الكتاب المكنون إلا ّالمطهرون ، وربما يوَيد هذا الوجه بأنّ الآية سيقت تنزيهاً للقرآن من أن ينزل به الشياطين ، وانّ محله لا يصل إليه ، فلا يمسه إلاّالمطهرون ، فيستحيل على أخابث خلق اللّه وأنجسهم أن يصلوا إليه أو يمسّوه ، قال تعالى : ( وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطين * وَما يَنْبَغي لَهُمْ وَما يَسْتَطيعُون ) (1) .
  د : ( تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمين ) وهذا هو الذي يركز عليه القرآن في مواقف مختلفة ، وانّه كتاب اللّه وليس من صنع البشر.
  وأمّا الصلة بين القسم والمقسم به : فهو واضح ، فلاَنّ النجوم بمواقعها أي طلوعها وغروبها يهتدي بها البشر في ظلمات البر والبحر ، والقرآن الكريم كذلك يهتدي به الاِنسان في ظلمات الجهل والغي ، فالنجوم مصابيح حسّية في عالم المادة كما أنّ آيات القرآن مصابيح معنوية في عالم المجردات.
  إكمال إنّه سبحانه قال : ( فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُوم ) فالمراد منه القسم بلا شك ، بشهادة انّه قال بعده : ( وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظيم ) فلو كان معنى الآية هو نفي القسم فلا يناسب مابعده حيث يصفه بأنّه حلف عظيم ، وقد اختلف المفسرون في هذه الآيات ونظائرها ، إلى أقوال :
  1 ـ (لا) زائدة ، مثلها قوله سبحانه : ( لئلاّ يَعْلَم ) .
  2 ـ أصلها لاَقسم بلام التأكيد ، فلمّا أشبعت فتحتها صارت (لا ) كما في الوقف.
  3 ـ لا نافية بمعنى نفي المعنى الموجود في ذهن المخاطب ، ثمّ الابتداء

--------------------
(1) الشعراء : 210 ـ 211.

الأقسام في القرآن _ 82 _
  بالقسم ، كما نقول : لا واللّه لا صحة لقول الكفار ، أقسم عليه.
  ثمّ إنّه سبحانه يصف هذا القسم بكونه عظيماً ، كما في قوله (و انّه لقسم لو تعلمون عظيم) ، فقوله : (عظيم) وصف (ا لقسم) أُخر لحفظ فواصل الآيات.
  وهذا القسم هو القسم الوحيد الذي وصفه سبحانه بأنّه عظيم ، فالحديث هنا هو حديث على الاَبعاد ، أبعاد النجوم عنّا ، وعن بعضها البعض ، في مجرّتنا ، وفي كل المجرّات ، ولاَنّها كلّها تتحرك ، فانّ الحديث عن مواقعها يصير أيضاً حديثاً على مداراتها ، وحركاتها الاَُخرى العديدة ، وسرعاتها ، وعلى علاقاتها بالنجوم الاَُخرى ، وعلى القوى العظيمة والحسابات المعقدة ، التي وضعت كلّ نجم في موقعه الخاص به وحفظته ، في علاقات متوازنة ، دقيقة ، محكمة ، فهي لا يعتريها الاضطراب ، ولا تتغير سننها وقوانينها ، وهي لا تسير خبط عشواء أو في مسارات متقاطعة أو متعارضة بل هي تسير كلّها بتساوق وتناغم وانسجام وانتظام تامّين دائمين ، آيات على قدرة القادر سبحانه (1).
  يقول الفلكيون : إنّ من هذه النجوم والكواكب التي تزيد على عدة بلايين نجم ، ما يمكن روَيته بالعين المجردة ، وما لا يرى إلاّ بالمجاهر والاَجهزة ، وما يمكن أن تحس به الاَجهزة دون أن تراه ، هذه كلّها تسبح في الفلك الغامض ، ولا يوجد أيّاحتمال أن يقترب مجال مغناطيسي لنجم من مجال نجم آخر ، أو يصطدم كوكب بآخر إلاّ كما يحتمل تصادم مركب في البحر الاَبيض المتوسط بآخر في المحيط الهادي يسيران في اتجاه واحد وبسرعة واحدة ، وهو احتمال بعيد وبعيداً جداً ، إن لم يكن مستحيلاً (2).

--------------------
(1) أسرار الكون في القرآن : 192.
(2) اللّه والعلم الحديث : 24.

الأقسام في القرآن _ 83 _
الفصل الثامن : القسم بالسماء ذات الحبك
  حلف سبحانه في سورة الذاريات بأُمور خمسة ، وجعل للاَربعة الاَُوَل جواباً خاصّاً ، كما جعل للخامس من الاَقسام جواباً آخر ، وبما انّالمقسم عليه متعدّد فصّلنا القسم الخامس عن الاَقسام الاَربعة ، وعقدنا له فصلاً في ضمن فصول القسم المفرد ، قال سبحانه : ( وَالذّارياتِ ذَرْواً * فَالحامِلاتِ وِقْراً * فَالجارِياتِ يُسْراً * فالمُقَسِّماتِ أَمراً * إِنّما تُوعَدُونَ لَصادِق * وإنّ الدِّينَ لَواقِع ) (1) .
  ترى أنّه ذكر للاَقسام الاَربعة جواباً خاصاً ، أعني قوله : ( إِنّما تُوعدون لَصادق * وانّ الدين لواقع ) .
  ثمّ شرع بحلف آخر ، وقال : ( وَالسَّماءِ ذات الحُبُكِ *إِنَّكُم لَفِي قَولٍ مُختَلِف ) (2).
  فهناك قسم خامس وهو ( وَالسَّماءِ ذات الحُبُكِ ) وله جواب خاص لا يمت بجواب الاَقسام الاَربعة وهو قوله : ( إِنَّكُم لَفِي قَولٍ مُختَلِف ) .

--------------------
(1) الذاريات : 1 ـ 6.
(2) الذاريات : 7 ـ 8.

الأقسام في القرآن _ 84 _
تفسير الآيات
  الحبك جمع الحباك ، كالكتب جمع كتاب ، تستعمل تارة في الطرائق ، كالطرائق التي ترى في السماء ، وأُخرى في الشعر المجعد ، وثالثة في حسن أثر الصنعة في الشيء واستوائه.
  قال الراغب : ( وَالسَّماءِ ذات الحُبُكِ ) أي ذات الطرائق ، فمن الناس من تصور منها الطرائق المحسوسة بالنجوم والمجرة.
  ولعلّ المراد منه هو المعنى الاَوّل أي السماء ذات الطرائق المختلفة ، ويوَيده جواب القسم ، وهو اختلاف الناس وتشتت طرائقهم ، كما في قوله : ( إِنَّكُم لَفِي قَولٍ مُختَلِف ) ، و ربما يحتمل أنّ المراد هو المعنى الثالث أي أقسم بالسماء ذات الحسن والزينة ، نظير قوله تعالى : ( إِنّا زَيَّنا السَّماءَ الدُّنيا بزِينةٍ الكَواكِب ) (1)
  ولكنه لا يناسبه الجواب ، إذ لا يصحّ أن يحلف حالف بالاَمواج الجميلة التي ترتسم بالسحب أو بالمجرّات العظيمة التي تبدو كأنّها تجاعيد الشعر على صفحة السماء ، ثمّ يقول : ( إِنَّكُم لَفِي قَولٍ مُختَلِف ) ، أي إنّكم متناقضون في الكلام.
  وعلى كلّ حال فالمقسم عليه هو التركيز على أنّهم متناقضون في الكلام ، فتارة ينسبون عقائدهم إلى آبائهم وأسلافهم فينكرون المعاد ، وأُخرى يستبعدون إحياء الموتى بعد صيرورتها عظاماً رميمة ، وثالثة يرفضون القرآن والدعوة النبوية ويصفونه بأنّه قول شاعر ، أو ساحر ، أو مجنون ، أو مما علّمه بشر ، أو هي من أساطير الاَوّلين.
  وهذا الاختلاف دليل على بطلان ادّعائكم إذ لا تعتمدون على دليل خاص ،

--------------------
(1) الصافات : 6.

الأقسام في القرآن _ 85 _
  فانّ تناقض المدعي في كلامه أقوى دليل على بطلانه ونفاقه.
  ثمّ إنّه سبحانه يقول : إنّ الاِعراض عن الاِيمان بالمعاد ليس أمراً مختصاً بشخص أو بطائفة ، بل هو شيمة كل مخالف للحق ، يقول : ( يُوَْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِك ) (1).
  والافك : الصرف ، والضمير في (عنه) يرجع إلى الكتاب من حيث اشتماله على وعد البأس والجزاء أي يصرف عن القرآن من صرف وخالف الحق.
  وأمّا الصلة بين المقسم به والمقسم عليه : فقد ظهر مما ذكرنا ، لما عرفت من أنّمعنى الحبك هو الطرائق المختلفة المتنوعة ، فناسب أن يحلف به سبحانه على اختلافهم وتشتت آرائهم في إنكارهم نبوّة النبي ورسالته والكتاب الذي أنزل معه والمعاد الذي يدعو إليه.

--------------------
(1) الذاريات : 9.

الأقسام في القرآن _ 86 _
القسم الثاني : القسم المتعدّد وفيه فصول :
الفصل الاَوّل : القسم في سورة الصافات

  حلف سبحانه بالملائكة في السور الاَربع التالية :
  1 ـ الصافات ، 2 ـ الذاريات ، 3 ـ المرسلات ، 4 ـ النازعات.
  وليس المقسم به هو لفظ الملك أو الملائكة ، وإنّما هو الصفات البارزة للملائكة وأفعالها ، وإليك الآيات :
  1 ـ ( وَالصّافاتِ صَفّاً * فَالزّاجراتِ زَجْراً * فَالتّالياتِ ذِكراً * إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحد ) (1).
  2 ـ ( والذّارِياتِ ذَرْواً * فَالحامِلاتِ وِقْراً * فَالجارِياتِ يُسراً * فَالمُقَسِّماتِ أَمْراً * إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادق * وَانَّ الدِّين لواقع ) (2) .
  3 ـ ( وَالْمُرسَلات عُرفاً * فَالعاصِفاتِ عَصْفاً * وَالنّاشراتِ نَشْراً * فالفارِقات فَرقاً * فالمُلقِياتِ ذِكراً * عُذراً أَو نُذراً * إنّما تُوعَدُونَ لَواقِع ) (3) .

--------------------
(1) الصافات : 1 ـ 4 .
(2) الذاريات : 1 ـ 6.
(3) المرسلات : 1 ـ 7.

الأقسام في القرآن _ 87 _
  4 ـ ( وَالنّازِعاتِ غَرْقاً * وَالنّاشِطاتِ نَشْطاً * وَالسّابِحاتِ سَبْحاً * فَالسّابِقاتِ سَبْقاً * فَالمُدَبِّراتِ أَمْراً * يَوْمَ تَرجُف الراجِفَة * تَتْبَعُها الرّادِفَة ) (1).
  وهانحن نبحث عن أقسام سورة الصافات والذاريات في فصلين متتالين ونحيل بحث أقسام سورة المرسلات والنازعات إلى محلها حسب ترتيب السور.
  وقبل الخوض في تفسير الآيات نقدم شيئاً من التوحيد في التدبير :
  إنّ من مراتب التوحيد في الربوبية والتدبير ، بمعنى أنّه ليس للعالم مدبّر سواه ، يقول سبحانه : ( إِنَّ رَبّكُمُ اللّهُ الّذِي خَلَق السَّمواتِ وَالاََرضَ في سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ استَوى عَلى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الاََمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرون ) (2) .
  فصدر الآية يركّز على حصر الخالق في اللّه ، كما يركز على أنّه هو المدبّر ، وانّه لو كان هناك سبب في العالم (شفيع) فإنّما هو يوَثر بإذنه سبحانه ، فاللّه هو الخالق وهوالمدبّر ، قال سبحانه : ( اللّهُ الّذي رَفَعَ السَّمواتِ بِغَيْر عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ كُلٌّ يَجرِي لاََجَلٍ مُسمّى يُدبِّرُ الاََمْرَ يُفصِّلُ الآيات لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُون ) (3).
  ويظهر من الآيات الكريمة أنّالعرب في العصر الجاهلي كانوا موحّدين في الخالقية ولكن مشركين في الربوبية والتدبير ، وكانوا ينسبون التدبير إلى الآلهة المكذوبة ، ولذلك قرر سبحانه في الآيتين كلتا المرتبتين من التوحيد ، وانّه خالق ، وانّه مدبر ، غير أنّمعنى التدبير في التوحيد ليس عزل العلل والاَسباب المادية

--------------------
(1) النازعات : 1 ـ 7.
(2) يونس : 3 .
(3) الرعد : 2 .

الأقسام في القرآن _ 88 _
  والمجردة في تحقّق العالم وتدبيره ، بل المراد انّ للكون مدبراً قائماً بالذات متصرفاًكذلك لا يشاركه في التدبير شيء ، ولو كان هناك مدبر وحافظ فإنّما هو يدبر بأمره وإذنه ، فعندما يُحصر القرآن الكريم التدبير في اللّه يريد التدبير على وجه الاستقلال ، أي من يدبّر بنفسه غير معتمد على شيء ، وأمّا المثبت لتدبير غيره ، فالمراد منه أنّه يدبّر بأمره وإذنه وحوله وقوته على النحو التبعي ، فكلّمدبِّر في الكون فهو مَظْهر أمره ومُنفِّذ إرادته ، وقد أوضحنا ذلك في الجزء الاَوّل من مفاهيم القرآن.
  ويظهر من غير واحد من الآيات أنّ الملائكة من جنوده سبحانه وانّها وسائط بين الخالق والعالم ، وانّهم يقومون ببعض الاَعمال في الكون بأمر من اللّه سبحانه ، وستتضح لك أعمالهم في إدارة الكون في تفسير هذه الآية.
  إنّ للعلاّمة الطباطبائي كلاماً في كون الملائكة وسائط بينه سبحانه و بين الاَشياء ، حيث يقول : الملائكة وسائط بينه تعالى و بين الاَشياء بدءاً وعوداً ، على ما يعطيه القرآن الكريم ، بمعنى انّهم أسباب للحوادث فوق المادية في العالم المشهود قبل حلول الموت والانتقال إلى نشأة الآخرة وبعده.
  أمّا في العود ، أعني : حال ظهور آيات الموت ، وقبض الروح ، وإجراء السوَال ، وثواب القبر وعذابه ، وإماتة الكل بنفخ الصور وإحيائهم بذلك ، والحشر وإعطاء الكتاب ، ووضع الموازين ، والحساب ، والسوق إلى الجنةوالنار ، فوساطتهم فيها غني عن البيان ، الآيات الدالة على ذلك كثيرة لا حاجة إلى إيرادها ، والاَخبار المأثورة فيها عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمّة أهل البيت (عليهم السلام) فوق حد الاِحصاء.
  وكذا وساطتهم في مرحلة التشريع من النزول بالوحي ودفع الشياطين عن

الأقسام في القرآن _ 89 _
  المداخلة فيه وتسديد النبي وتأييد الموَمنين وتطهيرهم بالاستغفار.
  وأمّا وساطتهم في تدبير الاَُمور في هذه النشأة فيدل عليها ما في مفتتح هذه السورة من إطلاق قوله : ( والنازِعاتِ غَرقاً * وَالناشِطاتِ نَشطاً * وَالسّابِحاتِ سَبحاً * فَالسابِقاتِ سَبْقاً * فَالمُدبِّراتِ أَمْراً ) (1) .

الصافات والقسم بالملائكة
  لقد حلف سبحانه بوصف من أوصاف الملائكة ، وقال :
  أ : ( وَالصّافاتِ صَفّاً ) .
  ب : ( فَالزّاجِراتِ زَجْراً ) .
  ج : ( فالتّاليات ذِكراً * إِنَّ إلهَكُم لواحِد ) (2).
  وكل هذه الثلاثة مقسم به ، والمقسم عليه هو قوله : ( إِنَّ إلهكم لواحد ) وإليك تفسير المقسم به فيها.
  فالصافات : جمع صافّة : وهي من الصف بمعنى جعل الشيء على خط مستو ، يقول سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ في سَبِيلِهِ صَفّا ) (3) والزاجرات من الزجر ، بمعنى الصرف عن الشيء بالتخفيف والنهي ، والتاليات من التلاوة ، وهي جمع تال أو تالية ، غير أنّ المهم بيان ما هو المقصود من هذه العناوين ، ولعل الرجوع إلى القرآن الكريم يزيح الغموض عن كثير منها.
  يقول سبحانه : حاكياً عن الملائكة : ( وَما مِنّا إِلاّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُوم * وَإِنّا لَنَحْنُ

--------------------
(1) الميزان : 20|182 ـ 183.
(2) الصافات : 1 ـ 4 .
(3) الصف : 4 .

الأقسام في القرآن _ 90 _
  الصّافُّون * وَإِنّا لَنَحْنُ المُسَبِّحُون ) (1) فينطبق على الملائكة أنّهم الصافّون حول العرش ينتظرون الاَمر والنهي من قبل اللّه تعالى.
  نعم وصف سبحانه الطير بالصافات ، وقال : ( وَالطَّيرَ صافّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسبِيحَهُ ) (2) .
  وقال : ( أَوَ لَمْ يَرَوا إِلَى الطَّيْرِ صافّاتٍ وَيَقْبضْنَ ) (3) كما أمر سبحانه على أن ينحر البدن وهي صواف ، قال سبحانه : ( وَالبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ لَكُمْ فِيها خَيرٌ فاذْكُرُوا اسمَ اللّهِ عَلَيْها صَوَافّ ) (4) .
  والمعنى : ان تعقل إحدى يديها وتقوم على ثلاث فتنحر كذلك فيسوي بين أظلفتها لئلاّ يتقدم بعضها على بعض.
  وعلى كلّ تقدير فمن المحتمل أن يكون المحلوف به هو الملائكة صافات ، ويمكن أن يكون المحلوف به كلّ ما أطلق عليه القرآن ذلك الاسم ، وإن كان الوجه الاَوّل هو الاَقرب.
  وأمّا الثانية : أي الزاجرات : فليس في القرآن ما يدل على المقصود به ، فلا محيص من القول بأنّ المراد الجماعة الذين يزجرون عن معاصي اللّه ، ويحتمل أن ينطبق على الملائكة حيث يزجرون العباد عن المعاصي بالاِلهام إلى قلوب الناس ، قال سبحانه : ( وَما أُ نْزِلَ عَلى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ) (5) كما أنّ الشياطين يوحون إلى أوليائهم

--------------------
(1) الصافات : 164 ـ 166.
(2) النور : 41.
(3) الملك : 19.
(4) الحج : 36.
(5) البقرة : 102.

الأقسام في القرآن _ 91 _
  بالدعوة إلى المعاصي ، قال سبحانه : ( وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوّاً شَياطِينَ الاِِنْسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بعضٍ زُخْرُفَ الْقَولِ غُرُوراً ) (1).
  والتاليات : هن اللواتي يتلون الوحي على النبي الموحى إليه.
  فالمراد من الجميع الملائكة ، وثمة احتمال آخر وهو انّ المراد من الصفات الثلاث هم العلماء ، فانّهم هم الجماعة الصافة أقدامها بالتهجد وسائر الصلوات ، وهم الجماعة الزاجرة بالمواعظ والنصائح ، كما أنّهم الجماعة التالية لآيات اللّه والدارسة شرائعه.
  كما أنّ ثمة احتمالاً ثالثاً وهو : انّالمراد هم الغزاة في سبيل اللّه الذين يصفّون أقدامهم ، ويزجرون الخيل إلى الجهاد ، ويتلون الذكر ، ومع ذلك لا يشغلهم تلك الشواغل عن الجهاد.
  وأمّا المقسم عليه : فهو قوله سبحانه : ( إِنَّ إِلهكم لَواحد ) .
  والصلة بين المقسم به والمقسم عليه : هو أنّ الملائكة أو العلماء أو المجاهدين الذين وصفوا بصفات ثلاث هم دعاة التوحيد وروّاده وأبرز مصاديق من دعا إلى التوحيد على وجه الاِطلاق وفي العبادة خاصة.

--------------------
(1) الاَنعام : 112.

الأقسام في القرآن _ 92 _
الفصل الثاني : القسم في سورة الذاريات
  لقد حلف سبحانه بأُمور أربعة متتابعة وقال : ( وَالذّارِياتِ ذَرْواً) .
  ( فَالحامِلاتِ وِقْراً ) .
  ( فَالجارِياتِ يُسْراً ) .
  ( فَالمُقسِّمات أمراً * إِنّما تُوعدونَ لصادِقٌ * وإنَّ الدِّينَ لَواقِع ) (1) .
  ثمّ حلف بخامس فرداً أي قوله : ( وَالسَّماءِ ذاتِ الحُبُك ) .
  أمّا الاَوّل أعني : ( والذارِيات ذَرواً) فهي جمع ذارية ، ومعناها الريح التي تُنشر شيئاً في الفضاء ، يقول سبحانه : ( فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الاََرضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذَرُوهُ الرِّياح ) (2) .
  ولعل ّهذه قرينة على أنّ المراد من الذاريات هي الرياح.
  وأمّا الحاملات ، فهي ، من الحمل ، والوقر ـ على زنة الفكر ـ ذو الوزن الثقيل.
  والمراد منه السحب ، يقول سبحانه : ( هُوَ الَّذي يُريكُمُ البَرقَ خَوفاً وَطَمَعاً وَيُنشىَُ السَّحابَ الثِّقال ) (3) وقال سبحانه : ( حَتّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ

--------------------
(1) الذاريات : 1 ـ 6 .
(2) الكهف : 45.
(3) الرعد : 12.

الأقسام في القرآن _ 93 _
  مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الماء ) (1).
  وأمّا الجاريات ، فهي جمع جارية ، والمراد بها السفن ، بشهادة قوله سبحانه : ( حَتّى إِذا كُنْتُمْ في الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَة ) (2) وقال : ( وَالفُلْكِ الّتي تَجْري فِي البَحْرِ بِما يَنْفَعُ النّاس ) (3) وقال سبحانه : ( إِنّا لَمّا طَغا الماءُ حَمَلْناكُمْ في الجارِيَة ) (4).
  وأمّا المقسِّمات ، فالمراد الملائكة التي تقسم الاَرزاق بواسطتها التي ينتهي إليه التقسيم.
  يقول العلاّمة الطباطبائي : وإقسام بالملائكة الذين يعملون بأمره فيقسمونه باختلاف مقاماتهم ، فانّ أمر ذي العرش بالخلق والتدبير واحد ، فإذا حمله طائفة من الملائكة على اختلاف أعمالهم انشعب الاَمر وتقسم بتقسمهم ، ثمّ إذا حمله طائفة هي دون الطائفة الاَُولى تقسم ثانياً بتقسمهم وهكذا ، حتى ينتهي إلى الملائكة المباشرين للحوادث الكونية الجزئية فينقسم بانقسامها ويتكثر بتكثرها.
  والآيات الاَربع تشير إلى عامة التدبير حيث ذكرت انموذجاً ممّا يدبّر به الاَمر في البر وهو الذاريات ذرواً ، وانموذجاًممّا يدبّر به الاَمر في البحر وهو الجاريات يسراً ، وانموذجاً ممّا يدبّر به الاَمر في الجو وهو الحاملات وقراً ، وتمم الجميع بالملائكة الذين هم وسائط التدبير ، وهم المقسِّمات أمراً.
  فالآيات في معنى أن يقال : أُقسم بعامة الاَسباب التي يتمم بها أمر التدبير في

--------------------
(1) الاَعراف : 57.
(2) يونس : 22.
(3) البقرة : 164.
(4) الحاقة : 11.

الأقسام في القرآن _ 94 _
  العالم ان كذا كذا ، وقد ورد من طرق الخاصة والعامة عن علي (عليه السلام) تفسير الآيات الاَربع (1).
  وبذلك يعلم قيمة ما روي عن الاِمام أمير الموَمنين (عليه السلام) في تفسير الآية عندما سأله ابن الكوا عن هذه الاَقسام الاَربعة ـ وهو يخطب على المنبر ـ فقال :
  قال : ما الذاريات ذرواً ؟ قال (عليه السلام) : الرياح.
  قال : فالحاملات وقراً ؟ قال (عليه السلام) : السحاب.
  قال : فالجاريات يسراً ؟ قال : السفن.
  قال : فالمقسِّمات أمراً ؟ قال : الملائكة.
  ثمّ إنّه سبحانه حلف بالذاريات بواو القسم ، وحلف بالثلاثة بعطفها على الذاريات بالفاء فيحمل المعطوف معنى القسم أيضاً.
  هذا كلّه حول المقسم به.
  وأمّا المقسم عليه : هو قوله : ( إِنّما تُوعَدُونَ لَصادِق * وَإِنَّ الدِّين لواقع ) أي إنّما توعدون من الثواب و العقاب والجنة والنار لصادق ، أي صدق لابدّ من كونه فهو اسم الفاعل ، موضع المصدر ، وانّ الدين أي الجزاء لواقع والحساب لكائن يوم القيامة.
  وعلى ذلك ( إِنَّما تُوعَدونَ لَصادق ) جواب القسم ، وقوله : ( انّ الدين لواقع ) معطوف عليه بمنزلة التفسير ، والمعنى أقسم بكذا وكذا ، انّالذي توعدونه من يوم البعث وانّ اللّه سيجزيهم فيه بأعمالهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر لصادق وانّ الجزاء لواقع (2) .

--------------------
(1) الميزان : 18|365.
(2) الميزان : 18|366.

الأقسام في القرآن _ 95 _
  وأمّا وجه الصلة بين المقسم به والمقسم عليه هو انّه سبحانه أقسم بعامة الاَسباب التي يتم بها أمر التدبير في العالم ، لغاية أنّ هذا التدبير ليس سدى وبلا غاية ، والغاية هي يوم الدين والجزاء وعود الاِنسان إلى المعاد ، إذ لولا الغاية لاَصبح تدبير الاَمر في البر والبحر والجو وتدبير الملائكة شيئاً عبثاً بلا غاية ، فهو سبحانه يحاول أن يبين أنّما يقوم به من أمر التدبير لغاية البعث وانتقال الاِنسان من هذه الدار إلى دار أُخرى هو أكمل.
  وفي ختام البحث نود أن ننقل شيئاً عن عظمة الرياح والسحاب والتي كشف عنها العلم الحديث.
  فالرياح هي حركة الهواء الموجود في الطبقات السفلى من الجو ، إذا سارت متوازية مع سطح الاَرض ، وتختلف سرعة الرياح حتى تصل إلى مائة كيلومتر في الساعة فتسمى زوبعة ، وإذا زادت على مائة سمّيت إعصاراً ، وقد تصل سرعة الاَعصار إلى 240 كيلومتراً في الساعة ، والرياح هي العامل المهم في نقل بخار الماء وتوزيعه ، ومن تكاثف هذا البخار في الهواء بالتبريد ، بعد أن تصل حالته إلى ما فوق التشبع تتكون السحب ، ويختلف ارتفاع السحب على حسب نوعها ، فمنها ما يكون على سطح الاَرض كالضباب ، ومنها ما يكون ارتفاعه بعيداًإلى أكثر من 12 كيلو متراً ، كسحاب السيرس الرقيق. وعندما تكون سرعة الرياح الصاعدة أكثر من ثلاثين كيلومتراً في الساعة ، لا يمكن نزول قطرات المطر المتكون ، وذلك بالنسبة لمقاومة هذا الريح لها ، ورفعها معه إلى أعلى ، حيث ينموحجمها ، ويزداد قطرها ، ومتى بلغت أقطار النقط نصف سنتيمتر ، تتناثر إلى نقط صغيرة لا تلبث أن تكبر بدورها ، ثمّ تتجزأ بالطريقة السابقة وهكذا ... وكلما تناثرت هذه النقط ، تشحن بالكهرباء الموجبة وتنفصل الكهرباء

الأقسام في القرآن _ 96 _
  السالبة التي تحمل الرياح ... وبعد مدة تصير السحب مشحونة شحناً وافراً بالكهرباء ، فعندما تقترب الشحنتان بعضهما من بعض بواسطة الرياح كذلك يتم التفريغ الكهربائي وذلك بمرور شرارة بينهما ، ويستغرق وميض البرق لحظة قصيرة وبعده يسمع الرعد ، وهو عبارة عن الموجات الصوتية التي يحدثها الهواء ، وما هي إلاّبرهة حتى تخيّم على السماء سحابة المطر القاتمة اللون ، ثمّ تظهر نقط كبيرة من الماء تسقط على الاَرض ، وفجأة يشتد المطر ويستمر حتى تأخذ الاَرض ما قدر اللّه لها من الماء (1) .

--------------------
(1) اللّه والعلم الحديث : 135 ـ 136.

الأقسام في القرآن _ 97 _
الفصل الثالث : القسم في سورة الطور
  حلف سبحانه في سورة الطور بأُمور ستة ، وقال : ( وَالطُّور * وَكِتابٍ مَسْطُور * في رقٍّ مَنْشُور * وَالْبَيتِ المَعْمُور * وَالسَّقْفِ المَرْفُوع * وَالْبَحْرِ المَسْجُور * إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِع * ما لَهُ مِنْ دافِع ) (1) .

تفسير الآيات
  الطور : اسم جبل خاص ، بل اسم لكلّ جبل ، ولو قلنا بصحّة الاِطلاق الثاني ، فالمراد الجبل المخصوص بهذه التسمية لا كلّ جبل بشهادة كونه مقروناً بالاَلف واللام .
  ومسطور : من السطر وهو الصف من الكتابة ، يقال : سطَّر فلان كذا ، أي كتب سطراً سطراً .
  والظاهر انّ المراد من (مسطور) هنا هو المثبّت بالكتابة ، قال سبحانه ( كان َذلِكَ في الكِتابِ مَسْطُوراً ) ( أي مثبّتاً ومحفوظاً ) .
  ورقّ : ما يكتب فيه شبه الكاغد.

--------------------
(1) الطور : 1 ـ 8.

الأقسام في القرآن _ 98 _
  ومنشور : من النشر ، وهو البسط والتفريق ، يقال : نشر الثوب والصحيفة وبسطهما ، يقال : ( وَإِذا الصُّحُف نُشرت ) وقال سبحانه : ( وَإِلَيْهِ النُّشور ) .
  والمسجور : من السجر وهي تهييج النار ، يقال : سجرت التنور ، ومنه البحر المسجور ، وقوله : ( وإِذَا البِحارُ سُجِّرت ) وربما يفسر المسجور بالمملوء .
  والمراد من الطور ـ كما تشهد به القرائن ـ : هو الجبل المعروف الذي كلّم اللّه فيه موسى (عليه السلام) ، ولعلّه هو جبل طور سينين ، قال سبحانه : ( وَطُورِ سِينِين ) (1) .
  وقال سبحانه : ( وَنادَيْناه ُمِنْ جانِبِ الطُّورِ الاََيْمَن ) (2) وقال في خطابه لموسى (عليه السلام) : ( فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالواد المُقدَّس طُوىً ) (3) .
  وقال سبحانه : ( نُودي مِنْ شاطىَ الوادِ الاََيْمَنِ فِي البُقْعَةِ المُبارَكةِ مِنَ الشَّجَرة ) (4) .
  حك وهذه الآيات تثبت انّ المقسم به جبل معين ، ومع الوصف يحتمل أن يراد مطلق الجبل لما اودع فيه من أنواع نعمه ، قال تعالى : ( وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوقِها وَبارَك فِيها ) (5) .
  والمراد من كتاب مسطور : هو القرآن الكريم الذي كان يكتب في الورق المأخوذ من الجلد.
  وأمّا وصفه بكونه منشوراً مع أنّ عظمة الكتاب بلفظه ومعناه لا بخطه وورقه ، هو الاِشارة إلى الوضوح ، لاَنّ الكتاب المطوي لا يعلم ما فيه ، فقال هو في

--------------------
(1) التين : 2 .
(2) مريم : 52.
(3) طه : 12.
(4) القصص : 30.
(5) فصلت : 10.

الأقسام في القرآن _ 99 _
  رق منشور وليس كالكتب المطوية ، ومع ذلك يحتمل أن يراد منه صحائف الاَعمال ، وقد وصفه سبحانه بكونه منشوراً ، وقال : ( وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ كِتاباً يَلقاهُ مَنْشُوراً ) (1) كما يحتمل أن يراد منه اللوح المحفوظ الذي كتب اللّه فيه ما كان وما يكون و ما هو كائن تقرأه ملائكة السماء.
  وهناك احتمال رابع ، وهو انّ المراد هو التوراة ، وكانت تكتب بالرق وتنشر للقراءة ، ويوَيده اقترانه بالحلف بالطور.
  وامّا البيت المعمور : فيحتمل أن يراد منه الكعبة المشرفة ، فانّها أوّل بيت وضع للناس ، ولم يزل معموراً منذ أن وضع إلى يومنا هذا ، قال تعالى : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذي بِبَكَّة مُباركاً وَهُدى لِلْعالَمين ) (2) .
  ولعل وصفه بالعمارة لكونه معموراً بالحجاج الطائفين به والعاكفين حوله.
  وقد فسر في الروايات ببيت في السماء إزاء الكعبة تزوره الملائكة ، فوصفه بالعمارة لكثرة الطائفين به.
  والسقف المرفوع : والمراد منه هو السماء ، قال سبحانه : ( والسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعََ الْمِيزان ) (3) .
  وقال : ( اللّهُ الّذي رَفَعَ السَّمواتِ بِغَيْر عَمَدٍ تَرَونَها ) (4) .
  قال سبحانه : ( وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعرِضُون ) (5)
  ولعلّ المراد هو البحر المحيط بالاَرض الذي سيلتهب قبل يوم القيامة ثمّ ينفجر ،

--------------------
(1) الاِسراء : 13.
(2) آل عمران : 96.
(3) الرحمن : 7.
(4) الرعد : 2.
(5) الاَنبياء : 32.

الأقسام في القرآن _ 100 _
  قال سبحانه : ( وَإِذَا البِحارُ سُجِّرَت ) (1) ، وقال تعالى : ( وَإِذَا البِحارُ فُجِّرَت ) (2) .
  ثمّ إنّ هذه الاَقسام الثلاثة الاَُولى يجمعها شيء واحد وهو صلتها بالوحي وخصوصياته ، حيث إنّ الطور هو محل نزول الوحي ، والكتاب المسطور هو القرآن أو التوراة ، والبيت المعمور هو الكعبة أو البيت الذي يطوف به الملائكة الذين هم رسل اللّه.
  وأمّا الاثنان الآخران ، أعني : السقف المرفوع والبحر المسجور ، فهما من الآيات الكونية ومن دلائل توحيده ووجوده وصفاته.
  لكن الرازي ذهب إلى أنّالاَقسام الثلاثة التي بينها صلة خاصة ، هي الطور والبيت المعمور والبحر المسجور ، وإنّما جمعها في الحلف بها لاَنّها أماكن لثلاثة أنبياء ينفردون بها للخلوة بربهم والخلاص من الخلق والخطاب مع اللّه ، أمّا الطور فانتقل إليه موسى ، والبيت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، والبحر المسجور يونس (عليه السلام) ، وكل خاطب اللّه هناك ، فقال موسى : ( أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنّا إِنْ هِيَ إِلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاء ) (3) وقال أيضاً : ( أرني أنظر إليك ) ، واما نبيّنا محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقال : ( السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين لا أحصي ثناء عليك كما أثنيت على نفسك ) ، وأمّا يونس فقال : ( لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمين ) (4) فصارت الاَماكن شريفة بهذه الاَسباب وحلف اللّه تعالى بها.

--------------------
(1) التكوير : 6.
(2) الانفطار : 3.
(3) الاَعراف : 155.
(4) الاَنبياء : 87.

الأقسام في القرآن _ 101 _
  وأمّا ذكر الكتاب ، فانّ الاَنبياء كان لهم في هذه الاَماكن مع اللّه تعالى كلام ، والكلام في الكتاب واقترانه بالطور أدلّ دليل على ذلك ، لاَنّ موسى (عليه السلام) كان له مكتوب ينزل عليه وهوبطور.
  وأمّا ذكر السقف المرفوع ومعه البيت المعمور ليعلم عظمة شأن محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) (1) .
  وأمّا المقسم عليه فهو قوله : ( إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِع * ما لَهُ مِنْ دافِع ) (2) .
  وأمّا وجه الصلة بين المقسم به على تعدّده والمقسم عليه ، هو انّ المقسم عليه عبارة عن وقوع العذاب لا محالة وعدم القدرة على دفعه ، فإذاً ناسب أن يقسم بالكتاب أي القرآن والتوراة اللّذين جاء فيهما أخبار القيامة وحتميتها.
  كما ناسب أن يحلف بمظاهر القدرة وآيات العظمة كالسقف المرفوع والبحر المسجور حتى يعلم أنّصاحب هذه القدرة لقادر على تحقيق هذا الخبر ، وهو عبارة عن أنّ عذابه لواقع وليس له دافع.
  ويكفيك في بيان عظمة البحار أنّها تشغل حيّزاً كبيراً من سطح الاَرض يبلغ نحو ثلاثة أرباعه ، وتختلف صفات الماء عن الاَرض ، بسهولة تدفقه من جهة إلى أُخرى ، حاملاً الدفء أو البرودة ، وله قوة انعكاس جيدة لشعاع الشمس ، ولذا فانّ درجة حرارة البحار لا ترتفع كثيراً أثناءالنهار ، ولا تنخفض بسرعة أثناء الليل فلا تختلف درجة الحرارة أثناء الليل عن النهار بأكثر من درجتين فقط.
  ويقول أحد العلماء : إنّ البحر يباري الزمان في دوامه ، ويطاول الخلود في

--------------------
(1) تفسير الفخر الرازي : 28|240.
(2) الطور : 7 ـ 8.

الأقسام في القرآن _ 102 _
  بقائه ، تمر آلاف الاَعوام بل وعشرات الاَُلوف والملايين ، وهو في يومه هو أمسه وغده ، تنقلب الجبال أودية ، والاَودية جبالاً ، ويتحول التراب شجراً ، والشجر تراباً ، والبحر بحر لا يتحول ولا يتغير ، وقد دلت الاَبحاث العلمية انّ أقصى أعماق البحار تعادل أقصى علو الجبال (1) .
  كما ناسب أن يحلف بالطور ، لاَنّ بعض المجرمين كانوا يتصورون انّ الجبال الشاهقة ستدفع عنهم عذاب اللّه ، كما قال ابن نوح (عليه السلام) ( سَآوي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُني مِنَ الماء ) قال : ( لا عاصِمَ اليَوم مِنْ أَمْرِ اللّه إِلاّ مَنْ رَحِمَ ) (2)
  فحلف بالطور إيذاناً إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّهذه الجبال أقلّ من أن تدفع العذاب أو تحول بين اللّه ووقوع المعاد.
  كما يمكن أن يكون الحلف بالطور لاَجل كونه آية من آيات اللّه الدالة على قدرته التي لا تحول بينه و بين عذابه شيء .

--------------------
(1) اللّه والعلم الحديث : 75.
(2) هود : 43.

الأقسام في القرآن _ 103 _
الفصل الرابع : القسم في سورة القلم
  حلف سبحانه بالقلم ومايسطرون معاً مرّة واحدة ، وقال : ( ن * والقَلَمِ وَما يَسْطُرُون * ما أَنْتَ بِنعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُون * وَإِنَّ لَكَ لاََجْراً غَيْرَ مَمْنُون * وَإِنَّكَ لَعلى خُلُقٍ عَظيم ) (1) .
  وقبل تفسير الآيات نقدّم شيئاً وهو أنّ لفظة (ن) من الحروف المقطعة وقد تقدم تفسيرها.
  وهناك وجوه أُخرى نذكرها تباعاً :
  أ : (ن) هو السمكة التي جاء ذكرها في قصة يونس (عليه السلام) ( وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً ) (2) .
  ب : انّ المراد به هو الدواة ، ومنه قول الشاعر :

إذا ما الشوق يرجع بي اليهم      ألـقت الـنون بـالدمع iiالسجوم
  ج : انّ (ن) هو المداد الذي تكتب به الملائكة .
  ولكن هذه الوجوه ضعيفة ، لاَنّ الظاهر منها أنّها مقسم به ، وعندئذٍ يجب أن يجرّ لا أن يسكّن .

--------------------
(1) القلم : 1 ـ 4.
(2) الاَنبياء : 87.


الأقسام في القرآن _ 104 _
  يقول الزمخشري : وأمّا قولهم هو الدواة ، فما أدري أهو وضع لغوي أم شرعي ؟ ولا يخلو إذا كان اسماً للدواة ، من أن يكون جنساً أو علماً ، فإن كان جنساً فأين الاِعراب والتنوين ؟ وإن كان علماً فأين الاعراب ؟ وأيّهما كان فلابدّ له من موقع في تأليف الكلام (1) .
  وبذلك يعلم وجه تجريد (ن) عن اللاّم واقتران القلم بها .

تفسير الآيات
  1 ـ حلف سبحانه بالقلم ، وقال : ( والقَلَمِ وَما يَسْطُرُون ) وهل المراد منه جنس القلم الذي يكتب به من في السماء ومن في الاَرض ، قال تعالى : ( وَربُّكَ الاََكْرَم * الَّذي عَلَّمَ بِالقَلَم * عَلَّمَ الاِِنْسانَ مالَمْ يَعْلَم ) (2).
  فمنّ سبحانه وتعالى بتيسير الكتابة بالقلم ، كما منَّ بالنطق ، وقال : ( خَلَقَ الاِِنْسان * عَلَّمَهُ البَيان ) (3) .
  فالقلم والبيان نعمتان كبيرتان ، فبالبيان يخاطب الحاضرين ، كما أنّه بالقلم يخاطب الغائبين فتمكن بهما تعريف القريب والبعيد بما في قرارة ذهنه.
  وربما قيل : إنّ المراد هو القلم المعهود الذي جاء في الخبر : ( إنّ أوّل ما خلق اللّه هو القلم ) ولكنّه تفسير بعيد عن أذهان المخاطبين في صدر الاِسلام الذين لم يكونوا عارفين بأوّل ما خلق اللّه ولا بآخره.
  ثمّ إنّه سبحانه حلف بـ ( ما يسطرون ) ، فلو كانت (ما) مصدرية يكون المراد (وسطرهم) فيكون القسم بنفس الكتابة ، كما يحتمل أن يكون المراد

--------------------
(1) الكشاف : 4|126 ، تفسير سورة القلم .
(2) العلق : 3 ـ 5.
(3) الرحمن : 3 ـ 4.

الأقسام في القرآن _ 105 _
  المسطور والمكتوب ، وعلى ذلك حلف سبحانه بجنس القلم وبجنس الكتابة ، أو بجنس المكتوب ، كأنّه قيل : ( أحلف بالقلم وسطرهم أو مسطوراتهم ) .
  ثمّ إنّ في الحلف بالقلم والكتابة والمكتوب إلماعاً إلى مكانة القلم والكتابة في الاِسلام ، كما أنّ في قوله سبحانه : ( علّم بالْقَلم ) إشارة إلى ذلك ، والعجب أنّ القرآن الكريم نزل وسط مجتمع ساده التخلّف والجهل والاَُميّة ، وكان من يجيد القراءة والكتابة في العصر الجاهلي لا يتجاوز عدد الاَصابع ، وقد سرد البلاذري في كتابه ( فتوح البلدان ) أسماء سبعة عشر رجلاً في مكة ، وأحد عشر من يثرب (1) .
  وهذا ابن خلدون يحكي في مقدمته : أنّ عهد قريش بالكتابة لم يكن بعيداً ، بل كان حديثاً وقريباً بعهد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) (2) .
  ومع ذلك يعود القرآن ليوَكد بالحلف بالقلم على مكانة القلم والكتابة في الحضارة الاِسلامية ، وجعل في ظل هذا التعليم أمة متحضرة احتلّت مكانتها بين الحضارات ، وليس هذه الآية وحيد نسجها في الدعوة إلى القلم والكتابة بل ثمة آية أُخرى هي أكبر آية في الكتاب العزيز ، يقول سبحانه : ( يا أَيُّهَا الَّذينَ آمنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمهُ اللّهُ فَلْيَكْتُب ... ) (3) .
  كما أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حثّعلى كتابة حديثه الذي هو المصدر الثاني بعد القرآن الكريم :
  1 ـ أخرج أبو داود في سننه ، عن عبد اللّه بن عمرو ، قال : كنت أكتب كلّ

--------------------
(1) فتوح البلدان : 457 .
(2) مقدمة ابن خلدون : 418 .
(3) البقرة : 282.