شيء أسمعه من رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، أريد حفظه فنهتني قريش ، وقالوا : أتكتب كلّشيء تسمعه ورسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بشر يتكلم في الغضب والرضا ؟ فأمسكت عن الكتابة ، فذكرت ذلك لرسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فأومأ باصبعه إلى فيه ، وقال : ( اكتب ، فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلاّ حقّاً ) (1) .
  2 ـ أخرج الترمذي في سننه عن أبي هريرة ، قال : كان رجل من الاَنصار يجلس إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيسمع من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الحديث فيعجبه ولا يحفظه ، فشكا ذلك إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقال : يا رسول اللّه إنّي أسمع منك الحديث فيعجبني ولا أحفظه ، فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : ( استعن بيمينك ) وأومأ بيده للخط (2) .
  3 ـ أخرج الخطيب البغدادي عن رافع بن خديج ، قال : مرّ علينا رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يوماً ، ونحن نتحدّث ، فقال : ( ما تحدّثون ؟ ) فقلنا : نتحدّث عنك يا رسول اللّه .
  قال : ( تحدّثوا ، وليتبوّأ من كذّب عليّ مقعداً من جهنم ) .
  ومضى (صلى الله عليه وآله وسلم) بحاجته ، ونكس القوم روَوسهم ... فقال : ( ما شأنكم ؟ ألا تحدّثون ؟ ) .
  قالوا : الذي سمعنا منك ، يا رسول اللّه.
  قال : ( إنّي لم أرد ذلك ، إنّما أردت من تعمّد ذلك ) قال : فتحدثنا .
  قال : قلت : يا رسول اللّه : إنّا نسمع منك أشياء ، فنكتبها .

--------------------
(1) سنن أبي داود : 3|318 ، برقم 3646 ، باب في كتابة العلم ، مسند أحمد : 2|162 ، سنن الدارمي : 1|125 ، باب من رخص في كتابة العلم .
(2) سنن الترمذي : 5|39 ، برقم 2666.

الأقسام في القرآن _ 107 _
  قال : (اكتبوا ولا حرج) (1) .
  وبعد هذه الاَهمية البالغة التي أولاها الكتاب العزيز والنبيللكتابة ، أفهل من المعقول أن ينسب إليه انّه منع من كتابة الحديث ؟! مع أنّها أحاديث آحاد تضاد الكتاب العزيز والسنّة والسيرة المتواترة ونجلُّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الحيلولة دون كتابة السنّة.
  هذا والكلام ذو شجون وقد أسهبنا البحث حوله في كتاب ( الحديث النبوي بين الرواية والدراية ) (2) .
  هذا كلّه حول المقسم به.
  وأمّا المقسم عليه : فقد جاء في قوله سبحانه : ( ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُون ) والمراد من النعمة النبوّة والاِيمان ، والباء للسببية أي لست أنت بسبب هذه النعمة بمجنون ، رداً على من جعل نبوّته ونزول القرآن عليه دليلاً على جنونه ، قال سبحانه : ( وَإِنْ يَكادُ الَّذينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمّا سمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ * وَما هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ لِلْعالَمين ) (3) .
  ويحتمل أن يكون المراد من النعمة كلّما تفضل عليه سبحانه من النعم وراء الاِيمان والنبوّة كفصاحته وبلاغته وعقله الكامل وخلقه الممتاز ، فانّ هذه الصفات تنافي حصول الجنون.
  واحتمل الرازي أن يكون جملة ( بِنعْمة رَبّك ) مقطوعة عمّا قبله و ما بعده ، وانّ وزانها وزان بحمد اللّه في الجمل التالية :

--------------------
(1) تقييد العلم : 72 و 73.
(2) انظر صفحة 12 ـ 32 من نفس الكتاب.
(3) القلم : 51 ـ 52.

الأقسام في القرآن _ 108 _
  أنت ـ بحمد اللّه ـ عاقل.
  أنت ـ بحمد اللّه ـ لست بمجنون.
  أنت ـ بنعمة اللّه ـ فهيم.
  أنت ـ بنعمة اللّه ـ لست بفقير.
  وعلى هذا التقدير يكون معنى الآية ( ما أنت ـ في ظل نعمة ربّك ـ بمجنون (1) .
  وهناك احتمال ثالث وهو نفس هذا الاحتمال ، وجعل الباء حرف القسم ، وعلى ذلك يكون الحلف مقروناً بالدليل ، وهو : انّ من أنعم اللّه عليه بهذه النعم الاِلهية كيف يتهمونه بالجنون ، مضافاً إلى أنّ لك في الآخرة لاَجراً غير ممنون ، كما قال سبحانه : ( وَإِنَّ لَكَ لاَجْراً غير مَمنون ) والممنون مشتق من مادة (منّ) بمعنى القطع أي الجزاء المتواصل إلى الاَبد.
  ثمّ إنّه سبحانه يستدل بدليل آخر على نزاهته من هذه التهمة ، وهي قوله سبحانه : ( وَإِنَّكَ لَعلى خُلقٍ عَظيم ) فمن كان على خلق يعترف به القريب والبعيد فكيف يكون مجنوناً ؟!
  فقد تجسَّم في شخصية الرسول العطف والحنان إلى القريب والبعيد ، والصبر والاستقامة في طريق الهدف ، والعفو عن المتجاوز بعد التمكن والقدرة ، والتجافي عن الدنيا وغرورها ، إلى غير ذلك من محاسن الاَخلاق ، وبذلك ظهر انّ الحلف صار مقروناً بالدليل.
  وأمّا الصلة بين المقسم به والمقسم عليه ، فهو انّالقلم والكتابة آية العقل

--------------------
(1) تفسير الفخر الرازي : 29|79.

الأقسام في القرآن _ 109 _
  والدراية ، فحلف به لغاية نفي الجنون عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
  يقول المراغي : أقسم ربّنا بالقلم ومايسطر به من الكتب : انّ محمّداً الذي أنعم اللّه عليه بنعمة النبوّة ليس بمجنون كما تدّعون ، وكيف يكون مجنوناً والكتب والاَقلام أعدت لكتابة ما ينزل عليه من الوحي ؟! (1)
  ونختم البحث بحديث رواه الشيخ يحيى البحراني عن النبيفي كتابه (الشهاب في الحكم والآداب) : قال : قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : (ثلاثة تخرق الحجب وتنتهي إلى ما بين يدي اللّه :
  1 ـ صرير أقلام العلماء.
  2 ـ وطء أقدام المجاهدين.
  3 ـ صوت مغازل المحسنات ) (2) .

--------------------
(1) تفسير المراغي : 29|27.
(2) الشهاب في الحكم والآداب : 22.

الأقسام في القرآن _ 110 _
الفصل الخامس : القسم في سورة الحاقة
  حلف سبحانه بما يُبصر وبما لا يُبصر ، قال سبحانه : ( فَلا أُقْسِمُ بِما تُبصرون * وما لاتُبصِرُون * إنَّه ُلَقَولُ رَسولٍ كَريمٍ * وَما هُوَ بِقَولِ شاعِرٍ قَليلاً ما تُوَْمِنُون * ولا بِقَولِ كاهِنٍ قَليلاً ما تَذَكَّرون * تنزِيلٌ مِنْ رَبِّ العالَمين ) (1) .

تفسير الآيات
  قوله : ( بما تبصرون ومالا تبصرون ) يعم ما سوى اللّه لاَنّه لا يخرج عن قسمين مبصر وغير مبصر ، فيشمل الدنيا والآخرة والاَجسام والاَرواح والاِنس والجن والنعم الظاهرة والباطنة ، كما يشمل الخالق والمخلوق ، فانّ الخالق داخل في قوله : ومالا تبصرون ، وعلى هذا الوجه فقد حلف سبحانه بعالم الوجود وصحيفته.
  ولكن استبعده السيد الطباطبائي ، قائلاً : بأنّه من البعيد من أدب القرآن أن يجمع الخالق والمخلوق في صف واحد ويعظمه تعالى وما صنع تعظيماً مشتركاً في عرض واحد (2) .
  ولكن يلاحظ عليه : بأنّه سبحانه ربّما جمع بين نفسه والرسول ، وقال : ( وَما

--------------------
(1) الحاقة :38 ـ 43 .
(2) الميزان : 19|403 .

الأقسام في القرآن _ 111 _
  نَقَمُوا إِلاّ أن أغناهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ ) (1) وقوله سبحانه : ( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُوَْمِنُون ) (2) ، إلى غير ذلك من الآيات فلاحظ.
  وأمّا المراد من قوله : (لا ) فقد سبق كلام المفسرين في توجيهه ، وقد اخترنا انّقوله : (لا ) رد لكلام مسبوق أو مقدر ، ثمّ يبتدأ بقوله أقسم.
  لقد أقسم سبحانه بشيء يخص البصر دون سائر الحواس ، وقال : ( فلا أُقسم بِما تبصرون وما لا تبصرون ) هو أقسم بما نبصر وما أقله ، وأقسم بما لا نبصر وما أكثره وأعظم خطره ، أقسم الحقُّ سبحانه هذا القسم العظيم بما له علاقة بالبصر ولم يُقسم بغيره مما هو محسوس ، ذلك لاَنّه رغم كونه يعطينا أوسع إحساس وأبعده وأسرعه بما يحيط بنا فانّه رغم ذلك لا يصلنا منه إلاّ أقل القليل.
  هذا كلّه حول المقسم به ، وأمّا المقسم عليه ، فهو قوله : ( إِنَّه ُلَقَولُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَما هُوَ بِقَولِ شاعِرٍ قَليلاً ما تُوَْمِنُونَ * وَلا بِقَولِ كاهِنٍ قَليلاً ما تَذكَّرون * تنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمين ) ، فالمقسم عليه مركب من أُمور إيجابية أعني كونه : قول رسول كريم وانّه تنزيل من ربّ العالمين ، وسلبية وهو أنّ القرآن ليس بقول شاعر ولا كاهن.
  إنّما الكلام في ما هو المراد من قوله : (رسول كريم) ، وقد ذُكر هذا أيضاً في سورة التكوير ، قال سبحانه : ( إِنَّهُ لَقولُ رَسُولٍ كَريم * ذي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرشِ مَكِين * مُطاعٍ ثَمَّ أَمين * وما صاحِبكُمْ بِمَجْنُون *وَلَقد رَآهُ بِالاَُفُقِ المُبِين * وَما هُوَ عَلى الغَيْبِ بِضَنِين *وَما هُوَ بِقَولِ شَيْطانٍ رَجِيم ) (3) ولا شكّ انّ المراد من

--------------------
(1) التوبة : 74 .
(2) التوبة : 105.
(3) التكوير : 19 ـ 25.

الأقسام في القرآن _ 112 _
  رسول في سورة التكوير هو أمين الوحي جبرئيل ، بشهادة وصفه بقوله : ( ذي قُوّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكين ) .
  مضافاً إلى قوله : ( وَلَقَدْ رَآهُ بِالاَُفُقِ الْمُبين ) فانّ الضمير يرجع إلى رسول كريم ، كما أنّ قوله : ( وَما هُوَ بِقَولِ شَيطانٍ رَجيم ) معناه إنّما هو قول الملك ، فانّ الشيطان يقابل الملك.
  وأمّا المقام فيحتمل أن يراد منه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وذلك لاَنّه وصفه بقوله : لَيْسَ بِقَولِ شاعِرٍ وَلا كاهن والقوم كانوا يصفون محمداً بالشعر والكهانة ولا يصفون جبرئيل بهما.
  والغرض المتوخّى من عزو القرآن إلى رسول كريم هو نفي كونه كلام شاعر أو كاهن ، ولا ينافي ذلك أن يكون القرآن كلامه سبحانه ، وفي الوقت نفسه كلام أمين الوحي وكلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، لصحّة الاِضافة إلى الجميع ، فالقرآن كلامه سبحانه لاَنّه فعله ، وهو الذي أنشأه ، وكلام جبرئيل ، لاَنّه هو الذي أنزله من جانبه سبحانه على قلب سيد المرسلين ، وفي الوقت نفسه كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لاَنّه أظهره وبيّنه للناس ، ويكفي في النسبة أدنى مناسبة.
  وأمّا الصلة فقد بيّنها السيد الطباطبائي بالنحو التالي ، وقال : وفي اختيار ما يبصرون ومالا يبصرون للاَقسام به على حقّية القرآن ما لا يخفى من المناسبة ، فانّ النظام الواحد المتشابك أجزاوَه الجاري في مجموع العالم يقضي بتوحّده تعالى ، ومصير الكل إليه ، وما يترتب عليه من بعث الرسل وإنزال الكتب ، والقرآن خير كتاب سماوي يهدي إلى الحقّفي جميع ذلك وإلى طريق مستقيم (1) .

--------------------
(1) الميزان : 19|403 .

الأقسام في القرآن _ 113 _
  وبتعبير آخر : انّه سبحانه تبارك وتعالى حلف بعالم الغيب والشهادة ـ أي بمجموع الخليقة والنظام السائد على الوجود الاِمكاني ـ على وجود هدف مشترك لهذا النظام ، وهو صيرورة الاِنسان في هذا الكوكب إنساناً كاملاً مظهراً لاَسمائه وصفاته ، ولا يتم تحقيق ذلك الهدف إلاّ من خلال بعث الرسل وإنزال الكتب ، والقرآن كتاب سماوي أُنزل إلى الاِنسان.
  ثمّإنّه سبحانه دعم حلفه بالبرهان على المقسم عليه ، فانّ المقسم عليه عبارة عن كون القرآن كلام رسول كريم أخذه من أمين الوحي ، وهو من اللّه سبحانه وليس من مبدعاته ومتقوّلاته وإلاّلعمّه العذاب فوراً ، قال سبحانه : ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بعْضَ الاََْقاوِيلِ * لاََخَذْنا مِنْهُ بِالْيمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْه الوَتيِنَ * فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِين ) (1) .
  فإذا حالف الرسول النجاح في الدعوة إلى رسالته والتفت حوله طوائف كثيرة فهو أوضح دليل على أنّه غير كاذب في دعوته وصادق في عزوها إلى اللّه وإلاّ لما أمهله اللّه سبحانه هذا المقدار من الزمان.
  وثمة سوَال يثار ، وهو انّ هذه الآيات توعد المتنبىَ الكاذب على اللّه سبحانه بالهلاك ، فلو كان هذا مفاد الآية لزم تصديق كلّمن ادّعى النبوّة ولم يشمله العذاب و الهلاك ، إذ لو كان كاذباً لاَخذه سبحانه باليمين ، وقطع منه الوتين ، فإذا لم يفعل ، فهذا دليل على صدق كلامه وفعاله مع أنّه أمر لا يمكن الالتزام به ؟ والجواب : انّ القرآن الكريم ليس بصدد بيان أنّ كلّ من تقوَّل على اللّه سوف يعمّه العذاب والهلاك ، وإنّما هو بصدد بيان بعض الفئات المتقوّلة التي تدعي صلتها باللّه سبحانه خلال معجزة قاهرة خلابة للعقول ، فهذا النوع من

--------------------
(1) الحاقة :44 ـ 47.

الأقسام في القرآن _ 114 _
  التقوّل يدخل تحت هذه القاعدة ، كما في ادّعاء رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) الرسالة التي أرفقها بمعجزة أبهرت العقول وأدهشت الاَلباب ، فخضع له العرب والعجم في ظل هذه المعجزة ، فلو تقوّل ـ والعياذ باللّه ـ يعمّه العذاب ، لاَنّه من القبيح أن تقع المعجزة على يد الكاذب ، فسيرته (صلى الله عليه وآله وسلم) ومضيه قدماً في الدعوة إلى ربّه حتّى وافته المنية أوضح دليل على أنّه صادق في رسالته ، وانّ كلامه كلام ربّه ، وانّه ليس بكاهن ولا شاعر.
  وأمّا قوله سبحانه : ( لاََخذْنا منهُ بالْيَمين ) ففيه وجوه أربعة :
  1 ـ أخذنا بيمينه كما يوَخذ المجرم بيده.
  2 ـ أو سلبنا عنه القوة ، فانّاليد اليمنى شارة القوة.
  3 ـ أو لقطعنا منه يده اليمنى.
  4 ـ أو لانتقمنا منه بقوة.
  والآية بمنزلة قوله سبحانه : ( ولَولاَ أَن ثَبَّتْناكَ لَقَد كِدتَ تَركَنُ إِلَيهِمْ شَيئاً قَليلاً * إِذَاً لاََذَقْناكَ ضِعْفَ الحَياةِ وَضِعْفَ المَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصيراً ) (1).

--------------------
(1) الاِسراء : 74 ـ 75.

الأقسام في القرآن _ 115 _
الفصل السادس : القسم في سورة المدثر
  حلف سبحانه في سورة المدثر بأُمور ثلاثة ، هي : القمر ، و الليل عند إدباره ، والصبح عند ظهوره ، قال : ( وما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاّ هُوَ وَما هِيَ إِلاّ ذِكْرى لِلْبَشَر * كَلاّ وَالقَمَرِ * وَاللّيلِ إِذا أَدْبَر * والصُّبحِ إِذا أَسْفَرَ * إِنَّها لاِحْدَى الكُبَرِ * نَذيراً لِلْبَشَرِ * لِمَنْ شاءَ مِنْكمْ أَنْ يَتَقدَّمَ أَو يَتَأَخَّرَ ) (1) .

تفسير الآيات
  حلف سبحانه في هذه الآيات بأُمور ثلاثة ترتبط بعضها بالبعض ، ويأتي الثاني عقب الاَوّل.
  فأمّا القمر يتجلّى في اللّيل ، ولولا الليل لما كان لضوئه ظهور ، لاَنّه يختفي نوره في النهار لتأثير الشمس فإذا تجلّى القمر في الليل شيئاً فشيئاً فيأتي نهاية الليل ، الذي عبّر عنه سبحانه : ( إِذا أدْبر ) وتكون النتيجة طلوع الفجر الذي عبر عنه سبحانه ( والصُّبحِ إِذا أَسْفَر ) ، فكأنّه يقول سبحانه : احلف بتجلّي القمر في وسط السماء الذي يسير مع الليل شيئاً فشيئاً ، إلى أن يدبر ويسفر الصبح ، هذا مفاد الآيات التي تضمّنت المقسم به.
  ثمّ إنّ الكُبُـر جمع الكبرى ، وهي العظمى أي إحدى العظائم ، وأمّا ما هو

--------------------
(1) المدثر : 31 ـ 37.

الأقسام في القرآن _ 116 _
  المراد من العظائم ، فسيوافيك بيانه عن قريب.
  ثمّ إنّه سبحانه حلف في هذه الآيات بأُمور ثلاثة :
  1 ـ القمر على وجه الاِطلاق.
  2 ـ الليل إذا أدبر ، أي الليل عند انتهائه .
  3 ـ الصبح حينما يسفر ويتجلّـى.
  وأمّا المقسم عليه فهو عبارة عن قوله : ( إِنَّها لاِحدى الكِبَر * نَذيراً لِلْبَشَر * لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقدَّم أَوْ يَتَأَخَّر ) .
  والكلام في مرجع الضمير في قوله (إنّها) ، ففيه وجهان :
  الاَوّل : أنّ الضمير يرجع إلى (سقر) الواردة في الآيات المتقدمة ، أعني قوله تعالى : ( وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ * لا تُبقي وَلا تَذَر * لَواحَةٌ لِلْبَشَر * عَلَيها تِسْعَةُ عَشَر ) (1) .
  أي انّ سقر هي إحدى الدواهي الكبرى ، فهي نذيرة للبشر ومخوّفة لمن شاء منكم أن يتقدّم في طاعة اللّه أو يتأخر عنها بالمعصية ، ولفظة (سقر) من الموَنثات السماعية ، وقد جاء ذكرها في قصيدة ابن الحاجب التي جمع فيها الموَنثات السماعية في أحد وعشرين بيتاً ، وقال : وكذاك في كبد و في كرش و في سقر ومنها الحرب و النعلان (2)
  الثاني : أنّ الضمير يرجع إلى الآيات في قوله سبحانه : ( كَلاّ إِنَّهُ كانَ لآياتِنا عَنيداً ) ، وعلى هذا فالآيات القرآنية لاِحدى الدواهي وهي النذيرة لمن تقدم في مجال الطاعة أو تأخر لكن المتقدم ينتفع دون المتأخر.

--------------------
(1) المدثر : 27 ـ 30.
(2) روضات الجنات : 5|186.

الأقسام في القرآن _ 117 _
  هذا كلّه حول المقسم به ، وأمّا المقسم عليه فهو قوله : ( إنّها لاِحدى الكبر ) .
  وأمّا الصلة بين المقسم به والمقسم عليه ، فعلى التفسير الثاني من الوضوح بمكان ، حيث إنّ القمر في الليل الدامس يهدي السائرين ، كما أنّ الصبح وطروء النهار يبدّد الظلام ويظهر النور ، فناسب أن يحلف سبحانه بأسباب الهداية ، ومعادن النور ومظاهره ، بُغية إثبات أنّ القرآن لاِحدى المعاجز الكبرى التي تهدي البشر إلى سبيل الرشاد.
  وأمّا على التفسير الاَوّل ، ورجوع الضمير إلى سقر فالمناسبة خفية ، إلاّ أن يقال بأنّالمقسم به أي القمر في وسط السماء وانجلاء الليل وطلوع الفجر من آياته الكبرى كما أنّ سقراً أيضاً كذلك.
  ولا يخفى انّالقسم بالقمر جاء للتأكيد على عظمته ، فهو أقرب الاَجرام السماوية للاَرض وأقل حجماً منها ، يدور حول الاَرض مرّة كلّ شهر ، وجاذبية القمر مع جاذبية الشمس هي سبب المد والجزر.
  وتبلغ درجة حرارة جانب القمر المواجه للشمس 120 درجة مئوية ، أي أعلى من درجة غليان الماء ، ودرجة حرارة الجانب المظلم أقل من درجة تجمّد الماء بقدر يبلغ 150 درجة.
  كما أنّ سطحه صحاري وقفار تتناهض فيها البراكين الخامدة ، وجباله ضخمة عظيمة يبلغ ارتفاعها 42 ألف قدم بزيادة تقرب من 13 ألف قدم عن أعلى جبل على الاَرض ، وفوهات البراكين هائلة العظمة يبلغ قطر أكبرها 100 ميل ، وجباله أقدم بكثير من سلاسل الجبال الاَرضية بملايين السنين (1) .

--------------------
(1) اللّه والعلم الحديث : 27.

الأقسام في القرآن _ 118 _
الفصل السابع : القسم في سورة القيامة
  حلف سبحانه في سورة القيامة بأمرين :
  1 ـ يوم القيامة .
  2 ـ النفس اللوامة .
  وقال : ( لا أُقْسِمُ بِيَومِ القِيامَة * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوّامَةِ * أَيَحْسَبُ الاِِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ * بلى قادِرينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ * بَلْ يُريدُ الاِِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ * يَسَئلُ أَيّانَ يَومُ القِيامَة ) (1) .

تفسير الآيات
  اختلف المفسرون في كلمة (لا ) على أقوال (2)
  الاَوّل : انّ لا أقسم كلمة قسم وانّ العرب تزيد كلمة لا في القسم ، كما قال امروَ القيس :

لا وأبيك ابنة العامري      لا يدعي قوم انّي أفر
  الثاني : انّلا نافية ، رد لكلام قد تقدّم ، وجواب لهم ، وذلك هو المعروف في كلام الناس في محاوراتهم ، فإذا قال أحدهم : لا ، واللّه ما فعلت كذا ، قصد بقوله : (لا ) ردّ الكلام السابق ، فهم لما أنكروا البعث ، قيل لهم ليس الاَمر على ما ذكرتم ، ثمّ أقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة إنّ البعث حقّ.

--------------------
(1) القيامة : 1 ـ 6.
(2) مرّ الكلام فيه أيضاً لاحظ ص : 81 ـ

الأقسام في القرآن _ 119 _
  الثالث : انّها للنفي ، على معنى انّي لا أعظمه بأقسامي به حقّإعظامه ، فانّه حقيق بأكثر من هذا ، وهو يستحق فوق ذلك.
  فعلى المعنى الاَوّل (لا ) زائدة ، ولكنّه بعيد في كلام ربّ العزة ، والمتعين أحد المعنيين الاَخيرين.
  أمّا المقسم به : فهو أمران :
  أ : يوم القيامة.
  ب : النفس اللوامة.
  أمّا الاَوّل : فهو يوم البعث الذي يجمع اللّه فيه الناس على صعيد واحد ، وإنّما سمّي يوم القيامة لاَجل انّه يقوم به الحساب ، قال سبحانه حاكياً عن إبراهيم : ( رَبَّنا اغْفِر لي وَلِوالِدَيّ وَلِلْمُوَْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحِساب ) (1) وانّه يوم يقوم به الاشهاد ، قال سبحانه : ( إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالّذِينَ آمَنُوا فِي الحَياةِ الدُّنْيا وَيَومَ يَقُومُ الاََشْهاد ) (2) وانّه يوم يقوم فيه الروح ، قال سبحانه : ( يَومَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالمَلائِكةُ صَفّاً ) (3) ، وانّه يوم يقوم الناس لربّ العالمين ، كما قال سبحانه : ( يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِين ) (4) ، إلى غير ذلك من الوجوه التي توضح وجه تسمية اليوم بالقيامة ، وقد جاء يوم القيامة في القرآن سبعين مرّة ، فلم تستعمل القيامة إلاّمضافة إلى يوم.

--------------------
(1) إبراهيم : 41 .
(2) غافر : 51 .
(3) النبأ : 38.
(4) المطففين : 6.

الأقسام في القرآن _ 120 _
  وأمّا الثاني : أي النفس اللوامة صيغة مبالغة من اللوم ، وهي عدل الاِنسان بنسبته إلى ما فيه لوم ، يقال لمته فهو ملوم ، قال سبحانه : ( فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُمْ ) (1) إلى غير ذلك من الآيات التي ورد فيها اللوم وما اشتق منه.
  واختلف المفسرون في المراد من النفس اللوامة على أقوال :
  الاَوّل : هي نفس آدم التي لم تزل تتلوّم على فعلها الذي خرجت به من الجنة والظاهر أنّ هذا القول من قبيل تطبيق الكلي على مصداقه ، وليس هناك قرينة على أنّها ، المراد فقط.
  الثاني : مطلق النفس ، إذ ليس من نفس برّة ولا فاجرة إلاّ وهي تلوم نفسها يوم القيامة إن كانت عملت خيراً قالت : هلا ازددت ، وإن كانت عملت سوءاً قالت : يا ليتني لم أفعل.
  الثالث : وربما تختص بالنفس الكافرة الفاجرة.
  الرابع : عكس ذلك ، والمراد نفس الموَمن التي تلومه في الدنيا على ارتكاب المعصية وتحفّزه على إصلاح ما بدا منه.
  والظاهر أنّ القول الثاني هو المتعيّن ، أي مطلق النفس التي تلوم صاحبها سواء أكان لاَجل فوت الخير أو ارتكاب الشر.
  وعلى كلّ حال فالآية تحكي عن المنزلة العظيمة التي تتمتع بها النفس اللوامة إلى حدّ أقسم بها سبحانه وإلاّلما حلف بها.
  وأمّا المقسم عليه فمحذوف أي لتُبْعثُنَّ.

--------------------
(1) إبراهيم : 22 ـ

الأقسام في القرآن _ 121 _
  وأمّا الصلة بين المقسم عليه أعني قوله : ( لتبعثن ) والحلف ( بالنفس اللوامة ) فهي ظهور اللوم من هذه النفس يوم القيامة ، فانّ نفس الكافر لا تلومه في الدنيا إلاّقليلاً ، في حين يتجلّـى اللوم ويتجسّد يوم القيامة أكثر فأكثر.
  وأمّا كرامة النفس اللوامة فواضحة جداً ، لاَنّها تردع الاِنسان عن اقتراف الذنوب ، ولا يمكن خداعها ، وهي يقظة تزجر الاِنسان دائماً بالنسبة إلى ما عمله وقصده.
  إنّ إبراهيم لما حطّم الاَصنام وجعلها جذاذاً إلاّكبيراً لهم لعل القوم يرجعون إليه ويرتدعون عن عقيدتهم بإلوهيتها ، فلمّا رجعوا ووقفوا على أنّه عمل إبراهيم أحضروه للاقتصاص منه ، وخاطبوه بقولهم : ( أأنت فعلت هذا بآلهتنا ) ، فأجابهم إبراهيم : ( بل فَعَلَهُ كَبيرهُم ) ، ثمّ أمرهم بسوَاله عن الجريمة التي ارتكبها ، فبهُت الجمع من هذا السوَال وظلوا صامتين لعجزهم عن الاِجابة ، فعندئذ تبين لهم أنّ مثل هذا الصنم أحط من أن يعبد ، فاستيقظ وجدانهم وأخذت نفوسهم تلومهم على النهج الذي اختطوه ، بل الآلهة التي عبدوها حيث وجدوا انّها غير خليقة بالعبادة والخضوع ، وهذا ما يحكي عنه القرآن بقوله : ( فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنّكم أنتم الظالمون ) أي خاطبوا أنفسهم بالظلم ، فكأنّه قال بعضهم لبعض أنتم الظالمون حيث تعبدون مالا يقدر عن الدفع عن نفسه وما نرى الاَمر إلاّكما قال هذا الفتى.
  هذه هي النفس اللوامة التي تظهر بين الحين والآخر وتزجر الاِنسان عن ارتكاب الذنوب.
  وهذا الذي يسمّيه علم النفس في يومنا هذا بالوجدان الاَخلاقي ، ويصفون الوجدان محكمة لا تحتاج إلى قاض سوى النفس ، وهي التي تقوم بتأسيس

الأقسام في القرآن _ 122 _
  المحكمة ، وتشخص المجرم ، وتصدر الحكم بلا هوادة ، ودون أي تهاون.
  وفي الآيات القرآنية الاَُخرى إشارة إلى تلك المرتبة من النفس ، يقول سبحانه : ( وَنَفْسٍ وَما سَوّاها * فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها ) (1).
  يقول الاِمام الصادق في تفسير الآية : ( بيّن لها ما تأتي وما تترك ) (2) .
  إنّ اللوم والعزم فرع معرفة النفس بخير الاَُمور وشرّها ، فلو لم تكن عالمة من ذي قبل لم تصلح للوعظ ولا للزجر ، ولاَجل ذلك ، يقول سبحانه : ( أَلَمْ نَجْعَل لَهُ عَينَين * وَلِساناً وَشَفَتَيْن * وَهَدَيْناهُ النَّجْدَين ) (3).
  يقول الاِمام الصادق (عليه السلام) : ( هداه إلى نجد الخير والشر ) (4).
  ثمّإنّ مراتب الزجر تختلف حسب صفاء النفس وكدورتها وابتعادها عن ممارسة الشر ، يقول الاِمام الصادق (عليه السلام) : ( إنّ اللّه إذا أراد بعبد خيراً طيّب روحه فلا يسمع معروفاً إلاّ عرفه ولا منكراً إلاّ أنكره ) (5) .
  نعم ، ما حباه اللّه سبحانه لكلّ إنسان من النفس اللوامة ، كرامة ونعمة عظيمة ، حيث يعرف على ضوئها الحسن من القبيح والخير من الشر ، ولكنّه لو مارس الشرّ مدّة لا يستهان بها ربما تعوق النفس عن القضاء في الخير بالخير والشر بالشر ، بل ربما يرى الشر خيراً والخير شراً ، وذلك فيما إذا زاوله الاِنسان كثيراً بنحو ترك بصماته على روحه ونفسه وقضائه وتفكيره ، وقد أشار سبحانه إلى أنّ قبح وأد البنات وقتل الاَولاد ـ لاَي غاية من الغايات كانت ـ أمر يدركه كلّ إنسان ، ولكن ترى أنّ بعض المشركين يستحسن عمله هذا ويعدّه من مفاخره

--------------------
(1) الشمس : 7 ـ 8.
(2) الكافي : 1|163 .
(3) البلد : 8 ـ 10.
(4) الكافي : 1|163 .
(5) اثبات الهداة : 1|87.

الأقسام في القرآن _ 123 _
  وكراماته ، يقول سبحانه : ( وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِكَثيرٍ مِنَ الْمُشْرِكين َقَتْلَ أَولادِهِمْ شُرَكاوَُهُمْ ) (1) .
  فقد أثر الشركاء في عقول الوثنيين وتفكيرهم فصار القبيح حسناً والشر خيراً ، يقول سبحانه : ( أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرآهُ حَسَناً فَإنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاء ) (2) .
  وعلى هذا فليست النفس اللوامة باقية على صفاتها وقضائها الحق في جميع الظروف والحالات بل ربما يكون قضاوَها على خلاف ما هو الحقّ ، لا سيما فيمن يزاول الجرم طيلة عمره ، فربما يعود في آخر عمره يتنكر لجميع المقدسات ويسيطر فعله القبيح على آفاق فكره وإيمانه ، يقول سبحانه : ( ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساءُوا السُّوأى أن كَذَّبُوا بِآياتِ اللّهِ ) (3) .

مراتب النفس في الذكر الحكيم
  إنّ القرآن الكريم جعل للنفس الاِنسانية مراتب :
  1 ـ النفس الاَمّارة .
  2 ـ النفس اللوّامة .
  3 ـ النفس المطمئنة .
  4 ـ النفس الراضية المرضية ، وإليك وصف هذه المراتب بنحو موجز :

1 ـ النفس الاَمّارة
  إنّ النفس بطبعها تدعو إلى مشتهياتها من السيئات ، فليس للاِنسان أن يبرّىَ

--------------------
(1) الاَنعام : 137.
(2) فاطر : 8.
(3) الروم : 10.

الأقسام في القرآن _ 124 _
  نفسه من الميل إلى السوء ، وإنّما له أن يكف عن أمرها بالسوء ودعوتها إلى الشر وذلك برحمة من اللّه سبحانه ، يقول سبحانه نقلاً عن يوسف (عليه السلام) : ( وَما أُبَرِّىَُ نَفْسِي إِنَّ النَّفس لاََمّارةٌ بالسُوء إِلاّ مَا رَحِمَ رَبّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيم ) (1) .
  فما أبرأ يوسف نفسه عن أمرها بالسوء ، وإنّما كفّها عن ارتكاب السوء ، لاَنّ النفس طبعت على حب الشهوات التي تدور عليها رحى الحياة.
  والاَخلاق جاءت لتعديل ذلك الميل ، وجعلها في مسير السعادة وحفظها عن الاِفراط و التفريط ، فالمادية نادت بالانصياع لرغبات اللّذات مهما أمكن ، والرهبانية نادت بكبح جماح اللذات والشهوات والعزوف عن الحياة واللوذ في الكهوف والاَديرة ، ولكن الاِسلام راح يدعو إلى منهج وسط بينهما ، ففي الوقت الذي يدعو إلى أكل الطيّبات ويندّد بمن يحرّمها ، ويقول : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَة اللّهِ الّتي أَخْرجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيّباتِ مِنَ الرِّزْق ) (2) .
  يأمر بكبح جماح النفس عن ارتكاب المعاصي والسيئات التي توجب الفوضى في المجتمع وتسوقه إلى الانحلال الاَخلاقي.

2 ـ النفس اللوّامة
  النفس اللوامة وهي الضمير الذي يوَنّب الاِنسان على ما اقترفه من السيئات و الآثام خصوصاً بعد ما يفيق من سكراتها فيجد نفسه تنحدر في دوامة الندم على ما ارتكبه وإنابة إلى الحقّ ، وهذا يدل على أنّ النفس ممزوجة بالميل إلى الشهوات ،

--------------------
(1) يوسف : 53 .
(2) الاَعراف : 32 .

الأقسام في القرآن _ 125 _
  وفي الوقت نفسه فيها ميل إلى الحقّ والعدل ، ولكلّ تجلّـي خاص ، فانّ غلبة الشهوات يحول دون ظهور نور العقل فيقترف المعاصي والآثام ، ولكنّه ما إن تخمد شهوته ، حينها يصفو أمامه جمال الحياة وتنكشف مضرات اللّذة فتستيقظ النفس اللوامة وتأخذ باللوم والعذل إلى حد ربما تدفع بصاحبها إلى الانتحار ، لعدم تحمله وطأة تلك الجريمة.
  وهذه النفس حيّة يقظة لا تتصدع بكثرة الذنوب وإن كانت تضعف بممارستها.

3 ـ النفس المطمئنّة
  وهي النفس التي توصلها النفس اللوّامة إلى حد لا تعصف بها عواصف الشهوة ، وتطمئن برحمة الرب وتحس بالمسوَولية الموضوعة على عاتقها أمام اللّه وأمام المجتمع ، يقول سبحانه : ( يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّة ) (1) فصاحب هذه النفس يمتلىَ بالسرور والفرح عند الطاعة وتجد في صميمها لذة للطاعة وحلاوة للعبادة لا يمكن وصفها بالقلم واللسان.
  وبعبارة أُخرى : النفس المطمئنّة هي التي تسكن إلى ربها وترضى بما رضي به ، فترى نفسها عبداً لا يملك لنفسه شيئاً من خير أو شر أو نفع أو ضر ، ويرى الدنيا دار مجاز ، وما يستقبله فيها من غنى أو فقر أو أي نفع وضر ، ابتلاء وامتحاناً إلهياً ، فلا يدعوه تواتر النعم عليه إلى الطغيان ، وإكثار الفساد ، والعلو والاستكبار ، ولا يوقعه الفقر والفقدان في الكفر وترك الشكر ، بل هو في مستقر من العبودية لا

--------------------
(1) الفجر : 27 ـ 28.

الأقسام في القرآن _ 126 _
  ينحرف عن مستقيم صراطه بإفراط أو تفريط (1).
  وهناك كلمة قيمة للحكيم محمد مهدي النراقي حول واقع النفوس الثلاث ، يقول : والحقّ انّها أوصاف ثلاثة للنفس بحسب اختلاف أحوالها ، فإذا غلبت قوتها العاقلة على الثلاثة الاَُخر ، وصارت منقادة لها مقهورة منها ، وزال اضطرابها الحاصل من مدافعتها سمّيت (مطمئنة) ، لسكونها حينئذٍ تحت الاَوامر والنواهي ، وميلها إلى ملائماتها التي تقتضي جبلتها ، وإذا لم تتم غلبتها وكان بينها تنازع وتدافع ، وكلما صارت مغلوبة عنها بارتكاب المعاصي حصلت للنفس لوم وندامة سمّيت (لوامة) ، وإذا صارت مغلوبة منها مذعنة لها من دون دفاع سميت (أمّارة بالسوء) لاَنّه لما اضمحلت قوتها العاقلة وأذعنت للقوى الشيطانية من دون مدافعة ، فكأنّما هي الآمرة بالسوء (2) .

4 ـ النفس الراضية المرضية
  وهي النفس المتكاملة الراضية من ربّها رضى الرب منها ، واطمئنانها إلى ربّها يستلزم رضاها بما قدّر وقضى تكويناً أو حكم به تشريعاً ، فلا تسخطها سانحة ولا تزيغها معصية ، وإذا رضى العبد من ربّه ، رضى الرب منه ، إذ لا يسخطه تعالى إلاّ خروج العبد من زي العبودية ، فإذا لزم طريق العبودية استوجب ذلك رضى ربّه ولذا عقب قوله : (راضية) بقوله : (مرضية).
  قوله تعالى : ( فَادْخُلِي فِي عِبادي * وَادْخُلي جَنّتي ) تفريع على قوله : ( ارجعي إِلى رَبِّكِ ) وفيه دلالة على أنّ صاحب النفس المطمئنّة في زمرة عباد

--------------------
(1) الميزان : 20|285.
(2) جامع السعادات : 1|63 ـ 64 .

الأقسام في القرآن _ 127 _
  اللّه حائز مقام العبودية ، وذلك انّه لما اطمأنّ إلى ربّه انقطع عن دعوى الاستقلال ورضى بما هو الحقّ من ربّه فرأى ذاته وصفاته وأفعاله ملكاً طلقاً لربّه فلم يرد فيما قدر وقضى ، ولا فيما أمر ونهى ، إلاّ ما أراده ربّه ، وهذا ظهور العبودية التامة في العبد ، ففي قوله : ( فَادْخُلي في عِبادي ) تقرير لمقام عبوديتها.
  وفي قوله : ( وادْخُلي جَنَّتي ) تعيين لمستقرها ، وفي إضافة الجنة إلى ضمير المتكلم تشريف خاص ، ولا يوجد في كلامه تعالى إضافة الجنة إلى نفسه تعالى وتقدس إلاّفي هذه الآية ، (1) هذا كلّه حول المقسم به .
  وأمّا المقسم عليه : فهو محذوف معلوم بالقرينة أي (لتبعثنّ) وإنّما حذف للدلالة على تفخيم اليوم وعظمة أمره ، قال تعالى : ( ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالاََرْضِ لا تَأْتيكُمْ إِلاّ بَغْتَة ) (2) وقال : ( إِنَّ السّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخفِيها لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى ) (3) ، وقال : ( عَمّ يَتَساءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ العَظيم ) (4) (5) .
  وأمّا وجه الصلة بين المقسم به والمقسم عليه ، فواضح ، فانّ الاِنسان إذا بعث يوم القيامة يلوم نفسه لاَجل ما اقترف من المعاصي ، إذ في ذلك الموقف الحرج تنكشف الحجب ويقف الاِنسان على ما اقترف من المعاصي والخطايا ، فيندم على ما صدر منه قال سبحانه : ( وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الاََرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمّا رَأَوُا العَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (6) ، وقال سبحانه : ( وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَروا بَلْ مَكْرُ اللَّيلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نكفُرَ باللّهِ وَنَجْعل لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَة لَمّا رَأَوا العَذابَ وَجَعَلْنَا الاََغلالَ في أَعْناقِ الَّذينَ كَفَرُوا هَل يُُجْزونَ إِلاّ ما كانوا يَعْمَلُونَ ) (7) .
  وبالجملة فيوم القيامة يوم الندم والملامة ، ولات حين مناص .

--------------------
(1) الميزان : 20|286.
(2) الاَعراف : 187.
(3) طه : 15.
(4) النبأ : 1 ـ 2 .
(5) الميزان : 20|104 .
(6) يونس : 54 .
(7) سبأ : 33 .

الأقسام في القرآن _ 128 _
الفصل الثامن : القسم في سورة المرسلات
  لقد حلف سبحانه بأوصاف الملائكة ، وقال :
  أ : ( وَالمُرسَلاتِ عُرْفاً ) .
  ب : ( فَالعاصِفاتِ عَصْفاً ) .
  ج : ( وَالنّاشِراتِ نَشْراً ) .
  د : ( فَالفارِقاتِ فَرْقاً ) .
  هـ : ( فَالْمُلْقِياتِ ذِكراً * عُذْراً أو نُذْراً * إِنَّما تُوعَدونَ لَواقعٌ ) (1) .
  حلف سبحانه في هذه الآيات بأُمور يعبّر عنها بـ : (المرسلات ، فالعاصفات ، والناشرات ، فالفارقات ، فالملقيات ذكراً عذراً أونذراً.
  وقد اختلفت كلمة المفسّرين في تفسير هذه الاَقسام ، وقد غلب عليهم تفسيرها بالرياح المرسلة العاصفة الناشرة ، بيد أنّوحدة السياق تبعثنا إلى تفسيرها بأمر واحد تنطبق عليه هذه الصفات ، فنقول :
  1 ـ ( المُرْسَلاتِ عُرفاً ) أي أقسم بالجماعات المرسلات من ملائكة الوحي ، والعرف ـ بالضم فالسكون ـ الشعر الثابت على عنق الفرس ويشبه به الاَُمور إذا تتابعت يقال جاءُوك كعرف الفرس ، يقول سبحانه : ( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ

--------------------
(1) المرسلات : 1 ـ 7.

الأقسام في القرآن _ 129 _
  بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) (1) ، ومع ذلك فقد فسر بالرياح المرسلة المتتابعة.
  2 ـ ( فَالعاصِفاتِ عَصْفاً ) والعصف هو سرعة السير ، والريح العاصفة بمعنى سرعة هبوبها ، والمراد اقسم بالملائكة الذين يرسلون متتابعين فيسرعون في سيرهم كالرياح العاصفة.
  ومع ذلك فسر بالرياح الشديدة الهبوب.
  3 ـ ( وَالنّاشِراتِ نَشْراً ) قسم آخر ، والمراد نشر الصحيفة والكتاب ، والمعنى أقسم بالملائكة الناشرين للصحف المكتوب عليها الوحي للنبي ليتلقاه ، ومع ذلك فقد فسّرت بالرياح التي تنشر السحاب نشراً للغيث كما تلقحه للمطر.
  4 ـ ( فَالفارِقات فَرقاً ) المراد به الملائكة الذين يفرقون بين الحقّوالباطل والحلال والحرام ، وذلك لاَجل حمل الوحي المتكفّل ببيان الحقّ والباطل ومع ذلك فقد فسّر بالرياح التي تفرق بين السحاب فتبدّده.
  5 ـ ( فَالْمُلْقياتِ ذِكراً ) المراد به الملائكة ، تلقي الذكر على الاَنبياء وتلقيه الاَنبياء إلى الاَُمم.
  وعلى ذلك فالمراد بالذكر هو القرآن يقرأونه على النبي ، أو مطلق الوحي النازل على الاَنبياء المتلو عليهم.
  ثمّ يبّن انّالغاية من إلقاء الوحي أحد الاَمرين إمّا الاِعذار أو الاِنذار ، والاِعذار الاِتيان بما يصير به معذوراً ، والمعنى انّه يلقون الذكر لتكون عذراً لعباده الموَمنين

--------------------
(1) النحل : 2 .

الأقسام في القرآن _ 130 _
  بالذكر وتخصيصاً لغيرهم.
  وبعبارة أُخرى يلقون الذكر ليكون إتماماً للحجة على المكذبين وتخويفاً لغيرهم ، هذا هو الظاهر من الآيات.
  وأمّا المقسم عليه فهو قوله : ( إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِع ) وما موصولة والخطاب لعامة البشر ، والمراد إنّما توعدون يوم القيامة بما فيه من العقاب والثواب أمر قطعي وواقع وإنّما عبر بواقع دون كائن ، لاَنّه أبلغ في التحقّق.
  ثمّ إنّ الصلة بين المقسم به والمقسم عليه واضحة ، لاَنّ أهم ما تحمله الملائكة وتلقيه هو الدعوة إلى الاِيمان بالبعث والنشور ، ويوَيد ذلك قوله (عذراً أو نذراً) أي إتماماً للحجة على الكفار وتخويفاً للموَمنين كل ذلك يدل على معاد قطعي الوقوع يحتج به على الكافر ويجزي به الموَمن.
  وهناك بيان للعلاّمة الطباطبائي ، حيث يقول : من لطيف صنعة البيان في هذه الآيات الست انّها مع ما تتضمن الاِقسام لتأكيد الخبر الذي في الجواب تتضمن الحجة على مضمون الجواب وهو وقوع الجزاء الموعود ، فانّ التدبير الربوبي الذي يشير إليه القسم ، أعني : إرسال المرسلات العاصفات ونشرها الصحف وفرقها وإلقاءها الذكر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تدبير لا يتم إلاّمع وجود التكليف الاِلهي والتكليف لا يتم إلاّمع تحتم وجود يوم معه للجزاء يجازي فيه العاصي والمطيع من المكلفين.
  فالذي أقسم تعالى به من التدبير لتأكيد وقوع الجزاء الموعود هوبعينه حجّة على وقوعه كأنّه قيل : اقسم بهذه الحجّة انّ مدلولها واقع (1) .

-------------------
(1) الميزان : 20|147.