الفهرس العام

مصادر التشريع عند الشيعة الاِمامية وأحاديث أئمّة أهل البيت (ع)

عصمة الاِمام في الكتاب

  إنّ الاِمامية ـ كما تصدر عن الكتاب والسنّة في مجالي العقيدة والشريعة ـ كذلك تصدر عن أحاديث أئمّة أهل البيت وترى قولهم وفعلهم وتقريرهم حجّة ، وهذا لا يعني أنّ أحاديثهم ، حجّة ثالثة ، في عرض الكتاب والسنّة أو أنّهم أنبياء يوحى إليهم كما ربّما يتخيّله من ليس له إلمام بعقائدهم وأُصولهم ، بل العترة الطاهرة لما كانوا وعاة علمهوحفظة سنّته ، وخلفاءه بعده ، يحكون بقولهم وأفعالهم وتقريرهم ، سنّة النبي الاَكرم ، فالاحتجاج بأحاديثهم ، احتجاج في الحقيقة بحديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكلامه ، ولاَجل ايضاح الموضوع ، نأتي بتفصيل ذلك :
  أئمّة الشيعة أوصياء الرسول : اتّفقت الشيعة على أنّ الاَئمّة الاثني عشر أوصياء الرسول ، وأنّهم أئمّة الاُمّة وأحد الثقلين اللَّذين أوصى بهما رسول اللّه في غير موقف من المواقف ، وقال :

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 342 _

  ( إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي ) والحديث من التواتر بمكان أغنانا عن ذكر مصادره ويكفي في ذلك ما نشرته دار التقريب بين المذاهب الاِسلامية في القاهرة في هذا المجال.
  إنّ الشيعة الاِماميّة كسائر المسلمين موَمنون بعالمية رسالة النبيّ الاَكرم كما هم موَمنون بخاتمية رسالته ، مستدلين بقوله سبحانه : ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول اللّه وخاتم النبيين وكان اللّه بكل شيء عليماً ) (1)
  وقوله سبحانه : ( وإنّهُ لَكِتابٌ عَزيزٌ * لا يأتِيهِ الباطِلُ مِن بَينِ يَدَيهِ وَلا مِنْ خَلْفهِ تَنْزِيلٌ مِنَ حَكِيمٍ حَميد (2) ) إلى غير ذلك من الآيات والاَحاديث.
  إنّ خاتمية رسالة النبي الاَكرم من الاُمور الدينية الضرورية تكفّل لبيانها الذكر الحكيم والاَحاديث المتضافرة التي بلغت حدّ التواتر ، منها قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عندما خرج إلى غزوة تبوك فقال له علي : أأخرج ؟ فقال : لا ، فبكى علي ، فقال له رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : ( أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي ) (3)
  وهذا علي أمير الموَمنين أوّل الاَئمّة الاثني عشر قال وهو يلي غسل رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : ( بأبي أنت وأُمّي لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوّة والاَنباء وأخبار السماء ) (4)

---------------------------
(1) الاَحزاب : الآية 40.
(2) فصّلت : الآيتان 41 ـ 42.
(3) أمالي الصدوق : 29 ، معاني الاَخبار : 94 وغيرها من المصادر الشيعية ولاحظ صحيح البخاري : 6|3 باب غزوة تبوك.
(4) نهج البلاغة : الخطبة 129.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 343 _

  وفي كلام آخر له : ( أمّا رسول اللّه فخاتم النبييّن ليس بعده نبيّ ولا رسول ، وختم رسول اللّه الاَنبياء إلى يوم القيامة ) (1)
  ونكفتي في هذه العجالة بهذا المقدار من النصوص فمن أراد أن يقف على نصوص الاَئمّة الاثني عشر على ختم النبوّة وانقطاع الوحي وسدّ باب التشريع بعد رحلة الرسول ، فعليه الرجوع إلى الجزء الثالث من كتابنا ( مفاهيم القرآن ) فقد جاء فيه قرابة (134) نصّاً من النبي الاَكرم وأهل بيته الطاهرين في ذلك المجال.
  إنّ فقهاء الشيعة حكموا بارتداد من أنكر عالمية الرسالة ، أو خاتميتها ، ولاَجل ذلك فالبابية والبهائية وهكذا القاديانية مرتدّون عندهم ارتداداً فطرياً أو ملّيّاً (2) أحياناً ، وهذه كتبهم الفقهية في باب الحدود وأحكام المرتد وغير ذلك.
  هذا قليل من كثير اكتفينا به لتبيين عقيدة الشيعة في حقّ الرسول الاَعظم وأنّهم عن بكرة أبيهم معتقدون بعالمية رسالة الرسول وخاتميته ، ولم ينحرفوا عن هذا الخط قيد شعرة ، ويظهر ذلك من المرور على الكتب الاعتقادية المدوّنة من بداية القرن الثالث الهجري إلى عصرنا هذا ، فقد ألّفوا مئات الكتب والرسائل ، بل الموسوعات الكبيرة حول العقائد الاِسلامية وهي بين مخطوطة ومطبوعة منتشرة في العالم وهذه كتبهم ومكتباتهم وجامعاتهم العلمية ، وخطباوَهم ومنشوراتهم الرسمية لا تجد فيها كلمة تشير إلى نبوّة غير النبي الاَكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، أو بنزول الوحي على غيره فلا محيص عن القول بأنّ هذه النظرية الخاطئة ، استنبطها البعض من خلال أُمور لا دلالة لها على ما يرتئيه ولا بأس

---------------------------
(1) نهج البلاغة : الخطبة 230 ، مجالس المفيد : 527 ، بحار الاَنوار : 22| 527.
(2) المرتد الملّـي : عبارة عن من لم يكن أحد والديه مسلماً حين انعقاد نطفته ، كما إذا كان الوالدان كتابيين فأسلم الولد بعد البلوغ ثم ارتدّ.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 344 _

  بالاشارة إلى بعض هذه الاَمور التي كانت سبباً لهذا الوهم ، وقد ألمح إليها بعض دكاترة العصر من المستهترين وهي لا تتجاوز أمرين :
  1 ـ حجّية أحاديثهم وأفعالهم.
  2 ـ القول بعصمتهم من الاِثم والخطأ.
  وإليك تحليل هذين الاَمرين :
  الاَوّل : الشيعة وحجّية أقوال العترة الطاهرة : إنّ الشيعة يتعاملون مع أحاديث العترة الطاهرة كالتعامل مع أحاديث النبيّ الاَكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فلولا كونهم أنبياء أو طرفاً للوحي فكيف تكون أحاديثهم حجّة ؟
  الجواب : إنّ الشيعة الاِمامية تأخذ بأقوالهم للاُمور التالية :
  ألف : إنّ النبيّ الاَكرم هو الذي أمر المسلمين قاطبة بالاَخذ بأقوال العترة حيث قال : إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ... (1) فالتمسّك بأحاديثهم وأقوالهم امتثال لقول الرسول الاَكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وهو لا يصدر إلاّ عن الحق ، فمن أخذ بالثقلين فقد تمسّك بما ينقذه من الضلالة ومن أخذ بواحد منهما فقد خالف الرسول.

---------------------------
(1) ربّما يروى عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) : إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وسنّتي ، ولا تعارض بين الخبرين ، غير أنّ الاَوّل متواتر دون الثاني والاَوّل مسند ، والثاني مرسل نقله الاِمام مالك في موطئه ، وأين هو من حديث العترة الذي أطبق المحدّثون على نقله ، والتفصيل موكول إلى محلّه.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 345 _

  ب : نرى أنّ الرسول الاَكرم يأمر الاُمّة بالصلاة على آل محمد في الفرائض والنوافل ، والمسلمون في مشارق الاَرض ومغاربها يذكرون العترة بعد النبيّ الاَكرم في تشهّدهم ويصلّون عليهم مثل الصلاة عليه ، والفقهاء وإن اختلفوا في صيغة التشهّد ولكنّهم لا يختلفون في لزوم الصلاة على النبي وآله وفيها يقول الاِمام الشافعي :

يــا أهــل بـيـت رسـول الـلّه حـبّكمُ       فرض من اللّه في القـــرآن أنـزلـهُ
كــفــاكـمُ مـــــن عــظـيـم الــشــأن أنّــكــمُ      من لم يصلّ عليكم لا صلاة لهُ

  فلو لم يكن للعترة شأن ومقام في مجال هداية الاَمة ولزوم الاقتفاء بهم ، فما معنى جعل الصلاة عليهم فريضة في التشهّد وتكرارها في جميع الصلوات ليلاً ونهاراً ، فريضة ونافلة ؟
  وهذا يعرب عن سرٍّ نقف عليه من خلال أمر النبيّ الاَكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا المجال ، وهو أنّ لآل محمّد شأناً خاصّاً في الاُمور الدينية والقيادة الاِسلامية أظهرها : أنّ أقوالهم وآراءهم حجّة على المسلمين ، وأنّ لهم المرجعية الكبرى بعد رحلة الرسول ، سواء أكان في مجال العقيدة والشريعة أم في مجال آخر.
  ج : إنّ النبيّ الاَكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) شبّه العترة الطاهرة بسفينة نوح ، وأنّه من ركبها نجا ، وأنّ من تخلّف عنها غرق (1) وهو يدلّ على حجّية أقوالهم وأفعالهم.
  إلى غير ذلك من الوصايا الواردة في حقّ العترة التي نقلها أصحاب

---------------------------
(1) الحاكم : المستدرك : 2|151 ، السيوطي : الخصائص الكبرى : 2|266، ابن حجر : الصواعق : 191 ، الباب 12 .

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 346 _

  الصحاح والمسانيد ومن أراد فليرجع إلى مصادرها.
  فالمسلم الموَمن بصحّة هذه الوصايا لا يشك في حجّية أقوال العترة سواء أعلم مصدر علومهم أم لم يعلم. قال سبحانه : ( وما كانَ لِمُوَمِنٍ ولا مُوَمِنةٍ إذا قَضى اللّهُ ورَسولُهُ أمْراً أنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرةُ مِنْ أمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً ) (1)
  ومع ذلك كلّه نحن نشير إلى بعض مصادر علومهم حتى يتّضح أنّ حجية أقوالهم لا تدلّ على أنّهم أنبياء أو فوّض إليهم أمر التشريع :
  1 ـ السماع عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : إنّ الاَئمّة يروون أحاديث رسول اللّه سماعاً منه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، إمّا بلا واسطة أو بواسطة آبائهم ، ولاَجل ذلك ترى في كثير من الروايات أنّ الاِمام الصادق (عليه السلام) يقول : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن زين العابدين ، عن أبيه الحسين بن علي ، عن عليّ أمير الموَمنين ، عن الرسول الاَكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وهذا النمط في الروايات كثير في أحاديثهم وقد تضافر عن الاِمام الصادق أنّه كان يقول : ( حديثي ، حديث أبي ، وحديث أبي حديث جديّ ) ، فعن هذا الطريق تحمّلوا أحاديث كثيرة عن الرسول الاَكرم وبلّغوها ، من دون أن يعتمدوا على الاَحبار والرهبان ، أو على أُناس مجاهيل ، أو شخصيات متسترة بالنفاق وهذا النوع من الاَحاديث ليس بقليل.

---------------------------
(1) الاَحزاب : الآية 36.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 347 _

  2 ـ كتاب عليّ (عليه السلام) : يرجع قسم آخر من أحاديثهم إلى ما أخذوه عن كتاب الاِمام أمير الموَمنين بإملاء رسول اللّه وخطّ عليّ وقد أشار أصحاب الصحاح والمسانيد إلى بعض هذه الكتب (1).
  فقد كان لعليّ كتاب خاص باملاء رسول اللّه وقد حفظته العترة الطاهرة وصدرت عنه في مواضع كثيرة ونقلت نصوصه في موضوعات مختلفة ، وقد بثّ الحر العاملي في موسوعته الحديثية ، أحاديث ذلك الكتاب حسب الكتب الفقهية من الطهارة إلى الديات ومن أراد فليرجع إلى تلك الموسوعة.
  وقال الاِمام الصادق (عليه السلام) عندما سئل عن الجامعة ؟ فقال : ( فيها كل ما يحتاج الناس إليه وليس من قضية إلاّ فيها حتى ارش الخدش ) .
  وكان كتاب علي مصدراً لاَحاديث العترة الطاهرة يرثونه واحداً بعد آخر وينقلون عنه ويستدلّون به على السائلين.
  وهذا هو أبو جعفر الباقر (عليه السلام) يقول لاَحد أصحابه ـ أعني حمران بن أعين ـ وهو يشير إلى بيت كبير : يا حمران إنّ في هذا البيت صحيفة طولها سبعون ذراعاً بخطّ علي (عليه السلام) وإملاء رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) لو ولّينا الناس لحكمنا بما أنزل اللّه لم نعد ما في هذه الصحيفة.
  وهذا هو الاِمام الصادق (عليه السلام) يعرّف كتاب علي (عليه السلام)

---------------------------
(1) الاِمام أحمد : المسند : 1|81 ، صحيح مسلم : 4|217 ، البيهقي : السنن الكبرى : 8|26 نقلاً عن الاِمام الشافعي.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 348 _

  بقوله : فهو كتاب طوله سبعون ذراعاً إملاء رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) من فلق فِيهِ وخطّ علي بن أبي طالب (عليه السلام) بيده ، فيه واللّه جميع ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة حتى أنّ فيه أرش الخدش والجلدة ونصف الجلدة.
  ويقول سليمان بن خالد : سمعت أبا عبد اللّه يقول : ( إنّ عندنا لصحيفة طولها سبعون ذراعاً إملاء رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وخطّ علي ـ عليه السلام ـ بيده ، ما من حلال ولا حرام إلاّ وهو فيها حتى أرش الخدش.
  ويقول أبو جعفر الباقر (عليه السلام) لبعض أصحابه : ( يا جابر إنّا لو كنّا نحدّثكم برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين ، ولكنّا نحدّثكم بأحاديث نكنزها عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ) (1)
  3 ـ الاستنباط من الكتاب والسنّة :
  المصدر الثالث لاَقوالهم ، هو إمعانهم في الكتاب والسنّة وتدبّرهم فيهما ، فاستخرجوا من المصدرين الرئيسيين ما يخص العقيدة والشريعة بصورة يقصر عنها أكثر الاَفهام ، وهذا هو الذي جعلهم متميّزين بين المسلمين بالوعي والدقّة والفهم ، وخضع لهم أئمّة الفقه في مواقف شتّى حتى قال الاِمام أبو حنيفة بعد تتلمذه على الاِمام الصادق (سنتين) : لولا السنتان لهلك النعمان ، ولاَجل ذلك كانوا يستدلّون على كثير من الاَحكام عن طريق الكتاب والسنّة ويقولون : ( ما من شيء

---------------------------
(1) وقد جمع العلاّمة المجلسي ما ورد من الاَثر حول كتب الاِمام عليّ في موسوعته (بحار الاَنوار) : 26|18 ـ 66 تحت عنوان (باب جهاتعلومهم وما عندهم من الكتب ) فلاحظ الباب ، الحديث 12 ، 1 ، 10 ، 30.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 349 _

  إلاّ وله أصل في كتاب اللّه وسنّة نبيّه).
  أخرج الكليني باسناده عن عمر بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : سمعته يقول : ( إنّ اللّه تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الاُمة إلاّ أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله وجعل لكلّ شيء حدّاً ، وجعل عليه دليلاً يدلّ عليه ، وجعل على من تعدّى ذلك الحدّ حدّاً ).
  أخرج الكليني باسناده عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال : سمعته يقول : ( ما من شيء إلاّ وفيه كتاب أو سنّة ) .
  وأخرح عن سماعة عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال : قلت له : أكلّ شيء في كتاب اللّه وسنّة نبيّه أو تقولون فيه ؟ قال : ( بل كلّ شيء في كتاب اللّه وسنّة نبيّه ) (1)
  ومن وقف على الاَحاديث المروية عنهم يقف على أنّهم كيف يستدلّون على الاَحكام الاِلهية عن المصدرين بفهم خاص ووعي متميّز يبهر العقول ، ويورث الحيرة ، ولولا الخوف من الاطالة لنقلت في المقام نماذج من ذلك ونكتفي ببيان موردين :
  1 ـ قُدِّم إلى المتوكّل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة فأراد أن يقيم عليه الحد ، فأسلم ، فقال يحيى بن أكثم : الاِيمان يمحو ما قبله ، وقال بعضهم : يُضرب ثلاثة حدود ، فكتب المتوكّل إلى الاِمام الهادي يسأله ، فلمّـا قرأ الكتاب ، كتب : يُضرب حتى يموت ، فأنكر الفقهاء ذلك ، فكتب إليه يسأله عن العلّة ، فكتب : بسم

---------------------------
(1) راجع الكافي (باب الرد إلى الكتاب والسنّة) : 1|59ـ62 تجد فيه أحاديث تصرّح بما ذكر ، والمراد منها أُصول الاَحكام وجذورها لافروعها وجزئياتها.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 350 _

  اللّه الرحمن الرحيم ( فَلَمّـا رَأَوا بَأْسَنا قَالوا آمَنّا باللّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنّا بِهِ مُشْـرِكينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمانُهُم لَمّا رَأَوْا بَأسَنا سُنّتَ اللّهِ الَّتي قَدْ خَلَتْ فِـي عِبادِهِ وَخَسِـرَ هُنالِكَ الكافِرون ) (1) فأمر به المتوكّل فضرب حتى م (2) .
  إنّ الاِمام الهادي ببيانه هذا شقّ طريقاً خاصّاً لاستنباط الاَحكام من الذكر الحكيم ، طريقاً لم يكن يحلم به فقهاء عصره ، وكانوا يزعمون أنّ مصادر الاَحكام الشرعية هي الآيات الواضحة في مجال الفقه التي لا تتجاوز ثلاثمائة آية ، وبذلك أبان للقرآن وجهاً خاصّاً لدلالته ، لا يلتفت إليه إلاّ من نزل القرآن في بيته ، وليس هذا الحديث غريباً في مورده ، بل له نظائر في كلمات الاِمام وغيره من آبائه وأبنائه (عليهم السلام) .
  2 ـ لمّا سمّ المتوكّل نذر للّه : إن رزقه اللّه العافية أن يتصدّق بمال كثير ، أو بدراهم كثيرة.
  فلمّـا عوفي اختلف الفقهاء في مفهوم ( المال الكثير ) فلم يجد المتوكّل عندهم فرجاً ، فبعث إلى الاِمام عليّ الهادي فسأله ؟ قال : يتصدق بثلاثة وثمانين ديناراً ، فقال المتوكل : من أين لك هذا ؟ فقال : من قوله تعالى : ( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِـي مَواطِنَ كَثِيرَة ... ) (3)
  والمواطن الكثيرة : هي هذه الجملة ، وذلك لاَنّ النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) غزا سبعاً وعشرين غزوة ، وبعث خمساً وخمسين سرية ، وآخر غزواته يوم حنين ، وعجب المتوكل والفقهاء من هذا الجواب (4)

---------------------------
(1) غافر : الآية 84 ـ 85.
(2) ابن شهر آشوب : مناقب آل أبي طالب : 4|405.
(3) التوبة : الآية 25.
(4) ابن الجوزي : تذكرة الخواص : 202.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 351 _

  وقد ورد عن طريق آخر أنّه قال (بثمانين) مكان (ثلاثة وثمانين) وذلك لاَنّ عدد المواطن التي نصر اللّه المسلمين فيها إلى يوم نزول هذه الآية كان أقلّ من ثلاثة وثمانين (1)
  4 ـ الاشراقات الاِلهية :
  إنّ هناك مصدراً رابعاً لاَحاديثهم نعبّـر عنه بالاشراقات الاِلهية ، وأيّ وازع من أن يخصّ سبحانه بعض عباده بعلوم خاصّة يرجع نفعها إلى العامّة من دون أن يكونوا أنبياء ، أو معدودين من المرسلين ، واللّه سبحانه يصف مصاحب موسى بقوله : ( فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمةً من عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنّا عِلْما ) ولم يكن المصاحب نبيّاً بل كان وليّاً من أولياء اللّه سبحانه وتعالى بلغ في العلم والمعرفة مكاناً حتى قال له موسى ـ وهو نبيّ مبعوث بشريعة ـ : (هَلْ أتَّبِعُكَ عَلى أنْ تُعَلِّمَني مِمّا عُلِّمْتَ رُشْدا ) (2)
  يصف سبحانه وتعالى جليس سليمان ـ الذي نسمّيه آصف بن برخيا ـ بقوله : ( قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتابِ أنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ يَرْتَدَّ إلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمّـا رَآه مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّـي ) (3)
  وهذا الجليس لم يكن نبيّاً ، ولكن كان عنده علم من الكتاب ، وهو لم يحصّله من الطرق العاديّة التي يتدرّج عليها الصبيان والشبان في المدارس

---------------------------
(1) ابن شهر آشوب : مناقب آل أبي طالب : 4|402.
(2) الكهف : الآية 66.
(3) النمل : الآية 40.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 352 _

  والجامعات ، بل كان علماً إلـهياً أُفيض إليه لصفاء قلبه وروحه ولاَجل ذلك ينسب علمه إلى فضل ربّه ويقول : ( هذا من فضل ربّي ) .
  تضافرت الروايات على أنّ في الاُمّة الاِسلامية ـ مثل الاُمم السابقة ـ رجالاً مخلصين محدَّثين تفاض عليهم حقائق من عالم الغيب من دون أن يكونوا أنبياء ، وإن كنت في شكّ من ذلك فارجع إلى ما رواه أهل السنّة في هذا الموضوع.
  روى البخاري في صحيحه : لقد كان في من كان قبلكم من بني إسرائيل يُكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء ، فإن يكن من أُمّتي منهم أحد فعمر (1)
   قال القسطلاني ليس قوله : ( فان يكن ) للترديد بل للتأكيد كقولك : إن يكن لي صديق ففلان ، إذ المراد اختصاصه بكمال الصداقة لا نفي الاَصدقاء.
  وإذا ثبت أنّ هذا وجد في غير هذه الاَمّة المفضولة فوجوده في هذه الاُمّة الفاضلة أحرى (2)وأخرج البخاري في صحيحه بعد حديث الغار : عن أبي هريرة مرفوعاً : أنّه قد كان فيما مضى قبلكم من الاَمم محدَّثون إن كان في أُمّتي هذه منهم فإنّه عمر ابن الخطاب (3).
  قال القسطلاني في شرحه : قال الموَلف : يجري على ألسنتهم الصواب من غير نبوّة (4).

---------------------------
(1) البخاري : الصحيح : 2|149.
(2) القسطلاني : ارشاد الساري في شرح صحيح البخاري : 6| 99.
(3) البخاري : الصحيح : 2|171.
(4) القسطلاني : ارشاد الساري في شرح صحيح البخاري : 5|431.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 353 _

  وقال الخطابي : يُلقى الشيء في روعه ، فكأنّه قد حُدِّث به يظن فيصيب ، ويخطر الشيء بباله فيكون ، وهي منزلة رفيعة من منازل الاَولياء.
  وأخرج مسلم في صحيحه في باب فضائل عمر عن عائشة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : قد كان في الاُمم قبلكم محدَّثون فإن يكن في أُمّتي منهم أحد فإنّ عمر بن الخطاب منهم.
  ورواه ابن الجوزي في صفة الصفوة وقال : حديث متّفق عليه (1)
  وأخرجه أبو جعفر الطحاوي في (مشكل الآثار) بطرق شتى عن عائشة وأبي هريرة ، وأخرج قراءة ابن عباس : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدّث ، قال : معنى قوله محدَّثون أي ملهمون ، فكان عمر ينطق بما كان ينطق ملهماً (2)
  قال النووي في شرح صحيح مسلم : اختلف تفسير العلماء للمراد بمحدّثون فقال ابن وهب : ملهمون ، وقيل : مصيبون إذا ظنّوا فكأنّهم حُدِّثوا بشيء فظنّوه ، وقيل : تكلّمهم الملائكة ، وجاء في رواية : مكلّمون ، وقال البخاري : يجري الصواب على ألسنتهم وفيه اثبات كرامات الاَولياء.
  وقال الحافظ محبّ الدين الطبري في (الرياض) : ومعنى (محدّثون ـ واللّه أعلم ـ أي يلهمون الصواب ، ويجوز أن يحمل على ظاهره وتحدّثهم الملائكة لا بوحي وإنّما بما يطلق عليه اسم حديث ، وتلك فضيلة عظيمة) (3)

---------------------------
(1) ابن الجوزي : صفة الصفوة : 1|104.
(2) مشكل الآثار : 2|257.
(3) الطبري : الرياض : 1|199.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 354 _

  قال القرطبي : محدَّثون ـ بفتح الدال ـ اسم مفعول جمع محدَّث ـ بالفتح ـ أي ملهم أو صادق الظن ، وهو من أُلقي في نفسه شيء على وجه الاِلهام والمكاشفة من الملاَ الاَعلى ، أو من يجري الصواب على لسانه بلا قصد ، أو تكلّمه الملائكة بلا نبوّة ، أو من إذا رأى رأياً أو ظنّ ظنّاً أجاب كأنّه حدّث به ، وأُلقي في روعه من عالم الملكوت فيظهر على نحو ما وقع له ، وهذه كرامة يكرم اللّه بها من شاء من عباده ، وهذه منزلة جليلة من منازل الاَولياء.
  فإن يكن من أُمّتي منهم أحد فإنّه عمر ، كأنّه جعله في انقطاع قرينة في ذلك كأنّه نبيّ ، فلذلك أتى بلفظ (إن) بصورة التردّد ، قال القاضي : ونظير هذا التعليق في الدلالة على التأكيد والاختصاص قولك : إن كان لي صديق فهو زيد ، فإنّ قائله لا يريد به الشكّ في صداقته بل المبالغة في أنّ الصداقة مختصّة به لا تتخطّاه إلى غيره (1).
  فإذا كان في الاُمم السالفة رجال بهذا القدر والشأن فلِمَ إذاً لا يكون بين الاُمّة الاِسلامية رجال شملتهم العناية الاِلهية فأحاطوا بالكتاب والسنّة إحاطة كاملة يرفعون حاجات الاُمّة في مجال العقيدة والتشريع.
  فمن زعم أنّ مثل هذه الافاضة تساوق النبوّة والرسالة ، فقد خلط الاَعم بالاَخصّ فالنبوّة منصب إلهيّ يقع طرفاً للوحي يسمع كلام اللّه تعالى ويرى رسول الوحي ، ويكون إمّا صاحب شريعة مستقلّة أو مروّجاً لشريعة من قبله.
  وأمّا الاِمام : وهو الخازن لعلوم النبوّة في كل ما تحتاج إليه الاُمّة من دون أن يكون طرفاً للوحي أو سامعاً كلامه سبحانه أو رائياً للملك الحامل له ، ولاِحاطته

---------------------------
(1) لاحظ للوقوف على سائر الكلمات حول المحدَّث ، كتاب الغدير : 5|42 ـ 49.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 355 _

  بعلوم النبوّة طرقاً أشرنا إليها.
  ومن التصوّر الخاطىَ : الحكم بأنّ كل من أُلهم من اللّه سبحانه أو كلّمه الملك فهو نبيّ ورسول ، مع أنّ الذكر الحكيم يعرّف أُناساً ، أُلهموا أو رأوا الملك ولم يكونوا بالنسبة إلى النبوّة في حلّ ولا مرتحل.
  هذه أُمّ موسى يقول في حقّها سبحانه : ( وَأَوْحَيْنَا إلى أُمِّ مُوسى أنْ أرْضِعيهِ فإِذا خِفْتِ عَلَيهِ فَأَلْقِيهِ في اليَمِّ ولا تَخافِـي ولا تَحْزَني إنَّا رادُّوهُ إليكِ وَجَاعلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ ) (1)
  أفصارت أُمّ موسى بهذا الاِلهام نبيّة من الاَنبياء ؟
  وهذه مريم البتول ، تكلّمها الملائكة من دون أن تكون نبيّة قال سبحانه : ( وإذْ قالَتِ الملائِكَةُ يا مَريمُ إنَّ اللّهَ اصْطَفاكِ وطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ العالَمِينَ * يا مَرْيمُ اقْنُتِـي لِرَبِّكِ ... ) (2)
  بلغت مريم العذراء مكاناً شاهدت رسول ربّها المتمثَّل لها بصورة البشر قال سبحانه : ( فَأَرسلْنَا إلَيْهَا رُوحَنا فَتَمثَّلَ لَهَا بَشَـراً سَوِيّاً * قَالتْ إنّي أعُوذُ بالرَّحمنِ مِنْكَ إنْ كُنْتَ تَقِيّاً * قَالَ إنَّما أنّا رَسُولُ رَبِّكِ لاَِهَبَ لَكِ غُلامَاً زَكِيّاً * قَالتْ أنّى يكُونُ لي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسنِي بَشرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً * قَالَ كذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَليَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنّاسِ وَرحْمَةً مِنّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيّاً ) (3)
  نرى أنّ مريم البتول رأت الملك وسمعت كلامه ولم تصبح نبيّة ولا رسولة ،

---------------------------
(1) القصص : الآية 7.
(2) آل عمران : الآية 42ـ 43.
(3) مريم : الآية 17 ـ 21.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 356 _

  فمن تدبّر في الكتاب والسنّة يقف على أبدال شملتهم العناية الاِلهية وقفوا على أسرار الشريعة ومكامن الدين بفضل من اللّه سبحانه من دون أن يصيروا أنبياء.
  الثاني : عصمة الاَئمّة الاثني عشر :
  إنّ القول بعصمة الاَئمّة الاثني عشر وقعت ذريعة لتخيّل أنّهم أنبياء ، زاعمين بأنّ العصمة تساوي النبوّة ، غافلين عن أنّها أعمّ من النبوّة وإليك البيان :
  العصمة : قوّة تمنع صاحبها من الوقوع في المعصية والخطأ ، حيث لا يترك واجباً ، ولا يفعل محرّماً مع قدرته على الترك والفعل ، وإلاّ لم يستحقّ مدحاً ولا ثواباً ، وإن شئت قلت : إنّ المعصوم قد بلغ في التقوى حدّاً لا تتغلّب عليه الشهوات والاَهواء ، وبلغ من العلم في الشريعة وأحكامها مرتبة لا يخطأ معها أبداً.
  وليست العصمة شيئاً ابتدعته الشيعة وإنّما دلّهم عليها في حق العترة الطاهرة كتاب اللّه وسنّة رسوله ، أمّا الكتاب :
  فقد قال سبحانه : ( إنّما يُريدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجسَ أَهْلَ البيتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرا ) (الاَحزاب | 33) وليس المراد من الرجس إلاّ الرجس المعنوي وأظهره الفسق.
  وأمّا السنّة فنذكر بعضها :
  1 ـ قال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) : ( عليٌّ مـع الحـقّ والحـقّ مع

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 357 _

  عليّ يدور مـعه كيفما دار ) (1) ومن دار معه الحقّ كيفما دار محال أن يعصي أو أن يخطىَ.
  2 ـ وقال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في حقّ العترة : ( إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي ، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبداً ) (2) فإذا كانت العترة عدل القرآن ، تصبح معصومةً كالكتاب ، لا يخلف أحدهما الآخر وليس القول بعصمة العترة بأعظم من القول بكون الصحابة كلّهم عدول.
  ولا أظنّ أن يرتاب فيما ذكرنا أحد ، إلاّ أنّ اللازم التعرّف على أهل بيته عن طريق نصوص الرسول الاَكرم فنقول : من هم العترة وأهل البيت ؟
  لا أظنّ أنّ أحداً ، قرأ الحديث والتاريخ ، يشكّ في أنّ المراد من العترة وأهل البيت لفيف خاصّ من أهل بيته ، ويكفي في ذلك مراجعة الاَحاديث التي جمعها ابن الاَثير في جامعه عن الصحاح ، و نكتفي بالقليل من الكثير منها.
  روى الترمذي عن سعد بن أبي وقاص قال : لمّـا نزلت هذه الآية : ( فَقُلْ تَعالَوا نَدْعُ أبْناءَنا وأبْناءَكُمْ وَنِساءَنَا وَنِساءَكُمْ ... ) الآية ، دعا رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) عليّاً ، وفاطمة ، وحسناً ، وحسيناً ، فقال : ( اللّهمّ هوَلاء أهلي ).
  وروى أيضاً عن أُمّ سلمة ـ رضي اللّه عنها ـ : أنّ هذه الآية نزلت في بيتي : ( إنّما يُريدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجسَ أَهْلَ البيتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرا ) .
  قالت : وأنا جالسة عند الباب ، فقلت : يا رسول اللّه ، ألستُ من أهل البيت ؟ فقال : إنّك إلى خير ، أنت من أزواج رسول اللّه ، قال : وفي البيت رسول اللّه ، وعليّ ،

---------------------------
(1) حديث مستفيض ، رواه الخطيب في تاريخه : 14|321 ، والهيثمي في مجمعه : 7|236.
(2) حديث متواتر أخرجه مسلم في صحيحه والدارمي في فضائل القرآن وأحمد في مسنده : 2|114 وغيرهم.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 358 _

  وفاطمة ، وحسن ، وحسين ، فجلّلهم بكسائه وقال : ( اللّهمّ هوَلاء أهل بيتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ).
  وروى أيضاً عن أنس بن مالك : أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يمرُّ بباب فاطمة إذا خرج إلى الصلاة حين نزلت هذه الآية قريباً من ستة أشهر ، يقول : ( الصلاة أهل البيت ) : ( إنّما يُريدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجسَ أَهْلَ البيتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرا ) .
  وروى مسلم عن زيد بن أرقم قال : قال يزيد بن حيّان : انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم ، إلى زيد بن أرقم ، فلمّـا جلسنا إليه قال له حصين : لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً ، رأيت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وسمعت حديثه ، وغزوت معه ، وصلّيت خلفه ، لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً ، حدّثنا يازيد ما سمعت من رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟
  قال : يا ابن أخي واللّه ، لقد كبر سنّي ، وقدم عهدي ، فما حدّثتكم فاقبلوا وما لا فلا تكلّفونيه ، ثم قال : قام رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يوماً فينا خطيباً بماء يدعى خمّاً ، بين مكّة والمدينة ، فحمد اللّه وأثنى عليه ، ووعظ وذكر ثم قال : ( أمّا بعد ، ألا أيّها الناس ، إنّما أنا بشر ، يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأُجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين ، أوّلهما كتاب اللّه فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب اللّه واستمسكوا به ـ فحثّ على كتاب اللّه ورغّب فيه ، ثمّ قال : ـ وأهل بيتي ، أُذكّركم اللّه في أهل بيتي ، أُذكّركم اللّه في أهل بيتي ، أُذكّركم اللّه في أهل بيتي ) .
  فقلنا : من أهل بيته ؟ نساوَه ؟ قال : وأيم اللّه ، إنّ المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ، ثمّ يطلّقها فترجع إلى أبيها وقومها ، أهل بيته أصله وعصبته الذين

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 359 _

  حرموا الصدقة بعده (1)
  3 ـ روى المحدّثون عن النبيّ الاَكرم أنّه قال : (إنّما مثل أهل بيتي في أُمّتي ، كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق) (2)
  فشبّه ـ صلوات اللّه عليه وآله ـ أهل بيته بسفينة نوح في أنّ من لجأ إليهم في الدين فأخذ أُصوله وفروعه منهم نجا من عذاب النار ، ومن تخلّف عنهم كان كمن آوى يوم الطوفان إلى جبل ليعصمه من أمر اللّه غير أنّ ذاك غرق في الماء وهذا في الحميم.
  فإذا كانت هذه منزلة علماء أهل البيت (فأنّى تصرفون) ؟
  يقول ابن حجر في صواعقه : (ووجه تشبيههم بالسفينة : أنّ من أحبّهم وعظّمهم ، شكراً لنعمة مشرّفهم وأخذاً بهدي علمائهم ، نجا من ظلمة المخالفات ، ومن تخلّف عن ذلك ، غرق في بحر كفر النعم ، وهلك في مفاوز الطغيان) (3)

---------------------------
(1) لاحظ فيما نقلناه من الاَحاديث ، جامع الاُصول : 1| 100 ـ 103 الفصل الثالث ، من الباب الرابع.
(2) الحاكم : المستدرك : ج 2 |151 ، السيوطي : الخصائص الكبرى : 2|266 وللحديث طرق ومسانيد كثيرة من أراد الوقوف عليها ، فعليهبتعاليق إحقاق الحق : 9|270 ـ 293.
(3) الصواعق : 191 الباب 11 ، يقول سيدنا شرف الدين في مراجعاته : إلاّ أنّي مسائل ابن حجر أنّه إذا كان هذا مقام أهل البيت ، فلماذا لميأخذ هو بهدي أئمتهم في شيء من فروع الدين وعقائده ، ولا في شي من علوم السنّة والكتاب ولا في شيء من الاَخلاق والسلوك والآداب ؟ ولماذا تخلّف عنهم ، فأغرق نفسه في بحار كفر النعم ، وأهلكها في مفاوز الطغيان ؟!.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 360 _

عصمة الاِمام في الكتاب

  وممّا يدلّ على عصمة الاِمام على وجه الاطلاق قوله سبحانه : ( أطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِـي الاَمْرِ مِنْكُمْ ) (النساء | 59).
  والاستدلال مبنيّ على دعامتين :
  1 ـ إنّ اللّه سبحانه أمر بطاعة أولي الاَمر على وجه الاطلاق ، أي في جميع الاَزمنة والاَمكنة وفي جميع الحالات والخصوصيات ، ولم يقيّد وجوب امتثال أوامرهم ونواهيهم بشيء كما هو مقتضى الآية.
  2 ـ إنّ من البديهي أنّه سبحانه لا يرضى لعباده الكفر والعصيان ( ولا يَرضى لعبادِهِ الكُفرَ ) (الزمر | 7).
  من غير فرق بين أن يقوم به العباد ابتداءً من دون تدخّل أمر آمر أو نهي ناهٍ ، أو يقومون به بعد صدور أمر ونهي من أُولي الاَمر.
  فمقتضى الجمع بين هذين الاَمرين : وجوب إطاعة أُولي الاَمر على وجه الاطلاق وحرمة طاعتهم إذا أمروا بالعصيان ، وأن يتّصف أُولو الاَمر الذين وجبت إطاعتهم على وجه الاطلاق ، بخصوصية ذاتية وعناية إلهية ربّانية ، تصدّهم عن الاَمر بالمعصية والنهي عن الطاعة ، وليس هذا إلاّ عبارة أُخرى عن كونهم معصومين ، وإلاّ فلو كانوا غير واقعين تحت العناية ، لما صحّ الاَمر بإطاعتهم على وجه الاطلاق ولما صحّ الاَمر بالطاعة بلا قيد وشرط.
  فيستكشف من اطلاق الاَمر بالطاعة اشتمال المتعلّق على خصوصية تصدّه عن الاَمر بغير الطاعة.
  هذه الآية تدل على عصمة من أمر اللّه بطاعتهم ولا تحدد مصداق المعصوم الواجب طاعته ، ولكن اتفقت الاَمّة على عدم عصمة غير النبي والاَئمة الاثني عشر ، فلا محيص عن انطباقه عليهم لئلاّ تخلو الآية عن المصداق.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 361 _

  وممّن صرّح بدلالة الآية على العصمة الاِمام الرازي في تفسيره ويطيب لي أن أُذكر نصّه حتى يمعن فيه من يعشق الحقيقة قال : (إنّ اللّه تعالى أمر بطاعة أُولي الاَمر على سبيل الجزم في هذه الآية ، ومن أمر اللّه بطاعته على سبيل الجزم والقطع ، لابدّ وأن يكون معصوماً عن الخطأ ، إذ لو لم يكن معصوماً عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر اللّه بمتابعته ، فيكون ذلك أمراً بفعل ذلك الخطأ ، والخطأ لكونه خطأ منهيٌ عنه ، فهذا يفضي إلى اجتماع الاَمر والنهي في الفعل الواحدبالاعتبار الواحد ، وأنّه محال فثبت أنّ اللّه تعالى أمر بطاعة أُولي الاَمر على سبيل الجزم وثبت أنّ كلّ من أمر اللّه بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوماً عن الخطأ ، فثبت قطعاً أنّ أُولي الاَمر المذكور في هذه الآية لابدّ وأن يكون معصوماً) (1)
  تمّ بيد موَلّفه الفقير إلى رحمة اللّه جعفر السبحاني ابن الفقيه الشيخ محمد حسين التبريزي ـ قدّس اللّه سرّه ـ نحمده سبحانه ونشكره
  وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين

---------------------------
(1) مفاتيح الغيب : 10|144.