الفهرس العام

الاجتهاد مقابل النص


تبريرات لحكم الخليفة
تغيّر الاَحكام بالمصالح
تغيّر الاَحكام حسب مقتضيات الزمان
جزاء الانحراف عن الطريق المهيع

  التحق النبيّ الاَكرم بالرفيق الاَعلى وقد حدث بين المسلمين اتّجاهان مختلفان ، وصراعان فكريان ، فعليّ ومن تبعه من أئمّة أهل البيت ، كانوا يحاولون التعرّف على الحكم الشرعي من خلال النصّ الشرعي آية ورواية ، ولا يعملون برأيهم أصلاً ، وفي مقابلهم لفيف من الصحابة يستخدمون رأيهم للتعرّف على الحكم الشرعي من خلال التعرّف على المصلحة ووضع الحكم وفق متطلّباتها.
  إنّ استخدام الرأي فيما لا نصّ فيه ، ووضع الحكم وفق المصلحة أمر قابل للبحث والنقاش ، إنّما الكلام في استخدامه فيما فيه نص ، فالطائفة الثانية كانت تستخدم رأيها تجاه النص ، لا في خصوص ما لا نصّ فيه من كتاب أو سنّة بل حتى فيما كان فيه نصّ ودلالة.
  يقول أحمد أمين المصري : ظهر لي أنّ عمر بن الخطاب كان يستعمل الرأي في أوسع من المعنى الذي ذكرناه ، وذلك أنّ ما ذكرناه هو استعمال الرأي حيث لا نصّ من كتاب ولا سنّة ، ولكنّا نرى الخليفة سار أبعد من ذلك ، فكان يجتهد في تعرّف المصلحة التي لاَجلها نزلت الآية أو ورد الحديث ، ثمّ يسترشد بتلك المصلحة في أحكامه ، وهو أقرب شيء إلى ما يعبّـر عنه الآن بالاسترشاد بروح القانون لا بحرفيته (1)
  إنّ الاسترشاد بروح القانون الذي أشار إليه أحمد أمين أمر ، ونبذ النص والعمل بالرأي أمر آخر ، ولكن الطائفة الثانية كانوا ينبذون النص ويعملون بالرأي ،

---------------------------
(1) أحمد أمين : فجر الاِسلام : 238 ، نشر دار الكتاب.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 193 _

  وما روي عن الخليفة في هذه المسألة ، من هذا القبيل ، وإن كنت في ريب من ذلك فنحن نتلو عليك ما وقفنا عليه :
  1 ـ روى مسلم عن ابن عباس ، قال : كان الطلاق على عهد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر : طلاق الثلاث واحدة ، فقال عمر بن الخطاب : إنّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم ، فأمضاه عليهم (1)
  2 ـ وروى عن ابـن طاووس عن أبيه : أنّ أبا الصهباء قال لابن عباس : أتعلم انّما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبي بكر وثلاثاً من (خلافة) عمر ؟ فقال : نعم (2)
  3 ـ وروى أيضاً : أنّ أبا الصهباء قال لابن عباس : هات من هناتك ، ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول اللّه وأبي بكر واحدة ؟ قال : قد كان ذلك فلمّـا كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم (3)
  4 ـ روى البيهقي ، قال : كان أبو الصهباء كثير السوَال لابن عباس ، قال : أما علمت أنّ الرجل كان إذا طلّق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها ، جعلوها واحدة على عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبي بكر وصدراً من امارة عمر فلمّـا رأى الناس قد تتابعوا فيها ، قال : أجيزوهن عليهم (4).
  5 ـ أخـرج الطحاوي من طريق ابن عباس أنّه قال : لمّا كان زمن عمر قال : يا أيّها الناس قد كان لكم في الطلاق أناة وإنّه من تعجل أناة اللّه في

---------------------------
(1) مسلم : الصحيح : 4 باب الطلاق الثلاث ، الحديث 1 ـ 3 ، التتابع : بمعنى الاكثار من الشر.
(2) مسلم : الصحيح : 4 باب الطلاق الثلاث ، الحديث 1 ـ 3 ، التتابع : بمعنى الاكثار من الشر.
(3) مسلم : الصحيح : 4 باب الطلاق الثلاث ، الحديث 1 ـ 3 ، التتابع : بمعنى الاكثار من الشر.
(4) البيهقي : السنن : 7|339 ، السيوطي : الدر المنثور : 1|279.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 194 _

  الطلاق ألزمناه إياه (1)
  6 ـ عن طاووس قال : قال عمر بن الخطاب : قد كان لكم في الطلاق أناة فاستعجلتم أناتكم وقد أجزنا عليكم ما استعجلتم من ذلك (2)
  7 ـ عن الحسن : أنّ عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى الاَشعري : لقد هممت أن أجعل إذا طلّق الرجل امرأته ثلاثاً في مجلس أن أجعلها واحدة ، ولكنّ أقواماً جعلوا على أنفسهم ، فألزِم كلّ نفس ما ألزَمَ نفسه.
  من قال لامرأته : أنت عليَّ حرام ، فهي حرام ، ومن قال لامرأته : أنت بائنة ، فهي بائنة ، ومن قال : أنت طالق ثلاثاً ، فهي ثلاث (3).
  هذه النصوص تدلّ على أنّ عمل الخليفة لم يكن من الاجتهاد فيما لا نصّ فيه ولا أخذاً بروح القانون الذي يعبّـر عنه بتنقيح المناط واسراء الحكم الشرعي إلى المواضع التي تتشارك المنصوص في المسألة ، كما إذا قال : الخمر حرام ، فيسري حكمه إلى كلّ مسكرٍ أخذاً بروح القانون وهو أنّ علّة التحريم هي الاسكار الموجود في المنصوص وغير المنصوص ، وانّما كان عمله من نوع ثالث وهو الاجتهاد تجاه النص ونبذ الدليل الشرعي ، والسير وراء رأيه وفكره وتشخيصه ، وقد ذكروا هنا :

تبريرات لحكم الخليفة

  لمّا كان الحكم الصادر عن الخليفة يخالف نصّ القرآن أو ظاهره ، حاول بعض المحقّقين تبرير عمل الخليفة ببعض الوجوه حتّى يبرّر حكمه ويصحّحه ويخرجه عن مجال الاجتهاد مقابل النص بل يكون صادراً عن دليل شرعي ، بيانها :

---------------------------
(1) العيني : عمدة القارىَ : 9|537 ، وقال : اسناده صحيح.
(2) المتقي الهندي : كنز العمال : 9|676 ، برقم 27943.
(3) المتقي الهندي : كنز العمال : 9|676 ، برقم 27943.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 195 _

  1 ـ نسخ الكتاب بالاجماع الكاشف عن النص : إنّ الطلاق الوارد في الكتاب منسوخ ، فان قلت : ما وجه هذا النسخ وعمر ـ رضى اللّه عنه ـ لا ينسخ ، وكيف يكون النسخ بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟ قلت : لمّا خاطب عمر الصحابة بذلك فلم يقع انكار ، صار اجماعاً ، والنسخ بالاجماع جوّزه بعض مشايخنا ، بطريق أنّ الاجماع موجب علم اليقين كالنص فيجوز أن يثبت النسخ به ، والاجماع في كونه حجّة أقوى من الخبر المشهور.
  فان قلت : هذا اجماع على النسخ من تلقاء أنفسهم فلا يجوز ذلك في حقهم ، قلت : يحتمل أن يكون ظهر لهم نص أوجب النسخ ولم ينقل إلينا (1)
  يلاحظ عليه أولاً : ( أنّ المسألة يوم أفتى بها الخليفة ، كانت ذات قولين بين نفس الصحابة ، فكيف انعقد الاجماع على قول واحد ، وقد عرفت الاَقوال في صدر المسألة ، ولاَجل ذلك نرى البعض الآخر ينفي انعقاد الاجماع البتة ويقول : وقد أجمع الصحابة إلى السنة الثانية من خلافة عمر على أنّ الثلاث بلفظ واحد واحدة ، ولم ينقض هذا الاجماع بخلافه ، بل لا يزال في الا َُمّة من يفتي به قرناً بعد قرن إلى يومنا هذا) (2)
  وثانياً : أنّ هذا البيان يخالف ما برّر به الخليفة عمله حيث قال : إنّ الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم ، فأمضاه عليهم ، ولو كان هناك نص عند الخليفة ، لكان التبرير به هو المتعيّن.

---------------------------
(1) العيني : عمدة القارىَ : 9|537.
(2) تيسير الوصول : 3|162.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 196 _

  وفي الختام نقول : أين ما ذكره صاحب العمدة ممّا ذكره الشيخ صالح بن محمد العمري (المتوفى 1298) حيث قال : إنّ المعروف عند الصحابة والتابعين لهم باحسان إلى يوم الدين ، وعند سائر العلماء المسلمين : أنّ حكم الحاكم المجتهد إذا خالف نصّ كتاب اللّه تعالى أو سنّة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وجب نقضه ومنع نفوذه ، ولا يعارض نصّ الكتاب والسنّة بالاحتمالات العقليّة والخيالات النفسية ، والعصبيّة الشيطانية بأن يقال : لعلّ هذا المجتهد قد اطّلع على هذا النصّ وتركه لعلّة ظهرت له ، أو أنّه اطّلع على دليل آخر ، ونحو هذا ممّا لهج به فرق الفقهاء المتعصّبين وأطبق عليه جهلة المقلّدين (1)
  2 ـ تعزيرهم على ما تعدّوا به حدود اللّه : لم يكن الهدف من تنفيذ الطلاق ثلاثاً في مجلس ، إلاّ عقابهم من جنس عملهم ، وتعزيرهم على ما تعدّوا حدود اللّه ، فاستشار أُولي الرأي ، وأُولي الاَمر وقال : إنّ الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم ؟ فلمّـا وافقوه على ما اعتزم أمضاه عليهم وقال : أيّها الناس قد كانت لكم في الطلاق أناة وأنّه من تعجّل أناة اللّه ألزمناه إيّاه (2)
  لم أجد نصّاً فيما فحصت في مشاورة عمر أُولي الرأي والاَمر ، غير ما كتبه إلى أبي موسى الاَشعري بقوله : (لقد هممت أن أجعل إذا طلّق الرجل امرأته ثلاثاً

---------------------------
(1) العمري : ايقاظ همم أُولي الاَبصار : 9.
(2) أحمد بن حنبل : المسند : 1|314 ، برقم 2877 ، وقد مرّ تخريج الحديث أيضاً ، لاحظ نظام الطلاق في الاِسلام لاَحمد محمد شاكر : 79.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 197 _

  في مجلس أن أجعلها واحدة ... ) (1) وهو يخبر عن عزمه وهمّه ولا يستشيره ، ولو كانت هنا استشارة كان عليه أن يستشير الصحابة من المهاجرين والاَنصار القاطنين في المدينة وعلى رأسهم علي بن أبي طالب ، وقد كان يستشيره في مواقف خطيرة ويقتفي رأيه.
  ولا يكون استعجال الناس ، مبرّراً لمخالفة الكتاب والسنّة بل كان عليه ردع الناس عن عملهم السيّىَ بقوّة ومنعة ، وكيف تصحّ موَاخذتهم بما أسماه رسول اللّه لعباً بكتاب اللّه (2)
  يقول ابن قيم : إنّ هذا القول قد دلّ عليه الكتاب والسنّة والقياس والاجماع القديم ، ولم يأت بعده اجماع يبطله ولكن رأى عمر أنّ الناس قد استهانوا بأمر الطلاق وكثر منهم ايقاعه جملة واحدة ، فرأى من المصلحة عقوبتهم بامضائه عليهم ليعلموا أنّ أحدهم إذا أوقعه جملة بانت منه المرأة ، وحرّمت عليه ، حتى تنكح زوجاً غيره نكاح رغبة ، يراد للدوام لا نكاح تحليل ، فإذا علموا ذلك كفوا عن الطلاق المحرَّم ، فرأى عمر أنّ هذا مصلحة لهم في زمانه ، ورأى أنّ ما كانوا عليه في عهد النبيّ وعهد الصديق ، وصدراً من خلافته كان الاَليق بهم ، لاَنّهم لم يتابعوا فيه وكانوا يتّقون اللّه في الطلاق ، وقد جعل اللّه لكلّ من اتّقاه مخرجاً ، فلمّـا تركوا تقوى اللّه وتلاعبوا بكتاب اللّه وطلّقوا على غير ما شرّعه اللّه ألزمهم بما التزموه عقوبة لهم فإنّ اللّه شرّع الطلاق مرّة بعد مرّة ، ولم

---------------------------
(1) المتقي الهندي : كنز العمال : 9|676 ، برقم 27943.
(2) السيوطي : الدر المنثور : 1|283.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 198 _

  يشرّعه كلّه مرّة واحدة (1)
  يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره من التبرير لعمل الخليفة غير صحيح ، إذ لو كانت المصالح الموَقتة مبررة لتغيّر الحكم فما معنى (حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة) ولو صحّ ما ذكره لتسرّب التغيّر إلى أركان الشريعة ، فيصبح الاِسلام ألعوبة بيد الساسة ، فيأتي سائس فيحرِّم الصوم على العمال لتقوية القوة العاملة في المعامل.
  وفي الختام نذكر تنبّه بعض علماء أهل السنّة في هذه العصور لما في تنفيذ هذا النوع من الطلاق ، ولاَجل ذلك تغيّر قانون محاكم مصر الشرعية وخالف مذهب الحنفية بعد استقلالها وتحرّرها عن سلطنة الدولة العثمانية.
  ويا للاَسف أنّ كثيراً من مفتي أهل السنّة على تنفيذ هذا النوع من الطلاق ، ولاَجل ذلك يقول موَلّف المنار بعد البحث الضافي حول المسألة : (ليس المراد مجادلة المقلّدين أو ارجاع القضاة والمفتين عن مذاهبهم ، فإنّ أكثرهم يطّلع على هذه النصوص في كتب الحديث وغيرها ولا يبالي بها لاَنّ العمل عندهم على أقوال كتبهم دون كتاب اللّه وسنّة رسوله (2)

---------------------------
(1) ابن قيم الجوزية : اعلام الموقعين : 3|36.
(2) السيد محمد رشيد رضا : المنار : 2|386 ، الطبعة الثالثة 1376.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 199 _

تغيّر الاَحكام بالمصالح

  ولابن قيم كلام مسهب في تحليل امضاء عمر الطلاق ثلاثاً نأتي بملخّصه ، وهو يعتمد على تغيّر الاَحكام بالمصالح ويخلط الصحيح بالسقيم وإليك كلامه قال : الاَحكام نوعان : نوع لا يتغيّر عن حالة واحدة هو عليها ، لا بحسب الاَزمنة ولا الاَمكنة ولا اجتهاد الاَئمّة ، كوجوب الواجبات وتحريم المحرّمات والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم.
  والنوع الثاني : ما يتغيّر بحسب اقتضاء المصلحة له زماناً ومكاناً وحالاً ، كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها ـ ثمّ أتى بأمثلة كثيرة عن باب التعزيرات ـ وقال : ومن ذلك أنّه يريد عمر بن الخطاب ـ لما رأى الناس قد أكثروا في الطلاق ، رأى أنّهم لا ينتهون عنه إلاّ بعقوبة فرأى الزامهم بها عقوبة لهم ليكفّوا عنها وذلك :
  إمّا من التعزير العارض الذي يفعل عند الحاجة كما كان يضرب في الخمر ثمانين ويحلق فيها الرأس.
  وإمّا ظنّاً أنّ جعل الثلاث واحدة كان مشروعاً بشرط وقد زال.
  وإمّا لقيام مانع قام في زمنه منع من جعل الثلاث واحدة.
  ـ إلى أن قال : ـ فلمّـا رأى أمير الموَمنين أنّ اللّه سبحانه عاقب المطلِّق ثلاثاً ، بأن حال بينه وبين زوجه وحرّمها عليه حتى تنكح زوجاً غيره ، علم أنّ ذلك لكراهة الطلاق المحرّم ، وبغضه له ، فوافقه أمير الموَمنين في عقوبته لمن طلّق ثلاثاً

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 200 _

  بأن ألزمه بها وأمضاها عليه ، وقال :
  فإن قيل : كان أسهل من ذلك أن يمنع الناس من ايقاع الثلاث ، ويحرمه عليهم ويعاقب بالضرب والتأديب من فعله لئلاّ يقع المحذور الذي يترتّب عليه.
  قيل : نعم ، لعمر اللّه كان يمكنه ذلك ولذا ندم في آخر أيامه وودَّ أنّه كان فعله ، قال الحافظ أبو بكر الاسماعيلي في مسند عمر : أخبرنا أبو يعلى ، حدثنا صالح بن مالك ، حدثنا خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه قال : قال عمر بن الخطاب : ما ندمت على شيء مثل ندامتي على ثلاث : أن لا أكون حرّمت الطلاق ، وعلى أن لا أكون أنكحت الموالي ، وعلى أن لا أكون قتلت النوائح.
  وليس مراده من الطلاق الذي حرّمه ، الطلاق الرجعيّ الذي أباحه اللّه تعالى وعلم من دين رسول اللّه جوازه ، ولا الطلاق المحرّم الذي أجمع المسلمون على تحريمه كالطلاق في الحيض والطهر المجامع فيه ، ولا الطلاق قبل الدخول ، فتبيّن قطعاً أنّه أراد تحريم الطلاق الثلاث ـ إلى أن قال : ـ ورأى عمر أنّ المفسدة تندفع بالزامهم به فلمّـا تبيّن أنّ المفسدة لم تندفع بذلك وما زاد الاَمر إلاّ شدّة ، أخبر أن الاَولى كان عدوله إلى تحريم الثلاث الذي يدفع المفسدة من أصلها ، واندفاع هذه المفسدة بما كان عليه الاَمر في زمن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبي بكر وأوّل خلافة عمر (1)

---------------------------
(1) ابن قيم الجوزيّة : إعلام الموقعين : 3|36 ، وأشار إليه أيضاً في كتابه (إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان) : 1|336.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 201 _

تغيّر الاَحكام حسب مقتضيات الزمان

  يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره من تقسيم الاَحكام إلى نوعين ، صحيح ، لكن من أين علم أنّ حكم الطلاق الثلاث من النوع الثاني ، فأيّ فرق بين حكم الواجبات والمحرّمات وقوله سبحانه : (الطلاق مرتان) وكيف يتغيّر حكم وصفَ رسول اللّه خلافه لعباً بالدين ؟
  وما ذكره من الاحتمالات الثلاثة فالاحتمال الاَوّل هو المتعيّن وهو الموافق لكلام الخليفة نفسه ، وأمّا الاحتمالان الاَخيران من أنّ جعل الثلاث واحدة كان مشروعاً بشرط وقد زال ، أو قام مانع عن امضائه ، فلا يعتمد عليهما والدافع إلى تصوير الاحتمالين هو الخضوع للعاطفة وتبرير عمل الخليفة بأي نحو كان.
  تغيّر الاَحكام حسب مقتضيات الزمان :
  إنّ الاَحكام التي تتغيّر بتغيّر الزمان وتبدّل الظروف ، عبارة عن الاَحكام التي حُدّد جوهرها برعاية المصالح ، وتركت خصوصياتها واشكالها إلى رأي الحاكم الاِسلامي ، فهذا النوع من الاَحكام يتعرّض للتغيّر دون ما قام الشارع بتحديد جوهره وشكله وكيفيته ، ولم يترك للحاكم الاِسلامي أيّ تدخّل فيه والاَحكام الواردة في الاَحوال الشخصية من هذا القبيل ، فليس للحاكم التدخل في أحكام النسب والمصاهرة والرضاع والعدد ، فليس له أن يحرّم ما أحلّ اللّه عقوبة للخاطىَ ، وبالعكس وإنّما هي أحكام ثابتة لا تخضع لرأي حاكم وغيره.
  وأمّا ما يجوز للحاكم التدخل فيه فهو عبارة عن الاَحكام التي تركت خصوصياتها وأشكالها إلى الحاكم ، ليصون مصالح الاِسلام والمسلمين ، بما تقتضيه الظروف السائدة وإليك نزراً يسيراً منها ، لئلاّ يخلط أحدهما بالآخر :

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 202 _

  1 ـ في مجال العلاقات الدولية الدبلوماسية : يجب على الدولة الاِسلامية أن تراعي مصالح الاِسلام والمسلمين ، فهذا أصل ثابت وقاعدة عامة ، وأمّا كيفية تلك الرعاية ، فتختلف باختلاف الظروف الزمانية والمكانية ، فتارة تقتضي المصلحة ، السلام ، والمهادنة والصلح مع العدو ، وأُخرى تقتضي ضد ذلك.
  وهكذا تختلف المقررات والاَحكام الخاصّة في هذا المجال ، باختلاف الظروف ولكنّها لا تخرج عن نطاق القانون العام الذي ، هو رعاية مصالح المسلمين ، كقوله سبحانه : ( ولَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلكافِرينَ على الموَمِنينَ سبيلا ) (النساء | 141).
  وقوله سبحانه : ( لا ينهاكُمُ اللّهُ عن الَّذِين لم يقاتِلوكُمْ في الدِّينِ ولَمْ يُخرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أن تَبرُّوهُمْ وتُقْسِطوا إليهمْ إنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُقْسِطين ) .
  ( إنَّما ينهاكُمُ اللّهُ عنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُم فِي الدِّينِ وأخرَجُوكُم من ديارِكُمْ وظاهرُوا على إخراجِكُمْ أن تَولَّوهُمْ وَمَن يَتَولَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمون ) (الممتحنة | 8 ـ 9).
  2 ـ العلاقات الدولية التجارية : فقد تقضي المصلحة عقد اتّفاقيات اقتصادية وانشاء شركات تجارية أو موَسّسات صناعية ، مشتركة بين المسلمين وغيرهم ، وقد تقتضي المصلحة غير ذلك ، ومن هذا الباب حكم الاِمام المغفور له ، الفقيد المجدّد السيد الشيرازي بتحريم التدخين ليمنع من تنفيذ الاتّفاقية الاقتصادية التي عقدت في زمانه بين إيران وانكلترا ، إذ كانت مجحفة بحقوق الا َُمّة المسلمة الاِيرانية لاَنّها خوّلت لانكلترا حقّ احتكار التنباك الاِيراني.
  3 ـ الدفاع عن بيضة الاِسلام وحفظ استقلاله وصيانة حدوده من الاَعداء ،

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 203 _

  قانون ثابت لا يتغيّر ، فالمقصد الاَسنى لمشرّع الاِسلام ، إنّما هو صيانة سيادته من خطر أعدائه واضرارهم ولاَجل ذلك أوجب عليهم تحصيل قوة ضاربة ضدّ الاَعداء ، واعداد جيش عارم جرّار ، تجاه الاَعداء كما يقول سبحانه : ( وَأَعدُّوا لَهُمْ ما استطعتُمْ مِنْ قوَّة ) (الاَنفال | 60) فهذا هو الاَصل الثابت في الاِسلام الذي يوَيده العقل والفطرة ، أمّا كيفيّة الدفاع وتكتيكه ونوع السلاح ، أو لزوم الخدمة العسكرية وعدمه ، فكلّها موكولة إلى مقتضيات الزمان ، تتغيّر بتغيّره ، ولكن في اطار القوانين العامة فليس هناك في الاِسلام أصل ثابت ، حتى مسألة لزوم التجنيد الاِجباري ، الذي أصبح من الا َُمور الاَصلية في غالب البلاد.
  وما نرى في الكتب الفقهية من تبويب باب أو وضع كتاب خاص ، لاَحكام السبق والرماية ، وغيرها من أنواع الفروسية التي كانت متعارفة في الاَزمنة الغابرة ، ونقل أحاديث في ذلك الباب ، عن الرسول الاَكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمّة الاِسلام فليست أحكامها أصلية ثابتة في الاِسلام ، دعا إليها الشارع بصورة أساسية ثابتة ، بل كانت هي نوع تطبيق لذلك الحكم ، والغرض منه ، تحصيل القوّة الكافية تجاه العدو في تلك العصور ، وأمّا الاَحكام التي ينبغي أن تطبّق في العصر الحاضر ، فإنّه تفرضها مقتضيات العصر نفسه (1)

---------------------------
(1) قال المحقق في الشرائع : 152 : وفائدة السبق والرماية : بعث النفس على الاستعداد للقتال والهداية لممارسة النضال وهي معاملة صحيحة ، وقال الشهيد الثاني : في المسالك في شرح عبارة المحقق : لا خلاف بين المسلمين في شرعية هذا العقد ، بل أمر به النبي في عدّة مواطن لما فيه من الفائدة المذكورة وهي من أهم الفوائد الدينية لما يحصل بها من غلبة العدو في الجهاد لاَعداء اللّه تعالى ، الذي هو أعظم أركان الاِسلام ولهذه الفائدة يخرج عن اللهو واللعب المنهى عن المعاملة عليهما.
فإذا كانت الغاية من تشريعها الاستعداد للقتال والتدرّب للجهاد ، فلا يفرق عندئد بين الدارج في زمن النبيّوغيره أخذاً بالملاك المتيقّن.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 204 _

  فعلى الحاكم الاِسلامي تقوية جيشه وقواته المسلحة بالطرق التي يقدر معها على صيانة الاِسلام و معتنقيه من الخطر ، ويصدّ كلّ موَامرة عليه من جانب الاَعداء حسب امكانيات الوقت.
  والمقنّن الذي يتوخّى ثبات قانونه ودوامه وسيادة نظامه الذي جاء به ، لا يجب عليه التعرّض إلى تفاصيل الا َُمور وجزئياتها ، بل الذي يجب عليه هو وضع الكليات والا َُصول ليساير قانونه جميع الاَزمنة بأشكالها وصورها المختلفة ، ولو سلك غير هذا السبيل لصار حظّه من البقاء قليلاً جدّاً.
  4 ـ نشر العلم والثقافة واستكمال المعارف التي تضمن سيادة المجتمع مادياً ومعنوياً يعتبر من الفرائض الاِسلامية ، أمّا تحقيق ذلك وتعيين نوعه ونوع وسائله فلا يتحدّد بحدّ خاص ، بل يوكل إلى نظر الحاكم الاِسلامي ، واللّجان المقررة لذلك من جانبه حسب الاِمكانيات الراهنة في ضوء القوانين الثابتة.
  وبالجملة : فقد ألزم الاِسلام ، رعاة المسلمين ، وولاة الاَمر نشر العلم بين أبناء الانسان واجتثاث مادة الجهل من بينهم ومكافحة أيّ لون من الا َُميّة ، وأمّا نوع العلم وخصوصياته ، فكل ذلك موكول إلى نظر الحاكم الاِسلامي وهو أعلم بحوائج عصره.
  فربّ علم ، لم يكن لازماً ، لعدم الحاجة إليه ، في العصور السابقة ، ولكنّه أصبح اليوم في الرعيل الاَوّل من العلوم اللازمة التي ، فيها صلاح المجتمع ، كالاقتصاد والسياسة.
  5 ـ حفظ النظام وتأمين السبل والطرق ، وتنظيم الا َُمور الداخلية ورفع مستوى الاقتصاد وغيرها من الضروريات ، فيتبع فيه وأمثاله ، مقتضيات الظروف

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 205 _

  وليس فيه للاِسلام حكم خاص يتبع ، بل الذي يتوخّاه الاِسلام ، هو الوصول إلى هذه الغايات ، وتحقيقها بالوسائل الممكنة ، دون تحديد وتعيين لنوع هذه الوسائل وإنّما ذلك متروك إلى امكانيات الزمان الذي يعيش فيه البشر ، وكلّها في ضوء القوانين العامة.
  6 ـ قد جاء الاِسلام بأصل ثابت في مجال الاَموال وهو قوله سبحانه : ( ولا تَأكُلوا أَموالَكُمْ بَينَكُمْ بِالباطِلِ ) وقد فرع الفقهاء على هذا الاَصل شرطاً في صحّة عقد البيع أو المعاملة فقالوا : يشترط في صحّة المعاملة وجود فائدة مشروعة وإلاّ فلا تصح المعاملة ومن هنا حرّموا بيع (الدم) وشراءه.
  إلاّ أنّ تحريم بيع الدم وشرائه ليس حكماً ثابتاً في الاِسلام بل التحريم كان في الزمان السابق صورة اجرائية لما أفادته الآية من حرمة أكل المال بالباطل وكان بيع الدم في ذلك الزمان مصداقاً له ، فالحكم يدور مدار وجود الفائدة (التي تخرج المعاملة عن كونها أكل المال بالباطل) وعدم تحقّق الفائدة (التي تخرج المعاملة عن كونها أكل المال بالباطل) فلو ترتّبت فائدة معقولة على بيع الدم أو شرائه فسوف يتبدّل حكم الحرمة إلى الحلّية ، والحكم الثابت هنا هو قوله تعالى : ( لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) .
  وفي هذا المضمار ورد أنّ علياً (عليه السلام) سئل عن قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) : غيّروا الشيب ولا تشبّهوا باليهود ؟ فقال ـ عليه السلام ـ : إنّما قال (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك والدين قُلٌّ ، فأمّا الآن فقد اتّسع نطاقه وضرب بجرانه فامْروٌَ وما اختار (1)
  هذا ولما كان الحكم بصحة الطلاق ثلاثاً ، مثيراً للفساد ، عبر التاريخ ، قام ابن

---------------------------
(1) نهج البلاغة ، الحكمة رقم 16 ، لاحظ كتابنا مفاهيم القرآن : 3|265 ـ 275.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 206 _

  قيم ـ مع تبريره عمل الخليفة بما ذكر ـ ببيان ما ترتّب عليه من شماتة أعداء الدين عليه ، وها نحن ننقل نصّ كلامه :

جزاء الانحراف عن الطريق المهيع

  إنّ ابن قيم ـ كما عرفت ـ كان من المدافعين المتحمّسين عن فتيا الخليفة ، وقد برّر حكمه بأنّ المصلحة يومذاك كانت تقتضي الاَخذ بما التزم به المطلّق على نفسه ، وقد عرفت ضعف دفاعه ووهن كلامه ، ولكنّه ذكر في آخر كلامه بأنّ المصلحة في زماننا هذا على عكس ما كان عليه زمن الخليفة ، وأنّ تصحيح التطليق ثلاثاً ، جرّ الويلات على المسلمين في أجوائنا وبيئاتنا وصار سبباً لاستهزاء الاَعداء ، بالدين وأهله ، وأنّه يجب في زماننا هذا الاَخذ بمُرّ الكتاب والسنّة ، وهو أنّه لا يقع منه إلاّ واحد.
  ولكنّه غفل عمّـا هو الحق في المقام وأنّ المصلحة في جميع الاَزمنة كانت على وتيرة واحدة ، وأنّ ما حدّه سبحانه من الحدود ، هو المطابق لمصالح العباد ومصائرهم ، وأنّ الشناعة والاستهزاء اللَّتين يذكرهما ابن قيم إنّما نجمتا من الانحراف عن الطريق المهيَع والاجتهاد مقابل النص بلا ضرورة مفضية إلى العدول ومن دون أن يكون هناك حرج أو كلفة ، ولاَجل ذلك نأتي بكلامه حتى يكون عبرة لمن يريد في زماننا هذا أن يتلاعب بالاَحكام الشرعية بهذه المصالح المزعومة ، وإليك نصّ كلامه : هذه المسألة ممّا تغيّرت الفتوى بها بحسب الاَزمنة وأمّا في هذه الاَزمان التي قد شكت الفروج فيها إلى ربّها من مفسدة التحليل ، وقبح ما يرتكبه المحلّلون

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 207 _

  ممّا هو رمد بل عمىً في عين الدين ، وشجىً في حلوق الموَمنين ، من قبائح تشمّت أعداء الدين بها ، وتمنع كثيراً ممّن يريد الدخول فيه بسببه ، بحيث لا يحيط بتفاصيلها خطاب ، ولا يحصرها كتاب ، يراها الموَمنون كلّهم من أقبح القبائح ويعدّونها من أعظم الفضائح ، قد قلبت من الدين رسمه ، وغيّرت منه اسمه ، وضمخ التيس المستعار فيها المطلّقةَ بنجاسة التحليل ، وقد زعم أنّه قد طيّبها للحليل ، فيا للّه العجب ! أيّ طيب أعارها هذا التيس الملعون ؟ وأيّ مصلحة حصلت لها ولمطلِّقها بهذا الفعل الدون؟
  أترى وقوف الزوج المطلِّق أو الولي على الباب ، والتيس الملعون قد حلّ ازارها وكشف النقاب ، وأخذ في ذلك المرتع ، والزوج أو الولي يناديه : لم يُقدَّم إليك هذا الطعام لتشبع ، فقد علمت أنت والزوجة ونحن والشهود والحاضرون والملائكة الكاتبون ، وربّ العالمين ، أنّك لست معدوداً من الاَزواج ، ولا للمرأة أو أوليائها بك رضاً ولا فرح ولا ابتهاج ، وإنّما أنت بمنزلة التيس المستعار للضراب ، الذي لولا هذه البلوى لما رضينا وقوفك على الباب ، فالناس يُظهرون النكاح ويُعلنونه فرحاً وسروراً ، ونحن نتواصى بكتمان هذا الداء العضال ، ونجعله أمراً مستوراً بلا نثار ولا دف ، ولا خوان ولا اعلان ، بل التواصي بهس ومس والاخفاء والكتمان ، فالمرأة تنكح لدينها وحسبها ومالها وجمالها.
  والتيس المستعار لا يسأل عن شيء من ذلك ، فانّه لا يُمسك بعصمتها ، بل قد دخل على زوالها ، واللّه تعالى قد جعل كل واحد من الزوجين سكناً لصاحبه ، وجعل بينهما مودة ورحمة ليحصل بذلك مقصود هذا العقد العظيم ، وتتم بذلك المصلحة التي شرّعه لاَجلها العزيز الحكيم.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 208 _

  فسل التيس المستعار : هل له من ذلك نصيب ، أو هو من حكمة هذا العقد ومقصوده ومصلحته أجنبي غريب ؟ وسله : هل اتّخذ هذه المصابة حليلة وفراشاً يأوى إليه ؟ هل رضيت به قط زوجاً وبعلاً تعول في نوائبها عليه ؟ وسل أُولي التمييز والعقول : هل تزوّجت فلانة بفلان ؟ وهل يعد هذا نكاحاً في شرع أو عقل أو فطرة انسان ؟ وكيف يلعن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) رجلاً من أُمّته نكح نكاحاً شرعياً صحيحا ً، ولم يرتكب في عقده محرماً ولا قبيحاً ؟ وكيف يشبهه بالتيس المستعار ، وهو من جملة المحسنين الاَبرار ؟ وكيف تعيّر به المرأة طول دهرها بين أهلها والجيران ، وتظل ناكسة رأسها إذا ذكر ذلك التيس بين النسوان ؟ وسل التيس المستعار : هل حدّث نفسه وقت هذا العقد الذي هو شقيق النفاق ، بنفقة أو كسوة أو وزن صداق ؟ وهل طمعت المصابة منه في شيء من ذلك ، أو حدّثت نفسها به هنالك ؟ وهل طلب منها ولداً نجيباً واتّخذته عشيراً وحبيبا ً؟
  وسل عقول العالمين وفطرهم : هل كان خير هذه الا َُمّة أكثرهم تحليلاً ، وكان المحلّل الذي لعنه اللّه ورسوله أهداهم سبيلا ً؟ وسل التيس المستعار ومن ابتليت به : هل تجمّل أحد منهما بصاحبه كما يتجمّل الرجال بالنساء والنساء بالرجال ، أو كان لاَحدهما رغبة في صاحبه بحسب أو مال أو جمال ؟ وسل المرأة : هل تكره أن يتزوّج عليها هذا التيس المستعار أو يتسرّى ، أو تكره أن تكون تحته امرأة غيرها أُخرى ، أو تسأله عن ماله وصنعته أو حسن عشيرته وسعة نفقته ؟ وسل التيس المستعار : هل سأل قط عمّـا يسأله عنه مَن قصد حقيقة النكاح ، أو يتوسل إلى بيت أحمائه بالهدية والحمولة ، والنقد الذي يتوسّل به خاطب الملاح ؟ وسله : هل هو (أبو يأخذ) أو (أبو يعطي) ؟ وهل قوله عند قراءة أبي جاد هذا العقد : خذي

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 209 _

  نفقة هذا العرس أو حطي ؟ وسله : هل تحمّل من كلفة هذا العقد خذي نفقة هذا العرس أو حطي ؟ وسله عن وليمة عرسه : هل أولم ولو بشاة ؟ وهل دعا إليها أحداً من أصحابه فقضى حقّه وأتاه ؟ وسله : هل تحمّل من كلفه هذا العقد ما يتحمّله المتزوّجون ، أم جاءه ـ كما جرت به عادة الناس ـ الاَصحاب والمهنئون ؟ وهل قيل له بارك اللّه لكما وعليكما وجمع بينكما في خير وعافية ، أم لعن اللّه المحلِّل والمحلَّل له لعنة تامة وافية ؟ (1).
  يلاحظ عليه : أنّ العار الذي ـ على زعمه ـ دخل الاِسلام رهن تصحيح الطلاق ثلاثاً ، وأنّ الطلاق الواحد حقيقة يعد ثلاثاً ، وأمّا ما شرّعه الذكر الحكيم من توقّف صحّة النكاح بعد التطليقات الثلاث على المحلّل فهو من أفضل قوانيه المشرقة ، وأرسخها وأتقنها فلا يدخل العار من جانبه على الاِسلام أبداً ، وذلك :
  أوّلاً : أنّه يصد الزوج عن الطلاق الثالث لما يعلم أنّ النكاح بعده يتوقّف على التحليل الذي لا يتحمّله أكثر الرجال.
  وثانياً : أنّه لا يقوم به إلاّ إذا يئس من التزويج المجدّد ، لاَنّ التجارب المتكرّرة ، أثبتت أنّ الزوجين ليسا على شاكلة واحدة من جانب الاَخلاق والروحيات فلا يُقدِم على الطلاق إلاّ إذا كان آيساً من الزواج المجدّد وقلّما يتّفق تجدد الجنوح إلى بناء البيت بالزوجة التي طلّقها ثلاثاً لو لم نقل إنّه يندر جداً ـ فعند ذاك تقل الحاجة إلى المحلّل جداً ، وهذا بخلاف تصحيح الطلاق الواحد ،

---------------------------
(1) ابن قيم (المتوفى 751) : اعلام الموقّعين ، 3|41 ـ 43 ، ولاحظ اغاثة اللهفان له أيضاً : 1|312.

الاعتصام بالكتاب والسنة _ 210 _

  ثلاثاً، فكثيراً ما يندم الزوج من الطلاق ويريد اعادة بناء البيت الذي هدمه بالطلاق ـ وهو حسب الفرض يتوقّف على المحلّل الذي يلصق العار بهما ويترتّب عليه ما ذكره ابن قيم في كلامه المسهب.
  وفي كلامه ملاحظات أُخرى تركناها خصوصاً في تصويره المحلّل كأنّه الاَجير للتحليل ، ويتزوّج لتلك الغاية وهو تصوير خاطىَ جداً بل يتزوج بنفس الغاية التي يتزوّج لاَجلها ، سائر النساء ، غير أنّه لو طلّق الزوجة عن اختيار يصير حلالاً للزوج السابق وأين ذلك مما جاء في كلامه.