الفصل التاسع : القسم في سورة النازعات
  حلف سبحانه بأوصاف الملائكة خمس مرات ، وقال :
  ( وَالنّازِعـاتِ غَرْقــاً ) .
  ( وَالنّاشِطاتِ نَشْـطاً ) .
  ( وَالسّابِحاتِ سَبْحـاً ) .
  ( فَالسّابِقـاتِ سَبْقــاً ) .
  ( فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً * يَوْمَ تَرْجُفُ الرِّاجِفَةُ * تَتْبَعُها الرّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَومَئذٍ واجِفَةٌ * أَبْصارُها خاشِعَةٌ ) (1) .
  حلف سبحانه في هذه السورة بطوائف وصفها بـ : النازعات ، الناشطات ، السابحات ، السابقات ، المدبرات.
  النازعات من النزع ، يقال : نزع الشيء جذبه من مقره ، كنزع القوس عن كنانته.
  والناشطات من النشط وهو النزع أيضاً ، ومنه حديث أُمّ سلمة فجاء عمار وكان أخاها من الرضاعة ونشط زينب من حجرها ، أي نزعها ، ونشط الوحش من بلد إلى بلد إذاخرج.

--------------------
(1) النازعات : 1 ـ 9.

الأقسام في القرآن _ 132 _

  والسابحات من السبح السريع في الماء وفي الهواء ، ويقال : سبح سبحاً وسباحة ، واستعير لمرّ النجوم في الفلك ولجري الفرس.
  والسابقات من السبق والمدبرات من التدبير.
  وأمّا الغرق اسم أُقيم مقام المصدر ، وهو الاِغراق ، يقال : غرق في النزع إذا استوفى في حدّ القوس وبالغ فيه.
  هذه هي معاني الاَلفاظ ، وأمّا مصاديقها فيحتمل أن تكون هي الملائكة ، فهي على طوائف بين نازع وناشط وسابح وسابق ومدبر ، قال الزمخشري : أقسم سبحانه بطوائف الملائكة التي تنزع الاَرواح من الاَجساد ، وبالطوائف التي تنشطها أي تخرجها ، وبالطوائف التي تسبح في مضيها ، أي تسرع فتسبق إلى ما أمروا به فتدبر أمراً من أُمور العباد مما يصلحهم في دينهم أو دنياهم (1) .
  والمقسم عليه محذوف وهو لتبعثنّ يدل عليه ما بعده من ذكر القيامة.
  ولا يخفى انّالطائفة الثانية على هذا التفسير نفس الطائفة الاَُولى ، فالملائكة الذين ينزعون الاَرواح من الاَجساد هم الذين ينشطون الاَرواح ويخرجونها ، ولكن يمكن التفريق بينهما ، بأنّ الطائفة الاَُولى هم الموكّلون على نزع أرواح الكفار من أجسادهم بقسوة وشدة بقرينة قوله غرقاً ، وقد عرفت معناه ، وأمّا الناشطات هم الموكلون بنزع أرواح الموَمنين برفق وسهولة.
  والسابحات هم الملائكة التي تقبض الاَرواح فتسرع بروح الموَمن إلى الجنة ، وبروح الكافر إلى النار ، والسبح الاِسراع في الحركة ، كما يقال : للفرس سابح إذا أسرع في جريه.

-------------------
(1) الكشاف : 3|308.

الأقسام في القرآن _ 133 _
  والسابقات وهم ملائكة الموت تسبق بروح الموَمن إلى الجنة وبروح الكافر إلى النار.
  فالمدبرات أمراً المراد مطلق الملائكة المدبرين للاَُمور ، ويمكن أن يكون قسم من الملائكة لكلّ وظيفة يقوم بها ، فعزرائيل موكل بقبض الاَرواح وغيره موكل بشيء من التدبير.
  ثمّ إنّ الاَشد ، انطباقاً على الملائكة ، هو قوله : ( فالمدبرات أمراً ) ، وهو قرينة على أنّ المراد من الاَخيرين هم الملائكة ، وبذلك يعلم أنّ سائر الاحتمالات التي تعجّ بها التفاسير لا يلائم السياق ، فحفظ وحدة السياق يدفعنا إلى القول بأنّهم الملائكة.
  وبذلك يتضح ضعف التفسير التالي : المراد بالنازعات الملائكة القابضين لاَرواح الكفّار ، وبالناشطات الوحش ، وبالسابحات السفن ، وبالسابقات المنايا تسبق الآمال ، وبالمدبرات الاَفلاك ، ولا يخفى انّه لا صلة بين هذه المعاني وما وقع جواباً للقسم وما جاء بعده من الآيات التي تذكر يوم البعث وتحتج على وقوعه.
  والآيات شديدة الشبه سياقاً بما مرّ في مفتتح سورة الصافات والمرسلات ، والظاهر انّ المراد بالجميع هم الملائكة.
  يقول العلاّمة الطباطبائي : وإذ كان قوله : ( فالمدبرات أمراً ) مفتتحاً بفاء التفريع الدالة على تفرع صفة التدبير على صفة السبق ، وكذا قوله : ( فَالسّابِقاتِ سَبْقاً ) مقروناً بفاء التفريع الدالة على تفرع السبق على السبح ، دلّ ذلك على مجانسة المعاني المرادة بالآيات الثلاث : ( وَالسّابِحاتِ سَبحاً * فَالسّابِقاتِ سَبْقاً *

الأقسام في القرآن _ 134 _
  فَالمُدبِّراتِ أَمْراً ) فمدلولها أنّهم يدبرون الاَمر بعدما سبقوا إليه ويسبقون إليه بعد ما سبحوا أي أسرعوا إليه عند النزول ، فالمراد بالسابحات والسابقات هم المدبرات من الملائكة باعتبار نزولهم إلى ما أمروا بتدبيره (1) .

تدبير الملائكة
  إنّ القرآن الكريم يعرّف اللّه سبحانه هو المدبر والتوحيد في التدبير من مراتبه فله الخلق والتدبير ، ولكن هذا لا ينافي أن يكون بينه سبحانه وبين عالم الخلق وسائط في التدبير يدبرون الاَُمور بإرادته ومشيئته ، ويوَدّون علل الحوادث وأسبابها في عالم الشهود ، والآيات الواردة حول تدبير الملائكة كثيرة تدل على أنّهم يقومون بقبض الاَرواح وإجراء السوَال ، وإماتة الكل بنفخ الصور وإحيائهم بذلك ووضع الموازين والحساب والسوق إلى الجنّة والنار.
  كما أنّهم وسائط في عالم التشريع حيث ينزلون مع الوحي ويدفعون الشياطين عن المداخلة فيه وتسديد النبي وتأييد الموَمنين.
  وبالجملة هم ( عِبادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالقَول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُون ) (2)
  فاللّه سبحانه يجري سننه ومشيئته بأيديهم ، فيقبض الاَرواح بواسطتهم ، وينزل الوحي بتوسيطهم ، وليس لواحد منهم في عملهم أي استقلال واستبداد ، وفي الحقيقة جنوده سبحانه يقتفون أمره (3) .
  قال أمير الموَمنين (عليه السلام) في حقّ الملائكة : فمنهم سجود لا

--------------------
(1) الميزان : 20|181 .
(2) الاَنبياء : 26 ـ 27.
(3) الميزان : 20|188 ، نقل بتلخيص.

الأقسام في القرآن _ 135 _
  يركعون ، وركوع لا ينتصبون ، وصافُّون لا يتزايلون ، ومسبِّحون لا يسأمون ، لا يغشاهم نومُ العين ، ولا سهو العقول ، ولا فترة الاَبدان ، ولا غفلة النِّسيان ، ومنهم أُمناءُ على وحيه ، وألسنة إلى رُسُله ، ومختلفون بقضائه وأمره ، ومنهم الحفظةُلعباده والسَّدنَة لاَبواب جنانه ، ومنهم الثابتة في الاَرضين السُّفلى أقدامُهُم ، والمارقةُ من السماء العليا أعناقُهُم ، والخارجة من الاَقطار أركانُهم ، والمناسبة لقوائم العرش اكتافهم. ناكسة دونه أبصارهم ، متلفِّعون تحته بأجنحتهم ، مضروبة بينهم و بين من دونهم حُجُب العزَّة وأستار القدرة ، لا يتوهَّمون ربَّهم بالتَّصوير ، ولا يجرون عليه صفات المصنوعين ، ولا يحدُّونه بالاَماكن ، ولا يُشيرون إليه بالنَّظائر (1) .
  وقد عرفت أنّ المقسم عليه هو كتبعثن ، وأمّا الصلة بين المقسم به والمقسم عليه ، هو ما قدمناه في الفصل السابق وهي انّ الملائكة هم وسائط التدبير وخلق العالم وتدبيره لم يكن سدى ولا عبثاً بل لغاية خاصة وهو عبارة عن بعث الناس ومحاسبتهم وجزائهم بما عملوا.

--------------------
(1) نهج البلاغة : 19 ـ 20 ، الخطبة الاَُولى.

الأقسام في القرآن _ 136 _
الفصل العاشر : القسم في سورة التكوير
  قد حلف سبحانه في سورة التكوير بالكواكب بحالاتها الثلاث ، مضافاً إلى الليل المدبر ، والصبح المتنفس ، وقال : ( فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوارِ الكُنَّسِ * وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ * إِنَّهُ لَقَولُ رَسُولٍ كَريمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي العَرْشِ مَكِينٍ * مطاعٍ ثَمَّ أَمِين ) (1) .

تفسير الآيات
  أشار سبحانه إلى الحلف الاَوّل ، أي الحلف بالكواكب بحالاتها الثلاث بقوله : الخُنَّس ، الجوار ، الكنس.
  كما أشار إلى الحلف بالليل إذا أدبر ، بقوله : ( وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَس ) .
  وإلى الثالث أي الصبح المتنفس بقوله : ( والصُّبْحِ إِذا تَنَفَّس ) .
  وجاء جواب القسم في قوله : ( إِنَّهُ لَقَولُ رَسُولٍ كَريم ) فوصف الرسول بصفات خمس : كريم ، ذي قوة ، عند ذي العرش مكين ، مطاع ، ثم أمين.
  فلنرجع إلى إيضاح الاَقسام الثلاثة ثمّ نعرج إلى بيان الرابطة بين المقسم به

--------------------
(1) التكوير : 15 ـ 21 .

الأقسام في القرآن _ 137 _
  والمقسم عليه.
  أمّا الحلف الاَوّل فهو رهن تفسير الاَلفاظ الثلاثة.
  فقد ذكر سبحانه أوصافاً ثلاثة :
  الاَوّل : الخنس : وهو جمع خانس كالطُلَّب جمع طالب ، فقد فسره الراغب في مفراداته بالمنقبض ، قال سبحانه : ( مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الخَنّاس ) أي الشيطان الذي يخنس ، أي ينقبض إذا ذكر اللّه تعالى.
  وقال تعالى : ( فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّس ) أي بالكواكب التي تخنس بالنهار.
  وقيل : الخنس من زحل والمشتري والمريخ ، لاَنّها تخنس في مجراها أي ترجع ، واخنست عنه حقه أي أخرته (1) .
  فاللفظ هنا بمعنى الانقباض أو التأخر ، ولعلهما يرجعان إلى معنى واحد ، فانّ لازم التأخر هو الانقباض.
  الثاني : الجوار : جمع جارية ، والجري السير السريع مستعار من جري الماء.
  قال الراغب : الجري ، المرّ السريع ، وأصله كمرِّ الماء.
  قال سبحانه : ( وَمِنْ آياتِهِ الجوارِ فِي البَحْرِ كَالاََعلام ) (2) أي السفينة التي تجري في البحر.
  الثالث : الكنس : جمع كانس والكنوس دخول الوحش كالظبي والطير كناسه أي بيته الذي اتخذه لنفسه واستقراره فيه ، وهو كناية عن الاختفاء فالمقسم به في الواقع هي الجواري بما لها من الوصفين : الخنوس

--------------------
(1) مفردات الراغب : مادة خنس.
(2) الشورى : 32 .

الأقسام في القرآن _ 138 _
  والكنوس ، وكأنّه قال : فلا أقسم بالجوار الخنس والكنس ، فقد ذهب أكثر المفسرين أنّ المراد من الجواري التي لها هذان الوصفان هي الكواكب الخمسة السيارة التي في منظومتنا الشمسية ، والتي يمكن روَيتها بالعين المجردة ، وهي عطارد ، الزهرة ، المريخ ، المشتري ، زحل و يطلق عليها السيارات المتغيرة.
  وتسمية هذه الخمسة بالسيارات والبواقي بالثابتات لا يعني نفي الجري والحركة عن غيرها ، إذ لاشك انّ الكواكب جميعها متحركات ، ولكن الفواصل والثوابت بين النجوم لو كانت ثابتة غير متغيرة فتطلق عليها الثابتات ، ولو كانت متغيرة فتطلق عليها السيارات ، فهذه السيارات الخمسة تتغير فواصلها عن سائر الكواكب.
  إذا عرفت ذلك : فهذه الجواري الخمس لها خنوس وكنوس ، وقد فسرا بأحد وجهين :
  الاَوّل : أنّها تختفي بالنهار ، وهو المراد من الخنّس ، وتظهر بالليل وهو المراد من الكنّس.
  يلاحظ عليه : أنّ تفسير خنس بالاختفاء لا يناسب معناها اللغوي ، أعني : الانقباض والتأخر إلاّ أن يكون كناية عن الاختفاء.
  كما أنّ تفسير الكنس بالظهور خلاف ما عليه أهل اللغة في تفسيره بالاختفاء ، وما ربما يقال : من أنّـها تظهر في أفلاكها كما تظهر الظبـاء في كنسها (1) لا يخلو من إشكال ، فأنّ الظباء لا تظهر في كنسها بل تختفي فيها.
  ولو سلمنا ذلك فالاَولى أن يفسر الجواري بمطلق الكواكب لا الخمسة المتغيرة .

--------------------
(1) تفسير المراغي : 30|57.

الأقسام في القرآن _ 139 _
  الثاني : أن يقال : انّ خنوسها وانقباضها كناية عن قرب فواصلها ثمّ هي تجري وتستمر في مجاريها ، وكنوسهاعبارة عن قربها و تراجعها قال في اللسان : وكنست النجوم كنساً ، كنوساً : استمرت من مجاريها ثم انصرفت راجعة (1) .
  وعلى ذلك فاللّه سبحانه يحلف بهذه الاَنجم الخمسة بحالاتها الثلاث المترتبة في الليل ، وهي انّها على أحوال ثلاثة.
  منقبضات حينما تقرب فواصلها ثمّ إنّها بالجري يبتعد بعضها عن بعض ، ثمّ ترجع بالتدريج إلى حالتها الاَُولى فهي بين الانقباض والابتعاد بالجري ثمّ الرجوع إلى حالتها الاَُولى.
  ( واللّيل إِذا عَسْعَس ) : وقد فسر عسعس بإدبار الليل وإقباله ، فإقبالها في أوّله وإدبارها في آخره.
  والظاهر انّ المراد هو إقبالها.
  قال الزجاج : عسعس الليل إذا أقبل وعسعس إذا أدبر ، ولعل المراد هو الثاني بقرينة الحلف الثالث أعني ( وَالصُّبح إِذا تَنَفَّس ) ، والمراد من تنفس الصبح هو انبساط ضوئه على الاَُفق ودفعه الظلمة التي غشيته ، وكأنّ الصبح موجود حيوي يغشاه السواد عند قبض النفس ويعلوه الضوء والانبساط عند التنفس قال الشاعر :

حـتى إذا الـصبح لـها iiتنفسا      وانجاب عنها ليلها وعسعسا
  هذا كلّه حول المقسم به ، وأمّا المقسم عليه فهو قوله : ( إِنَّهُ لَقَولُ رَسُولٍ

--------------------
(1) لسان العرب : مادة كنس.

الأقسام في القرآن _ 140 _
  كَريم ) .
  الضمير في قوله : ( إِنَّهُ لَقَولُ رَسُولٍ كَريم ) يرجع إلى القرآن بدليل قوله : ( لقولُ رَسُولٍ ) والمراد من رسول هو جبرئيل وكون القرآن قوله لا ينافي كونه قول اللّه إذ يكفي في النسبة أدنى مناسبة وهي انّه أنزله على قلب سيد المرسلين.
  قال سبحانه : ( قُلْ مَنْ كانَ عَدُوّاً لِجِبْريلَ فَإنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّه ) (1) وقال : ( نَزلَ بِهِ الرُّوحُ الاََمينُ * عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِين ) (2).
  ثمّ إنّه سبحانه وصفه بصفات ست :
  1 ـ رسول : يدل على وساطته في نزول الوحي إلى النبي.
  2 ـ كريم : عزيز بإعزاز اللّه.
  3 ـ ذي قوة : ذي قدرة وشدة بالغة ، كما قال سبحانه : ( عَلَّمَهُ شَديدُ القُوى * ذُو مِرّةٍ فَاسْتَوى ) (3).
  4 ـ ( عِنْدَ ذِي الْعَرش مَكين ) : أي صاحب مكانة ومنزلة عند اللّه ، وهي كونه مقرباً عند اللّه.
  5 ـ مطاع :عند الملائكة فله أعوان يأمرهم وينهاهم.
  6 ـ أمين : لا يخون بما أمر بتبليغه ما تحمّل من الوحي.
  وعطف على جواب القسم قوله : ( وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُون ) (4) والمراد هو

--------------------
(1) البقرة : 97.
(2) الشعراء : 193 ـ 194 .
(3) النجم : 5 ـ 6 .
(4) التكوير : 22 ـ

الأقسام في القرآن _ 141 _
  نبيّنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وكأنّ صاحبه حلف بما حلف ، للتأكيد على أمرين :
  أ : القرآن نزل به جبرئيل.
  ب : انّ محمّداً ليس بمجنون.
  ثمّ إنّ الصلة بين المقسم به والمقسم عليه : هو انّالقرآن ـ المقسم عليه ـ حاله كحال هذه الكواكب الثوابت لديكم ، فكما أنّ لهذه الكواكب ، انقباض وجري ، وتراجع ، فهكذا حال الناس مع هذا القرآن فهم بين منقبض من سماع القرآن ، وجار وسار مع هداه ، ومدبر عن هديه إلى العصر الجاهلي.
  ثمّ إنّ القرآن أمام المستعدّين للهداية كالصبح في إسفاره ، فهو لهم نور وهداية ، كما أنّ للمدبرين عنه ، كالليل المظلم ، وهو عليهم عمى ، واللّه العالم.
  ثمّ إنّ في اتهام أمين الوحي بالخيانة ، والنبي الاَعظم بالجنون ، دلالة واضحة على بلوغ القوم القسوة والشقاء حتى سوّغت لهم أنفسهم هذا العمل ، فزين لهم الشيطان أعمالهم.
  وأخيراً نود الاِشارة إلى كلمة قيمة لاَحد علماء الفلك تكشف من خلالها عظمة تلك الكواكب والنجوم ، حيث يقول : لا يستطيع المرء أن يرفع بصره نحو السماوات العلى إلاّويغضي إجلالاً ووقاراً ، إذ يرى ملايين من النجوم الزاهرة الساطعة ، ويراقب سيرها في أفلاكها وتنقلها في أبراجها ، وكلّنجم و أي كوكب ، وكل سديم وأي سيار ، إنّما هو دنياً قائمة بذاتها ، أكبر من الاَرض وما فيها وما عليها وما حولها (1) .

--------------------
(1) اللّه والعلم الحديث : 25.

الأقسام في القرآن _ 142 _
الفصل الحادي عشر : القسم في سورة الانشقاق
  حلف سبحانه تبارك و تعالى بأُمور أربعة : الشفق ، والليل ، وما وسق ، و القمر ، فقال : ( فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيلِ وَما وَسَقَ * وَالقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ * فَما لَهُمْ لا يُوَْمِنُونَ * وَإِذا قُرِىََ عَلَيْهِمُ الْقُرآنَ لا يَسْجُدُون ) (1) .

تفسير الآيات
  الشفق : هو الحمرة بين المغرب والعشاء الآخرة ، والمراد منه في الآية الحمرة التي تبقى عند المغرب في الاَُفق ، وقيل : البياض فيه.
  والوسق : جمع المتفرق ، يقال : وسقت الشيء إذا جمعته ، ويسمي القدر المعلوم من الحمل كحمل البعير وسقاً ، فيكون المعنى والليل و ما جمع وضمّ ممّا كان منتشراً بالنهار ، وذلك انّ الليل إذا أقبل آوى كلّ شيء إلى مأواه ، وربما يقال : بمعنى (ما ساق) لاَنّ ظلمة الليل تسوق كلّ شيء إلى مسكنه.
  واتسق : من الاتساق بمعنى الاجتماع والتكامل فيكون المراد امتلاء القمر.
  والطبق : الحال ، والمراد لتركبنّ حالاً بعد حال ، ومنزلاً بعد منزل ، وأمراً بعد أمر.

--------------------
(1) الانشقاق : 16 ـ 21 .

الأقسام في القرآن _ 143 _
  وحاصل معنى الآيات : لا أُقسم بالشفق ، وقد ذكرنا حديث (لا ) و انّ معنى الجملة هو الحلف ومعناه أقسم بالحمرة التي تظهر في الاَُفق الغربي عند بداية الليل وما يظهر بعد الحمرة من بياض والمعروف في الشفق في لسان الاَُدباء هو الحمرة ولذلك يشبهون دماء الشهداء بالشفق غير انّه ربما يستعمل في البياض الطارىَ على الحمرة الذي هو آية ضعف الشفق ونهايته.
  وأقسم بالليل لما فيه من آثار و أسرار عظيمة ، فلولا الليل لما كان هناك حياة كالضياء ، فكلّ من الليل والنهار دعامتا الحياة ، قال سبحانه : ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جعلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمداً إِلى يَوْمِ القِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُون * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرمداً إِلى يَومِ القِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيرُ اللّهِ يَأتِيكُمْ بِلَيلٍ تَسْكُنُون فيهِ أَفَلا تبصِرُون ) (1) .
  ثمّ إنّه سبحانه أشار إلى ما يترتب على الليل والنهار من البركات ، فقال : ( وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون ) (2) ، فخلق النهار لطلب الرزق والمعاش ، كم البدن بالنوم فيه والسكن إليه وسيوافيك التفصيل في الفصول القادمة إن شاء اللّه.
  وأقسم بما وسق ، أي بما جمع الليل ، ولعلّه إشارة إلى عودة الاِنسان والحيوانات والطيور إلى أوكارها عند حلول الليل ، فيكون الليل سكناً عاماً للكائنات الحيّة.

--------------------
(1) القصص : 71 ـ 72 .
(2) القصص : 73 ـ

الأقسام في القرآن _ 144 _
  حلف بالقمر عند اتساقه واكتماله في الليالي الاَربع لما فيه من روعة وجمال ، ولذلك يُشبَّه الجميل بالقمر ، مضافاً إلى نوره الهادىَ الرقيق الذي يغطّي سطح الاَرض.
  وهو من الرقة واللطافة بمكان لا يكسر ظلمة الليل وفي الوقت نفسه ينير الطرق و الصحاري.
  فهذه أقسام أربعة بينها ترتب خاص ، فانّالشفق أوّل الليل يطلع بعده القمر في حالة البدر ، فهذه الموضوعات الاَربع أُمور كونية يقع كلّ بعد الآخر حاكية عن عظمة الخالق.
  وأمّا المقسم عليه فهو قوله سبحانه : ( لَتَرْكَبُنَّ طَبقاً عَنْ طَبَق ) وهي إشارة إلى المراحل التي يمرّ بها الاِنسان في حياته وأوضحها هي الحياة الدنيوية ثمّ الموت ثمّالحياة البرزخية ثمّ الانتقال إلى الآخرة ثمّ الحياة الاَُخروية ثمّ الحساب والجزاء.
  وفي هذه الآية إلماع إلى ما تقدّم في الآية السادسة من هذه السورة ، أعني قوله سبحانه : ( يا أَيُّهَا الاِِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ) (1) .
  والكدح بمعنى السعي والعناء يتضمن معنى السير.
  فالآية تشير إلى أنّ الحياة البشرية تتزامن مع التعب والعناء ، ولكن الغاية منها هو لقاء اللّه سبحانه ، وكأنّ هذا الكدح باق إلى حصول الغاية ، أي لقاء جزائه من ثواب وعقاب أو لقاء اللّه بالشهود.
  وأمّا وجه الصلة وهو بيان انّ الاَشواط التي يمرّ بها الاِنسان أُمور مترتبة متعاقبة كما هو الحال في المقسم به أعني الشفق الذي يعقبه الليل الدامس ويليه ظهور القمر.

--------------------
(1) الانشقاق : 6.

الأقسام في القرآن _ 145 _
  توضيحه : انّ القرآن يحدّث عن أُمور متتابعة الوقوع وبذات تسلسل خاص فعندما تغيب الشمس يظهر الشفق معلناً عن بداية حلول الليل الذي تتجه الكائنات الحية إلى بيوتها وأوكارها ثمّ يخرج القمر بدراً تاماً ، فإذا كان المقسم به ذات أُمور متسلسلة يأتي كلّ بعد الآخر فالطبقات التي يركبها الاِنسان مثل المقسم به مترتبة متتالية فيبدأ بالدنيا ثمّ إلى عالم البرزخ ومنه إلى يوم القيامة ومنه إلى يوم الحساب.
  وبذلك يعلم وجه استعجابه سبحانه عن عدم إيمانهم ، حيث قال : ( فَما لَهُمْ لا يُوَْمِنُون ) فانّ هذا النظام الرائع في الكون وحياة الاِنسان من صباه إلى شبابه ومن ثمّ إلى هرمه لدليل واضح على أنّ عالم الخلقة يدبر تحت نظر خالق مدبر عارف بخصوصيات الكون.
  يقول أحد علماء الطبيعة في هذا الصدد : إنّ جميع ما في الكون يشهد على وجود اللّه سبحانه ويدل على قدرته وعظمته ، وعندما نقوم ـ نحن العلماء ـ بتحليل ظواهر هذا الكون ودراستها ، حتى باستخدام الطريقة الاستدلالية ، فانّنا لا نفعل أكثر من ملاحظة آثار أيادي اللّه وعظمته ، ذلك هو اللّه الذي لا نستطيع أن نصل إليه بالوسائل العلمية المادية وحدها ، ولكننا نرى آياته في أنفسنا وفي كلّذرة من ذرات هذا الوجود (1) .

--------------------
(1) اللّه يتجلى في عصر العلم : 26.

الأقسام في القرآن _ 146 _
الفصل الثاني عشر : القسم في سورة البروج
  حلف سبحانه في سورة البروج بأُمور أربعة :
  أ : ( السَّماءُذات البُرُوج ) : المنازل.
  ب : ( اليَوم المَوعُود ) : القيامة.
  ج : شاهد
  د : مشهود.
  قال سبحانه : ( وَالسَّماءِ ذاتِ البُروجِ * وَاليَومِ المَوعُودِ * وشاهدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصحابُ الاَُخدُودِ * النارِ ذاتِ الوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ * وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمْوَمِنينَ شُهُودٌ * وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاّأَنْ يُوَْمِنُوا بِاللّهِ العَزيزِ الحَمِيد ) (1) .
  فأقسم سبحانه بالعالم العلوي وهو السماء وما فيها من المنازل التي هي أعظم الاَمكنة وأوسعها ثمّ أقسم بأعظم الاَيّام وأجلّها الذي هو مظهر ملكه وأمره ونهيه وثوابه وعقابه ، ومجمع أوليائه وأعدائه والحكم بينهم بعلمه وعدل.
  ثم أقسم بكلّ شاهد ومشهود ـ إذا كان اللام للجنس ـ فيكون المراد كلّ مدرِك ومدرَك وراع ومرعي ، والمصداق البارز له هو النبيالذي سمّي شاهداً كما سيوافيك ، كما أنّ المصداق البارز للمشهود هو يوم القيامة ، فلنرجع إلى تفسير الآيات.

--------------------
(1) البروج : 1 ـ 8.

الأقسام في القرآن _ 147 _
تفسير الآيات
  أمّا السماء : فكلّ شيء علاك فهو سماء ، قال الشاعر في وصف فرسه :
واحمر كالديباج أمّا سماوَه      فـريّـاً وأمّــا أرضــه فـمحول
  وقال بعضهم كلّ سماء بالاِضافة إلى ما دونها فسماء ، وبالاِضافة إلى ما فوقها فأرض وسمي المطر سماءً لخروجه منها.
  وأمّا البروج واحدها برج ويطلق على الاَمر الظاهر وغلب استعماله في القصر العالي لظهوره على الناظرين ، ويسمّى البناء المعمول على سور البلد للدفاع برجاً ، والمراد هنا مواضع الكواكب من السماء.
  وربما يفسر بالمنازل الاثنى عشر للقمر ، لاَنّ القمر يصير في كلّبرج يومين وثلث يوم ، وذلك ثمانية وعشرون يوماً ، ثمّ يستتر ليلتين ثمّ يظهر.
  وربما يفسر بمنازل الشمس في الشمال والجنوب ، ولكن الاَولى ما ذكرناه منازل النجوم على وجه الاِطلاق.
  واليوم الموعود عطف على السماء وهو يوم القيامة الذي وعد اللّه سبحانه أن يجمع فيه الناس ويوم الفصل والجزاء الذي وعد اللّه به على ألسنة رسله وفيه يتفرد ربّنا بالملك والحكم.
  وقد وعد اللّه سبحانه به في القرآن الكريم غير مرّة وقال : ( وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقين ) (1) .

--------------------
(1) يونس : 48.

الأقسام في القرآن _ 148 _
  وقال : ( أَلا إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَلكِنّ أَكْثَرهُمْ لا يََعْلَمُون ) (1) .
  وقال تعالى : ( وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ ) (2) .
  إلى غير ذلك من الآيات التي سمّى اللّه سبحانه فيها ذلك اليوم بوعد اللّه.
  وشاهد ومشهود ، اللفظان معطوفان على السماء والجميع قسم بعد قسم ، وأمّا ما هو المقصود ؟ فالظاهر انّ الشاهد هو من عاين الاَشياء وحضرها ، وأوضحه مصداقاً هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لاَنّه سبحانه وصفه بكونه شاهداً ، قال : ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَداعِياً إِلى اللّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنيراً ) (3) .
  نعم تفسيره بالنبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) من باب الجري والتطبيق على أفضل المصاديق وإلاّ فله معنى أوسع ، يقول سبحانه : ( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرى اللّه عَمَلكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُوَْمِنونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيبِ وَالشَّهادةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُون ) (4) فقد عدّ الموَمنين شهوداً على الاَعمال ، فإنّ الغاية من الروَية هو الشهود.
  وتدل الآيات على أنّ نبي كلّ أُمّة شاهد على أُمّته ، قال سبحانه : ( وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الكِتابِ إِلاّ ليُوَْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَومَ القِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) (5) .
  وأمّا المشهود فالمراد منه يوم القيامة ، لاَنّه من صفات يومها ، قال سبحانه :

--------------------
(1) يونس : 55.
(2) الكهف : 21 .
(3) الاَحزاب : 45.
(4) التوبة : 105.
(5) النساء : 159.

الأقسام في القرآن _ 149 _
  ( ذلِكَ يَومٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النّاسُ وَذلِكَ يَومٌ مَشْهُود ) (1) والمراد به ( ذلك يوم مجموع له الناس ) أي يجمع فيه الناس كلّهم الاَوّلون والآخرون منهم للجزاء والحساب والهاء في له راجعة إلى اليوم ( وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُود ) أي يشهده الخلائق كلّهم من الجن والاِنس وأهل السماء وأهل الاَرض أي يحضره ولا يوصف بهذه الصفة يوم سواه وفي هذا دلالة على إثبات المعاد وحشر الخلق (2) .
  هذا كلّه حول المقسم به ، وأمّا المقسم عليه فيحتمل أن يكون أحد أمرين :
  أ : ( قُتِلَ أَصحابُ الاَُخْدُود ) وفسره بقوله : ( النّارِ ذات الوقُود ) أي أصحاب الاَُخدود هم أصحاب النّار التي لها من الحطب الكثير ما يشتد به لهيبها ، ويكون حريقها عظيماً ، ولهيبها متطايراً.
  ثمّ أشار إلى وصف آخر لهم ( إِذْ هُمْ عَلَيها قُعُود ) أي أحرقوا الموَمنين بالنار وهم قاعدون حولها يشرفون عليهم وهم يعذبون بها ويوضحه قوله في الآية اللاحقة : ( وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُوَْمِنينَ شُهُود ) أي أُولئك الجبابرة الذين أحرقوا الموَمنين كانوا حضوراً عند تعذيبهم يشاهدون ما يُفعل بهم ، وفي هذا إيماء إلى قسوة قلوبهم ، كما فيه إيماء إلى قوة اصطبار الموَمنين وشدّة جلدهم ورباطة جأشهم.
  وأمّا الصلة بين ما حلف به من السماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود وجواب القسم فهي انّه سبحانه حلف بالسماء ذات البروج والبروج آية الدفاع حيث كان أهل البلد يدافعون من البروج المبنية على سور البلد عن بلدهم ، قال سبحانه : ( وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنّاها لِلنّاظرين * وَحَفِظْناها مِنْ كُلّ

--------------------
(1) هود : 103 .
(2) مجمع البيان : 5|191 .

الأقسام في القرآن _ 150 _
  شَيطانٍ رَجِيم ) (1) .
  فحلف سبحانه بالسماء ذات البروج في المقام مبيناً بأنّ اللّه الذي كما يدفع بالبروج عن السماء كيد الشياطين كذلك يدفع عن إيمان الموَمنين كيد الشياطين وأوليائهم من الكافرين.
  ثمّ أقسم باليوم الموعود الذي يجزي فيها الناس بأعمالهم فهو يجزي أصحاب الاَُخدود بأعمالهم ، وأقسم بالشاهد الذي يشاهد أعمال الآخرين ، وأقسم بمشهود أي كل ما يشهده الشاهد وهو انّه سبحانه تبارك وتعالى يعاين أعمالهم ويشاهدها.
  ويمكن أن يكون جواب القسم ، قوله سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُوَْمِنينَ وَالْمُوَْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَريق * إِنَّ الَّذينَ آمنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الاََنْهارُ ذلِكَ الْفَوزُ الكَبير ) (2) .
  فاللّه سبحانه يوعد الكفّار ويعد الموَمنين.
  وأمّا وجه الصلة فواضح أيضاً بالنسبة إلى ما ذكرنا في الوجه الاَوّل ، ويحتمل أن يكون الجواب قوله : ( إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشدِيد * إِنَّهُ هُُوَ يُبْدِىَُ وَيُعِيد ) (3)
  والمناسبة تلك المناسبة فلا نطيل.
  ويحتمل أن يكون الجواب محذوفاً يدل عليه الآيات المتقدمة ، والمحذوف كالتالي : إيعاد الفاتنين ووعد الموَمنين وهكذا.

--------------------
(1) الحجر : 16 ـ 17.
(2) البروج : 10 ـ 11 .
(3) البروج : 12 ـ 13 .

الأقسام في القرآن _ 151 _
الفصل الثالث عشر : القسم في سورة الطارق
  حلف سبحانه بأمرين : بالسماء والطارق ، ثمّ فسر الطارق بالنجم الثاقب ، حلف بهما بغية دعوة الناس إلى الاِذعان بأنّ لكلّ نفس حافظ.
  قال سبحانه : ( وَالسَّماءِ وَالطّارِقِ * وَما أَدْراكَ مَا الطّارِقُ * النَّجْمُ الثاقِبُ * إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمّا عَلَيْها حافِظ ) (1) .
  أمّا السماء فقد مرّ البحث فيه ، والطارق من الطرق ويسمّى السبيل طريقاً ، لاَنّه يطرق بالاَرجل أي يضرب ، لكن خصّ في العرف بالآتي ليلاً ، فقيل انّه طرق أهله طروقاً ، وعبر عن النجم بالطارق لاختصاص ظهوره بالليل.
  النجم الثاقب والثاقب الشيء الذي يثقب بنوره وإصابته مايقع عليه ، قال سبحانه : ( فأتْبَعهُ شِهابٌ ثاقِب ) (2) .
  ( إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمّا عَلَيْها حافِظ ) فلفظة (لما) بمعنى إلاّ نظير قوله سبحانه : ( وإنَّ كُلاً لَمّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعمالَهُم ) (3) ونظيره قولك : ( سألتك باللّه لما فعلت ) .

--------------------
(1) الطارق : 1 ـ 4.
(2) الصافات : 10.
(3) هود : 111.

الأقسام في القرآن _ 152 _
  والمراد من حافظ هم الموكلون على كتابة أعمال الاِنسان حسنها وسيئها ، يحاسب عليها يوم القيامة ويجزى بها فالحافظ هو الملك والمحفوظ هو العمل ، قال تعالى : ( وإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظينَ * كِراماً كاتِبين * يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُون ) (1) ويحتمل أن يراد من حافظ هو القوة الحافظة للاِنسان من الموت وفساد البدن ولعلّه إليه يرشد قوله سبحانه : ( وَهُوَ القاهِرُ فَوقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَة ) (2) .
  والقوى الظاهرية والمادية والمعنوية التي هي من جنود ربنا والتي وكّلت لحفظ الاِنسان من الشر إلى أن ينقضي عمره ، هم الحفظة ، ولكن المعنى الاَوّل هو الاَنسب.
  بقي هنا أمران :
  الاَوّل: انّ المراد من النجم الثاقب هو كوكب زحل ، فانّه من أبعد النجوم في مجموعتنا الشمسية التي يمكن روَيتها بالعين المجردة وقيل لزحل عشرة أقمار يمكن روَية ثمانية منها بالناظور العادي.
  ولا يمكن روَية الآخرين إلاّ بالنواظير الكبيرة ، والظاهر انّ المراد مطلق النجم الذي يثقب ضوءه وإن كان زحل من أظهر مصاديقه.
  وأمّا المقسم عليه فهو قوله : ( إِنْ كُلّ نَفْسٍ لَمّا عَليها حافِظ ) .
  وأمّا الصلة بينهما بالنحو التالي : هو انّ السماء العالية والنجوم التي تتحرك في مدارات منظمة دليل النظم والحساب الدقيق ، فليعلم الاِنسان بأنّ أعماله أيضاً تخضع للحساب الدقيق ، فانّ

--------------------
(1) الانفطار : 10 ـ 12.
(2) الاَنعام : 61.

الأقسام في القرآن _ 153 _
  هناك من يحفظ أعماله ويسجّلها إن خيراً فخير ، وإن شرّاً فشر ، وانّها لمسوَولية عظيمة يحملها الاِنسان ، إذ ما من أحد إلاّ وهو مراقب ، تكتب عليه كلّ أعماله من المهد إلى اللحد ، فليس من شيء يضيع في هذه الدنيا أبداً .
  هذا إذا قلنا بأنّ المراد من حافظ هو حافظ الاَعمال ، وأمّا إذا فسرت من يحفظ الاِنسان من الحوادث والمهالك ، فالصلة بالنحو التالي : وهو انّ للنفوس رقيباً يحفظها ويدبر شوَونها في جميع أطوار وجودها حتى ينتهي أجلها ، كما أنّ للسماء مدبراً لشوَونها بما تحتويه من أنظمة رائعة ومعقدة ، فالفضاء الكوني فسيح جداً تتحرك فيه كواكب لا حصر لها ، بسرعة خارقة ، بعضها يواصل رحلته وحده ، ومنها أزواج تسير مثنى مثنى ، ومنها ما يتحرك في شكل مجموعات ، والكواكب على كثرتها يواصل كلّ واحد منها سفره على بُعد عظيم يفصله عن الكواكب الاَُخرى.
  إنّ هذا الكون يتألف من مجموعات كثيرة من الكواكب والنجوم تسمّى مجاميع النجوم ، وكلّها تتحرك دائماً وتدور في نظام رائع.
  ومع هذا الدوران تجري حركة أُخرى وهي انّ هذا الكون يتسع من كلّ جوانبه ، كالبالون المتخذ من المطاط ، وجميع النجوم تبتعد في كلّ ثانية بسرعة فائقة عن مكانها ، هذه الحركة المدهشة تحدث طبقاً لنظام وقواعد محكمة بحيث لا يصطدم بعضها ببعض ولا يحدث اختلاف في سرعتها (1) .

--------------------
(1) الاِسلام يتحدى : 58.

الأقسام في القرآن _ 154 _
الفصل الرابع عشر : القسم في سورة الفجر
  حلف سبحانه في سورة الفجر بأُمور خمسة :
  1 ـ الفجر ، 2 ـ ليال عشر ، 3 ـ الشفع ، 4 ـ الوتر ، 5 ـ الليل إذا يسر وقال : ( وَالْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفعِ وَالْوَتْرِ * واللَّيلِ إِذا يَسْرِ * هَلْ في ذلِكَ قَسَمٌ لِذي حِجْر ) (1) .

تفسير الآيات
  اختلف المفسرون في تفسير هذه الاَقسام إلى أقوال كثيرة ، غير انّ تفسير القرآن بالقرآن يدفعنا إلى أن نفسره بما ورد في سائر الآيات.
  أمّا الفجر : فهو في اللغة ، كما قال الراغب : شق الشيء شقاً ، قال سبحانه : ( وَفَجَّرنا الاََرض عُيُوناً ) وقال : ( وَفجّرنا خلالها نَهْراً ) ومنه قيل للصبح ، الفجر لكونه يفجر الليل ، وقد استعمل الفجر بصورة المصدر في فجر الليل ، قال : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْس إِلى غَسَقِ اللَّيل وَقُرآنَ الفَجْرِ إِنَّ قُرآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً ) (2) .
  وقال سبحانه : ( حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيطُ الاََبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الاََسْوَد مِنَ الْفَجْر ِثُمَّ

--------------------
(1) الفجر : 1 ـ 5 .
(2) الاِسراء : 78.

الأقسام في القرآن _ 155 _
  أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيل ) (1) وقال سبحانه : ( سَلامٌ هِيَ حَتّى مَطْلَعِ الْفَجْر ) (2).
  وعلى ضوء هذا فلو كان اللام للجنس ، فهو محمول على مطلق الفجر ، أعني : انفجار الصبح الصادق ، وإن كان مشيراً إلى فجر ليل خاص فهو يتبع القرينة ، ولعلّ المراد فجر الليلة العاشرة من ذي الحجة الحرام.
  ( وليال عشر ) فقد اختلف المفسرون في تفسير الليالي العشر ، فذكروا احتمالات ليس لها دليل.
  أ : الليالي العشر من أوّل ذي الحجة إلى عاشرها ، والتنكير للتفخيم.
  ب : الليالي العشر من أوّل شهر محرم الحرام.
  ج : العشر الاَواخر من شهر رمضان وكلّمحتمل ، ولعل الاَوّل أرجح.
  وأمّا الشفع : فهو لغة ضمّ الشيء إلى مثله ،فلو قيل للزوج شفع ، لاَجل انّه يضم إليه مثله ، والمراد منه هو الزوج بقرينة قوله والوتر ، وقد اختلفت كلمتهم فيما هو المراد من الشفع والوتر.
  1 ـ الشفع هو يوم النفر ، والوتر يوم عرفة وإنّما أقسم اللّه بهما لشرفهما.
  2 ـ الشفع يومان بعد النحر ، والوتر هو اليوم الثالث.
  3 ـ الوتر ما كان وتراً من الصلوات كالمغرب والشفع ما كان شفعاً منها.
  إلى غير ذلك من الاَقوال التي أنهاها الرازي إلى عشرين وجهاً ، ويحتمل أن يكون المراد من الوتر هو اللّه سبحانه ، والشفع سائر الموجودات.

--------------------
(1) البقرة : 187.
(2) القدر : 5 .

الأقسام في القرآن _ 156 _
  ( وَاللّيل إذا يَسر ) : أمّا الليل فمعلوم ، وأمّا قوله يسر ، فهو من سرى يسري فحذف الياء لاَجل توحيد فواصل الآيات ، ويستعمل الفعل في السير في الليل ، كما في قوله سبحانه : ( سُبْحانَ الّذي أَسرى بِعَبْدِهِ لَيلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الحَرامِ إِلى الْمَسْجِدِ الاََقصى ) (1) ، فالليل ظرف والساري غيره ، ولكن الآية نسبت الفعل إلى نفس الليل فكأنّ الليل موجود حقيقي له سير نحو الاَمام فهو يسير إلى جانب النور ، فاللّه سبحانه حلف بالظلام المتحرك الذي سينجلي إلى نور النهار.
  مضافاً إلى ما في الليل من عظائم البركات التي لا تقوم الحياة إلاّبها.
  هذا ما يرجع إلى مجموع الآية ونعود إلى الآيات بشكل آخر ، فنقول : امّا الفجر فقد حلف به سبحانه بصورة أُخرى أيضاً ، وقال : ( وَالصُّبح إِذا أَسْفَرَ ) (2) وقال تبارك وتعالى : ( وَالصُّبح إِذا تَنَفَّس ) (3) ، والمراد من الجميع واحد ، فإنّ إسفار الصبح في الآية الاَُولى هو طلوع الفجر الصادق ، فكأنّ الصبح كان مستوراً بظلام الليل ، فهو رفع الستار وأظهر وجهه ، ولذلك استخدم كلمة أسفر يقال : أسفرت المرأة : إذا رفع حجابها.
  ويعود سبب تعاقب الليل والنهار إلى دوران الاَرض حول الشمس ، فبسبب كرويّتها لا تضيىَ الشمس سائر جهاتها في آن واحد بل تضيىَ نصفها فقط ويبقى النصف الآخر مظلماً حتى يحاذي الشمس بدوران الاَرض فيأخذ حظه من الاستنارة ، وتتم الاَرض هذه الدورة في أربعة وعشرين ساعة.
  كما أنّ المراد من الآية الثانية أعني : ( والصبح إِذا تَنَفَّس ) هو انتشار نوره ،

--------------------
(1) الاِسراء : 1 .
(2) المدثر : 34 .
(3) التكوير : 18

الأقسام في القرآن _ 157 _
  فعبّر عنه بالتنفّس ، فكأنّه موجود حي يبث ما في نفسه إلى الخارج ، أمّا عظمة الفجر فواضحة ، لاَنّ الحياة رهن النور ، وطلوع الفجر يثير بارقة الاَمل في القلوب حيث تقوم كافة الكائنات الحية إلى العمل وطلب الرزق.
  وأمّا الليالي العشر فهي عبارة عن الليالي التي تنزل فيها بركاته سبحانه إلى العباد ، سواء فسرت بالليالي العشر الاَُولى من ذي الحجّة أو الليالي العشر من آخر شهر رمضان ، فالليل من نعمه سبحانه حيث جعله سكناً ولباساً للاِنسان وقال : ( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً ) (1) كما جعله سكناً للكائنات الحية حيث ينفضون عن أنفسهم التعب والوصب ، قال سبحانه : ( فالِقُ الاِِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيلَ سَكَناً ) (2).
  وأمّا الشفع والوتر ، فقد جاء مبهماً وليس في القرآن ما يفسر به فينطبق على كلّ شفع ووتر ، وبمعنى آخر يمكن أن يراد منه صحيفة الوجود من وتره كاللّه سبحانه وشفعه كسائر الموجودات.
  وأمّا قوله : ( واللَّيل إِذا يسر ) أقسم بالليل إذا يمضي ظلامه ، فلو دام الليل دون أن ينجلي لزالت الحياة ، يقول سبحانه : ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ ان جَعَلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْل سَرْمداً إِلى يَومِ القِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ بِضياءٍ أَفَلا تسْمَعُون ) (3) .
  فتبين مما سبق منزلة المقسم به في هذه الآيات وانّها تتمتع بالكرامة والعظمة ، وأمّا المقسم عليه فيحتمل وجهين :
  أحدهما : انّه عبارة عن قوله سبحانه : ( إِنَّ رَبّكَ لَبِالْمِرصاد ) (4) .

--------------------
(1) النبأ : 10.
(2) الاَنعام : 96.
(3) القصص : 71 .
(4) الفجر : 14 .