المعنى (الشهادة للاَمثل) : ( فإن ظننت أنّاللّه عني بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحدين ، أفترى انّمن لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر يطلب اللّه شهادته يوم القيامة ، ويقبلها منه بحضرة جميع الاَُمم الماضية ؟ كلا : لم يعن اللّه مثل هذا من خلقه ، يعني الاَُمّة التي وجبت لها دعوة إبراهيم ( كنتم خير أُمّة أُخرجت للناس ) وهم الاَُمّة الوسطى ، وهم خير أُمّة أُخرجت للنّاس ) (1).

الحلف بالنبي كناية
  ربّما يحلف القرآن الكريم بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كناية ، قال سبحانه : ( لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَد * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَد * وَوالدٍ وَما وَلَد * لَقَدْ خَلَقْنَا الاِنْسانَ في كَبَد ) (2).
  والحِلُّ بمعنى المقيم وكأنّه سبحانه يقول : وأنت يا محمد مقيم به ، وهو محلك وهذا تنبيه على شرف البلد بشرف من حلّبه وهو الرسول الداعي إلى توحيده ، وإخلاص عبادته ، وبيان أنّ تعظيمه له وقسمه به لاَجله ولكونه حالاً فيه ، كما سميت المدينة طيبة لاَنّها طابت به حيّاً وميتاً (3).
  وكأنّ الآية تشير إلى المثل المعروف شرف المكان بالمكين ، وانّقداسة مكة والداعي إلى الحلف بها هو احتضانها للنبييقول العلاّمة الطباطبائي : والحل مصدر كالحلول بمعنى الاِفاضة والاستقرار في مكان ، والمصدر بمعنى الفاعل ، والمعنى : أقسم بهذا البلد ، والحال انّك حال به مقيم فيه ، وفي ذلك تنبيه على تشرّف مكة بحلوله فيها وكونها مولده ومقامه (4).

--------------------
(1) الميزان : 1|332.
(2) البلد : 1 ـ 4.
(3) مجمع البيان : 10|492.
(4) الميزان : 20|289.

الأقسام في القرآن _ 57 _
الفصل الرابع : القسم بالقرآن الكريم
  القرآن الكريم هو الكتاب السماوي الذي أنزله سبحانه على رسوله ليكون للعالمين نذيراً ، وبما أنّ القرآن كتاب هداية للناس ، فقد نال من الكرامة بمكان حلف به سبحانه فتارة بلفظ (القرآن) وأُخرى بلفظ (الكتاب).
  فقد حلف بالقرآن في ثلاث آيات :
  ( يس * وَالقُرآنِ الحَكيم * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * على صراطٍ مُسْتَقيم ) (1) .
  ( ص * وَالقُرآنِ ذي الذِّكْر * بَلِ الَّذينَ كَفَرُوا في عِزَّة وَشِقاق * كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلهِِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوا وَلاتَ حينَ مَناص * وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذّاب * أَجَعلَ الآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنّ هذا لشيءٌ عُجاب ) (2) .
  ( ق * وَالقُرآنِ المَجيد * بَلْ عَجِبُوا أنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الكافِرُونَ هذا شَيءٌ عَجيب ) (3) .

--------------------
(1) يس 1 ـ 4.
(2) ص : 1 ـ 5.
(3) ق : 1 ـ 2.


الأقسام في القرآن _ 58 _
  كما حلف سبحانه بلفظ الكتاب مرّتين ، وقال : ( حم * وَالكِتاب الْمُبين * إِنّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَةٍ مُبارَكةٍ إِنّا كُنّا مُنْذِرينَ * فِيها يُفرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكيم * أَمراً مِنْ عِنْدِنا إِنّا كُنّا مُرسِلين ) (1) .
  ( حم * وَالْكِتابِ الْمُبِينِ * إِنّا جَعَلْناهُ قُرآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ في أُمِّ الكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكيمٌ ) (2) .
  وقبل الخوض في تفسير الآيات نذكر أُموراً :
  الاَوّل : انّه سبحانه صدّر هذه الاَقسام بالحروف المقطعة كما هو واضح ، وهذا يوَيد أنّ كلمة يس من الحروف المقطعة ، والحروف المقطعة عبارة عن الحروف التي صدّر بها قسم من السور يجمعها قولنا : (صراط علي حق نمسكه) وعند التحليل يرجع إلى : ا ، ح ، ر ، س ، ص ، ط ، ع ، ق ، ك ، ل ، م ، ن ، هـ ، ي .
  والعجب أنّ هذه الحروف هي نصف الحروف الهجائية.
  الثاني : ما هو المراد من الحروف المقطعة ؟
  افتتح القرآن الكريم قسماً من السور بحروف مقطعة أعني السور التالية : 1 ـ البقرة ، 2 ـ آل عمران ، 3 ـ الاَعراف ، 4 ـ يونس ، 5 ـ هود ، 6 ـ يوسف ، 7 ـ الرعد ، 8 ـ إبراهيم ، 9 ـ الحجر ، 10 ـ مريم ، 11 ـ طه ، 12 ـ الشعراء ، 13 ـ النمل ، 14 .

--------------------
(1) الدخان : 1 ـ 5.
(2) الزخرف : 1 ـ 4.


الأقسام في القرآن _ 59 _
  القصص ، 15 ـ العنكبوت ، 16 ـ الروم ، 17 ـ لقمان ، 18 ـ السجدة ، 19 ـ يس ، 20 ـ ص ، 21 ـ غافر ، 22 ـ فصلت ، 23 ـ الشورى ، 24 ـ الزخرف ، 25 ـ الدخان ، 26 ـ الجاثية ، 27 ـ الاَحقاف ، 28 ـ ق ، 29 ـ القلم.
  فهذه السور التي يبلغ عددها 29 سورة افتتحت بالحروف المقطعة.
  وقد تطرق المفسرون إلى بيان ما هو المقصود من هذه الحروف ، وذكروا وجوهاً كثيرة نقلها فخرالدين الرازي في تفسيره الكبير تربو على عشرين وجهاً (1) .
  وها نحن نقدم المختار ثمّ نلمح إلى بعض الوجوه.

إلماع إلى مادة القرآن
  إنّ القرآن الكريم تحدّى المشركين بفصاحته وبلاغته وعذوبة كلماته ورصانة تعبيره ، وادعى أنّهذا الكتاب ليس من صنع البشر بل من صنع قدرة إلهية فائقة لا تبلغ إليها قدرة أيِّ إنسان ولو بلغ في مضمار البلاغة والفصاحة ما بلغ.
  ثمّ إنّه أخذ يورد في أوائل السور قسماً من الحروف الهجائية للاِلماع إلى أنّ هذا الكتاب موَلف من هذه الحروف ، وهذه الحروف هي التي تلهجون بها صباحاً ومساءً فلو كنتم تزعمون أنّه من صُنْعي فاصنعوا مثله ، لاَنّ المواد التي تركب منها القرآن كلّها تحت أيديكم واستعينوا بفصحائكم وبلغائكم ، فإن عجزتم ، فاعلموا أنّه كتاب منزل من قبل اللّه سبحانه على عبد من عباده بشيراً ونذيراً.
  وهذا الوجه هو المروي عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ، وهو خيرة جمع من المحقّقين ، وإليك ما ورد عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) في هذا المقام :
  أ : روى الصدوق بسنده عن الاِمام العسكري (عليه السلام) ، انّه قال : ( كذبت

--------------------
(1) تفسير الفخر الرازي : 2|5 ـ 8.

الأقسام في القرآن _ 60 _
  قريش واليهود بالقرآن ، وقالوا : هذا سحر مبين ، تقوّله ، فقال اللّه : ( الم * ذلِكَ الكتاب ) أي يا محمّد هذا الكتاب الذي أنزلته إليك هو الحروف المقطعة التي منها (الم) وهو بلغتكم وحروف هجائكم ، فأتوا بمثله إن كنتم صادقين ، واستعينوا بذلك بسائر شهدائكم ، ثمّ بيّن أنّهم لا يقدرون عليه بقوله : ( لَئِن اجْتَمَعتِ الاِِنْس وَالجِنّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذا القُرآن لا يَأْتُونَ بِمِثْلِه وَلَو كانَ بَعضهُمْ لِبَعْضٍ ظَهيراً ) (1) ) (2) .
  وبه قال أبو مسلم محمد بن بحر الاصفهاني (254 ـ 322 هـ) من كبار المفسرين ، حيث قال : إنّ الذي عندنا أنّه لما كانت حروف المعجم أصل كلام العرب وتحدَّاهم بالقرآن وبسورة من مثله ، أراد أنّ هذا القرآن من جنس هذه الحروف المقطعة تعرفونها وتقتدرون على أمثالها ، فكان عجزكم عن الاِتيان بمثل القرآن وسورة من مثله دليلاً على أنّالمنع والتعجيز لكم من اللّه على أمثالها ، وانّه حجّة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، قال : وممّا يدل على تأويله أنّ كلّسورة افتتحت بالحروف التي أنتم تعرفونها ، بعدها إشارة إلى القرآن ، يعني أنّه موَلف من هذه الحروف التي أنتم تعرفونها وتقدرون عليها ، ثمّسأل نفسه ، وقال : إن قيل لو كان المراد هذا لكان قد اقتصر اللّه تعالى على ذكر الحروف في سورة واحدة ؟ فقال : عادة العرب التكرار عند إيثار إفهام الذي يخاطبونه (3) .
  واختاره الزمخشري (467 ـ 538 هـ) في تفسيره ، وقال : واعلم أنّك إذا تأملت ما أورده اللّه عزّ سلطانه في الفواتح من هذه الاَسماء وجدتها نصف أسامي حروف المعجم : 14 سواه ، وهي : الاَلف واللام والميم والصاد والراء والكاف

--------------------
(1) الاَسراء : 88.
(2) تفسير البرهان : 1|54 ، تفسير الآية الثالثة من سورة البقرة برقم 9 .
(3) تاريخ القرآن للزنجاني : 106.


الأقسام في القرآن _ 61 _
  والهاء والياء والعين والطاء والسين والحاء والقاف والنون ، في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم.
  ثمّ إذا نظرت في هذه الاَربعة عشر وجدتها مشتملة على أنصاف أجناس الحروف ، بيان ذلك أنّ فيها من المهموسة نصفها : الصاد والكاف والهاء والسين والحاء.
  ومن المهجورة نصفها : الاَلف واللام والميم والراء والعين والطاء والقاف والياء والنون.
  ومن الشديدة نصفها : الاَلف والكاف والطاء والقاف.
  ومن الرخوة نصفها : اللام والراء والصاد والهاء والعين والسين والحاء والياء والنون.
  ومن المطبقة نصفها : الصاد والطاء.
  ومن المنفتحة نصفها : الاَلف واللام والميم والراء والكاف والهاء والعين والسين والحاء والقاف والياء والنون.
  ومن المستعلية نصفها : القاف والصاد والطاء.
  ومن المنخفضة نصفها : الاَلف واللام والميم والراء والكاف والهاء و الياء والعين والسين والحاء والنون.
  ومن حروف القلقلة نصفها : القاف والطاء.
  ثمّ إذا استقريت الكلم وتراكيبها رأيت الحروف التي ألغى اللّه ذكرها من هذه الاَجناس المعدودة مكثورة بالمذكورة منها ، فسبحان الذي دقت في كلّ شيء حكمته وقد علمت أنّ معظم الشيء وجلّه ينزل منزلة كله وهو المطابق للطائف

الأقسام في القرآن _ 62 _
  التنزيل.
  فكأنّ اللّه عزّاسمه عدّد على العرب الاَلفاظ التي منها تراكيب كلامهم إشارة إلى ما ذكرت من التبكيت لهم وإلزام الحجة إيّاهم (1).
  ومن المتأخرين من بيّن هذا الوجه ببيان رائع ألا وهو المحقّق السيد هبة الدين الشهرستاني (1301 ـ 1386 هـ) قال ما هذا نصّه : إنّ القرآن مجموعة جمل ليست سوى صبابة أحرف عربية من جنس كلمات العرب ومن يسير اعمال البشر وقد فاقت مع ذلك عبقرية ، وكلما كان العمل البشري أيسر صدوراً وأكثر وجوداً ، قلّ النبوغ فيه وصعب افتراض الاِعجاز والاِعجاب منه ، فإذا الجمل القرآنية ليست سوى الحروف المتداولة بين البشر ، فهي عبارة عن (الم) و (حمعسق) فلماذا صار تأليف جملة أو جمل منه مستحيل الصدور ؟ هذا ونجد القرآن يكرر تحدي العرب وغير العرب بإتيان شيء من مقولة هذا السهل الممتنع كالطاهي يفاخر المتطاهي بأنّه يصنع الحلوى اللذيذة من أشياء مبذولة لدى الجميع كالسمن واللوز ودقيق الرز ، بينما المتطاهي لا يتمكن من ذلك مع استحضاره الاَدوات ، وكذلك الكيمياوي الماهر يستحضر المطلوب المستجمع لصفات الكمال ، وغيره يعجز عنه مع حضور جميع الاَدوات والاَجزاء ، وكذلك القرآن يقرع ويسمع قومه بأنّ أجزاء هذا المستحضر القرآني موفورة لديكم من ح وم ول و رو ط و ه و أنتم مع ذلك عاجزون (2).
  ويوَيد هذا الرأي أنّ أكثر السور التي صدرت بالحروف المقطعة جاء بعدها ذكر القرآن الكريم بتعابير مختلفة ، ولم يشذَّ عنها إلاّ سور أربع ، هي : مريم

--------------------
(1) الكشاف : 1|17 ، ط دار المعرفة.
(2) المعجزة الخالدة :115 ـ 116.

الأقسام في القرآن _ 63 _
  والعنكبوت والروم والقلم ، ففي غير هذه السور أردف الحروف المقطعة بذكر الكتاب والقرآن ، وإليك نماذج من الآيات : ( الم * ذلِكَ الكِتابُ لا رَيْبَ فيهِ هُدىً لِلْمُتَّقين ) (1).
  ( الم ... نَزَّلَ عَلَيْكَ الكِتابَ بِالْحَقّ مُصدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوراةَ وَالاِِنْجِيل ) (2).
  ( المص * كِتابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ في صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ ) (3).
  ( الر تِلْكَ آياتُ الكِتابِ الحَكيم ) (4).
  إلى غير ذلك من السور ما عدا الاَربع التي أشرنا إليها.
  ثمّ إنّ هذا الوجه هو الوجه العاشر في كلام الرازي ونسبه إلى المبرد ، وإلى جمع عظيم من المحقّقين وقال : إنّ اللّه إنّما ذكرها احتجاجاً على الكفار ، وذلك أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لما تحدّاهم أن يأتوا بمثل القرآن ، أو بعشر سور ، أو بسورة واحدة ، فعجزوا عنه ، أنزلت هذه الحروف تنبيهاً على أنّ القرآن ليس إلاّ من هذه الحروف وأنتم قادرون عليها ، وعارفون بقوانين الفصاحة ، فكان يجب أن تأتوا بمثل هذا القرآن ، فلما عجزتم عنه دلّذلك على أنّه من عند اللّه لا من عند البشر (5).
  هذا هو الرأي المختار وقد عرفت برهانه.
  وثمة رأي آخر أقل صحة من الاَوّل ، وحاصله : انّ كلّ واحد منها دال على

--------------------
(1) البقرة : 1 ـ 2.
(2) آل عمران : 1 ـ 3.
(3) الاَعراف : 1 ـ 2.
(4) يونس : 1.
(5) تفسير الفخر الرازي : 2|6.

الأقسام في القرآن _ 64 _
  اسم من أسماء اللّه تعالى وصفة من صفاته.
  قال ابن عباس في (الم) : الاَلف إشارة إلى أنّه تعالى أحد ، أوّل ، آخر ، أزلي ، أبدي ، واللام إشارة إلى أنّه لطيف ، والميم إشارة إلى انّه ملك ، مجيد ، منّان.
  وقال في (كهيعص) : إنّه ثناء من اللّه تعالى على نفسه ، والكاف يدل على كونه كافياً ، والهاء يدل على كونه هادياً ، والعين يدل على العالم ، والصاد يدل على الصادق.
  وذكر ابن جرير عن ابن عباس انّه حمل الكاف على الكبير والكريم ، والياء على أنّه يجير ، والعين على العزيز و العدل (1).
  ونقل الزنجاني في تأييد ذلك الوجه ما يلي : وفي الحديث : ( شعاركم حم لا ينصرون ) ، قال الاَزهري : سئل أبو العباس ، عن قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : حم لا ينصرون ، فقال : معناه واللّه لا ينصرون.
  وفي لسان العرب في حديث الجهاد : ( إذا بُيّتم فقولوا حاميم لا ينصرون ) قال ابن الاَثير : معناه اللهم لا ينصرون (2) .
  إذا عرفت هذه الاَُمور ، فلنرجع إلى تفسير الآيات التي حلف فيها سبحانه بالقرآن والكتاب ، وإليك البيان :
  1 ـ ( يس * والْقُرآن الحَكيم * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرسَلين ) فالمقسم به هو القرآن ، والمقسم عليه قوله : ( إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرسَلين ) ، والصلة بين القرآن وبين كونه من المرسلين واضحة ، لاَنّ القرآن أداة تبليغه ورسالته ومعجزته الخالدة.

--------------------
(1) تفسير الفخر الرازي : 2|6.
(2) تاريخ القرآن : 105.

الأقسام في القرآن _ 65 _
  وأمّا وصف القرآن بالحكيم ، فلاَنّه مستقرٌ فيه الحكمة ، وهي حقائق المعارف وما يتفرع عليها من الشرائع والعبر و المواعظ (1).
  2 ـ ( ص * والقُرآن ذي الذِّكر * بَلِ الَّذينَ كَفَرُوا في عِزَّة وَشقاق * كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوا وَلاتَ حينَ مَناص ) .
  وصف القرآن بكونه (ذي الذكر) كما وصفه في الآية السابقة بكونه (حكيماً) ووصفه تارة ثالثة بـ (المجيد) ، والمراد بالذكر هو ذكر ما جُبل عليه الاِنسان من التوحيد والمعاد.
  قال الطبرسي : فيه ذكر اللّه وتوحيده وأسماوَه الحسنى وصفاته العلى ، وذكر الاَنبياء ، وأخبار الاَُمم ، وذكر البعث والنشور ، وذكر الاَحكام وما يحتاج إليه المكلّف من الاَحكام ويوَيده قوله : ( ما فَرَّطنا في الكتاب من شيء ) (2).
  قال الطباطبائى في تفسيره : المراد بالذكر ذكر اللّه تعالى وتوحيده وما يتفرّع عليه من المعارف الحقّة من المعاد والنبوة وغيرهما.
  ويوَيد ذلك إضافة الذكر في غير واحد من الآيات إلى لفظ الجلالة ، قال سبحانه : ( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّه ) (3) وقال : ( استَحْوَذَ عَلَيهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكرَ اللّه ) (4) إلى غير ذلك.
  وأمّا المقسم عليه : فمحذوف معلوم من القرينة ، هو أنّك لمن المنذرين ، ويدل على ذلك التنديد بالذين كفروا وانّهم في عزّة وشقاق ، أي في تكبّر عن

--------------------
(1) تفسير الميزان : 17|62.
(2) مجمع البيان : 8|465.
(3) الحديد : 16.
(4) المجادلة : 19.

الأقسام في القرآن _ 66 _
  قبول الحق وحمية جاهلية ، وشقاق أي عداوة وعصيان ومخالفة ، لاَنّهم يأنفون عن متابعة النبيويصرّون على مخالفته ، ثمّخوّفهم اللّه سبحانه ، فقال : كم أهلكنا من قبلهم من قرن بتكذيبهم الرسل فنادوا عند وقوع الهلاك بهم بالاستغاثة ولات حين مناص.
  والصلة بين المقسم به ( القُرآن ذي الذِّكر ) والمقسم عليه المقدّر ( إِنَّكَ لَمِنَ الْمُنْذَرين ) واضحة ، لاَنّ القرآن من أسباب انذاره وأدوات تحذيره.
  3 ـ ( ق * والقُرآنِ المَجِيد * بَلْ عَجبوا انْ جاءَهم مُنْذِر مِنْهُمْ فَقالَ الكافِرونَ هذا شَيءٌ عَجيب ) (1) .
  المقسم به هوالقرآن ووصفه بالمجيد ، قال الراغب : المجد السعة في المقام والجلال ، وقد وصف به القرآن الكريم ، فلاَجل كثرة ما يتضمن من المكارم الدنيوية والاَُخروية ، فالمجيد مبالغة في المجد.
  وقال الطبرسي : المجيد أي الكريم على اللّه ، العظيم في نفسه ، الكثير الخير والنفع (2) .
  والمقسم عليه : محذوف تدل عليه الجمل التالية ، والتقدير : والقرآن المجيد انّك لمن المنذرين ، أو أنّالبعث حق والاِنذار حق.
  وقد ركزت السورة على الدعوة إلى المعاد و وبّخت المشركين باستعجالهم على إنكاره ونقد زعمهم.
  والصلة بين المقسم به وجواب القسم واضحة ، سواء أقلنا بأنّ المقسم عليه إِنّك مِنَ المنذرين أو انّالبعث والنشر حقّ ، أمّا على الاَوّل فلاَنّ القرآن أحد أدوات

--------------------
(1) ق : 1 ـ 2.
(2) مجمع البيان : 9|141.

الأقسام في القرآن _ 67 _
  الاِنذار ، وأمّا على الثاني فلاَنَّ القرآن يتضمن شيئاً كثيراً عن الدعوة إلى المعاد.
  ثمّ إنّ القرآن في الاَصل مصدر نحو رجحان ، قال سبحانه : ( إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرآنهُ * فَإِذا قَرَأْناهُ فاتَّبع قُرآنه ) (1) قال ابن عباس : إذا جمعناه وأثبتناه في صدرك فاعمل به.
  وقد خص بالكتاب المنزل على نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فصار له كالعلم ، كما أنّ التوراة لما أُنزل على موسى (عليه السلام) ، والاِنجيل لما أُنزل على عيسى (عليه السلام) ، قال بعض العلماء : تسمية هذا الكتاب قرآناً من بين كتب اللّه لكونه جامعاً لثمرة كتبه ، بل لجمعه ثمرة جميع العلوم ، كما أشار تعالى إليه بقوله : ( وَتَفصيلاً لكلِّ شيء ) (2) وعلى هذا فالقرآن من قرأ بمعنى جمع ، ولكن يحتمل أن يكون بمعنى القراءة ، كما في قوله سبحانه : ( وَقُرآنَ الفَجْر ) (3) أي قراءته .

الحلف بالكتاب
  حلف سبحانه بالكتاب مرتين ، وقال :
  1 ـ ( حم * والكتابِ المُبِين * إِنّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَةٍ مُبارَكةٍ إِنّا كُنّا مُنْذِرين ) (4) .
  2 ـ ( حم * وَالكتابِ المُبِين * إِنّا جَعَلْناهُ قُرآناً عَرَبياً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون ) (5) .

--------------------
(1) القيامة : 17 ـ 18.
(2) الاَنعام : 154.
(3) الاِسراء : 78.
(4) الدخان : 1 ـ 3.
(5) الزخرف : 1 ـ 3.

الأقسام في القرآن _ 68 _
  فالمقسم به هو الكتاب ، والمقسم عليه في الآية الاَُولى قوله : ( إِنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَة مُباركة ) ، والصلة بينهما واضحة ، حيث يحلف بالكتاب على أنّه منزل من جانبه سبحانه في ليلة مباركة.
  كما أنّالمقسم به في الآية الثانية هو ا لكتاب المبين ، والمقسم عليه هو الحلف على أنّه سبحانه جعله قرآناً عربياً للتعقل ، والصلة بينهما واضحة.
  ووصف الكتاب بالمبين دون غيره ، لاَنّ الغاية من نزول الكتاب هو إنذارهم وتعقّلهم كما جاء في الآيتين ، حيث قال : ( إِنّا كُنّا مُنذرين ) وقال : ( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون ) ، وهذا النوع من الغاية أي الاِنذار والتعقل يطلب لنفسه أن يكون الكتاب واضحاً مفهوماً لا مجهولاً ومعقداً.
  والكتاب في الاَصل مصدر ، ثمّ سمّي المكتوب فيه كتاباً.
  إلى هنا تمّ الحلف بالقرآن والكتاب.
  بقي هنا الكلام في عظمة المقسم به ويكفي في ذلك أنّه فعله سبحانه حيث أنزله لهداية الناس وإنقاذهم من الضلالة.
  وقد تكلّم غير واحد من المفكرين الغربيين حول عظمة القرآن ، والاَحرى بنا أن نرجع إلى نفس القرآن ونستنطقه حتى يبدي رأيه في حق نفسه.
  أ : القرآن نور ينير الطريق لطلاب السعادة : قال سبحانه : ( قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِين ) (1) .
  ب : انّه هدى للمتَّقين : قال سبحانه : ( هُدىً لِلْمُتَّقين ) (2) .

--------------------
(1) المائدة : 15.
(2) البقرة : 2.


الأقسام في القرآن _ 69 _
  فهو وإن كان هدى لعامة الناس ، إلاّ أنّه لا يستفيد منه إلاّ المتقون ، ولذلك خصّهم بالذكر.
  ج : هو الهادي إلى الشريعة الاَقوم : قال سبحانه : ( إِنَّ هذا القُرآنَ يَهدِي لِلَّتي هِي أَقْوم ) (1).
  د : الغاية من إنزاله قيام الناس بالقسط : قال سبحانه : ( وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالقِسْطِ ) (2).
  هـ : لا يتطرق إليه الاختلاف في فصاحته وبلاغته ولا في مضامينه ولا محتواه : قال سبحانه : ( وَلَوْ كانَمِنْ عِنْدِ غَيرِ اللّهِ لوَجَدُوا فِيهِ اختلافاً كَثِيراً ) (3).
  و : يحث الناس إلى التدبر والتفكّر فيه ( كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُباركٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ ) (4).
  ز : تبيان لكلّشيء : ( وَنَزلْنا عَليْكَ الكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيء ) (5).
  ح : نذير للعالمين : ( تَبارَكَ الَّذي نَزَّل الفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً ) (6).
  ط : فيه أحسن القصص : ( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَص ) (7) .

--------------------
(1) الاِسراء : 9.
(2) الحديد : 25.
(3) النساء : 82.
(4) ص : 29.
(5) النحل : 89.
(6) الفرقان : 1.
(7) يوسف : 3.

الأقسام في القرآن _ 70 _
  ي : ضُرب فيه للناس من كلّ مثل : ( وَلَقَدْ صَرَّفْنا في هذا الْقُرآنِ لِلنّاسِ من كُلِّ مَثَل ) (1) .
  هذه نماذج من الآيات التي تصف القرآن ببعض الاَوصاف.
  وللنبي والاَئمة المعصومين كلمات قيّمة حول التعريف بالقرآن ننقل شذرات منها : قام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خطيباً ، فقال : ( أيّها الناس انّكم في دار هدنة وأنتم على ظهر سفر ، والسير بكم سريع ، وقد رأيتم الليل والنهار والشمس والقمر يبليان ، كلّ جديد ، ويقرّبان كلّ بعيد ، ويأتيان بكلّموعود ، فأعدوا الجهاز لبعد المجاز ) .
  فقام المقداد بن الاَسود ، وقال : يا رسول اللّه و ما دار الهدنة ؟ قال : ( دار بلاغ وانقطاع .
  فإذا التبست عليكم الفتن كقطع اللّيل المظلم فعليكم بالقرآن ، فإنّه شافع مشفّع وماحل مصدَّق ، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة ، ومن جعله خلفه ، ساقه إلى النار ، وهو الدليل يدل على خير سبيل ، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل ، وهو الفصل ليس بالهزل ، وله ظهر وبطن ، فظاهره حكم وباطنه علم ، ظاهره أنيق ، وباطنه عميق ، له نجوم وعلى نجومه نجوم ، لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه ، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة ، ودليل على المعرفة لمن عرف الصفة ، فليجل جال بصره ، وليبلغ الصفة نظره ، ينج من عطب ، ويتخلص من نشب ، فإنّ التفكّر حياة قلب البصير ، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور ، فعليكم بحسن التخلص وقلة التربص ) (2) .

--------------------
(1) الكهف : 54.
(2) الكافي : 2|599 ، كتاب فضل القرآن.

الأقسام في القرآن _ 71 _
  وقال الاِمام علي أمير الموَمنين (عليه السلام) في وصف القرآن : ( ثمّ أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه ، وسراجاً لا يخبو توقّده ، وبحراً لا يدرك قعره ، فهو ينابيع العلم وبحوره ، وبحر لا ينزفه المستنزفون ، وعيون لا ينضبها الماتحون ، ومناهل لا يغيضها الواردون ) (1) .
  إلى غير ذلك من الخطب والكلم حول التعريف بالقرآن الواردة عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) .

--------------------
(1) نهج البلاغة ، الخطبة 198.

الأقسام في القرآن _ 72 _
الفصل الخامس : القسم بالعصر
  حلف سبحانه بالعصر مرّة واحدة دون أن يقرنه بمقسم به آخر ، وقال : ( وَالعَصْر * إِنّ الاِِنْسانَ لَفي خُسْر ) (1) .
  تفسير الآيات : العصر يطلق ويراد منه تارة الدهر ، وجمعه عصور .
  وأُخرى العشيّ مقابل الغداة ، يقال : العصران : الغداة والعشي ، والعصران الليل والنهار ، كالقمرين للشمس و القمر.
  وثالثة بمعنى الضغط فيكون مصدر عصرت ، والمعصور الشيء العصر ، والعُصارة نفاية ما يُعصر ، قال سبحانه : ( أَراني أَعْصِرُ خَمراً ) (2) ، وقال : ( وفيهِ يَعْصِرُون ) (3) ، وقال : ( وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجّاجاً ) (4) أي السُّحُب التي تعتصر بالمطر.
  ورابعة بمعنى ما يثير الغبار ، قال سبحانه : ( فَأَصابَها إعصار ) (5) (6) والمراد من الآية أحد المعنيين الاَوّليين.

--------------------
(1) العصر : 1 ـ 2.
(2) يوسف : 36.
(3) يوسف : 49.
(4) النبأ : 14.
(5) البقرة : 266.
(6) مفردات القرآن ، مادة عصر و مجمع البيان : 5|535.

الأقسام في القرآن _ 73 _
  الاَوّل : الدهر والزمان.
  الثاني : العصر مقابل الغداة.
  ولا يناسب المعنى الثالث ، أعني : الضغط ، ولا الرابع كما هو واضح.
  وإليك بيان المعنيين الاَوّلين.
  1 ـ العصر : الدهر ، وإنّما حلف به لاَنّ فيه عبرة لذوي الاَبصار من جهة مرور الليل والنهار ، وقد نسب ذلك ا لقول إلى ابن عباس والكلبي والجبائي.
  قال الزمخشري : وأقسم بالزمان لما في مروره من أصناف العجائب (1).
  ولعلّ المراد من الدهر والزمان اللّذين يفسرون بهما العصر هو تاريخ البشرية ، وذلك لاَنّه سبحانه جعل المقسم عليه كون الاِنسان لفي خسر إلاّ طائفة خاصة ، ومن المعلوم أنّ خسران الاِنسان انّه هو من تصرم عمره ومضي حياته من دون أن ينتفع بأغلى رأس مال وقع في يده ، وقد نقل الرازي هنا حكاية طريفة نأتي بنصها : قال : وعن بعض السلف ، تعلمت معنى السورة من بائع الثلج كان يصيح ، ويقول : ارحموا من يذوب رأس ماله ، ارحموا من يذوب رأس ماله ، فقلت : هذا معنى أنّ الاِنسان لفي خسر يمرّ به العصر فيمضي عمره ولا يكتسب فإذا هو خاسر (2).
  2 ـ العصر : أحد طرفي النهار ، وأقسم بالعصر كما أقسم بالضحى ، وقال : ( والضحى * واللَّيل إذا سَجى ) (3)

--------------------
(1) الكشاف : 3|357.
(2) تفسير الفخر الرازي : 32|85.
(3) الضحى : 1 ـ 2.

الأقسام في القرآن _ 74 _
  كما أقسم بالصبح ، وقال : ( والصُّبح إِذا أَسفَر ) (1) ، وإنّما أقسم بالعصر لاَهميته ، إذ هو في وقت من النهار يحدث فيه تغيير في نظام المعيشة وحياة البشر ، فالاَعمال اليومية تنتهي ، والطيور تعود إلى أوكارها ، وتبدأ الشمس بالميل نحو الغروب ، ويستولي الظلام على السماء ، ويخلد الاِنسان إلى الراحة.
  وهناك قولان آخران :
  أ : المراد عصر الرسول ، ذلك لما تضمنته الآيتان التاليتان من شمول الخسران للعالم الاِنساني ، إلاّ لمن اتبع الحقّ وصبر عليه ، وهم الموَمنون الصالحون عملاً ، وهذا يوَكد على أن يكون المراد من العصر عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وهو عصر بزوغ نجم الاِسلام في المجتمع البشري وظهور الحقّ على الباطل.
  ب : المراد به وقت العصر ، وهو المروي عن مقاتل ، وإنّما أقسم بها ، لفضلها بدليل ، قوله : ( حافِظُوا عَلى الصَّلواتِ وَالصَّلاةِ الوُسْطى ) (2) كما قيل أنّ المراد من قوله تعالى : ( تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللّهِ ) (3) هو صلاة العصر.
  أضف إلى ذلك انّ صلاة العصر يحصل بها ختم طاعات النهار ، فهي كالتوبة يختم بها الاَعمال.
  ولا يخفى انّ القول الاَخير في غاية الضعف ، إذ لا صلة بين القسم بصلاة العصر والمقسم عليه ، أعني ( الاِِنْسان لفي خُسر ) على أنّه لو كان المقسم به هو صلاة العصر ، لماذا اكتفى بالمضاف إليه ، وحذف المضاف مع عدم توفر قرينة عليه ، ومنه يظهر حال الوجه المتقدّم عليه.

--------------------
(1) المدثر : 34.
(2) البقرة : 238.
(3) المائدة : 106.

الأقسام في القرآن _ 75 _
  والظاهر أنّ الوجه الاَوّل هو الاَقوى ، حيث إنّ الحلف بالزمان وتاريخ البشرية يتناسب مع الجواب ، أي خسران الاِنسان في الحياة ، كما سيوافيك بيانه.
  وأمّا المقسم عليه ، فهو قوله سبحانه : ( إِنَّ الاِِنْسانَ لَفي خُسْر ) والمراد من الخسران هو مضي أثمن شيء لديه وهو عمره ، فالاِنسان في كلّ لحظة يفقد رأس ماله بنحو لا يُعوَّض بشيء أبداً ، وهذه هي سنة الحياة الدنيوية حيث ينصرم عمره ووجوده بالتدريج ، كما تنصرم طاقاته إلى أن يهرم ويموت ، فأي خسران أعظم من ذلك.
  وأمّا الصلة بين المقسم به والمقسم عليه فأوضح من أن يخفى ، لاَنّ حقيقة الزمان حقيقة متصرّمة غير قارة ، فهي تنقضي شيئاً فشيئاً ، وهكذا الحال في عمر الاِنسان فيخسر وينقص رأس ماله بالتدريج.
  ثمّ إنّه سبحانه استثنى من الخسران من آمن وعمل صالحاً وتواصى بالحق وتواصى بالصبر.
  ووجه الاستثناء واضح ، لاَنّه بدّل رأس ماله بشيء أغلى وأثمن ، يستطيع أن يقوم مقام عمره المنقضي فهو بإيمانه وعمله الصالح اشترى حياة دائمة ، حافلة برضوانه سبحانه ، ونعمه المادية والمعنوية .
  يقول سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُوَْمِنينَ َأَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقاتِلُونَ في سَبيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتلونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوراةِ وَالاِِنْجيلِ وَالقُرآنِ وَمَنْ أَوفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوزُ الْعَظيم ) (1).

--------------------
(1) التوبة : 111.

الأقسام في القرآن _ 76 _
الفصل السادس : القسم بالنجم
  وردت كلمة النجم في القرآن الكريم أربع مرّات في أربع سور ، (1) وحلف به مرة واحدة ، وقال : ( وَالنَّجمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى * وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهوى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى ) (2) هي من السور المكية.

تفسير الآيات
  النجم في اللغة : الكوكب الطالع ، وجمعه نجوم ، فالنجوم مرّة اسم كالقلوب والجيوب ، ومرّة مصدر كالطلوع والغروب.
  وأمّا (هوى) في قوله : ( إِذا هَوى ) فيطلق تارة على ميل النفس إلى الشهوة ، وأُخرى على السقوط من علو إلى سفل.
  ولكن تفسيره بسقوط النجم وغروبه ، لا يساعده اللفظ ، وإنّما المراد هو ميله ، وسيوافيك وجه الحلف بالنجم إذا هوى أي إذا مالَ.
  ثمّ إنّ المراد من النجم أحد الاَمرين :
  أ : أمّا مطلق النجم ، فيشمل كافة النجوم التي هي من آيات عظمة اللّه سبحانه ولها أسرار ورموز يعجز الذهن البشري عن الاِحاطة بها.

--------------------
(1) وهي : النحل : 16 ، النجم : 1 ، الرحمن : 6 ، الطارق : 3.
(2) النجم : 1 ـ 4.

الأقسام في القرآن _ 77 _
  ب : المراد هو نجم الشعرى الذي جاء في نفس السورة ، قال سبحانه : ( وَانَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعرى ) (1).
  ونظيره القول بأنّالمراد هو الثريا ، وهي مجموعة من سبعة نجوم ، ستة منها واضحة وواحد خافت النور ، وبه يختبر قوة البصر.
  وربما فسر بالقرآن الذي نزل على قلب رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) طيلة 23 سنة لنزوله نجوماً ، (2) لكن لفظ الآية لا يساعد على هذا المعنى.
  فاللّه سبحانه إمّا أن يحلف بعامة النجوم أو بنجم خاص يهتدي به السائر ، ويدل على ذلك أنّه قيد القسم بوقت هويه ، ولعل الوجه هو أنّالنجم إذا كان في وسط السماء يكون بعيداً عن الاَرض لا يهتدي به الساري ، لاَنّه لا يعلم به المشرق من المغرب ولا الجنوب من الشمال ، فإذا زال ، تبيّن بزواله جانب المغرب من المشرق (3).
  وأمّا المقسم عليه : فهو قوله سبحانه : ( ما ضَلَّ صاحِبكُمْ وَما غوى * وما ينطق عن الهَوى * إِنْ هُوَ إِلاّوَحيٌ يُوحى ) .
  جمع سبحانه هناك بين الضلال والغي فنفاهما عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، والقرآن يستعمل الضلالة في مقابل الهدى ، يقول سبحانه : ( يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذا اهْتَدَيْتُمْ ) (4)
  كما يستعمل الغي في مقابل الرشد ، يقول سبحانه : ( وَإِنْ يَرَوا سَبيلَ الرُّشْدِ

--------------------
(1) النجم : 49.
(2) انظر الميزان : 19|27 ، مجمع البيان : 5|172.
(3) تفسير الفخر الرازي : 28|279.
(4) المائدة : 105.

الأقسام في القرآن _ 78 _
  لا يَتَّخذوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوا سَبيلَ الغَىِّ يَتَّخِذُوهُ سَبيلاً ) (1) .
  والمهم بيان الفرق بين الضلالة والغواية ، فنقول : ذكر الرازي أنّ الضلال أن لا يجد السالك إلى مقصده طريقاً أصلاً ، والغواية أن لا يكون له طريق مستقيم إلى المقصد ، يدلّك على هذا انّك تقول للموَمن الذي ليس على طريق السداد ، انّه سفيه غير رشيد ، ولا تقول إنّه ضال ، والضال كالكافر والغاوي كالفاسق (2) .
  وإلى ذلك يرجع ما يقول الراغب : الغيّ جهل من اعتقاد فاسد ، وذلك أنّ الجهل قد يكون من كون الاِنسان غير معتقد اعتقاداً لا صالحاً ولا فاسداً ، وقد يكون من اعتقاد شيء ، وهذا النحو الثاني ، يقال له : غيّ (3) .
  وعلى هذا فالآية بصدد بيان نفي الضلالة والغي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وردّ كلّ نوع من أنواع الانحراف والجهل والضلال والخطأ عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ليردّ به التهم الموجهة إليه من جانب أعدائه.
  وأمّا بيان الصلة بين المقسم به والمقسم عليه فواضح ، لما ذكرنا من أنّ النجم عند الهوي والميل يهتدي به الساري كما أنّ النبييهتدي به الناس ، أي بقوله وفعله وتقريره.
  فكما أنّه لا خطأ في هداية النجم لاَنّها هداية تكوينية ، وهكذا لا خطأ في هداية الوحي الموحى إليه ، ولذلك قال : ( إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى ) .


--------------------
(1) الاَعراف : 146.
(2) تفسير الفخر الرازي : 28|280.
(3) مفردات الراغب : 369.

الأقسام في القرآن _ 79 _
الفصل السابع : القسم بمواقع النجوم
  حلف سبحانه وتعالى في سورة الواقعة بمواقع النجوم ، وقال : ( فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُوم * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظيم * إِنَّهُ لَقُرآنٌ كَرِيم * فِي كِتابٍ مَكْنُون * لا يَمَسُّهُ إِلاّ المُطَهَّرُون ) (1) .

تفسير الآيات
  المراد من مواقع النجوم مساقطها حيث تغيب.
  قال الراغب : الوقوع ثبوت الشيء وسقوطه ، يقال : وقع الطائر وقوعاً ، وعلى ذلك يراد منه مطالعها ومغاربها ، يقال : مواقع الغيث أي مساقطه (2).
  ويدل على أنّ المراد هو مطالع النجوم ومغاربها أنّ اللّه سبحانه يقسم بالنجوم وطلوعها وجريها وغروبها ، إذ فيها وفي حالاتها الثلاث آية وعبرة ودلالة ، كما في قوله تعالى : ( فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الجَوارِ الكُنَّس ) (3) وقال : ( وَالنَّجْم إِذا هَوى ) وقال : ( فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِب ) ويرجح هذا القول أيضاً ، انّ النجوم حيث وقعت في القرآن فالمراد منها الكواكب ، كقوله تعالى : ( وَإدْبار

--------------------
(1) الواقعة : 75 ـ 79.
(2) مفردات الراغب : 530 ، مادة وقع.
(3) التكوير : 15 ـ 16.

الأقسام في القرآن _ 80 _
  النُّجوم ) (1) صخ ، وقوله : ( وَالشَّمْسُ وَالْقَمرُ وَالنُّجُوم ) (2).
  وأمّا المقسم عليه : فهو قوله سبحانه : ( إِنَّهُ لَقُرآنٌ كَريم * في كِتابٍ مَكْنُون * لا يَمَسُّهُ إِلاّ الْمُطَّهَرُون ) وصف القرآن بصفات أربع :
  أ : ( لَقُرآنٌ كَريم ) ، والكريم هو البهي الكثير الخير ، العظيم النفع ، وهو من كلّ شيء أحسنه وأفضله ، فاللّه سبحانه كريم ، وفعله أعني القرآن مثله.
  وقال الاَزهري : الكريم اسم جامع لما يحمد ، فاللّه كريم يحمد فعاله ، والقرآن كريم يحمد لما فيه من الهدى والبيان والعلم والحكمة.
  ب : ( في كِتابٍ مَكْنُون ) ولعل المراد منه هو اللوح المحفوظ ، بشهادة قوله : ( بَلْ هُوَ قُرآنٌ مَجيد * في لَوحٍ مَحْفُوظ ) (3) .
  ويحتمل أن يكون المراد الكتاب الذي بأيدي الملائكة ، قال سبحانه : ( في صُحُفٍ مُكَرَّمَة * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرة * بِأَيدِي سَفَرَة * كِرامٍ بَررَة ) (4).
  ج : ( لا يَمَسُّه إِلاّ المُطهّرون ) فلو رجع الضمير إلى قوله : ( لَقُرآنٌ كَريم ) ، كما هو المتبادر ، لاَنّ الآيات بصدد وصفه وبيان منزلته فلا يمس المصحف إلاّ طاهر ، فيكون الاِخبار بمعنى الاِنشاء ، كما في قوله سبحانه : ( وَالمُطلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوء ) (5) .
  ولو قيل برجوع الضمير إلى ( كِتابٍ مَكْنُون ) فيكون المعنى لا يمس

--------------------
(1) الطور : 49.
(2) الحج : 18.
(3) البروج : 21 ـ 22 .
(4) عبس : 13 ـ 16 .
(5) البقرة : 228.