الفهرس العام

الصفات السلبيّة

العـدل


  عرفت أنّ الله تعالى منزّه عن جميع صفات النقص ولوازم النقصان ، فهو الكامل الذي لا سبيل للنقص إليه ، وهو القادر الذي لا طريق للعجز فيه ، وهو الغني الذي لا حاجة إلى شيء له .
  فهو عزّ شأنه أجلّ منها وأرفع من الإتّصاف بها .. وتلك هي الصفات السلبيّة التي عُبّر عنها بالجلالية ، ونذكر جملةً منها فيما يلي بعون الله الكريم :
  الاُولى : إنّه تعالى لا شريك له ومنزّه عن الشركة
  وقد تقدّم دليله من الكتاب والسنّة والعقل ، مضافاً إلى الفطرة في بحث وحدانية الله حيث تقدّم أنّه واحد لا شريك له بالأدلّة المتقدّمة فراجع (1).
  الثانية : أنّه تعالى ليس بمركّب ، ولا سبيل للتركيب إلى ذاته المقدّسة
  فهو ليس ذا أجزاء خارجية ، كالمداد المتركّب من الماء والدواة ، ولا ذا أجزاء ذهنية كالإنسان المركّب من الحيوان والناطق ، وإلاّ لزم إحتياجه إلى تلك الأجزاء ، والإحتياج من صفات الممكنات لا من صفات الواجب الغني بالذات .

---------------------------
(1) ص 44 من الكتاب وبعدها .

العقائد الحقّة _ 167 _

  فهو ليس بجسم حتّى يمكن فيه التركيب الخارجي ، ولا تحيط عقولنا به حتّى يمكن فيه التركيب الذهني .
  وإستدلّ له العلاّمة أعلى الله مقامه ، بأنّه يستحيل أن يكون مركّباً ، لأنّ المركّب يحتاج إلى الأجزاء ، وهو تعالى غنيّ ، ويستحيل أن يتركّب منه غيره ، لأنّه يستلزم الإنفعال في وجوده وهو تعالى ذاتي الوجود .
  قال (قدس سره) ما نصّه : ( إنّه تعالى يستحيل أن يكون مركّباً ، لأنّ كلّ مركّب مفتقر إلى جزئه والجزء مغاير للكلّ فيكون ممكناً ، ويستحيل أن يتركّب عنه غيره لإستحالة إنفعاله عن الغير فلا جزء له ، فلا جنس له ولا فصل له ، فلا حدّ له ولا يكون واجباً لذاته ولغيره معاً ، لأنّ وجوبه بذاته يستدعي إستغناءه عن غيره ووجوبه لغيره يستدعي إفتقاره إليه ، فيكون واجباً مفتقراً ) (1).
  الثالثة : أنّه تعالى ليس بجسم
  لأنّ الجسم هو ما يستلزم الأبعاد الثلاثة الطول ، والعرض ، والعمق ، وبهذا يحتاج إلى التحيّز ، وبالتحيّز يحتاج إلى المكان والمكان مخلوق ممكن ، وهذا مستحيل على الله تعالى لأنّه خالق المكان ، والمكان مخلوق له ومتأخّر عنه فلا يكون متحيّزاً فيه .
  ولا يمكن أن يكون المكان حيّزاً للخالق تعالى ، لأنّه يستلزم قِدم المكان كقِدم الله تعالى ، وتعدّد القدماء مستحيل لقاعدة الفُرجة المتقدّمة (2).
  وعليه فلا يمكن التحيّز لله تعالى ويستحيل عليه الجسميّة .

---------------------------
(1) نهج المسترشدين : (ص45) .
(2) تقدّمت في الدليل العقلي الثالث من أدلّة التوحيد ووحدانيّة الله تعالى .

العقائد الحقّة _ 168 _

  وباب المعرفة في نفي الجسميّة ، ومرجع الخليقة في بيان جميع الصفات التنزيهية هو باب العلم المبين أعني عترة النبي الأمين صلوات الله عليهم أجمعين في أحاديثهم الشافية وبياناتهم الوافية الآتية :
  1 ـ حديث محمّد بن سماعة قال : سأل بعض أصحابنا الصادق (عليه السلام) فقال له : ( أخبرني أي الأعمال أفضل ؟
  قال : توحيدك لربّك . قال : فما أعظم الذنوب ؟ قال : تشبيهك لخالقك ) (1).
  2 ـ حديث يونس بن ظبيان قال : دخلت على الصادق جعفر بن محمّد (عليه السلام) فقلت :
  ( يا بن رسول الله ! إنّي دخلت على مالك وأصحابه فسمعت بعضهم يقول : إنّ لله وجهاً كالوجوه ، وبعضهم يقول : له يدان ! واحتجّوا لذلك بقول الله تبارك وتعالى : ( بِيَدَىَّ اسْتَكْبَرْتَ ) (2) وبعضهم يقول : هو كالشاب من أبناء ثلاثين سنة ! فما عندك في هذا يا بن رسول الله ؟
  قال : ـ وكان متّكئاً فاستوى جالساً ـ وقال : اللهمّ عفوك عفوك .
  ثمّ قال : يا يونس ! من زعم أنّ لله وجهاً كالوجوه فقد أشرك ، ومن زعم أنّ لله جوارح كجوارح المخلوقين فهو كافر بالله فلا تقبلوا شهادته ولا تأكلوا ذبيحته ، تعالى الله عمّا يصفه المشبهون بصفة المخلوقين .
  فوجه الله أنبياؤه ، وقوله ( خَلَقْتُ بِيَدَىَّ اسْتَكْبَرْتَ ) فاليد القدرة

---------------------------
(1) بحار الأنوار : (ج3 ص287 الباب13 ح1) .
(2) سورة ص : (الآية 75) .

العقائد الحقّة _ 169 _

  كقوله : ( وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ ) (1) فمن زعم أنّ الله في شيء أو على شيء أو تحوّل من شيء إلى شيء أو يخلو منه شيء أو يشغل به شيء فقد وصفه بصفة المخلوقين ، والله خالق كلّ شيء ، لا يقاس بالقياس ولا يشبه بالناس ، لا يخلو منه مكان ، ولا يشغل به مكان ، قريب في بعده ، بعيد في قربه ، ذلك الله ربّنا لا إله غيره ، فمن أراد الله بهذه الصفة فهو من الموحّدين ، ومن أحبّه بغير هذه الصفة فالله منه بريء ، ونحن منه براء ... ) (2).
  3 ـ ما عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال لهشام : ( إنّ الله تعالى لا يشبه شيئاً ولا يشبهه شيء ، وكلّ ما وقع في الوهم فهو بخلافه ) (3).
  4 ـ ما عن الإمام العسكري (عليه السلام) انّه : ( قام رجل إلى الرضا (عليه السلام) قال له : يا بن رسول الله صف لنا ربّك ، فانّ من قبلنا قد اختلفوا علينا فقال الرضا (عليه السلام) : إنّه من يصف ربّه بالقياس لا يزال الدهر في الإلتباس ، مائلا عن المنهاج ، ظاعناً في الإعوجاج ، ضالاًّ عن السبيل ، قائلا غير الجميل ، اُعرّفه بما عرّف به نفسه من غير رويّة ، وأصفه بما وصف به نفسه من غير صورة ، لا يدرك بالحواسّ ، ولا يقاس بالناس ، معروف بغير تشبيه ، ومتدان في بعده لا بنظير ، لا يمثّل بخليقته ، ولا يجور في

---------------------------
(1) سورة الأنفال : (الآية 26) .
(2) بحار الأنوار : (ج3 ص287 ب13 ح2) .
(3) بحار الأنوار : (ج3 ص290 ب13 ح4) .

العقائد الحقّة _ 170 _

  قضيّته ... فهو قريب غير ملتزق ، وبعيد غير متقصّ ، يحقّق ولا يمثّل ، ويوحّد ولا يبعّض ، يعرف بالآيات ويثبت بالعلامات ، فلا إله غيره الكبير المتعال .
  ثمّ قال (عليه السلام) ـ بعد كلام آخر تكلّم به ـ : حدّثني أبي ، عن أبيه ، عن جدّه عن أبيه (عليهم السلام) ، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال : ما عرف الله من شبّهه بخلقه ، ولا وصفه بالعدل من نسب إليه ذنوب عباده ) (1).
  5 ـ حديث ابن عبّاس قال : قدم يهودي على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ يقال له : نعثل ـ فقال : يا محمّد ! إنّي سائلك عن أشياء تلجلج في صدري منذ حين ، فإن أنت أجبتني عنها أسلمت على يدك .
  قال : ( سل يا أبا عمارة ! فقال : يا محمّد ! صف لي ربّك .
  فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : إنّ الخالق لا يوصف إلاّ بما وصف به نفسه ، وكيف يوصف الخالق الذي يعجز الحواسّ أن تدركه ، والأوهام أن تناله ، والخطرات أن تحدّه ، والأبصار عن الإحاطة به ، جلّ عمّا يصفه الواصفون ، نأى في قربه ، وقرب في نأيه ، كيّف الكيفية فلا يقال له : كيف ، وأيّن الأين فلا يقال له : أين ، هو منقطع الكيفوفية والأينونية ، فهو الأحد الصمد كما وصف نفسه ، والواصفون لا يبلغون نعته ، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد .

---------------------------
(1) بحار الأنوار : (ج3 ص297 ب13 ح23) .

العقائد الحقّة _ 171 _

  قال : صدقت يا محمّد ! أخبرني عن قولك : إنّه واحد لا شبيه له ، أليس الله واحد والإنسان واحد ؟ فوحدانيته أشبهت وحدانيّة الإنسان .
  فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : الله واحد وأحديّ المعنى ، والإنسان واحد ثنويّ المعنى ، جسم وعرض ، وبدن وروح ، فإنّما التشبيه في المعاني لا غير .
  قال : صدقت يا محمّد ) (1).
  6 ـ حديث أبي بصير ، عن أبي عبدالله الصادق (عليه السلام) قال :
  ( إنّ الله تبارك وتعالى لا يوصف بزمان ولا مكان ولا حركة ولا إنتقال ولا سكون ، بل هو خالق الزمان والمكان والحركة والسكون والإنتقال ، تعالى عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً ) (2).
  7 ـ حديث إبراهيم بن أبي محمود قال : قلت للرضا (عليه السلام) : يا بن رسول الله ! ما تقول في الحديث الذي يرويه الناس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟ أنّه قال :
  ( إنّ الله تبارك وتعالى ينزل كلّ ليلة إلى السماء الدنيا ؟
  فقال (عليه السلام) : لعن الله المحرّفين للكلم عن مواضعه ، والله ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) كذلك ، إنّما قال (صلى الله عليه وآله) : إنّ الله تبارك وتعالى يُنزل ملكاً إلى السماء الدنيا كلّ ليلة في الثلث الأخير ، وليلة الجمعة في أوّل الليل فيأمره فينادي : هل من سائل فاُعطيه ؟ هل من تائب فأتوب عليه ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ يا طالب الخير أقبل ، يا طالب الشرّ أقصر ، فلا يزال ينادي بهذا إلى أن يطلع الفجر ، فإذا طلع الفجر عاد إلى محلّه من ملكوت السماء . حدّثني بذلك أبي ، عن جدّي ، عن آبائه ، عن رسول

---------------------------
(1) بحار الأنوار : (ج3 ص303 ب13 ح40) .
(2) بحار الأنوار : (ج3 ص309 ب14 ح1) .

العقائد الحقّة _ 172 _

  الله (صلى الله عليه وآله) ) (1).
  8 ـ حديث ثابت بن دينار قال : سألت زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) عن ( الله جلّ جلاله هل يوصف بمكان ؟
  فقال : تعالى الله عن ذلك .
  قلت : فلِمَ أسرى نبيّه محمّد (صلى الله عليه وآله) إلى السماء ؟
  قال : ليريه ملكوت السماء وما فيها من عجائب صنعه وبدائع خلقه .
  قلت : فقول الله عزّ وجلّ : ( ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ) (2) ?
  قال : ذاك رسول الله (صلى الله عليه وآله) دنا من حجب النور فرأى ملكوت السماوات ، ثمّ تدلّى (صلى الله عليه وآله) فنظر من تحته إلى ملكوت الأرض حتّى ظنّ أنّه في القرب من الأرض كقاب قوسين أو أدنى ) (3).
  9 ـ حديث يونس بن عبدالرحمن قال : قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) : لأي علّة عرج الله بنبيّه (صلى الله عليه وآله) إلى السماء ، ومنها إلى سدرة المنتهى ، ومنها إلى حجب النور ، وخاطبه وناجاه هناك والله لا يوصف بمكان ؟
  فقال (عليه السلام) : ( إنّ الله لا يوصف بمكان ، ولا يجري عليه زمان ، لكنّه عزّ وجلّ أراد أن يشرّف به ملائكته وسكّان سماواته ويكرمهم بمشاهدته ، ويريه من عجائب عظمته ما يخبر به بعد هبوطه ، وليس ذلك على ما يقوله

---------------------------
(1) بحار الأنوار : (ج3 ص314 ب14 ح7) .
(2) سورة النجم : (الآيتان 8 و9) .
(3) بحار الأنوار : (ج3 ص314 ب14 ح8) .

العقائد الحقّة _ 173 _

  المشبهون ، سبحان الله وتعالى عمّا يصفون ) (1).
  10 ـ حديث عبدالرحمن بن أسود ، عن الإمام جعفر بن محمّد ، عن أبيه (عليهما السلام) قال :
  ( كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله) صديقان يهوديان قد آمنا بموسى رسول الله وأتيا محمّداً (صلى الله عليه وآله) وسمعا منه ، وقد كانا قرءا التوراة وصحف إبراهيم (عليه السلام) ، وعلما علم الكتب الاُولى ، فلمّا قبض الله تبارك وتعالى رسوله (صلى الله عليه وآله) أقبلا يسألان عن صاحب الأمر بعده وقالا : إنّه لم يمت نبي قطّ إلاّ وله خليفة يقوم بالأمر في اُمّته من بعده ، قريب القرابة إليه من أهل بيته ، عظيم القدر ، جليل الشأن ، فقال أحدهما لصاحبه : هل تعرف صاحب الأمر من بعد هذا النبي ؟ قال الآخر : لا أعلمه إلاّ بالصفة التي أجدها في التوراة هو الأصلع المصفّر فإنّه كان أقرب القوم من رسول الله (صلى الله عليه وآله) .
  فلمّا دخلا المدينة وسألا عن الخليفة اُرشدا إلى أبي بكر ، فلمّا نظرا إليه قالا : ليس هذا صاحبنا ، ثمّ قالا له : ما قرابتك من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟
  قال : إنّي رجل من عشيرته ، وهو زوج إبنتي عائشة ، قالا : هل غير هذا ؟ قال : لا ، قالا : ليست هذه بقرابة فأخبرنا أين ربّك ؟ قال : فوق سبع سماوات ! قالا : هل غير هذا ؟ قال : لا ، قالا : دلّنا على من أعلم منك ، فإنّك أنت لست بالرجل الذي نجد في التوراة أنّه وصي هذا النبي وخليفته ، قال : فتغيّظ من قولهما ، وهمّ بهما ، ثمّ أرشدهما إلى عمر ، وذلك أنّه عرف من عمر أنّهما إن استقبلاه بشيء بطش بهما ،

---------------------------
(1) بحار الأنوار : (ج3 ص315 ب14 ح10) .

العقائد الحقّة _ 174 _

  فلمّا أتياه قالا : ما قرابتك من هذا النبي ، قال : أنا من عشيرته ، وهو زوج إبنتي حفصة ، قالا : هل غير هذا ؟ قال : لا ، قالا : ليست هذه بقرابة وليست هذه الصفة التي نجدها في التوراة ، ثمّ قالا له : فأين ربّك ؟ قال : فوق سبع سماوات ! قالا : هل غير هذا ؟ قال : لا ، قالا : دلّنا على من هو أعلم منك ، فأرشدهما إلى علي (عليه السلام) .
  فلمّا جاءاه فنظرا إليه قال أحدهما لصاحبه : إنّه الرجل الذي صفته في التوراة ، انّه وصيّ هذا النبي ، وخليفته وزوج إبنته ، وأبو السبطين والقائم بالحقّ من بعده .
  ثمّ قالا لعلي (عليه السلام) : أيّها الرجل ! ما قرابتك من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟
  قال : هو أخي وأنا وارثه ووصيّه ، وأوّل من آمن به ، وأنا زوج إبنته .
  قالا : هذه القرابة الفاخرة والمنزلة القريبة ، وهذه الصفة التي نجدها في التوراة فأين ربّك عزّ وجلّ ؟
  قال لهما علي (عليه السلام) : إن شئتما أنبأتكما بالذي كان على عهد نبيّكما موسى (عليه السلام) ، وإن شئتما أنبأتكما بالذي على عهد نبيّنا محمّد (صلى الله عليه وآله) .
  قالا : أنبئنا بالذي كان على عهد نبيّنا موسى (عليه السلام) .
  قال علي (عليه السلام) : أقبل أربعة أملاك : ملك من المشرق ، وملك من المغرب ، وملك من السماء ، وملك من الأرض ، فقال صاحب المشرق لصاحب المغرب : من أين أقبلت ؟ قال : أقبلت من عند ربّي ، وقال صاحب المغرب لصاحب المشرق : من أين أقبلت ؟ قال : أقبلت من عند ربّي ، وقال النازل من السماء للخارج من الأرض : من أين أقبلت ؟ قال : أقبلت من عند ربّي ، وقال الخارج من الأرض للنازل من السماء : من

العقائد الحقّة _ 175 _

  أين أقبلت ؟ قال : أقبلت من عند ربّي ، فهذا ما كان على عهد نبيّكما موسى (عليه السلام) .
  وأمّا ما كان على عهد نبيّنا فذلك قوله في محكم كتابه : ( مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَة إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَة إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ) (1) الآية .
  قال اليهوديّان : فما منع صاحبيك أن يكونا جعلاك في موضعك الذي أنت أهله ؟ فوالذي أنزل التوراة على موسى إنّك لأنت الخليفة حقّاً ، نجد صفتك في كتبنا ونقرؤه في كنائسنا ، وإنّك لأنت أحقّ بهذا الأمر وأولى به ممّن قد غلبك عليه .
  فقال علي (عليه السلام) : قدّما وأخّرا وحسابهما على الله عزّ وجلّ يوقفان ويسألان ) (2).
  11 ـ ما رواه سلمان الفارسي في حديث طويل يذكر فيه قدوم الجاثليق إلى المدينة مع مئة من النصارى بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) وسؤاله أبا بكر عن مسائل لم يجبه عنها ثمّ أُرشد إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فسأله عنها فأجابه ، فكان فيما سأله أن قال له :
  ( أخبرني عن وجه الربّ تبارك وتعالى ، فدعا علي (عليه السلام) بنار وحطب فأضرمه فلمّا إشتعلت قال علي (عليه السلام) : أين وجه هذه النار ؟
  قال النصراني : هي وجه من جميع حدودها .
  قال علي (عليه السلام) : هذه النار مدبّرة مصنوعة لا تعرف وجهها ، وخالقها لا

---------------------------
(1) سورة المجادلة : (الآية 7) .
(2) بحار الأنوار : (ج3 ص324 ب14 ح22) .

العقائد الحقّة _ 176 _

  يشبهها ؟ ولله المشرق والمغرب فأينما تولّوا فثمّ وجه الله ، لا يخفى على ربّنا خافية ) (1) ، والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة .
  12 ـ حديث جابر قال : قال الباقر (عليه السلام) :
  ( ياجابر ! ما أعظم فرية أهل الشام على الله عزّ وجلّ ، يزعمون أنّ الله تبارك وتعالى حيث صعد إلى السماء وضع قدمه على صخرة بيت المقدّس ، ولقد وضع عبد من عباد الله قدمه على حجر فأمر الله تبارك وتعالى أن نتّخذه مصلّى .
  ياجابر ! إنّ الله تبارك وتعالى لا نظير له ولا شبيه ، تعالى عن صفة الواصفين ، وجلّ عن أوهام المتوهّمين ، واحتجب عن أعين الناظرين ، لا يزول مع الزائلين ، ولا يأفل مع الآفلين ، ليس كمثله شيء ، وهو السميع العليم ) (2).
  الرابعة : أنّه تعالى ليس بمرئيّ
  ولا تراه العيون ولا تدركه الحواس لا في الدنيا ولا في الآخرة .
  وقد اتّفقت على ذلك الإماميّة الحقّة ، وخالف في ذلك فرقة الكرامية ، فذهبوا إلى جواز رؤيته مطلقاً ، وخالفت الأشاعرة أيضاً فذهبوا إلى جواز رؤيته في الآخرة ، وتمسّكوا لذلك باُمور واهية تلاحظها مع الجواب عليها في إرشاد الطالبين (3).

---------------------------
(1) بحار الأنوار : (ج3 ص328 ب14 ح28) .
(2) بحار الأنوار : (ج3 ص329 ب14 ح31) .
(3) إرشاد الطالبين للفاضل المقداد : (ص244) .

العقائد الحقّة _ 177 _

  والدليل البرهاني قائم على امتناع الرؤية بنحو مطلق دائماً وأبداً ، كتاباً وسنّةً وعقلا :
  فمن الكتاب :
  1 ـ قوله تعالى : ( لاَ تُدْرِكُهُ الاَْبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاَْبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (1).
  2 ـ قوله تعالى : ( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي ) (2) و ( لن ) لنفي التأبيد .
  ومن السنّة :
  الأحاديث الكثيرة التي مرّ بعضها ممّا صرّح بعدم إدراكه بالحواس .
  وللمثال لاحظ بيان أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث ذعلب الوارد في الكافي جاء فيه :
  ( لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان ) (3).
  ولاحظ خطبة سيّدة النساء فاطمة (عليها السلام) في مسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) التي هي بيان كامل للمعارف الكاملة جاء فيها توصيف الله تعالى بما يلي :
  ( الممتنع من الأبصار رؤيته ، ومن الألسن صفته ، ومن الأوهام

---------------------------
(1) سورة الأنعام : (الآية 103) .
(2) سورة الأعراف : (الآية 143) .
(3) اُصول الكافي : (ج1 ص138 ح4) .

العقائد الحقّة _ 178 _

  كيفيته ) (1).
  والوهم على سعته لا يمكنه درك خالقه ، فكيف بالعين الصغيرة ؟
  كما تلاحظ في الحديثين التاليين :
  1 ـ حديث الأشعث بن حاتم أنّه سأل الرضا (عليه السلام) عن شيء من التوحيد ؟
  فقال : ( ألا تقرأ القرآن ؟ قلت : نعم ، قال : اقرأ : ( لاَ تُدْرِكُهُ الاَْبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاَْبْصَارَ ) (2) ، فقرأت ، فقال : وما الأبصار ؟ قلت : أبصار العين ، قال : لا إنّما عنى الأوهام ، لا تدرك الأوهام كيفيّته وهو يدرك كلّ فهم ) (3).
  2 ـ حديث أبي هاشم ، عن الإمام أبي جعفر الجواد (عليه السلام) نحوه ، إلاّ أنّه قال : ( الأبصار هاهنا أوهام العباد ، والأوهام أكثر من الأبصار ، وهو يدرك الأوهام ولا تدركه الأوهام ) (4).
  ومن العقل :
  قضاء البداهة بأنّ كلّ مرئي في سُنّة النظر ، وفي جميع الكون يكون جسماً وفي جهة وذا مكان وصورة ، والله تعالى منزّه عن جميع ذلك .
  مع أنّ الوجدان يحكم بكون المرئي محاطاً بالنظر ، والله تعالى محيط هو بكلّ شيء ، فلا يكون محاطاً ، لذلك لا يكون مرئياً ، وهو في مرتبة الخالقية فلا

---------------------------
(1) العوالم : (11/2 ص655) .
(2) سورة الأنعام : (الآية 103) .
(3) بحار الأنوار : (ج3 ص308 ب13 ح46) .
(4) بحار الأنوار : (ج3 ص308 ب13 الحديث المنقول عن المحاسن) .

العقائد الحقّة _ 179 _

  يحيط به المخلوق .
  مضافاً إلى أنّه لو صحّ أن يكون مرئياً لرأيناه ، والتالي باطل فالمقدّم مثله .
  فيستفاد أنّ الله تعالى لا يمكن رؤيته وليس بمرئي إطلاقاً .
  الخامسة : أنّه تعالى ليس محلا للحوادث
  فلا يصحّ عليه النوم واليقظة ، والحركة والسكون ، والقيام والقعود ، والطفولة والكهولة ، والشباب والشيب ، والضعف والكلال ونحو ذلك .
  كما دلّ عليه أوّلا الكتاب الكريم :
  في مثل قوله تعالى : ( لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ ) (1).
  ودلّت عليه ثانياً السنّة الشريفة :
  في مثل حديث أبي المغرا عن أبي جعفر (عليه السلام) قال :
  ( إنّ الله تعالى خلوٌ من خلقه ، وخلقه خلوٌ منه ) (2).
  ودلّ عليه ثالثاً حكم العقل :
  من حيث إنّ هذه الاُمور الحادثة توجب الإنفعال والتأثّر ، والإنفعال ممتنع عليه ، لأنّه من صفة المادّيات ، والله تعالى ليس مادّياً فلا يكون منفعلا أو متغيّراً ولا يكون محلا للحوادث .

---------------------------
(1) سورة البقرة : (الآية 255) .
(2) بحار الأنوار : (ج3 ص322 ب14 ح18) .

العقائد الحقّة _ 180 _

  مضافاً إلى أنّ تلك الحوادث هي من لوازم الجسم والله تعالى منزّه عن الجسمية .
  بالإضافة إلى أنّ تلك الاُمور عوارض مخلوقة حادثة ، والخالق القديم يستحيل عليه أن يتّصف ذاتاً بالصفات المخلوقة الحادثة ، فلا تكون الحوادث عارضة عليه .
  ثمّ إنّ ما ورد في القرآن الكريم من وصفه تعالى بشيء من تلك الصفات كقوله عزّ إسمه : ( رَضِىَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (1) ، وقوله تعالى : ( وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ ... ) (2) ، وقوله تعالى : ( فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ ) (3) ونحو ذلك ، فهي مؤوّلة بأنّ المراد في جملة منها غاياتها ونتائجها دون مباديها ونفس حالاتها ، فغاية الرضا مثلا الإكرام والإحسان ، وغاية الغضب مثلا العقاب والعذاب ، فيكون رضاه تعالى بمعنى إكرامه ، وغضبه بمعنى معاقبته ، ولذا قيل في حقّه تعالى : ( خذ الغايات واترك المبادي ) .
  كما يكون ( آسفونا ) بمثل معنى ( آسفوا أولياءنا ) ، فإنّ لله تعالى أولياء منتسبين إليه من حاربهم فكأنّما حارب الله ، ومن آذاهم فكأنّما آذى الله ، كما في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ( فاطمة بضعة منّي مَن آذاها فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ) (4).

---------------------------
(1) سورة المائدة : (الآية 119) .
(2) سورة الفتح : (الآية 6) .
(3) سورة الزخرف : (الآية 55) .
(4) إحقاق الحقّ : (ج10 ص206) .

العقائد الحقّة _ 181 _

  كما أفاده في حقّ اليقين (1).
  السادسة : إنّ صفاته المقدّسة الذاتية كالعلم والقدرة ليست زائدة على ذاته
  كما زعمته الأشاعرة ، بل هي عين ذاته الشريفة كما دلّت عليه الأدلّة الشرعية ، والبراهين العقلية مثل :
  ألف ) الأحاديث المتظافرة التي تلاحظها في كتاب التوحيد ولنذكر نبذة منها فيما يلي :
  1 ـ حديث أبي بصير ، قال سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول :
  ( لم يزل الله جلّ وعزّ ربّنا والعلم ذاته ولا معلوم ، والسمع ذاته ولا مسموع ، والبصر ذاته ولا مبصَر ، والقدرة ذاته ولا مقدور ، فلمّا أحدث الأشياء وكان المعلوم وقع العلم منه على المعلوم ، والسمع على المسموع ، والبصر على المبصَر ، والقدرة على المقدور ، قال : قلت : فلم يزل الله متكلّماً ؟ قال : إنّ الكلام صفة محدثة ليست بأزلية ، كان الله عزّ وجلّ ولا متكلّم ) (2).
  2 ـ حديث حمّاد بن عيسى ، قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) فقلت :
  ( لم يزل الله يعلم ؟ قال : أنّى يكون يعلم ولا معلوم ، قال : قلت : فلم يزل الله يسمع ؟ قال : أنّى يكون ذلك ولا مسموع ، قال : قلت : فلم يزل يبصر ؟ قال : أنّى يكون ذلك ولا مبصر ، قال : ثمّ قال : لم يزل الله عليماً

---------------------------
(1) حقّ اليقين : (ج1 ص37) .
(2) التوحيد للصدوق : (ص139 ب11 ح1) ، ولعلّ الأصل فيه : ولا تكلّم .

العقائد الحقّة _ 182 _

  سميعاً بصيراً ، ذات علامة سميعة بصيرة ) (1).
  3 ـ حديث الحسين بن خالد ، قال : سمعت الرضا علي بن موسى (عليهما السلام) يقول :
  ( لم يزل الله تبارك وتعالى عليماً قادراً حيّاً قديماً سميعاً بصيراً ، فقلت له : يا بن رسول الله ! إنّ قوماً يقولون : إنّه عزّ وجلّ لم يزل عالماً بعلم ، وقادراً بقدرة ، وحيّاً بحياة ، وقديماً بقدم ، وسميعاً بسمع ، وبصيراً ببصر ، فقال (عليه السلام) : من قال ذلك ودان به فقد اتّخذ مع الله آلهة اُخرى ، وليس من ولايتنا على شيء .
  ثمّ قال (عليه السلام) : لم يزل الله عزّ وجلّ عليماً قادراً حيّاً قديماً سميعاً بصيراً لذاته ، تعالى عمّا يقول المشركون والمشبّهون علوّاً كبيراً ) (2).
  ب ) الحكم العقلي الجزمي بكون صفاته عين ذاته وخلاصة تقريره كما يلي :
  إنّه لو كانت تلك الصفات زائدة على الذات لكانت أحد إثنين : إمّا قديمة وإمّا حادثة ، وكلاهما محالٌ .
  أمّا إستحالة الأوّل ، فلأنّه يستلزم تعدّد القدماء ، وهو باطل مخالف للعقل بواسطة لزومه التسلسل ، ومخالف للإجماع أيضاً ، ولهذا كفرت النصارى بقولهم بِقِدَم الأقانيم (3).

---------------------------
(1) التوحيد للصدوق : (ص139 ب11 ح2) .
(2) التوحيد للصدوق : (ص140 ب11 ح3) .
(3) الأقانيم : جمع أقنوم وهو لفظ سرياني بمعنى الأصل ، كما في مجمع البحرين : (ص53 مادّة ـ قنم ـ ) .

العقائد الحقّة _ 183 _

  وأمّا إستحالة الثاني : فلأنّه يلزم منه كون الله تعالى محلا للحوادث ، وهو باطل قطعاً كما ثبت قبلا (1).
  فيستحيل بحكم العقل زيادة الصفات على الذات ، فيحكم العقل والعقلاء بكون تلك الصفات الذاتية عين ذاته القدسية .
  السابعة : أنّه تعالى ليس بمحتاج إلى شيء ، لا في ذاته ولا في صفاته بل هو الغني المغني
  ومعنى الغِنى هو عدم الحاجة والإحتياج ، ولذا ذكر في الصفات السلبية .
  ومعنى كونه غنيّاً غير محتاج ، هو أنّه الغني بنفسه عن غيره وعن الإستعانة بالآلات والأدوات وغيرها ، كما فسّره الشيخ الصدوق (2).
  وهو الذي استغنى عن الخلق وهم إليه محتاجون ، فلا تعلّق له بغيره لا في ذاته ولا في شيء من صفاته ، بل هو منزّه عن العلاقة كما فسّره الشيخ الكفعمي (3).
  وهو الغني الذي لا يحتاج إلى أحد والكلّ محتاج إليه ، وهو الغني مطلقاً لا يشاركه فيه غيره ، كما فسّره الشيخ الطريحي (4).
  وحاصل المعنى في هذه الصفة ، استغناؤه الذاتي المطلق وعدم إحتياجه إلى شيء ، وقد دلّ على غناه الكتاب والسنّة والعقل بالبيان التالي :

---------------------------
(1) إرشاد الطالبين للفاضل المقداد : (ص223) .
(2) التوحيد : (ص286) .
(3) المصباح : (ص325) .
(4) مجمع البحرين : (ص67 مادّة ـ غني ـ ) .

العقائد الحقّة _ 184 _

  1 ـ دليل الكتاب :
  في آيات كثيرة منها قوله تعالى : ( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِىٌّ حَمِيدٌ ) (1).
  2 ـ دليل السنّة المباركة :
  في أحاديث متعدّدة نظير أسماء الله الحسنى التي منها (الغنيّ) في حديث الإمام الصادق (عليه السلام) الذي تقدّم عن التوحيد (2).
  3 ـ دليل العقل في حكمه بغنى الله تبارك وتعالى بوجوه عديدة :
  الأوّل : أنّ الحاجة مختصّة بمن يجوز عليه الضرر والنفع ، والله سبحانه لا يصحّ عليه الضرر ولا النفع ، فلا تقع عليه الحاجة ... وإذا استحالت الحاجة ثبت كونه غنيّاً كما إستدلّ به أبو الصلاح الحلبي (3).
  الثاني : أنّ الحاجة إمّا أن تكون في الذات أو في الصفات ، وكلا القسمان باطلان في حقّه تعالى لوجوب وجوده فلا يكون فيه نقص ، ولا يفتقر إلى غيره فهو الغني بذاته ، كما إستدلّ به العلاّمة الحلّي (4).
  الثالث : أنّه قد ثبت قِدَمه عزّ اسمه بالبراهين القطعية ، والقديم هو الذي يتقدّم على الكلّ فيكون غنيّاً عن الكلّ كما إستدلّ به السيّد الشبّر (5).

---------------------------
(1) سورة البقرة : (الآية 267) .
(2) التوحيد : (ص194 ب29 ح8) .
(3) تقريب المعارف : (ص87) .
(4) نهج المسترشدين : (ص47) .
(5) حقّ اليقين : (ج1 ص37) .

العقائد الحقّة _ 185 _

  الثامنة : أنّه تعالى لا يحلّ في غيره ، ولا يتّحد مع غيره
  كما زعمته بعض الفرق الضالّة ، وعبّروا عنه بالحلول والإتّحاد .
  فهما باطلان شرعاً ، لما تقدّم من أحاديث تنزّه الخالق عن ذلك ، نظير حديث أبي المغرا عن أبي عبدالله (عليه السلام) :
  ( إنّ الله تعالى خلوٌ من خَلقه وخلقه خلوٌ منه ) (1).
  وكذلك هما باطلان عقلا لما يلي :
  أمّا بطلان الحلول فلوجوه هي :
  أوّلا : لأنّ الحال يحتاج إلى محلٍّ يحلّ فيه ، والإحتياج من خواصّ الممكن ، وأمّا الواجب فهو أجلّ من الإحتياج فلا يمكن فيه الحلول .
  ثانياً : إنّ الحلول في مكان يستلزم الخلوّ من مكان آخر ، والله تعالى موجود في كلّ مكان ومحيط بكلّ شيء .
  ثالثاً : إنّ حلول شيء في شيء ملازم للجسمية ، والله سبحانه منزّه عن الجسمية (2).
  وأمّا بطلان الإتّحاد فلوجهين :
  الأوّل : قضاء الضرورة والوجدان والبداهة ، ببطلان الإتّحاد ، وإدراك المغايرة بين الخالق وبين المخلوق ، وكلّ يعرف أنّه غير ربّه ، كما بيّنه العلاّمة أعلى الله مقامه (3).
  الثاني : أنّه مع فرض الإتّحاد ، فالمتّحدان بعد اتّحادهما إن بقيا

---------------------------
(1) بحار الأنوار : (ج3 ص322 ب14 ح18) .
(2) حقّ اليقين : (ج1 ص38) .
(3) نهج المسترشدين : (ص47) .

العقائد الحقّة _ 186 _

  موجودين فهما إثنان لا واحد ، وإن صارا معدومين وصارا وجهاً ثالثاً فلا إتّحاد في البين ، بل هو إعدام شيء وإيجاد شيء آخر ، وإن عدم أحدهما وبقي الآخر لم يتحقّق اتّحاد لأنّ المعدوم لا يتّحد مع الموجود ، كما بيّنه الفاضل المقداد (1).
  فالإتّحاد محال في نفسه ، فكيف يمكن إثباته في الخالق ؟
  فيبطل ما إدّعاه النصارى في حقّه تعالى اتّحاد الأقانيم الثلاثة : الأب والإبن وروح القدس ، واتّحاد ناسوت المسيح باللاهوت (2).
  كما يبطل ما ادّعته جماعة من المتصوّفة ، من الإتّحاد وأنّه إذا وصل العارف نهاية مراتبه انتفت هويّته ، وصار الموجود هو الله تعالى وحده وسُمّي هذه المرتبة عندهم بالفناء في التوحيد .
  وقد ردّ عليهم ابن سينا في أكثر كتبه كما يستفاد من الإرشاد (3).
  كما وأنّ العلاّمة المجلسي جعل الإعتقاد بأي واحد من الحلول والإتّحاد من الكفر ، كما تلاحظه في كتاب الإعتقادات (4).
  كما وأنّ السيّد الفقيه الطباطبائي في العروة الوثقى (5) حكم بنجاسة القائلين بوحدة الوجود من الصوفية مع العلم بالتزامهم بلوازم مذاهبهم من المفاسد ، وقرّره الفقهاء المحشّون على العروة .
  هذا تمام الكلام في بحث التوحيد ، والحمد لله الربّ المجيد .

---------------------------
(1) إرشاد الطالبين : (ص238) .
(2) يعبّرون باللاهوت عن الاُلوهية ، وبالناسوت عن الطبيعة البشرية كما في الرائد : (ص1270 و1467) .
(3) إرشاد الطالبين : (ص238) .
(4) إعتقادات العلاّمة المجلسي : (ص26) .
(5) العروة الوثقى : (الثامن من النجاسات المسألة 2) .

العقائد الحقّة _ 187 _

العـدل
  سبق منّا الوعد بذكر العدل الذي هو من أسماء الله الحسنى ومن صفاته العليا ، والذي يعتبر الإعتقاد به من اُصول المذهب والدين ، ومن دعائم شريعة سيّد المرسلين صلوات الله عليه وآله الطاهرين .
  وعدل الله تعالى وإن كان من جملة صفاته الكماليّة ، إلاّ أنّه اُفرد بالذكر لكثرة مباحثه ومتعلّقاته المذكورة في المفصّلات .
  والعدل في أصل اللغة نقيض الجور كما في كتاب العين (1).
  قال في التوحيد : ( العدل معناه الحكم بالعدل والحقّ ، وسمّي به توسّعاً لأنّه مصدر ، والمراد به العادل ) (2).
  وقال في المصباح : ( العدل أي ذو العدل وهو مصدر أُقيم مقام الأصل ، وصف به سبحانه للمبالغة لكثرة عدله ، والعدل هو الذي لا يجور في الحكم ) (3).
  وقال في المجمع : ( العدل من أسمائه تعالى وهو مصدر اُقيم مقام الإسم ، وحقيقة ذو العدل هو الذي لا يميل به الهوى فيجور في الحكم ... وعند المتكلّمين

---------------------------
(1) العين للخليل : (ج2 ص39) .
(2) توحيد الصدوق : (ص208) .
(3) المصباح للكفعمي : (ص322) .

العقائد الحقّة _ 188 _

  هي العلوم المتعلّقة بتنزيه ذات الباري عن فعل القبيح والإخلال بالواجب ) (1) أي الإخلال بالوجوب العقلي ، وهو الحُسن .
  وأفاد في حقّ اليقين : ( إنّ العدل هو إعتقاد أنّ الله عادل في مخلوقاته ، غير ظالم لهم ، ولا يفعل قبيحاً ، ولا يخل بواجب ، ولا يجور في قضائه ولا يحيف في حكمه وابتلائه ، وله أن يثيب المطيعين ويعاقب العاصين ، ولا يكلّف الخلق ما لا يطيقون ، ولا يعاقبهم زيادةً على ما يستحقّون ، ولا يقابل مستحقّ الأجر والثواب بأليم العذاب والعقاب ، ولم يجبر عباده على الأفعال خصوصاً القبيحة ويعاقبهم عليها ) (2).
  وقد دلّ النقل والعقل ، كتاباً وسنّةً على عدله تعالى وأنّه لا يظلم أبداً :
  أمّا دليل الكتاب :
  ففي أكثر من ثلاثين آية أحصاها العلاّمة المجلسي (3) منها ما يلي :
  1 ـ قوله تعالى : ( ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّم لِلْعَبِيدِ ) (4).
  2 ـ قوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّة وَإِنْ تَكُنْ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً ) (5).
  3 ـ قوله تعالى : ( وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ

---------------------------
(1) مجمع البحرين : (ص484) .
(2) حقّ اليقين : (ج1 ص55) .
(3) بحار الأنوار : (ج5 ص2 الباب الأوّل من أبواب العدل) .
(4) سورة آل عمران : (الآية 182) .
(5) سورة النساء : (الآية 40) .

العقائد الحقّة _ 189 _

  لاَ يُظْلَمُونَ ) (1).
  وأمّا دليل السنّة :
  وهي المنهل العذب للحكمة والمعدن الصفو للعلم ، وقد حكمت وجعلت العدل أساساً للدين كما في حديث التوحيد (2).
  والمعارف الحقّة مركّزة على أساس العدل ، فكانت عدالة الله من اُصول المذهب والدين ومن صفات الله باليقين كما تلاحظها في الأحاديث الشريفة التالية :
  1 ـ حديث سيّدنا عبدالعظيم الحسني ، عن الإمام علي بن محمّد ، عن أبيه الإمام محمّد بن علي ، عن أبيه الإمام الرضا علي بن موسى (عليهم السلام) قال :
  ( خرج أبو حنيفة ذات يوم من عند الصادق (عليه السلام) فاستقبله موسى بن جعفر (عليه السلام) فقال له : يا غلام ! ممّن المعصية ؟
  فقال (عليه السلام) : لا تخلو من ثلاثة : إمّا أن تكون من الله عزّ وجلّ وليست منه فلا ينبغي للكريم أن يعذّب عبده بما لم يكتسبه ، وإمّا أن تكون من الله عزّ وجلّ ومن العبد فلا ينبغي للشريك القوي أن يظلم الشريك الضعيف ، وإمّا أن تكون من العبد وهي منه فإن عاقبه الله فبذنبه وإن عفا عنه فبكرمه وجودِه ) (3).
  2 ـ ما روي عن الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) حين قيل له :

---------------------------
(1) سورة المؤمنون : (الآية 62) .
(2) التوحيد : (ص96 ب5 ح1) .
(3) بحار الأنوار : (ج5 ص4 ب1 ح2) .

العقائد الحقّة _ 190 _

  ( أيكون العبد مستطيعاً ؟
  قال : نعم بعد أربع خصال : أن يكون مخلّى السرب ، صحيح الجسم ، سليم الجوارح ، له سبب وارد من الله عزّ وجلّ ، فإذا تمّت هذه فهو مستطيع .
  فقيل له : مثل أي شيء ؟
  فقال : يكون الرجل مخلّى السرب ، صحيح الجسم ، سليم الجوارح لا يقدر أن يزني إلاّ أن يرى امرأة فإذا وجد المرأة فإمّا أن يعصم فيمتنع كما امتنع يوسف ، وإمّا أن يخلي بينه وبينها فيزني وهو زان ولم يطع الله بإكراه ، ولم يعص بغلبة ) (1).
  3 ـ حديث العقائد أنّه قال أبو جعفر (عليه السلام) :
  ( في التوراة مكتوب مسطور : يا موسى ! إنّي خلقتك واصطفيتك وقوّيتك وأمرتك بطاعتي ، ونهيتك عن معصيتي ، فإن أطعتني أعنتك على طاعتي ، وإن عصيتني لم أعنك على معصيتي ، ولي المنّة عليك في طاعتك ، ولي الحجّة عليك في معصيتك ) (2).
  4 ـ حديث حريز ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال :
  ( الناس في القَدَر على ثلاثة أوجه : رجل زعم أنّ الله عزّ وجلّ أجبر الناس على المعاصي فهذا قد ظلم الله عزّ وجلّ في حكمه وهو كافر ، ورجل يزعم أنّ الأمر مفوّض إليهم فهذا وهن الله في سلطانه فهو كافر ، ورجل يقول : إنّ الله عزّ وجلّ كلّف العباد ما يطيقون ، ولم يكلّفهم ما لا

---------------------------
(1) بحار الأنوار : (ج5 ص8 ب1 ح10) .
(2) بحار الأنوار : (ج5 ص9 ب1 ح12) .

العقائد الحقّة _ 191 _

  يطيقون ، فإذا أحسن حمد الله ، وإذا أساء استغفر الله فهذا مسلم بالغ ) (1).
  5 ـ حديث إبراهيم بن أبي محمود قال : سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ : ( وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَات لاَ يُبْصِرُونَ ) (2) ؟
  فقال : ( إنّ الله تبارك وتعالى لا يوصف بالترك كما يوصف خلقه ، ولكنّه متى علم أنّهم لا يرجعون عن الكفر والضلال منعهم المعاونة واللطف ، وخلّى بينهم وبين اختيارهم .
  قال : وسألته عن قول الله عزّ وجلّ : ( خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ) (3) ؟
  قال : الختم هو الطبع على قلوب الكفّار عقوبة على كفرهم كما قال تعالى : ( بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلا ) (4).
  قال : وسألته عن الله عزّ وجلّ هل يجبر عباده على المعاصي ؟
  فقال : بل يخيّرهم ويمهلهم حتّى يتوبوا .
  قلت : فهل يكلّف عباده ما لا يطيقون ؟ فقال : كيف يفعل ذلك وهو يقول : ( وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّم لِلْعَبِيدِ ) (5) ؟

---------------------------
(1) بحار الأنوار : (ج5 ص9 ب1 ح14) .
(2) سورة البقرة : (الآية 17) .
(3) سورة البقرة : (الآية 7) .
(4) سورة النساء : (الآية 155) .
(5) سورة فصلت : (الآية 46) .

العقائد الحقّة _ 192 _

  ثمّ قال (عليه السلام) : حدّثني أبي موسى بن جعفر ، عن أبيه جعفر بن محمّد (عليهم السلام) أنّه قال : من زعم أنّ الله يجبر عباده على المعاصي أو يكلّفهم ما لا يطيقون فلا تأكلوا ذبيحته ، ولا تقبلوا شهادته ، ولا تصلّوا وراءه ، ولا تعطوه من الزكاة شيئاً ) (1).
  6 ـ حديث يزيد بن عمير بن معاوية الشامي قال : دخلت على علي بن موسى الرضا (عليه السلام) بمرو فقلت له : يا بن رسول الله ! روي لنا عن الصادق جعفر بن محمّد (عليه السلام) أنّه قال :
  ( لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين ، فما معناه ؟
  فقال : من زعم أنّ الله يفعل أفعالنا ثمّ يعذّبنا عليها فقد قال : بالجبر ، ومن زعم أنّ الله عزّ وجلّ فوّض أمر الخلق والرزق إلى حججه (عليهم السلام) فقد قال بالتفويض ، فالقائل بالجبر كافر والقائل بالتفويض مشرك .
  فقلت له : يا بن رسول الله ! فما أمر بين أمرين ؟
  فقال : وجود السبيل إلى إتيان ما اُمروا به وترك ما نهوا عنه . فقلت له : فهل لله عزّ وجلّ مشيّة وإرادة في ذلك ؟
  فقال : أمّا الطاعات فإرادة الله ومشيّته فيها الأمر بها ، والرضا لها ، والمعاونة عليها ، وإرادته ومشيّته في المعاصي النهي عنها ، والسخط لها ، والخذلان عليها .
  قلت : فللّه عزّ وجلّ فيها القضاء ؟
  قال : نعم ما من فعل يفعله العباد من خير وشرّ إلاّ ولله فيه قضاء .
  قلت : فما معنى هذا القضاء ؟

---------------------------
(1) بحار الأنوار : (ج5 ص11 ب1 ح17) .

العقائد الحقّة _ 193 _

  قال : الحكم عليهم بما يستحقّونه على أفعالهم من الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة ) (1).
  7 ـ حديث الإمام الرضا عن آبائه ، عن الحسين بن علي (عليهم السلام) : دخل رجل من أهل العراق على أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال : أخبرنا عن خروجنا إلى أهل الشام أبقضاء من الله وقدر ؟
  فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام) :
  ( أجل ياشيخ ! فوالله ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد إلاّ بقضاء من الله وقدر .
  فقال الشيخ : عند الله أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين !
  فقال : مهلا ياشيخ ! لعلّك تظنّ قضاءاً حتماً وقدراً لازماً ، لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب ، والأمر والنهي والزجر ، ولسقط معنى الوعد والوعيد ، ولم تكن على مسيء لائمة ، ولا لمحسن محمدة ، ولكان المحسن أولى باللائمة من المذنب ، والمذنب أولى بالإحسان من المحسن ، تلك مقالة عبدة الأوثان وخصماء الرحمن ، وقدريّة هذه الاُمّة ومجوسها ، ياشيخ ! إنّ الله عزّ وجلّ كلّف تخييراً ، ونهى تحذيراً ، وأعطى على القليل كثيراً ، ولم يُعص مغلوباً ، ولم يُطع مكرهاً ، ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا ، ذلك ظنّ الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار .
  قال : فنهض الشيخ وهو يقول :
أنت الإمام الذي نرجو بطاعته      يوم النجاة من الرحمن iiغفرانا

---------------------------
(1) بحار الأنوار : (ج5 ص11 ب1 ح18) .

العقائد الحقّة _ 194 _

أوضحت من ديننا ما كان ملتبساً      جـزاك  ربّـك عنّا فيه iiإحسانا
  ... ) (1) إلى آخر الأبيات .
  8 ـ حديث الجعفري ، عن الإمام أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال : ( ذكر عنده الجبر والتفويض فقال : ألا اُعطيكم في هذا أصلا لا تختلفون فيه ولا يخاصمكم عليه أحد إلاّ كسرتموه ؟
  قلنا : إن رأيت ذلك .
  فقال : إنّ الله عزّ وجلّ لم يُطع بإكراه ، ولم يُعص بغلبة ، ولم يهمل العباد في ملكه ، هو المالك لما ملّكهم ، والقادر على ما أقدرهم عليه ، فإن ائتمر العباد بطاعته لم يكن الله عنها صادّاً ، ولا منها مانعاً ، وإن ائتمروا بمعصيته فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل ، وإن لم يحل وفعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه .
  ثمّ قال (عليه السلام) : من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه ) (2).
  9 ـ حديث هشام بن الحكم قال : سأل الزنديق أبا عبدالله (عليه السلام) فقال : ( أخبرني عن الله عزّ وجلّ كيف لم يخلق الخلق كلّهم مطيعين موحّدين وكان على ذلك قادراً ؟
  قال (عليه السلام) : لو خلقهم مطيعين لم يكن لهم ثواب لأنّ الطاعة إذا ما كانت فعلهم لم تكن جنّة ولا نار ، ولكن خلق خلقه فأمرهم بطاعته ، ونهاهم عن معصيته واحتجّ عليهم برسله ، وقطع عذرهم بكتبه ليكونوا هم الذين يطيعون ويعصون ، ويستوجبون بطاعتهم له الثواب ،

---------------------------
(1) بحار الأنوار : (ج5 ص13 ب1 ح19) .
(2) بحار الأنوار : (ج5 ص16 ب1 ح22) .

العقائد الحقّة _ 195 _

  وبمعصيتهم إيّاه العقاب .
  قال : فالعمل الصالح من العبد هو فعله ، والعمل الشرّ من العبد هو فعله ؟
  قال : العمل الصالح العبد يفعله والله به أمره ، والعمل الشرّ العبد يفعله والله عنه نهاه .
  قال : أليس فعله بالآلة التي ركّبها فيه ؟
  قال : نعم ، ولكن بالآلة التي عمل بها الخير قدر بها على الشرّ الذي نهاه عنه .
  قال : فإلى العبد من الأمر شيء ؟
  قال : ما نهاه الله عن شيء إلاّ وقد علم أنّه يطيق تركه ، ولا أمره بشيء إلاّ وقد علم أنّه يستطيع فعله لأنّه ليس من صفته الجور والعبث والظلم وتكليف العباد ما لا يطيقون .
  قال : فمن خلقه الله كافراً يستطيع الإيمان وله عليه بتركه الإيمان حجّة ؟
  قال (عليه السلام) : إنّ الله خلق خلقه جميعاً مسلمين ، أمرهم ونهاهم ، والكفر اسم يلحق الفعل حين يفعله العبد ، ولم يخلق الله العبد حين خلقه كافراً ، إنّه إنّما كفر من بعد أن بلغ وقتاً لزمته الحجّة من الله فعرض عليه الحقّ فجحده ، فبإنكاره الحقّ صار كافراً .
  قال : فيجوز أن يقدّر على العبد الشرّ ويأمره بالخير وهو لا يستطيع الخير أن يعمله ويعذّبه عليه ؟
  قال : إنّه لا يليق بعدل الله ورأفته أن يقدّر على العبد الشرّ ويريده

العقائد الحقّة _ 196 _

  منه ، ثمّ يأمره بما يعلم أنّه لا يستطيع أخذه ، والإنزاع عمّا لا يقدر على تركه ، ثمّ يعذّبه على تركه أمره الذي علم أنّه لا يستطيع أخذه ) (1) الخبر .
  10 ـ حديث داود بن قبيصة قال : سمعت الرضا (عليه السلام) يقول :
  ( سئل أبي (عليه السلام) : هل منع الله عمّا أمر به ؟ وهل نهى عمّا أراد ؟ وهل أعان على ما لم يرد ؟
  فقال (عليه السلام) : أمّا ما سألت : هل منع الله عمّا أمر به ؟ فلا يجوز ذلك ، ولو جاز ذلك لكان قد منع إبليس عن السجود لآدم ، ولو منع إبليس لعذره ولم يلعنه .
  وأمّا ما سألت : هل نهى عمّا أراد ؟ فلا يجوز ذلك ، ولو جاز ذلك لكان حيث نهى آدم عن أكل الشجرة أراد منه أكلها ، ولو أراد منه أكلها ما نادى عليه صبيان الكتاتيب ( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ) (2) والله تعالى لا يجوز عليه أن يأمر بشيء ويريد غيره .
  وأمّا ما سألت عنه من قولك : هل أعان على ما لم يرد ؟ فلا يجوز ذلك ، وجلّ الله تعالى عن أن يعين على قتل الأنبياء وتكذيبهم ، وقتل الحسين بن علي والفضلاء من ولده ، وكيف يعين على ما لم يرد وقد أعدّ جهنّم لمخالفيه ، ولعنهم على تكذيبهم لطاعته ، وإرتكابهم لمخالفته ، ولو جاز أن يعين على ما لم يرد لكان أعان فرعون على كفره وادّعائه أنّه ربّ العالمين ! أفترى أراد الله من فرعون أن يدّعي

---------------------------
(1) بحار الأنوار : (ج5 ص18 ب1 ح29) .
(2) سورة طه : (الآية 121) .

العقائد الحقّة _ 197 _

  الربوبية ؟ يستتاب قائل هذا فإن تاب من كذبه على الله ، وإلاّ ضربت عنقه ) (1).
  11 ـ روي أنّه دخل أبو حنيفة المدينة ومعه عبدالله بن مسلم فقال له : يا أبا حنيفة ! إنّ هاهنا جعفر بن محمّد من علماء آل محمّد (عليهم السلام) فاذهب بنا إليه نقتبس منه علماً ، فلمّا أتيا إذاً هما بجماعة من شيعته ينتظرون خروجه أو دخولهم عليه ، فبينما هم كذلك إذ خرج غلام حدث فقام الناس هيبةً له ، فالتفت أبو حنيفة فقال : يا بن مسلم ! من هذا ؟ قال : هذا موسى إبنه ، قال : والله لاُجبّهنّه بين يدي شيعته . قال : مه ! لن تقدر على ذلك ، قال : والله لأفعلنّه .
  ثمّ التفت إلى موسى (عليه السلام) فقال :
  ( يا غلام ! أين يضع الغريب حاجته في بلدتكم هذه ؟
  قال : يتوارى خلف الجدار ، ويتوقّى أعين الجار ، وشطوط الأنهار ، ومسقط الثمار ، ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ، فحينئذ يضع حيث شاء ، ثمّ قال : يا غلام ! ممّن المعصية ؟
  قال : ياشيخ ! لا تخلو من ثلاث إمّا أن تكون من الله وليس من العبد شيء فليس للحكيم أن يأخذ عبده بما لم يفعله ، وإمّا أن تكون من العبد ومن الله ، والله أقوى الشريكين فليس للشريك الأكبر أن يأخذ الشريك الأصغر بذنبه ، وإمّا أن تكون من العبد وليس من الله شيء فإن شاء عفا وإن شاء عاقب .
  قال : فأصابت أبا حنيفة سكتة كأنّما اُلقم فوه الحجر .

---------------------------
(1) بحار الأنوار : (ج5 ص25 ب1 ح31) .

العقائد الحقّة _ 198 _

  قال : فقلت له : ألم أقل لك لا تتعرّض لأولاد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟ ) (1).
  12 ـ حديث محمّد الحلبي ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال :
  ( ما أُمر العباد إلاّ بدون سعتهم ، فكلّ شيء أمر الناس بأخذه فهم متّسعون له ، وما لا يتّسعون له فهو موضوع عنهم ، ولكنّ الناس لا خير فيهم ) (2).
  13 ـ حديث الهروي قال : سأل المأمون الرضا (عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ : ( الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاء عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً ) (3) ?
  فقال : ( إنّ غطاء العين لا يمنع من الذكر ، والذكر لا يرى بالعيون ، ولكنّ الله شبّه الكافرينَ بولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام) بالعميان ، لأنّهم كانوا يستثقلون قول النبي (صلى الله عليه وآله) فيه ، وكانوا لا يستطيعون سمعاً .
  فقال المأمون : فرّجت عنّي فرّج الله عنك ) (4).
  14 ـ حديث هشام بن سالم ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : ( ما كلّف الله العباد إلاّ ما يطيقون ، وإنّما كلّفهم في اليوم والليلة خمس صلوات ، وكلّفهم من كلّ مئتي درهم خمسة دراهم ، وكلّفهم صيام شهر رمضان في السنة ، وكلّفهم حجّة واحدة وهم يطيقون

---------------------------
(1) بحار الأنوار : (ج5 ص27 ب1 ح33) .
(2) بحار الأنوار : (ج5 ص36 ب1 ح5) .
(3) سورة الكهف : (الآية 101) .
(4) بحار الأنوار : (ج5 ص40 ب1 ح62) .

العقائد الحقّة _ 199 _

  أكثر من ذلك ، وإنّما كلّفهم دون ما يطيقون ونحو هذا ) (1).
  15 ـ حديث محمّد بن علي المكّي بإسناده قال : إنّ رجلا قدم على النبي (صلى الله عليه وآله) فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله) : أخبرني بأعجب شيء رأيت ، قال : رأيت قوماً ينكحون اُمّهاتهم وبناتهم وأخواتهم فإذا قيل لهم : لِمَ تفعلون ذلك ؟ قالوا : قضاء الله تعالى علينا وقدره .
  فقال النبي (صلى الله عليه وآله) : ( سيكون من اُمّتي أقوام يقولون مثل مقالتهم ، اُولئك مجوس اُمّتي ) (2).
  16 ـ روي أنّ رجلا سأل جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) عن القضاء والقدر ؟
  فقال : ( ما استطعت أن تلوم العبد عليه فهو منه ، وما لم تستطع أن تلوم العبد عليه فهو من فعل الله .
  يقول الله تعالى للعبد : لِمَ عصيت ؟ لِمَ فسقت ؟ لِمَ شربت الخمر ؟ لِمَ زنيت ؟ فهذا فعل العبد ، ولا يقول له : لِمَ مرضت ؟ لِمَ قَصُرت ؟ لِمَ ابيضضت ؟ لِمَ اسوددت ؟ لأنّه من فعل الله ) (3).
  وأمّا دليل العقل على عدله تعالى :
  فهو حكم العقل بالضرورة والبداهة بعدله وعدالته بالتقريب التالي :

---------------------------
(1) بحار الأنوار : (ج5 ص41 ب1 ح66) .
(2) بحار الأنوار : (ج5 ص47 ب1 ح74) .
(3) بحار الأنوار : (ج5 ص59 ب1 ح109) .

العقائد الحقّة _ 200 _

  إنّ الظلم ، والجور ، وفعل القبيح ، وترك الحسن ، يكون ناشئاً إمّا من العجز ، أو النقص ، أو الحقد ، أو البخل ، أو الحسد ، أو الجهل ، أو السفاهة ، أو الإحتياج ... وكلّها محال على الله تعالى لأنّه الغني بالذات ، الرؤوف في الصفات ، والعالم القدير ، والحكيم القويّ .
  فهو مستغن عن الظلم ، منزّه عن القبيح ، وجليل عن النقص .
  وقد ثبت في المنقول ، ودلّت العقول على عدالة الله تعالى في جميع أفعاله وأقواله وحكمه وصنعه ومخلوقاته كما ذهبت إليه الإمامية الحقّة .
  فهو الغني عن ظلمهم والمتفضّل باللطف إليهم .
  كما أنّ جميع أفعاله معلّلة بالحكمة والمصلحة وليست لعباً وعبثاً حتّى تخرج عن مسلك العدل ، لأنّه هو الحكيم العليم .
  على أنّ المصالح والمنافع في أفعاله راجعة إلى عباده ، وعائدة إلى خلقه فلا تقارن الظلم ، وهو المحسن الجواد ، والرحيم بالعباد ، والعادل في قضيّته وبريّته .
  واعلم أنّه في قبال عدالة الله تعالى ، الثابتة بالبراهين الجليّة والمعلومة بالأدلّة العقلية ، خالفت الأشاعرة وتجاوزت هذه الحقيقة الهامّة ونسبت إليه إمكان فعل القبيح والظلم الصريح ... أو التكليف بما لا يطاق ، وإتيان العبث والجبر في الأفعال ، وعدم العدل في المآل ... تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً وجميع مفترياتهم هذه تعود إلى أنّه لا يقبح الظلم حتّى يتنزّه عنه الله تعالى ، ولا يحسن العدل حتّى يفعله الله عزّ اسمه ...
  وهذا منهم على أساس إنكار الحسن والقبح العقلي ذاتاً ، يعني إنكار أنّ للأشياء في حدّ ذاتها حسناً أو قبحاً في نظر العقل ... فلا حسن إلاّ بعد أمر الشارع به ، ولا قبيح إلاّ بعد نهي الشارع عنه ، لذلك لو أمر الشارع بالظلم صار حسناً ولو

العقائد الحقّة _ 201 _

  نهى عن العدل صار قبيحاً ، ولو فعل منكراً صار معروفاً .
  وعلى هذا الإدّعاء الفاسد بنوا نسيج عنكبوتهم وتوغّلوا في أباطيلهم ، وقد مزجوها بإحتجاجات واهية تلاحظها مع الجواب عنها من العلاّمة أعلى الله مقامه في النهج (1).
  وأجاب السيّد الشبّر أيضاً عن دعواهم ودليلهم بأجوبة شافية في حقّ اليقين (2) حاصلها ما يلي :
  1 ـ إنّ هذا إنكار للبديهة الواضحة ، فإنّ كلّ من له أدنى عقل وشعور يعلم حسن الصدق النافع ، وقبح الكذب الضارّ بحكم العقل .
  2 ـ إنّ الشخص العاقل الذي لم يسمع الشرائع ولم يعلم الأحكام ، بل نشأ في البادية ، لو خيّر بين أن يصدق في كلامه ويُعطى ديناراً ، أو يكذب ويعطى ذلك الدينار ، مع عدم ضرر عليه في الصدق أو الكذب لاختار الصدق دون الكذب ، ولولا حكم العقل بحسن الصدق لما فرّق العاقل بين الصدق والكذب ، ولما إختار الصدق دائماً .
  3 ـ إنّه لو كان الحسن والقبح شرعيين غير عقليين ، لما حكم بهما من ينكر جميع الشرائع والأديان ، كالبراهمة والملاحدة مع أنّهم يحكمون بالحسن والقبح بضرورة العقل .
  4 ـ إنّ من الحسّيات التي تقضي بها الضرورة ويدركها الوجدان قباحة الفعل اللغو والعمل العبث بحكم العقل ، كما إذا استأجر أحد أجيراً ليفرغ ماء دجلة في الفرات أو الفرات في دجلة ، وكذا من البديهيات قباحة تكليف ما لا يطاق ، كتكليف الزَمِن المُقعد بالطيران إلى السماء ، أو تكليف الأعمى بتنقيط المصحف ،

---------------------------
(1) نهج المسترشدين : (ص51) .
(2) حقّ اليقين : (ج1 ص56) .

العقائد الحقّة _ 202 _

  وهذا يقضي بتحقّق قبح القبيح في حكومة العقل .
  5 ـ إنّه لو كان الحسن والقبح سمعيّين لا عقليّين ، لما قَبُح من الله إظهار المعجزات على يد الكذّابين مع أنّه قبيح ولا يفعله الحكيم قطعاً ، وتجويز ذلك يسدّ باب معرفة النبوّة التي أذعن بها حتّى الأشاعرة .
  6 ـ إنّه لو كانا شرعيّين فقط لحَسُن من الله أن يأمر بالكفر وتكذيب الأنبياء ، وعبادة الأصنام والمواظبة على الزنا والسرقة لفرض عدم قبحها حينئذ ... وهذا نقض الغرض الذي يُبطله الوجدان .
  7 ـ إنّه لو كانا شرعيّين لم تجب ولم تحسن معرفة الله تعالى ، لتوقّف معرفة هذا الإيجاب والحسن على معرفة الموجِب ، المتوقّفة هي على معرفة الإيجاب فيدور ، ويلزم من عدم عقليّتهما الدور الباطل .
  8 ـ إنّ الضرورة ـ بل الفطرة في الإنسان بل في الحيوان ـ قاضية قطعاً وحاكمة حقّاً بالفرق دائماً بين من أحسن إليها وبين من أساء إليها ، وحسن الأوّل وقبح الثاني بلا شكّ ولا ريب ، وإنّ الله تعالى لا يأمر إلاّ بما هو حسن ولا ينهى إلاّ عمّا هو قبيح ، إنّه عزّ إسمه لا يفعل ظلماً أبداً لغناه ، ولا يصنع قبيحاً أصلا لجلالته ...
  وهذه الوجوه تثبت وجود الحسن الذاتي عقلا وحسن العدالة ذاتاً .
  وأضاف السيّد الورع الخوانساري (قدس سره) الإستدلال بأنّ الواجب تعالى لا يصدر منه الفعل القبيح ، لأنّ ترجيح القبيح إمّا أن يكون من جهة عدم العلم بالمفسدة ، أو من جهة الحاجة ... والواجب تعالى منزّه عن الأمرين ، فالحكيم العالم بالمصالح والمفاسد غير المحتاج كيف يرجّح المرجوح على الراجح ...
  وهذا أصلٌ يبتنى عليه أيضاً حسن بعث الأنبياء وبقاء أوصيائهم في كلّ عصر (1).

---------------------------
(1) العقائد الحقّة : (ص10) .