ثانيهما : انّ المقسم عليه محذوف يعلم من الآيات التي أعقبت هذه الاقسام ، قال سبحانه : ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ * إِرَمَ ذاتِ الْعِماد * التّي لَمْ يُخْلَق مِثْلُها فِي البِلاد * وَثَمُودَ الّذِينَ جابُوا الصَّخرَ بِالواد * وَفرْعَونَ ذِي الاََوتاد * الَّذينَ طَغَوْا فِي البِلاد * فَأَكْثَروا فِيهَا الفَسادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبّكَ سَوطَ عَذابٍ * إِنَّ رَبّكَ لَبِالْمِرصاد ) (1) .
فالمفهوم من هذه الآيات انّه سبحانه حلف بهذه الاَقسام بغية الاِيعاد بأنّه يعذب الكافرين والطاغين والعصاة كما عذب قوم عاد وثمود ، فالاِنسان العاقل يعتبر بما جرى على الاَُمم الغابرة من إهلاك وتدمير.
أمّا وجه الصلة بين المقسم به والمقسم عليه فهو : انّ من كان ذا لبٍّ ، علم أنّ ما أقسم اللّه به من هذه الاَشياء فيه دلائل على قدرته وحكمته ، فهو قادر على أن يكون بالمرصاد لاَعمال عباده فلا يعزب عنه أحد ولا يفوته شيء من أعمالهم لاَنّه يسمع ويرى جميع أقوالهم وأفعالهم خصوصاً بالنظر إلى ما أدَّب به قوم عاد وثمود مع ما كان لهم من القوة والمنعة.
--------------------
(1) الفجر : 6 ـ 14 .
الأقسام في القرآن _ 159 _
الفصل الخامس عشر : القسم في سورة البلد
حلف سبحانه في سورة البلد بأُمور أربعة : البلد ، ومن حلّ فيه ، ووالد ، وما ولد ، وقد حلف بالثاني كناية وبما سواه تصريحاً ، قال سبحانه : ( لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذا البَلَدِ * وَوالِدٍ وَما وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الاِِنْسان في كَبَد )(1).
تفسير الآيات
حلف فيها سبحانه بمكة المكرمة كما حلف بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الحالِّ فيها ، ومقتضى التناسب بين الاَقسام أن يكون المراد من الوالد والولد ، هو إبراهيم وإسماعيل اللذان بنيا البيت ، ودعا إبراهيم كلّراكب وراحل إلى زيارته.
أمّا الحلف الاَوّل فواضح ، لاَنّ البيت مركز للتوحيد ولعبادة اللّه سبحانه ، وهو مطاف أنبياء اللّه العظام وأوليائه ، فقد بلغ من المكانة مرتبة صلح أن يحلف به سبحانه ، كيف وقد قال سبحانه في حق البيت : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ للنّاسِ لَلَّذي بِبَكَةَ مُباركاً وهُدًى لِلْعالَمين )(2).
قال سبحانه : ( وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْت مثابَةً لِلنّاسِ وَأَمْناً )(3) وقال : ( جَعَلَ اللّهُ
-------------------
(1) البلد : 1 ـ 4 .
(2) آل عمران : 96.
(3) البقرة : 125 .
الأقسام في القرآن
_ 160 _ الْكَعْبَة الْبَيْتَ الحَرامَ قِياماً لِلنّاسِ )(1) فلو حلف بالبلد ، فإنّما لاَجل احتضانه أشرف بيوت اللّه ، ويزيد على شرفه انّ النبي الخاتم ، قطين هذا البلد ، ونزيله ، فزاده شرفاً على شرف ، والحل هو الساكن.
وبذلك يعلم أنّ ذكره ( صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا النحو هو في الواقع حلف ضمنيّ به.
وهذا التفسير مبني على أنّ المراد من الحلِّ هو نزول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا البلد ، ولكن ربما يفسر بالمستحلّ ، أي من استحلت حرمته وهتكت كرامته ، وعند ذلك ينقلب معنى الآية إلى شيء آخر ، ويكون معناها هو : لا أُقسم بهذا البلد المقدّس حال انّك مهتوك الحرمة والكرامة ، ويكون توبيخاً وتقريعاً لكفّار قريش حيث إنّهم يحترمون البلد ، ولا يحترمون من حلَّ فيه أشرف الخليقة.
وعلى ذلك فيكون (لا ) في ( لا أُقسمُ ) بمعنى النفي لا الزيادة ، ولا بمعنى نفي شيء آخر على ما قدمناه في تفسير سورة الواقعة.
يقول الزمخشري : أقسم سبحانه بالبلد الحرام وما بعده على أنّ الاِنسان خلق مغموراً في مكابدة المشاق والشدائد ، واعترض بين القسم والمقسم عليه بقوله : ( وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذا الْبَلَد ) يعني : ومن المكابدة أنّمثلك على عظم حرمتك يُستحل بهذا البلد الحرام ، كما يُستحلّ الصيد في غير الحرم ، عن شرحبيل يحرّمون أن يقتلوا بها صيداً ويعضدوا بها شجرة ويستحلون إخراجك وقتلك ، وفيه تثبيت من رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة وتعجيب من حالهم في عداوته (2).
وقال الطبرسي : معناه لا أقسم بهذا البلد وأنت حلّفيه منتهك الحرمة
مستباح العرض لا تحترم ، فلم يبق للبلد حرمة حيث هتكت حرمتك ، قال وهو المروي عن أبي مسلم كما روي عن أبي عبد اللّه ( عليه السلام) ، قال : كانت قريش تعظم البلد وتستحل محمداً فيه ، فقال : لا أُقسم بهذا البلد وأنت حلّ بهذا البلد يريد انّهم استحلوك فكذبوك وشتموك ، وكان لا يأخذ الرجل منهم قاتل أبيه فيه ويتقلدون لحاء شجر الحرم فيأمنون بتقليده إيّاه فاستحلوا من رسول اللّه مالم يستحلوا من غيره فعاب اللّه ذلك عليهم (1) .
ثمّ حلف بوالد وما ولد وللمفسرين في تفسيره أقوال أوضحها بأنّ الوالد هو إبراهيم الخليل والولد إسماعيل الذبيح وهذا يتناسب مع القسم بمكة ، لاَنّ الوالد والولد هما رفعا قواعد البيت.
وأمّا تفسيرها بآدم وذريته ، أو آدم والاَنبياء ، أو آدم وكلّ من ولد عبر القرون تفسير بعيد.
هذا كلّه حول القسم ، وأمّا المقسم عليه ، فقوله سبحانه : ( لَقَدْ خَلَقْنَا الاِِنْسانَ في كَبَد )(2) .
والكبد في اللغة شدّة الاَمر ومنه تكبد البلد إذا غلظ واشتد ، ومنه الكبد للاِنسان ،لاَنّه دم يغلظ ويشتد ، وتكبّد البلد : إذا صار كالكبد ، ومعنى الآية واضح ، فانّ الاِنسان منذ خلق إلى أن أدرج في أكفانه لم يزل يكابد أمراً فأمراً ، فمن حمله وولادته ورضاعه وفطامه وشبابه وكماله وهرمه كلّذلك محفوف بالتعب والوصب ، يقول الشاعر :
--------------------
(1) مجمع البيان : 5|493 .
(2) البلد : 4 .
الأقسام في القرآن
_ 162 _
يـا خـاطب الدنيا الدَّنيّ ة إنّـهـا شَــرَكُ الــرَّدى دارٌ مـتى مـا iiأضحكت فـي يـومها أبـكت iiغـدا وإذا أظــــلَّ سـحـابـهـا لــم يـنتقع مـنه iiصـدى غـاراتُـها مــا iiتـنقضى وأسيرها لا يُفتدى (1)
ويرثي التهامي ولده في قصيدة معروفة مبتدئاً بوصف الدنيا ، ويقول :
رحم اللّه شيخنا الوالد آية اللّه الشيخ محمد حسين السبحاني ( 1299 ـ 1392 هـ ) فقد كان في أواخر أيام عمره طريح الفراش فزارته ابنته (فاطمة) وكنت أرافقها فسألناه عن حاله فأنشدَ بيتاً من لامية العجم للطغرائي وقال :
ترجو البقاء بدار لا ثبات لها فهل سمعت بظل غير iiمنتقل
أمّا الكلام حول الدنيا ومصاعبها وما احتضنت من التعب والوصب ، فيكفي في ذلك قراءة خطب الاِمام أمير الموَمنين ( عليه السلام) ، ننقل منها هذه الشذرات :
( أمّا بعد ، فإنّي أُحذركم الدنيا ، فإنّها حلوة خضرة ، حفّت بالشهوات ، وتحبّبت بالعاجلة ، وراقت بالقليل ، وتحلّت بالآمال ، وتزيّنت بالغرور ، لا تدوم حبرتها ، ولا توَمن فجعتها ، غرّارة ضرّارة ، حائلة زائلة ، نافدة بائدة ، أكّالة غوّالة ، لا تعدو ـ إذا تناهت إلى أُمنية أهل الرغبة فيها والرضاء( الرضى) بها ـ أن تكون كما قال اللّه تعالى سبحانه : ( كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الاََرْض فَأَصْبَحَ هَشيماً تَذروهُ الرياح وَكانَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيءٍ مُقتدراً )(1) لم يكن امروٌَ ومنها في حبرة إلاّ أعقبته بعدها عبرة ، ولم يلق في سرّائها بطناً ، إلاّمنحته من ضرّائها ظهراً (2) .
وقال ( عليه السلام) في خطبة أُخرى : ( ألا وإنّ الدنيا قد تصرَّمت ، وآذنت بانقضاء ، وتنكَّر معروفها ، وأدبرت حذّاء ، فهي تحفز بالفناء سكّانها ( ساكنيها ) ، وتحدو بالموت جيرانها ، وقد أمرّ فيها ما كان حلواً ، وكدر منها ما كان صفواً ، فلم يبق ( تبق ) منها إلاّسملة كسملة الاِداوة أو جرعة كجرعة المقلة ، لو تمزّزها الصّديان لم ينقع ، فأزمعوا عباد اللّه الرحيل عن
هذه الدار المقدور على أهلها الزّوال ، ولا يغلبنّكم فيها الاَمل ، ولا يطولنّ عليكم فيها الاَمد ) (1) .
يقول العلاّمة الطباطبائي : فليس يقصد نعمة من نعم الدنيا إلاّخالصة في طيبها ، محضة في هنائها ، ولا ينال شيئاً منها إلاّ مشوبة بما ينغص العيش مقرونة بمقاساة ومكابدة ، مضافاً إلى ما يصيبه من نوائب الدهر ويفاجئه من طوارق الحدثان (2).
وربّما ينظر الاِنسان إلى من هو فوقه لا سيما الذين يتمتعون بالغنى والرفاه ، فيخطر على باله أنّ حياة هوَلاء غيرمشوبة بالكد والتعب ، ولكنّ هذا التصوّر غير صائب إذ أنّ تعبهم وكدَّهم أكثر بمراتب من الذين هم دونهم.
وأمّا الصلة بين المقسم به ( والد وما ولد ) والمقسم عليه ( لقد خلقنا الاِنسان في كبد ) ، واضحة ، إذ لم تزل حياة إبراهيم وولده مقرونة بالتعب والوصب ، إذ ولد وقد أمضى صباه في الغاب خوفاً من بطش الجهاز الحاكم ، وبعد ما خرج منها وله من العمر 13 سنة أخذ يكافح الوثنيين وعبّاد الاَجرام السماوية ، إلى ان حكم عليه بالرمي في النار والاِحراق ، فنجّاه اللّه سبحانه ، فلم يجد بداً من مغادرة الوطن والهجرة إلى فلسطين ولم يزل بها حتى أُمر بإيداع زوجه وابنه في بيداء قاحلة لا ماء فيها ولا زرع ، يحكي سبحانه تلك الحالة عن لسان إبراهيم ( عليه السلام) ويقول : ( رَبَّنا إِنّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتي بِوادٍ غَيْر ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرّمِ رَبَّنا لِيُقيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ )(3) .
الفصل السادس عشر : القسم في سورة الشمس
حلف سبحانه تبارك و تعالى في سورة الشمس إحدى عشرة مرّة بتسعة أشياء (1).
1 ـ الشمس ، 2 ـ ضحى الشمس ، 3 ـ القمر ، 4 ـ النهار ، 5 ـ الليل ، 6 ـ السماء ، 7 ـ وما بناها ، 8 ـ الاَرض ، 9 ـ وما طحاها ، 10 ـ ونفس ، 11 ـ وما سوّاها.
وبما أنّ المراد من الموصول في الجمل الثلاث الاَخيرة هو اللّه سبحانه فيكون المقسم به تسعة ، والاَقسام إحدى عشرة ، قال سبحانه : ( وَالشَّمْسِ وَضُحاها * وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها * وَالنَّهار إِذا جَلاّها * وَاللَّيلِ إِذا يَغْشاها * وَالسَّماء وَما بَناها * وَالاََرْضِ وَما طَحاها * وَنَفْسٍ وَما سَوّاها * فأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها * وَقَدْ خابَ مَنْ دَسّاها )(2) .
تفسير الآيات
1 ، 2 ـ ( الشمس وضحاها ) ، حلف بالنيّر الكبير الذي له دور هام في استقرار الحياة على الاَرض وهو مصدر للنور والحرارة ، إلى غير ذلك من
--------------------
(1) وما في تفسير الرازي من أنّه تعالى قد أقسم بسبعة أشياء غير صحيح ولعلّهأسقط قوله : ( وضحاها ) والموصول كلّه عن القسم ، ( انظر تفسير الفخر الرازي : 31|189 ).
(2) الشمس : 1 ـ 10.
الأقسام في القرآن
_ 166 _
المعطيات ، وهو سلطان منظومتنا ، وله حركة انتقالية وحركة وضعية ، ويعجز البيان واللسان عن بيان ماله من الاَهمية ، ويكفيك هذا الاَثر انّه ينتج في كلّدقيقة 240 ميليون وحدة طاقة ، ولم تزل ترفد بهذا العطاء على الرغم من أنّ عمرها يتجاوز الخمسة آلاف ميليون سنة.
هذه الشمس التي ما زالت أسرارها في الخفاء ، هي محور نظامنا السيّاري ومصدر حياتنا أيضاً ، هذه الشمس التي كلّ ما يكتشف عنها يزيدها غموضاً ، ولم تزح يد العلم بعد النقاب عن كلّ ما يجب أن نعلمه عن الشمس ، هذه الشمس التي تفقد أربعة ملايين طن من وزنها في الثانية من احتراقها ، ولم تزل تجدّد وزنها وحجمها ، والتي تبعث إلى العالم الخارجي طاقة تعادل خمسة آلاف بليون قنبلة ذرية في كلّ ثانية ، وهي آية من آيات الخالق ، وإن هي إلاّ آية صغيرة تزخر السماء بملايين من النجوم أضخم منها حجماً وأكبر سرعة وأكثر تألّقاً (1).
كما حلف بضحى الشمس ، وهو انبساط الشمس وامتداد النهار ، والاَولى أن يقال الضحى هو انبساط نورها وضوئها ، فانّ لضوئها أثراً خاصاً في نشوء الحياة وبقائها والفتك بالاَمراض وزوالها.
3 ـ ( وَالْقَمَر إِذا تَلاها ) حلف بالقمر إذا تلا الشمس في الليالي البيض من الليلة الثالثة عشرة من الشهر إلى السادسة عشرة منه ، وقت امتلائه أو قربه من الامتلاء حين يضيىَ الليل كلّه من غروب الشمس إلى الفجر.
وفي الحقيقة هذا حلف بالقمر وضوئه فانّ ضوء القمر إنّما ينتشر ، إذا تلا الشمس وظهر بعد غروبها.
وربما يقال بأنّ المراد تبعية القمر للشمس في تمام الشهر ، لاَنّ نوره مأخوذ
--------------------
(1) اللّه والعلم الحديث : 30.
الأقسام في القرآن
_ 167 _
من نور الشمس فهو يتبعها في جميع الاَزمان ، ولكن المعنى الاَوّل هو اللائح.
4 ـ ( وَالنّهار إِذا جَلاّها ) التجلي من الجلو بمعنى الكشف الظاهر ، يقال : أجليت القوم عن منازلهم فجلوا عنها أي أبرزتهم عنها ، وعلى ذلك فحلف سبحانه بالنهار إذا جلا الاَرض وأظهرها ، والضمير يعود إلى الاَرض المفهوم من سياق الآية ، ويحتمل أن يرجع الضمير إلى الشمس ، فانّ النهار كلّما كان أجلى ظهوراً كانت الشمس أكمل وضوحاً ، أي احلف بالنهار إذا جلّـى الشمس وأظهرها.
ولكن المعنى الاَوّل هو الظاهر ، لاَنّ الشمس هي المظهرة للنهار ، دون العكس.
5 ـ ( وَاللَّيلِ إِذا يَغْشاها ) حلف بالليل إذا غطّى الاَرض وسترها في مقابل الشمس إذا جلا الاَرض وأظهرها ، وربما يتصوّر أنّ الضمير يرجع إلى الشمس ، فحلف سبحانه بالليل إذا غطّى الشمس وهو بعيد ، فانّ الليل أدون من أن يغطي الشمس وإنّما يغطي الاَرض و من عليها.
والاَفعال الواردة في الآيات السابقة كلها وردت بصيغة الماضي ، ( تلاها ، جلاّها ) وإلاّ في هذه الآية فقد وردت بصورة المضارع ( يغشاها ) فما هو الوجه ؟
ذكر السيد الطباطبائي وجهاً استحسانياً وقال : والتعبير عن غشيان الليل الاَرض بالمضارع بخلاف تجلية النهار لها حيث قيل : ( وَالنَّهار إذا جَلاّها * وَاللَّيل إِذا يَغْشاها ) للدلالة على الحال ، ليكون فيه إيماء إلى غشيان الفجور الاَرضَ في الزمن الحاضر الذي هو أوائل ظهور الدعوة الاِسلامية (1) .
--------------------
(1) الميزان : 20|297.
الأقسام في القرآن
_ 168 _
6 ، 7 ـ ( وَالسَّماء وَمابَناها ) ، فحلف بالسماء وبانيها ، بناء على أنّ (ما) موصولة ، وليست مصدرية ، بقرينة الآية التالية حيث يحلف فيها بالنفس وخالقها ومسوِّيها ، وغلبة الاستعمال على (ما) الموصولة في غير العاقل لم يمنع من استعمالها في العاقل أيضاً ، قال سبحانه : ( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ )(1).
ولعلّ استعمال (ما) مكان (من) لاَجل أنّ الخطاب كان موجهاً إلى قوم لا يعرفون اللّه بجليل صفاته ، وكان القصد منه أن ينزلوا في هذا الكون منزلة من يطلب للاَثر موَثراً فينتقل من ذلك إلى معرفة اللّه تعالى ، فعبّر عن نفسه بلفظة (ما) التي هي الغاية في الاِبهام (2).
وفي ذكر السماء وبنيانها إلماع إلى أنّه يمتنع أن يكون رهن الصدفة ، بل لا يتحقق إلاّبصانع حكيم قد أحكم وضعها وأجاد بناءها ، خصوصاً بناء الكواكب التي ترتبط أجزاوَها البعض بالبعض ، ولولا هذا الترابط لما كان لها تماسك.
8 ، 9 ـ ( وَالاََرْض وَما طَحاها ) حلف بالاَرض وطاحيها والطحو كالدحو ، وهو البسط ، وإبدال الطاء من الدال جائز ، والمعنى وسَّعها.
وقد أشار إلى وصف الاَرض في آية أُخرى وقال : ( الّذي جَعَلَ لَكُمُ الاََرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً )(3) فحلف سبحانه بالاَرض وبما جعلها لنا فراشاً.
والاَرض كوكب من الكواكب التي تدور حول الشمس وتتبعها في سيرها أينما سارت ، وهي الكوكب الخامس من حيث الحجم ، والثالث من حيث القرب من بين الكواكب التسعة التي تتكون منها المجموعة الشمسية.
--------------------
(1) النساء : 3 .
(2) تفسير المراغي : 30|167.
(3) البقرة : 22 .
الأقسام في القرآن
_ 169 _
والاَرض تكاد تكون كرة ، إلاّ أنّها منبعجة قليلاً عند خط الاستواء ومفلطحة عند القطبين (1) .
10 ، 11 ـ ( وَنَفْسٍ وَما سَوّاها ) ، فالمراد من النفس هي الروح ، قال سبحانه : ( أَخْرِجُوا أَنفُسكُمْ )(2) وقال : ( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ ما في أَنْفُسكُمْ فَاحْذَرُوهُ )(3) وقال : ( تَعْلَمُ ما في نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما في نَفْسِكَ )(4) .
فاذاً المراد من تسويتها إعطاوَها القوى الكثيرة الظاهرة والباطنة ، فتسوية النفس هو تعديل قواها من الظاهرة والباطنة ، ولو أُريد من النفس الروح والجسم فتسوية الجسم هو إيجادها بصورة متكاملة.
وأمّا تنكير النفس ، فلاَنّه أراد كلّنفس من النفوس من دون أن يختص بنفس دون نفس ، وربما يحتمل أن يكون التنكير إشارة إلى نفس خاصة ، وهي نفس النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم) ، والمعنى الاَوّل هو الاَوضح بقرينة انّه أخذ يحلف بالكائنات الحيّة وغير الحيّة.
إلى هنا تمّ بيان الحلف بأحد عشر أمراً ، وهذه الآيات تشتمل على أكثر الاَقسام الواردة في القرآن الكريم.
ثمّ إنّبعض من ينكمش من الحلف بغير اللّه سبحانه يرى نفسه أمام هذه الآيات ، ويحس عجزاً في المنطق ، ويقول : المراد هو ربّ الشمس والقمر وهكذا ، ولكنّه غافل انّه لا يمكن تقديره في الآيتين الاَخيرتين أي : ( وَالسَّماء وَما بَناها *
وَالاََرض وما طَحاها ) إذ ينقلب معنى الآيتين أقسم بربّ السماء وربّ ما بناها أي ربّبانيها ، وهكذا الحلف بربّ الاَرض وما طحاها ، أي ربّ طاحيها.
إلى هنا تمّ الحلف بهذه الموجودات السماوية والاَرضية والحية وغير الحية.
أخبر سبحانه بأنّه بعد ما خلق النفس وسوّاها واكتملت خلقتها ظاهراً وباطناً ، علّمها سبحانه التقوى والفجور ، وفهم من صحيح الذات ما هو الحسن والقبيح ، وقد تعلّم ذلك في منهج الفطرة ، وقد استعمل كلمة (ألهم) لاَنّه بمعنى إلقاء الشيء في روع الاِنسان من دون أن يعلم الملهم من أين أتى ، والاِنسان يعلم من صميم ذاته الحسن والسيّء من دون أن يتعلّم عند أحد.
وقد أشار سبحانه إلى هذا النوع من الهداية الباطنية في آيات أُخرى ، وقال : ( وَهَدَيْناهُ النَّجْدَين )(1).
ولما حلف بالموجودات السماوية والاَرضية غير الحيّة والحيّة ، وانّه قد ألهم النفس الاِنسانية طرق الصلاح والفلاح ، أو طرق الشر والضلال ، أتى بجواب القسم ، وهو قوله : ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها * وَقَدْ خاب َمَنْ دَسّاها ) ، فجعل (زكاها) مقابل (دساها) فيعلم معنى الثاني من الاَوّل ، فقال : ( وَقَدْ خابَ مَنْ دَسّاها ) .
والتزكية هو التطهير من الآثام ، مقابل التدسيس ، وهي إخفاء الرذائل والذنوب.
انّ قوله : ( دسّاها ) مشتق من التدسيس ، وهو إخفاء الشيء من الشيء ، والتدسيس مصدر دسّس ، وهو من دسس يدسس تدسيساً ، ومعنى الآية فالاِنسان
--------------------
(1) البلد : 10.
الأقسام في القرآن
_ 171 _
هو فاعل التزكية والتدسية ومتوليهما ، والتزكية هي الاِتمام والاِعلاء بالتقوى ، لاَنّ لازم التطهير هو الاِنماء كما أنّ التدسية النقص والاِخفاء بالفجور.
والمقسم عليه : هو قوله : ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها * وَقَدْ خابَ مَنْ دَسّاها ) ، وربّما يتصوّر أنّ جواب القسم محذوف.
قال الزمخشري : إنّ جوابه محذوف تقديره ليدمدمنّ اللّه على أهل مكة لتكذيبهم رسول اللّه كما دمدم على ثمود لاَنّهم قد كذبوا صالحاً.
وأمّا قوله : ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها ) فكلام تابع لقوله : ( فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها ) على سبيل الاستطراد ، وليس من جواب القسم في شيء (1) .
يلاحظ عليه : أنّه لو كان جواب القسم هو ما قدّره ، يفقد الجواب الصلة اللازمة بينه و بين الاَقسام الكثيرة الواردة في سورة الشمس ، ولا مانع من أن يكون قوله : ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها ) جواب القسم ، بأن يكون تابعاً لقوله : ( فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها ).
وعلى ما ذكرنا فالصلة بين الاَمرين واضحة ، وهي أنّه سبحانه يذكر نعمه الهائلة في هذه الآيات التي لو فقد البشر واحداً منها لتوقفت عجلة الحياة عن السير نحو الاَمام ، فمقتضى إفاضة هذه النعم وإنارة الروح بإلهام الفجور والتقوى هو المشي على درب الطاعة ، وتزكية النفس دون الولوج في طريق الفجور وإخفاء الدسائس الشيطانية.
--------------------
(1) الكشاف : 3|342 .
الأقسام في القرآن
_ 172 _
الفصل السابع عشر : القسم في سورة الليل
حلف سبحانه في سورة الليل بأُمور ثلاثة : ( اللَّيل إِذا يَغْشى ) ، ( النَّهار إِذا تَجَلّى ) و ( ما خلق الذكر والاَُنثى ) .
وقال سبحانه : ( وَاللَّيل إِذا يَغْشى * وَالنَّهارِ إِذا تَجَلّى * وَما خَلَقَ الذَّكَر وَالاَُنثى * إنَّ سَعْيَكُمْ لَشتّى )(1) .
تفسير الآيات
1 ـ ( وَاللَّيل إِذا يَغْشى ) أقسم بالليل إذا يغشى النهار ، أو يغشى الاَرض ، ويدل على الاَوّل ، قوله : ( يُغشِي اللَّيلَ النَّهار )(2) بمعنى يأتي بأحدهما بعد الآخر ، فيجعل ظلمة الليل بمنزلة الغشاوة للنهار ويحتمل المعنى الثاني ، كما في قوله في سورة الشمس : ( وَاللَّيل إِذا يَغْشاها ) .
2 ـ ( وَالنَّهار إِذا تَجَلّى ) عطف على الليل ، والتجلّـي ظهور الشيء بعد خفائه ، وقد جاء الفعل في الآية الاَُولى بصيغة المضارع وفي الآية الثانية بصورة الماضي وفقاً لسورة الشمس كما مرّ.
3 ـ ( وَما خَلَقَ الذَّكَر وَالاَُنثى ) و (ما) موصولة كناية عن الخالق البارىَ للذكر
--------------------
(1) الليل : 1 ـ 4 .
(2) الاَعراف : 54 .
الأقسام في القرآن
_ 173 _
والاَُنثى ، سواء أكان من جنس الاِنسان أو من جنس الحيوان ، وتطبيقه في بعض التفاسير على أبينا آدم وزوجه حوّاء من باب التمثيل لا التخصيص.
وأمّا جواب القسم : هو قوله : ( إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتّى ) ، وشتى جمع شتيت ، كمرضى جمع مريض ، و المراد تشتت السعي ، فانّ سعي الاِنسان لمختلف وليس منصبَّاً على اتجاه واحد ، فمن ساع للدنيا ومن ساع للعقبى ، ومن ساع للصلاح والفلاح ، ومن ساع للهلاك والفساد.
ثمّ إنّه سبحانه صنّف المساعي إلى قسمين ، وقال في الآيات التالية بأنّ الناس على صنفين : فصنف يصبُّ سعيه في طريق العطاء والتقى والتصديق بالحسنى ، فيُيسّـر لليسري ، وصنف آخر يصبُّ سعيه على ضدّما ذكر فيبخل ويستغني بما لديه ، ويكذب بالحسنى ، فيُيسر للعسرى.
قال : ( فَأَمّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى * وَصَدَّقَ بِالحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسرى * وَأَمّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى )(1) .
والصلة بين المقسم به والمقسم عليه : واضحة ، وهي أنّه سبحانه أقسم بالمتفرقات خلقاً وأثراً على المساعي المتفرقة في أنفسها وآثارها ، فأين التقوى والتصديق من البخل والتكذيب ؟!
--------------------
(1) الليل : 5 ـ 10.
الأقسام في القرآن
_ 174 _
الفصل الثامن عشر : القسم في سورة الضحى
حلف سبحانه في تلك السورة بأمرين ، أحدهما الضحى ، والآخر : ( اللَّيل إِذا سَجى ) ، وقال : ( وَالضُّحى * وَاللَّيلِ إِذا سَجى * ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى * وللآخِرةُ خَيرٌ لَكَ مِنَ الاَُولى * وَلَسوفَ يُعْطيكَ رَبُّكَ فَتَرضى )(1) .
تفسير الآيات
المراد من الضحى وقت الضحى ، وهو صدر النهار حتى ترتفع الشمس وتلقي شعاعها ، قال سبحانه : ( وَأَنْ يُحْشَرَ النّاسُ ضُحى )(2).
وقوله : ( وَالليلِ إذا سَجى ) أي والليل إذا سكن ، يقال : سجى البحر سجواً ، أي سكنت أمواجه ، ومنه استعير تسجية الميت ، أي تغطيته بالثوب ، والمراد إذا غطى الليلُ وجه الاَرض وعمّت ظلمتُه جميع أنحاء البسيطة ، هذا هو المقسم به.
وأمّا المقسم عليه : فهو ما جاء عقبه ، أي ما تركك يا محمد ربّك وما أبغضك منذ اصطفاك ، ( وللآخِرةُ خَيرٌ لَكَ من الاَُولى ) أي ثواب الآخرة والنعيم الدائم فيها خير لك من الدنيا الفانية ، ( ولَسَوفَ يُعْطيكَ رَبُّكَ فَتَرضى ) أي سوف
يعطيك ربّك في الآخرة ما يرضيك من الشفاعة والحوض وسائر أنواع الكرامة.
وروي أنّ محمد بن علي بن الحنفية ، قال : يا أهل العراق ، تزعمون أنّأرجى آية في كتاب اللّه عزّوجلّ هو قوله تعالى : ( قُلْ يا عِبادِيَ الّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّه )(1) إنّا أهل البيت نقول : أرجى آية في كتاب اللّه ، هو قوله : ( وَلَسَوفَ يُعطيكَ رَبُّكَ فَتَرضى ) وهي واللّه الشفاعة ، ليعطينّها في أهل لاإله إلاّاللّه حتى يقول : ربّي رضيت (2) .
وقد ذكر المفسرون في شأن نزول الآية : انّه احتبس الوحي عنه خمسة عشر يوماً ، فقال المشركون : إنّمحمداً قد ودّعه ربّه وقلاه ، ولو كان أمره من اللّه تعالى لتتابع عليه ، فنزلت هذه السورة.
هذا ما يذكره المفسرون ، ولكن الحقّ انّه لم يكن هناك أيُّ احتباس وتأخير في نزول الوحي ، وذلك لاَنّه جرت سنّة اللّه تعالى على نزول الوحي تدريجاً لغايات معنوية واجتماعية ، وقد أشار الذكر الحكيم إلى حكمة نزوله نجوماً في غير واحدة من الآيات ، قال سبحانه : ( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَولا نُزّلَ عَلَيْهِ الْقُرآن ُجُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُوَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً )(3) .
فالآية تعكس فكرة المشركين حول نزول القرآن وكانوا يتصورون أنّ القرآن كالتوراة ، يجب أن ينزل جملة واحدة لا نجوماً وعلى سبيل التدريج ، فأجاب عنه الوحي ، بأنّ في نزوله التدريجي تثبيتاً لفوَاد النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) ، لتداوم الصلة بين الموحي والموحى إليه بين الحين والحين.
وهذا بخلاف ما لو نزل جملة واحدة وأوصد فيها باب الوحي ، وانقطعت صلة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم) بالسماء ، ففي صورة استدامة الوحي والصلة بينه وبين اللّه سبحانه يعيش النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم) تحت ظل إمدادات غيبية تعقبه إزالة الصدأ العالق على قلبه من خلال مجابهة المشركين والكافرين ، بخلاف الثاني ، ففيه إيماء إلى انقطاع الصلة حينها يجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه وحيداً دون من يعضده ويسلّيه ويذهب عنه همّ القلب.
ففي الحقيقة لم يكن هناك طارئة باسم احتباس الوحي أو تأخيره ، وإن زعم المشركون نزول الوحي نجوماً احتباساً وتأخيراً له.
وأمّا الصلة بين المقسم به والمقسم عليه ، فلا تخلو من وضوح :
1 ـ لاَنّ نزول الوحي يناسب الضحى ، كما أنّ انقطاعه يناسب الليل.
2 ـ لاَنّ عماد الحياة هو مجيىَ الليل عقب النهار ، لا استدامة النهار ولا استدامة الليل ، فهكذا الحال في عماد الحياة النبوية الذي هو نزول الوحي نجوماً تثبيتاً لقلب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
3 ـ ولاَنّ الضحى والليل نعمة من نعم اللّه سبحانه منّ بها على عباده لما لهما من تأثير مباشر في استقرار الحياة وهكذا الحال في نزول الوحي نجوماً.
الأقسام في القرآن
_ 177 _
الفصل التاسع عشر : القسم في سورة التين
حلف سبحانه في سورة التين ، بأُمور أربعة : التين ، الزيتون ، طور سينين ، البلد الاَمين ، قال سبحانه : ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينينَ * وَهذَا الْبَلَدِ الاََمين * لَقَدْ خَلَقْنَا الاِِنْسانَ في أَحْسَنِ تَقْويمٍ * ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلينَ * إِلاّ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحات فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ )(1) .
تفسير الآيات ( التين والزَّيتُون ) فاكهتان معروفتان ، حلف بهما سبحانه لما فيهما من فوائد جمّة وخواص نافعة ، فالتين فاكهة خالصة من شآئب التنغيص ، وفيه أعظم عبرة لاَنّه عزّ اسمه جعلها على مقدار اللقمة ، وهيّأها على تلك الصورة إنعاماً على عِباده بها.
وقد روى أبو ذر الغفاري عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، أنّه قال : ( لو قلت انّ فاكهة نزلت من الجنة ، لقلت : هذه هي ، لاَنّ فاكهة الجنة بلا عَجَمْ (2) فانّها تقطع البواسير ، وتنفع من النقرص ) (3).
وأمّا الزيتون فانّه يعتصر منه الزيت الذي يدور في أكثر الاَطعمة ، وهو إدام ، والتين فاكهة فيها منافع جمّة.
--------------------
(1) التين : 1 ـ 6.
(2) العجم : نوى التمر ، أو كل ما كان في جوف مأكول كالزبيب.
(3) مجمع البيان : 5|510.
الأقسام في القرآن
_ 178 _
ذكر علماء الاَغذية أنّه يمكن الاستفادة من التين كسكر طبيعي للاَطفال ، ويمكن للرياضيين ولمن يعانون ضعف كبر السنّأن ينتفعوا منه للتغذية ، حتى ذكروا أنّ الشخص إن أراد توفير الصحة والسلامة لنفسه فلابد له أن يتناول هذه الفاكهة ، كما أنّ زيت الزيتون هو الآخر له تأثير بالغ في معالجة عوارض الكُلَـى ، حتي وصفها سبحانه بأنّه مأخوذ من شجرة مباركة ، ولا نطيل الكلام في سرد فوائدهما (1).
هذا وربما يفسر التين بالجبل الذي عليه دمشق ، والزيتون بالجبل الذي عليه بيت المقدس.
وهذا التفسير وإن كان بعيداً عن ظاهر الآيات ، ولكن الذي يدعمه هو القسم الثالث والرابع ـ أعني : الحلف بـ ( طور سينين * والبلد الاَمين ) ـ إذ على ذلك يكون بين الاَُمور الاَربعة السالفة الذكر صلة واضحة ، ولعل إطلاق اسم الفاكهتين على الجبلين لكونهما منبتيهما ، والاِقسام بهما ، لاَنّهما مبعثي جمّ غفير من الاَنبياء.
ثمّ إنّ المراد من طور سينين ، هو الجبل الذي كلّم اللّه فيه موسى ( عليه السلام) ، وقال : ( إِنَّي أَنَا رَبّكَ فَاخْلََعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالوادِ المُقدَّسِ طُوى )(2) وقال : ( إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ المُقَدَّسِ طُوى )(3) وقال سبحانه مخاطباً موسى ( عليه السلام) : ( وَلكِنِ انْظُر إِلى الْجَبَل فَإِن اسْتَقَرَ مَكانَهُ فَسَوفَ تَراني فَلَمّا تَجلّـى رَبّه لِلجَبَل جَعَلهُ دَكّاً وخَرّ مُوسى صَعِقاً )(4) .
--------------------
(1) فمن أراد التفصيل فليرجع إلى كتب علماء الاَغذية وما أُلّف في هذا المضمار.
(2) طه : 12 .
(3) النازعات : 16.
(4) الاَعراف : 143 .
الأقسام في القرآن
_ 179 _
البلد الاَمين
وقد ذكر لفظ البلد في دعاء إبراهيم ، حيث قال : ( وَإِذْ قالَ إِبْراهيم رَبِّ اجْعَل هذا بَلَداً آمِناً وَارزُق أَهْلهُ مِنَ الثَّمراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّهِ وَاليَومِ الآخر )(1) وقال أيضاً : ( رَبِّ اجْعَل هذا البلد آمناً وَاجْنُبْني وَبَنيّ أن نَعْبُد الاََصْنام )(2) .
وقد أمر سبحانه نبيّه الخاتم ، أن يقول : ( إِنَّما أُمرت أن أَعبُدَ ربَّ هذه البَلْدة الّذي حرّمها ولَهُ كُلّ شيء وَأُمرت أن أكون من المُسلمين )(3).
وقد جاء ذكر البلد في بعض الآيات كناية ، قال سبحانه : ( انَّ الّذي فَرَضَعَلَيْكَ القُرآن لَرادّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَم مَنْ جاءَبِالهُدى وَمَنْهُوَفي ضَلالٍ مُبين )(4) .
والمراد من قوله ( إلى معاد) هو موطنه الذي نشأ فيه.
وقد روى المفسرون في تفسير الآية انّه لما نزل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالجحفة في مسيره إلى المدينة لما هاجر إليها اشتاق إلى مكة فأتاه جبرئيل ( عليه السلام) ، فقال : أتشتاق إلى بلدك ومولدك ، فقال : نعم ، قال جبرئيل : فإنّ اللّه ، يقول : ( إنَّ الّذي فَرَضَ عَلَيْكَ القُرآن لَرادّكَ إِلى مَعاد ) يعني مكة ظاهراً عليها ، فنزلت الآية بالجحفة ، وليست بمكية ولا مدنية ، وسمّيت مكة معاداً لعوده إليها. عن ابن عباس (5).
كما ذكر أيضاً في آية أُخرى بوصفه وقال : ( أَوَ لَمْ يَرَوا انّا جَعَلْنا حَرماً آمِناً
وَيُتَخَطَّف النّاسُ منْ حَولهِم أَفَبالباطِل يُوَْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللّه يكْفُرون )(1).
وقد وصف سبحانه البلد بالاَمن وأصل الاَمن طمأنينة النفس وزوال الخوف ، وقد جعله وصفاً في بعض الآيات للحرم ، قال سبحانه : ( أَوَ لَمْ نُمَكِّن لَهُمْ حَرماً آمناً يجبى إليهِ ثَمرات كلّ شَيْءٍ رِزْقاً من لَدُنّا وَلكِنّ أَكثَرهم لا يَعْلَمُون )(2)
وفي آية أُخرى يقول : ( أَوَ لَمْ يَرَوا أَنّا جَعَلْنا حَرَماً آمناً وَيُتَخَطَّف النّاسُ من حَولهِمْ أَفَبالباطل يوَمنون وبنعمة اللّه يكفرون )(3) .
والمراد من هذا الاَمن هو الاَمن التشريعي ، بمعنى أنّه سبحانه حرم فيه القتل والحرب حتى قطع الاَشجار والنباتات إلاّ بعض الاَنواع مما تحتاج إليه الناس ، والذي يوضح أنّ المراد من الاَمن هو الاَمن التشريعي لا التكويني قوله سبحانه : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذي بِبَكّة مُباركاً وَهُدىً لِلْعالَمين * فِيه آياتٌ بَيِّنات مَقامُ إِبراهيم وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَللّه عَلى النّاسِ حِجُّ الْبَيْت مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبيلاً وَمَنْ كَفَرَ فإِنَّ اللّه غَنِيٌّ عَن الْعالَمين )(4) .
فالآية الاَُولى تحكي عن تشريع خاص ، وهو أنّ الكعبة أوّل بيت وضعت لعبادة الناس ، ويدل على ذلك أنّ فيه مقام إبراهيم ، كما أنّ الآية الثانية تبيّن تشريعاً آخر ، وهو وجوب حجّ البيت لمن استطاع إليه ، وبين هذين التشريعين جاء قوله : ( وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً ) وهذا دليل على أنّ المراد من الاَمن هو الاَمن التشريعي لا التكويني ، ولذلك كان الطغاة يسلبون الاَمن عن هذا البلد بين آونة وأُخرى.
--------------------
(1) العنكبوت : 67.
(2) القصص : 57.
(3) العنكبوت : 67.
(4) آل عمران : 96 ـ 97.
الأقسام في القرآن
_ 181 _
ويشير إلى الاَمن بقوله سبحانه : ( جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الحَرام قِياماً لِلنّاسِ وَالشَّهْرَ الحَرامَ )(1) وصف البيت بالحرام ، حيث حرّم في مكانه القتال ، وجعل الناس فيه في أمن من حيث دمائهم وأعراضهم وأموالهم.
فهذه الآيات تشير إلى مكانة البلد الذي احتضن البيت الحرام ، ذلك المكان المقدس الذي حاز على أهمية بالغة عند المسلمين على اختلاف نحلهم ، فإليه يوجِّه الناس وجوههم في صلواتهم وفي ذبائحهم وعند احتضار أمواتهم.
وفضلاً عن ذلك فانّه يعد ملتقىً عبادياً وسياسياً لحشود كبيرة من المسلمين ، وما يترتب عليه من نتائج بناءة على صعيد مدِّ جسور الثقة بين كافة النحل الاِسلامية ، وبتبعه حاز البلد على مكانة مقدسة جعلته صالحاً للقسم به.
المقسم عليه
المقسم عليه للاَقسام الاَربعة ـ أعني : التين ، الزيتون ، طور سينين ، البلد الاَمين ـ هو قوله سبحانه : ( لَقَدْ خَلَقْنَا الاِِنْسانَ في أَحْسَنِ تَقْويم * ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلين ) فيقع الكلام في أمرين :
أ : ما هو المراد من خلق الاِنسان في أحسن تقويم ثمّ ردّه إلى أسفل سافلين ؟
ب : ما هي الصلة بين الاَقسام الاَربعة وهاتين الآيتين اللتين هما المقسم عليه للاَقسام الاَربعة.
أمّا الاَوّل فربّما يقال : انّ المراد من خلق الاِنسان في أحسن تقويم هو جودة
--------------------
(1) المائدة : 97.
الأقسام في القرآن
_ 182 _
خلقه واستقامة وجوده من صباه إلى شبابه إلى كماله فيتمتع بكمال الصورة وجمال الهيئة وشدة القوة ، فلم يزل على تلك الحال حتى يواجه بالنزول أي رده إلى الهرم والشيخوخة والكهولة فتأخذ قواه الظاهرة والباطنة بالضعف ، وتنكس خلقته ، قال سبحانه : ( وَمَنْ نُعَمِّرهُ نُنَكِّسْهُ فِي الخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ )(1) لكن هذا التفسير لا يناسبه الاستثناء الوارد بعده قال سبحانه : ( إِلاّ الّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون ) أي غير مقطوع.
فلو كان المراد من الآية ما جرت عليه سنّة اللّه تعالى في خلق الاِنسان فهي سنّة عامة تعم الموَمن والكافر والصالح والطالح ، مع أنّه يستثني الموَمن الصالح من تلك الضابطة.
فالاَولى تفسير الآيتين بالتقويم المعنوي ، وردّه إلى أسفل سافلين هو انحطاطه إلى الشقاء والخسران بأن يقال : انّ التقويم جعل الشيء ذا قوام ، وقوام الشيء ما يقوم به ويثبت ، فالاِنسان بما هو إنسان صالح حسب الخلقة للعروج إلى الرفيق الاَعلى ، والفوز بحياة خالدة عند ربه سعيدة لا شقوة فيها ، قال سبحانه : ( وَنَفْسٍ وَما سَوّاها * فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها )(2) فإذا آمن بما علم ومارس صالح الاَعمال رفعه اللّه إليه ، كما قال : ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ )(3) يس ، وقال عزّ اسمه : ( يَرفَعِ اللّهُ الّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجات )(4) ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ارتفاع مقام الاِنسان وارتقائه بالاِيمان والعمل الصالح مقاماً عالياً ذا عطاء من اللّه غير مجذوذ ، وقد أشار في آخر
--------------------
(1) يس : 68.
(2) الشمس : 7 ـ 8.
(3) فاطر : 10.
(4) المجادلة : 11 .
الأقسام في القرآن
_ 183 _
هذه السورة إلى العطاء الدائم ، بقوله : ( فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيرُ مَمْنُون ) .
وعلى ذلك يكون المراد من أسفل سافلين هو تردّي الاِنسان إلى الشقوة والخسران (1).
وأمّا وجه الصلة فلو قلنا بأنّ المراد من التين الجبل الذي عليه دمشق ، وبالزيتون الجبل الذي عليه بيت المقدس وهما مبعثا جمّ غفير من الاَنبياء ، فالصلة واضحة ، لاَنّهذه الاَراضي أراضي الوحي والنبوة فقد أوحى اللّه سبحانه إلى أنبيائه في هذه الاَمكنة ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ويهديهم إلى أحسن تقويم ، ويصدهم عن التردي إلى أسفل سافلين.
وبعبارة أُخرى : إنّ هذه الاَماكن مبعث الاَنبياء ومهبط الوحي ، فهوَلاء بفضل الوحي يهدون المجتمع الاِنساني إلى الرقي والسعادة التي يعبر عنها القرآن بأحسن تقويم ،ويحذرونه من الانحطاط والسقوط في الهاوية التي يعبر عنها سبحانه بـ ( أَسْفَلَ سافِلين ) .
إنّما الكلام فيما إذا كان المراد من التين والزيتون ، الفاكهتان المعروفتان اللتين أقسم اللّه بهما لما فيهما من الفوائد الجمّة والخواص النافعة ، فعندئذٍ لا تخلو الصلة من غموض ، فليتدبر.
ولا يخفى انّ كلّ المخلوقات ، من حيوان ونبات توحي بالجلال و الاحترام لها وبالجمال وكمال الخلق ، وهي تبدو مبرمجة أو مخلوقة هكذا لا تحيد عن ذلك ، فهل رأيت طيراً لا يبني عشه أو لا يُطعمُ فراخه ؟ أم رأيت حيواناً لم يهبه اللّه الذكاء والمقدرة على تحصيل رزقه ، أو الدفاع عن نفسه ؟ حقاً انّهذه المخلوقات لا تعرف الهزل ، فهي جدّيّة ولكن في وداعة ، غريبة ولكن في جمال ، وبسيطة
--------------------
(1) الميزان : 20|319 ـ 320.
الأقسام في القرآن
_ 184 _
ولكن في جلال آسر ، إن كلاً منها تسير على الطريق التي اختطها الخالق لها طائعة ملبّية ، وهي تسبّح بحمد ربّـها كلّها ، إنّها لا تعرف الكذب أو المصانعة ، بل هي متّسقة مع نفسها ومع ما حولها ، بل و مع الكون جميعاً ، في تناغم عجيب وجمال بديع.
فتعالى اللّه الظاهر بعجائب تدبيره للناظرين والباطن بجلال عزّته عن فكرة المتوهمين (1) .
--------------------
(1) أسرار الكون في القرآن : 283 .