488 / 92 ـ حدثنا أبو المفضل محمد بن عبد الله بن المطلب الشيباني سنة خمس وثمانين وثلاثمائة ، قال : حدثنا أبو الحسين محمد بن بحر الرهني (1) الشيباني ، قال : وردت كربلاء سنة ست وثمانين ومائتين ، (2) وزرت قبر غريب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ثم انكفأت إلى مدينة السلام متوجها إلى مقابر قريش في وقت تضرم الهواجر وتوقد السمائم (3) فلما وصلت منها إلى مشهد الكاظم (عليه السلام) واستنشقت نسيم تربته المغمورة بالرحمة ، المحفوفة بحدائق الغفران ، انكببت عليها بعبرات متقاطرة ، وزفرات متتابعة ، وقد حجب الدمع طرفي عن النظر.
فلما رقأت العبرة ، وانقطع النحيب ، فتحت بصري ، فإذا أنا بشيخ قد انحنى
---------------------------
(1) في النسخ : محمد بن يحيى الذهبي ، تصحيف صوابه ما في المتن ، راجع رجال النجاشي : 384 ، معجم رجال الحديث 15 : 122.
(2) في ( ط ) : تقدم.
(3) في ( ط ) : السماء.
دلائل الإمامة _ 490 _
صلبه ، وتقوس منكباه وتثفنت (1) جبهته وراحتاه ، وهو يقول لآخر معه عند القبر : يا بن أخي ، لقد نال عمك شرفا عظيما
بما حمله السيدان من غوامض العبرات ، وشرائف العلوم التي لا يحتمل مثلها إلا سلمان الفارسي (رضي الله عنه) ، وقد أشرف عمك على استكمال المدة وانقضاء العمر ، وليس يجد في أهل الولاية رجلا يفضي إليه بسره.
قلت : يا نفس ، لا يزال العناء والمشقة ينالان منك باتعابي (2) الخف والحافر في طلب العلم ، وقد قرعت سمعي من الشيخ لفظة تدل على علم جسيم ، وأثر عظيم.
فقلت : يا شيخ ، من السيدان ؟
قال : النجمان المغيبان (3) في سر من رأى.
فقلت : فإني أقسم بالولاية ، وشرف محل هذين السيدين من الإمامة والوارثة ، إني خاطب علمهما ، وطالب آثارهما ، وباذل من نفسي الإيمان المؤكدة على حفظ أسرارهما.
فقال : إن كنت فيما تقول صادقا ، فاحضر ما صحبك من الآثار عن نقلة أخبارهم ، فلما نشرت الكتب ، وتصفح الروايات منها ، قال : صدقت ، أنا بشر (4) بن سليمان النخاس ، من ولد أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري ، أحد موالي أبي الحسن وأبي محمد (عليهما السلام) ، وجارهما بسر من رأى.
قلت : فأكرم أخاك ببعض ما شاهدت من آثارهما.
قال : فإن مولانا أبا الحسن علي بن محمد العسكري (عليه السلام) فقهني في أمر الرقيق ، فكنت لا أبتاع ولا أبيع إلا بإذنه ، فأتجنب بذلك موارد الشبهات ، حتى كملت معرفتي وأحسنت الفرق بين الحلال والحرام.
فبينا أنا ذات ليلة في منزلي بسر من رأى ، وقد مضى هوي (5) منها ، إذ قرع
---------------------------
(1) في ( ع ، م ) : وتنقبت.
(2) في ( ط ) : ما لقاني ، وفي ( ع ، م ) : فألقاني.
(3) في ( ع ) : البحران المغيبان ، وفي ( م ) : البحران المعينان.
(4) في ( م ، ط ) : بشير.
(5) الهوي : الساعة من الليل.
دلائل الإمامة _ 491 _
الباب قارع ، فعدوت مسرعا ، فإذا أنا بكافور خادم مولانا أبي الحسن علي بن محمد (عليه السلام) يدعوني إليه ، فلبست ثيابي ، فدخلت عليه ، فرأيته يحدث ابنه أبا محمد (عليه السلام) ، وأخته حكيمة من وراء الستر ، فلما جلست قال : يا بشر ،
إنك من ولد الأنصار ، وهذه الولاية لم تزل فيكم ، يرثها خلف عن سلف ، وأنتم ثقاتنا أهل البيت ، وإني مزكيك ومشرفك بفضيلة تسبق بها سوابق الشيعة في الولاية ، بسر أطلعك عليه ، وأنفذك في تتبع أمره ، وكتب كتابا لطيفا بخط رومي ، ولغة رومية ، وطبع عليه خاتمه ، وأخرج سبيكة صفراء ، فيها مائتان وعشرون دينارا ، فقال : خذها وتوجه إلى مدينة بغداد ، واحضر معبر الفرات ، ضحوة يوم كذا ، فإذا وصلت إلى جانب زواريق السبايا وبرزت (1) الجواري منها ، فستحدق بهن طوائف المبتاعين من وكلاء قواد بني العباس ، وشراذم من فتيان العراق ، فإذا رأيت ذلك فأشرف من البعد على المسمى عمرو بن يزيد (2) النخاس عامة نهارك ، إلى أن تبرز للمبتاعين جارية صفتها كذا ، لابسة حريرين صفيقين (3) ، تمنع من السفور ، وليس يمكن التوصل (4) والانقياد لمن يحاول لمسها ، فيشغل نظره بتأمل مكاشفها من وراء الستر الرقيق ، فيضربها النخاس ، فتصرخ صرخة رومية ، فاعلم أنها تقول : واهتك ستراه!
فيقول بعض المبتاعين : علي بثلاثمائة دينار ، فقد زادني العفاف فيها رغبة.
فتقول له بالعربية : لو برزت في زي سليمان بن داود على مثل سرير ملكه ، ما بدت لي فيك رغبة ، فاشفق على مالك.
فيقول النخاس : فما الحيلة ؟ ولا بد من بيعك ؟
فتقول الجارية : وما العجلة ، ولا بد من اختيار مبتاع يسكن قلبي إلى أمانته ووفائه ، فعند ذلك قم إلى عمرو بن يزيد النخاس وقل له : إن معي كتابا لطيفا لبعض
---------------------------
(1) في ( ع ) : وبور ، وفي ( ط ) : وبدزن.
(2) في ( ط ، م ) : مزيد.
(3) الثوب الصفيق : المتين ، الجيد النسج ، الكثيف ، ( لسان العرب ـ صفق ـ 10 : 204 ).
(4) في ( ط ) : الوصول.
دلائل الإمامة _ 492 _
الأشراف ، كتبه بلغة رومية ولفظ رومي ، ووصف فيه نبله وكرمه ووفاءه وسخاءه ، فناولها لتتأمل منه أخلاق صاحبه ، فإن مالت إليه ورضيته فأنا وكيله في ابتياعها منك.
قال بشر بن سليمان النخاس : فامتثلت جميع ما حده لي مولانا أبو الحسن (عليه السلام) في أمر الجارية : فلما نظرت إلى الكتاب بكت بكاء شديدا ، وقالت لعمرو بن يزيد النخاس : بعني من صاحب هذا الكتاب ، وحلفت بالمحرجة المغلظة (1) إنه متى امتنع من بيعها منه قتلت نفسها ، فما زلت أشاحه (2) في ثمنها حتى استقر الثمن على مقدار ما كان أصحبني مولاي أبو الحسن (عليه السلام) من الدنانير في السبيكة الصفراء ، فاستوفاه مني وتسلمت منه الجارية ضاحكة مستبشرة ، وانصرفت بها إلى حجرتي التي كنت آوي إليها ببغداد ، فما أخذها القرار حتى أخرجت كتاب مولانا أبي الحسن من كمها
وهي تلثمه ، وتضعه على خدها ، وتطبقه على جفنها وتمسحه على بدنها ، فقلت متعجبا منها : أتلثمين كتابا لا تعرفين صاحبه ؟!
فقالت : أيها العاجز ، الضعيف المعرفة بمحل أولاد الأنبياء ، أعرني سمعك ، وفرغ لي قلبك ، أنا مليكة بنت يسوعا بن قيصر ملك الروم ، وأمي (3) من ولد الحواريين ، ونسبي متصل إلى وصي المسيح شمعون.
أنبئك بالعجب أن جدي قيصر أراد أن يزوجني من ابن أخيه ، وأنا من بنات ثلاث عشرة سنة ، فجمع في قصره من نسل الحواريين ، من القسيسين والرهبان ثلاثمائة رجل ، ومن ذوي الأخطار منهم تسعمائة رجل ، وجمع من أمراء الأجناد ، وقواد العساكر ، ونقباء الجيوش ، وملوك العشائر أربعة آلاف ، وأبرز من بهي (4) ملكه كرسيا مرصعا من أصناف الجواهر ، إلى صحن القصر فوق أربعين مرقاة ، فلما صعد ابن أخيه وأحدقت به الصلبان ، وقامت الأساقفة خلفه ، ونشرت أسفار الإنجيل ، تساقطت الصلبان من
---------------------------
(1) المحرجة من الإيمان : التي لا مخرج منها ، والمغلظة : المؤكدة.
(2) في ( م ، ط ) أشاحنه.
(3) في ( ع ، م ) : وأبي.
(4) في ( ع ، م ) : بهر.
دلائل الإمامة _ 493 _
الأعالي حتى ألصقت بالأرض ، وتقوضت الأعمدة ، وتغيرت ألوان الأساقفة ، وارتعدت فرائصهم.
فقال كبيرهم لجدي : أيها الملك ، أعفنا من ملاقاة هذه النحوس ، الدالة على زوال هذا الدين المسيحي ، والمذهب الملكاني (1).
فتطير جدي من ذلك تطيرا شديدا ، وقال للأساقفة : أقيموا هذه الأعمدة ، وارفعوا الصلبان ، واحضروا أخا هذا العاثر المنكوس جده ، لأزوج منه هذه الصبية ، فتدفع نحوسه عنكم بسعوده ، فلما فعلوا ذلك حدث على الثاني ما حدث على الأول
وتفرق الناس وقام جدي قيصر مغتما ، فدخل قصره ، وأرخيت الستور.
وأريت (2) في تلك الليلة كأن المسيح وشمعون وعدة من الحواريين ، قد اجتمعوا في قصر جدي ، ونصبوا فيه منبرا ، يباري السماء علوا وارتفاعا ، في الموضع الذي كان جدي نصب فيه عرشه ، فيدخل عليهم محمد (صلى الله عليه وآله) مع ختنه وعدة من أهل بيته ، فيقوم إليهم المسيح فيعتنقه ، فيقول له : يا روح الله إني جئتك خاطبا من وصيك شمعون فتاته فلانة ، لابني هذا ، وأومأ بيده إلى أبي محمد ابن صاحب هذا الكتاب ، فنظر المسيح إلى شمعون ، فقال : قد أتاك الشرف ، فصل رحمك برحم رسول الله ، قال : قد فعلت. فصعدوا ذلك المنبر ، فخطب محمد (صلى الله عليه وآله) ، وزوجني من ابنه ، وشهد المسيح (عليه السلام) ، وشهد أبناء محمد (صلى الله عليه وآله) والحواريون.
فلما استيقظت من نومي أشفقت (3) أن أقص هذه الرؤيا على أبي وجدي مخافة القتل ، فكنت أسرها في نفسي ، ولا أبديها لهم ، وضرب صدري بمحبة أبي محمد (عليه السلام) ، حتى امتنعت عن الطعام والشراب ، وضعفت نفسي ، ودق شخصي ، ومرضت مرضا شديدا ، فما بقي في مدائن الروم طبيب إلا أحضره جدي وسأله عن
---------------------------
(1) الملكانية : أصحاب : ملكا ، الذي ظهر بأرض الروم ، واستولى عليها ، ومعظم الروم ملكانية ، الملل والنحل 1 : 203.
(2) في ( ط ) : ورأيت.
(3) في ( ع ، م ) : أنفت.
دلائل الإمامة _ 494 _
دوائي ، فلما برح به اليأس قال : قرة عيني ، يخطر ببالك شهوة فأزودكها في هذه الدنيا ؟
قلت : يا جدي أرى أبواب الفرج علي مغلقة ، فلو كشفت العذاب (1) عمن في سجنك من أسارى المسلمين ، وفككت عنهم الأغلال ، وتصدقت عليهم ، ومنيتهم (2) بالخلاص ، رجوت أن يهب لي المسيح وأمه العافية والشفاء.
فلما فعل ذلك تجلدت في إظهار الصحة في بدني ، وتناولت يسيرا من الطعام ، فسر بذلك جدي ، وأقبل على إكرام الأسارى وإعزازهم ، فأريت أيضا بعد أربع عشرة ليلة كأن سيدة النساء فاطمة (عليها السلام) ، ومعها مريم بنت عمران ، وألف من
وصائف الجنان ، فتقول لي مريم : هذه سيدة النساء أم زوجك أبي محمد (عليه السلام).
فأتعلق بها وأبكي ، وأشكو إليها امتناع أبي محمد (عليه السلام) من زيارتي.
فقالت سيدة النساء (صلوات الله عليها) إن ابني أبا محمد لا يزورك وأنت مشركة بالله ، على مذهب النصرانية ، هذه أختي مريم ابنة عمران تبرأ إلى الله من ذلك ، فإن ملت إلى رضا الله ، ورضا المسيح ومريم عنك ، وزيارة ابني أبي محمد إياك ،
فقولي : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، فلما تكلمت بهذه الكلمة ضمتني سيدة النساء إلى صدرها ، وطيبت نفسي ، وقالت : الآن توقعي زيارة ابني أبي محمد ، إياك ، فإني منفذته إليك.
فانتبهت وأنا أقول : وا شوقاه إلى لقاء أبي محمد ، فلما كانت الليلة القابلة : رأيت أبا محمد (عليه السلام) كأنني أقول له : لم جفوتني يا حبيبي بعد أن شغلت قلبي بجوامع حبك.
قال : فما كان تأخري عنك إلا لشركك ، وإذ قد أسلمت فإني زائرك كل ليلة إلى أن يجمع الله شملنا في العيان ، فما قطع عني زيارته بعد ذلك إلى هذه الغاية.
قال بشر : فقلت لها : وكيف وقعت في الأسارى ؟
قالت : أخبرني أبو محمد (عليه السلام) ليلة من الليالي : إن جدك سيسير جيوشا إلى
---------------------------
(1) (العذاب) ليس في ( ع ، م ).
(2) في ( ع ، م ) : ومننتهم.
دلائل الإمامة _ 495 _
قتال المسلمين يوم كذا ، فعليك باللحاق به ، متنكرة في زي الخدم ، مع عدة من الوصائف ، من طريق كذا ، ففعلت ، فوقعت علينا طلائع المسلمين ، حتى كان من أمري ما رأيت وشاهدت ، وما شعر بأني ابنة ملك الروم إلى هذه الغاية أحد سواك ، وذلك باطلاعي إياك عليه ، ولقد سألني الشيخ الذي وقعت إليه في قسم الغنيمة عن اسمي ، فأنكرت وقلت : نرجس ، فقال : اسم الجواري.
قال بشر : فقلت لها : العجب أنك رومية ولسانك عربي!
قالت : بلغ من ولوع (1) جدي وحبه إياي على تعلم الآداب ، أن أوعز إلى امرأة ترجمان له ، في الاختلاف إلي ، فكانت تقصدني صباحا ومساء وتفيدني العربية ، حتى استمر عليها لساني ، واستقام.
قال بشر : فلما انكفأت بها إلى سر من رأى دخلت على مولانا أبي الحسن (عليه السلام) بها ، فقال لها : كيف أراك الله (عز وجل) عز الاسلام وذل النصرانية ، وشرف أهل بيت نبيه محمد (صلى الله عليه وآله) ؟
قالت : كيف أصف لك ـ يا بن رسول الله ـ ما أنت أعلم به مني!
قال : فإني أحب أن أكرمك ، فأيما أحب إليك : عشرة آلاف درهم ، أم بشرى لك بشرف الأبد ؟
قالت : بل البشرى.
قال : أبشري بولد يملك الدنيا شرقا وغربا ، يملأ الأرض قسطا وعدلا ، كما ملئت ظلما وجورا.
فقالت : ممن ؟
قال : ممن خطبك رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليلة كذا من شهر كذا ، بالرومية.
قالت : من ابنك أبي محمد (عليه السلام).
قال : فهل تعرفينه ؟
قالت : وهل خلت ليلة من زيارته إياي منذ الليلة التي أسلمت على يد سيدة
---------------------------
(1) في ( ع ، م ) : بلوغ.
دلائل الإمامة _ 496 _
النساء (عليها السلام)!
فقال أبو الحسن : يا كافور ، ادع لي حكيمة أختي.
فلما دخلت عليه قال لها : ها هي ، فاعتنقتها طويلا ، وسرت (1) بها كثيرا.
فقال مولانا : يا بنت رسول الله ، خذيها إليك وعلميها الفرائض والسنن ، فإنها زوجة أبي محمد (2).
والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما كثيرا.
---------------------------
(1) في النسخ : وسألت.
(2) كمال الدين وتمام النعمة : 417 / 1 ، غيبة الطوسي : 208 / 178 ، روضة الواعظين : 252 ، مناقب ابن شهرآشوب 4 : 440.
489 / 93 ـ حدثنا أبو المفضل محمد بن عبد الله ، قال : حدثني محمد (1) بن إسماعيل الحسني ، عن حكمية ابنة محمد
بن علي الرضا (عليه السلام) : أنها قالت : قال لي الحسن بن علي العسكري (عليه إسلام) ذات ليلة ، أو ذات يوم : أحب أن تجعلي إفطارك الليلة عندنا ، فإنه يحدث في هذه الليلة أمر.
فقلت : وما هو ؟
قال : إن القائم من آل محمد يولد في هذه الليلة.
فقلت : ممن ؟
قال : من نرجس ، فصرت إليه ، ودخلت إلى الجواري ، فكان أول من تلقتني نرجس ، فقالت : يا عمة ، كيف أنت ، أنا أفديك.
---------------------------
(1) (محمد) ليس في ( ط ).
دلائل الإمامة _ 498 _
فقلت لها : بل أنا أفديك يا سيدة نساء (1) هذا العالم ، فخلعت خفي وجاءت لتصب على رجلي الماء ، فحلفتها ألا تفعل وقلت لها : إن الله قد أكرمك بمولود تلدينه في هذه الليلة.
فرأيتها لما قلت لها ذلك قد لبسها ثوب من الوقار والهيبة ، ولم أر بها
حملا ولا أثر حمل.
فقالت : أي وقت يكون ذلك ، فكرهت أن أذكر وقتا بعينه فأكون قد كذبت.
فقال لي أبو محمد (عليه السلام) : في الفجر الأول ، فلما أفطرت وصليت ضعت رأسي ونمت ، ونامت نرجس معي في المجلس ، ثم انتبهت وقت صلاتنا ، فتأهبت ، وانتبهت نرجس وتأهبت ، ثم إني صليت ، وجلست أنتظر الوقت ، ونام الجواري ، ونامت نرجس ، فلما ظننت أن الوقت قد قرب خرجت فنظرت إلى السماء ، وإذا الكواكب قد انحدرت ، وإذا هو قريب من الفجر الأول ، ثم عدت فكأن الشيطان أخبث قلبي (2).
قال أبو محمد : لا تعجلي ، فكأنه قد كان ، وقد سجد فسمعته يقول في دعائه شيئا لم أدر ما هو ، ووقع علي السبات في ذلك الوقت ، فانتبهت بحركة الجارية ، فقلت لها : بسم الله عليك ، فسكنت إلى صدري فرمت به علي ، وخرت ساجدة ، فسجد
الصبي ، وقال : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، وعلي (3) حجة الله ، وذكر إماما إماما حتى انتهى إلى أبيه ، فقال أبو محمد : إلي ابني ، فذهبت لأصلح منه شيئا ، فإذا هو مسوى مفروغ منه ، فذهبت به إليه ، فقبل وجهه ويديه ورجليه ، ووضع لسانه في فمه ، وزقه كما يزق الفرخ ، ثم قال : اقرأ ، فبدأ بالقرآن من بسم الله الرحمن الرحيم إلى آخره.
ثم إنه دعا بعض الجواري ممن علم أنها تكتم خبره ، فنظرت ، ثم قال : سلموا عليه وقبلوه وقولوا : استودعناك الله ، وانصرفوا.
ثم قال : يا عمة ، ادعي لي نرجس ، فدعوتها وقلت لها : إنما يدعوك لتودعيه.
---------------------------
(1) في تبصرة الولي : أفديك بما نشاهد.
(2) في الغيبة وبعض المصادر : فتداخل قلبي الشك.
(3) في ( ع ) : علي ولي الله و.
دلائل الإمامة _ 499 _
فودعته ، وتركناه مع أبي محمد (عليه السلام) ، ثم انصرفنا.
ثم إني صرت إليه من الغد ، فلم أره عنده ، فهنأته فقال : يا عمة هو في ودائع الله ، إلى أن يأذن الله في خروجه (1).
490 / 94 ـ وأخبرني أبو الحسين محمد بن هارون ، قال : حدثني أبي (رضي الله عنه) ، قال : حدثنا أبو علي محمد بن همام ، قال : حدثنا جعفر بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، عن أبي نعيم (2) ، عن محمد بن القاسم العلوي ، قال : دخلنا جماعة من العلوية على حكيمة بنت محمد بن علي بن موسى (عليهم السلام) ، فقالت : جئتم تسألونني (3) عن ميلاد ولي الله ؟ قلنا : بلى والله.
قالت : كان عندي البارحة ، وأخبرني بذلك ، وإنه كانت عندي صبية يقال لها (نرجس) وكنت أربيها من بين الجواري ، ولا يلي تربيتها غيري ، إذ دخل أبو محمد (عليه السلام) علي ذات يوم فبقي يلح النظر إليها ، فقلت : يا سيدي ، هل لك فيها من
حاجة ؟
فقال : إنا معشر الأوصياء لسنا ننظر نظر ريبة ، ولكنا ننظر تعجبا أن المولود الكريم على الله يكون منها.
قالت : قلت : يا سيدي ، فأروح بها إليك ؟
قال : استأذني (4) أبي في ذلك ، فصرت إلى أخي (عليه السلام) ، فلما دخلت عليه تبسم ضاحكا وقال : يا حكيمة ، جئت
تستأذنيني في أمر الصبية ، ابعثي بها إلى أبي محمد ، فإن الله (عز وجل) يحب أن يشركك في هذا الأمر.
فزينتها وبعثت بها إلى أبي محمد (عليه السلام) ، فكنت بعد ذلك إذا دخلت عليها
---------------------------
(1) حلية الأبرار 2 : 522 و 533 و 536 نحوه ، تبصرة الولي : 15 / 3 ، مدينة المعاجز : 589 / 5.
(2) هو محمد بن أحمد الأنصاري ، روى عنه محمد بن جعفر بن عبد الله ، انظر ما يأتي في الحديث (95) وغيبة الطوسي : 246 و 259.
(3) في ( م ، ط ) : تسألون.
(4) في ( ع ) : استأذن.
دلائل الإمامة _ 500 _
تقوم فتقبل جبهتي فأقبل رأسها ، وتقبل (1) يدي فأقبل رجلها ، وتمد يدها إلى خفي لتنزعه فأمنعها من ذلك ، فأقبل يدها إجلالا وإكراما للمحل الذي أحله الله (تعالى) فيها ، فمكثت بعد ذلك إلى أن مضى أخي أبو الحسن (عليه السلام) ، فدخلت على أبي محمد (عليه السلام) ذات يوم فقال : يا عمتاه ، إن المولود الكريم على الله ورسوله (2) سيولد ليلتنا هذه.
فقلت : يا سيدي ، في ليلتنا هذه ؟ قال : نعم ، فقمت إلى الجارية فقلبتها ظهرا لبطن ، فلم أر بها حملا ، فقلت : يا سيدي ، ليس بها حمل ، فتبسم ضاحكا وقال : يا عمتاه ، إنا معاشر (3) الأوصياء ليس يحمل بنا في البطون ، ولكنا نحمل في الجنوب.
فلما جن الليل صرت إليه ، فأخذ أبو محمد (عليه السلام) محرابه ، فأخذت محرابها فلم يزالا يحييان الليل ، وعجزت عن ذلك فكنت مرة أنام ومرة أصلي إلى آخر الليل ، فسمعتها آخر الليل في القنوت ، لما انفتلت من الوتر مسلمة ، صاحت : يا جارية ، الطست ، فجاءت بالطست فقدمته إليها فوضعت صبيا كأنه فلقة قمر ، على ذراعه الأيمن مكتوب : * (جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) * (4) ، وناغاه ساعة حتى استهل ، وعطس ، وذكر الأوصياء قبله ، حتى بلغ إلى نفسه ، ودعا لأوليائه على يده بالفرج.
ثم وقعت ظلمة بيني وبين أبي محمد (عليه السلام) ، فلم أره ، فقلت : يا سيدي ، أين الكريم على الله ؟ قال : أخذه من هو أحق به منك ، فقمت وانصرفت إلى منزلي ، فلم أره.
وبعد أربعين يوما دخلت دار أبي محمد (عليه السلام) ، فإذا أنا بصبي يدرج في الدار ، فلم أر وجها أصبح (5) من وجهه ،
ولا لغة أفصح من لغة ، ولا نغمة أطيب من نغمته ،
---------------------------
(1) في ( ع ) زيادة : يدي فأقبل رأسها وتقبل.
(2) (ورسوله) ليس في ( ع ، م ).
(3) في ( ع ) : معشر.
(4) الاسراء 17 : 81.
(5) في ( ط ) : أحسن.
دلائل الإمامة _ 501 _
فقلت : يا سيدي ، من هذا الصبي ؟ ما رأيت أصبح وجها منه ، ولا أفصح لغة منه ، ولا أطيب نغمة منه.
قال : هذا المولود الكريم على الله.
قلت : يا سيدي ، وله أربعون يوما ، وأنا (1) أرى من أمره هذا!
قالت : فتبسم ضاحكا وقال : يا عمتاه ، أما علمت أنا معشر الأوصياء ننشأ في اليوم كما ينشأ غيرنا في الجمعة ، وننشأ في الجمعة كما ينشأ غيرنا في الشهر ، وننشأ في الشهر كما ينشأ (2) غيرنا في السنة ! فقمت فقبلت رأسه وانصرفت إلى منزلي ، ثم عدت ، فلم أره ، فقلت : يا سيدي ، يا أبا محمد ، لست أرى المولود الكريم على الله.
قال : استودعناه من استودعته أم موسى موسى ، وانصرفت وما كنت أراه إلا كل أربعين يوما.
وكانت الليلة التي ولد فيها ليلة الجمعة ، لثمان ليال خلون من شعبان ، سنة سبع وخمسين ومائتين من الهجرة.
ويروى : ليلة الجمعة النصف من شعبان سنة سبع (3).
هو الخلف بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (4) بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ابن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر ابن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أد
---------------------------
(1) في ( ط ) زيادة : لا.
(2) في ( م ، ط ) : الأوصياء ننشأ في الشهر ما ينشأ.
(3) حلية الأبرار 2 : 534 ، مدينة المعاجز : 590 / 8 ، تبصرة الولي 19 / 4.
(4) في ( م ، ط ) : عبد مناف.
دلائل الإمامة _ 502 _
ابن أدد بن الهميسع بن يشخب بن تيم بن نكث بن قيذار بن إسماعيل بن إبراهيم (عليهم السلام).
وكناه : أبو القاسم ، وأبو جعفر ، وله كنى أحد عشر إماما.
وألقابه : المهدي ، والخلف ، والناطق (1) ، والقائم ، والثائر ، والمأمول ، والمنتظر ، والوتر ، والمديل ، والمعتصم ، والمنتقم ، والكرار ، وصاحب الرجعة البيضاء والدولة الزهراء ، والقابض ، والباسط ، والساعة ، والقيامة ، والوارث ، والجابر (2) ، وسدرة المنتهى ، والغاية القصوى ، وغاية الطالبين ، وفرج المؤمنين ، ومنية الصبر ، والمخبر بما لم (3) يعلم ، وكاشف الغطاء ، والمجازي بالأعمال ، ومن لم يجعل له من قبل سميا ـ أي شبها ـ وذات الأرض ، والهول الأعظم ، واليوم الموعود ، والداعي إلى شئ نكر ، ومظهر الفضائح ، ومبلي السرائر ، ومباني الآيات ، وطالب التراث ، والفزع الأعظم ، والاحسان ، والمحسن ، والعدل ، والقسط ، والصبح ، والشفق ، وعاقبة الدار ، والمنعم ، والأمان ، والسناء ، والضياء ، والبهاء ، والمجاب (4) ، والمضئ ، والحق ، والصدق ، والصراط ، والسبيل ، والعين الناظرة ، والأذن السامعة ، واليد الباسطة ، والجانب ، والجنب ، والوجه ، والنفس ، والتأييد ، والتمكن ، والنصر ، والفتح ، والقوة ، والعزة ، والقدرة ، والملك ، والتمام.
فنشأ مع أبيه (عليه السلام) بسر من رأى ثلاث سنين ، وأقام بها بعد وفاة أبيه إحدى عشرة سنة ، ثم كانت الغيبة التي لا بد منها ، إلى أن يظهر الله له الأمر فيأذن له ، فيظهر (5) .
ولد ليلة الجمعة لثمان خلون من شعبان سنة سبع وخمسين ومائتين من الهجرة ،
---------------------------
(1) (والناطق) ليس في ( ع ).
(2) في ( ط ) : والحاشر.
(3) في ( ط ) : ومنته العبر ، ومخبر بما لا.
(4) في ( ع ، م ) : الحجاب.
(5) في ( ع ، م ) زيادة : لأن ، وكأن بعدها كلام محذوف أو ساقط.
دلائل الإمامة _ 503 _
ومضى أبو محمد (عليه السلام) يوم الجمعة لثمان ليال خلون من ربيع الأول سنة ستين ومائتين من الهجرة.
وكان أحمد بن إسحاق القمي الأشعري (رضي الله عنه) الشيخ الصدوق ، وكيل أبي محمد (عليه السلام) ، فلما مضى أبو محمد (عليه السلام) إلى كرامة الله (عز وجل) أقام على وكالته مع مولانا صاحب الزمان (صلوات الله عليه) تخرج إليه توقيعاته ، ويحمل إليه الأموال من سائر النواحي التي فيها موالي مولانا ، فتسلمها إلى أن استأذن في المصير (1) إلى قم ، فخرج الإذن بالمضي ، وذكر أنه لا يبلغ إلى قم ، وأنه يمرض ويموت في الطريق ، فمرض بحلوان (2) ومات ودفن بها (رضي الله عنه).
وأقام مولانا (صلوات الله عليه) بعد مضي أحمد بن إسحاق الأشعري بسر من رأى مدة ، ثم غاب لما روي في الغيبة من الأخبار عن السادة (عليهم السلام) ، مع ما أنه مشاهد في المواطن الشريفة الكريمة العالية ، والمقامات العظيمة ، وقد دلت الآثار على صحة مشاهدته (عليه السلام) (3).
---------------------------
(1) في ( ط ) : المسير.
(2) حلوان : تطلق على عدة مواضع ، والمراد هنا حلوان العراق ، وهي آخر حدود السواد مما يلي الجبال ، كانت مدينة عامرة ثم خرجت ، معجم البلدان 2 : 290.
(3) راجع كمال الدين وتمام النعمة : 464 ، رجال الكشي : 557 / 1052 ، الخرائج والجرائح 1 : 483 / ذيل حديث (22) ، الاحتجاج 2 : 449.
491 / 95 ـ أخبرني أبو الحسين محمد بن هارون بن موسى بن أحمد ، قال :
حدثنا أبي (رضي الله عنه) ، قال : حدثنا محمد بن همام ، قال : حدثني جعفر بن محمد ، قال : حدثني محمد بن جعفر ، قال : حدثني أبو نعيم ، قال : وجهت المفوضة (1) كامل بن إبراهيم المزني (2) إلى أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام) يباحثون أمره.
قال كامل بن إبراهيم : فقلت في نفسي : أسأله عن قوله (3) لا يدخل الجنة إلا من عرف معرفتي وقال بمقالتي ، فلما دخلت على سيدي أبي محمد (عليه السلام) نظرت إلى ثياب بيضاء ناعمة عليه ، فقلت في نفسي : ولي الله وحجته يلبس الناعم من الثياب ، ويأمرنا نحن بمواساة الإخوان ، وينهانا عن لبس مثله !
فقال (عليه السلام) مبتسما : يا كامل بن إبراهيم ! وحسر عن ذراعيه ، فإذا مسح (4)
---------------------------
(1) هم قوم زعموا أن الله (تعالى) فوض خلق العالم وتدبيره لرسوله وعلي والأئمة (عليهم السلام) فخلقوا هم الأرضين والسماوات ، راجع المقالات والفرق : 238 ، الفرق بين الفرق : 251 ، معجم الفرق الإسلامية : 235.
(2) في الهداية والغيبة والخرائج : المدني ، وفي إثبات الوصية : المدائني.
(3) (عن قوله) ليس في ( ع ، ط ).
(4) المسح : كساء من شعر.
دلائل الإمامة _ 506 _
أسود خشن ، فقال : يا كامل ، هذا لله (عز وجل) ، وهذا لكم ، فخجلت وجلست إلى باب مرخى عليه ستر ، فجاءت الريح فكشفت طرفه ، فإذا أنا بفتى كأنه قمر ، من أبناء أربع ، أو مثلها ، فقال : يا كامل بن إبراهيم ، فاقشعررت (1) من ذلك ، وألهمت أن قلت : لبيك يا سيدي ، فقال : جئت إلى ولي الله وحجة زمانه ، تسأله : هل يدخل الجنة إلا من عرف معرفتك ، وقال بمقالتك ؟
فقلت : إي والله.
قال : إذن ـ والله ـ يقل داخلها ، والله إنه ليدخلها (2) قوم يقال لهم : الحقية قلت : يا سيدي : ومن هم ؟
قال : هم قوم من حبهم لعلي يحلفون بحقه ولا يدرون ما حقه وفضله.
ثم سكت ساعة عني ، ثم قال : وجئت تسأله عن مقالة المفوضة ، كذبوا عليهم لعنة الله ، بل قلوبنا أوعية لمشيئة الله ، فإذا شاء الله شئنا ، والله (عز وجل) يقول : * (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله) * (3) ثم رجع والله الستر إلى حالته ، فلم أستطع كشفه.
ثم نظر إلي أبو محمد (عليه السلام) مبتسما وهو يقول : يا كامل بن إبراهيم ، ما جلوسك وقد أنبأك بحاجتك حجتي من بعدي ؟! فانقبضت وخرجت ، ولم أعاينه بعد ذلك.
قال أبو نعيم : فلقيت كامل بن إبراهيم ، وسألته عن هذا الخبر ، فحدثني به (4).
492 / 96 ـ وأخبرني أبو القاسم عبد الباقي بن يزداد بن عبد الله البزاز ، قال : حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد الثعالبي قراءة في يوم الجمعة مستهل رجب سنة سبعين وثلاثمائة ، قال : أخبرنا أبو علي أحمد بن محمد بن يحيى العطار ، عن سعد بن عبد الله بن أبي خلف القمي ، قال : كنت امرءا لهجا بجمع (5) الكتب المشتملة على غوامض
---------------------------
(1) في ( ع ، م ) : فاشعرت.
(2) في ( ع ، م ) زيادة : حتى.
(3) الإنسان 76 : 30.
(4) الهداية الكبرى : 359 ، إثبات الوصية : 222 ، غيبة الطوسي : 246 / 216 ، الخرائج والجرائح 1 : 458 / 4 كشف الغمة 2 : 499 ، ينابيع المودة : 461.
(5) في ( ع ) : بجميع.
دلائل الإمامة _ 507 _
كانوا مع إبراهيم حين القي في النار ، والذين كانوا مع موسى حين فلق البحر ، والذين كانوا مع عيسى حيث رفعه الله إليه ، وألف مع النبي مسومين ، وألف مردفين ، وثلاثمائة وثلاثة عشر كانوا مع النبي (صلى الله عليه وآله) يوم بدر ، وأربعة آلاف هبطوا إلى الأرض ليقاتلوا مع الحسين (عليه السلام) فلم يؤذن لهم ، فرجعوا في الاستيمار ، فهبطوا وقد قتل الحسين (عليه السلام) ، فهم شعث غبر عند قبره ، يبكونه إلى يوم القيامة ، وما بين قبر الحسين (عليه السلام) إلى السماء مختلف الملائكة (1).
438 / 42 ـ وبهذا الاسناد عن أبي عبد الله جعفر بن محمد الحميري ، قال :
حدثني أحمد بن جعفر ، قال : حدثني علي بن محمد ، يرفعه إلى أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في صفة القائم (عليه السلام) : كأنني به قد عبر من وادي السلام إلى مسجد السهلة (2) ، على فرس محجل ، له شمراخ ، يزهو ، ويدعو ، ويقول في دعائه : لا إله إلا الله حقا حقا ، لا إله إلا الله إيمانا وصدقا ، لا إله إلا الله تعبدا ورقا.
اللهم يا معين كل مؤمن وحيد ، ومذل كل جبار عنيد ، أنت كهفي حين تعييني المذاهب ، وتضيق علي الأرض بما رحبت.
اللهم خلقتني وكنت عن خلقي غنيا ، ولولا نصرك إياي لكنت من المغلوبين.
يا منشر الرحمة من مواضعها ، ومخرج البركات من معادنها ، ويا من خص نفسه بشموخ الرفعة ، فأولياؤه بعزه يتعززون ، يا من وضعت له الملوك نير المذلة على أعناقها ، فهم من سطوته خائفون ، أسألك باسمك الذي قصر عنه خلقك ، فكل لك مذعنون ، أسألك أن تصلي على محمد وعلى آل محمد ، وأن تنجز لي أمري ، وتعجل لي الفرج ، وتكفيني ، وتعافيني ، وتقضي حوائجي ، الساعة الساعة ، الليلة الليلة ، إنك على كل شئ قدير (3).
---------------------------
(1) نحوه في كامل الزيارات : 119 / 5 و : 192 / 9 ، وكمال الدين وتمام النعمة : 671 / 22 ، وغيبة النعماني : 309 / 4 و : 310 / 5 ، وقطعة منه في العدد القوية : 74 / 124.
(2) من مساجد الكوفة.
(3) العدد القوية : 75 / 125.
دلائل الإمامة _ 508 _
أن الصديق المبرأ من دنس الشكوك (1) ، والفاروق المحامي عن بيضة الاسلام ، كانا يسران (2) النفاق ، واستدللتم بليلة العقبة ، أخبرني عن الصديق والفاروق ، أسلما طوعا أو كرها ؟
قال سعد : فأحتلت لدفع هذه (3) المسألة عني خوفا من الإلزام ، وحذرا من أني إن أقررت له بطواعيتهما (4) في الاسلام احتج بأن بدء النفاق ونشوءه في القلب لا يكون إلا عند هبوب روائح القهر والغلبة ، وإظهار اليأس الشديد في حمل المرء على من ليس ينقاد له قلبه ، نحو قول الله (عز وجل) : * (فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا) * (5).
وإن قلت : أسلما كرها ، كان يقصدني (6) بالطعن ، إذ لم يكن ثمة سيوف منتضاة كانت تريهما البأس.
قال سعد : فصدرت عنه مزورا (7) قد انتفخت أحشائي من الغضب ، وتقطع كبدي من الكرب ، وكنت قد اتخذت طومارا (8) ، وأثبت فيه نيفا وأربعين مسألة من صعاب المسائل التي لم أجد لها مجيبا ، على أن أسأل عنها خير أهل بلدي أحمد بن إسحاق صاحب مولانا أبي محمد (عليه السلام) ، فارتحلت خلفه ، وقد كان خرج قاصدا نحو مولاي بسر من رأى ، فلحقته في بعض المناهل ، فلما تصافحنا قال : لخير لحاقك بي.
قلت : الشوق ، ثم العادة في الأسئلة (9).
---------------------------
(1) في ( م ، ط ) : الشرك.
(2) في ( ع ، م ) : يستران.
(3) (هذه) ليس في ( ع ، م ).
(4) في ( ط ) : بطوعهما ، وفي ( م ) : طوعيتهما.
(5) غافر 40 : 84 و 85.
(6) في ( ع ) : كرها تقصدني.
(7) في ( ع ، م ) : عنه من وراء ، الازورار عن الشئ : العدول عنه.
(8) أي صحيفة.
(9) في ( ع ، م ) : الاسولة.
دلائل الإمامة _ 509 _
قال : قد تكافأنا على (1) هذه الخطة الواحدة ، فقد برح بي الشوق إلى لقاء مولانا أبي محمد (عليه السلام) ، وأريد أن أسأله عن معاضل في التأويل (2) ومشاكل من التنزيل ، فدونكها الصحبة المباركة ، فإنها تقف بك على ضفة بحر لا تنقضي عجائبه ، ولا تفنى غرائبه ، وهو إمامنا.
فوردنا سر من رأى فانتهينا منها إلى باب سيدنا (عليه السلام) ، فاستأذنا فخرج إلينا الإذن بالدخول عليه ، وكان على عاتق أحمد بن إسحاق جراب قد غطاه بكساء طبري ، فيه ستون ومائة صرد من الدنانير والدراهم ، على كل صرة ختم (3) صاحبها.
قال سعد : فما شبهت مولانا أبا محمد (عليه السلام) حين غشينا نور وجهه إلا ببدر قد استوفى من لياليه أربعا بعد عشر ، وعلى فخذه الأيمن غلام يناسب المشتري (4) في الخلقة والمنظر ، على رأسه فرق بين وفرتين ، كأنه ألف بين واوين ، وبين يدي مولانا (عليه السلام) رمانة ذهبية (5) تلمع بدائع نقوشها وسط غرائب الفصوص المركبة عليها ، قد كان أهداها إليه بعض رؤساء أهل البصرة ، وبيده قلم ، إذا أراد أن يسطر به على البياض قبض الغلام على أصابعه ، وكان مولانا (عليه السلام) يدحرج الرمانة بين يديه ، ويشغله (6) بردها لئلا يصده عن كتبة (7) ، ما أراد (8) فسلمنا عليه ، فألطف في
---------------------------
(1) في ( ع ، م ) : عن.
(2) في ( ع ، م ) : التوحيد.
(3) في ( ع ، م ) : اسم.
(4) المشتري : من أكبر الكواكب السيارة.
(5) في ( م ) ذهب.
(6) في ( ع ، م ) : يغفله.
(7) في ( ط ) : كتب.
(8) فيه غرابة من حيث قبض الغلام (عليه السلام) على أصابع أبيه أبي محمد (عليه السلام) وهكذا وجود رمانة من ذهب يلعب بها لئلا يصده عن الكتابة ، وقد روى في الكافي 1 : 248 / 15 عن صفوان الجمال قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن صاحب هذا الأمر ، فقال : إن صاحب هذا الأمر لا يلهو ولا يلعب ، وأقبل أبو الحسن موسى ـ وهو صغير ـ ومعه عناق مكية وهو يقول لها : اسجدي لربك ، فأخذه أبو عبد الله (عليه السلام) وضمه إليه وقال : بأبي وأمي من لا يلهو ولا يلعب.
دلائل الإمامة _ 510 _
الجواب ، وأومأ إلينا بالجلوس ، فلما فرغ من كتبة البياض الذي كان بيده ، أخرج أحمد ابن إسحاق جرابه من طي كسائه ، فوضعه بين يدي مولانا فنظر أبو محمد (عليه السلام) إلى الغلام وقال : يا بني ، فض الخاتم عن هدايا شيعتك ومواليك.
فقال : يا مولاي ، أيجوز لي أن أمد يدا طاهرة إلى هدايا نجسة ، وأموال رجسة قد شيب أحلها بأحرمها ؟!
فقال مولانا (عليه السلام) : يا بن إسحاق ، استخرج ما في الجراب ليميز بين الأحل منها والأحرم ، فأول صرة بدأ أحمد بإخراجها قال الغلام : هذه لفلان بن فلان ، من محلة كذا بقم ، تشتمل على اثنين وستين دينارا ، فيها من ثمن حجرة باعها وكانت إرثا له من أبيه خمسة وأربعون دينارا ، ومن أثمان تسعة أثواب أربعة عشر دينارا ، وفيها من أجرة الحوانيت ثلاثة دنانير.
فقال : مولانا (عليه السلام) : صدقت يا بني ، دل الرجل على الحرام منها.
فقال (عليه السلام) : فتش عن دينار رازي السكة ، تاريخه سنة كذا ، قد انطمس من إحدى صفحتيه نصف نقشة (1) ، وقراضة أصلية وزنها ربع دينار ، والعلة في تحريمها أن صاحب هذه الجملة وزن في شهر كذا من سنة كذا على حائك من جيرانه من الغزل منا وربع ، فأنت على ذلك مدة ، وفي انتهائها قيض لذلك الغزل سارق ، فأخبر (2) الحائك صاحبه فكذبه ، واسترد منه بدل ذلك منا ونصف غزلا أدق مما كان قد (3) دفعه إليه ، واتخذ من ذلك ثوبا ، كان هذا الدينار مع القراضة ثمنه ، فلما فتح الصرة صادف في وسط الدنانير رقعة باسم من أخبر عنه ، وبمقدارها على حسب ما قال (عليه السلام) ، واستخرج الدينار والقراضة بتلك العلامة.
ثم أخرج صرة أخرى ، فقال الغلام (عليه السلام) : هذه لفلان بن فلان ، من محلة كذا بقم ، تشتمل على خمسين دينارا ، لا يحل لنا مسها (4).
---------------------------
(1) في ( ع ، م ) صفحتيه فقر.
(2) في ( ط ) زيادة : به.
(3) (قد) ليس في ( ع ، م ).
(4) في ( ط ) : لمسها.
دلائل الإمامة _ 511 _
قال : وكيف ذلك ؟
قال (عليه السلام) : لأنها من ثمن حنطة حاف (1) صاحبها على أكاره في المقاسمة ، وذلك أنه قبض حصته منها بكيل واف ، وكال ما خص الأكار منها بكيل بخس.
فقال مولانا (عليه السلام) : صدقت يا بني.
ثم قال : يا بن إسحاق ، احملها بأجمعها لتردها ، أو توصي بردها (2) على أربابها ، فلا حاجة لنا في شئ منها ، ائتنا بثوب العجوز ، قال أحمد : وكان ذلك الثوب في حقيبة لي فنسيته.
فلما انصرف أحمد بن إسحاق ليأتيه بالثوب نظر إلي مولانا أبو محمد (عليه السلام) فقال : ما جاء بك يا سعد ؟
فقلت : شوقني أحمد بن إسحاق إلى لقاء مولانا.
فقال : والمسائل التي أردت أن تسأله عنها ؟
قلت : على حالتها يا مولاي.
فقال : سل قرة عيني ـ وأومأ إلى الغلام ـ عما بدا لك منها.
فقلت : مولانا وابن مولانا ، إنا روينا عنكم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) جعل طلاق نسائه بيد أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) حتى أرسل يوم الجمل إلى عائشة : ( إنك قد أرهجت (3) على الاسلام وأهله بفتنتك (4) ، وأوردت بنيك حياض الهلاك بجهلك ، فإن كففت عني غربك (5) وإلا طلقتك ) ، ونساء رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد كان طلاقهن بوفاته (6).
قال (عليه السلام) : ما الطلاق ؟
---------------------------
(1) أي جار وظلم.
(2) (أو توصي بردها) ليس في ( ع ، م ).
(3) الرهج : الشغب والفتنة ، وأرهج : أثار الغبار.
(4) في ( ع ) : بفئتك.
(5) أي حدتك ( النهاية 3 : 350 ).
(6) في ( ع ، م ) : طلقهن وفاته.
دلائل الإمامة _ 512 _
قلت : تخلية السبيل.
قال : فإذا كان وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد خلى سبيلهن ، فلم لا يحل لهن الأزواج ؟
قلت : لأن الله (عز وجل) حرم الأزواج (1) عليهن.
قال : كيف وقد خلى الموت سبيلهن ؟
قلت فأخبرني يا بن مولاي عن معنى الطلاق الذي فوض رسول الله (صلى الله عليه وآله) حكمه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام).
قال : إن الله (تقدس اسمه) : عظم شأن نساء النبي (صلى الله عليه وآله) ، فخصهن بشرف الأمهات ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ( يا أبا الحسن ، إن هذا الشرف باق لهن ما دمن لله على الطاعة ، فأيتهن عصت الله بعدي بالخروج عليك ، فأطلق لها في الأزواج ، وأسقطها من شرف الأمهات ومن شرف أمومة المؤمنين ).
قلت : فأخبرني عن الفاحشة المبينة التي إذا أتت المرأة بها في أيام عدتها حل للزوج أن يخرجها من بيته.
قال : السحق دون الزنا ، وإن المرأة إذا زنت ، وأقيم عليها الحد ، ليس لمن أرادها أن يمتنع (2) بعد ذلك من التزوج بها لأجل الحد (3) ، وإذا سحقت وجب عليها الرجم ، والرجم خزي ، ومن قد أمر الله برجمه فقد أخزاه ، ومن أخزاه فقد أبعده ، ومن أبعده فليس لأحد أن يقربه.
قلت : فأخبرني يا بن رسول الله ، عن أمر الله لنبيه موسى (عليه السلام) * (فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى) * (4) فإن فقهاء الفريقين يزعمون أنها كانت من إهاب (5) الميتة.
---------------------------
(1) (الأزواج) ليس في ( ع ، م ).
(2) في ( ع ، م ) : أراد أن يمنع.
(3) في ( ع ، م ) : الحدود.
(4) طه 20 : 12.
(5) الإهاب : الجلد.
دلائل الإمامة _ 513 _
فقال (عليه السلام) : من قال ذلك فقد أفترى على موسى (عليه السلام) واستجهله في نبوته ، لأنه ما خلا الأمر فيها من خصلتين : إما أن تكون صلاة موسى (عليه السلام) فيها جائزة أو غير جائزة ، فإن كانت صلاة موسى (عليه السلام) جائزة جاز لموسى (عليه السلام) أن يكون لابسهما في البقعة ، إذ لم تكن مقدسة ، وإن كانت مقدسة مطهرة فليست بأطهر وأقدس من الصلاة.
وإن كانت صلاته غير جائزة فيهما فقد أوجب أن موسى (عليه السلام) لم يعرف الحلال من (1) الحرام ، وعلم ما جاز فيه الصلاة وما لا يجوز ، وهذا كفر.
قلت : فأخبرني يا بن مولاي ، عن التأويل فيها.
قال : إن موسى (عليه السلام) ناجى ربه بالوادي المقدس ، فقال : ( يا رب ، إني قد أخلصت لك المحبة مني ، وغسلت قلبي عمن سواك ) وكان شديد الحب لأهله ، فقال الله (تعالى) : * (فاخلع نعليك) * أي (2) انزع حب أهلك من قلبك إن كانت محبتك لي خالصة ، وقلبك من الميل إلى سواي مغسولا.
قلت : فأخبرني ـ يا بن رسول الله ـ عن تأويل * (كهيعص) * (3).
قال : هذه الحروف من أنباء الغيب ، اطلع الله عليها عبده زكريا (عليه السلام) ، ثم قصها على محمد (صلى الله عليه وآله) ، وذلك أن زكريا (عليه السلام) سأل ربه أن يعلمه أسماء الخمسة ، فأهبط عليه جبرئيل (عليه السلام) فعلمه إياها ، فكان زكريا (عليه السلام) إذا ذكر محمدا وعليا وفاطمة والحسن سري عنه همه ، وانجلى كربه ، فإذا ذكر اسم الحسين (عليه السلام) خنقته العبرة ، ووقعت عليه الهموم ، فقال ذات يوم : ( إلهي ، ما بالي إذا ذكرت أربعا منهم تسليت بأسمائهم من همومي ، وإذا ذكرت الحسين تدمع عيني ، وتثور زفرتي ؟ ) فأنبأه الله عن قصته ، فقال : * (كهيعص) * فالكاف : اسم كربلاء ، والهاء : هلاك
---------------------------
(1) في ( ط ) : و.
(2) في ( ع ، م ) : و.
(3) مريم 19 : 1.
دلائل الإمامة _ 514 _
العترة ، والياء : يزيد (لعنه الله) ، وهو ظالم الحسين (عليه السلام) ، والعين : عطشه ، والصاد : صبره.
فلما سمع بذلك زكريا (عليه السلام) لم يفارق مسجده ثلاثة أيام ، ومنع فيهن الناس من الدخول عليه ، وأقبل على البكاء والنحيب ، وكانب ندبته (1) : ( إلهي أتفجع خير جميع خلقك بولده ، إلهي أتنزل بلوى هذه الرزية بفنائه ، إلهي أتلبس عليا وفاطمة ثياب هذه المصيبة ، إلهي أتحل كربة هذه الفجيعة بساحتهما (2).
ثم كان يقول : ( إلهي ارزقني ولدا تقر به عيني على الكبر ، واجعله وارثا رضيا ، يوازي محله مني محل الحسين ، فإذا رزقتنيه فافتني بحبه ، ثم أفجعني به ، كما تفجع محمدا حبيبك بولده ) فرزقه الله (تعالى) يحيى (عليه السلام) ، وفجعه به ، وكان حمل يحيى ستة أشهر ، وحمل الحسين (عليه السلام) كذلك ، وله قصة طويلة.
قلت : فأخبرني يا مولاي ، عن العلة التي تمنع القوم من اختيار إمام لأنفسهم.
قال : مصلح ، أو مفسد ؟
قلت : مصلح.
قال : هل يجوز أن تقع خيرتهم على الفساد بعد أن لا يعلم أحد ما يخطر ببال غيره من صلاح أو فساد ؟
قلت : بلى.
قال : فهي العلة أوردها لك ببرهان ينقاد له (3) عقلك : أخبرني عن الرسل الذين اصطفاهم الله (تعالى) ، وأنزل عليهم علمه ، وأيدهم بالوحي والعصمة ، إذ هم أعلام الأمم ، وأهدى إلى الاختيار منهم ، مثل موسى وعيسى (عليهما السلام) ، هل يجوز مع وفور عقلهما ، وكمال علمهما ، إذا هما بالاختيار أن تقع خيرتهما على المنافق ، وهما يظنان أنه مؤمن ؟
قلت : لا.
---------------------------
(1) في ( ع ، م ) : أنته.
(2) في ( ط ) : بساحتها.
(3) في ( ط ) : ينقاد بذلك.
دلائل الإمامة _ 515 _
قال (عليه السلام) : فهذا موسى كليم الله ، مع وفور عقله ، وكمال علمه ، اختار من أعيان قومه ووجوه عسكره لميقات ربه سبعين رجلا ، ممن لم يشك في إيمانهم وإخلاصهم ، فوقعت خيرته على المنافقين ، قال الله (عز وجل) : * (واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا) * (1) وقوله * (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة) * (2).
فلما وجدنا اختيار من قد اصطفاه الله (تعالى) لنبوته ، واقعا على الأفسد دون الأصلح ، وهو يظن أنه الأصلح دون الأفسد ، علمنا أن لا اختيار إلا لمن يعلم ما تخفي الصدور ، وتكن الضمائر ، وتنصرف عليه السرائر ، وأن لا خطر لاختيار المهاجرين والأنصار بعد وقوع خيرة الأنبياء على ذوي الفساد ، لما أرادوا أهل الصلاح.
ثم قال مولانا (عليه السلام) : يا سعد ، حين ادعى خصمك ( أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما أخرج مع نفسه مختار هذه الأمة إلى الغار إلا علما منه أن الخلافة له من بعده ، وأنه هو المقلد أمور التأويل ، والملقى إليه أزمة الأمور ، وعليه المعول في لم الشعث ، وسد الخلل ، وإقامة الحدود ، وتسيير الجيوش (3) لفتح بلاد الكفر ، فكما أشفق على نبوته أشفق على خلافته ، إذ لم يكن من حكم الاستتار والتواري أن يروم الهارب من الشر مساعدة من غيره إلى مكان يستخفي فيه ، وإنما أبات عليا (عليه السلام) على فراشه لما لم يكن يكترث له ولم يحفل به ، لاستثقاله إياه ، وعلمه بأنه إن قتل لن يتعذر عليه نصب غيره مكانه للخطوب التي كان يصلح لها ).
فهلا نقضت دعواه بقولك : أليس قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ( الخلافة بعدي ثلاثون سنة ) فجعل هذه موقوفة على أعمار الأربعة الذين هم الخلفاء الراشدون في مذهبكم ، فكان لا يجد بدا من قوله : بلى.
فكنت تقول له حينئذ : أليس كما علم رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن الخلافة من
---------------------------
(1) الأعراف 7 : 155.
(2) البقرة 2 : 55.
(3) في ( ط ) تسريب الجيوش ، أي بعثها وتسييرها قطعة قطعة.
دلائل الإمامة _ 516 _
بعده لأبي بكر ، علم أنها من بعد أبي بكر لعمر ، ومن بعده لعثمان ، ومن بعد عثمان لعلي ، فكان أيضا لا يجد بدا من قوله : نعم ، ثم كنت تقول له : فكان الواجب على رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يخرجهم جميعا على الترتيب إلى الغار ، ويشفق عليهم كما أشفق على أبي بكر ، ولا يستخف بقدر هؤلاء الثلاثة بتركه إياهم ، وتخصيصه أبا بكر بإخراجه مع نفسه دونهم.
فلما قال : ( أخبرني عن الصديق والفاروق أسلما طوعا ، أو كرها ؟ ) لم لم تقل : بل أسلما طمعا ؟ وذلك أنهما كانا يجالسان اليهود ، ويستخبرانهم عما كانوا يجدون في التوراة ، وفي سائر الكتب المتقدمة ، الناطقة بالملاحم من حال إلى حال ، من قصة محمد (صلى الله عليه وآله) ، ومن عواقب أمره ، وكانت اليهود تذكر أن لمحمد (صلى الله عليه وآله) تسلطا على العرب ، كما كان لبخت نصر على بني إسرائيل ، غير أنه كاذب في دعواه أنه نبي.
فأتيا محمدا (صلى الله عليه وآله) فساعداه على قول شهادة أن لا إله إلا الله ، وتابعاه طمعا في أن ينال كل واحد منهما من جهته ولاية بلد ، إذا استقامت أموره ، واستتبت أحواله ، فلما أيسا من ذلك تلثما وصعدا العقبة مع عدة من أمثالهما من المنافقين ، على أن يقتلوه ، فدفع الله كيدهم ، وردهم بغيظهم ، لم ينالوا خيرا.
كما أتى طلحة والزبير عليا (عليه السلام) فبايعاه ، وطمع كل واحد منهما أن ينال من جهته ولاية بلد ، فلما أيسا نكثا بيعته وخرجا عليه ، فصرع الله كل واحد منهما مصرع أشباههما من الناكثين.
قال سعد : ثم قام مولانا أبو محمد الحسن بن علي الهادي (عليه السلام) للصلاة مع الغلام ، فانصرفت عنهما ، وطلبت أحمد بن إسحاق ، فاستقبلني باكيا ، فقلت : ما أبطأك وأبكاك ؟
فقال : قد فقدت الثوب الذي أرسلني مولاي لإحضاره.
قلت : لا عليك ، فأخبره ، فدخل عليه وانصرف من عنده متبسما ، وهو يصلي على محمد وآل محمد ، فقلت : ما الخبر ؟
قال : وجدت الثوب مبسوطا تحت قدمي مولانا (عليه السلام) ، يصلي عليه.
دلائل الإمامة _ 517 _
قال سعد : فحمدنا الله (عز وجل) على ذلك ، وجعلنا نختلف إلى مولانا أياما فلا نرى الغلام (عليه السلام) بين يديه (1) ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وسلم تسليما كثيرا.
---------------------------
(1) كمال الدين وتمام النعمة : 454 / 21 ، الخرائج والجرائح 1 : 481 / 22 نحوه ، الاحتجاج 2 : 461 ، وقطعة منه في الثاقب في المناقب : 585 / 534 ، وتأويل الآيات 1 : 299 / 1 ، ومدينة المعاجز : 594.