( نبتدئ يا مفضّل ! بذكر خلق الإنسان فاعتبر به ، فأوّل ذلك ما يدبّر به الجنين في الرحم ، وهو محجوب في ظلمات ثلاث : ظلمة البطن ، وظلمة الرحم ، وظلمة المشيمة
(1) ، حيث لا حيلة عنده في طلب غذاء ولا دفع أذى ، ولا إستجلاب منفعة ولا دفع مضرّة ، فإنّه يجري إليه من دم الحيض ما يغذوه كما يغذو الماء النبات ، فلا يزال ذلك غذاؤه حتّى إذا كمل خلقه وإستحكم بدنه ، وقوي أديمه على مباشرة الهواء ، وبصره على ملاقاة الضياء ، هاج الطلق باُمّه فأزعجه أشدّ إزعاج ، وأعنفه حتّى يولد ، وإذا ولد صرف ذلك الدم الذي كان يغذوه من دم اُمّه إلى ثدييها فانقلب الطعم واللّون إلى ضرب آخر من الغذاء ، وهو أشدّ موافقة للمولود من الدم فيوافيه في وقت حاجته إليه ، فحين يولد قد تلمظ وحرّك شفتيه طلباً للرضاع ، فهو يجد ثديي اُمّه كالإداوتين المعلّقتين
(2) لحاجته إليه ، فلا يزال يغتذي باللبن ما دام رطب البدن ، رقيق الأمعاء ، ليّن الأعضاء ، حتّى إذا تحرّك وإحتاج إلى غذاء فيه صلابة ليشتدّ ويقوى بدنه طلعت له الطواحن من الأسنان والأضراس ، ليمضغ به الطعام فيلين عليه ، ويسهل له إساغته ...
فلا يزال كذلك حتّى يدرك فإذا أدرك وكان ذكراً طلع الشعر في وجهه فكان ذلك علامة الذكر وعزّ الرجل الذي يخرج به من حدّ الصبا وشبه النساء ، وإن كانت اُنثى يبقى وجهها نقيّاً من الشعر ، لتبقى لها
---------------------------
(1) المشيمة : غشاء الجنين الذي يخرج معه عند الولادة .
(2) الإداوة بكسر الهمزة : إناء صغير من جلد يُتّخذ للماء .
العقائد الحقّة
_ 74 _
البهجة والنضارة التي تحرّك الرجال لما فيه دوام النسل وبقاؤه )
(1).
2 ـ عجائب الخلقة في جهاز الصوت والتكلّم في الإنسان
( أطل الفكر يا مفضّل ! في الصوت والكلام وتهيئة آلاته في الإنسان ، فالحنجرة كالاُنبوبة لخروج الصوت ، واللِّسان والشفتان والأسنان لصياغة الحروف والنغم .
ألا ترى أنّ من سقطت أسنانه لم يُقم السين ، ومن سقطت شفته لم يصحّح الفاء ، ومن ثقل لسانه لم يفصح الراء ، وأشبه شيء بذلك المزمار الأعظم ، فالحنجرة يشبه قصبة المزمار ، والرئة تشبه الزقّ
(2) الذي ينفخ فيه لتدخل الريح ، والعضلات التي تقبض على الرية ليخرج الصوت كالأصابع التي تقبض على الزقّ حتّى تجري الريح في المزمار ، والشفتان والأسنان التي تصوغ الصوت حروفاً ونغماً كالأصابع التي يختلف في فم المزمار فتصوغ صفيره ألحاناً ، غير أنّه وإن كان مخرج الصوت يشبه المزمار بالدلالة والتعريف فإنّ المزمار بالحقيقة هو المشبه بمخرج الصوت )
(3).
3 ـ عجيب الصنعة في العين والأجفان والأشفار لحاجة الإنسان
( تأمّل يا مفضّل ! الجفن على العين ، كيف جعل كالغشاء ، والأشفار
---------------------------
(1) بحار الأنوار : (ج3 ص62) .
(2) الزقّ بكسر الزاء : الجلد النافخ الذي يستعمل في المزمار .
(3) بحار الأنوار : (ج3 ص71) .
العقائد الحقّة
_ 45 _
كالأشراج
(1) ، وأولجها في هذا الغار ، وأظلّها بالحجاب وما عليه من الشعر )
(2).
4 ـ عجائب الصنعة الباطنية في الإنسان
( يا مفضّل ! مَن غَيَّب الفؤاد في جوف الصدر ، وكساه المدرعة التي هي غشاؤه ، وحَصّنَه بالجوانح وما عليها من اللحم والعصب لئلاّ يصل إليه ما ينكؤه
(3) ؟
من جعل في الحلق منفذين ؟ أحدهما لمخرج الصوت وهو الحلقوم المتّصل بالرئة ، والآخر منفذ الغذاء وهو المريء المتّصل بالمعدة الموصل الغذاء إليها ، وجعل على الحلقوم طبقاً يمنع الطعام أن يصل إلى الرئة فيقتل .
من جعل الرئة مروّحة الفؤاد لا تفتر ولا تخلّ ؟ لكيلا تتحيّز الحرارة في الفؤاد فتؤدّي إلى التلف .
من جعل لمنافذ البول والغائط أشراجاً تضبطهما ؟ لئلاّ يجريا جرياناً دائماً فيفسد على الإنسان عيشه فكم عسى أن يحصي المحصي من هذا ؟ بل الذي لا يحصى منه ولا يعلمه الناس أكثر .
من جعل المعدة عصبانيّة شديدة وقدّرها لهضم الطعام الغليظ ؟
ومن جعل الكبد رقيقة ناعمة لقبول الصفو اللطيف من الغذاء ، ولتهضم وتعمل ما هو ألطف من عمل المعدة إلاّ الله القادر ؟
---------------------------
(1) وفي نسخة الأشراج ، وهي العُرى .
(2) بحار الأنوار : (ج3 ص73) .
(3) أي ما يجرحه ويؤذيه .
العقائد الحقّة
_ 76 _
أترى الإهمال يأتي بشيء من ذلك ؟
كلاّ ، بل هو تدبير من مدبّر حكيم ، قادر عليم بالأشياء قبل خلقه إيّاها ، لا يعجزه شيء وهو اللطيف الخبير )
(1).
5 ـ عجائب الخلقة في عظام الإنسان ودمه وأظفار أصابعه وهيئة اُذنه والدقّة في خلقه
( فكّر يا مفضّل ! لِمَ صار المخّ الرقيق محصّناً في أنابيب العظام ؟ هل ذلك إلاّ ليحفظه ويصونه ؟
لِمَ صار الدم السائل محصوراً في العروق بمنزلة الماء في الظروف إلاّ لتضبطه فلا يفيض ؟
لِمَ صارت الأظفار على أطراف الأصابع إلاّ وقاية لها ومعونة على العمل ؟
لِمَ صار داخل الاُذن ملتوياً كهيأة الكوكب
(2) إلاّ ليطّرد فيه الصوت حتّى ينتهي إلى السمع وليتكسّر حمّة الريح فلا ينكأ في السمع ؟
لِمَ حمل الإنسان على فخذيه وإليتيه هذا اللحم إلاّ ليقيه من الأرض فلا يتألّم من الجلوس عليهما ، كما يألم من نحل جسمه وقلّ لحمه إذا لم يكن بينه وبين الأرض حائل يقيه صلابتها ؟ ... )
(3).
6 ـ حسن التدبير في خلق شعر الإنسان وأظفاره عديمي الحسّ حتّى لا يتأذّيان بالقصّ
---------------------------
(1) بحار الأنوار : (ج3 ص73) .
(2) وفي بعض النسخ : اللولب ، وهي الآلة ذات محور له دوائر ناتئة .
(3) بحار الأنوار : (ج3 ص74) .
العقائد الحقّة
_ 77 _
( تأمّل واعتبر بحسن التدبير في خلق الشعر والأظفار فإنّهما لمّا كانا ممّا يطول ويكثر حتّى يحتاج إلى تخفيفه أوّلا فأوّلا جعلا عديمي الحسّ لئلاّ يؤلم الإنسان الأخذ منهما .
ولو كان قصُّ الشعر وتقليم الأظفار ممّا يوجد له مسّ من ذلك لكان الإنسان من ذلك بين مكروهين : إمّا أن يدع كلّ واحد منهما حتّى يطول فيثقل عليه ، وإمّا أن يخفّفه بوجع وألم يتألّم منه )
(1).
7 ـ دقّة الصنعة في إحساسات الإنسان بجوعه وعطشه وكذا قواه الباطنية من قوّة الجذب والدفع
( فكّر يا مفضّل ! في الأفعال التي جعلت في الإنسان من الطعم والنوم والجماع وما دبّر فيها ، فإنّه جعل لكلّ واحد منها في الطباع نفسها محرّك يقتضيه ويستحثّ به ، فالجوع يقتضي الطعم الذي به حياة البدن وقوامه ، والكرى
(2) تقتضي النوم الذي فيه راحة البدن وإجمام قواه ، والشبق يقتضي الجماع الذي فيه دوام النسل وبقاؤه .
ولو كان الإنسان إنّما يصير إلى أكل الطعام لمعرفته بحاجة بدنه إليه ولم يجد من طباعه شيئاً يضطرّه إلى ذلك كان خليقاً أن يتوانى عنه أحياناً بالتثقّل والكسل حتّى ينحلّ بدنه فيهلك ، كما يحتاج الواحد إلى الدواء بشيء ممّا يصلح ببدنه فيدافع به حتّى يؤدّيه ذلك إلى المرض والموت .
وكذلك لو كان إنّما يصير إلى النوم بالتفكّر في حاجته إلى راحة
---------------------------
(1) بحار الأنوار : (ج3 ص76) .
(2) الكرى : النعاس الذي يكون مع فتور الأعصاب وتراخي الأجفان ، والإجمام هي الراحة .
العقائد الحقّة
_ 78 _
البدن وإجمام قواه كان عسى أن يتثاقل عن ذلك فيدمغه حتّى ينهك بدنه .
ولو كان إنّما يتحرّك للجماع بالرغبة في الولد كان غير بعيد أن يفتر عنه حتّى يقلّ النسل أو ينقطع ، فإنّ من الناس من لا يرغب في الولد ولا يحفل به ، فانظر كيف جعل لكلّ واحد من هذه الأفعال التي بها قوام الإنسان وصلاحه محرّك من نفس الطبع يحرّكه لذلك ويحدوه عليه
(1).
واعلم أنّ في الإنسان قوى أربعة : قوّة جاذبة تقبل الغذاء وتورده على المعدة ، وقوّة ممسكة تحبس الطعام حتّى تفعل فيه الطبيعة فعلها ، وقوّة هاضمة وهي التي تطبخه ، وتستخرج صفوه وتبثّه في البدن ، وقوّة دافعة تدفعه وتحدر الثفل الفاضل بعد أخذ الهاضمة حاجتها .
تفكّر في تقدير هذه القوى الأربعة التي في البدن وأفعالها وتقديرها للحاجة إليها والارب فيها ، وما في ذلك من التدبير والحكمة ، ولولا الجاذبة كيف يتحرّك الإنسان لطلب الغذاء التي بها قوام البدن ؟
ولولا الماسكة كيف كان يلبث الطعام في الجوف حتّى تهضمه المعدة ؟
ولولا الهاضمة كيف كان ينطبخ حتّى يخلص منه الصفو الذي يغذو البدن ويسدّ خلله ؟
ولولا الدافعة كيف كان الثفل الذي تخلّفه الهاضمة يندفع ويخرج
---------------------------
(1) أي يبعثه ويسوقه إليه .
العقائد الحقّة
_ 79 _
أوّلا فأوّلا ؟
أفلا ترى كيف وكّل الله سبحانه بلطيف صنعه وحسن تقديره هذه القوى بالبدن والقيام بما فيه صلاحه ؟
وساُمثّل لك في ذلك مثالا : إنّ البدن بمنزلة دار الملك ، وله فيها حشم وصبية وقوّام
(1) موكّلون بالدار ، فواحد لإقتضاء حوائج الحشم وإيرادها عليهم ، وآخر لقبض ما يرد وخزنه إلى أن يعالج ويهيّأ ، وآخر لعلاج ذلك وتهيئته وتفريقه ، وآخر لتنظيف ما في الدار من الأقذار وإخراجه منها .
فالملك في هذا هو الخلاّق الحكيم ملك العالمين ، والدار هي البدن ، والحشم هي الأعضاء ، والقوام هي هذه القوى الأربع ، ولعلّك ترى ذكرنا هذه القوى الأربع وأفعالها بعد الذي وصفت فضلا وتزداداً .
وليس ما ذكرته من هذه القوى على الجهة التي ذكرت في كتب الأطباء ، ولا قولنا فيه كقولهم ، لأنّهم ذكروها على ما يحتاج إليه في صناعة الطبّ وتصحيح الأبدان ، وذكرناها على ما يحتاج في صلاح الدين وشفاء النفوس من الغي ، كالذي أوضحته بالوصف الشافي والمثل المضروب من التدبير والحكمة فيها )
(2).
8 ـ قوّة الحفظ والنسيان وهما متضادّتان في الجسم لكن ضروريتان للإنسان
( تأمّل يا مفضّل ! هذه القوى التي في النفس وموقعها من الإنسان ،
---------------------------
(1) الحشم : هم الخدم والعيال ، والقوّام : جمع القيّم ، وهو المتولّي على الشيء .
(2) بحار الأنوار : (ج3 ص78) .
العقائد الحقّة
_ 80 _
أعني الفكر والوهم
(1) والعقل والحفظ وغير ذلك ، أفرأيت لو نقص الإنسان من هذه الخلال الحفظ وحده كيف كانت تكون حاله ؟ وكم من خلل كان يدخل عليه في اُموره ومعاشه وتجاربه إذا لم يحفظ ما له وعليه ، وما أخذه وما أعطى ، وما رأى وما سمع ، وما قال وما قيل له ، ولم يذكر من أحسن إليه ممّن أساء به ، وما نفعه ممّا ضرّه ، ثمّ كان لا يهتدي لطريق لو سلكه ما لا يحصى ، ولا يحفظ علماً ولو درسه عمره ، ولا يعتقد ديناً ، ولا ينتفع بتجربة ، ولا يستطيع أن يعتبر شيئاً على ما مضى ، بل كان حقيقاً أن ينسلخ من الإنسانية أصلا فانظر إلى النعمة على الإنسان في هذه الخلال ، وكيف موقع الواحد منها دون الجميع ؟
وأعظم من النعمة على الإنسان في الحفظ النعمة في النسيان ، فإنّه لولا النسيان لما سلا
(2) أحد عن مصيبة ، ولا إنقضت له حسرة ، ولا مات له حقد ، ولا إستمتع بشيء من متاع الدنيا مع تذكّر الآفات ، ولا رجا غفلة من سلطان ، ولا فترة من حاسد .
أفلا ترى كيف جعل في الإنسان الحفظ والنسيان ، وهما مختلفان متضادّان ، وجعل له في كلّ منهما ضرب من المصلحة ؟
وما عسى أن يقول الذين قسّموا الأشياء بين خالقين متضادّين في هذه الأشياء المتضادّة المتبائنة وقد تراها تجتمع على ما فيه الصلاح
---------------------------
(1) فُسّر الوهم بالقوّة النفسية التي تدرك المعاني غير المحسوسة .
(2) سَلا عن الشيء : أي نسيه وذهل عن ذكره وطابت نفسه عنه .
العقائد الحقّة
_ 81 _
والمنفعة )
(1).
9 ـ حكمة فضيلة علم الإنسان وفي مقابله جهله بمقدار عمره ، وإلاّ لم يكن يتهنّأ بالعيش أو يستقرّ له قرار :
( تأمّل الآن يا مفضّل ! ما ستر عن الإنسان علمه من مدّة حياته .
فإنّه لو عرف مقدار عمره وكان قصير العمر لم يتهنّأ بالعيش مع ترقّب الموت وتوقّعه لوقت قد عرفه ، بل كان
(2) بمنزلة من قد فنى ماله أو قارب الفناء فقد إستشعر الفقر والوجل من فناء ماله وخوف الفقر ، على أنّ الذي يدخل على الإنسان من فناء العمر أعظم ممّا يدخل عليه من فناء المال ، لأنّ من يقلّ ماله يأمل أن يستخلف منه فيسكن إلى ذلك ، ومن أيقن بفناء العمر إستحكم عليه اليأس .
وإن كان طويل العمر ، ثمّ عرف ذلك وثق بالبقاء وإنهمك في اللذّات والمعاصي ، وعمل على أنّه يبلغ من ذلك شهوته ثمّ يتوب في آخر عمره ، وهذا مذهب لا يرضاه الله من عباده ولا يقبله )
(3).
10 ـ عجيب الحكمة في عدم تشابه الناس بعضهم ببعض لأنّهم يحتاجون إلى الإمتياز وحفظ الأنساب بخلاف الوحوش والطير ، فإنّها لم تحتج إلى ذلك فجعلت متشابهة ، مع عجائب اُخرى في التدبير :
( اعتبر لِمَ لا يتشابه الناس واحد بالآخر كما يتشابه الوحوش
---------------------------
(1) بحار الأنوار : (ج3 ص80) .
(2) في نسخة البحار هنا زيادة يكون .
(3) بحار الأنوار : (ج3 ص83) .
العقائد الحقّة
_ 82 _
والطير وغير ذلك ؟ فإنّك ترى السرب من الظباء والقطا
(1) تتشابه حتّى لا يفرّق بين واحد منها وبين الاُخرى ، وترى الناس مختلفة صورهم وخلقهم حتّى لا يكاد إثنان منهم يجتمعان في صفة واحدة .
والعلّة في ذلك أنّ الناس محتاجون إلى أن يتعارفوا بأعيانهم وحُلاهم لما يجري بينهم من المعاملات ، وليس يجري بين البهائم مثل ذلك فيحتاج إلى معرفة كلّ واحد منها بعينه وحليته .
ألا ترى أنّ التشابه في الطير والوحش لا يضرّهما شيئاً ، وليس كذلك الإنسان فإنّه ربّما تشابه التوأمان تشابهاً شديداً فتعظم المؤونة على الناس في معاملتهما حتّى يعطى أحدهما بالآخر ويؤخذ أحدهما بذنب الآخر ، وقد يحدث مثل هذا في تشابه الأشياء فضلا عن تشابه الصورة .
فمَن لطف لعباده بهذه الدقائق التي لا تكاد تخطر بالبال حتّى وقف بها على الصواب إلاّ من وسعت رحمته كلّ شيء ؟
لو رأيت تمثال الإنسان مصوّراً على حائط فقال لك قائل : إنّ هذا ظهر هاهنا من تلقاء نفسه لم يصنعه صانع أكنت تقبل ذلك ؟ بل كنت تستهزئ به فكيف تنكر هذا في تمثال مصوّر جماد ولا تنكر في الإنسان الحيّ الناطق ؟!
لِمَ صارت أبدان الحيوان وهي تغتذي أبداً لا تنمي ، بل تنتهي إلى غاية من النموّ ثمّ تقف ولا تتجاوزها لولا التدبير في ذلك ؟ فإنّ من
---------------------------
(1) السِّرب بكسر السين هو : القطيع والمجموعة ، والقطا واحده القطاة : ضرب من الحمام ذي طوق معروف ، والظباء جمع ظبية وهي : اُنثى الغزال .
العقائد الحقّة
_ 83 _
تدبير الحكيم فيها أن يكون أبدان كلّ صنف منها على مقدار معلوم غير متفاوت في الكبير والصغير ، وصارت تنمي حتّى تصل إلى غايتها ثمّ يقف ثمّ لا يزيد والغذاء مع ذلك دائم لا ينقطع ، ولو كانت تنمي نموّاً دائماً لعظمت أبدانها وإشتبهت مقاديرها حتّى لا يكون لشيء منها حدّ يعرف ، لِمَ صارت أجسام الإنس خاصّة تثقل عن الحركة والمشي
(1) ويجفو عن الصناعات اللطيفة
(2) إلاّ لتعظيم المؤونة فيما يحتاج إليه الناس للملبس والمضجع والتكفين وغير ذلك .
لو كان الإنسان لا يصيبه ألم ولا وجع بم كان يرتدع عن الفواحش ويتواضع لله ويتعطّف على الناس ؟ أما ترى الإنسان إذا عرض له وجع خضع وإستكان ورغب إلى ربّه في العافية وبسط يديه بالصدقة ؟ ولو كان لا يألم من الضرب بم كان السلطان يعاقب الدعار
(3) ويذلّ العصاة المردة ؟ وبم كان الصبيان يتعلّمون العلوم والصناعات ؟ وبم كان العبيد يذلّون لأربابهم ويذعنون لطاعتهم ؟ أفليس هذا توبيخ لابن أبي العوجاء وذويه اللّذين جحدوا التدبير ، والمانويّة الذين أنكروا الألم والوجع .
لو لم يولد من الحيوان إلاّ ذكر فقط أو اُناث فقط ألم يكن النسل منقطعاً ؟ وباد مع ذلك أجناس الحيوان ؟ فصار بعض الأولاد يأتي
---------------------------
(1) أي المشي الكثيرة والحركة المجهدة .
(2) أي الدقيقة المُتعبة ... فهذا ممّا يدعو إلى المساعدة والمعاضدة بين أفراد الإنسان .
(3) الدعار : جمع داعر وهو الشخص الخبيث .
العقائد الحقّة
_ 84 _
ذكوراً وبعضها يأتي اُناثاً ليدوم التناسل ولا ينقطع .
لِمَ صار الرجل والمرأة إذا أدركا نبتت لهما العانة ثمّ نبتت اللّحية للرجل وتخلّفت عن المرأة لولا التدبير في ذلك ؟ فإنّه لمّا جعل الله تبارك وتعالى الرجل قيّماً ورقيباً على المرأة وجعل المرأة عُرساً وخولا للرجل
(1) أعطى الرجل اللّحية لما له من العزّة والجلالة والهيبة ، ومنعها المرأة لتبقى لها نضارة الوجه والبهجة التي تشاكل المفاكهة والمضاجعة .
أفلا ترى الخلقة كيف تأتي بالصواب في الأشياء وتتخلّل مواضع الخطأ ، فتعطي وتمنع على قدر الإرب والمصلحة بتدبير الحكيم عزّ وجلّ
(2).
11 ـ عجائب الحكمة في خلقة الحيوانات ، وتربيتها منذ ولادتها وإنفقاس البيضة عنها إلى حين تربيتها وتغذيتها إلى أن تكمل :
( انظر الآن إلى ذوات الأربع كيف تراها تتّبع اُمّاتها
(3) مستقلّة بأنفسها لا تحتاج إلى الحمل والتربية كما تحتاج أولاد الإنس ، فمن أجل أنّه ليس عند اُمّهاتها ما عند اُمّهات البشر من الرفق والعلم بالتربية والقوّة عليها بالأكفّ والأصابع المهيئة لذلك اُعطيت النهوض والإستقلال بأنفسها ، وكذلك ترى كثيراً من الطير كمثل
---------------------------
(1) يقال : خوّله الله تعالى نعمةً أي أعطاه .
(2) بحار الأنوار : (ج3 ص87) .
(3) اُمّات جمع اُمّ ، قيل : إنّها تستعمل في البهائم ، وأمّا في الناس فهي اُمّهات .
العقائد الحقّة
_ 85 _
الدجاج والدُرّاج
(1) والقَبْج
(2) تدرج وتلقط حين ينقاب عنها البيض .
فأمّا ما كان منها ضعيفاً لا نهوض فيه كمثل فراخ الحمام واليمام والحمر فقد جعل في الاُمّهات فضل عطف عليها فصارت تمجّ الطعام في أفواهها بعد ما توعيه حواصلها فلا تزال تغذوها حتّى تستقلّ بأنفسها .
ولذلك لم ترزق الحمام فراخاً كثيرة مثل ما ترزق الدجاج لتقوى الاُمّ على تربية فراخها فلا تفسد ولا تموت ، فكلٌّ اُعطي بقسط من تدبير الحكيم اللطيف الخبير )
(3).
12 ـ حكمة التدبير في خلق الحيوانات التي تحمل وتسخّر كالحمار والثور والفرس والإبل والغنم ونحو ذلك ، ثمّ حالة العطوفة التي جُعلت لمحافظتها وحراستها في الكلب :
( أما ترى الحمار كيف يذلّ للطحن والحمولة وهو يرى الفرس مودعاً منعّماً ؟ والبعير لا يطيقه عدّة رجال لو إستعصى ، كيف كان ينقاد للصبي ؟ والثور الشديد كيف كان يذعن لصاحبه حتّى يضع النير
(4) على عنقه ويحرث به ؟ والفرس الكريم يركب السيوف والأسنّة بالمواتاة لفارسه ، والقطيع من الغنم يرعاه رجل واحد ولو تفرّقت الغنم فأخذ كلّ واحد منها في ناحية لم يلحقها ، وكذلك جميع
---------------------------
(1) الدرّاج بضمّ الدال وتشديد الراء : ضرب من الطير ، أرقط بسواد وبياض أو أنقط .
(2) القَبْج بفتح القاف وسكون الباء وقيل : بفتحها وهو : الحجل أو نوع منه ، معرّب ( كبك ) .
(3) بحار الأنوار : (ج3 ص93) .
(4) النير بكسر النون هي : الخشبة المعترضة في عنق الثورين بأدات الحرث .
العقائد الحقّة
_ 86 _
الأصناف مسخّرة للإنسان .
فبِمَ كانت كذلك ؟ إلاّ بأنّها عدمت العقل والرويّة فإنّها لو كانت تعقل وتروي في الاُمور كانت خليقة أن تلتوي على الإنسان في كثير من مآربه ، حتّى يمتنع الجمل على قائده ، والثور على صاحبه ، وتتفرّق الغنم عن راعيها ، وأشباه هذا من الاُمور .
وكذلك هذه السباع لو كانت ذات عقل ورويّة فتوازرت على الناس كانت خليقة أن تجتاحهم
(1) فمن كان يقوم للأسد والذئاب والنمورة والدببة لو تعاونت وتظاهرت على الناس .
أفلا ترى كيف حجر ذلك عليها وصارت مكان ما كان يُخاف من إقدامها ونكايتها تهاب مساكن الناس وتحجم عنها ثمّ لا تظهر ولا تنشر لطلب قوتها إلاّ بالليل ؟ فهي مع صولتها كالخائف للإنس بل مقموعة ممنوعة منهم ، ولولا ذلك لساورتهم في مساكنهم وضيّعت عليهم
(2).
ثمّ جعل في الكلب من بين هذه السباع عطف على مالكه ومحاماة عنه وحفاظ له فهو ينتقل على الحيطان والسطوح في ظلمة الليل لحراساة منزل صاحبه ، وذبّ الدغار عنه
(3).
ويبلغ من محبّته لصاحبه أن يبذل نفسه للموت دونه ودون ماشيته وماله ، ويألفه غاية الاُلف حتّى يصبر معه على الجوع والجفوة .
---------------------------
(1) أي تستأصلهم وتهلكهم .
(2) في نسخة : وضيّقت عليهم .
(3) الدغار بتخفيف الغين هو : الإختلاس ، وفي بعض النسخ : الذعار .
العقائد الحقّة
_ 87 _
فلِمَ طُبع الكلب على هذا الاُلف إلاّ ليكون حارساً للإنسان ، اُعين بأنياب ومخالب ونباح هائل ليذعر منه السارق ويتجنّب المواضع التي يحميها ويخفرها )
(1).
13 ـ التدبير اللطيف في خلق الفيل وتناوله بمشفره وخرطومه ، حيث لم يتمكّن من الوصول إلى الطعام برأسه :
( تأمّل مِشفر الفيل
(2) وما فيه من لطيف التدبير فإنّه يقوم مقام اليد في تناول العلف والماء وإزدرادهما إلى جوفه ، ولولا ذلك ما استطاع أن يتناول شيئاً من الأرض لأنّه ليست له رقبة يمدّها كسائر الأنعام ، فلمّا عدم العنق اُعين مكان ذلك بالخرطوم الطويل ليسدله فيتناول به حاجته .
فمن ذا الذي عوّضه مكان العضو الذي عدمه ما يقوم مقامه إلاّ الرؤوف بخلقه ؟ وكيف يكون هذا بالإهمال كما قالت الظَلَمة ؟ )
(3).
14 ـ الفطرة العجيبة في الوحوش والسباع في دفن موتاها وستر جيفها :
( فكّر يا مفضّل ! في خلقة عجيبة جعلت في البهائم ، فإنّهم يوارون أنفسهم إذا ماتوا كما يواري الناس موتاهم ، وإلاّ فأين جيف هذه الوحوش والسباع وغيرها لا يرى منها شيء ؟ وليست قليلة فتخفى لقلّتها ، بل لو قال قائل : إنّها أكثر من الناس لَصَدق .
فاعتبر ذلك بما تراه في الصحاري والجبال من أسراب الظبا
---------------------------
(1) بحار الأنوار : (ج3 ص94) .
(2) المشفر بكسر الميم هي شفة الحيوان ، وفي الفيل هو الخرطوم .
(3) بحار الأنوار : (ج3 ص96) .
العقائد الحقّة
_ 88 _
والمها
(1) والحمير والوعول
(2) والأيائل
(3) وغير ذلك من الوحوش ، وأصناف السباع من الأسد والضباع والذئاب والنمور وغيرها ، وضروب الهوام والحشرات ودواب الأرض ، وكذلك أسراب الطير من الغربان والقطا والإوزّ والكراكي
(4) والحمام وسباع الطير جميعاً وكلّها لا يرى منها شيء إذا ماتت إلاّ واحد بعد الواحد يصيده قانص أو يفترسه سبع ، فإذا أحسّوا بالموت كمنوا في مواضع خفيّة فيموتون فيها ، ولولا ذلك لامتلأت الصحاري منها حتّى تفسد رائحة الهواء ويحدث الأمراض والوباء ، فانظر إلى هذا الذي يخلص إليه الناس وعلموه بالتمثيل الأوّل الذي مثّل لهم كيف جعل طبعاً وادّكاراً في البهائم وغيرها ليسلم الناس من معرّة ما يحدث عليهم من الأمراض والفساد )
(5).
15 ـ عجيب التفكير والتدبير في الحيوانات كالغزال الذي يأكل الحيّات ولا يشرب الماء حتّى لا ينتشر السمّ في بدنه ، وكذلك الدلفين يحتال لصيد الطير والثعلب يدبّر غذاءه في صيده :
( فكّر يا مفضّل ! في الفِطَن التي جعلت في البهائم لمصلحتها بالطبع والخلقة لطفاً من الله عزّ وجلّ لهم ، لئلاّ يخلو من نعمه جلّ وعزّ أحد
---------------------------
(1) المها جمع مهاة ، وهي : البقرة الوحشية .
(2) الوعول جمع وعل ، وهو : المعز الجبلي .
(3) الأيائل جمع أيّل ، نوع من الوعول يمتاز بقرون متشعّبة يسمّى بالفارسية : گوَزن .
(4) الكراكي جمع كركي بضمّ الكاف الاُولى : طائر كبير أغبر اللون ، طويل العنق والرجلين ، أبتر الذنب ، يأوي إلى الماء .
(5) بحار الأنوار : (ج3 ص99) .
العقائد الحقّة
_ 89 _
من خلقه لا بعقل ورويّة .
فإنّ الاُيّل
(1) يأكل الحيّات فيعطش عطشاً شديداً فيمتنع من شرب الماء خوفاً من أن يدبّ السمّ في جسمه فيقتله ، ويقف على الغدير وهو مجهود عطشاً ، فيعجّ عجيجاً عالياً ولا يشرب منه ولو شرب لمات من ساعته ، فانظر إلى ما جعل من طباع هذه البهيمة من تحمّل الظماء الغالب خوفاً من المضرّة في الشرب ، وذلك ممّا لا يكاد الإنسان العاقل المميّز يضبطه من نفسه .
والثعلب إذا أعوزه الطعم تماوت ونفخ بطنه حتّى يحسبه الطير ميّتاً فإذا وقعت عليه لتنهشه وثب عليها فأخذها ; فمن أعان الثعلب العديم النطق والرويّة بهذه الحيلة إلاّ من توكّل بتوجيه الرزق له من هذا وشبهه ؟ فإنّه لمّا كان الثعلب يضعف عن كثير ممّا يقوى عليه السباع من مساورة الصيد اُعين بالدهاء والفطنة والإحتيال لمعاشه .
والدُلفين
(2) يلتمس صيد الطير فيكون حيلته في ذلك أن يأخذ السمك فيقتله ويشرحه حتّى يطفو على الماء ، يكمن تحته ويثوّر الماء الذي عليه حتّى لا يتبيّن شخصه ، فإذا وقع الطير على السمك الطافي وثب إليها فإصطادها ، فانظر إلى هذه الحيلة كيف جعلت طبعاً في هذه البهيمة لبعض المصلحة ؟ )
(3).
---------------------------
(1) الاُيّل هز الغزال .
(2) الدُلفين بضمّ الدال وسكون اللام : من الحيتان البحرية الكبيرة تسمّى في العربية الدخس .
(3) بحار الأنوار : (ج3 ص100) .
العقائد الحقّة
_ 90 _
16 ـ دقيق الصنع في الطائر بجعل خلقته خفيفةً مساعدة على الطيران ، مع إحكام في بدنه وريشه ومآكله :
( تأمّل يا مفضّل ! جسم الطائر وخلقته فإنّه حين قدّر أن يكون طائراً في الجوّ خفّف جسمه واُدمج خلقه ، فاقتصر به من القوائم الأربع على إثنتين ، ومن الأصابع الخمس على أربع ، ومن منفذين للزبل والبول على واحد يجمعهما .
ثمّ خلق ذا جؤجؤ
(1) محدّد ليسهل عليه أن يخرق الهواء كيف ما أخذ فيه ، كما جُعلت السفينة بهذه الهيئة لتشقّ الماء وتنفذ فيه ، وجعل في جناحيه وذنبه ريشات طوال متان لينهض بها للطيران ، وكسي كلّه الريش ليداخله الهواء فيقلّه
(2).
ولمّا قُدّر أن يكون طعمه الحبّ واللحم يبلعه بلعاً بلا مضغ نقص من خلقه الأسنان ، وخلق له منقار صلب جاس
(3) يتناول به طعمه فلا ينسجح من لقط الحبّ ، ولا يتقصّف من نهش اللحم .
ولمّا عدم الأسنان وصار يزدرد الحبّ صحيحاً واللحم غريضاً
(4) اُعين بفضل حرارة في الجوف تطحن له الطعم طحناً يستغني به عن المضغ ، واعتبر ذلك بأنّ عجم العنب
(5) وغيره يخرج من أجواف
---------------------------
(1) الجؤجؤ من الطائر هو : الصدر ، والجمع جآجئ .
(2) أي يحمله ويرفعه .
(3) الجاسي هو : الصلب ، وعدم الانسجاح هو : عدم الليونة ولا يتقصّف ، أي لا ينكسر .
(4) الغريض هو : الطريّ .
(5) عُجم العنب هو : نواه الصغير .
العقائد الحقّة
_ 91 _
الإنس صحيحاً ، ويطحن في أجواف الطير لا يرى له أثر .
ثمّ جعل ممّا يبيض بيضاً ولا يلد ولادة لكيلا يثقل عن الطيران فإنّه لو كانت الفراخ في جوفه تمكث حتّى تستحكم لأثقلته وعاقته عن النهوض والطيران ، فجعل كلّ شيء من خلقه مشاكلا للأمر الذي قدِّر أن يكون عليه .
ثمّ صار الطائر السائح في هذا الجو يقعد على بيضه فيحضنه اُسبوعاً ، وبعضها اُسبوعين ، وبعضها ثلاثة أسابيع حتّى يخرج الفرخ من البيضة ، ثمّ يقبل عليه فيزقّه الريح لتتّسع حوصلته للغذاء ، ثمّ يربّيه ويغذّيه بما يعيش به ، فمن كلّفه أن يلقط الطعم ويستخرجه بعد أن يستقرّ في حوصلته ويغذو به فراخه ؟ ولأي معنى يحتمل هذه المشقّة وليس بذي رويّة ولا تفكّر ؟ ولا يأمل في فراخه ما يأمل الإنسان في ولده من العزّ والرفد
(1) وبقاء الذكر ؟
فهذا هو فعل يشهد بأنّه معطوف على فراخه ، لعلّة لا يعرفها ولا يفكّر فيها وهي دوام النسل وبقاؤه لطفاً من الله تعالى ذكره .
انظر إلى الدجاجة كيف تهيج لحضن البيض والتفريخ ، وليس لها بيض مجتمع ولا وكر
(2) موطئ بل تنبعث وتنتفخ وتقوقى
(3) وتمتنع من الطعم حتّى يجمع لها البيض فتحضنه وتفرخ ، فلِمَ كان ذلك منها إلاّ لإقامة النسل ؟ ومَن أخذها بإقامة النسل ولا رويّة ولا
---------------------------
(1) الرفد بكسر الراء هي : المعونة والعطاء .
(2) الوكر بفتح الواو هو : عشّ الطائر .
(3) أي تصيح .
العقائد الحقّة
_ 92 _
تفكّر لولا أنّها مجبولة على ذلك ؟ .
اعتبر بخلق البيضة وما فيها من المح الأصفر الخاثر
(1) ، والماء الأبيض الرقيق ، فبعضه لينتشر منه الفرخ ، وبعضه ليغذّى به
(2) ، إلى أن تنقاب عنه البيضة ، وما في ذلك من التدبير ، فإنّه لو كان نشوء الفرخ في تلك القشرة المستحصنة التي لا مساغ لشيء إليها لجعل معه جوفها من الغذاء ما يكتفي به إلى وقت خروجه منها ، كمن يحبس في حبس حصين لا يوصل إلى من فيه فيجعل معه من القوت ما يكفي به إلى وقت خروجه منه .
فكّر في حوصلة الطائر وما قدِّر له ، فإنّ مسلك الطعم إلى القانصة
(3)ضيق لا ينفذ فيه الطعام إلاّ قليلا قليلا ، فلو كان الطائر لا يلتقط حبّة ثانية حتّى تصل الاُولى إلى القانصة لطال عليه ، ومتى كان يستوفي طعمه ؟ فإنّما يختلسه إختلاساً لشدّة الحذر ، فجعلت الحوصلة كالمخلاة المعلّقة أمامه ليوعي فيها ما أدرك من الطعم بسرعة ثمّ تنفذه إلى القانصة على مهل ، وفي الحوصلة أيضاً خلّة اُخرى ; فإنّ من الطائر ما يحتاج إلى أن يزقّ فراخه فيكون ردّه للطعم من قرب أسهل عليه .
وتأمّل ريش الطير كيف هو ؟ فإنّك تراه منسوجاً كنسج الثوب من
---------------------------
(1) المُحّ بضمّ الميم هي : صُفرة البيض ، والخاثر هو : الثخين .
(2) في نسخة : ليغتذى به .
(3) القانصة للطير كالمعدة للإنسان .
العقائد الحقّة
_ 93 _
سلوك
(1) دقائق قد اُلّف بعضه إلى بعض كتأليف الخيط إلى الخيط والشعرة إلى الشعرة ، ثمّ ترى ذلك النسج إذا مددته ينفتح قليلا ولا ينشقّ لتداخله الريح فيقلّ الطائر إذا طار ، وترى في وسط الريشة عموداً غليظاً متيناً قد نسج عليه الذي هو مثل الشعر ليمسكه بصلابته ، وهو القصبة التي هو في وسط الريشة ، وهو مع ذلك أجوف ليخفّ على الطائر ولا يعوقه عن الطيران .
هل رأيت يا مفضّل ! هذا الطائر الطويل الساقين
(2) ؟ وعرفت ما له من المنفعة في طول ساقيه ؟ فإنّه أكثر ذلك في ضحضاح من الماء فتراه بساقين طويلين كأنّه ربيئة
(3) فوق مَرقَب وهو يتأمّل ما يدبّ في الماء ، فإذا رأى شيئاً ممّا يتقوّت به خطا خطوات رقيقاً حتّى يتناوله ، ولو كان قصير الساقين وكان يخطو نحو الصيد ليأخذه يصيب بطنه الماء فيثور ويذعر منه فيتفرّق عنه فخلق له ذلك العمودان ليدرك بهما حاجته ولا يفسد عليه مطلبه .
تأمّل ضروب التدبير في خلق الطائر فإنّك تجد كلّ طائر طويل الساقين طويل العنق وذلك ليتمكّن من تناول طعمه من الأرض ، ولو كان طويل الساقين قصير العنق لما استطاع أن يتناول شيئاً من الأرض ، وربّما اُعين مع طول العنق بطول المناقير ليزداد الأمر عليه سهولةً له وإمكاناً .
---------------------------
(1) سلوك جمع سلك وهو : الخيط .
(2) تنطبق هذه الأوصاف على الطائر المائي المعروف بالأنيس .
(3) الربيئة : العين التي ترقب .
العقائد الحقّة
_ 94 _
أفلا ترى أنّك لا تفتّش شيئاً من الخلقة إلاّ وجدته على غاية الصواب والحكمة ؟ .
انظر إلى العصافير كيف تطلب أكلها بالنهار ؟ فهي لا تفقده ولا هي تجده مجموعاً معدّاً بل تناله بالحركة والطلب ، وكذلك الخلق كلّه فسبحان من قدّر الرزق كيف قوّته ؟ فلم يجعل ممّا لا يقدر عليه إذ جعل للخلق حاجة إليه ، ولم يجعله مبذولا وينال بالهوينا
(1) إذا كان لا صلاح في ذلك فإنّه لو كان يوجد مجموعاً معدّاً كانت البهائم تتقلّب عليه ولا تنقلع حتّى تبشم
(2) فتهلك ، وكان الناس أيضاً يصيرون بالفراغ إلى غاية الأشر والبطر حتّى يكثر الفساد ويظهر الفواحش .
أعَلِمْتَ ما طعم هذه الأصناف من الطير التي لا تخرج إلاّ بالليل كمثل البوم والهام
(3) والخفّاش ؟
قلت : لا يا مولاي .
قال : إنّ معاشها من ضروب تنتشر في هذا الجوّ من البعوض والفراش وأشباه الجراد واليعاسيب
(4) ، وذلك أنّ هذه الضروب مبثوثة في الجوّ لا يخلو منها موضع .
واعتبر ذلك بأنّك إذا وضعت سراجاً بالليل في سطح أو عرصة دار إجتمع عليه من هذا شيء كثير فمن أين يأتي ذلك كلّه إلاّ من القرب ؟ .
---------------------------
(1) الهوينا : الرفق والتؤدة .
(2) البشم : الإتخام من الطعام .
(3) الهام جمع هامة : نوع من البوم الصغير .
(4) اليعاسيب جمع يعسوب ، هو : ذكر النحل وأميرها .
العقائد الحقّة
_ 95 _
فإن قال قائل : إنّه يأتي من الصحاري والبراري ، قيل له : كيف يوافي تلك الساعة من موضع بعيد ؟ وكيف يبصر من ذلك البعد سراجاً في دار محفوفة بالدور فيقصد إليه ؟ مع أنّ هذه عياناً تتهافت على السراج من قرب فيدلّ ذلك على أنّها منتشرة في كلّ موضع من الجوّ ، فهذه الأصناف من الطير تلتمسها إذا خرجت فتتقوّت بها .
فانظر كيف وجّه الرزق لهذه الطيور التي لا تخرج إلاّ بالليل من هذه الضروب المنتشرة في الجوّ .
واعرف مع ذلك المعنى في خلق هذه الضروب المنتشرة التي عسى أن يظنّ ظانّ أنّها فضل لا معنى له .
خلق الخفّاش خلقة عجيبة بين خلقة الطير وذوات الأربع أقرب ، وذلك أنّه ذو اُذنين ناشزتين
(1) وأسنان ووبر وهو يلد ولاداً ويرضع ويبول ويمشي إذا مشى على أربع ، وكلّ هذا خلاف صفة الطير ، ثمّ هو أيضاً ممّا يخرج بالليل ويتقوّت ممّا يسري في الجوّ من الفراش وما أشبهه .
وقد قال قائلون : إنّه لا طُعم للخفّاش ، وإنّ غذاءه من النسيم وحده .
وذلك يفسد ويبطل من جهتين : إحداهما خروج ما يخرج منه من الثفل والبول فإنّ هذا لا يكون من غير طُعم ، والاُخرى أنّه ذو أسنان ولو كان لا يطعم شيئاً لم يكن للأسنان فيه معنى ، وليس في الخلقة شيء لا معنى له .
وأمّا المآرب فيه فمعروفة حتّى أنّ زبله يدخل في بعض الأعمال
---------------------------
(1) من النشوز بمعنى الإرتفاع عن المكان .
العقائد الحقّة
_ 96 _
ومن أعظم الإرب فيه خلقته العجيبة الدالّة على قدرة الخالق جلّ شأنه ، وتصرّفها فيما شاء كيف شاء لضرب من المصلحة .
فأمّا الطائر الصغير الذي يقال له : ( ابن تمرة )
(1) فقد عشّش في بعض الأوقات في بعض الشجر فنظر إلى حيّة عظيمة قد أقبلت نحو عشّه فاغرة فاها لتبلعه فبينما هو يتقلّب ويضطرب في طلب حيلة منها إذ وجد حسكة فحملها فألقاها في فمّ الحيّة ، فلم تزل الحيّة تلتوي وتتقلّب حتّى ماتت . أفرأيت لو لم اُخبرك بذلك كان يخطر ببالك أو ببال غيرك أنّه يكون من حسكة مثل هذه المنفعة العظيمة أو يكون من طائر صغير أو كبير مثل هذه الحيلة ؟ اعتبر بهذا وكثير من الأشياء تكون فيها منافع لا تعرف إلاّ بحادث يحدث به أو خبر يسمع به .
انظر إلى النحل وإحتشاده في صنعة العسل ، وتهيئة البيوت المسدّسة وما ترى في ذلك إجتماعه من دقائق الفطنة ، فإنّك إذا تأمّلت العمل رأيته عجيباً لطيفاً ، وإذا رأيت المعمول وجدته عظيماً شريفاً موقعه من الناس ، وإذا رجعت إلى الفاعل ألفيته غبيّاً جاهلا بنفسه فضلا عمّا سوى ذلك ، ففي هذا أوضح الدلالة على أنّ الصواب والحكمة في هذه الصنعة ليس للنحل بل هي للذي طبعه عليها وسخّره فيها لمصلحة الناس )
(2).
17 ـ القوّة المودعة في الجراد على ضعفه بحيث يعجز الملوك عن إزالته :
---------------------------
(1) ابن تمرة : طائر أصغر من العصفور جميل المنظر له منقار دقيق يمتصّ به التمر والزهر .
(2) بحار الأنوار : (ج3 ص103) .
العقائد الحقّة
_ 97 _
( انظر إلى هذا الجراد ما أضعفه وأقواه فإنّك إذا تأمّلت خلقه رأيته كأضعف الأشياء ، وإن دَلَفَت عساكره نحو بلد من البلدان لم يستطع أحد أن يحميه منه .
ألا ترى أنّ ملكاً من ملوك الأرض لو جمع خيله ورجله ليحمي بلاده من الجراد لم يقدر على ذلك ؟ أفليس من الدلائل على قدرة الخالق أن يبعث أضعف خلقه إلى أقوى خلقه فلا يستطيع دفعه ؟
انظر إليه كيف ينساب على وجه الأرض مثل السيل فيغشي السهل والجبل والبدو والحضر ، حتّى يستر نور الشمس بكثرته فلو كان هذا ممّا يصنع بالأيدي متى كان يجتمع منه هذه الكثرة ؟ وفي كم من سنة كان يرتفع ، فاستدلّ بذلك على القدرة التي لا يؤودها شيء ويكثر عليها )
(1).
18 ـ عجيب الخلقة في الأسماك حيث هي مستغنية بالسباحة ، وغير محتاجة إلى الرئة ، ومكسوة بالقشور والأفلاس لتقيها من الآفات ، مع كثرة نسلها لكثرة الإحتياج إليها :
( تأمّل خلق السمك ومشاكلته للأمر الذي قدِّر أن يكون عليه ، فإنّه خلق غير ذي قوائم لأنّه لا يحتاج إلى المشي إذا كان مسكنه الماء ، وخلق غير ذي رئة لأنّه لا يستطيع أن يتنفّس وهو منغمس في اللجّة ، وجعلت له مكان القوائم أجنحة شداد يضرب بها في جانبيه كما يضرب الملاّح بالمجاذيف من جانبي السفينة ، وكسي جسمه
---------------------------
(1) بحار الأنوار : (ج3 ص108) .
العقائد الحقّة
_ 98 _
قشوراً متاناً متداخلة كتداخل الدروع والجواشن
(1) لتقيه من الآفات ، فاُعين بفضل حسّ في الشمّ لأنّ بصره ضعيف والماء يحجبه ، فصار يشمّ الطعم من البعد البعيد فينتجعه
(2) ، وإلاّ فكيف يعلم به وبموضعه ؟
واعلم أنّ من فيه إلى صماخيه منافذ فهو يعبّ الماء بفيه ويرسله من صماخيه
(3) فيتروّح إلى ذلك كما يتروّح غيره من الحيوان إلى تنسّم هذا النسيم .
فكّر الآن في كثرة نسله وما خصّ به من ذلك ، فإنّك ترى في جوف السمكة الواحدة من البيض ما لا يحصى كثرة ، والعلّة في ذلك أن يتّسع لما يتغذّى به من أصناف الحيوان فإنّ أكثرها يأكل السمك ، حتّى أنّ السباع أيضاً في حافات الآجام
(4) عاكفة على الماء أيضاً كي ترصد السمك فإذا مرّ بها خطفته ، فلمّا كانت السباع تأكل السمك والطير يأكل السمك والناس يأكلون السمك والسمك يأكل السمك كان من التدبير فيه أن يكون على ما هو عليه من الكثرة .
فإذا أردت أن تعرف سعة حكمة الخالق وقصر علم المخلوقين فانظر إلى ما في البحار من ضروب السمك ، ودواب الماء والأصداف ،
---------------------------
(1) الجواشن جمع جوشن ، وهو : الدرع .
(2) أي يطلبه في موضعه .
(3) الصماخ بكسر الصاد : خرق الاُذن الباطن الذي ينفذ إلى الرأس ، وعبّ الماء بمعنى شربه بمصّ من غير تنفّس .
(4) جمع الجمع للأجمة بمعنى الشجر الكثير الملتفّ ، وقيل : الآجمة تكون من القصب .
العقائد الحقّة
_ 99 _
والأصناف التي لا تحصى ولا تعرف منافعها إلاّ الشيء بعد الشيء يدركه الناس بأسباب تحدث ، مثل القرمز
(1) فإنّه إنّما عرف الناس صبغه بأنّ كلبة تجول على شاطئ البحر فوجدت شيئاً من الصنف الذي يسمّى الحلزون
(2) فأكلته فاختضب خطمها بدمه فنظر الناس إلى حسنه فاتّخذوه صبغاً ، وأشباه هذا ممّا يقف الناس عليه حالا بعد حال وزماناً بعد زمان )
(3).
19 ـ حكمة التقدير في الألوان التي خلقها الله في هذه الموجودات ، كما ترى لون السماء أنسب لون لعين الإنسان :
( فكّر في لون السماء وما فيه من صواب التدبير فإنّ هذا اللون أشدّ الألوان موافقة للبصر وتقوية ، حتّى أنّ من صفات الأطباء لمن أصابه شيء أضرّ ببصره إدمان النظر إلى الخضرة وما قرب منها إلى السواد ، وقد وصف الحذّاق منهم لمن كَلَّ بصره الإطّلاع في إجّانة
(4) خضراء مملوّة ماءاً .
فانظر كيف جعل الله جلّ وتعالى أديم السماء بهذا اللون الأخضر إلى السواد ليمسك الأبصار المنقلبة عليه فلا ينكأ فيها بطول مباشرتها له ، فصار هذا الذي أدركه الناس بالفكر والرويّة والتجارب يوجد مفروغاً منه في الخلقة حكمة بالغة ليعتبر بها المعتبرون ، ويفكّر
---------------------------
(1) القرمز هو : الصبغ الأحمر .
(2) الحلزون : دويبة صغيرة تكون في صدف وهي المعروفة بالبُزاق .
(3) بحار الأنوار : (ج3 ص109) .
(4) الإجّانة بكسر الهمزة وتشديد الجيم : إناء تُغسل فيه الثياب .
العقائد الحقّة
_ 100 _
فيها الملحدون )
(1).
20 ـ عجائب الصنعة ، وعلمية الخلقة في جميع الموجودات في هذا الكون في سماواته والأرضين بكواكبها وأشجارها وأعشابها والحرّ والبرد والصيف والشتاء وجميع الموجودات حيث فيها عبرةٌ لمن فكّر ، ودلالة على من تدبّر ، وآية لعلم الخالق الحكيم :
( فكّر يا مفضّل ! في مقادير النهار والليل كيف وقعت على ما فيه صلاح هذا الخلق ، فصار منتهى كلّ واحد منهما إذا امتد إلى خمس عشرة ساعة لا يجاوز ذلك .
أفرأيت لو كان النهار يكون مقداره مئة ساعة أو مئتي ساعة ألم يكن في ذلك بوار
(2) كلّ ما في الأرض من حيوان ونبات ؟ .
أمّا الحيوان فكان لا يهدأ ولا يقرّ طول هذه المدّة ، ولا البهائم كانت تمسك عن الرعي لو دام لها ضوء النهار ، ولا الإنسان كان يفتر عن العمل والحركة ، وكان ذلك سيهلكها أجمع ويؤدّيها إلى التلف .
وأمّا النبات فكان يطول عليه حرّ النهار ووهج الشمس حتّى يجفّ ويحترق .
وكذلك الليل لو امتدّ مقدار هذه المدّة كان يعوق أصناف الحيوان عن الحركة والتصرّف في طلب المعاش حتّى تموت جوعاً ، وتخمد الحرارة الطبيعيّة من النبات حتّى يعفن ويفسد ، كالذي تراه يحدث على النبات إذا كان في موضع لا تطلع عليه الشمس .
---------------------------
(1) بحار الأنوار : (ج3 ص111) .
(2) البوار هو : الهلاك والكساد والبطلان .
العقائد الحقّة
_ 101 _
اعتبر بهذا الحرّ والبرد كيف يتعاوران
(1) العالم ويتصرّفان هذا التصرّف من الزيادة والنقصان والإعتدال لإقامة هذه الأزمنة الأربعة من السنة وما فيهما من المصالح .
ثمّ هما بَعْدُ دباغ الأبدان التي عليها بقاؤها وفيها صلاحها فإنّه لولا الحرّ والبرد وتداولهما الأبدان لفسدت وأخْوت وانتكثت
(2).
فكّر في دخول أحدهما على الآخر بهذا التدريج والترسّل ، فإنّك ترى أحدهما ينقص شيئاً بعد شيء ، والآخر يزيد مثل ذلك حتّى ينتهي كلّ واحد منهما منتهاه في الزيادة والنقصان ، ولو كان دخول إحداهما على الاُخرى مفاجأة لأضرّ ذلك بالأبدان وأسقمها ، كما أنّ أحدكم لو خرج من حمّام حارّ إلى موضع البرودة لَضرّه ذلك وأسقم بدنه .
فلِمَ جعل الله عزّ وجلّ هذا الترسّل في الحرّ والبرد إلاّ للسلامة من ضرر المفاجأة ؟ ولِمَ جرى الأمر على ما فيه السلامة من ضرّ المفاجأة لولا التدبير في ذلك ؟
فإن زعم زاعم أنّ هذا الترسّل في دخول الحرّ والبرد إنّما يكون لإبطاء مسير الشمس في الإرتفاع والإنحطاط سئل عن العلّة في إبطاء مسيرة الشمس في إرتفاعها وإنحطاطها ، فإن اعتلّ في الإبطاء ببُعد ما بين المشرقين
(3) سئل عن العلّة في ذلك ... فلا تزال هذه المسألة ترقى معه إلى حيث رقى من هذا القول حتّى استقرّ على العمد
---------------------------
(1) يتعاوران بمعنى يتداولان .
(2) أخْوَت أي جاعت ، وانتكثت بمعنى انتقضت .
(3) أي المشرق والمغرب .
العقائد الحقّة
_ 102 _
والتدبير .
لولا الحرّ لما كانت الثمار الجاسية المُرّة تنضج فتلين وتعذب حتّى يتفكّه بها رطبة ويابسة .
ولولا البرد لما كان الزرع يفرخ هكذا ، ويريع الريع الكثير الذي يتّسع للقوت وما يرد في الأرض للبذر .
أفلا ترى ما في الحرّ والبرد من عظيم الغناء والمنفعة وكلاهما مع غنائه والمنفعة فيه يولم الأبدان ويمضّها .
وفي ذلك عبرة لمن فكّر ، ودلالة على أنّه من تدبير الحكيم في مصلحة العالم وما فيه )
(1).
21 ـ عجائب الصنع في المعادن وما يستخرج منها :
( فكّر يا مفضّل ! في هذه المعادن وما يخرج منها من الجواهر المختلفة مثل الجصّ والكلس
(2) ، والجبس
(3) ، والزرانيخ
(4) ، والمرتك
(5) ، والقونيا
(6) ، والزئبق
(7) ، والنحاس ، والرصاص ، والفضّة ، والذهب والزبرجد ، والياقوت ، والزمرّد ، وضروب الحجارة .
---------------------------
(1) بحار الأنوار : (ج3 ص118) .
(2) الكِلس بكسر الكاف : حجر معروف يستخدم في البناء والطلاء يسمّى بالساروج .
(3) الجبس : حجر الجصّ الذي يبنى به .
(4) جمع الزرنيخ ، وهو : عنصر سنجابي اللون لمّاع صلب وسمٌ معدني .
(5) المرتك هو : اكسيد الرصاص يسمّى (مرداسنج) .
(6) وفي نسخة التوتيا وهو : معدن صلب أبيض ، ويسمّى بالخارصين وأكسيد الزنك .
(7) الزئبق هو : الفلز المعروف السائل الكثيف اللمّاع ، والمعادن الباقية معروفة .
العقائد الحقّة
_ 103 _
وكذلك ما يخرج منها من القار ، والموميا ، والكبريت ، والنفط ، وغير ذلك ممّا يستعمله الناس في مآربهم .
فهل يخفى على ذي عقل أنّ هذه كلّها ذخائر ذخرت للإنسان في هذه الأرض ليستخرجها فيستعملها عند الحاجة إليها ؟
ثمّ قصرت حيلة الناس عمّا حاولوا من صنعتها على حرصهم وإجتهادهم في ذلك فإنّهم لو ظفروا بما حاولوا من هذا العلم كان لا محالة سيظهر ويستفيض في العالم حتّى تكثر الذهب والفضّة ويسقطا عند الناس فلا يكون لهما قيمة ويبطل الإنتفاع بهما في الشراء والبيع والمعاملات ، ولا كان يجيء السلطان الأموال ، ولا يدّخرهما أحد للأعقاب .
وقد اُعطي الناس مع هذا صنعة الشِبه
(1) من النحاس ، والزجاج من الرمل ، والفضّة من الرصاص ، والذهب من الفضّة ، وأشباه ذلك ممّا لا مضرّة فيه .
فانظر كيف اُعطوا إرادتهم فيما لا ضرر فيه ، ومنعوا ذلك فيما كان ضارّاً لهم لو نالوه .
ومن أوغل في المعادن انتهى إلى واد عظيم يجري منصلتاً بماء غزير ، لا يدرك غوره ولا حيلة في عبوره من ورائه أمثال الجبال من الفضّة .
تفكّر الآن في هذا من تدبير الخالق الحكيم ، فإنّه أراد جلّ ثناؤه أن يرى العباد قدرته وسعة خزائنه ، ليعلموا أنّه لو شاء أن يمنحهم
---------------------------
(1) الشبه بكسر الشين هو : النحاس الأصفر .
العقائد الحقّة
_ 104 _
كالجبال من الفضّة لفعل ، لكن لا صلاح لهم في ذلك ، لأنّه لو كان فيكون فيها كما ذكرنا سقوط هذا الجوهر عند الناس وقلّة إنتفاعهم به .
واعتبر ذلك بأنّه قد يظهر الشيء الطريف ممّا يحدثه الناس من الأواني والأمتعة فما دام عزيزاً قليلا فهو نفيس جليل آخذ الثمن ، فإذا فشا وكثر في أيدي الناس سقط عندهم وخسّت قيمته ، ونفاسة الأشياء من عزّتها )
(1).
22 ـ عجائب الخلقة في تركيب النخلة :
( فكّر يا مفضّل ! في النخل فإنّه لمّا صار فيه اُناث يحتاج إلى التلقيح
(2) جعلت فيه ذكورة للقاح من غير غراس ، فصار الذكر من النخل بمنزلة الذكر من الحيوان الذي يلقّح الاُناث لتحمل وهو لا يحمل .
تأمّل خلقة الجذع
(3) كيف هو فإنّك تراه كالمنسوج نسجاً من غير خيوط ممدودة كالسدي ، واُخرى معه معترضة كاللحمة كنحو ما ينسج بالأيدي ، وذلك ليشتدّ ويصلب ولا ينقصف من حمل القنوان الثقيلة ، وهزّ الرياح العواصف إذا صار نخلة ، وليتهيّأ للسقوف
---------------------------
(1) بحار الأنوار : (ج3 ص128) .
(2) التلقيح في النخل يحصل في أعذاق النخيل التي هي على هيئة السنابل المغلّفة بقشرة سميكة تشبه في هيكلها السمكة ، فتُجعل سنابل من الذكور وسط سنابل الاُناث أو يجعل طحين زهر الفحل الجافّ عوض السنبلة الطريّة فيحصل التلقيح
(3) الجذع : ساق النخلة ، والقنوان جمع قنا ، والقنو بكسر القاف : العذق وهو من النخل كالعنقود من العنب .
العقائد الحقّة
_ 105 _
والجسور وغير ذلك ممّا يتّخذ منه إذا صار جذعاً .
وكذلك ترى الخشب مثل النسج فإنّك ترى بعضه مداخلا بعضاً طولا وعرضاً كتداخل أجزاء اللحم ، وفيه مع ذلك متانة ليصلح لما يتّخذ منه من الآلات فإنّه لو كان مستحصفاً
(1) كالحجارة لم يمكن أن تستعمل في السقوف وغير ذلك ممّا يستعمل فيه الخشبة كالأبواب والأسرّة والتوابيت
(2) وما أشبه ذلك .
ومن جسيم المصالح في الخشب أنّه يطفو على الماء ، فكلّ الناس يعرف هذا منه وليس كلّهم يعرف جلالة الأمر فيه .
فلولا هذه الخلّة كيف كانت هذه السفن والأظراف
(3) تحمل أمثال الجبال من الحمولة ، وأنّى كان ينال الناس هذا الوفق وخفّة المؤونة في حمل التجارات من بلد إلى بلد ؟ وكانت تعظم المؤونة عليهم في حملها حتّى يلقى كثير ممّا يحتاج إليه في بعض البلدان مفقوداً أصلا أو عسراً وجوده )
(4).
23 ـ عجائب الخلقة في العقاقير وما خصّ بها كلّ واحد منها من دواء في رفع داء :
( فكّر في هذه العقاقير
(5) وما خصّ بها كلّ واحد منها من العمل في
---------------------------
(1) المستحصف هو : الشديد المستحكم .
(2) التوابيت جمع تابوت بمعنى الصندوق .
(3) الأظراف جمع ظريف لعلّه جاء بمعنى الأشياء الظريفة ، أو جمع ظرف بمعنى الوعاء .
(4) بحار الأنوار : (ج3 ص134) .
(5) العقاقير جمع عَقّار بالفتح ثمّ التشديد : ما يتداوى به من النبات والشجر في اُصول الأدوية .
العقائد الحقّة
_ 106 _
بعض الأدواء .
فهذا يغور في المفاصل فيستخرج الفضول الغليظة مثل الشيطرج
(1).
وهذا ينزف المرّة السوداء مثل الأفتيمون
(2).
وهذا ينفي الرياح مثل السكبينج
(3).
وهذا يحلل الأورام وأشباه هذا من أفعالها ، فمن جعل هذه القوى فيها إلاّ من خلقها للمنفعة ؟
ومن فطم الناس بها إلاّ من جعل هذا فيها ؟
ومتى كان يوقف على هذا منها بالعرض والاتّفاق كما قال قائلون ؟
وهَب الإنسان فطن لهذه الأشياء بذهنه ولطيف رويته وتجاربه فالبهائم كيف فطنت لها ؟ حتّى صار بعض السباع يتداوى من جراحه إن أصابته ببعض العقاقير فيبرأ ، وبعض الطير يحتقن من الحصر يصيبه بماء البحر فيسلم ، وأشباه هذا كثير .
ولعلّك تشكّك في هذا النبات النابت في الصحاري والبراري حيث لا اُنس ولا أنيس فتظنّ أنّه فضل لا حاجة إليه ، وليس كذلك بل هو طُعم لهذه الوحوش ، وحبّه علف للطير ، وعوده وأفنانه حطب فيستعمله
---------------------------
(1) الشيطرج : نبات ينبت غالباً في المقابر والجدران القديمة ، له ورق عريض دقيق وزهر أحمر إلى بياض يسمّى بمسواك الراعي .
(2) الأفتيمون : نبات أحمر إلى غُبرة ذو عروق دقائق وأوراق صغار وبذره أصغر من حبّ الخشخاش يلتفّ بما يليه وهو مسهلٌ للسوداء .
(3) السكبينج أو السكنبيج : صمغ النبات يشبه الخيار يُجلب من اصفهان .
العقائد الحقّة
_ 107 _
الناس ، وفيه بعدُ أشياء تعالج به الأبدان ، واُخرى تدبغ به الجلود ، واُخرى تصبغ به الأمتعة ، وأشباه هذا من المصالح .
ألست تعلم أنّ أخسّ النبات وأحقره هذا البردي
(1) وما أشبهها ، ففيها مع هذا من ضروب المنافع فقد يتّخذ من البردي القراطيس التي يحتاج إليها الملوك والسوقة ، والحُصُر التي يستعملها كلّ صنف من الناس ، وليعمل منه الغلف التي يوقى بها الأواني ، ويجعل حشواً بين الظروف في الاسفاط لكيلا تعيب وتنكسر ، وأشباه هذا من المنافع )
(2).
وهذه الآيات الجليلة التي بيّنها الإمام الصادق (عليه السلام) تنبئ بصدق وتدلّ بحقّ على أنّ الله تعالى الذي خلقها وصنعها عليم حكيم ، أحكم وأتقن جزئياتها وكليّاتها ودقائق صنعتها وخلقتها .
وعليه فلا يمكن المساعدة مع قول الحكماء بنفي العلم بالجزئيات عن الله تعالى ، بناءاً منهم على أنّ علم الله تعالى حصوليٌّ ، كما تلاحظ نقله عنهم في البحار
(3).
فانّه يردّهم العموميّة الوضعيّة المفيدة علم الله تعالى بكلّ شيء في قوله تعالى : ( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْء عَلِيمٌ )
(4).
---------------------------
(1) البردي : نبات كالقصب ينبت في المستنقعات والشواطئ ، في اُصول سيقانه زغب ناعم كالقطن ذو حلاوة قليلة .
(2) بحار الأنوار : (ج3 ص135) .
(3) بحار الأنوار : (ج4 ص87) .
(4) سورة البقرة : (الآية 231) .
العقائد الحقّة
_ 108 _
فقد أخبر تعالى وهو الصادق المصدّق ، والحقّ المطلق ، بأنّه عالم بجميع الأشياء ، فعلمه إحاطيٌ حضوريّ ، يعلم جميع الأشياء ، كلّيها وجزئيّاتها .
كما لا يمكن أيضاً قبول قول الشيخ الرئيس ابن سينا ، بإستحالة تعلّق علمه تعالى بالمفاهيم ، تمسّكاً بأنّه لابدّ للمفاهيم من وجود خارجيّ أو ذهنيّ والكلّ محال كما نقله عنه في المجمع
(1).
فإنّه يردّه أنّ هذه اللابدّية إنّما تكون في المخلوقين حيث يكون علمهم محدوداً وعارضاً عليهم ، فلا يتقوّم إلاّ بأن تكون المفاهيم موجودةً حتّى يتعلّق العلم بها بوجود خارجي أو ذهني ... لا في الخالق العليم الذي يكون علمه عين ذاته ، وعلمه بجميع الأشياء قبل حدوثها كعلمه بها بعد حدوثها ، كما يوضّحه الحديث التالي الذي رواه ثقة الإسلام الكليني بسنده عن أبي بصير قال : سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول :
( لم يزلِ الله عزّ وجلّ ربّنا والعلم ذاته ولا معلوم ، والسمع ذاته ولا مسموع ، والبصر ذاته ولا مبصر ، والقدرة ذاته ولا مقدور .
فلمّا أحدث الأشياء وكان المعلوم ، وقع العلم منه على المعلوم والسمع على المسموع والبصر على المُبصَر والقدرة على المقدور ... )
(2).
كما لا يمكن أصلا قبول قول الجبرية بأنّ العلم بالمعصية يصير سبباً لوقوعها بدعوى عدم تخلّف المعصية عن ذلك العلم ، لأنّه لو تخلّفت لتبدّل العلم جهلا ، كما في البيت الشعري المنسوب إلى الخيّام ...
---------------------------
(1) مجمع البحرين : (ص528) .
(2) اُصول الكافي : (ج1 ص107 باب صفات الذات ح1) .
العقائد الحقّة
_ 109 _
فإنّه يردّه أنّ العلم ليس علّةً أو سبباً للمعلوم ، والثابت في علم الله تعالى هو معصية العبد لكن بإختيار نفس العبد ، وبسبب إرادته وبسوء إختياره .
فلا يكون العصيان بسبب علم الله تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً ، وإنّما يكون العصيان بإختيار نفس العبد العاصي .
فالله تعالى يعلم أنّ العبد سيختار المعصية ، ويعلم أيضاً تبدّل عزمه من المعصية إلى الطاعة إذا انصرف عن العصيان .
فعدم عصيان العبد لا يوجب تبدّل العلم إلى الجهل ، كما توهّمه الخيّامي ; لأنّ الله الذي أحاط بكلّ شيء علماً ، يعلم جميع حالات العبد ، طاعاته ومعصياته وعزماته وإنصرافاته في جميع حركاته وسكناته ، إلاّ أنّه كارهٌ لعصيان عبده ولا يحبّ السوء لعبيده ، فكيف يسبّب عصيانهم أو يجبرهم على المعصية ؟!
الشرع والعقل يخالفان هذه الدعوى ويحكمان بأنّ العلم من الله لا يسبّب عصيان العبد ، بل أنّ عصيان العبد يكون بخيرة نفسه وإختياره .
كما يستفاد من مثل قوله تعالى :
( مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ) (1) وقوله تعالى :
( وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ ) (2).
وكما تلاحظ بيانه في أحاديث نفي الجبر والتفويض مثل :
1 ـ ما رواه يونس بن عبدالرحمن عن غير واحد ، عن أبي جعفر وأبي عبدالله (عليهما السلام) ، قالا :
( إنّ الله عزّ وجلّ أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ، ثمّ
---------------------------
(1) سورة الإسراء : (الآية 15) .
(2) سورة النساء : (الآية 111) .
العقائد الحقّة
_ 110 _
يعذّبهم عليها ، والله أعزّ من أن يريد أمراً فلا يكون .
قال : فسُئلا (عليهما السلام) : هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة :
قالا : نعم ، أوسع ممّا بين السماء والأرض )
(1).
2 ـ حديث المفضّل بن عمر ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) ، قال :
( لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين .
قال : قلت : وما أمر بين أمرين ؟ قال : مَثَل ذلك مَثَل رجل رأيته على معصية فنهيته فلم ينته فتركته ففعل تلك المعصية ، فليس حيث لم يقبل منك فتركته ، أنت الذي أمرته بالمعصية )
(2).
3 ـ حديث الحسن بن علي الوشّاء ، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) ، قال : سألته فقلت له :
( الله فوّض الأمر إلى العباد ؟
قال : الله أعزّ من ذلك .
قلت : فأجبرهم على المعاصي ؟
قال : الله أعدل وأحكم من ذلك .
ثمّ قال : قال الله عزّ وجلّ : يا بن آدم ! أنا أولى بحسناتك منك ، وأنت أولى بسيّئاتك منّي ، عملتَ المعاصي بقوّتي التي جعلتها فيك )
(3).
فالإنسان مختار في أفعاله ، ولم يفوّض إليه الأمر تفويضاً ، ولم يكن عليه مجبوراً ، بل يصدر عنه إختياراً ...
---------------------------
(1) توحيد الصدوق : (ص360 باب نفي الجبر والتفويض ح3) .
(2) توحيد الصدوق : (ص362 باب نفي الجبر والتفويض ح8) .
(3) توحيد الصدوق : (ص362 باب نفي الجبر والتفويض ح10) .
العقائد الحقّة
_ 111 _
وهذا أمرٌ واضح نحسّه فيما نراه من المساوي التي قد يعلمها الخبير المحسن في فرد مسيء ، مع بُغض وكراهة ذلك الخبير لتلك المساوي ، وردعه لصاحبها ونهيه عنها ومنعه عن فعلها ...
فإنّه إذا ارتكب ذلك الفرد المسيء تلك المساوي بالرغم من نهيه وردعه ، لا يشكّ العقل والعرف أنّ المقصّر هو نفس ذلك الفرد العاصي الذي أساء العمل ، لا الخبير الناهي الذي أراد الخير ، فاختيار العاصي هو السبب للعصيان دون علم العالم به ، بل العالم منزّه عنه .
وعلى الجملة فعلم الله تعالى محيط بكلّ الأشياء قاطبة ، الكلّيات والجزئيات ، الظواهر والخفيّات حتّى خطرات النفس والمطويات ، وهو كمال وجمال لذاته المتعالية المقدّسة ، فهو عالم بجميع الأشياء بدون لزوم محذور أو شبهة .
ولمعرفة علمه تعالى لاحظ بعد الآيات المباركات المائة التي أشرنا إلى بعضها في أوّل هذا البحث ، أحاديث حججه وبيانات معادن حكمته الأئمّة المعصومين سلام الله عليهم أجمعين .
وإليك نبذةٌ منها ، وأريجة من شذاها ، رزقنا الله زيادة المعرفة بنورها ، فلاحظ ما يلي :
1 ـ ما حدّث به أبو علي القصّاب ، قال : كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) ، فقلت :
( الحمد لله منتهى علمه ، فقال : لا تقل ذلك ، فإنّه ليس لعلمه منتهى )
(1).
2 ـ حديث هشام بن الحكم ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال :
---------------------------
(1) توحيد الصدوق : (ص134 الباب10 ح1) .
العقائد الحقّة
_ 112 _
( العلم هو من كماله )
(1).
3 ـ حديث منصور بن حازم ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) ، قال : قلت له : أرأيت ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة أليس كان في علم الله ؟
قال : فقال :
( بلى قبل أن يخلق السماوات والأرض )
(2).
4 ـ الحديث الآخر لمنصور بن حازم ، قال : سألته ـ يعني أبا عبدالله (عليه السلام) ـ : هل يكون اليوم شيء لم يكن في علم الله عزّ وجلّ ؟
قال : ( لا ، بل كان في علمه قبل أن ينشئ السماوات والأرض )
(3).
5 ـ حديث جابر ، قال : قال أبو جعفر ـ الباقر ـ (عليه السلام) :
( إنّ الله تباركت أسماؤه وتعالى في علوِّ كنهه أحدٌ ، توحّد بالتوحيد في توحيده ، ثمّ أجراه على خلقه ، فهو أحد ، صمد ، ملِك قدّوس ، يعبده كلّ شيء ويصمد إليه ، وفوق الذي عسينا أن نبلغ ربّنا ، وسع ربّنا كلّ شيء علماً )
(4).
6 ـ حديث الحسين بن بشّار عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) قال : سألته أيعلم الله الشيء الذي لم يكن أن لو كان كيف كان يكون ، أو لا يعلم إلاّ ما يكون ؟
---------------------------
(1) توحيد الصدوق : (ص134 الباب10 ح3) .
(2) توحيد الصدوق : (ص135 الباب10 ح5) .
(3) توحيد الصدوق : (ص135 الباب10 ح6) .
(4) توحيد الصدوق : (ص136 الباب10 ح7) .
العقائد الحقّة
_ 113 _
فقال :
( إنّ الله تعالى هو العالم بالأشياء قبل كون الأشياء .
قال الله عزّ وجلّ :
( إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) (1) وقال لأهل النار :
( وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) (2) فقد علم الله عزّ وجلّ أنّه لو ردّهم لعادوا لما نهوا عنه ، وقال للملائكة لمّا قالوا :
( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) (3): فلم يزل الله عزّ وجلّ علمه سابقاً للأشياء قديماً قبل أن يخلقها ، فتبارك ربّنا تعالى علوّاً كبيراً ، خلق الأشياء وعلمه بها سابق لها كما شاء ، كذلك لم يزل ربّنا عليماً سميعاً بصيراً )
(4).
7 ـ حديث عبدالله بن مسكان ، قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الله تبارك وتعالى : أكان يعلم المكان قبل أن يخلق المكان ، أم علمه عند ما خلقه وبعد ما خلقه ؟
فقال :
( تعالى الله ! بل لم يزل عالماً بالمكان قبل تكوينه كعلمه به بعد ما كوّنه ، وكذلك علمه بجميع الأشياء كعلمه بالمكان )
(5).
---------------------------
(1) سورة الجاثية : (الآية 29) .
(2) سورة الأنعام : (الآية 28) .
(3) سورة البقرة : (الآية 30) .
(4) توحيد الصدوق : (ص136 الباب 10 ح8) .
(5) توحيد الصدوق : (ص137 الباب 10 ح9) .
العقائد الحقّة
_ 114 _
8 ـ حديث منصور الصيقل ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال :
( إنّ الله علمٌ لا جهل فيه ، حياةٌ لا موت فيه ، نورٌ لا ظلمة فيه )
(1).
9 ـ حديث ابن سنان ، عن الإمام الصادق ، عن أبيه (عليهما السلام) قال :
( إنّ لله تعالى علماً خاصّاً ، وعلماً عامّاً .
فأمّا العلم الخاصّ فالعلم الذي لم يُطْلع عليه ملائكته المقرّبين وأنبياءه المرسلين .
وأمّا علمه العام فإنّه علمه الذي اطلع عليه ملائكته المقرّبين وأنبياءه المرسلين ، وقد وقع إلينا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) )
(2).
10 ـ حديث عبدالأعلى ، عن العبد الصالح موسى بن جعفر (عليهما السلام) ، قال :
( علم الله لا يوصف منه بأين ، ولا يوصف العلم من الله بكيف ، ولا يفرد العلم من الله ، ولا يبان الله منه ، وليس بين الله وبين علمه حدٌّ )
(3).
11 ـ حديث هارون بن عبدالملك ، قال : سئل أبو عبدالله (عليه السلام) عن التوحيد .
( فقال : هو عزّ وجلّ مثبت موجود ، لا مبطل ولا معدود ، ولا في شيء من صفة المخلوقين ، وله عزّ وجلّ نعوت وصفات .
فالصفات له ، وأسماؤها جارية على المخلوقين مثل السميع والبصير والرؤوف والرحيم وأشباه ذلك .
والنعوت نعوت الذات لا تليق إلاّ بالله تبارك وتعالى ، والله نور لا
---------------------------
(1) توحيد الصدوق : (ص137 الباب10 ح11) .
(2) توحيد الصدوق : (ص138 الباب10 ح14) .
(3) توحيد الصدوق : (ص138 الباب 10 ح16) .
العقائد الحقّة
_ 115 _
ظلام فيه ، وحيّ لا موت له ، وعالم لا جهل فيه ، وصمد لا مدخل فيه ، ربّنا نوري الذات حي الذات ، عالم الذات ، صمدي الذات )
(1).
12 ـ حديث أبان بن عثمان الأحمر ، قال : قلت للصادق جعفر بن محمّد (عليهما السلام) : أخبرني عن الله تبارك وتعالى لم يزل سميعاً بصيراً عليماً قادراً ؟
( قال : نعم ، فقلت له : إنّ رجلا ينتحل موالاتكم أهل البيت يقول : إنّ الله تبارك وتعالى لم يزل سميعاً بسمع وبصيراً ببصر وعليماً بعلم وقادراً بقدرة : فغضب (عليه السلام) ، ثمّ قال : من قال ذلك ودان به فهو مشرك وليس من ولايتنا على شيء ، إنّ الله تبارك وتعالى ذات عَلاّمة سميعة بصيرة قادرة )
(2).
13 ـ حديث صفوان بن يحيى ، قال : قلت لأبي الحسن ـ الكاظم ـ (عليه السلام) : أخبرني عن الإرادة من الله ومن المخلوق ؟
قال : فقال :
( الإرادة من المخلوق الضمير وما يبدو له بعد ذلك من الفعل .
وأمّا من الله عزّ وجلّ فإرادته إحداثه لا غير ذلك لأنّه لا يروّي ، ولا يهمّ ، ولا يتفكّر ، وهذه الصفات منفيّة عنه ، وهي من صفات الخلق ، فإرادة الله هي الفعل لا غير ذلك يقول له : كن ، فيكون ، بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همّة ولا تفكّر ، ولا كيف لذلك ، كما أنّه بلا كيف )
(3).
14 ـ حديث هشام بن الحكم ، قال في حديث الزنديق الذي سأل أبا
---------------------------
(1) توحيد الصدوق : (ص140 الباب11 ح4) .
(2) توحيد الصدوق : (ص144 الباب11 ح8) .
(3) توحيد الصدوق : (ص147 الباب11 ح17) .
العقائد الحقّة
_ 116 _
عبدالله (عليه السلام) أنّه قال له : أتقول : إنّه سميع بصير ؟
فقال أبو عبدالله (عليه السلام) :
( هو سميع بصير ، سميع بغير جارحة ، وبصير بغير آلة ، بل يسمع بنفسه ويبصر بنفسه ، وليس قولي : إنّه يسمع بنفسه أنّه شيء والنفس شيء آخر ، ولكنّي أردت عبارة عن نفسي إذ كنتُ مسؤولا ، وإفهاماً لك إذ كنتَ سائلا ، فأقول : يسمع بكلّه ، لا أنّ كلّه له بعض ، ولكنّي أردت إفهامك والتعبير عن نفسي ، وليس مرجع في ذلك إلاّ إلى أنّه السميع البصير العالم الخبير بلا إختلاف الذّات ولا إختلاف المعنى )
(1).
15 ـ حديث محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر ـ الباقر ـ (عليه السلام) ، قال :
( سمعته يقول : كان الله ولا شيء غيره ، ولم يزل عالماً بما كوّن ، فعلمه به قبل كونه كعلمه به بعد ما كوّنه )
(2).
16 ـ حديث أيّوب بن نوح أنّه كتب إلى أبي الحسن ـ الكاظم ـ (عليه السلام) يسأله عن الله عزّ وجلّ : أكان يعلم الأشياء قبل أن خلق الأشياء وكوّنها ؟ أو لم يعلم ذلك حتّى خلقها وأراد خلقها وتكوينها ، فعلم ما خلق عند ما خلق وما كوّن عند ما كوّن ؟ فوقّع (عليه السلام) بخطّه :
( لم يزل الله عالماً بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء كعلمه بالأشياء بعد ما خلق الأشياء )
(3).
---------------------------
(1) توحيد الصدوق : (ص144 الباب11 ح10) .
(2) توحيد الصدوق : (ص145 الباب11 ح12) .
(3) توحيد الصدوق : (ص145 الباب11 ح13) .
العقائد الحقّة
_ 117 _
17 ـ حديث هشام بن سالم ، قال : دخلت على أبي عبدالله (عليه السلام) فقال لي :
( أتنعت الله ؟ فقلت : نعم ، قال : هات ، فقلت : هو السميع البصير ، قال : هذه صفة يشترك فيها المخلوقون
(1)، قلت : فكيف تنعته ؟
فقال : هو نور لا ظلمة فيه ، وحياة لا موت فيه ، وعلم لا جهل فيه ، وحقّ لا باطل فيه ، فخرجت من عنده وأنا أعلم الناس بالتوحيد )
(2).
18 ـ حديث بكير بن أعين ، قال : قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : علم الله ومشيّته هما مختلفان أم متّفقان ؟
فقال :
( العلم ليس هو المشيّة ، ألا ترى أنّك تقول : سأفعل كذا إن شاء الله ، ولا تقول : سأفعل كذا إن علم الله ، فقولك إن شاء الله دليل على أنّه لم يشأ ، فإذا شاء كان الذي شاء كما شاء ، وعلم الله سابق للمشيّة )
(3).
19 ـ حديث محمّد بن مسلم قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ :
( يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) (4) قال: السرّ ما كتمته في نفسك ، وأخفى ما خطر ببالك ثمّ اُنسيته.
20 ـ حديث عبدالرحمن بن سلمة الحريري قال سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ :
( يَعْلَمُ خَائِنَةَ الاَْعْيُنِ ) (5) ?
---------------------------
(1) أي من حيث المفهوم لا من حيث الحقيقة .
(2) توحيد الصدوق : (ص146 الباب11 ح14) .
(3) توحيد الصدوق : (ص146 الباب11 ح16) .
(4) سورة طه : (الآية7).
(5) سورة غافر : (الآية 19) .
العقائد الحقّة
_ 118 _
فقال :
( ألم تر إلى الرجل ينظر إلى الشيء وكأنّه لا ينظر إليه فذلك خائنة الأعين )
(1).
21 ـ حديث تفسير القمّي في قوله :
( إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الاَْرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَىِّ أَرْض تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ )(2).
قال الصادق (عليه السلام) :
( هذه الخمسة أشياء لم يطّلع عليها ملك مقرّب ، ولا نبي مرسل ، وهي من صفات الله عزّ وجلّ )
(3).
22 ـ في نهج البلاغة : من خطبة له (عليه السلام) :
( يعلم عجيج الوحوش في الفلوات ، ومعاصي العباد في الخلوات ، واختلاف النينان في البحار الغامرات ، وتلاطم الماء بالرياح العاصفات )
(4).
23 ـ حديث ثعلبة بن ميمون ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في قوله عزّ وجلّ :
( عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ) (5).
فقال :
---------------------------
(1) بحار الأنوار : (ج4 ص80 الباب2 ح4) .
(2) سورة لقمان : (الآية 34) .
(3) بحار الأنوار : (ج4 ص82 البا2 ح9) .
(4) بحار الأنوار : (ج4 ص92 الباب2 ح44) ، والنينان جمع نون وهو الحوت .
(5) سورة المؤمنون : (الآية 92) .
العقائد الحقّة
_ 119 _
( الغيب : ما لم يكن ، والشهادة : ما قد كان )
(1).
24 ـ حديث الهروي عن الإمام الرضا (عليه السلام) ـ في خبر طويل ـ عن قوله تعالى :
( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا ) (2).
فقال (عليه السلام) :
( إنّه عزّ وجلّ خلق خلقه ليبلوهم بتكليف طاعته وعبادته لا على سبيل الامتحان والتجربة ، لأنّه لم يزل عليماً بكلّ شيء )
(3).
25 ـ حديث أبي الجارود ، عن أبي جعفر ـ الباقر ـ (عليه السلام) في قوله :
(
( سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ ) (4) السرّ والعلانية عنده سواء ، وقوله :
( وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْف بِاللَّيْلِ ) (5) أي مستخف في جوف بيته .
وقال علي بن إبراهيم في قوله :
( وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ) (6) يعني تحت الأرض فذلك كلّه عند الله عزّ وجلّ واحدٌ يعلمه )
(7).
26 ـ حديث محمّد بن سنان قال : سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) : هل كان الله عارفاً بنفسه قبل أن يخلق الخلق ؟
قال :
---------------------------
(1) بحار الأنوار : (ج4 ص79 الباب2 ح3) .
(2) سورة هود : (الآية 7) ، وسورة الملك : (الآية 2) .
(3) بحار الأنوار : (ج4 ص80 الباب2 ح5) .
(4) سورة الرعد : (الآية 10) .
(5) نفس الآية .
(6) نفس الآية .
(7) بحار الأنوار : (ج4 ص82 الباب2 ح8) .
العقائد الحقّة
_ 120 _
( نعم .
قلت : يراها ويسمعها ؟
قال : ما كان محتاجاً إلى ذلك لأنّه لم يكن يسألها ولا يطلب منها هو نفسه ونفسه هو ، قدرته نافذة فليس يحتاج إلى أن يسمّي نفسه ، ولكنّه اختار لنفسه أسماء لغيره يدعوه بها لأنّه إذا لم يُدع باسمه لم يعرف .
فأوّل ما اختار لنفسه : العليّ العظيم لأنّه أعلى الأسماء كلّها فمعناه : الله ، واسمه العليّ العظيم ، هو أوّل أسمائه لأنّه عليٌّ علا كلّ شيء )
(1).
27 ـ حديث حفص قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ :
( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالاَْرْضَ ) (2) ؟
قال :
( علمه )
(3).
28 ـ حديث البرقي رفعه قال : قال أبو عبدالله (عليه السلام) :
( إنّ لله علمين : علم تعلمه ملائكته ورسله ، وعلم لا يعلمه غيره ، فما كان ممّا يعلمه ملائكته ورسله فنحن نعلمه ، وما خرج من العلم الذي لا يعلم غيره فإلينا يخرج )
(4).
---------------------------
(1) بحار الأنوار : (ج4 ص88 الباب2 ح26) .
(2) سورة البقرة : (الآية 255) .
(3) بحار الأنوار : (ج4 ص89 الباب2 ح27) .
(4) بحار الأنوار : (ج4 ص89 الباب2 ح32) .
العقائد الحقّة
_ 121 _
29 ـ حديث داود الرقي قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن قول الله :
( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ ) (1)؟
قال :
( إنّ الله هو أعلم بما هو مكوّنه قبل أن يكوّنه وهم ذرّ ، وعلم من يجاهد ممّن لا يجاهد ، كما علم أنّه يميت خلقه قبل أن يميتهم ولم يرهم موتى وهم أحياء )
(2).
30 ـ حديث الحسين بن خالد قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن قول الله :
( وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَة إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّة فِي ظُلُمَاتِ الاَْرْضِ وَلاَ رَطْب وَلاَ يَابِس إِلاَّ فِي كِتَاب مُبِين ) (3) ?
فقال :
( الورق : السقط يسقط من بطن اُمّه من قبل أن يهلّ الولد
(4).
قال : فقلت : وقوله ( وَلاَ حَبَّة ) ؟
قال : يعني الولد في بطن اُمّه إذا أهلّ ويسقط من قبل الولادة .
قال : قلت : قوله ( وَلاَ رَطْب ) ؟
قال : يعني المضغة إذا استكنت في الرحم قبل أن يتمّ خلقها قبل أن ينتقل .
قال : قوله ( وَلاَ يَابِس ) ؟
---------------------------
(1) سورة آل عمران : (الآية 142) .
(2) بحار الأنوار : (ج4 ص90 الباب2 ح35) .
(3) سورة الأنعام : (الآية 59) .
(4) يقال : أهلَّ الصبي أي رفع صوته بالبكاء حين الولادة .
العقائد الحقّة
_ 122 _
قال : الولد التامّ .
قال : قلت :
( فِي كِتَاب مُبِين ) ؟
قال : في إمام مبين )
(1).
31 ـ حديث أبي معمّر السعدي قال : قال علي (عليه السلام) في قول الله : ( نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ )
(2) :
( فإنّما يعني أنّهم نسوا الله في دار الدنيا فلم يعملوا له بالطاعة ولم يؤمنوا به وبرسوله فنسيهم في الآخرة أي لم يجعل لهم في ثوابه نصيباً فصاروا منسيّين من الخير )
(3).
32 ـ حديث حريز رفعه إلى أحدهما [ أي الإمامين الباقر والصادق ] (عليهما السلام) في قول الله :
( اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الاَْرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ ) (4).
قال :
( الغيض كلّ حمل دون تسعة أشهر .
وما تزداد : كلّ شيء يزداد على تسعة أشهر ، وكلّما رأت الدم في حملها من الحيض يزداد بعدد الأيّام التي رأت في حملها من الدم )
(5).
وهذه الأحاديث المباركة المتظافرة تكشف بوضوح عن علمه تعالى بكلّ الأشياء قبل وجودها كعلمه بها بعد وجودها ، وتبيّن إحاطته بجميع المخلوقات ،
---------------------------
(1) بحار الأنوار : (ج4 ص90 الباب2 ح36) .
(2) سورة التوبة : (الآية 67) .
(3) بحار الأنوار : (ج4 ص91 الباب2 ح38) .
(4) سورة الرعد : (الآية 8) .
(5) بحار الأنوار : (ج4 ص91 الباب2 ح39) .
العقائد الحقّة
_ 123 _
ومعرفته لجميع الظواهر والخفيّات ، وعرفانه جميع الأسرار والمطويّات ...
وعلمه نورٌ لا يدرك ولا يُحدّ ، وليس له نهاية وأمد .
2 ) أنّه تعالى حيٌّ له الحياة الأزليّة الأبديّة ، وموصوف بهذه الصفة الكمالية التي هي له صفة ذاتية
ومعنى كونه حيّاً كما أفاده المحدّث الصدوق أنّه :( الفعّال المدبِّر ، وهو حيٌّ لنفسه لا يجوز عليه الموت والفناء ، وليس يحتاج إلى حياة بها يحيى )
(1).
وأفاد الشيخ الكفعمي : ( الحي هو الذي لم يزل موجوداً وبالحياة موصوفاً ، لم يحدث له الموت بعد الحياة ولا العكس ...
فالحي الكامل هو الذي يندرج جميع المُدرَكات تحت إدراكه حتّى لا يشذّ عن علمه مُدرَك ، ولا عن فعله مخلوق ، وكلّ ذلك لله ، فالحي المطلق هو الله تبارك وتعالى )
(2).
وقال السيّد الشبّر : ( والمراد بالحياة صفة يتأتّى معها العلم والقدرة ... )
(3).
وقال الشيخ الطريحي : ( الحيّ القيّوم أي الباقي الذي لا سبيل للفناء عليه )
(4).
وذكر الراغب : ( أنّ الحياة التي يوصف بها الباري تعالى معناها هو أنّه لا
---------------------------
(1) التوحيد للصدوق : (ص201) .
(2) المصباح : (ص327) .
(3) حقّ اليقين : (ج1 ص29) .
(4) مجمع البحرين : (ص24 مادّة ـ حىء ـ ) .
العقائد الحقّة
_ 124 _
يصحّ عليه الموت ... )
(1).
ثمّ ذكر أنّ هذه الحياة ليست إلاّ لله عزّ وجلّ إذ الحياة جاءت لمعان اُخرى أيضاً هي :
1 ـ القوّة النامية الموجودة في النبات والحيوان ، كما قال تعالى :
( وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْء حَىّ ) (2).
2 ـ القوّة الحسّاسة التي بها سمّي الحيوان حيواناً ، ومنه قوله تعالى :
( وَمَا يَسْتَوِي الاَْحْيَاءُ وَلاَ الاَْمْوَاتُ ) (3).
3 ـ القوّة العاملة العاقلة ، كما قال تعالى :
( أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ ) (4).
4 ـ الحياة الاُخروية الأبدية ، كما قال تعالى :
( اسْتَجِيبُوا للهِِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ) (5).
5 ـ التلذّذ وارتفاع الغمّ ، كما قال تعالى :
( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (6).
وحياة الله تبارك وتعالى فوق هذه الصفات ، وأشرف من كلّ حياة ، ولا تُقاس بها هذه الحيويّات الخمسة ، فحياته أشرف من هذه الحياة وذاتيّة له بلا ممات .
وقد قام الدليل القرآني والروائي والعقلي على حياته العليا بالبيان التالي :
---------------------------
(1) المفردات : (ص139) .
(2) سورة الأنبياء : (الآية 30) .
(3) سورة فاطر : (الآية 22) .
(4) سورة الأنعام : (الآية 122) .
(5) سورة الأنفال : (الآية 24) .
(6) سورة آل عمران : (الآية 169) .