اتّفق المسلمون على عدم وجوب القبض الذي يعبّـر عنه بوضع اليمين على الشمال أو بالتكتيف أو بالتكفير (1) ولكن اختلفوا في حكمه في ما عدا الوجوب.
فقالت الحنفية : إنّ التكتّف مسنون وليس بواجب ، والاَفضل للرجل أن يضع باطن كفّه اليمنى على ظاهر كفّه اليسرى تحت سرّته ، وللمرأة أن تضع يديها على صدرها.
وقالت الشافعية : أنّه يُسَنُّ للرجل والمرأة ، والاَفضل وضع باطن يمناه على ظهر يسراه تحت الصدر وفوق السرة ، ممّا يلي الجانب الاَيسر.
وقالت الحنابلة : أنّه سنّة والاَفضل أن يضع باطن يمناه على ظاهر يسراه ، ويجعلها تحت السرة.
وقالت المالكية : بأنّه جائز ، ولكن يندب ارسال اليدين في صلاة الفرض.
---------------------------
(1) من تكفير العلج للملك ، بمعنى وضع يده على صدره ، والتضامن له.
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 62 _
فهوَلاء اتّفقوا على عدم وجوبه بينما تراه الاَكثرية أنّه مسنون ، والمالكية على خلافه ، وقد صرّح غير واحد من أهل السنّة بكونه غير واجب (1)
وقد نقل عن المالكيّة أنّ بعضهم استحبّه وبعضهم استحبّ الارسال وكرهه ، وبعضهم خَيّر بين الوضع والارسال (2)
وأمّا الشيعة ، فالمشهور بينهم كونه حراماً ومبطلاً وقال بعضهم : إنّه حرام وليس بمبطل ، إلى ثالث كالحلبي ، قال : إنّه مكروه ، ومن أراد أن يقف على دلائل القائلين والروايات المأثورة عن أئمّة أهل البيت في هذا المجال فليرجع إلى مظانّه (3).
ومع أنّ أهل السنّة اتّفقوا على عدم وجوبه ، فقد أثارت المسألة مشكلاً في الاَوساط الاِسلامية ، أنّ الشيعة بأجمعهم تبعاً للنهي عن أئمّة أهل البيت ، يرسلون الاَيدي في حال الصلاة فترى أنّ كثيراً من عوام أهل السنّة ينظرون إليهم بنظر خاص ، وربّما يعدّونهم مبتدعين بتركهم هذا العمل مع أنّ أقصى ما عندهم كونه أمراً مسنوناً ، ولا يعد ترك السنّة بدعة مع أنّ المالكية يكرهونه ، مضافاً إلى أنّ أئمة أهل البيت نهوا عنه.
وعلى كلّ تقدير فعلى المخلصين من دعاة التقريب السعي في أن لا يقع ارسال اليدين أو قبضهما ذريعة للتفرقة.
---------------------------
(1) محمد جواد مغنية : الفقه على المذاهب الخمسة : ص 110.
(2) صحيح مسلم : 1| 382 ، موَسسة عزّ الدين ، بيروت 1407.
(3) النجفي ، جواهر الكلام : 11| 15و 16 ، ولاحظ وسائل الشيعة : 4| 126 الباب 15 من أبواب قواطع الصلاة.
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 63 _
والمسألة لم تحدث مشكلاً بين الشيعة بل ربّما صارت ذريعة بين أهل السنّة للضرب والشتم وسفك الدم بحجّة أنّ إمام هذا المصلّـي يتكتّف على كيفية ، وإمام المصلّـي الآخر يقبض على كيفية أُخرى أو يرسل يديه.
يقول محمد صالح العثيمين : (لقد جرى في سنة من السنين مسألة في (منى) على يدي ويد بعض الاخوان ، وقد تكون غريبة عليكم ، حيث جيىَ بطائفتين ، وكل طائفة من ثلاثة أو أربـعة رجـال ، وكل واحدة تتهم الا َُخرى بالكفر واللعن ـ وهم حُجّاج ـ وخبر ذلك أنّ إحدى الطائفتين ، قالت : إنّ الا َُخرى إذا قامت تصلّـي وضعت اليد اليمنى على اليسرى فوق الصدر ، وهذا كفر بالسنّة ، حيث إنّ السنّة عند هذه الطائفة إرسال اليدين على الفخذين ، والطائفة الا َُخرى تقول : إنّ إرسال اليدين على الفخذين دون أن يجعل اليمنى على اليسرى ، كفر مبيح للّعن ، وكان النزاع بينهم شديداً.
ثمّ يقول : فانظر كيف لعب الشيطان بهم في هذه المسألة التي اختلفوا فيها ، حتّى بلغ أن كفَّر بعضهم بعضاً بسببها التي هي سنّة من السُّنن فليست من أركان الاِسلام ولا من فرائضه ، ولا من واجباته ، غاية ما هنالك إنّ بعض العلماء يرى أنّ وضع اليد اليمنى على اليسرى فوق الصدر هو السنّة وآخرين من أهل العلم يقولون : ( إنّ السنّة هو الارسال ، مع أنّ الصواب الذي دلّت عليه السنّة هو وضع اليد اليمنى على الذراع اليسرى ) (1)
وقد سمعت عن بعض الشباب المصريين في مكّة المكرّمة عام 1412 : أنّ
---------------------------
(1) محمد بن صالح العثيمين : دروس وفتاوى في الحرم المكّي ص 26.
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 64 _
الشباب المجاهدين في مصر الذين يقومون في وجه الحكومة المصرية الاستعمارية جرّهم البحث في هذه المسألة الى اختلاف شديد ما كانت تحمد عقباه لولا أن منَّ اللّه عليهم بائتلاف جديد.
أقول : لا أظنّ أنّ الشباب ولا الاخوان ولا غيرهم مقصّـرين في المسألة ، وإنّما التقصير في المسألة يرجع إلى العلماء والخطباء ، حيث يأمرون بالمسنون كأمرهم بالواجب ، فتظنّ العامّة أكثر المسنونات فرائض ، وكما أنّ ترك المسنون من رأس ، يخالف روح الشريعة فهكذا المداومة به على وجه يتخيّل الناس أنّه واجب كسائر الفرائض ، ليس ببعيد عن البدعة ، بل يجب الاصحار بالحقيقة مع المداومة.
إنّ النبيّ الاَكرم كان يفرّق الصلوات الخمس ، وربّما كان يجمع بينهما (1) لئلاّ يتخيّل الناس أنّ التفريق فريضة وللاَسف إنّه صار كذلك ، عند الفقيه والمتفقّه والمقلّد ، والحديث ذو شجون.
إنّ إمام كلّ صقع وخطيبه ، يعتقد أنّ ما عليه إمام مذهبه في الفقه هو الوحي المنزل الذي لا غبار عليه ، فانتهى ذلك إلى جهل المسلمين بأحكام صلواتهم إلى أن عاد يكفّر بعضهم بعضاً ، وهم مساكين لا يعلمون من الاِسلام شيئاً.
---------------------------
(1) روى مسلم عن ابن عباس قال : صلّـى رسول اللّه الظهر والعصر جميعاً بالمدينة في غير خوف ولا سفر ، قال أبو الزبير : فسألتسعيداً لِمَ فعل ذلك ؟ فقال : سألت ابن عباس كما سألتني فقال : أراد أن لا يحرج أحداً من أُمّته (صحيح مسلم : 2|151 باب الجمع بين الصلاتين في الحضر).
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 65 _
أضف إلى ذلك ، أنّ ما استدلّوا به من الروايات ، على كونه سنّة ، غير وافية باثباته أمراً مسنوناً ، فإليك بما استدلّوا به على كونه مسنوناً ـ والذي هو عند أئمة أهل البيت بدعة ـ وإليك دراسة ما روي في المقام.
إنّ مجموع ما يمكن الاستدلال به على أنّ القبض سنّة في الصلاة لا يعدو عن مرويات ثلاثة :
1 ـ حديث سهل بن سعد ، رواه البخاري.
2 ـ حديث وائل بن حجر ، رواه مسلم ونقلها البيهقي بأسانيد ثلاثة.
3 ـ حديث عبد اللّه بن مسعود ، رواه البيهقي في سننه.
وإليك دراسة كلّ حديث.
ألف : حديث سهل بن سعد : روى البخاري عن أبي حازم عن سهل بن سعد ، قال : ( كان الناس يُوَمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة ) قال أبو حازم : لا أعلمه إلاّ يَنمي ذلك إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (1)
قال إسماعيل (2) : يُنمى ذلك ولم يقل يَنمي.
والرواية متكفّلة لبيان كيفية القبض إلاّ أنّ الكلام في دلالته على وروده من النبي الاَكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا يدلّ عليه بوجهين :
---------------------------
(1) ابن حجر ، فتح الباري في شرح صحيح البخاري : 2| 224 ، باب وضع اليمنى على اليسرى ، ورواه البيهقي في السنن الكبرى : 2 | 28 الحديث 3 في باب وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة.
(2) المراد : إسماعيل بن أبي اويس شيخ البخاري كما جزم به الحميدي ، لاحظ فتح الباري : 5 |325..
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 66 _
أوّلاً : لو كان النبيّ الاَكرم هو الآمر بالقبض فما معنى قوله : ( كان الناس يُوَمرون ) ؟ أوَ ما كان الصحيح عندئذ أن يقول : كان النبيّ يأمر ؟ أو ليس هذا دليلاً على أنّ الحكم نجم بعد ارتحال النبيّ الاَكرم حيث إنّ الخلفاء وأُمراءهم كانوا يأمرون الناس بالقبض بتخيّل أنّه أقرب للخشوع ؟ ولاَجله عقد البخاري بعده باباً باسم باب الخشوع ، قال ابن حجر : الحكمة في هذه الهيئة أنّه صفة السائل الذليل ، وهو أمنع عن العبث وأقرب إلى الخشوع ، كان البخاري قد لاحظ ذلك وعقبه بباب الخشوع .
وثانياً : إنّ في ذيل السند ما يوَيّد أنّه كان من عمل الآمرين ، لا الرسول الاَكرم نفسه حيث قال :
قال إسماعيل : ( لا أعلمه إلاّ يُنمى ذلك إلى النبي ) بناءً على قراءة الفعل بصيغة المجهول.
ومعناه أنّه لا يعلم كونه أمراً مسنوناً في الصلاة غير أنّه يُعزى وينسب إلى النبيّ ، فيكون ما يرويه سهل بن سعد مرفوعاً.
قال ابن حجر : ومن اصطلاح أهل الحديث إذا قال الراوي : ينميه ، فمراده : يرفع ذلك إلى النبيّ (1) هذا كلّه إذا قرأناه بصيغة المجهول ، وأمّا إذا قرأناه بصيغة المعلوم ، فمعناه أنّ سهلاً ينسب ذلك إلى النبيّ ، فعلى فرض صحّة القراءة وخروجه بذلك من الارسال والرفع ، يكون قوله : ( لا أعلمه إلاّ ... ) معرباً عن ضعف العزو والنسبة وأنّه سمعه عن رجل آخر ولم يسم.
---------------------------
(1) المصدر السابق ، هامش رقم (1).
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 67 _
ب ـ حديث وائل بن حجر :
وروي بصور :
1 ـ روى مسلم عن وائل بن حجر : أنّه رأى النبيّ رفع يديه حين دخل في الصلاة كبّـر ثم التحف بثوبه ثمّ وضع يده اليمنى على اليسرى ، فلمّـا أراد أن يركع أخرج يديه من الثوب ، ثمّ رفعهما ثمّ كبّـر فركع ... (1)
والاحتجاج بالحديث احتجاج بالفعل ، ولا يُحتجّ به إلاّ أن يعلم وجهه ، وهو بعد غير معلوم لاَنّ ظاهر الحديث أنّ النبيّ جمع أطراف ثوبه فغطّـى صدره به ، ووضع يده اليمنى على اليسرى وهل فعل ذلك لاَجل كونه أمراً مسنوناً في الصلاة ، أو فعله لئلاّ يسترخي الثوب بل يلصق الثوب بالبدن ويتّقي به نفسه عن البرد ؟ والفعل أمر مجهول العنوان ، لايكون حجّة إلاّ إذا علم أنّه فعل به لاَجل كونه مسنوناً.
إنّ النبيّ الاَكرم صلّـى مع المهاجرين والاَنصار أزيد من عشر سنوات ، فلو كان ذلك ثابتاً من النبيّ لكثر النقل وذاع ، ولما انحصر نقله بوائل بن حجر ، مع ما في نقله من الاحتمالين.
نعم روي بصورة أُخرى ليس فيه قوله "ثمّ التحف بثوبه" وإليك صورته :
---------------------------
(1) مسلم : الصحيح : 1| 382 ، الباب الخامس من كتاب الصلاة ، باب وضع يده اليمنى على اليسرى ، وفي سند الحديث ( همّام ) ولو كان المقصود ، هو همام بن يحيى فقد قال ابن عمار في ه: كان يحيى القطان لا يعبأ بـ ( همام ) وقال عمر بن شيبة : حدثنا عفان قال : كان يحيى بن سعيد يعترض على همّام في كثير من حديثه ، وقال أبو حاتم : ثقة في حفظه ، لاحظ هدى الساري : 1| 449.
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 68 _
2 ـ روى البيهقي بسنده عن موسى بن عمير : حدثني علقمة بن وائل عن أبيه : أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا قام في الصلاة قبض على شماله بيمينه ورأيت علقمة يفعله (1)
وبما أنّه إذا دار الاَمر بين الزيادة والنقيصة فالثانية هي المتعيّنة ، فيلاحظ عليها بما لوحظ على الا َُولى وأنّ وجه الفعل غير معلوم.
على أنّه لو كان النبيّ مقيماً على هذا العمل ، لاشتهر بين الناس ، مع أنّ قوله : ( ورأيت علقمة يفعله" يعرب عن أنّ الرواي تعرّف على السنّة من طريقه ).
3 ـ رواه البيهقي أيضاً بسند آخر عن وائل بن حجر (2) ويظهر الاشكال فيه بنفس ما ذكرناه في السابق.
4 ـ روى البيهقي مسنداً عن ابن مسعود ـ رضى اللّه عنه ـ أنّه كان يصلّـي فوضع يده اليسرى على اليمنى فرآه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فوضع يده اليمنى على اليسرى (3)
يلاحظ عليه مضافاً إلى أنّه من البعيد أن لا يعرف مثل عبد اللّه بن مسعود ذلك الصحابي الجليل ما هو المسنون في الصلاة مع أنّه من السابقين في الاِسلام : أنّ في السند هشيم بن بشير وهو مشهور بالتدليس (4)
---------------------------
(1) سنن البيهقي : 2|28 وفي سند الحديث عبد اللّه بن جعفر ، فلو كان هو ابن نجيح قال ابن معين : ليس بشيء ، وقال النسائي : متروك ، وكان وكيع إذا أتى على حديثه جزّ عليه ، متّفق على ضعفه ، لاحظ دلائل الصدق للشيخ محمد حسن المظفّر : 1|87.
(2) المصدر نفسه وفي سنده عبد اللّه بن رجاء ، قال عمرو بن علي الفلاس : كان كثير الخلط والتصحيف ، ليس بحجّة ، لاحظ هدى الساري : 1| 437.
(3) سنن البيهقي : 2|28 باب وضع اليد اليمنى على اليسرى الحديث 5.
(4) هدى الساري : 1|449.
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 69 _
ولاَجل ذلك نرى أنّ أئمّة أهل البيت كانوا يتحرّزون عنه ويرونه من صنع المجوس أمام الملك .
روى محمد بن مسلم عن الصادق أو الباقر (عليهما السلام) قال : قلت له : الرجل يضع يده في الصلاة ـ وحكى ـ اليمنى على اليسرى ؟ فقال : ذلك التكفير ، لا يفعل.
وروى زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) أنّه قال : وعليك بالاقبال على صلاتك ، ولا تكفّر ، فإنّما يصنع ذلك المجوس.
وروى الصدوق باسناده عن علي (عليه السلام) أنّه قال : لا يجمع المسلم يديه في صلاته وهو قائم بين يدي اللّه عزّ وجلّ يتشبّه بأهل الكفر ـ يعني المجوس ـ (1).
على أنّ الاعتبار لو قلنا بحجّية الاستحسان ، يقتضي أن يقوم العبد أمام الربّ مرسل اليد ، لاَنّ التكتّف شعار المتمرّدين الذين أُلقي عليهم القبض فصاروا أسارى أمام الملوك والجبابرة ـ ومقام المصلّي أمام الله فوق ذلك فهو عبد خاضع خاشع لا يملك لنفسه موتاً ولا حياة ولا بعثاً ولا نشورا ، فالاَولى أن يطرق رأسه ويقوم أمام الله سبحانه مشعراً بأنّه لا يملك شيئاً وأنّه أذلّ من كلّ شيء ، والقبض اشعار بالشخصية المقهورة ، وعباد الرحمن الذين يبيتون لربّهم سجّداً وقياما ، وتتججافى جنوبهم عن المضاجع ، أعلى منزلة من ذلك .
وفي الختام نلفت نظر القارىَ إلى كلمة صدرت من الدكتور علي السالوس :
---------------------------
(1) الحر العاملي : الوسائل 4| الباب الخامس عشر من أبواب قواطع الصلاة ، الحديث 1 و 2 و 7.
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 70 _
فهو بعد ما نقل آراء فقهاء الفريقين ، وصف القائلين بالتحريم والابطال بقوله : ( وأُولئك الذين ذهبوا إلى التحريم والاِبطال ، أو التحريم فقط ، يمثّلون التعصّب المذهبي وحبّ الخلاف ، تفريقاً بين المسلمين ) (1)
ما ذنب الشيعة إذا هداهم الاجتهاد والفحص في الكتاب والسنّة إلى أنّ القبض أمر حدث بعد النبيّ الاَكرم وكان الناس يوَمرون بذلك أيام الخلفاء ، فمن زعم أنّه جزء من الصلاة فرضاً أو استحباباً ، فقد أحد ث في الدين ما ليس منه ، أفهل جزاء من اجتهد أن يرمى بالتعصّب المذهبي وحبّ الخلاف ؟!
ولو صحّ ذلك ، فهل يمكن توصيف الاِمام مالك به ؟ لاَنّه كان يكره القبض مطلقاً أو في الفرض أفهل يصحّ رمي إمام دار الهجرة بأنّه كان يحبّ الخلاف ؟!
أجل لماذا لا يكون عدم الارسال ممثلاً للتعصّب المذهبي وحبّ الخلاف بين المسلمين ، ياترى ؟!
---------------------------
(1) فقه الشيعة الاِمامية ومواضع الخلاف بينه وبين المذاهب الاَربعة | 183.
لعلّ من أوضح مظاهر العبودية والانقياد والتذلّل من قبل المخلوق لخالقه ، هو السجود ، وبه يوَكد الموَمن عبوديته الموَكّدة للّه تعالى ، ومن هنا فانّ البارىَ عزّ اسمه يقدّر لعبده هذا التصاغر وهذه الطاعة فيضفي على الساجد فيض لطفه وعظيم إحسانه ، لذا روي في بعض المأثورات ( أقرب ما يكون العبد إلى ربّه حال سجوده ) .
ولمّا كانت الصلاة من بين العبادات معراجاً يتميّز بها الموَمن عن الكافر ، وكان السجود ركناً من أركانها ، فليس هناك أوضح في إعلان التذلّل للّه تعالى من السجود على التراب والرمل والحجر والحصى ، لما فيه من التذلّل شيء أوضح وأبين من السجود على الحصر والبواري ، فضلاً عن السجود على الاَلبسة الفاخرة والفرش الوثيرة والذهب والفضّة ، وإن كان الكلّ سجوداً ، إلاّ أنّ العبودية تتجلّى في الاَوّل بما لا تتجلّى في غيره.
والاِمامية ملتزمة بالسجدة على الاَرض في حضرهم وسفرهم ، ولا يعدلون عنها إلاّ إلى ما أُنبت منها من الحصر والبواري بشرط أن لا يوَكل ولا يلبس ، ولا
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 72 _
يرون السجود على غيرهما صحيحاً في حال الصلاة أخذاً بالسنّة المتواترة عن النبيّ الاَكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته وصحبه ، وسيظهر ـ في ثنايا البحث ـ أنّ الالتزام بالسجود على الاَرض أو ما أنبتت ، كانت هي السنّة بين الصحابة ، وأنّ العدول عنها حدث في الاَزمنة المتأخرّة ، ولاَجل توضيح المقام نقدّم أُموراً :
1 ـ اختلاف الفقهاء في شرائط المسجود عليه : اتّفق المسلمون على وجوب السجود في الصلاة في كلّ ركعة مرّتين ، ولم يختلفوا في المسجود له ، فإنّه هو اللّه سبحانه الذي له يسجد من في السموات والاَرض طوعاً وكرهاً (1) وشعار كلّ مسلم قوله سبحانه : ( لا تَسجُدُوا لِلشَّمسِ ولا للقَمَرِ واسجُدُوا للّهِ الَّذي خَلَقَهُنَّ ) (2) وإنّما اختلفوا في شروط المسجود عليه ـ أعني ما يضع الساجد جبهته عليه ـ فالشيعة الاِمامية تشترط كون المسجود عليه أرضاً أو ما ينبت منها غير مأكول ولا ملبوس كالحصر والبواري ، وما أشبه ذلك ، وخالفهم في ذلك غيرهم من المذاهب ، وإليك نقل الآراء : قال الشيخ الطوسي (3) ـ وهو يبيّن آراء الفقهاء ـ : لا يجوز السجود إلاّ على الاَرض أو ما أنبتته الاَرض ممّا لا يوَكل ولا يلبس من قطن أو كتان مع الاختيار.
---------------------------
(1) إشارة إلى قوله سبحانه : ( وَللّهِ يَسْجُدُ مَنْ في السَّمواتِ والاَرضِ طَوْعاً وَكرْهاً وظلالُهُم بِالغُدُوِّ وَالآصالِ ) ـ الرعد | 15 ـ .
(2) فصلت : الآية 37.
(3) من أعلام الشيعة في القرن الخامس صاحب التصانيف والموَلّفات ولد 385 هـ وتوفّي عام 460 هـ من تلاميذ الشيخ المفيد 336 ـ 413 هـ ، والسيّد الشريف المرتضى 355 ـ 436 هـ ـ رضي اللّه عنهما ـ .
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 73 _
وخالف جميع الفقهاء في ذلك حيث أجازوا السجود على القطن والكتان والشعر والصوف وغير ذلك ـ إلى أن قال ـ : لا يجوز السجود على شيء هو حامل له ككور العمامة ، وطرف الرداء ، وكم القميص ، وبه قال الشافعي ، وروي ذلك عن علي ـ عليه الصلاة والسلام ـ وابن عمر ، وعبادة بن الصامت ، ومالك ، وأحمد بن حنبل.
وقال أبو حنيفة وأصحابه : إذا سجد على ما هو حامل له كالثياب التي عليه أجزأه.
وإن سجد على ما لا ينفصل منه مثل أن يفترش يده ويسجد عليها أجزأه لكنّه مكروه ، وروي ذلك عن الحسن البصري (1)
وقال العلاّمة الحلّي (2) ـ وهو يبيّن آراء الفقهاء فيما يسجد عليه ـ : لا يجوز السجود على ما ليس بأرض ولا من نباتها كالجلود والصوف عند علمائنا أجمع ، وأطبق الجمهور على الجواز.
وقد اقتفت الشيعة في ذلك أئمتهم الذين هم أعدال الكتاب وقرناوَه في حديث الثقلين ونحن نكتفي هنا بإيراد شيء ممّا روي في هذا الجانب : روى الصدوق باسناده عن هشام بن الحكم أنّه قال لاَبي عبد اللّه ـ عليه السلام ـ : أخبرني عمّا يجوز السجود عليه ، وعمّا لا يجوز ؟ قال : ( السجود لا يجوز إلاّ على الاَرض ، أو على ما أنبتت الاَرض إلاّ ما اُكل أو لبس ) فقال له : جعلت فداك ما العلّة في ذلك ؟
---------------------------
(1) الخلاف : 1 كتاب الصلاة | 357 ـ 358 ، المسألة 112 ـ 113.
(2) الحسن بن يوسف بن المطهر الحلّي 648 ـ 726هـ وهو زعيم الشيعة في القرن السابع ، لا يسمح الدهر بمثله إلاّ في فترات خاصة.
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 74 _
قال : ( لاَنّ السجود خضوع للّه عزّ وجلّ فلا ينبغي أن يكون على ما يوَكل ويلبس ، لاَنّ أبناء الدنيا عبيد ما يأكلون ويلبسون ، والساجد في سجوده في عبادة اللّه عزّ وجلّ ، فلا ينبغي أن يضع جبهته في سجوده على معبود أبناء الدنيا الذين اغترّوا بغرورها ) (1)
فلا عتب على الشيعة إذا التزموا بالسجود على الاَرض أو ما أنبتته إذا لم يكن مأكولاً ولا ملبوساً اقتداءً بأئمّتهم ، على أنّ ما رواه أهل السنّة في المقام ، يدعم نظريّة الشيعة ، وسيظهر لك فيما سيأتي من سرد الاَحاديث من طرقهم ، ويتّضح أنّ السنّة كانت هي السجود على الاَرض ، ثمّ جاءت الرخصة في الحصر والبواري فقط ، ولم يثبت الترخيص الآخر بل ثبت المنع عنه كما سيوافيك.
روى المحدث النوري في المستدرك عن دعائم الاِسلام : عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن علي (عليهم السلام) ، أنّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : ( إنّ الاَرض بكم برّة ، تتيمّمون منها ، وتصلّون عليها في الحياة (الدنيا) وهي لكم كفاة في الممات ، وذلك من نعمة اللّه ، له الحمد ، فأفضل ما يسجد عليه المصلّـي الاَرض النقيّة ).
وروى أيضاً عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) أنّه قال : ( ينبغي للمصلّـي أن يباشر بجبهته الاَرض ، ويعفّر وجهه في التراب ، لاَنّه من التذلّل للّه ) (2)
وقال الشعراني ـ ما هذا نصّه ـ : المقصود اظهار الخضوع بالرأس حتى يمسّ الاَرض بوجهه الذي هو أشرف أعضائه ، سواء كان ذلك بالجبهة أو الاَنف ، بل
---------------------------
(1) الوسائل : ج 3 ، الباب 1 من أبواب ما يسجد عليه ، الحديث 1 ، وهناك روايات بمضمونه ، والكلّ يتضمّن أنّ الغاية من السجود التي هيالتذلّل لا تحصل بالسجود على غيرها فلاحظ.
(2) مستدرك الوسائل : 4 باب 10 من أبواب ما يسجد عليه ، ولعلّ الحديث ورد في أوائل الهجرة وقد كان المسلمون آنذاك يسجدون علىالاَرض فقط ولا منافاة بينه وبين ما يأتي من الرخصة بالنسبة إلى ما أنبتته الاَرض.
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 75 _
ربّما كان الاَنف عند بعضهم أولى بالوضع من حيث إنّه مأخوذ من الاَنفة والكبرياء ، فإذا وضعه على الاَرض ، فكأنّه خرج عن الكبرياء التي عنده بين يدي اللّه تعالى إذ الحضرة الاِلهية محرّم دخولها على من فيه أدنى ذرة من كبر فانّها هي الجنة الكبرى حقيقة وقد قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : ( لايدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر ) (1)
نقل الاِمام المغربي المالكي الروداني : عن ابن عباس رفعه : من لم يلزق أنفه مع جبهته بالاَرض إذا سجد لم تجز صلاته (2)
2 ـ الفرق بين المسجود له والمسجود عليه : كثيراً ما يتصوّر أنّ الالتزام بالسجود على الاَرض أو ما أنبتت منها بدعة ويتخيّل الحجر المسجود عليه وثناً ، وهوَلاء هم الذين لا يفرّقون بين المسجود له ، والمسجود عليه ، ويزعمون أنّ الحجر أو التربة الموضوعة أمام المصلّي وثناً يعبده المصلّي بوضع الجبهة عليه ، ولكن لا عتب على الشيعة إذا قصر فهم المخالف ، ولم يفرّق بين الاَمرين ، وزعم المسجود عليه مسجوداً له ، وقاس أمر الموحّد بأمر المشرك بحجّة المشاركة في الظاهر ، فأخذ بالصور والظواهر ، مع أنّ الملاك هو الاَخذ بالبواطن والضمائر ، فالوثن عند الوثني معبود ومسجود له يضعه أمامه ويركع ويسجد له ، ولكن الموحّد الذي يريد أن يصلّـي في إظهار العبودية إلى
---------------------------
(1) اليواقيت والجواهر في عقائد الاَكابر : عبد الوهاب بن أحمد بن علي الاَنصاري المصري المعروف بالشعراني (من أعيان علماء القرنالعاشر ) : 1| 164 ، الطبعة الا َُولى.
(2) محمد بن محمد بن سليمان المغربي (المتوفى عام 1049) : جمع الفوائد من جامع الا َُصول ومجمع الزوائد : 1|214 برقم 1515.
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 76 _
نهاية مراتبها ، يخضع للّه سبحانه ويسجد له ، ويضع جبهته ووجهه على التراب والحجر والرمال والحصى ، مظهراً بذلك مساواته معها عند التقييم قائلاً : أين التراب وربّ الاَرباب.
نعم : الساجد على التربة غير عابد لها ، بل يتذلّل إلى ربّه بالسجود عليها ، ومن توهّم عكس ذلك فهو من البلاهة بمكان ، وسيوَدي إلى إرباك كلّ المصلين والحكم باشراكهم ، فمن يسجد على الفرش والقماش وغيره لابدّ أن يكون عابداً لها على هذا المنوال فيا للعجب العجاب !!
3 ـ السنّة في السجود في عصر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعده : إنّ النبي الاَكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وصحبه كانوا ملتزمين بالسجود على الاَرض مدّة لا يستهان بها ، متحمّلين شدّة الرمضاء ، وغبار التراب ، ورطوبة الطين ، طيلة أعوام. ولم يسجد أحد يوم ذاك على الثوب وكور العمامة بل ولا على الحصر والبواري والخمر ، وأقصى ما كان عندهم لرفع الاَذى عن الجبهة ، هو تبريد الحصى بأكفّهم ثمّ السجود عليها ، وقد شكى بعضهم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) من شدّة الحرّ ، فلم يجبه ، إذ لم يكن له أن يبدل الاَمر الاِلهي من تلقاء نفسه ، إلى أن وردت الرخصة بالسجود على الخمر والحصر ، فوسع الاَمر للمسلمين لكن في إطار محدود ، وعلى ضوء هذا فقد مرّت في ذلك الوقت على المسلمين مرحلتان لا غير :
1 ـ ما كان الواجب فيها على المسلمين السجود على الاَرض بأنواعها المختلفة من التراب والرمل والحصى والطين ، ولم تكن هناك أيّة رخصة لغيرها.
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 77 _
2 ـ المرحلة التي ورد فيها الرخصة بالسجود على نبات الاَرض من الحصى والبواري والخمر ، تسهيلاً للاَمر ، ورفعاً للحرج والمشقّة ، ولم تكن هناك أيّة مرحلة أُخرى توسع الاَمر للمسلمين أكثر من ذلك كما يدّعيه البعض ، وإليك البيان :
المرحلة الاَولى : السجود على الاَرض
1 ـ روى الفريقان عن النبيّ الاَكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال : ( وجُعلت لي الاَرض مسجداً وطهوراً ) (1) والمتبادر من الحديث أنّ كلّ جزء من الاَرض مسجد وطهور يُسجد عليه ويُقصد للتيمّم ، وعلى ذلك فالاَرض تقصد للجهتين : للسجود تارةً ، وللتيمّم اُخرى.
وأمّا تفسير الرواية بأنّ العبادة والسجود للّه سبحانه لا يختص بمكان دون مكان ، بل الاَرض كلّها مسجد للمسلمين بخلاف غيرهم حيث خصّوا العبادة بالبِيَع والكنائس ، فهذا المعنى ليس مغايراً لما ذكرناه ، فإنّه إذا كانت الاَرض على وجه الاِطلاق مسجداً للمصلّي فيكون لازمه كون الاَرض كلّها صالحة للعبادة ، فما ذكر معنى التزامي لما ذكرناه ، ويعرب عن كونه المراد ذكر (طهوراً) بعد (مسجداً) وجعلهما مفعولين لـ (جُعلت) والنتيجة هو توصيف الاَرض بوصفين : كونه مسجداً وكونه طهوراً ، وهذا هو الذي فهمه الجصاص وقال : إنّ ماجعله من الاَرض مسجداً هو الذي جعله طهوراً (2) ومثله غيره من شرّاح الحديث.
---------------------------
(1) صحيح البخاري : 1|91 كتاب التيمّم الحديث 2 وسنن البيهقي : 2|433 باب : أينما أدركتك الصلاة فصل فهو مسجد ، ورواه غيرهما من أصحاب الصحاح والسنن.
(2) أحكام القرآن للجصاص : 2|389 نشر بيروت.
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 78 _
تبريد الحصى للسجود عليها :
2 ـ عن جابر بن عبد اللّه الاَنصاري ، قال : كنت اُصلّي مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) الظهر ، فآخذ قبضة من الحصى ، فأجعلها في كفّي ثمّ اُحوّلها إلى الكف الا َُخرى حتى تبرد ثمّ أضعها لجبيني ، حتّى أسجد عليها من شدّة الحرّ (1)
وعلّق عليه البيهقي بقوله : قال الشيخ : ولو جاز السجود على ثوب متّصل به لكان ذلك أسهل من تبريد الحصى بالكف ووضعها للسجود (2)
ونقول : ولو كان السجود على مطلق الثياب سواء كان متصلاً أم منفصلاً جائزاً لكان أسهل من تبريد الحصى ، ولاَمكن حمل منديل أو ما شابه للسجود عليه.
3 ـ روى أنس قال : كنّا مع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) في شدّة الحرّ فيأخذ أحدنا الحصباء في يده فإذا برد وضعه وسجد عليه (3)
4 ـ عن خباب بن الاَرت قال : شكونا إلى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) شدّة الرمضاء في جباهنا وأكفّنا فلم يشكنا (4)
قال ابن الاَثير في معنى الحديث : إنّهم لمّا شكوا إليه ما يجدون من ذلك لم يفسح لهم أن يسجدوا على طرف ثيابهم (5)
---------------------------
(1) مسند أحمد : 3| 327 من حديث جابر وسنن البيهقي : 1|439 باب ما روي في التعجيل بها في شدّة الحرّ.
(2) سنن البيهقي : 2|105.
(3) السنن الكبرى : 2|106.
(4) سنن البيهقي : 2|105 باب الكشف عن الجبهة.
(5) ابن الاَثير : النهاية : 2|497 مادة (شكى).
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 79 _
هذه المأثورات تعرب عن أنّ السنّة في الصلاة كانت جارية على السجود على الاَرض فقط ، حتّى أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يفسح للمسلمين العدول عنها إلى الثياب المتّصلة أو المنفصلة ، وهو (صلى الله عليه وآله وسلم) مع كونه بالموَمنين روَوفاً رحيماً أوجب عليهم مسّ جباههم الاَرض ، وإن آذتهم شدّة الحرّ.
والذي يعرب عن التزام المسلمين بالسجود على الاَرض ، وعن إصرار النبي الاَكرمبوضع الجبهة عليها لا على الثياب المتّصلة ككور العمامة أو المنفصلة كالمناديل والسجاجيد ، ما روي من حديث الاَمر بالتتريب في غير واحد من الروايات.
الاَمر بالتتريب :
6 ـ عن خالد الجهني : قال : رأى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) صهيباً يسجد كأنّه يتّقي التراب فقال له : (ترّب وجهك يا صهيب) (1)
7 ـ والظاهر أنّ صهيباً كان يتّقي عن التتريب ، بالسجود على الثوب المتّصل والمنفصل ، ولا أقل بالسجود على الحصر والبواري والاَحجار الصافية ، وعلى كلّ تقدير ، فالحديث شاهد على أفضليّة السجود على التراب في مقابل السجود على الحصى لما مرّ من جواز السجدة على الحصى في مقابل السجود على غير الاَرض.
8 ـ روت أُمّ سلمة ـ رضي اللّه عنها ـ : رأى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غلاماً لنا يقال له أفلح ينفخ إذا سجد ، فقال : ( يا أفلح ترّب ) (2)
---------------------------
(1) المتقي الهندي : كنز العمال : 7|465 برقم 19810.
(2) المصدر نفسه : 7|459 برقم 19776.
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 80 _
9 ـ وفي رواية : ( يا رباح ترّب وجهك ) (1)
10 ـ روى أبو صالح قال : دخلت على أُمّ سلمة ، فدخل عليها ابن أخ لها فصلّى في بيتها ركعتين ، فلمّا سجد نفخ التراب ، فقالت أُمّ سلمة : ابن أخي لا تنفخ ، فإنّي سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول لغلام له يقال له يسار ـ ونفخ ـ : ( ترّب وجهك للّه ) (2)
الاَمر بحسر العمامة عن الجبهة :
11 ـ روي : أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا سجد رفع العمامة عن جبهته (3).
12 ـ روي عن علي أمير الموَمنين أنّه قال : ( إذا كان أحدكم يصلّي فليحسر العمامة عن وجهه ) ، يعني حتّى لا يسجد على كور العمامة (4)
13 ـ روى صالح بن حيوان السبائي : أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) رأى رجلاً يسجد بجنبه وقد اعتمّ على جبهته فحسر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) عن جبهته (5)
14 ـ عن عياض بن عبد اللّه القرشي : رأى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) رجلاً يسجد على كور عمامته فأومأ بيده : (ارفع عمامتك) وأومأ إلى جبهته (6).
هذه الروايات تكشف عن أنّه لم يكن للمسلمين يوم ذاك تكليف إلاّ
---------------------------
(1) المتقي الهندي : كنز العمال : 7|459 برقم 19777.
(2) المصدر نفسه : 7|465 ، برقم 19810 ومسند أحمد : 6|301.
(3) ابن سعد : الطبقات الكبرى : 1|151 كما في السجود على الاَرض 41.
(4) منتخب كنز العمال المطبوع في هامش المسند : 3|194.
(5) البيهقي : السنن الكبرى : 2|105.
(6) المصدر نفسه.
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 81 _
السجود على الاَرض ، ولم يكن هناك أي رخصة سوى تبريد الحصى ، ولو كان هناك ترخيص لما فعلوا ذلك ، ولما أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتتريب ، وحسر العمامة عن الجبهة.
المرحلة الثانية : الترخيص في السجود على الخُمر والحصر :
هذه الاَحاديث والمأثورات المبثوثة في الصحاح والمسانيد وسائر كتب الحديث تعرب عن التزام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه بالسجود على الاَرض بأنواعها ، وأنّهم كانوا لا يعدلون عنه ، وإن صعب الاَمر واشتدّ الحرّ ، لكن هناك نصوصاً تعرب عن ترخيص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ بايحاء من اللّه سبحانه إليه ـ السجود على ما أنبتت الاَرض ، فسهل لهم بذلك أمر السجود ، ورفع عنهم الاصر والمشقّة في الحرّ والبرد ، وفيما إذا كانت الاَرض مبتلّة ، وإليك تلك النصوص :
1 ـ عن أنس بن مالك قال : كان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلّـي على الخمرة (1)
2 ـ عن ابن عباس : كان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلّي على الخمرة ، وفي لفظ : وكان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلّي على الخمرة (2)
3 ـ عن عائشة : كان النبيّيصلّي على الخمرة (3)
4 ـ عن أُمّ سلمة : كان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلّي على الخمرة (4).
---------------------------
(1) أبو نعيم الاصفهاني : أخبار اصبهان : 2|141.
(2) مسند أحمد : 1|269 ـ 303 ـ 309 و358.
(3) المصدر نفسه : 6|179 وفيه أيضاً قال للجارية وهو في المسجد : ناوليني الخمرة.
(4) المصدر نفسه : 302.
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 82 _
5 ـ عن ميمونة : ورسول اللّهيصلّي على الخمرة فيسجد (1)
6 ـ عن أُمّ سليم قالت : كان [رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ] يصلّي على الخمرة (2).
7 ـ عن عبد اللّه بن عمر : كان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلّي على الخمر (3).
قد عرفت المرحلتين الماضيتين ، ولو كانت هناك مرحلة ثالثة فإنّما هي مرحلة جواز السجود على غير الاَرض وما ينبت منها لعذر وضرورة ، ويبدو أنّ هذا الترخيص جاء متأخّراً عن المرحلتين لما عرفت أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يُجب شكوى الاَصحاب من شدّة الحرّ والرمضاء ، وراح هو وأصحابه يسجدون على الاَرض متحمّلين الحرّ والاَذى ، ولكنّ الباري عزّ اسمه رخّص لرفع الحرج السجود على الثياب لعذر وضرورة ، وإليك ما ورد في هذا المقام :
1 ـ عن أنس بن مالك : كنّا إذا صلّينا مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الاَرض ، طرح ثوبه ثم سجد عليه.
2 ـ وفي صحيح البخاري : كنّا نصلّي مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فيضع أحدنا طرف الثوب من شدّة الحر ، فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكّن جبهته من الاَرض ، بسط ثوبه.
3 ـ وفي لفظ ثالث : كنّا إذا صلّينا مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فيضع
---------------------------
(1) مسند أحمد : 6| 331 ـ 335.
(2) المصدر نفسه : 377.
(3) المصدر نفسه : 2|92 ـ 98.
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 83 _
أحدنا طرف الثوب من شدّة الحرّ مكان السجود (1)
وهذه الرواية التي نقلها أصحاب الصحاح والمسانيد تكشف حقيقة بعض ما روي في ذلك المجال الظاهر في جواز السجود على الثياب في حالة الاختيار أيضاً ، وذلك لاَنّ رواية أنس نصّ في أنّهم كانوا يفعلون ذلك حالة الضرورة ، فتكون قرينة على المراد من هذه المطلقات ، وإليك بعض ما روي في هذا المجال :
1 ـ عبد اللّه بن محرز عن أبي هريرة : كان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلّي على كور عمامته (2)
إنّ هذه الرواية مع أنّها معارضة لما مرّ من نهي النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عن السجود عليه ، محمولة على العذر والضرورة ، وقد صرّح بذلك الشيخ البيهقي في سننه ، حيث قال : قال الشيخ : (وأمّا ما روي في ذلك عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من السجود على كور العمامة فلا يثبت شيء من ذلك ، وأصحّ ما روي في ذلك قول الحسن البصري حكاية عن أصحاب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ) (3).
وقد روي عن ابن راشد قال : رأيت مكحولاً يسجد على عمامته فقلت : لما تسجد عليها ؟ قال أتّقي البرد على أسناني (4)
2 ـ ما روي عن أنس : كنّا نصلّي مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فيسجد
---------------------------
(1) صحيح البخاري : 1|101 ، صحيح مسلم : 2|109 ، مسند أحمد : 1|100 ، السنن الكبرى : 2|106.
(2) كنز العمال : 8|130 برقم 22238.
(3) البيهقي : السنن : 2|106.
(4) المصنف لعبد الرزاق : 1|400 كما في سيرتنا وسنّتنا ، والسجدة على التربة 93.
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 84 _
أحدنا على ثوبه (1)
والرواية محمولة على صورة العذر بقرينة ما رويناه عنه ، وبما رواه عنه البخاري : كنّا نصلّي مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في شدّة الحرّ ، فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكّن وجهه من الاَرض بسط ثوبه فسجد عليه (2)
ويوَيّده ما رواه النسائي أيضاً : كنّا إذا صلّينا خلف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالظهائر سجدنا على ثيابنا اتّقاء الحرّ (3)
وهناك روايات قاصرة الدلالة حيث لا تدلّ إلاّ على أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) صلّى على الفرو. وأمّا أنّه سجد عليه فلا دلالة لها عليه.
3 ـ عن المغيرة بن شعبة : كان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلّي على الحصير والفرو المدبوغة (4)
والرواية مع كونها ضعيفة بيونس بن الحرث ، ليست ظاهرة في السجود عليه ، ولا ملازمة بين الصلاة على الفرو والسجدة عليه ، ولعلّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وضع جبهته على الاَرض أو ما ينبت منها ، وعلى فرض الملازمة لا تقاوم هي وما في معناها ما سردناه من الروايات في المرحلتين الماضيتين.
حصيلة البحث :
إنّ المتأمّل في الروايات يجد وبدون لبس أنّ قضيّة السجود في الصلاة مرت بمرحلتين أو ثلاثة مراحل ففي المرحلة الا َُولى كان الفرض السجود على
---------------------------
(1) البيهقي : السنن الكبرى : 2|106 ، باب من بسط ثوباً فسجد عليه.
(2) البخاري : 2|64 كتاب الصلاة باب بسط الثوب في الصلاة للسجود.
(3) ابن الاَثير : الجامع الا َُصول : 5|468 برقم 3660.
(4) أبو داود : السنن : باب ما جاء في الصلاة على الخمرة برقم 331.
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 85 _
الاَرض ولم يرخّص للمسلمين السجود على غيرها ، وفي الثانية جاء الترخيص فيما تنبته الاَرض ، وليست وراء هاتين المرحلتين مرحلة أُخرى إلاّ جواز السجود على الثياب لعذر وضرورة ، فما يظهر من بعض الروايات من جواز السجود على الفرو وأمثاله مطلقاً فمحمولة على الضرورة ، أو لا دلالة لها على السجود عليها ، بل غايتها الصلاة عليها.
ومن هنا يظهر بوضوح أنّ ما التزمت به الشيعة هو عين ما جاءت به السنّة النبويّة ، ولم تنحرف عنه قيد أنملة ، ولعلّ الفقهاء أدرى بذلك من غيرهم ، لاَنّهم الا َُمناء على الرسالة والاَدلاء في طريق الشريعة ، ونحن ندعو إلى قليل من التأمّل لاِحقاق الحقّ وتجاوز البدع.
ما هو السرّ في اتّخاذ تربة طاهرة ؟
بقي هنا سوَال يطرحه كثيراً اخواننا أهل السنّة حول سبب اتّخاذ الشيعة تربة طاهرة في السفر والحضر والسجود عليها دون غيرها ، وربّما يتخيّل البسطاء ـ كما ذكرنا سابقاً ـ أنّ الشيعة يسجدون لها لا عليها ، ويعبدون الحجر والتربة ، وذلك لاَنّ هوَلاء المساكين لا يفرّقون بين السجود على التربة ، والسجود لها.
وعلى أيّ تقدير فالاِجابة عنها واضحة ، فإنّ المستحسن عند الشيعة هو اتّخاذ تربة طاهرة طيّبة ليتيقن من طهارتها ، من أيّ أرض أُخذت ، ومن أيّ صقع من أرجاء العالم كانت ، وهي كلّها في ذلك سواء.
وليس هذا الالتزام إلاّ مثل التزام المصلّي بطهارة جسده وملبسه ومصلاّه ، وأمّا سرّ الالتزام في اتّخاذ التربة هو أنّ الثقة بطهارة كلّ أرض يحلّ بها ، ويتّخذها
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 86 _
مسجداً ، لا تتأتّى له في كلّ موضع من المواضع التي يرتادها المسلم في حلّه وترحاله ، بل وأنّى له ذلك وهذه الاَماكن ترتادها أصناف مختلفة من البشر ، مسلمين كانوا أم غيرهم ، ملتزمين بأُصول الطهارة أم غير ذلك ، وفي ذلك محنة كبيرة تواجه المسلم في صلاته لا يجد مناصاً من أن يتخذ لنفسه تربة طاهرة يطمئنّ بها وبطهارتها ، يسجد عليها لدى صلاته حذراً من السجدة على الرجاسة والنجاسة ، والاَوساخ التي لا يتقرّب بها إلى اللّه قط ولا تجوّز السنّة السجود عليها ولا يقبله العقل السليم ، خصوصاً بعد ورود التأكيد التام البالغ في طهارة أعضاء المصلّي ولباسه والنهي عن الصلاة في مواطن منها :
المزبلة ، والمجزرة ، وقارعة الطريق ، والحمام ، ومواطن الاِبل ، بل والاَمر بتطهير المساجد وتطييبها (1)
وهذه القاعدة كانت ثابتة عند السلف الصالح وإن غفل التاريخ عن نقلها ، فقد روي : أنّ التابعي الفقيه مسروق بن الاَجدع المتوفّـى عام 62 كان يصحب في أسفاره لبنة من المدينة يسجد عليها ، كما أخرجه بن أبي شيبة في كتابه المصنف ، باب من كان حمل في السفينة شيئاً يسجد عليه ، فأخرج بإسنادين أنّ مسروقاً كان إذا سافر حمل معه في السفينة لبنة يسجد عليها (2)
إلى هنا تبيّن أنّ التزام الشيعة باتّخاذ التربة مسجداً ليس إلاّ لتسهيل الاَمر للمصلّي في سفره وحضره خوفاً من أن لا يجد أرضاً طاهرةً أو حصيراً طاهراً فيصعب الاَمر عليه ، وهذا كادّخار المسلم تربة طاهرة لغاية التيمّم عليها.
---------------------------
(1) العلاّمة الاَميني : سيرتنا وسنّتنا 158 ـ 159.
(2) أبو بكر بن أبي شيبة : المصنف : 1|400 كما في السجدة على التربة 93.
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 87 _
وأمّا السرّ في التزام الشيعة استحباباً بالسجود على التربة الحسينية فإنّ من الاَغراض العالية والمقاصد السامية منها ، أن يتذكّر المصلّي حين يضع جبهته على تلك التربة ، تضحية ذلك الاِمام بنفسه وأهل بيته والصفوة من أصحابه في سبيل العقيدة والمبدأ ومقارعة الجور والفساد.
ولمّا كان السجود أعظم أركان الصلاة ، وفي الحديث (أقرب ما يكون العبد إلى ربّه حال سجوده) فيناسب أن يتذكّر بوضع جبهته على تلك التربة الزاكية ، أُولئك الذين جعلوا أجسامهم ضحايا للحقّ ، وارتفعت أرواحهم إلى الملاَ الاَعلى ، ليخشع ويخضع ويتلازم الوضع والرفع ، وتحتقر هذه الدنيا الزائفة ، وزخارفها الزائلة ، ولعلّ هذا هو المقصود من أنّ السجود عليها يخرق الحجب السبع كما في الخبر ، فيكون حينئذ في السجود سر الصعود والعروج من التراب إلى ربّ الاَرباب (1).
وقال العلاّمة الاَميني : نحن نتّخذ من تربة كربلاء قطعاً لمعاً ، وأقراصاً نسجد عليها كما كان فقيه السلف مسروق بن الاَجدع يحمل معه لبنة من تربة المدينة المنوّرة يسجد عليها ، والرجل تلميذ الخلافة الراشدة ، فقيه المدينة ، ومعلّم السنّة بها ، وحاشاه من البدعة ، فليس في ذلك أيّ حزازة وتعسّف أو شيء يضاد نداء القرآن الكريم أو يخالف سنّة اللّه وسنّة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو خروج من حكم العقل والاعتبار.
وليس اتّخاذ تربة كربلاء مسجداً لدى الشيعة من الفرض المحتّم ، ولا من واجب الشرع والدين ، ولا ممّا ألزمه المذهب ، ولا يفرق أيّ أحد منهم منذ أوّل
يومها بينها وبين غيرها من تراب جميع الاَرض في جواز السجود عليها خلاف ما يزعمه الجاهل بهم وبآرائهم ، وإن هو عندهم إلاّ استحسان عقلي ليس إلاّ ، واختيار لما هو الاَولى بالسجود لدى العقل والمنطق والاعتبار فحسب كما سمعت ، وكثير من رجال المذهب يتّخذون معهم في أسفارهم غير تربة كربلاء ممّا يصحّ السجود عليه كحصير طاهر نظيف يوثق بطهارته أو خمرة مثله ويسجدون عليه في صلواتهم(1).
هذا إلمام إجمالي بهذه المسألة الفقهية والتفصيل موكول إلى محلّه ، وقد أغنانا عن ذلك ما سطّره أعلام العصر وأكابره ، وأخص بالذكر منهم.
1 ـ المصلح الكبير الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء (1295 ـ 1373 هـ) في كتابه الاَرض والتربة الحسينية.
2 ـ العلاّمة الكبير الشيخ عبد الحسين الاَميني موَلّف الغدير (1320 ـ 1390 هـ ) فقد دوّن رسالة في هذا الموضـوع طبع في آخر كتابه (سيرتنا وسنّتنا).
3 ـ السجود على الاَرض للعلاّمة الشيخ علي الاَحمـدي ـ دام عزّه ـ فقد أجاد في التتبّع والتحقيق.
فما ذكرنا في هذه المسألة اقتباس من أنوار علومهم ، رحم اللّه الماضين من علمائنا وحفظ اللّه الباقين منهم.
هذا ما وقفنا عليه من الاَبحاث والتي أوردناها في هذا المختصر.
ليست هذه أوّل قارورة كسرت في الاِسلام :
قد وقفت على أنّ السجود على الاَرض أو على الحصر والبواري وأشباهها هو السنّة ، وأنّ السجود على الفرش والسجاجيد وأشباهها هو البدعة ، وأنّه ما أنزل اللّه به من سلطان ، ولكن يا للاَسف صارت السنّة بدعة والبدعة سنّة ، فلو عمل الرجل بالسنّة في المساجد والمشاهد ، وسجد على التراب والاَحجار يوصف عمله بالبدعة ، والرجل بالمبدع ، ولكن ليس هذا فريداً في بابه فقد نرى في فقه المذاهب الاَربعة نظائر ، نذكر موضعين :
1 ـ قال الشيخ محمد بن عبد الرحمان الدمشقي :
السنّة في القبر ، التسطيح ، وهو أولى على الراجح من مذهب الشافعي.
وقال أبو حنيفة ومالك : التسنيم أولى ، لاَنّ التسطيح صار شعاراً للشيعة (1)
2 ـ قال الاِمام الرازي : روى البيهقي عن أبي هريرة قال : كان رسول اللّه يُجهر في الصـلاة بـ (بسـم اللّه الرحمـن الرحيم) وكان عليٌّ ـ رضي اللّه عنه ـ يُجهر بالتسمية وقد ثبت بالتواتر ، وكان علي بن أبي طالب يقول : يا من ذكره شرف للذاكرين ، ومثل هذا كيف يليق بالعاقل أن يسعى في إخفائه.
وقالت الشيعة : السنّة ، هي الجهر بالتسمية ، سواء أكانت في الصلاة الجهرية
---------------------------
(1) الدمشقي : رحمة الا َُمة في اختلاف الاَئمّة : 1|88 ونقله أيضاً العلاّمة الاَميني في الغدير : 10|209.
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 90 _
أو السرية ، وجمهور الفقهاء يُخالفونهم ـ إلى أن قال ـ : إنّ عليّاً كان يُبالغ في الجهر بالتسمية ، فلمّـا وصلت الدولة إلى بني أُميّة بالغوا في المنع من الجهر ، سعياً في إبطال آثار عليّ ـ رضي اللّه عنه ـ (1)
---------------------------
(1) الرازي : مفاتيح الغيب : 1|205 ـ 206.