ولعل الوجه فيه ان يوم الجمعة يوم مبارك مضيق على المسلمين ، وهو يوم العمل والتعجيل ، وفيه ساعة مباركة لا يسأل الله عبد مؤمن فيها شيئاً الا اعطاه ، وفيه يضاعف العمل ، ويغفر للعباد ، وينزل عليهم الرحمة ، من وافق منكم يوم الجمعة فلا يشتغلن بشيء غير العبادة .
  ولكن الناس لما لم يحيطوا به علماً ، وكانوا فيه من الزاهدين ، ومنه ومن فضائله من الغافلين ، حثهم عليه وامرهم بترك جميع اسباب المعاش في ذلك الوقت ، وقال ( هو خير لكم ) لان ما عندكم ينفد وما عند الله باق ، والعاقل لا يؤثر الفاني على الباقي .
  هذا والاضافة في ذكر الله للعهد ، لان تعريفها باعتباره ، لا تقول غلام زيد الا لغلام معهود باعتبار تلك النسبة ، لا لغلام من غلمانه ، وإلا لم يبق فرق بين النكرة والمعرفة ، والمعهود هو الصلاة ، لانه لم يسبق غيرها .
  ولذلك قال المستدل قدس سره بعد ما بلغ الى درجة الفهم والانصاف ، وتخلى عن التعصب والاعتساف في تفسير الصافي وهو كاسمه : فان الاسماء تنزل من السماء ( فاسعوا الى ذكر الله ) يعني الى الصلاة ، كما يستفاد مما قبله ومما بعده .
  ولم يقيدها بالجمعة ، ولا استدل بها على وجوبها ، بل اكتفى بذكر نبذ من الاخبار ، كما هو دأبه في هذا التفسير ولذلك وضعه .
  ثم قال : والاخبار في وجوب الجمعة اكثر من ان تحصى (1) .
  وقد عرفت ان المراد بالصلاة في الآية هو الظهر ، فمن ادعى ان المراد بالذكر صلاة الجمعة او خطبتها ، او هما معاً ، فعليه الدليل ، قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين .
  وبالجملة الاستدلال بالآية على وجوبها العيني موقوف على اثبات تلك

--------------------
(1) الصافي : 5 / 175 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 252_

  المقدمات الممنوعة ، ودون اثباتها خرط القتاد ، وعلى تقدير دلالتها عليه ، فهو مخصوص بأهل زمانه ـ صلى الله عليه وآله .
  لما تقرر في الاصول من ان الخطابات العامة المشافهة الواردة على لسان الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ ليست خطابات لمن بعدهم ، وانما يثبت حكمها لهم بدليل آخر من نص او اجماع او غيرهما ، واما بمجرد الصيغة فلا .
  فالآية بانفرادها لا تدل على وجوبها العيني في هذا الزمان ، بل لا بد في الدلالة عليه من انضمام امر آخر من نص او اجماع ، وهما غير ظاهرين .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _253 _

( سورة المنافقون )
  * (يا ايها الذين آمنوا لا تلهكم اموالكم ولا اولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرين ) [ الآية : 9 ]
  استدل القائلون بوجوب صلاة الجمعة بالآية الشريفة على وجوب عينيتها ، وذلك انهم فسروا الذكر الموجود في الآية بصلاة الجمعة ، ولكن لا دلالة للاية الشريفة عليها بوجه من الوجوه .
  وأما المفسرون ، فانهم لم يفسروا الذكر هاهنا بصلاة الجمعة .
  قال في الكشاف بعد ان ابقى الذكر في مقام التفسير على عمومه ولم يفسره بشيء قيل : ذكر الله الصلوات الخمس ، وعن الحسن جميع الفرائض ، كأنه قال : عن طاعة الله ، وقيل : القرآن ، وعن الكلبي الجهاد مع رسول الله ـ صلى الله عليه وآله (1) .
  وزاد في مجمع البيان قوله وقيل : ذكره شكره على نعمائه ، والصبر على بلائه ، والرضا بقضائه ، ثم قال : وهو اشارة الى انه لا ينبغي ان يغفل المؤمن عن ذكر الله في بؤس كان او نعمة ، فان احسانه في جميع الحالات لا ينقطع (2) .
  وقال في الصافي : اي لا يشغلكم تدبيرها والاهتمام به عن ذكره كالصلاة

--------------------
(1) الكشاف : 4 / 111 .
(2) مجمع البيان : 5 / 295 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 254_

  وسائر العبادات (1) .
  والحق مع الزمخشري ، حيث ابقاه على حاله ، ولم يفسره بشيء ، ونعم ما فعل ، كذلك يفعل الرجل البصير ؛ لان الذكر يعم ، الثناء ، والدعاء ، والصلاة ، وقراءة القرآن ، والحديث ، وذكر الحلال والحرام ، واخبار الانبياء والاوصياء ـ عليهم السلام ـ والصالحين ، وهو اعم من ان يكون باللسان او الجنان او الاركان .
  وبالجملة كلما كان لله سبحانه ، وهو غايته من الاعمال والتروك ، فهو ذكر ، حتى المباحات لو قصد فيها لله تعالى وفعل توصلاً الى عبادته ، انسلك سلك الذكر .
  ولما كان لله تعالى مدخلية في كل الاشياء جواهرها واعراضها التي من فعل الله ، او فعل العباد من حيث الخلق او الاقدار ، والتمكين والحكم والامر والنهي ، كان كل شيء صالحاً لان يقع موقعاً لذكر الله ، فالاعتبار اذن بالقصد والملاحظة لله سبحانه او لغيره ، فتأمل واعتبر ولا تكن من الغافلين .
  وعلى هذا فكيف يمكن تخصيص الذكر بصلاة الجمعة في مقام الاستدلال ؟ مع عدم النص والقرينة ، وهل هذا الا مجرد دعوى خال عن البينة والبرهان ، قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين .

--------------------
(1) الصافي : 5 / 180 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 255_

( سورة الطلاق )
  * (الله الذي خلق سبع سموات ومن الارض مثلهن يتنزل الامر بينهن لتعلموا ان الله على كل شيء قدير وان الله قد احاط بكل شيء علماً ) [ الآية : 12 ]
  هذه الآية الشريفة صريحة في ان الارض متعددة ، وانها سبع كالسموات .
  وذهب بعضهم الى ان قوله ( مثلهن ) اي : في الخلق لا في العدد .
  وهذا خلاف ما دلت عليه الاخبار والادعية المأثورة عنهم ـ عليهم السلام .
  وقيل : انها سبع ارضين متصل بعضها ببعض ، وقد حالت بينهن بحار لا يمكن قطعها ، والدعوة لا تصل اليهم .
  وقيل : انها سبع طبقات بعضها فوق بعض لا فرجة بينها ، وهذا يشبه قول الفلاسفة ، منها : طبقة هي ارض صرفة تجاوز المركز ، ومنها : طبقة معدنية تتولد فيها المعادن ، ومنها : طبقة تركبت بغيرها وقد انكشف بعضها ، ومنها : طبقة الابخرة والادخنة على اختلاف احوالها ، ومنها : طبقة الزمهرير ، وقد تعد هذه الطبقات من الهواء .
  وقيل : انها سبع ارضين بين كل واحدة منها الى الاخرى مسيرة خمسمائة عام ، كما جاء في ذكر السماء وفي كل ارض منها خلق ، حتى قالوا في كل منها آدم وحواء ونوح وابراهيم ، وهم يشاهدون السماء من جانب ارضهم ، ويشهدون الضياء منها ، او جعل الله لهم نوراً يستضيؤون به .
  وفي مجمع البيان : ( مثلهن ) اي في العدد لا في الكيفية ؛ لان كيفية السماء مخالفة لكيفية الارض ، ثم قال وقال قوم : انها سبع ارضين طباقاً بعضها

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 256_

  فوق بعض كالسموات ؛ لانها لو كانت مصمتة لكانت ارضاً واحدة ، وفي كل ارض خلق خلقهم الله تعالى كيف شاء (1) .

--------------------
(1) مجمع البيان : 5 / 310 ـ 311 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 257_

( سورة الجن )
  * (وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً ) [ الآية : 9 ]
  سماع الصوت هو كيفية تحدث في الهواء بتموجه المعلول للقرع ، والقرع انما يحصل بقرع الهواء المتموج تجويف الصماخ ، فحيث لا هواء كما في الفلك وكرة الاثير ، فلا تموج فلا صوت فلا مسموع .
  فكيف يجوز ان يسمع الشياطين كلام الملائكة ، لصعودهم الى قرب كرة النار ولا هواء بينهما حتى تحدث فيه اصواتهم وتصل به اليهم ؟ مع ان البعد المفرط ايضا مانع منه .
  فما افاده الشيخ البهائي في جواب من قال : ان كرة النار في طريقهم فكيف يتجازونها ولا يحرقون ؟ قال : وتقرير الجواب ان وجود كرة النار لم يقم عليه دليل يعول عليه ، ولو سلمنا فيجوز ان تسمع الشياطين كلام الملائكة بصعودهم الى قرب كرة النار ، ولا يتوقف سماعهم على الارتقاء في الصعود عن ذلك القدر (1) انتهى .
  فبعد تسليه وجود كرة النار لا يتم جوابه هذا ، فان من قال بوجودها لا يقول بوجود الهواء فيها ولا فيما فوقها ، فاذا انتفى الهواء انتفى السماء والمسموع .
  اللهم الا ان يمنع توقف حدوث الصوت وسماعه على وجود الهواء او

--------------------
(1) مفتاح الفلاح : 99 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _258 _

  تموجه ، ومعه فشبهة البعد المفرط المانع من السماع باق بحاله .
  والظاهر انه غير قابل للمنع ، والا فلا وجه لصعودهم الى قرب كرة الاثير ، على ان الطبقة الدخانية من الهواء المجاورة للنار لشدة حرارتها تحرق ما يصل اليها من الاجسام القابلة للاحتراق ، فكيف يمكنهم الصعود الى قرب كرة الاثير ، غاية ما يمكنهم ان يصلوا في صعودهم اليه هو طبقة الهواء القريب من الخلوص .
  فالصواب في الجواب ان يمنع وجود كرة الاثير ، وتوقف حدوث الصوت وسماعه على وجود الهواء وتموجه ، ويقال : ان الشياطين لا يسمعون كلام الملائكة الا اذا انتهوا في صعودهم الى قرب السماء ، فاذا استرق الشيطان السمع وبادر الى النزول لحقه الشهاب فأحرقه .
  مع ما ورد في اخبار كثيرة ان الشياطين كانوا يرتقون في صعودهم الى السماء ، وكانت لهم مقاعد في السماء الثالثة ، وكانوا يسترقون فيها الكلمات ، ثم يلقونها الى الكواهن ، فلما ولد سيدنا رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ حجبوا منها ورموا بالشهب .
  في كتاب الاحتجاج حديث طويل عن مولانا امير المؤمنين سلام الله عليه ، يذكر فيه مناقب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وفيه : ولقد رأى الملائكة ليلة ولد تصعد وتنزل ، وتسبح وتقدس ، وتضطرب النجوم وتتساقط ، علامة لميلاده .
  ولقد هم ابليس بالظعن في السماء لما رأى من الاعاجيب في تلك الليلة ، وكان له مقعد في السماء الثالثة ، والشياطين يسترقون السمع ، فاذا هم قد رموا بالشهب جلالة لنبوته ـ صلى الله عليه وآله (1) .
  وعن ابي عبد الله ـ عليه السلام ـ حديث طويل ، وفيه : واما اخبار السماء ،

--------------------
(1) الاحتجاج : 1 / 332 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 259_

  فان الشياطين كانت تقعد مقاعد استراق السمع ، اذ ذاك وهي لا تحجب ولا ترجم بالنجوم ، وانما منعت من استرقاق السمع ، لئلا يقع في الارض سبب تشاكل الوحي من خبر السماء ، ويلبس على اهل الارض ما جاءهم عن الله لإثبات الحجة ونفي الشبهة .
  وكان الشيطان يسترق الكلمة الوحدة من خبر السماء ويلبس على اهل الارض ما جاءهم عن الله من خبر السماء بما يحدث من الله في خلقه ، فيتخطفها ثم يهبط بها الى الارض ، فيقذفها الى الكاهن ، فاذا قد زاد كلمات من عنده فيختلط الحق بالباطل .
  فما اصاب الكاهن من خبر مما كان يخبر به ، فهو مما اداه اليه شيطانه مما سمعه ، وما اخطأ فيه فهو من باطل ما زاد فيه ، فمذ منعت الشياطين عن استراق السمع انقطعت الكهانة .
  فقال : كيف صعدت الشياطين الى السماء وهم امثال الناس في الخلقة والكثافة ، وقد كانوا يبنون لسليمان بن داود ـ عليهما السلام ـ من البناء ما يعجز عنه ولد آدم ؟
  قال : غلظوا لسليمان لما سخروا وهم خلق رقيق غذاهم التنسم ، والدليل على ذلك صعودهم الى السماء لاستراق السمع ولا يقدر الجسم الكثيف على الارتقاء اليها الا بسلم او بسبب (1) .

--------------------
(1) نور الثقلين : 5 / 437 ح 5 ، الاحتجاج : 2 / 81 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 260_

( سورة التكوير )
  * (انه لقول رسول كريم ) [ الآية : 19 ]
  قال الزمخشري في ذيل الآية الكريمة : وناهيك بهذا دليلاً على مباينة منزلة جبرئيل ـ عليه السلام ـ لمنزلة أفضل الأنس محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ اذا وازنت بين الذكرين ، حين قرن بينهما ، وقايست بين قوله ( انه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم امين ) وبين قوله ( وما صاحبكم بمجنون ) (1) .
  وفيه ان هذا الكلام مما اقتضاه هذا المقام ، لان المشركين لما بهتوا رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ورموه بالجنون ونسبوه اليه ، وقالوا : ان الذي جاء به مما القاه اليه الشيطان ، كما يلقى نظائره الى الكهنة ، رد الله سبحانه عليهم بأن صاحبكم الذي يدعوكم الى الله وطاعته ليس بمجنون ، وان القرآن الذي جاءكم به ليس بقول شيطان القاه اليه كما زعمتم ، بل هو قول رسول كريم الى آخر ما وصفه به .
  وهذا لا يدل على انحطاط درجته ـ صلى الله عليه وآله ـ عن درجته ـ عليه السلام ـ كما لا يخفى .
  مع انه معارض بمثل قوله تعالى : ( وما ارسلناك الا رحمة للناس ) (2) وقوله :

--------------------
(1) الكشاف : 4 / 225 .
(2) الانبياء : 107 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _262 _

   ( ان الله اصطفى آدم ونوحاً وآل ابراهيم وآل عمران على العالمين ) (1) خرج من آلهما غير الانبياء بالاجماع ، فيكون آدم ونوح وجميع الانبياء مصطفين على العالمين ومنهم الملائكة ، اذ لا مخصص لهم من العالمين ، ولا جهة لتفسيره بالكثير من المخلوقات .

--------------------
(1) آل عمران : 33 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 263_

( سورة الشرح )
  * (فاذا فرغت فانصب * والى ربك فارغب ) [ الآيتان : 7 ـ 8 ]
  عن أبي جعفر وابي عبد الله وغيرهما ـ عليهم السلام : وانصب من النصب وهو التعب . اي : لا تشتغل بعد الصلاة بالراحة (1).
  مثل النوم والاكل ، وعدم الاشتغال بشيء ، بل اشتغل بالعبادة ، واوصل بعضها ببعض ، ولا تخل وقتاً من اوقاتك فارغاً لم تشغله بعبادة ، فيكون المراد التعقيب ، وهو الدعاء بعد الصلاة .
  وعن ابي عبد الله ـ عليه السلام : هو الدعاء في دبر الصلوات وانت جالس (2) .
  فيكون اشارة الى استحباب التعقيب ، كما هو المشهور والمجمع عليه ، وهو الاشتغال بعد الفريضة بالدعاء والمسألة ، كما تدل عليه الاخبار من الخاصة والعامة .
  وفي تفسير القمي : اذا فرغت من حجة الوداع ، فانصب امير المؤمنين ـ عليه السلام ـ وروي عن ابي عبد الله ـ عليه السلام : ( فاذا فرغت ) من نبوتك ( فانصب ) علياً ( والى ربك فارغب ) في ذلك (3) .
  وفي الكافي عنه ـ عليه السلام : فاذا فرغت فانصب علمك واعلن

--------------------
(1) مجمع البيان : 5 / 509 .
(2) نفس المصدر .
(3) تفسير القمي : 2 / 428 ـ 429 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 264_

  وصيك (1) .
  والمستفاد من هذه الاخبار انه بكسر الصاد من النصب بالسكون ، بمعنى الرفع والوضع . يعني : اذا فرغت من امر تبليغ الرسالة فانصب علمك بفتح اللام . اي : ارفع علم هدايتك للناس ، وضع من يقوم به خلافك موضعك ، يكون قائماً مقامك بتبليغ الاحكام وهداية الانام .
  وفي الكشاف : ومن البدع ما روي عن بعض الرافضة انه قرأ ( فانصب )بكسر الصاد ، اي : فانصب عليا للامامة ، ولو صح هذا للرافضي ، لصح للناصبي ان يقرأه هكذا ، ويجعله امراً بالنصب الذي هو بغض عليّ وعداوته .
  وفيه ان نصب الخليفة بعد تبليغ الرسالة ، او الفراغ من العبادة ، امر معقول ، بل واجب ، لئلا يكون الناس بعده في حيرة وضلالة ، فصح ان يرتب عليه .
  واما بغض علي ـ عليه السلام ـ وعداوته ، فما وجه ترتبه على تبليغ الرسالة ، او الفراغ من العبادة ؟ على ان كتب العامة مشحونة بذكر محبته ـ صلى الله عليه وآله ـ لعلي ـ عليه السلام ـ واظهار فضله للناس مدة حياته ، وان حبه ايمان وبغضه كفر .
  انظر ايها العاقل الى هذا الملقب بجار الله العلامة كيف اعمى الله بصره بغشاوة حمية التعصب في مثل هذا المقام ، حتى اتى بمثل هذا الكلام المنكر والزور ، بلى انها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور .

--------------------
(1) اصول الكافي : 1 / 294 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 265_

( سورة القدر )
   (بسم الله الرحمن الرحيم)
  * (انا انزلناه في ليلة القدر * وما ادراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من الف شهر * تنزل الملائكة والروح فيها باذن ربهم من كل امر * سلام هي حتى مطلع الفجر) .
  ظاهر اكثر الاخبار (1) الواردة في طريقنا يفيد ان ليلة القدر النازل فيها الملائكة على الامام ـ عليه السلام ـ في بقعة هو فيها غير خارجة عن احدى تلك الليالي الثلاث ، ليلة تسع عشرة ، ليلة احدى وعشرين ، ليلة ثلاث وعشرين .
  وانما وردت مبهمة غير معينة عندنا ـ وان كانت معينة عنده ـ عليه السلام ـ كما يدل عليه ما في بصائر الدرجات عن ابي الهذيل عن ابي جعفر ـ عليه السلام ـ قال قال : يا ابا الهذيل انا لا يخفى علينا ليلة القدر ، ان الملائكة يطوفون بنا فيها (2) ـ لضرب من المصلحة ، كساعة الاجابة واسم الاعظم ونحوهما .

--------------------
(1) انما قال اكثر الاخبار ، لان بعضها يفيد انحصارها في ليلتين : احدى وعشرين ، او ثلاث وعشرين ، بل يفيد بعضها انحصارها في ليلة ثلاث وعشرين ، وان فيها انزل القرآن ، ولا شك ان نزوله كان في ليلة القدر ، لقوله ( انا انزلناه في ليلة القدر ) ، ( منه ) .
(2) بصائر الدرجات : 221 ح 5 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _266 _

  ولكن تلك الليلة الواحدة بناءً على ما ثبت من كرية الارض وعليه فقهاؤنا ، تتعدد في سنة واحدة بتعدد البلدان والبقاع شرقية وغربية ، كما ان رؤية الهلال والعيد وغير ذلك ايضا كذلك .
  لذلك قال الفاضل العلامة في التذكرة : ان الارض كرة ، فجاز ان يرى الهلال في بلد ولا يظهر في آخر ، لان حدبة الارض مانعة لرؤيته ، وقد رصد ذلك اهل المعرفة وشوهد بالعيان خفاء بعض الكواكب الغربية لمن جد في السير نحو المشرق وبالعكس .
  اقول : فيختلف بذلك ـ اي : باختلاف البلدان في طلوع الكواكب وغروبها ـ ليلة القدر فيها ، فرب بلدة تكون ليلة القدر فيها مثلاً ليلة الجمعة ، وهي في بلد آخر انما تكون في ليلة الخميس وهكذا .
  وتكون كل ليلة من تلك الليالي ليلة القدر شرعاً ، ويكون العمل الصالح فيها من الصلاة والزكاة وانواع الخير في تلك البقاع خيراً من العمل في الف شهر ليس فيها ليلة القدر .
  الى غير ذلك من احكام تلك الليلة المباركة ، فمن احياها في اية بقعة من تلك البقاع وعمل فيها اعمالها ، فقد ادركها وفاز بما وعده الشارع .
  ويمكن ان يتفق لشخص ان يدركها في سنة واحدة في بقعتين او اكثر ويفوز بثوابها ، وذلك مثل العيد ، فانه ايضا يتعدد بتعدد البلدان شرقاً وغرباً ، ويكون كل عيد من تلك الاعياد عيداً شرعياً ، يترتب على الاعمال الواقعة فيها ليلاً ونهاراً ثوابها .
  وبالجملة ليلة القدر النازل فيها الملائكة على الامام ـ عليه السلام ـ في ارض هو فيها ، وان كانت في كل سنة واحدة بالعدد ، الا ان ليلة القدر التي يكون العمل الصالح فيها خيراً من العمل في الف شهر بالنظر الى سكان تلك البقاع الشرقية والغربية متعددة بتعدد تلك البقاع التي يرى الهلال في بعضها دون بعض .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 267_

  فكل بلد غربي بعد عن الشرقي بألف ميل ، يتأخر غروبه عن غروب الشرقي بساعة ، فرؤية الهلال في احدهما دون الاخر لا مانع منه .
  وعليه يتفرع تعدد ليلة القدر واختلافها بالنسبة الى المساكن الشرقية والغربية ، وكلها ليلة القدر الشرعية ؛ لان تخصيصها ببلد دون بلد غير معلوم ولا مفهوم من الاخبار ، بل الظاهر منها خلافه .
  الا ان نزول الملائكة على الامام ـ عليه السلام ـ في واحدة منها ، ويمكن ان يكون في كل منها ، بأن يكون ـ عليه السلام ـ في كل ليلة من تلك الليالي في بقعة من تلك البقاع بطيّ الارض ونحوه ، ليدرك ثواب عمل تلك الليلة ، فتتعدد عليه ليلة القدر في سنة واحدة .
  بل نقول : لا بعد في ان تكون ليلة قدره ـ عليه السلام ـ ايضا واحدة ، ولكن يكون نزول الملائكة عليه في كل ليلة من تلك الليالي القدر ، بأن يعرضوا عليه في كل ليلة ما يتعلق بأحوال سكان البلدة التي تلك الليلة ليلة قدرهم .
  فان نزول الملائكة عليه في ليلة القدر اعم من ان تكون ليلة قدره او ليلة قدرهم ، كما يستفاد من الآية ، فان المفهوم منها ان الملائكة والروح تتنزل في ليلة القدر على امام الزمان ، وهو يعم الليلتين معاً ولا يخفى .
  وعلى هذا فكل من تلك الليالي مصداق ليلة القدر النازل فيها الملائكة على الامام ـ عليه السلام ـ بما يكون من السنة الى السنة ، فتأمل .
  نعم ليلة القدر التي نزل فيها القرآن جملة الى السماء الدنيا ، كما هو ظاهر ( انا انزلناه في ليلة القدر ) وقد وردت فيه عدة اخبار ، واحدة بالعدد لا تعدد فيها ، ولكنها لا يعلم انها كانت ليلة قدر سكان اية بلدة .
  وعلى هذا فلابد من الاستخدام في ضمير (فيها ) في قوله ( تنزل الملائكة والروح فيها ) فتدبر .
  والحاصل ان تعدد ليلة القدر في سنة واحدة بالنسبة الى اهل المساكن الشرقية والغربية ، ونزول الملائكة في كل منها على الامام بأحكام اهل تلك

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 268_

  المساكن ، وكون العمل الصالح في كل منها خيراً من العلم في الف شهر ، مما لا مانع منه لا عقلاً ولا نقلاً .
  بل الواقع كذلك ، لان من ضروريات مذهب اهل البيت ـ عليهم السلام ـ بقاء ليلة القدر الى يوم القيامة ، ولا شك في إختلافها باختلاف البلدان ، وقد سبق ان تخصيصها ببعضها دون بعض لا وجه له ، اذ لا دليل عليه ، وخاصة بالاضافة الى الاعمال .
  فانهم ـ عليهم السلام ـ قد رغبوا الناس بالاشتغال فيها بالصلاة والدعاء والمسألة ، ليدركوا فضلها وما اعد للعمل فيها ، ولم يخصوها في شيء من الاخبار فيما علمناه ببلد دون بلد ، وترك التخصيص والتفصيل دليل العموم ، وهو ظاهر .
  قال بعض الافاضل المتأخرين ناقلاً عن مجمع البيان : اختلفوا في تحقيق استمراره وعدمه ، فذهب قوم الى انها كانت على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ثم رفعت . وقال آخرون : لم ترفع ، بل هي الى يوم القيامة ـ الى ان قال : وجمهور العلماء على انها في شهر رمضان في كل سنة انتهى .
  أقول : وهذا هو الحق يعلم ذلك من مذهب اهل البيت ـ عليهم السلام ـ بالضرورة .
  ثم قال : ولا خلاف بين اصحابنا في انحصارها في ليلة تسعة عشر منه واحدى وعشرين وثلاث وعشرين ، الا من الشيخ رحمه الله .
  فانه نقل الاجماع عنه في التبيان على انها في فرادى العشر الاواخر منه تتنزل الملائكة والروح فيها باذن ربهم على امام الزمان ، فيعرضون عليه كلما قدر في كل تلك السنة ، يسلمون عليه وعلى اوليائه من اول الليل الى مطلع الفجر ، والاخبار مستفيضة بذلك .
  ثم قال : بقي هنا اشكال ، هو انه ربما تختلف باختلاف الاهلة المختلفة باختلاف الاقاليم ، فلا تعرف .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 269_

  أقول : عدم كونها معروفة لا يدل على عدمها ، مع انها معروفة للامام الذي تنزل عليه الملائكة والروح فيها .
  نعم يرد الاشكال على العمل فيها مع عدم الجزم بها ، ولكن سيأتي ما يدل على جواز العمل المعين لوقت من غير جزم بوجوده .
  فيجوز مثلاً ان يغتسل بنية ليلة القدر مع عدم جزمه بوجودها ، وهكذا في سائر الاعمال المتعلقة بتلك الليلة ، فلا يشترط الجزم في النية ، ولهذا جاز الترديد فيها ليلة الشك .
  واما الثواب الموعود من الشارع لذلك العمل ، فهو يترتب عليه ، لانه وعده عليه ذلك الثواب ، ولم يعين له الوقت على وجه يتمكن من الجزم به .
  فاذا عمل ذلك العمل المعين لوقت من غير جزم بوجوده ، يجب عليه ان يثيبه ، والا لكان ظالما ، لانه بذل جهده في تحصيل العلم بذلك الوقت ولم يحصل ، ومع ذلك فهو مخاطب بالعمل فيه ، فاذا عمل وجبت اثابته .
  واليه اشار المستشكل بقوله : واجيب عنه بأجوبة ، منها : ان يكون المدار على بلد الامام في نزول الملائكة والروح ، ويكون للآخرين ثواب عبادة ليلة القدر اذا عبدوا الليلة الاخرى .
  اقول : فان قلت : لو كانت عبادة الليلة الاخرى وان لم تكن ليلة القدر قائمة مقام عبادة ليلة القدر في بلد الامام ، فأي وجه للامر بعبادة ثلاث ليال متفرقة ؟
  قلت : الوجه فيه هو الوجه في عبادة ثلاث ليال في بلد الامام ، وعالم بها بعينها ، كما سيأتي انشاء الله العزيز .
  ثم قال : ومنها ان يكون الامام في كل ليلة في اقليم ، فتنزل الملائكة في الليلتين معاً . الثالث : ان يكون الامام في بلدة لكن تنزل عليه الملائكة في كل ليلة بأحوال اصحاب البلدة التي تلك الليلة قدرهم انتهى .
  اقول : اختلاف الاقاليم لا مدخل له في اختلاف الاهله ، لانه باعتبار عرضها واختلاف الاهله انما هو باعتبار طولها ، كما اومأنا اليه ، وطول كل اقليم

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 270_

  من المغرب الى المشرق .
  فالبلد المغربي جاز ان يرى فيه الهلال ، ولا يرى في البلد المشرقي ؛ لان حدبة الارض مانعة لرؤيته .
  ولان غروبه في الاول بعد غروبه في الثاني بساعة مثلاً ، فيخرج بقدرها عن تحت الشعاع ، فيكون ممكن الرؤية في هذا البلد دون ذاك ، فكلما كان البلد اغرب ، كانت رؤية الهلال فيه امكن واقرب .
  وبالجملة اختلاف الاهلة انما هو باختلاف البلدان شرقية وغربية ، فكل بلد غربي بعد عن بلد آخر شرقي بالف ميل يتأخر غروبه عن غروب الشرقي بساعة ، فيتحقق بذلك اختلاف المطالع .
  كما اشار اليه فخر المحققين في الايضاح بقوله : الاقرب ان الارض كروية ؛ لان الكواكب تطلع في المساكن الشرقية قبل طلوعها في المساكن الغربية ، وكذا في الغروب ، فكل بلد غربي بعد عن الشرقي بألف ميل يتأخر غروبه عن غروب الشرقي بساعة واحدة .
  وانما عرفنا ذلك بارصاد الكسوفات القمرية ، حيث ابتدأت في ساعات اقل من ساعات بلدنا في المساكن الغربية ، واكثر من ساعات بلدنا في المساكن الشرقية ، فعرفنا ان غروب الشمس في المساكن الشرقية قبل غروبها في بلدنا ، وغروبها في المساكن الغربية بعد غروبها في بلدنا .
  ولو كانت الارض مسطحة ، لكان الطلوع والغروب في جميع المواضع في وقت واحد ، ولان السائر على خط من خطوط نصف النهار على الجانب الشمالي يزداد عليه ارتفاع القطب الشمالي وانخفاض الجنوبي وبالعكس انتهى .
  ومما حررناه ظهر ان قوله ( ومنها ان يكون الامام في كل ليلة في اقليم ) ليس في محله ، بل ينبغي ان يقال : انه يكون في كل ليلة من تلك الليالي في بلد من البلدان ، فتنزل عليه الملائكة بأحوال سكان ذلك البلد .
  اذ ربما تختلف ليلة القدر على اهل اقليم واحد باختلاف بلدانهم شرقية

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 271_

  وغربية ، فتختلف عليهم الاهلة ، ويتبعه اختلاف ليلة القدر ، فتأمل .
  تحديد ليلة القدر
  فان قلت : اهل البلد الذي فيه صاحب هذا العصر والزمان ـ عليه السلام ـ مع علمه بليلة القدر بعينها هل يطلبونها في ثلاث ليال ام ليلة واحدة لاعلامه اياهم بها ؟
  قلت : يحتمل الامرين ، والظاهر هو الاول ؛ لان ائمتنا السابقين صلوات الله عليهم اجمعين كانوا يعلمونها بعينها ، كما سبق في حديث ابي الهذيل ، ومع ذلك كانوا يأمرون اصحابهم بطلبها في ليلتين او ثلاث ليال .
  قال عبد الواحد بن المختار الانصاري : سألت ابا جعفر ـ عليه السلام ـ عن ليلة القدر ، قال : في ليلتين : ليلة ثلاث وعشرين ، واحدى وعشرين ، فقلت : افرد لي احداهما ، فقال : وما عليك ان تعمل في ليلتين هي احداهما (1) .
  ولعل الوجه في اخفائها ما اشار اليه في مجمع البيان بقوله : والفائدة في اخفاء هذه الليلة ان يجتهد الناس في العبادة ، ويحيوا جميع ليالي رمضان طمعاً في ادراكها ، كما ان الله سبحانه اخفى الصلاة الوسطى في الصلوات الخمس ، واسمه الاعظم في الاسماء ، وساعة الاجابة في ساعات الجمعة (2) .
  ثم لا يذهب عليك ان حديث الانصاري صريح في انحصار ليلة القدر في تينك الليلتين : ليلة ثلاث وعشرين ، واحدى وعشرين ، وان من عمل فيهما في اية بقعة من تلك البقاع ، فقد ادركها بحقيقتها الفاضلة ، لا بمجرد ثواب عبادتها ، اذ لا يفهم منه اختصاصها ببلد دون بلد .
  فيستفاد منه ضعف الجواب الاول ، وقوة الجوابين الاخيرين ، فيكون الامام

--------------------
(1) وسائل الشيعة : 7 / 263 ح 19 .
(2) مجمع البيان : 5 / 520 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 272_

  ـ عليه السلام ـ في كل ليلة من تلك الليالي في بقعة من تلك البقاع ، او يأتيه الملائكة بأحوال اصحاب تلك البقعة في تلك الليلة .
  ومثله ما في الكافي عن ابي حمزة الثمالي ، قال : كنت عند ابي عبد الله ـ عليه السلام ـ فقال ابو بصير : جعلت فداك الليلة التي يرجى فيها ما يرجى ، فقال : في احدى وعشرين ، او ثلاث وعشرين .
  قال : فان لم اقو على كلتيهما ، فقال : ما ايسر ليلتين فيما تطلب .
  قلت : فربما رأينا الهلال عندنا وجاءنا من يخبرنا بخلاف ذلك من ارض اخرى ، فقال : ما ايسر اربع ليال تطلبها فيها .
  قلت : جعلت فداك ليلة ثلاث وعشرين ليلة الجهني ، فقال : ان ذلك ليقال .
  فقلت : جعلت فداك ان سليمان بن خالد روى في تسع عشرة يكتب وفد الحاج ، فقال لي : يا ابا محمد وفد الحاج يكتب في ليلة القدر والمنايا والبلايا وما يكون الى مثلها في قابل ، فاطلبها في ليلة احدى وثلاث ، وصل في كل واحد منهما مائة ركعة ، واحيهما ان استطعت الى النور ، واغتسل فيهما .
  قال قلت : فان لم اقدر على ذلك وانا قائم ، قال : فصل وانت جالس .
  قلت : فان لم استطع ، قال : فعلى فراشك ، لا عليك ان تكتحل اول الليل بشيء من النوم ، ان ابواب السماء تفتح في رمضان ، وتصفد الشياطين ، وتقبل اعمال المؤمنين ، نعم الشهر رمضان ، كان يسمى على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ المرزوق (1) .
  اقول : يستفاد من هذا الحديث ان من طلبها في اي بلد من تلك البلاد الشرقية والغربية في ليلة احدى وثلاث يدركها بحقيقتها ، لا بمجرد ان يكون له ثواب عبادتها ، كما قيل وقد سبق .

--------------------
(1) فروع الكافي : 4 / 156 ـ 157 ح 2 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 273_

  والا فأية حاجة له الى طلبها في اربع ليال عند الاشتباه والاختلاف في رؤية الهلال ، لولا انه يطلبها ليدركها بحقيقتها الفاضلة .
  فيستفاد منه ان الامام ـ عليه السلام ـ في كل ليلة من تلك الليالي في بلد من تلك البلاد ، فتنزل عليه الملائكة بأحكامها ، او هو في بلدته ولكنها تنزل عليه في كل ليلة بأحوال سكان بلدة تلك الليلة ليلة قدرهم .
  وعلى التقديرين فأهل كل بلدة من تلك البلاد يدركونها بحقيقتها الفاضلة اذا طلبوها في ليلة احدى وثلاث ، واذاً فالمعتمد هو احد الجوابين الاخيرين او كلاهما ، فتأمل .
  معنى ليلة القدر
  اختلف العلماء في معنى هذا الاسم ، فقيل : سميت ليلة القدر لانها الليلة التي يحكم الله فيها ، ويقضي بما يكون في السنة بأجمعها من كل امر ، وهي الليلة المباركة في قوله تعالى ( انا انزلناه في ليلة مباركة ) لان الله تعالى ينزل فيها الخير والبركة والمغفرة .
  أقول : ويدل على صحة هذا القول (1) أخبار كثيرة :
  منها : ما في الكافي في حسنة حمران انه سأل ابا جعفر ـ عليه السلام ـ عن قول الله تعالى : ( انا انزلناه في ليلة مباركة ) قال : نعم ليلة القدر ، وهي في كل سنة في شهر رمضان في العشر الاواخر ، فلم ينزل القرآن الا في ليلة القدر ، قال الله تعالى : ( فيها يفرق كل امر حكيم ) (2) .
  قال : يقدر في ليلة القدر كل شيء يكون في تلك السنة الى مثلها من قابل خير وشر وطاعة ومعصية ومولود واجل ورزق ، فما قدر في تلك الليلة فهو

--------------------
(1) اشارة الى ترجيح هذا الوجه من جملة وجوه التسمية ( منه ) .
(2) الدخان : 4 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 274_

  المحتوم ، ولله تعالى فيه المشيئة الحديث (1) .
  وفي رواية اخرى : وفيه ـ اي في شهر رمضان ـ رأس السنة يقدر فيها ما يكون في السنة من خير او شر ، او مضرة ، او منفعة ، او رزق ، او اجل ، ولذلك سميت ليلة القدر .
  وقيل : لان للطاعات فيها قدراً عظيماً وثواباً جزيلاً .
  وقيل : سميت ليلة القدر ، لانه انزل فيها كتاب ذو قدر ، الى رسول ذي قدر ، لاجل امة ذات قدر ، على يدي ملك ذي قدر .
  وقيل : لان الله قدر فيها القرآن .
  وقيل : سميت بذلك لان الارض تضيق فيها الملائكة من قوله ( فقدر عليه رزقه ) (2) وهو منقول عن الخليل بن احمد رحمه الله .
  والحمد لله رب العالمين .

--------------------
(1) فروع الكافي : 4 / 157 ـ 158 .
(2) الفجر : 16 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _275 _

( سورة الاخلاص )
   (بسم الله الرحمن الرحيم)
  * (قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفواً أحد ).
  لفظة ( الله ) تدل على نفي الشريك ، والاحد على نفي التركيب ، وانه واحد في المعبودية بالحق ، لا يشاركه فيها احد .
  وهذه السورة دلت على معرفة الله وتوحيده ، وتنزيهه عن مشابهة الخلق ، فانه فرد واحد احدي المعنى ، لا ينقسم في وجود ، ولا عقل ، ولا وهم .
  فيفسر الصمد بما لا جوف له ، كما ورد في كثير من الاخبار مما لا قصور فيه ولا نقص ، كما ظنه ثقة الاسلام الكليني في الاصول .
  فانه قال فيه بعد ان روى روايتين ضعيفتين دالتين على ان المراد بالصمد السيد المصمود اليه في القليل والكثير : هذا هو المعنى الصحيح في تأويل الصمد ، لا ما ذهب اليه المشبهة ان تأويل الصمد المصمت الذي لا جوف له .
  لان ذلك لا يكون الا من صفة الجسم ، والله جل ذكره متعال عن ذلك ، هو اعظم واجل من ان تقع الاوهام على صفته ، او تدرك كنه عظمته ، ولو كان تأويل الصمد في صفة الله المصمت ، لكان مخالفا لقوله ( ليس كمثله شيء ) لان ذلك من صفة الاجسام المصمتة التي لا جوف لها ، تعالى الله عن ذلك ، فأما ما جاء في الاخبار من ذلك ، فالعالم ـ عليه السلام ـ اعلم بما قال (1) .

--------------------
(1) اصول الكافي : 1 / 124 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 276_

  وفيه ان العالم ـ عليه السلام ـ اشار بقوله ( الصمد هو الذي لا جوف له ) الى ما اشرنا اليه ، لا الى ما فهمه منه رحمه الله ، فتأمل .
  ثم استنساخ الكتاب وترتيبه وتحقيقه في يوم المولود الاعظم النبوي سنة 1412 هـ ق في بلدة قم المقدسة على يد العبد السيد مهدي الرجائي عفى عنه .