على الاحتساب من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه ، فتكون هذه النصوص موافقة للنصوص التي لم تتعرّض للاحتساب ، لاَنّها كلّها تتّفق في عدم حكم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) باحتساب التطليقة ، غايته اشتمل بعضها على نسبة الاحتساب إلى ابن عمر نفسه ، وهو ليس حجّة لاثبات الحكم الشرعي.
  نعم روايتا نافع رويتا بصيغتين ، نسب الحكم بالاحتساب في احدى الصيغتين إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه (الرواية 8 من القسم الثاني) ، بينما رويت الثانية بصيغة أُخرى تضمّنت النسبة إلى ابن عمر بعدم الاحتساب (الرواية 3 من القسم الاَوّل).
  وأمّا رواية أنس فرويت بصيغتين تدلاّن أنّ الحكم بالاحتساب هو قناعة ابن عمر نفسه لا قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (الرواية 4 و 6 من القسم الثاني) وبصيغة ثالثة نسبت الاحتساب إلى النبيّ (الرواية 5 من القسم الثاني) ومع هذا الاضطراب لا تصلح الرواية لاثبات نسبة الحكم بالاحتساب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه.
  3 ـ أنّ فرض صحّة التطليقة المذكورة لا يجتمع مع أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بارجاعها وتطليقها في الطهر هذه ، لاَنّ القائلين بصحّة الطلاق في

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 235 _

  الحيض لا يصحّحون اجراء الطلاق الثاني في الطهر الذي بعده ، بل يشترطون بتوسّط الحيض بين الطهرين واجراء الطلاق في الطهر الثاني ، فالاَمر من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بارجاعها وتطليقها في الطهر الثاني ينافي احتساب تلك تطليقة صحيحة.
  4 ـ اشتهر في كتب التاريخ أنّ عمر كان يعيّر ولده بالعجز عن الطلاق ، وظاهره يوحي بأنّ ما فعله لم يكن طلاقاً شرعاً.
  وبعد ملاحظة كل ما قدّمناه يتّضح عدم ثبوت نسبة الاحتساب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والذي يبـدو أنّ النـص ـ على فرض صـدوره ـ لم يتضمّن احتســـاب التطليقة من قبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وانّما هي اضافات أو توهّمات بسبب قناعة ابن عمر أو بعض من هم في سلسلة الحديث ، ولذلك اضطربت الصيغ في نقل الحادثة.
  وأمّا رواية نافع المذكورة فيلاحظ عليها أنّها لا تدلّ على صحّة التطليقة الا َُولى إلاّ بادّعاء ظهور (الرجوع) في صحّة الطلاق وقد علمت ما فيه ، وأمّا أمره بالطلاق في الطهر الثاني بعد توسّط الحيض بين الطهرين حيث قال : (مره فليراجعها ، فليمسك حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ، إن شاء أمسكها وإن شاء طلّق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمره أن يطلّق لها النساء) فلعلّ أمره بمضي طهرٍ وحيض ، لاَجل موَاخذة الرجل حيث تسرّع في الطلاق وجعله في غير موضعه فأُرغم عليه أن يصبر طهراً وحيضاً ، فإذا استقبل طهراً ثانياً فليطلّق أو يمسك.
  وبعد كل هذا يمكننا ترجيح الحكم ببطلان الطلاق في الحيض ، لاضطراب النقل عن ابن عمر، خصوصاً مع ملاحظة الكتاب العزيز الدال على وقوع الطلاق في العدة .

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 237 _

المسألة الحادية عشرة : الوصية للوارث إذا لم تتجاوز الثلث

  اتّفقت المذاهب الخمسة على أنّ الوصية التبرّعيّة تنفذ في مقدار الثلث فقط ، مع وجود الوارث سواء صدرت في المرض أم في الصحّة ، وما زاد عن الثلث يفتقر إلى اجازة الورثة. وإن كان الاَفضل في بعض المذاهب أن لا يستوعب الثلث بالوصية (1)
  وأمّا في مقدار الثلث فتنفّذ وصيته عند الاِمامية في الاَقرب والاَجنبي ، ومن غير فرق في الاَقرب ، بين الوارث وغيره ، وأمّا المذاهب الاَربعة فأجازت الوصية للاَقرب بشرط أن لا يكون وارثاً ، وأمّا الوارث فلا تجوز الوصية له سواء كان بمقدار الثلث أم أقل أم أكثر ، إلاّ بإجازة الورثة.
  قال السيد المرتضى : وممّا ظنّ انفراد الاِمامية به ، ما ذهبوا إليه من أنّ الوصية للوارث جائزة ، وليس للوارث (غير الموصى له) ردّها ، وقد وافقهم في هذا المذهب بعض الفقهاء (2) وإن كان الجمهور والغالب ، على خلافه (3)

---------------------------
(1) ابن قدامة : المغني : 6|78.
(2) سيوافيك التصريح به من صاحب المنار أيضاً.
(3) السيد المرتضى : الانتصار : 308.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 238 _

  وقال الشيخ الطوسي : تصحّ الوصية للوارث مثل الابن والاَبوين ، وخالف جميع الفقهاء في ذلك وقالوا : لا وصية للوارث (1)
  وقال الخرقي في متن المغني : (ولا وصية لوارث إلاّ أن يجيز الورثة ذلك) وقال ابن قدامة في شرحه : إنّ الاِنسان إذا أوصى لوارثه بوصية فلم يجزها سائر الورثة ، لم تصح ، بغير خلاف بين العلماء. قال ابن المنذر وابن عبد البرّ : أجمع أهل العلم على هذا ، وجاءت الاَخبار عن رسول اللّهبذلك فروى أبو أُمامة قال : سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : (إنّ اللّه قد أعطى كل ذي حقّ حقّه فلا وصية لوارث) رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي ، ولاَنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منع من عطية بعض ولده وتفضيل بعضهم على بعض في حال الصحّة وقوّة الملك وامكان تلافي العدل بينهم باعطاء الذي لم يعطه فيما بعد ذلك ، لما فيه من ايقاع العداوة والحسد بينهم ، ففي حال موته أو مرضه وضعف ملكه وتعلّق الحقوق به وتعذّر تلافي العدل بينهم أولى وأحرى ، وإن أجازها جازت في قول الجمهور من العلماء (2)
  ومع أنّ الكتب الفقهية للمذاهب الاَربعة تنفي جواز الوصية للوارث ، إلاّ إذا أجاز الورثة ، حتى أنّ بعضهم يقول بأنّ الوصية باطلة وإن أجازها سائر الورثة إلاّ أن يعطوه عطية مبتدأة (3) ومع هذا التصريح ـ ينقل الشيخ محمد جواد مغنية : كان عمل المحاكم في مصر على المذاهب الاَربعة ، ثمّ عدلت عنها إلى مذهب الاِمامية ، وما زال عمل المحاكم الشرعية السنّية في لبنان على عدم صحّة الوصية للوارث ،

---------------------------
(1) الطوسي : الخلاف : 2 كتاب الوصية 1.
(2) المغني : 6|79 ـ 80.
(3) المصدر نفسه.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 239 _

  ومنذ سنوات قدّم قضاتها مشروعاً إلى الحكومة يجيز الوصية للوارث ورغبوا إليها في تبنّيه (1).
  يلاحظ على ما ذكره ابن قدامة من الحكمة : أنّها لا تقاوم الذكر الحكيم ، واتّفاق أئمّة أهل البيت ، ولو صحّت لزم تحريم تفضيل بعضهم على بعض في الحياة في البر والاحسان ، لاَنّ ذلك يدعو إلى الحسد والبغضاء مع أنّه لا خلاف في جوازه ، وما نقل عن النبي من النهي ، فهو محمول على التنزيه لا التحريم إذ لم يقل أحد بحرمة التفضيل في الحياة ، والعجب استدلال من ينكر التحسين والتقبيح العقليين ، بهذه الحكم والمصالح التي لا يدركها إلاّ العقل ، مع أنّه بمعزلٍ عندهم عن إدراكهما عند أصحاب المذاهب الاَربعة ، وسيوافيك الكلام فيما تصور من الحكمة.
  والاَولى عرض المسألة على الكتاب والسنّة ، أمّا الكتاب فيكفي في جواز الوصية قوله سبحانه : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذا حَضَـرَ أحَدَكُمُ المَوتُ إنْ تَرَكَ خيراً الوَصِيَّةُ لِلوالِدَينِ والاَقْرَبِينَ بِالمَعروفِ حَقّاً عَلَـى المُتَّقِينَ ) (البقرة | 180).
  المراد من حضور الموت : ظهور أماراته من المرض والهرم وغيره ، ولم يرد إذا عاين ملك الموت ، لاَنّ تلك الحالة تشغل الاِنسان عن الوصيّة ، وأيضاً يجب أن يراعى جانب المعروف في مقدار الوصية والموصى له ، فمن يملك المال الكثير إذا أوصى بدرهم فلم يوص بالمعروف ، كما أنّ الايصاء للغني دون الفقير خارج عن المعروف ، فانّ المعروف هو العدل الذي لا ينكر ، ولا حيف فيه ولا جور.
  والآية صريحة في الوصية للوالدين ، ولا وارث أقرب للاِنسان من والديه ،

---------------------------
(1) الفقه على المذاهب الخمسة : 465.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 240 _

  وقد خصّهما بالذكر لاَولويتهما بالوصية ثم عمّم الموضوع وقال : (والاَقربين) ليعمّ كل قريب ، وارثاً كان أم لا.
  وهذا صريح الكتاب ولا يصح رفع اليد عنه إلاّ بدليل قاطع مثله ، وقد أجاب القائلون بعدم الجواز عن الاستدلال بالآية بوجهين :

1 ـ آية الوصية منسوخة بآية المواريث

  قالوا : إنّها منسوخة بآية المواريث ، فعن ابن عباس والحسن : نسخت الوصية للوالدين بالفرض في سورة النساء (1) وتثبت للاَقربين الذين لا يرثون ، وهو مذهب الشافعي وأكثر المالكيين ، وجماعة من أهل العلم.
  ومنهم من يأبى عن كونها منسوخة ، وقال : بأنّها محكمة ظاهرها العموم ومعناها الخصوص في الوالدين اللَّذين لا يرثان كالكافرين والعبدين ، وفي القرابة غير الورثة (2).
  ومرجع الوجه الاَوّل : إلى النسخ في الوالدين وأنّه لا يوصى لهما وارثين كانا أو ممنوعين ، والتخصيص في الاَقربين فيصح الايصاء لهم إذا لم يكونوا وارثين.
  ومرجع الوجه الثاني : إلى التخصيص في كلا الموردين.
  وقال الجصاص في تفسير الآية : نسختها آية الفرائض.
  1 ـ قال ابن جريج عن مجاهد : كان الميراث للولد والوصية للوالدين والاَقربين. فهي منسوخة (3)

---------------------------
(1) (ولاَبويه لكل واحد منهما السدس ممّا ترك إن كان له ولد ...) النساء : الآية 12.
(2) القرطبي : الجامع لاَحكام القرآن : 2|262ـ 263.
(3) رواه الدارمي في سننه ، مرسلاً عن قتادة : السنن : 2|419.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 241 _

  2 ـ وقالت طائفة أُخرى : قد كانت الوصية واجبة للوالدين والاَقربين فنسخت عمّن يرث ، وجعلت للوالدين والاَقربين الذين لا يرثون (1)
  وعلى الوجه الاَوّل فآية الوصية منسوخة بالمعنى الحقيقي ، وعلى الثاني مخصّصة حيث أخرج الوارث منهما وأبقى غير الوارث ، لكن لازم كون الوصية واجبة وبقاء الاَقربين تحت العموم ، وجوب الوصية لغير الوارث منهما ، وهو كما ترى.
  ترى نظير هذه الكلمات في كتب التفسير والفقه لاَهل السنّة ونحن نعلّق عليها بوجهين :
  الاَوّل : إنّ السابر في كتب القوم يقف على أنّ الذي حملهم على ادّعاء النسخ والتخصيص في الآية هو رواية أبي أُمامة أو عمر بن خارجة وأنّه سمع رسول اللّه يقول في خطبته ـ عام حجة الوداع ـ : ألا أنّ اللّه قد أعطى كل ذي حقّ حقّه فلا وصية لوارث (2) ولولا هذه الرواية لما خطر في بال أحدٍ بأنّ آية المواريث ناسخة لآية الوصية ، إذ لا تنافي بينهما قيد شعرة حتى تكون إحداهما ناسخة أو مخصّصة ، حيث لا منافاة أن يكتب سبحانه على الاِنسان فرضاً أو ندباً أن يوصي للوالدين والاَقربين بشيء ، لا يتجاوز الثلث ، وفي الوقت نفسه يُورِّ ث الوالدين والاَقربين على النظام المعروف في الفقه.
  والذي يوضح ذلك : هو أنّ الميراث ، في طول الوصيّة ، ولا يصح للمتأخّر أن يعارض المتقدّم ، وأنّ الورّاث يرثون بعد إخراج الدين والوصية ، قال سبحانه : (مِنْ

---------------------------
(1) الجصاص : أحكام القرآن : 1|164.
(2) سيوافيك نصّه وسنده.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 242 _

  بعَدِ وصيّةٍ يُوصِى بها أو دَين) (1) وفي موردين آخرين : (من بعد وَصيّة يوصى بها أو دين) (2) فلا موضوع للنسخ ولا للتخصيص.
  وقد تفطّن القرطبي لبعض ما ذكرنا وقال : ولولا هذا الحديث لاَمكن الجمع بين الآيتين بأن يأخذوا المال عن المورِّث بالوصية ، وبالميراث إن لم يوص ، أو ما بقى بعد الوصية ، لكن منع من ذلك هذا الحديث والاجماع (3) أقول : أمّا الاجماع ، فغير متحقّق ، وكيف يكون كذلك مع أنّ أئمة أهل البيت ـ كما سيوافيك ـ اتّفقوا على جوازه وكذلك فقهاء الاِمامية طوال القرون وهم ثلث المسلمين ، وبعض السلف كما يحدّث عنه صاحب المنار ، وأمّا الحديث فسيوافيك ضعفه ، وأنّه على فرض الصحّة سنداً ، قابل للتأويل والحمل على ما زاد الايصاء عن الثلث.
  الثاني : إنّ ادّعاء النسخ أو التخصيص في الآية ، بآية المواريث ، متوقّف على تأخّر الثانية عن الا َُولى وأنّى للقائل بهما اثباته ، بل لسان آية الوصية بما فيها من التأكيد لاَجل الاِتيان بلفظ (كُتِبَ) وتوصيفه بكونه حقّاً على الموَمنين يأبى عن كونه حكماً موَقتاً لا يدوم إلاّ شهراً أو شهور.
  قال الاِمام عبده : إنّه لا دليل على أنّ آية المواريث نزلت بعد آية الوصية هنا فانّ السياق ينافي النسخ ، فانّ اللّه تعالى إذا شرّع للناس حكماً وعلم أنّه موَقت وأنّه سينسخه بعد زمن قريب فانّه لا يوَكّده ولا يوثقه بمثل ما أكّد به أمر الوصية هنا

---------------------------
(1) النساء : الآية 11.
(2) النساء : الآية 12.
(3) القرطبي : الجامع لاَحكام القرآن : 1|263.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 243 _

  من كونه حقّاً على المتّقين ومن وعيدٍ لمن بدّله.
  ثم قال : (وبامكان الجمع بين الآيتين إذا قلنا أنّ الوصيّة في آية المواريث مخصوصة بغير الوارث بأن يخصّ القريب هنا بالممنوع من الارث ولو بسبب اختلاف الدين ، فإذا أسلم الكافر وحضرته الوفاة ووالداه كافران ، فله أن يوصي لهما بما يوَلّف به قلوبهما) (1)
  ولا يخفى ما في صدر كلامه من الاتقان لولا ما تنازل في آخره وحاول الجمع بين الآيتين بتخصيص جواز الوصية لمن لا يرثان من الوالدين لسبب كالقتل والكفر والسرقة ، إذ لقائل أن يسأل الاِمام أنّه إذا كان المراد من الوالدين والاَقربين في آية الوصية هم الممنوعين من الوراثة ، فما معنى هذا التأكيد والعناية البارزة في الآية مع ندرة المصداق أو قلته بالنسبة إلى غير الممنوعين ، أوَ ليس هذا أشبه بالتخصيص المستهجن فلا محيص عن القول بعموم الآية ، لكل والد ووالدة وأقرب ، ممنوعين كانوا أم غيره.
  وأمّا ما يثيرون حول الايصاء للوالدين من كونه سبباً لظهور العداء ، فقد مرّ جوابه في صدر البحث وهنا نزيد ما ذكره ذلك الاِمام بقوله : وجوّز بعض السلف الوصية للوارث نفسه بأن يخصّ بها من يراه أحوج من الورثة كأن يكون بعضهم غنياً والبعض الآخر فقيراً ، مثال ذلك أن يطلّق أبوه أُمّه وهو غنيّ ، ولا عائل لها إلاّ ولدها ، ويرى أنّ ما يصيبها من التركة لا يكفيها ، ومثله أن يكون بعض ولده أو إخوته ـ إن لم يكن له ولد ـ عاجزاً عن الكسب فنحن نرى أنّ الحكيم الخبير اللطيف بعباده ، الذي وضع الشريعة والاَحكام لمصلحة خلقه ، لا

---------------------------
(1) المنار : 2|136 ـ 137.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 244 _

  يحكم أن يساوي الغني الفقير ، والقادر على الكسب من يعجز عنه ، فإذا كان قد وضع أحكام المواريث العادلة على أساس التساوي بين الطبقات باعتبار أنّهم سواسية في الحاجة كما أنّهم سواء في القرابة ، فلا غرو أن يجعل أمر الوصيّة مقدّماً على أمر الارث ... ويجعل الوالدين والاَقربين في آية أُخرى أولى بالوصيّة لهم من غيرهم لعلمه سبحانه وتعالى بما يكون من التفاوت بينهم في الحاجة أحياناً ، فقد قال في آيات الارث في سورة النساء : (مِنْ بعَدِ وَصيَّةٍ يُوصِى بِها أو دَين) فأطلق أمر الوصية وقال في آية الوصية هنا ما هو تفصيل لتلك .
  لقد بان الحق ممّا ذكرنا وانّ الذكر الحكيم أعطى للانسان حقّ الايصاء للوالدين لمصالح هو أعرف بها ، على حدّ لا يتجاوز الثلث ، وليكون ايصاوَه أيضاً على حدّ المعروف.
  ويوَيده اطلاق قوله سبحانه في ذيل آية المواريث قال سبحانه : ( وأُولُوا الاَرحام بَعضُهم أوْلى بِبَعضٍ في كِتابِ اللّهِ منَ الموَمنينَ والمهاجرينَ إلاّ أن تَفعلوا إلى أوليائِكُمْ مَعروفاً كانَ ذلكَ في الكتابِ مَسطُورا ) (الاَحزاب | 7) ويريد من الذيل الاحسان في الحياة والوصية عند الموت فانّه جائز (1) واطلاقه يعم الوارث وغيره.
  واللّه سبحانه هو العالم بمصالح العباد ، فتارة يخصّ بعض الورّاث ببعض التركة عن طريق تنفيذ الوصية ما لم تتجاوز الثلث ، وأُخرى يوصي لغير الوارث

---------------------------
(1) الجامع لاَحكام القرآن : 14|126.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 245 _

  بشيء منها ، يقول سبحانه : (وإذا حَضَـرَ القِسمَةَ أُوْلُوا القُرْبَـى وَاليَتمَى والمَسكينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفا) (النساء | 8).
  والمراد من ذوي القربى الاَخ للميت الشقيق وهو لايرث ، وكذلك العم والخال والعمّة والخالة ويعدّون من ذوي القربى للوارث ، الذي لا يرثون معه وقد يسري إلى نفوسهم الحسد فينبغي التودّد إليهم ، واستمالتهم باعطائهم شيئاً من ذلك الموروث ، بحسب ما يليق بهم ولو بصفة الهبة أو الهدية ... (1)

2 ـ آية الوصية منسوخة بالسنّة

  قد عرفت مدى صحّة نسخ الآية بآية المواريث فهلمّ معي ندرس منسوخية الآية بالسنّة التي رواها أصحاب السنن ولم يروها الشيخان : البخاري ومسلم في صحيحيهما ، وإليك ما نقل سنداً أو متناً.
  روى الترمذي في باب ما جاء لا وصية لوارث :
  1 ـ حدثنا علي بن حجر وهنّاد قالا : حدثنا إسماعيل بن عياش ، حدثنا شرحبيل بن مسلم الخولاني ، عن أبي أُمامة الباهلي قال : سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول في خطبته عام حجة الوداع : إنّ اللّه قد أعطى لكلّ ذي حقّ حقّه فلا وصية لوارث ، الولد للفراش وللعاهر الحجر ...
  2 ـ حدثنا قتيبة ، حدثنا أبو عوانة ، عن قتادة عن شهر بن حوشب ، عن عبد الرحمان بن غنم عن عمرو بن خارجة : أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خطب

---------------------------
(1) المنار : 4|396.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 246 _

  على ناقته وأنا تحت جِرانها وهي تقصع بجرّتها (1) وإنّ لعابها يسيل بين كتفي فسمتعه يقول : إنّ اللّه أعطى كلّ ذي حقّ حقّه ، ولا وصية لوارث والولد للفراش وللعاهر الحجر ... (2)
  وفي الاسناد : من لا يحتجّ به.
  1 ـ إسماعيل بن عياش :
  قال الخطيب : عن يحيى بن معين يقول : أمّا روايته عن أهل الحجاز فإنّ كتابه ضاع ، فخلط في حفظه عنهم.
  وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، عن علي بن المديني : كان يوثق فيما روى عن أصحابه أهل الشام فأمّا ما روى عن غير أهل الشام ففيه ضعف.
  وقال عمر بن علي : كان عبد الرحمان بن المهدي : لا يحدّث عن إسماعيل بن عياش (3).
  وقال ابن منظور : وقال مضر بن محمد الاَسدي ، عن يحيى : إذا حدّث عن الشاميين وذكر الخبر فحديثه مستقيم ، فإذا حدّث عن الحجازيين والعراقيين خلط ما شاء (4).
  وقال الحافظ جمال الدين المزّي : قال عبد اللّه بن أحمد بن حنبل : سئل أبي عن إسماعيل بن عياش فقال : نظرت في كتابه عن يحيى بن سعيد أحاديث

---------------------------
(1) (الجران) : هو من العنق ما بين المذبح إلى المنحر ، و (تقصع بجرّتها) : أراد شدة المضغ وضمّ بعض الاَسنان على بعض ، وقيل : قصعالجرّة : خروجها من الجوف إلى الشدق ، النهاية.
(2) الترمذي : السنن : 4| 433 ، باب ما جاء لا وصية لوارث ، الحديث 2120 ـ 2121.
(3) الخطيب : تاريخ بغداد : 6|226ـ227.
(4) ابن منظور : مختصر تاريخ دمشق : 4|376.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 247 _

  صحاح ، وفي (المصنف) أحاديث مضطربة.
  وقال عثمان بن سعيد الدارمي عن دحيم : إسماعيل بن عياش في الشاميين غاية ، وخلط عن المدنيين.
  وقال أحمد بن أبي الحواري : سمعت وكيعاً يقول : قدم علينا إسماعيل بن عياش فأخذ من أطراف لاسماعيل بن أبي خالد ، فرأيته يخلط في أخذه.
  وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني : ما أشبه حديثه بثياب سابور يُرقّم على الثوب المائة ، وأقل شرائه دون عشرة ، قال : كان من أروى الناس عن الكذابين ، وقال أبو إسحاق الفزاري في حقّه : ذاك رجل لا يدري ما يخرج من رأسه (1)
  ونقل الترمذي بعد ذكر الحديث عن أبي إسحاق الفزاري : ولا تأخذوا عن إسماعيل بن عياش ما حدّث عن الثقات ولا عن غير الثقات.
  2 ـ شرحبيل بن مسلم الخولاني الشامي :
  قال ابن معين : ضعيف واختُتِنَ في ولاية عبد الملك بن مروان (2) ووثّقه الآخرون.
  3 ـ شهر بن حوشب :
  تابعي توفّي حدود عام 100.
  قال النسائي : ليس بالقوي (3)

---------------------------
(1) جمال الدين المزّي : تهذيب الكمال : 3|175 ـ 178.
(2) الترمذي : السنن : 4|433 ، الحديث 220.
(3) النسائي : الضعفاء والمتروكين : 134 برقم 310.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 248 _

  وقال يحيى بن أبي بكر الكرماني عن أبيه : كان شهر بن حوشب على بيت المال فأخذ خريطة فيها دراهم فقال القائل :

لـقد بـاع شـهر ديـنه iiبخريطة      فمن يأمن القرّاء بعدك يا شهرُ (1)

  وقال جمال الدين المزّي : قال شبابة بن سوّار عن شعبة : ولقد لقيت شهراً فلم أعتد به ، وقال عمرو بن علي : كان يحيى لا يُحدِّث عن شهر بن حوشب ، وقال أيضاً : سألت ابن عون عن حديث هلال بن أبي زينب عن شهر ... فقال : ما يُصنع بشهر إنَّ شعبة نزك شهراً ، فقال النضر : نزكوه. أي طعنوا فيه.
  وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني : أحاديثه لا تشبه حديث الناس ، وقال موسى بن هارون : ضعيف .
  وقال علي بن المديني : كان يحيى بن سعيد لا يحدّث عن شهر ، وقال يعقوب بن شيبة : ... على أنّ بعضهم قد طعن فيه (2)
  3 ـ روى أبو داود : حدثنا عبد الوهاب بن نجدة ، ثنا ابن عياش ، عن شرحبيل بن مسلم : سمعت أبا أُمامة : سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : (إنّ اللّه قد أعطى كلّ ذي حقّ حقّه فلا وصية لوارث) (3)
  والاسناد مشتمل على إسماعيل بن عياش وشرحبيل بن مسلم وقد عرفت حالهما ، فلاحظ.
  4 ـ روى النسائي : أخبرنا قتيبة بن سعيد ، قال : حدثنا أبو عوانة عن قتادة عن


---------------------------
(1) ابن حجر : تهذيب التهذيب : 4|286 ، برقم 570.
(2) جمال الدين المزّي : تهذيب الكمال : 12|581.
(3) أبو داود : السنن : 3 | 114 ، باب ما جاء في الوصية للوارث ، برقم 2870.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 249 _

  شهر بن حوشب ، عن عبد الرحمان بن غنم ، عن عمرو بن خارجة قال : خطب رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال : إنّ اللّه قد أعطى كلّ ذي حقّ حقّه ، ولا وصية لوارث.
  5 ـ أخبرنا إسماعيل بن مسعود ، قال : حدّثنا خالد ، قال : حدثنا شعبة ، قال : حدّثنا قتادة عن شهر بن حوشب ، أنّ ابن غنم ذكر أنّ ابن خارجة ذكر له أنّه شهد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يخطب الناس على راحلته ، وإنّها لتقصع بجرّتها وإنّ لعابها ليسيل ، فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبته : إنّ اللّه قد قسّم لكل إنسان قسمة من الميراث ، فلا تجوز لوارث وصية.
  فالاِسنادان اشتملا على شهر بن حوشب ، وقد تعرّفت عليه.
  6 ـ أخبرنا عتبة بن عبد اللّه المروزي قال : أنبأنا عبد اللّه بن المبارك ، قال : أنبأنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن قتادة عن عمرو بن خارجة قال : قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : (إنّ اللّه عزّ اسمه قد أعطى كلّ ذي حقّ حقّه ، ولا وصيّة لوارث) (1)
  وقد اشتمل الاِسناد على قتادة بن دعامة بن قتادة : أبو الخطاب البصري (61 ـ 117 هـ) الذي ورد في حقّه عن حنظلة بن أبي سفيان : كنت أرى طاووساً إذ أتاه قتادة يسأله يفرّ منه ، قال : وكان قتادة يتهم بالقَدَر.
  وقال علي بن المديني : قلت ليحيى بن سعيد : إنّ عبد الرحمان يقول : اترك كلّ من كان رأساً في بدعة يدعو إليها ، قال : كيف تصنع بقتادة ... ؟ ثم قال يحيى : إن ترك هذا الضرب ترك ناساً كثيراً.
  وقال الحاكم في علوم الحديث : لم يسمع قتادة من صحابي غير أنس.

---------------------------
(1) النسائي : السنن : 6|207 ، كتاب الوصايا باب ابطال الوصية للوارث ، الحديث بأسناده الثلاثة ينتهي إلى عمرو بن خارجة الذي قال البزارفي حقّه : إنّه لا نعلم له عن النبي إلاّ هذا الحديث.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 250 _

  وقال أبو داود : حدّث قتادة عن ثلاثين رجلاً لم يسمع منهم (1)
  7 ـ روى ابن ماجة : حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، ثنا يزيد بن هارون : أنبأنا سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن شهر بن حوشب ، عن عبد الرحمان بن غنم ، عن عمرو بن خارجة : أنّ النبيّ خطبهم وهو على راحلته ، وإنّ راحلته لتقصع بجرّتها ، وإنّ لُغامَها ليسيل بين كتفيَّ ، قال : إنّ اللّه قسّم لكلّ وارث نصيبه من الميراث ، فلا يجوز لوارث وصية ، والولد للفراش ...
  كذلك فالاِسناد مشتمل على شهر بن حوشب.
  8 ـ حدثنا هشام بن عمّـار ، ثنا إسماعيل بن عياش ، ثنا شرحبيل بن مسلم الخولاني : سمعت أبا أُمامة الباهلي يقول : سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول في خطبته ، عام حجّة الوداع : إنّ اللّه قد أعطى كلّ ذي حقّ حقّه فلا وصية لوارث.
  وفي الاسناد إسماعيل بن عياش ، وقد عرفت حاله.
  9 ـ حدثنا هشام بن عمّـار ، ثنا محمد بن شعيب بن شابور ، ثنا عبد الرحمن ابن يزيد بن جابر ، عن سعيد بن أبي سعيد ، أنّه حدّثه عن أنس بن مالك قال : إنّي لتحت ناقة رسول اللّه ، يسيل عليَّ لعابها فسمعته يقول : إنّ اللّه قد أعطى كلّ ذي حقّ حقّه ألا لا وصية لوارث (2)وفي السند ، من لا يحتج به :
  1 ـ عبد الرحمان بن يزيد بن جابر الاَزدي أبو عتبة الشامي (المتوفى عام

---------------------------
(1) ابن حجر : تهذيب التهذيب : 8|319 ، جمال الدين المزّي : تهذيب الكمال : 23|509.
(2) سنن ابن ماجة : 2| 905 ، كتاب الوصايا باب لا وصية لوارث ، الاَحاديث 2712 ـ 2714.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 251 _

  153).
  قال الفلاس : ضعيف الحديث ... روى عن أهل الكوفة أحاديث مناكير (1)
  2 ـ سعيد بن أبي سعيد ، واسمه كيسان المقبري أبو سعد المدني (المتوفى عام 125).
  قال يعقوب بن شيبة : قد كان تغيّر واختلط قبل موته يقال بأربع سنين ، وقال الواقدي : اختلط قبل موته بأربع سنين ، وقال ابن حبّان في الثقات : اختلط قبل موته بأربع سنين (2).
  10 ـ روى الدارقطني : نا أبو بكر النيسابوري ، نا يوسف بن سعيد ، نا حجاج ، عن جريج ، عن عطاء عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : لا تجوز الوصية لوارث إلاّ أن يشاء الورثة.
  وفي الاسناد عطاء بن أبي مسلم الخراساني (50 هـ ـ 135 هـ).
  قال الدارقطني : لم يلق ابن عباس.
  وقال أبو داود : ولم يدرك ابن عباس ولم يره.
  البخاري قد ذكر عطاء الخراساني في الضعفاء ... والبخاري لم يخرج له شيئاً.
  وقال ابن حبّان : كان رديء الحفظ يخطىَ ولا يعلم فبطل الاحتجاج به (3)
  وقال البيهقي : عطاء هذا هو الخراساني لم يدرك ابن عباس ولم يره ، قاله

---------------------------
(1) ابن حجر : تهذيب التهذيب : 6|266 برقم 581.
(2) المصدر نفسه : 4|34 برقم 61.
(3) المصدر نفسه : 7|190 برقم 395.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 252 _

  أبو داود السجستاني وغيره وقد روى من وجه آخر عن عكرمة عن ابن عباس (1)
  11 ـ نا علي بن إبراهيم بن عيسى ، نا أحمد بن محمد الماسرجسي ، نا عمرو ابن زرارة ، نا زياد بن عبد اللّه ، نا إسماعيل بن مسلم ، عن الحسن ، عن عمرو بن خارجة قال : قال رسول اللّه : لا وصية لوارث إلاّ أن يجيز الورثة.
  ولو صحّ الاسناد ، فهو محمول على ما إذا زاد عن الثلث كما سيأتي نقله.
  12 ـ نا عبيد اللّه بن عبد الصمد بن المهتدي ، نا محمد بن عمرو بن خالد ، نا أبي ، عن يونس بن راشد ، عن عطاء الخراساني ، عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه : (لا يجوز لوارث وصية إلاّ أن يشاء الورثة) (2)
  ولا أظنّ أن فقيهاً يحتجّ بحديث في سنده :
  عكرمة البربري : أبو عبد اللّه المدني مولى ابن عباس : وقد عرّفه أهل الرجال بما يلي :
  قال ابن لهيعة : عن أبي الاَسود : كان عكرمة قليل العقل خفيفاً ، كان قد سمع الحديث من رجلين ، وكان إذا سئل حدّث به عن رجل يسأل عنه بعد ذلك ، فيحدّث به عن الآخر ، فكانوا يقولون : ما أكذبه.
  وقال يحيى بن معين : إنّما لم يذكر مالك بن أنس عكرمة لاَنّ عكرمة كان ينتحل رأي الصفرية (طائفة من الخوارج) وقال عطاء : كان أباضياً.
  وقال أبو خلف الخزاز ، عن يحيى البكاء : سمعت ابن عمر يقول لنافع : اتّق

---------------------------
(1) البيهقي : السنن الكبرى : 6|264.
(2) الدار قطني : السنن : 4|152 (الوصايا) الحديث 10 و 11.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 253 _

  اللّه ويحك يا نافع ولا تكذب عليّ كما كذب عكرمة على ابن عباس.
  وعن سعيد بن المسيب أنّه كان يقول لغلامه : لا تكذب عليّ كما يكذب عكرمة على ابن عباس.
  وعن عطاء الخراساني : قلت لسعيد بن المسيب : إنّ عكرمة يزعم أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) تزوّج ميمونة وهو محرم ، فقال : كذب مخبثان.
  وقال سعيد بن جبير : كذب عكرمة.
  وقال وهيب بن خالد عن يحيى بن سعيد الاَنصاري : كان كذّاباً.
  وكان مالك لا يرى عكرمة ثقة ويأمر أن لا يوَخذ عنه.
  وقال حنبل بن إسحاق عن أحمد بن حنبل : ... وعكرمة مضطرب الحديث يختلف عنه.
  وقال ابن عليه : ذكره أيوب فقال : قليل العقل.
  وقال الحاكم : أبو أحمد احتجّ بحديثه الاَئمّة القدماء لكن بعض المتأخرين أخرج حديثه من حيز الصحاح (1)
  13 ـ نا أحمد بن كامل ، نا عبيد بن كثير ، نا عباد بن يعقوب ، نا نوح بن دراج ، عن أبان بن تغلب ، عن جعفر بن محمد عن أبيه قال : قال رسول اللّه : لا وصية لوارث ولا إقرار بدين.
  وفي الاسناد من لا يحتجّ به أهل السنّة وهونوح بن دراج (المتوفى عام

---------------------------
(1) ابن حجر : تهذيب التهذيب : 7|234 رقم 476.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 254 _

  182) والحديث نقل محرّفاً.
  فقد تضافر عن جعفر بن محمد ، صحّة الوصية للوارث إلاّ إذا تجاوز عن الثلث ، فانّه اضرار بالورثة ويوَيده ذيل الحديث (ولا إقرار بدين) والاِقرار بالدين ، والايصاء فوق الثلث مظنّة الاضرار بالورثة.
  14 ـ نا أحمد بن زياد ، نا عبد الرحمان بن مرزوق ، نا عبد الوهاب ، نا سعيد ، عن قتادة ، عن شهر بن حوشب ، عن عبد الرحمان بن غنم عن عمرو بن خارجة قال : خطبنا رسول اللّه بمنى فقال : إنّ اللّه عزّ وجلّ قد قسّم لكلّ إنسان نصيبه من الميراث ، فلا يجوز لوارثٍ وصية إلاّ من الثلث ، قال : ونا سعيد بن مطر عن شهر ، عن عمرو بن خارجة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مثله (1)
  والسند مشتمل على شهر بن حوشب ، والمتن يوَيد مقالة الاِمامية حيث قال : فلا يجوز له ارث إلاّ من الثلث.
  15 ـ روى الدارمي : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، ثنا هشام الدستوائي ، ثنا قتادة ، عن شهر بن حوشب ، عن عبد الرحمان بن غنم ، عن عمرو بن خارجة ، قال : كنت تحت ناقة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي تقصع بجرّتها ولعابها وينوص بين كتفي ، سمعته يقول : ألا إنّ اللّه قد أعطى كلّ ذي حقّ حقّه فلا يجوز وصية لوارث (2).
  وفي الاسناد شهر بن حوشب وكفى به ضعفاً.
  16 ـ روى البيهقي بأسانيد مختلفة ، لا تخلو من ضعف.

---------------------------
(1) الدارقطني : السنن : 4|152 (الوصايا) الحديث 12 و 13.
(2) الدارمي : السنن : 2|419 ، باب الوصية للوارث.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 255 _

  فالاَوّل مقطوع برواية عطاء عن ابن عباس وقد عرفت عدم ادراكه له وعطاء هذا هو عطاء الخراساني.
  والثاني مشتمل على رواية : عطاء عن عكرمة عن ابن عباس ، وقد عرفت حال الرجلين.
  والثالث أيضاً مثل الثاني.
  والرابع مشتمل على الربيع بن سليمان ، الذي كان يوصف بغفلة شديدة ، وعن الشافعي أنّه ليس بثبت وإنّما أخذ أكثر الكتب من آل البويطي بعد موت البويطي (1).
  وعلى سفيان بن عيينة (المتوفّى عام 198) قال محمد بن عبد اللّه بن عمّـار : سمعت يحيى بن سعيد يقول : اشهدوا أنّ سفيان بن عيينة اختلط سنة 97 ، فمن سمع في هذه السنة وبعدها ، سماعه لا شيء (2)
  وعلى مجاهد بن جبر المكّي المولود في خلافة عمر (المتوفى عام 100) فمضافاً إلى أنّ الرواية مقطوعة فقد ورد في حقّه : مجاهد معلوم التدليس فعنعنته لا تفيد الوصل (3).
  والخامس مشتمل على ابن عياش وشرحبيل بن مسلم وقد تعرّفت عليهما.   والسادس مشتمل على شهر بن حوشب.

---------------------------
(1) ابن حجر : تهذيب التهذيب : 3 | 213 برقم 473.
(2) جمال الدين المزّي : تهذيب الكمال : 11|196.
(3) ابن حجر : تهذيب التهذيب : 10|40 برقم 68.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 256 _

  والسابع مشتمل على حماد بن سلمة عن قتادة ، والسند إمّا مقطوع أو موصول بواسطة شهر بن حوشب بقرينة الرواية السابقة.
  والثامن مشتمل على إسماعيل بن مسلم وهو مردّد بين العبدي (أبو محمد (البصري) والمكي (أبو إسحاق البصري) الذي ضعّفه جمال الدين المزّي بقوله : قال : عمرو بن علي : كان يحيى وعبد الرحمان لا يحدّثان عن إسماعيل المكي.
  وقال أبو طالب : قال أحمد بن حنبل : إسماعيل بن مسلم المكي منكر الحديث.
  وقال عباس الدوري عن يحيى بن معين : إسماعيل بن مسلم المكي ليس بشيء. وكذلك قال عثمان بن سعيد الدارمي وأبو يعلى الموصلي عن يحيى.
  وعن علي بن المديني : إسماعيل بن مسلم المكي لا يكتب حديثه ... وكان ضعيفاً في الحديث ... يكثر الخلط.
  وقال أبو زرعة : هو بصري سكن مكة ، ضعيف الحديث.
  وقال النسائي :... متروك الحديث. وقال في موضع آخر : ليس بثقة (1)
  والتاسع مشتمل على عبد الرحمان بن يزيد بن جابر الاَزدي ، وسعيد بن أبي سعيد وقد تعرّفت عليهما.
  والعاشر مشتمل على سفيان بن عيينة وقد تعرّفت عليه وعلى طاووس بن كيسان اليماني وهو تابعي لم يدرك النبيّ و إنّما ينقل ما ينقل عن ابن عباس (2)

---------------------------
(1) جمال الدين المزّي : تهذيب الكمال : 3| 198 برقم 483.
(2) البيهقي : السنن : 6|264 ـ 265.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 257 _

  17 ـ روى الحافظ سعيد بن منصـور المكي (المتوفى 227) في سننـه هذا الحديث بأسنايد مختلفة.
  فالاَوّل ـ مضافاً إلى أنّه مقطوع بمجاهد ـ : مشتمل على سفيان بن عيينة.
  والثاني : مقطوع بعمرو بن دينار (المتوفى حدود عام 125) ومشتمل على سفيان بن عيينة.
  والثالث : مشتمل على إسماعيل بن عياش وشرحبيل بن مسلم.
  والرابع : مشتمل على شهر بن حوشب.
  والخامس : مشتمل على سفيان بن عيينة وهشام بن حجر المكي الذي ضعّفه يحيى بن معين ، وعن غيره أنّه يضرب على حديثه ، وعن أبي داود أنّه ضرب الحدّ بمكة (1)
  18 ـ روى الصنعـاني بسنـد ينتهي إلى شهـر بن حوشـب عن عمرو بن خارجة ، قال : سمعت رسول اللّه يقول :لا وصية لوارث (2) وقد تعرفت على حال (شهر).
  ملاحظات على نسخ الآية بالسنّة :
  ويلاحظ على هذه الاجابة ، أي نسخ الكتاب بهذه الروايات ، بوجوه :
  1 ـ الكتاب العزيز ، قطعي السند ، وصريح الدلالة في المقام ، وظاهر الآية

---------------------------
(1) ابن حجر : تهذيب التهذيب : 11|32 برقم 74.
(2) الصنعاني : عبد الرزاق بن همام (176 ـ 211) : المصنف : 9|70 برقم 16376.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 258 _

  كون الحكم أمراً أبدياً وأنّه مكتوب على الموَمنين ، وهو حقّ على المتّقين ، أفيصح نسخه أو تخصيصه برواية لم يسلم سند منها عن خلل ونقاش فرواتها مخلّط ، من أروى الناس عن الكذابين ، لا يرى ما يخرج من رأسه ، إلى ضعيف أُختُتِنَ في كبر سنِّه ، إلى بائع دينه بخريطة ، إلى مسنِد ولم ير المسند إليه ، إلى محدود أُجري عليه الحد في مكة ، إلى خارجيّ يُضرب به المثل ، إلى ، إلى ، إلى (1)
  ولو قلنا بجواز نسخ الكتاب فانّما نقول به إذا كان الناسخ ، دلالة قرآنية أو سنّة قاطعة.
  2 ـ كيف يمكن الاعتماد على رواية ، تدّعي أنّ النبي الاَكرم خطب في محتشد كبير لم ينقل لنا التاريخ له مثيلاً في حياة النبي إلاّ في وقعة الغدير ، وقال : إنّه لا وصية لوارث ، ولم يسمعه أحد من الصحابة إلاّ أعرابي مثل عمرو بن خارجة الذي ليس له رواية عن رسول اللّه سوى هذه (2) أو شخص آخر كأبي أُمامة الباهلي وهذا ما يورث الاطمئنان على وجود الخلل فيها سنداً أو دلالة.
  3 ـ لو سلم أنّ الحديث قابل للاحتجاج ، لكنّه لا يعادل ولا يقاوم ما تواتر عن أئمّة أهل البيت من جواز الوصية للوارث ، فهذا هو محمد بن مسلم أحد فقهاء القرن الثاني ، من تلاميذ أبي جعفر الباقر (عليه السلام) يقول : سألت أبا جعفر عن الوصية للوارث ؟ فقال : تجوز ، ثم تلا هذه الآية : (إنْ تَركَ خَيراً الوصية للوالدين والاَقربين) .

---------------------------
(1) لاحظ ما نقلناه عن أئمة الرجال في حق رواة الحديث ونقلته.
(2) ابن حجر : الاصابة : 2|527 و المزّي : تهذيب الكمال : 21|599 وابن حبّان : الثقات : 3|271.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 259 _

  وهذا أبو بصير المرادي شيخ الشيعة في عصر الصادق (عليه السلام) يروي عنه أنّه سأله عن الوصية للوارث ؟ فقال : تجوز (1)
  4 ـ أنّ التعارض فرع عدم وجود الجمع الدلالي بين نصّ الكتاب والحديث ، إذ من المحتمل جداً أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ذكر قيداً لكلامه ، ولم يسمعه الراوي أو سمعه ، وغفل عن نقله ، أو نقله ولم يصل إلينا وهو أنّه مثلاً قال : (ولا تجوز وصية للوارث) إذا زاد عن الثلث أو بأكثر منه ، كما ورد كذلك من طرقنا ، وطرق أهل السنّة ، وقد عرفت : أنّ الدارقطني نقله عن الرسول الاَكرم بهذا القيد (2) وقد ورد من طرقنا عن النبي الاَكرم أنّه قال في خطبة الوداع : "أيّها الناس إنّ اللّه قد قسم لكل وارث نصيبه من الميراث ، ولا تجوز وصية لوارث بأكثر من الثلث" (3)
  وبعد هذه الملاحظات لا يبقى أيّ وثوق للرواية بالصورة الموجودة في كتب السنن.
  أضف إلى ذلك : أنّ الاِسلام دين الفطرة ، ورسالته خاتمة الرسالات فكيف يصحّ أن يسد باب الاِيصاء للوارث ، مع أنّه ربّما تمسّ الحاجة إلى الايصاء للوارث ، بعيداً عن الجور والحيف ، من دون أن يثير عداء الباقين وحسد الآخرين كما إذا كان طفلاً ، أو مريضاً ، أو معوّقاً أو طالب علم ، لا يتسنّى له التحصيل إلاّ بعون آخرين.
  كل ذلك يدعو فقهاء المذاهب في الاَمصار ، إلى دراسة المسألة من الاَصل عسى أن يتبدّل المختلف إلى الموَتلف والخلاف إلى الوفاق بفضله وكرمه سبحانه.

---------------------------
(1) وسائل الشيعة : 13 ، الباب 15 من أبواب أحكام الوصايا الحديث ، وفيه ثلاثة عشر حديثاً تصرِّح على جواز الوصية للوارث.
(2) لاحظ الرقم 14 ممّا سلف وفيه : فلا يجوز لوارث وصية إلاّ من الثلث.
(3) الحسن بن علي بن شعبة ( من محدّثي القرن الرابع) تحف العقول : 34.