في سلوكه كثر الشوق وقل الصبر ، حتى يصل الى المطلوب ، فتخلص حينئذ لذة نيل الكمال من الالم ، وينتفي الشوق .
  ولكن هذا الطريق مع كمال وضوحه مخوف ، وفيه مهالك ومواقع ، والسالك فيه يحتاج الى العنايات الربانية والهدايات السبحانية ، فانه ما دام في سيره الى الحق يكون مضطربا غير مستقر الخاطر ، لخوف العاقبة ، وما يعرض في اثناء السير والسلوك من العوارض العائقة ، كالانحراف عن القصد في عبادة الله ، واستيلاء القوى الشهوانية ، بحسب مجرى العادة في استعمال الشهوات المألوفة ، فان هذه وامثالها تصد السالكين عن السلوك الى الله ، وهم على خوف منها ومن خواطر الشيطان ، ونعم ما قيل :
كيف الوصول الى سعادة ودونها      قـلل  الـجبال ودونهن iiحتوف
والـرجل حـافية ومالي iiمركب      والـكف صفر والطريق مخوف
  فاذا هب نسيم العناية الازلية ، وارتفعت الحجب الحائلة الظلمانية ، تنور القلب بنور العيان ، وحصلت الراحة والاطمئنان ، وزال الخوف وظهر تباشير الامن والامان .
  كما اشار اليه امام الانس والجان سيدنا امير المؤمنين عليه سلام الله الملك المنان ، عند ذكر السالك على ما هو المذكور في نهج البلاغة بقوله : قد أحيا عقله ، ومات نفسه ، حتى دق جليله ، ولطف غليظه ، وبرق له لامع كثير البرق ، فعن له الطريق ، وسلك به السبيل ، وتدافعته الابواب الى باب السلامة ودار الاقامة ، وتثبتت رجلاه بطمأنينة قلبه (1) في قرار الامن والراحة ، بما استعمل قلبه وارضا ربه (2) .

--------------------
(1) في المصدر : بدنه .
(2) نهج البلاغة : 337 ، ك : 220 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 52_

  أقول : فمعنى ( اهدنا ) زدنا هدىً بمنح الالطاف ، وعن علي ـ عليه السلام ـ معناه ثبتنا .
  ولفظ الهداية على الثاني مجاز ؛ اذ الثبات على الشيء غيره .
  وأما على الاول ، فان اعتبر مفهوم الزيادة داخلا في المعنى المستعمل فيه ، فمجاز ايضا ، وان اعتبر خارجا عنه مدلولا عليه بالقرائن ، فحقيقة ، اذ الهداية الزائدة هداية ، كما ان العبادة الزائدة عبادة ، فلا جمع فيه بين الحقيقة والمجاز .
  واما المراد بالصراط المستقيم المبين بصراط المنعمين عليهم دون المغضوب عليهم ولا الضالين ، فهم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون وحسن اولئك رفيقا .
  وصراطهم في الدنيا ما قصر عن الغلو وارتفع عن التقصر واستقام ، فلم يعدل الى شيء من الباطل ، وهو دين الاسلام الحاصل لكل من اصحاب المرتبتين جميعاً ، وان كان حصوله لهم وثباتهم عليه مقولاً بالشدة والضعف .
  ثم ان هذا هو بعينه صراطهم في الاخرة ؛ لانه يوديهم الى الجنة .
  فيدخلونها خالدين فيها لا يبغون عنها حولا ، وما هم منها بمخرجين .
  فان قلت : هذه الآية قد تلاها نبينا واوصياؤه ـ عليهم السلام ـ فما كانوا يريدون بالهداية المذكورة فيها ؟
  قلت : كانوا يريدون بها الثبات على الصراط المستقيم ، وهو دين الاسلام ، لان ميلهم عنه كلاً او بعضاً امر ممكن بالذات ، وهذا القدر كاف في طلب الثبات عليه ، وذلك لان العصمة البشرية لاتجعل المعصوم مسلوب القدرة على المعصية ، والا لم يكن له في تركها ثواب ، وكان احدنا اذا كف نفسه عن المعصية اكثر ثواباً منه ؛ لان له دواعي وبواعث عليها دونه على ما هو المفروض .
  او يقال : هو بالنسبة اليهم تعبد محض . او هو من قبيل بسط الكلام مع المحبوب ، فلا يضر امتناع ميلهم عنه . والوجه هو الاول .
وسمي بالمستقيم لانه يؤدي من يسلكه الى الجنة ، كما ان الصراط يؤدي

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 53_

  من يسلكه الى المقصد .
  وروي ان المراد به كتاب الله (1) .
  فالمطلوب الهداية الى فهم معانيه ، والتدبر في مقاصده ومبانيه ، واستنباط الاحكام منه ، والتعمق في بطون آياته ، فان لكل آية ظهرا وبطناً .
  وعن علي ـ عليه السلام ـ في ( اهدنا الصراط المستقيم ) قال : ادم لنا توفيقك الذي به اطعنا في ماضي ايامنا حتى نطيعك كذلك في مستقبل اعمارنا (2) .
  والصراط المستقيم هو صراطان : صراط في الدنيا ، وهو ما قصر عن الغلو وارتفع عن التقصير واستقام ، فلم يعدل الى شيء من الباطل . وصراط في الاخرة ، وهو طريق المؤمنين الى الجنة الذي هو مستقيم ، لايعدون عن الجنة الى النار ، ولا الى غير النار سوى الجنة .
  * ( صراط الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) .
  قيل : المراد بهم المسلمون ، فان نعمة الاسلام رأس جميع النعم .
  أقول : وذلك لان من انعم الله عليه بنعمة الاسلام لم يبق نعمة الا اصابته ، لاشتمالها على سعادة الدارين .
  واجل نعمة انعم الله بها على عباده هي نعمة العقل ، ونعني به ما من شأنه ان يعبد به الرحمن ويكتسب به الجنان ، ثم توفيقه لهم على تحليتهم انفسهم بالاخلاق الزكية ، والتخلية عن الملكات الردية .

--------------------
(1) مجمع البيان : 1 / 28 .
(2) معاني الاخبار : 33 ح 4 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 54_

  فانها مستتبعة لجميع الخيرات الدنيوية ، من فعل الطاعات وترك السيئات وغيرهما ، والاخروية مع الحور والقصور وغيرهما مما هو موجود في الجنة من انواع الملذات ، فانها كلها تنشأ من تلك الاخلاق ، الا انها لا يلزم آثارها الا بعد المفارقة الى الاخرة .
  وذلك لان الجنة الصورية ، وهي الابواب والجدران وما فيها من الانهار والاشجار والحور والقصور وغيرها ، صورة الاخلاق الحميدة والافعال الحسنة الناشئة منها ، والعلوم والآراء المطابقة للواقع .
  كما ان النار الصورية وما فيها من العقارب والحيات وغيرهما من انواع المؤذيات ، صورة اضدادها من الاخلاق الذميمة والملكات الردية ، والعلم بالاشياء على خلاف ما هي عليه ، وفوق كل ذلك هو المعارف الالهية ، واقتناؤها من فروع العقل .
  قال الفاضل العارف كمال الدين بن ميثم البحراني في شرح نهج البلاغة عند قوله ـ عليه السلام ـ ( درجات متفاضلات ) : اعلم ان الذ ثمار الجنة هي المعارف الالهية ، والنظر الى وجه الله ذي الجلال والاكرام ، والسعداء في الوصول الى نيل هذه الثمرة على مراتب متفاوتة .
  فالاولى من اوتي الكمال في حدس القوة النظرية ، حتى استغني عن معلم بشري رأساً ، واوتي مع ذلك ثبات قوة المفكرة واستقامة وهمه ، منقاداً تحت قلم العقل ، فلا يلتفت الى العالم المحسوس بما فيه ، حتى يشاهد عالم المعقول بما فيه من الاحوال ، ويستثبتها في اليقظة .
  فيصير العالم وما يجري فيه متمثلا في نفسه ، فيكون لقوته النفسانية ان تؤثر في عالم الطبيعة ، حتى تنتهي الى درجة النفوس السماوية ، وتلك هي النفوس القدسية اولات المعارج ، وهم السابقون السابقون اولئك المقربون ، وهم افضل النوع البشري واحقه بأعلى درجات السعادة في الجنة (1) .

--------------------
(1) شرح نهج البلاغة : 2 / 277 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _55 _

  وبما قررناه ظهر ان الجنة بما فيها من انواع اللذات والملذات الجسمانية والروحانية من توابع العقل والاخلاق الزكية وفروعهما ، فهما من اجل النعم على الانسان .
  وأما غيرهما من النعم الجسمانية والروحانية ، فانها خلقت لتكون وصلة ووسيلة اليهما ، فهذه الآية اذا تلاها تال ، فينبغي له ان يراد بالنعمة المذكورة فيها هاتين النعمتين الجليلتين ، فانهما نعمتان مشتركتان بين جميع المنعمين عليهم من الانبياء والصديقين والمقربين والشهداء والصالحين .
  وأما غفران الذنوب بعد التوبة او بدونها ، فليس بنعمة مشتركة بينهم ، فكيف يراد من النعمة المذكورة فيها ، فتأمل .
  اعلم ان كلمة ( غير ) وضعت للمغايرة ، وهي مستلزمة للنفي ، فتارة يراد بها اثبات المغايرة ـ كما في ( غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) فتكون اثباتا في حكم النفي لتضمنه اياه ، فيجوز تأكيده بـ ( لا ) .
  واخرى يراد بها النفي ، كقولك انا غير ضارب زيد ، اي : لست ضاربا له ، لا اني مغاير لشخص ضارب له ، فلفظة ( لا ) مزيدة لتأكيد ما في ( غير ) من معنى النفي .
  ثم في عدوله سبحانه عن اسناد الغضب الى نفسه جل شأنه مع التصريح باسناد عديله اعني النعمة اليه عز سلطانه تشييد لمعالم العفو والرحمة ، وتأسيس لمباني الجود والكرم حتى كأن الصادر عنه هو الانعام لا غير ، وان الغضب صادر عن غيره .
  ومثله بل احسن منه قوله عز اسمه ( نبىء عبادي اني انا الغفور الرحيم * وان عذابي هو العذاب الاليم ) (1) .

--------------------
(1) الحجر : 49 ـ 50 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 56_

  وفي الخبر عن سيد البشر ـ صلى الله عليه وآله ـ انه قال : ليغفرن الله تعالى يوم القيامة مغفرة ما خطرت قط على قلب احد ، حتى ان ابليس ليتطاول لها ان تصيبه (1) .
  اقول : وكيف لا يكون كذلك ، وهو عز اسمه كتب على نفسه الرحمة ، وآية رحمته ( رحمتي وسعت كل شيء ) (2) وهو الجواد المطلق الذي لا يرحم لمنفعة تعود اليه ، ولا مضرة يدفعها عنه ، وكل رحيم سواه فرحمته لغرض من الاغراض : اما ثناء دنيوياً ، او اجراً اخروياً ، او رقة ناشئة من الجنسية ، او نحو ذلك .

--------------------
(1) بحار الانوار : 7 / 287 .
(2) الاعراف : 156 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 57_

( سورة البقرة )
  * (واذ ابتلى ابراهيم ربه بكلمات فاتمهن قال اني جاعلك للناس اماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين )، [ الآية : 124 ]
  قال البيضاوي بعد قوله تعالى في قصة خليله ـ عليه السلام ـ لاينال عهدي الظالمين ) : فيه تنبيه على انه قد يكون من ذريته ظلمة ، وانهم لا ينالون الامامة ؛ لانها امانة من الله وعهده ، والظالم لا يصلح لها ، وانما ينالها البررة الاتقياء منهم (1) .
  وقال الفاضل المحشي عصام الدين محمد في حواشيه على هذا التفسير : معناه لاينال عهدي الظالمين ما داموا ظالمين ، فالظالم اذا تاب لم يبق ظالما .
  وكيف لا يكون المراد ذلك ؟ وقد نالت الامامة ابا بكر وعمر وعثمان ، ومراده ان هذه قضية سالبة ، والمراد من السالبة المطلقة ـ كما ذكره المنطقيون ـ هو العرفية العامة ، فالآية لا تدل على عدم نيل الامامة الظالم بعد توبته ؛ لعدم صدق الظالم عليه حينئذ .
  اقول : أية فائدة في الاخبار بأن الظالم ، اي الكافر ، كما هو مراد المحشي ، ويدل عليه قوله تعالى ( والكافرون هم الظالمون ) (2) ما دام كافراً لا تناله الامامة ؛ وهي الرئاسة العامة في امر الدين والدنيا خلافة عن الله او عن النبي .
  فان من الاوليات بل الاجلى منها ان الامامة والظلم بالمعنيين المذكورين لا

--------------------
(1) انوار التنزيل : 1 / 54 .
(2) البقرة : 254 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 58_

  يجتمعان ، ولا يتوهمه عاقل ، ليحتاج الى دفعه بانزال آية من السماء ، ضرورة ثبوت التنافي بينهما ، فكيف يصير هذا الحكم موضعا للافادة ؟ وخاصة اذا صدر من الحكيم العليم الذي لا يتطرق اليه ولا الى كلامه عبث ولا لغو ، ولا يكون كلامه ككلام الساهي والنائم والهاذي .
  فظهر انه لا يمكن ان يراد بالظالم المنفي عنه الامامة ، من يباشر الظلم ويرتكبه ، حتى يصح ان يقال : انه اذا تاب عنه ويصلح لم يبق ظالما ، فيمكن ان تناله الامامة ، بل هو واقع ، لانها قد نالت هؤلاء بثلاثتهم ، بعد ان تابوا عن ظلمهم وكفرهم واصلحوا .
  وهل هذا الا مصادرة وتفسير للاية بما يطابق اهواءهم ، بل المراد به من وجد منه الظلم وقتا ما ، وان لم يكن في الحال ظالما ، بل كان تائبا .
  لان ابراهيم ـ عليه السلام ـ لم يسأل الامامة لبعض ذريته المباشرين للظلم من قبل ان يتوبوا عنه ، فلانه قبيح عمن يدعي صحبة عاقل من العقلاء ، فكيف لا يكون قبيحا عمن هو من اعقل الأنبياء .
  فتعين ان سؤاله الامامة : اما لبعض ذريته مطلقا ، او للذين لم يظلموا منهم اصلا ، او ظلموا ثم تابوا عنه .
  والاول لا يحتمل المباشرين للظلم منهم ، كما مر لما مر ، فيتحقق في ضمن احد الاخيرين ، فقوله تعالى في جوابه ( لا ينال عهدي الظالمين ) منهم ، صريح في ان الذين ظلموا منهم ، اي : سبقوا في الظلم والكفر لا ينالهم عهد الله ، وان تابوا بعد ظلمهم واصلحوا ، ولم يكونوا في الحال ظالمين .
  فدلت على ان الامامة عهد من الله وامانة منه لا تنال من كان ظالما ولو وقتا ما .
  ويدل عليه ما رواه الفقيه ابن المغازلي الشافعي ، عن عبد الله بن مسعود في تفسير الآية ، قال قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله : انتهت الدعوة الي والى

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _59 _

  علي ، لم يسجد احد منا لصنم قط ، فاتخذني الله نبياً ، واتخذ علياً وصياً ، (1) وهذا نص بالباب .
  والى ذلك اشار صاحب التجريد بقوله : وسبق كفر غير علي ـ عليه السلام ـ فلا يصلح للامامة غيره ، فتعين هو (2) .
  وجواب القوشجي بأن غاية الامر ثبوت التنافي بين الظلم والامامة ، ولا محذور اذا لم يجتمعا . مندفع بما سبق .
  واعلم ان الشافعي وشيعته كالبيضاوي ، ذهبوا الى ان اطلاق المشتق بعد وجود المشتق منه وانقضائه ، كالظلم لمن قد ظلم قبل وهو الان لا يظلم ، حقيقة مطلقا ، سواء كان مما يمكن بقاؤه ، كالقيام والقعود ، اولا كالمصادر السيالة نحو التكلم والاخبار .
  فعلى قاعدتهم هذه يرد عليهم ان الظالم وان انقضى ظلمه وتاب عنه وقبل توبته لا يصلح للامامة ؛ اذ يصدق عليه انه ظالم حقيقة على ما ذهبوا اليه ، وقد نفى الله عنه الامامة .
  فكيف نالت الامامة من يعتقدون امامته مع ظلمه وكفره بالاتفاق ، وهذا مع قطع النظر عما سبق منا امر يلزمهم بخصوصهم وهم لا يشعرون ، وما وقفت في كلام احد تفطن بهذا ، فهو من سوانح الوقت والحمد لله .
  واذا ثبت ان الظالم وهو من وضع الشيء في غير موضعه وان كان وقتا ما ، او من تعدى حدود الله التي هي الاوامر والنواهي ، لقوله تعالى : ( ومن يتعد حدود الله فقد ظلم )(3) لا تناله الامامة .

--------------------
(1) مناقب ابن المغازلي : 277 .
(2) التجريد : 237 .
(3) البقرة : 229 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 60_

  ثبت ان الامام لابد وان يكون معصوما ، والا لكان ظالما : اما لنفسه ، او لغيره ، وقد سبق ان منفي عنه الامامة ، فالآية مما دل على اعتبار العصمة في الامام ، والحمد لله وحده ذي الجلال والاكرام .
  * (ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة وقنا عذاب النار ) [ الآية : 201 ]
  قيل : المراد بالحسنتين : أما في الدنيا ، فالصحة والامن والكفاية ، والولد الصالح ، والزوجة الصالحة ، والنصر على الاعداء . واما في الاخرة ، فالفوز بالثواب ، والخلاص من العقاب .
  وعنه ـ صلى الله عليه وآله : من اوتي قلباً شاكراً ، ولساناً ذاكراً ، وزوجة مؤمنة تعينه على امر دنياه وآخرته ، فقد اوتي في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة ووقي عذاب النار (1) .
  وعن مولانا امير المؤمنين ـ عليه السلام : الحسنة في الدنيا المرأة الصالحة ، وفي الاخرة الحوراء ، وعذاب النار امرأة السوء (2) .
  وفي الكافي : في الصحيح عن ابي عبد الله ـ عليه السلام ـ في هذه الآية رضوان الله ، والجنة في الاخرة ، والمعاش وحسن الخلق في الدنيا (3) .
  وقيل : هي في الدنيا فهم كتاب الله ، وفي الاخرة الجنة .
  وقيل : في الدنيا العلم والعبادة ، وفي الاخرة الجنة .
  وقيل : الاولى المال والنعمة ، والثانية تمام النعمة ، وهو النجاة من العقاب ،

--------------------
(1) مجمع البيان : 1 / 298 .
(2) تفسير الصافي : 1 / 217 .
(3) فروع الكافي : 5 / 71 ح 2 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 61_

  والوصول الى دار الثواب .
  وقيل : الاولى الاخلاص ، والثانية الخلاص ، الى غير ذلك من الاقوال ،
  ولما كان دفع الضرر اهم من جلب النفع ، صرح بذلك في قوله ( وقنا عذاب النار ) قيل : معناه واحفظنا من الشهوات والذنوب المؤدية الى النار .
  * (ولاتنكحوا المشركات حتى يؤمنّ ). . . [ الآية : 221 ]
  قال في الكشاف : ( ولا تنكحوا المشركات ) اي : الكافرات مطلقا كتابية وغيرها ، فان الكتابي ايضا يقال له : مشرك ، بدليل قوله تعالى : ( وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ) الى قوله سبحانه ( عما يشركون ) (1) ، (2) .
  وفيه ان شمول المشرك للكتابي الذي يقوله بوحدانية الواجب غير ظاهر لغة وعرفا .
  والقول بأن لله ابنا لا يستلزم الشرك الحقيقي ، واطلاقه عليه في الآية لابد من كونه حقيقة فيهم ايضا ، حتى يرادوا منه مطلقا ، فاطلاق الشرك مع القرينة لا يدل على اطلاقه بدونها .
  وايضا قول كل اهل الكتاب بالابن غير ظاهر ، والعطف في ( لم يكن الذين كفروا من اهل الكتاب والمشركين ) (3) ظاهر في التغاير ، وله مؤيدات من الايات والاخبار .

--------------------
(1) التوبة : 30 ـ 31 .
(2) الكشاف : 1 / 360 .
(3) البينة : 1 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 62_

  * (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين)[ الآية : 238 ] قال ابن الاثير في النهاية : فيه ( تفكر ساعة خير من قنوت ليلة ) وقد تكرر ذكر القنوت في الحديث ، ويرد بمعان متعددة ، كالطاعة ، والخشوع ، والصلاة ، والدعاء ، والعبادة ، والقيام ، وطول القيام ، والسكوت ، فيصرف في كل واحد من هذه المعاني الى ما يحتمله لفظ الحديث الوارد فيه .
  وفي حديث زيد بن ارقم ( كنا نتكلم في الصلاة حتى نزل ) وقوموا لله قانتين ( فأمسكنا عن الكلام ) اراد به السكوت .
  وقال ابن الانباري : القنوت على اربعة اقسام : الصلاة ، وطول القيام ، واقامة الطاعة ، والسكوت (1) انتهى .
  وقال في القاموس : القنوت الطاعة ، والسكوت ، والدعاء في الصلاة ، والامساك عن الكلام ، واقنت دعا على عدوه ، واطال القيام في صلاته ، وادام الحج ، واطال الغزو ، وتواضع لله (2) .
  وقال في الصحاح : القنوت الطاعة ، هذا هو الاصل ، ثم سمي القيام في الصلاة قنوتا . وفي الحديث ( افضل الصلاة طول القنوت ) ومنه قنوت الوتر (3) انتهى .
  ولا ريب في ان المراد من لفظ القنوت الوارد في الاحاديث التي دلت على وجوبه او استحبابه على اختلاف القولين فيه من هذه المعاني ، هو الدعاء لا غير

--------------------
(1) نهاية ابن الاثير : 4 / 111 .
(2) القاموس المحيط : 1 / 155 .
(3) صحاح اللغة : 1 / 261 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _63 _

  بقرينة المقام .
  وقال ابن عباس في قوله تعالى : ( وقوموا لله قانتين ) معناه داعين .
  والقنوت هو الدعاء في الصلاة حال القيام ، وهو المروي عن ابي جعفر وابي عبد الله ـ عليهما السلام ، وكذلك فسره محمد بن بابويه بقوله : داعين ، وقيل : طائعين ، وقيل : خاشعين (1) .
  وقال في الكشاف : هو الركود وكف الايدي والبصر (2) .
  وقيل : الاولى ان يفسر القنوت بذكر الله قائما انسب من الدعاء فانه اعم ، والاصحاب لا يشترطون الدعاء في القنوت ، فانهم يجعلون كلمات الفرج افضله وليس فيها دعاء .
  وكل ذلك تفسير في مقابل النص ، فهو غير مسموع ، فتأمل .
  اقول : وقد اختلفت الاثار والاقوال في المراد من الصلاة الوسطى :
  ففي الفقيه في رواية زرارة بن اعين الطويلة ، نأخذ منها موضع الحاجة قال قلت لابي جعفر ـ عليه السلام : اخبرني عما فرض الله من الصلوات ؟ فقال : خمس صلوات في الليل والنهار .
  الى ان قال الامام ـ عليه السلام ـ وقال ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ) وهي اول صلاة صلاها رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ، وهي وسط صلاتين بالنهار صلاة الغداة وصلاة العصر (3) .
  وفي آيات الاحكام للراوندي : عن زيد بن ثابت ان النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ كان يصلي بالهاجرة ، وكانت اثقل الصلوات على اصحابه ، فلا يكون وراءه الا الصف والصفان ، فقال : لقد هممت ان احرق على قوم لا يشهدون

--------------------
(1) راجع مجمع البيان : 1 / 343 .
(2) الكشاف : 1 / 376 .
(3) من لا يحضره الفقيه : 1 / 195 ـ 196 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _64 _

  الصلاة بيوتهم فنزلت الآية (1) .
  وفيه دلالة ما على ان الصلاة الوسطى هي صلاة الظهر ، وقد اختلف فيها ، فذهب الى كل صلاة سوى صلاة العشاء طائفة ، ولم ينقل عن احد من السلف انها صلاة العشاء .
  وذكر بعض المتأخرين انها هي ؛ لانها بين صلاتين لا تقصران ، كذا ذكره چلبي في حاشيته على المطول .
  وقيل : هي احدى الخمس لا بعينها ، ابهمها الله تحريصا للعباد على المحافظة على جميعها ، كما في ليلة القدر وساعة الجمعة .
  وقال الصدوق في الفقيه وقيل : انزلت هذه الآية يوم الجمعة ورسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ في السفر ، فقنت فيها ، وتركها على حالها في السفر والحضر ، واضاف للمقيم ركعتين ، وانما وضعت الركعتان اللتان اضافهما النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ يوم الجمعة للمقيم لمكان الخطبتين مع الامام ، فمن صلى يوم الجمعة في غير جماعة فليصلها اربعاً ، كصلاة الظهر في سائر الايام (2) .
  وفي الكشاف : هي صلاة العصر ، وعن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ انه قال يوم الاحزاب : شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ، ملأ الله بيوتهم ناراً ، وقال ـ عليه السلام : انها الصلاة التي شغل عنها سليمان بن داود حتى توارت بالحجاب .
  وعن حفصة انها قالت لمن كتب لها المصحف : اذا بلغت هذه الآية ، فلا تكتبها حتى امليها عليك كما سمعت رسول الله يقرؤها ، فأملت عليه : والصلاة الوسطى صلاة العصر .
  وعن عائشة وابن عباس : والصلاة الوسطى وصلاة العصر ، بالواو . فعلى

--------------------
(1) مجمع البيان : 1 / 342 .
(2) من لا يحضره الفقيه : 1 / 196 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _65 _

  هذه القراءة يكون التخصيص بصلاتين احداهما الصلاة الوسطى : اما الظهر ، واما الفجر ، واما المغرب ، على اختلاف الروايات فيها ، والثانية العصر .
  وعن ابن عمر هي صلاة الظهر ، وعن مجاهد هي الفجر ، وعن قبيصة هي المغرب (1) ومشى على اثره البيضاوي .
  وقال مولانا احمد الاردبيلي رحمه الله في ايات احكامه بعد ذكر الآية : كان الامر بمحافظة الصلوات بالاداء لوقتها ، والمداومة عليها ، بعد بيان احكام الازواج والاولاد ، لئلا يليهم الاشتغال بهم عنها ، وخصها بعد العموم للاهتمام بحفظها لافضليتها .
  ثم قال وقيل : هي مخفية كساعة الاجابة ، واسم الله الاعظم ؛ لان يهتموا بالكل غاية الاهتمام ، ويدركوا الفضيلة في الكل ، فهي تدل على جواز العمل المبين لوقت من غير جزم بوجوده ، مثل عمل ليلة القدر والعيد واول رجب وغيرها ، مع عدم ثبوت الهلال ، وقد صرح بذلك في الاخبار .
  ثم قال بعد كلام : فدلت الآية على وجوب محافظة الصلوات ، خرج ما ليس بواجبة منها اجماعا ، بقي الباقي منها تحت العموم ، فلا يبعد الاستدلال بها على وجوب الجمعة والعيدين والايات ايضا (2) .
  أقول : قوله ( اجماعا ) قيد للسلب ، اي : خرج صلوات عدم وجوبها اجماعي من كونها داخلة في كونها مأمورة بالمحافظة ، وبقيت الصلوات المعلوم وجوبها ومشكوكة مندرجة في عموم الآية ، لعدم الدليل على التخصيص .
  فحينئذ يمكن الاستدلال بالآية على وجوب الصلوات المشكوك وجوبها ، بظهور الامر في الوجوب ، خصوصا الاوامر القرآنية ، وخصوصا عند ملاحظة وجوب محافظة الصلوات المعلوم وجوبها ، ومشاركة الصلوات المشكوك وجوبها

--------------------
(1) الكشاف : 1 / 376 .
(2) زبدة البيان : 49 ـ 50 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 66_

  معها في كونها متعلقة للامر بالمحافظة .
  وفيه ان الآية ظاهرها وجوب محافظة الصلوات الثابت وجوبها ، فلو ثبت ان الجمعة وغيرها في هذا الزمان من تلك الصلوات وجبت محافظتها ، والا فلا .
  فان ما ليس بثابت وجوبه من الصلوات لا تجب محافظتها ولا فعلها ؛ اذا الاصل عدم الوجوب وبراءة الذمة الى ان يقوم دليل يفيد اليقين او الظن بخلافه ، ولم يقم بعد دليل كذائي على وجوب الجمعة في هذا الزمان ، والا لم تكن من الصلوات المشكوك وجوبها .
  مع ان الآية على ما نقله الراوندي في آيات احكامه عن زيد بن ثابت وقد مر ، انما نزلت في الامر بمحافظة الصلوات المفروضة اليومية ، وكون الجمعة منها لم يثبت بعد .
  وبالجملة : اما ان يحمل الآية على الامر بمحافظة الصلوات المفروضة اليومية ، او مطلق الفريضة ، او مطلق الصلاة اليومية ، فريضة كانت او نافلة ، او مطلق الصلاة المأمور بها ، يومية كانت او غير يومية .
  فعلى الاحتمالين الاولين لا وجه للاستدلال بها على وجوب ما لم يعلم وجوبه ؛ لان كونه مندرجا في الامر بالمحافظة حينئذ غير ظاهر .
  وعلى الاحتمالين الاخيرين ايضا لا يصح الاستدلال بها على وجوب الصلوات المشكوك وجوبها ، لكون المحافظة المأمور بها حينئذ مطلقة جارية في النوافل ايضا ، فظهر ان ظاهر الآية احد الاحتمالين الاولين ، لكون ظاهرها وجوب المحافظة .
  فان قلت : يمكن ترجيح الاحتمال الثاني ، بأن ما ذكرته انما يدل على تخصيص الصلوات بالفرائض ، وأما تخصيصها باليومية ، فلا دليل عليه .
  فحينئذ نقول : الصلوات المشكوك وجوبها التي ثبت وجوبها في زمان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ، مثل الجمتة والعيدين ، يمكن اثبات وجوبها في زمانها بما يدل على عموم الحكم الازمان ، وان ادى بخطاب المشافهة ما لم يدل

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 67_

  دليل على خصوصه .
  قلت : يمكن الاستدلال على العموم ان دل ضرورة الدين او المذهب او الاجماع على حرف الخطاب عن ظاهره ، وهو فيما نحن فيه منتف .
  ثم الكلام في الاستدلال بها على وجوب الجمعة على تقدير ترجيح الاحتمال الاول بالتبادر وكون الجمعة من اليومية وما عليه ، ظاهر بما ذكرته من غير حاجة الى التفصيل .
  هذا وفي الفقيه عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ في جواب نفر من اليهود عن علة وجوب خمس صلوات ، وعن كونها في المواقيت المخصوصة ، قال : وأما صلاة العصر ، فهي الساعة التي اكل آدم ـ عليه السلام ـ فيها من الشجرة ، فأخرجه الله من الجنة ، فأمر الله عز وجل ذريته بهذه الصلاة الى يوم القيامة ، واختارها لامتي ، فهي من احب الصلوات الى الله عز وجل ، واوصاني ان احفظها من بين الصلوات (1) .
   وفي رواية ابي جعفر ـ عليه السلام ـ انه قال في بعض القراءات ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ) صلاة العصر ( وقوموا لله قانتين ) في صلاة الوسطى (2) .
  وفي جوامع الجامع : روي عنهم ـ عليهم السلام ـ انها صلاة الظهر . وقيل : هي صلاة العصر ، وروي ذلك ايضا مرفوعا ، وقيل : صلاة الفجر ، يدل عليه قوله ( وقرآن الفجر ان قرآن الفجر كان مشهوداً ) (3) .
  وفي مجمع البيان : قيل هي صلاة الظهر ، لتوسطه في النهار ، وقيل : العصر ، لتوسطه بين صلاة النهارية والليلية ، وقيل : هي المغرب ، لتوسطه في الطول

--------------------
(1) من لا يحضره الفقيه 1 : 212 ـ 213 .
(2) من لا يحضره الفقيه 1 : 196 .
(3) جوامع الجامع : 44 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 68_

  والقصر ، وقيل : هي العشاء الاخرة ، لتوسطه بين صلاتين غير مقصورتين . وقيل : هي الصبح ، لتوسطه بين الضياء والظلام (1) .
  وقال الراوندي في آيات احكامه : هي العصر فيما روي عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ وعن علي ـ عليه السلام ـ وعن ابن عباس والحسن ، وقال الحسن بن علي المغربي : هي صلاة الجماعة ، لان الوسط العدل ، فلما كانت صلاة الجماعة افضلها خصت بالذكر .
  ثم قال : وهذا وجه مليح ، غير انه لم يذهب اليه غيره ، (2) وقال في فصل اخر : وذكر انها الجمعة يوم الجمعة ، والظهر سائر الايام ، ثم ذكر اقوالا كثيرة سبقت ، ووجودها عديدة سبق بعضها ، وسيأتي بعض آخر (3) .
  وفي القاموس : والصلاة الوسطى المذكورة في التنزيل : الصبح ، او الظهر ، او العصر ، او المغرب ، او العشاء ، او الوتر ـ او الفطر ، او الأضحى ، او الضحى ، او الجماعة ، او جميع الصلوات المفروضات ، او الصبح والظهر (4) معا ، او صلاة غير معينة ، او العشاء والصبح معا ، او صلاة الخوف ، او الجمعة في يومها وفي سائر الايام الظهر ، او المتوسطة بين الطول والقصر ، او كل من الخمس ، لان قبلها صلاتين وبعدها صلاتين .
  ابن سيدة : من قال انها غير صلاة الجمعة فقد اخطأ ، الا ان يقوله برواية مستندة الى النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ قيل : لا يرد عليه ( شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ) لانه ليس المراد بها في الحديث المذكور في التنزيل (5) الى

--------------------
(1) مجمع البيان : 1 / 343 .
(2) فقه القرآن للراوندي : 1 / 112 ـ 113 .
(3) فقه القرآن : 1 / 140 .
(4) في المصدر : والعصر .
(5) القاموس المحيط : 2 / 391 ـ 392 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _69 _

  هنا كلامه .
  وجميع ما احتمله من الصلوات محتمل ، الا صلاة الضحى ، فانها بدعة عندنا ، فهذا ما وصل الينا من الاقوال في الصلاة الوسطى .
  ثم العجب العجيب والامر الغريب من الفاضلين المشهورين الشهيد الثاني والمحقق الكاشاني انهما راما ان يستدلا بالآية على وجوب الجمعة وعينيّتها في هذا الزمان ، ثم استندا في ذلك الى قول المحققين .
  قال المحقق الكاشاني في رسالته : وقال عز وجل ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ) خص الصلاة الوسطى بالامر بالمحافظة عليها من بين الصلوات بعد الامر بالمحافظة على الجميع ، والذي عليه المحققون انها صلاة الظهر في غير يوم الجمعة ، وفيها هي الجمعة ، وقال جماعة من العلماء : انها هي الجمعة لا غير ، كذا قال زين المحققين طاب ثراه في بعض فوائده (1) انتهى .
  فياليت شعري من هم اولئك المحققين الذين تمسكا بقولهم على اثبات مرامهما ؟ فلعلهما تشبثا فيه بما نقله الصدوق بلفظ القيل وقد مر ، او بما احتمله صاحب القاموس واخذ منه غيره ، او بما قاله ابن سيدة .
  ولابأس به ، اذ الغريق يتشبث بكل حشيش ، ولكنه مناف لقوله في المقدمة : والادلة الشرعية منحصرة عندنا في هذه الثلاثة ، فكيف يستدل بقول المحققين ؟ مع عدم تحققه ومخالفته لكثير من الاخبار .
  فانظروا يا اولي الابصار الى اولئك الاخبار ، كيف يموهون الاحكام على الابرار ؟ ولا يبالون بما فيه من الاخطار والانذار ، ومن مؤاخذة الملك الجبار المدعو بالقهار ، فنعوذ بالله من شرور انفسنا ومن سيئات اعمالنا (2) .

--------------------
(1) الشهاب الثاقب : 16 .
(2) ليس الغرض من هذا الكلام الطعن على اولئك الاعلام ، كلا وحاشا ثم كلا وحاشا ، بل الغرض ان لا يعتمد على استدلالهم بهذه الايات ، ولا سيما هذه الآية منها بمخالفته كثيرا من الاقوال وجلها ، ومصادمته غفيرا من الاخيار بل كلها كما عرفت ( منه ) .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 70_

  اعلم ان المستدل قدس سره نقل في اخر رسالته هذه عن زين المحققين انه قال في اخر رسالته : قد وردت الاخبار بأن الصلاة اليومية من بين العبادات بعد الايمان افضل مطلقا ، وورد ايضا افضل الصلوات اليومية الصلاة الوسطى التي خصها الله تعالى من بينها بالامر بالمحافظة عليها ، واصح الاقوال ان الصلاة الوسطى هي صلاة الظهر ، وصلاة الظهر يوم الجمعة هي صلاة الجمعة على ما تحقق ، او هي افضل فرديها على ما تقرر (1) .
  اقول : هذا القول منه مناف لما نقله عنه المستدل في هذا الموضع ، لتصريحه بأن اصح الاقوال انها صلاة الظهر ، الا انه لما زعم ان صلاة الظهر يوم الجمعة هي صلاة الجمعة ، يلزم منه بناءً عما زعمه هذا كون الصلاة الوسطى يوم الجمعة صلاة الجمعة .
  لكنه لا يعطي ان الصلاة الوسطى عند المحققين هي صلاة الجمعة ، او انها صلاة الظهر في غير يوم الجمعة وفيها هي الجمعة ، وذلك ظاهر .
  ثم مما لا يقضي منه العجب ان المستدل كيف نقل عنه هذا في اول رسالته وذلك في آخرها من غير تعرض للجمع بينهما ؟ وانى له ذلك ، مع ما بينهما من التهافت والتساقط .
  أسأل الله تبارك وتعالى العصمة من الزلل والسداد في الرأي ، والحمد لله رب العالمين .
  * (الله لا اله الا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة لا نوم ). . . [ الآية : 255 ]
  السنة كالعدة مثال واوي ، وهي ما يتقدم النوم من الفتور الذي يقال له

--------------------
(1) الشهاب الثاقب : 100 ـ 101 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 71_

  النعاس ايضا . والنوم : حال يعرض للحيوان عند استرخاء اعصاب الدماغ في رطوبات الابخرة المتصاعدة ، بحيث يقف الحواس الظاهرة عن الاحساس رأساً .
  فان قلت : ذكر النوم كان مغنياً عن ذكر السنة ، للزومها له وتقدمها عليه طبعاً .
  قلت : ليس كذلك ؛ لانه يمكن تحقق النوم بدون السنة ، فتقدمها عليه غير لازم .
  ولو سلم اللزوم ، فيمكن ان يكون ذكرها للتصريح بالاستقصاء والاحاطة ، ثم القول بفوات المبالغة التي تناسب المقام ، لا يليق بكلام الملك العلام .
  فالحق ان يقال : ان في تقديمها عليه مبالغة لطيفة مع رعاية ترتيب الوجود ؛ لان مفهوم قوله ( لا تأخذه سنة ولا نوم ) انه لا يغلبه السنة التي هي سبب غفلة الشخص في الجملة ، ولا النوم الذي هو سبب الغفلة بالكلية .
  وحاصله : انه لا يمنعه مانع جزئي ولا مانع كلي عن حسن قيامه بحفظ المخلوقات .
  ولا يخفى ان هذا الاداء مشتمل على المبالغة ، وهذه الجملة تأكيد للقيوم ، فان من كان دائم القيام بحفظ شيء ، لزمه عدم عروض السنة والنوم له اصلاً ، والا اصل لزوم الشيء وذكر لازم الشيء بعده تأكيده له ، ولما كانت هذه الجملة تأكيداً لما اشتملت عليه الاولى ترك العاطف بينهما .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 73_

سورة آل عمران
   (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع ابناءنا وابناءكم ونساءنا ونساءكم وانفسنا وانفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ) [ الآية : 61 ]
  قال القوشجي : ليس المراد به نفسه ـ صلى الله عليه وآله ـ لان احدا لا يدعو نفسه ، كما لا يأمر نفسه ، وليس المراد به فاطمة والحسن والحسين ـ عليهم السلام ـ لانهم ادرجوا في قوله تعالى : ( وابناءنا وابناءكم ونساءنا ونساءكم ) .
  فلا بد وان يكون شخصا اخر غير نفسه ـ صلى الله عليه وآله ـ وغير فاطمة والحسن والحسين ـ عليهم السلام ـ وليس غير علي بالاجماع ، فتعين ان يكون عليا ـ عليه السلام .
  وبيان دلالته على كونه افضل الصحابة ان دعاءه للمباهلة يدل على انه في غاية الشفقة والمحبة لعلي ـ عليه السلام ـ والا لقال المنافقون : ان الرسول لم يدع للمباهلة من يحبه ويحذر عليه من العذاب .
  اقول : هذه حق ، واما استدلال اصحابنا بآية المباهلة على كونه ـ عليه السلام ـ مساويا للنبي ـ صلى الله عليه وآله ـ في الفضيلة والشرافة ، وهو اشرف من سائر الانبياء ، فيكون مساويه كذلك ، فباطل يرد عليه مفاسد وهم عنها غافلون .
  قال آية الله العلامة والنحرير الفهامة روح الله روحه في جواب من سأله

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _ 74_

  عما ورد ان آدم ونوحاً ضجيعان لمولانا امير المؤمنين ـ عليهم السلام ـ هل صح ذلك ؟
  هذا شيء مشهور ، والاعتماد فيه على النقل ، ومع ذلك فأي فضيلة لامير المؤمنين علي ـ عليه السلام ـ فيه ؟ فان الشيعة استدلوا بالقرآن على ان امير المؤمنين ـ عليه السلام ـ مساويا للنبي ـ صلى الله عليه وآله ـ لقوله تعالى : ( وانفسنا ) والمراد به علي ـ عليه السلام ـ والاتحاد محال ، فبقي ان يكون المراد المساواة ، ولا شك ان محمداً ـ صلى الله عليه وآله ـ اشرف من غيره من الانبياء ، فيكون مساويه كذلك (1) .
  ولا يذهب عليك ان ما ذكره من مساواتهما صلوات الله عليهما وآلهما وقت نزول الآية ، كما هو مقتضى دليله هذا ، ينافيه ما روي عنه ـ عليه السلام ـ ان النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ علمه عند وفاته الف باب فتح من كل باب الف الف باب .
  اذ المتعلم لا يكون مساويا لمعلمه ، ضرورة تقدمه عليه تقدما بالشرف ، مع ما في تساويهما وقتئذ من ترجيح احد المتساويين على الاخر على تقدير كون احدهما رعية والاخر اماما له .
  والا يلزم : اما القول بالتشريك ، او عدم كونه حجة عليه ، وهو ينافي عموم رسالته ، وكونه رحمة العالمين ، ومبعوثا على الاسود والابيض .
  ثم ان هنا اشكالا اخر اقوى منه ، وهو انه ـ عليه السلام ـ بعد النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ بضعا وثلاثين سنة ، ولا شك انه ازداد في هذه المدة الطويلة علما وفضلا وكمالاً جسمانياً وروحانياً استحق به الثواب ، ولا لكان مغبونا في هذه المدة ، بل كل من ساوى يوماه فهو مغبون .
  وكيف لم يزدد بعده ـ صلى الله عليه وآله ـ فضلاً وثواباً ، وغزواته ـ عليه

--------------------
(1) اجوبة المسائل المهنائية : 50 ـ 51 .

الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية _75 _

  السلام ـ مع القاسطين والناكثين والمارقين مشهورة ، ومجاهداته في الله وعباداته في الكتب مسطورة .
  فعلى ما ذكره قدس سره مقلدا فيه السلف من غير ان يمعن النظر فيه وفيما فيه ، يلزم ان يكون علي ـ عليه السلام ـ افضل من النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ بمراتب ، اذ لا يعنى بالافضل هنا الا اكثر ثوابا ، وهو ـ عليه السلام ـ على هذا الفرض اكثر منه ـ صلى الله عليه وآله ـ فضلا وثوابا بمراتب شتى ، وهذا مع انه ينافيه كونه ـ صلى الله عليه وآله ـ اشرف الموجودات وافضل الكائنات .
  وقوله : ما خلق الله خلقا افضل مني ولا اكرم على الله مني .
  وقوله : انا سيد ولد ادم (1) .
  وفي رواية اخرى : انا سيد من خلق الله .
  وقوله في حديث اخر اورده الشيخ ابن فهد في العدة : علي سيد العرب ، فقيل : يا رسول الله الست سيد العرب ؟ فقال : انا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب .
  فقيل : وما السيد ؟ قال : من افترضت طاعته كما افترضت طاعتي (2) .
  وقولهم ـ عليهم السلام ـ في الادعية المأثورة : وصلى الله على خير خلقه سيدنا محمد وآله .
  وخاصة قول علي ـ عليه السلام ـ في خطبة يوم الغدير المذكورة في الكفعمي (3) ، قرن الاعتراف بنبوته بالاعتراف بلا هوتيته ، واختصه من تكريمه بما لم يلحقه فيه احد من بريته ، فهو اهل ذلك بخاصته وخلته .
  وفي خطبة اخرى له ـ عليه السلام : الا وان الوسيلة اعلى درجة الجنة ،

--------------------
(1) كنز العمال : 11 / 434 ، وعوالي اللئالي : 4 / 121 .
(2) عدة الداعي : 305 .
(3) المصباح للكفعمي : 695 .