الفهرس العام

الفصل الثاني
الإمامة انتصابية لا انتخابية وتعيينها بيد الخالق لا المخلوق

الفصل الثالث : في بيان انحصار الإمامة في الهداة الغرر المعصومين الإثني عشر (سلام الله عليهم أجمعين)



  من الواضح أنّ من يُنصب لأجل إمامة الخلق بعد الرسول ، ولتصدّي رئاسة الدين ، وزعامة الدنيا ، وحفظ الشرع ، وإصلاح المجتمع ، وإقامة الأحكام ، وتربية المسلمين ، وتنظيم شؤون البشر ، وإدارة اُمورهم ، وتهذيب نفوسهم ، وتضمين سعادتهم يلزم أن يكون أفضلهم وأعلمهم وأعقلهم والأرجح منهم ... معصوماً من الخطأ ، ومحفوظاً عن الزلل ، حتّى لا يلزم أن يعطي الشيء فاقده ، أو يهب الفضيلة من هو متخلٍّ منها ... ولئلاّ يكون مخطئاً فيلزم من خطأه إنحطاط المجتمع البشري وإنهيار معالم الإنسانية .
  وإذا حصلت هذه المزايا والملاكات في شخص كان لائقاً وجديراً بأن يتصدّى هذه الاُمور ، وطبيعي أنّ الفوز والنجاح يكون حليفه في هذه الشؤون ... وهنا نسأل أنّه من هو الذي يعرف الأفضل والأعلم والأعقل والأرجح والأصلح من الخلق حتّى يختاره وينصبه لهذا الأمر الجليل لتحمّل أعباء هذه الاُمور الجسيمة ؟
  ومن الذي يعلم السرائر ويطّلع على الضمائر حتّى يعرف عواقب

العقائد الحقّة _ 301 _

  الأشخاص ؟
  من الذي يعرف المصلِحَ من المفسد حتّى يختار من يكون فيه الصلاح الدائم بحيث لا يعتريه فساد تفسد به الطبقات البشرية الموجودة معه والأجيال الآتية بعده ؟
  وأخيراً هل يستطيع البشر العاجز المخطئ الظلوم تعيين ذلك ؟
  كلاّ ! ثمّ ألف كلاّ !! لا يقدر على ذلك إلاّ الله تعالى الذي هو الخالق للبشر ، والعالم بسرائرهم وضمائرهم ، والخبير بمطاوي نفوسهم وعواقبهم ، والمالك لأمرهم ، والحكيم في تدبيرهم ، والعارف بإحتياجاتهم ... ( وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ ) (1).
  ومن المعلوم أنّ ديناً كدين الإسلام الذي تقرّرت فيه جميع الأحكام والشرعيّات حتّى السنن والمرغّبات ، وكلّ جانب من جوانب الحياة لا يمكن أن يكون أهمل مسألة تعيين الإمام والخليفة بعد الرسول على أهمّيتها ، أو يكون أوكلَها إلى إختيار الاُمّة بما فيها الحثالة الجاهلة ، كأبي عبيدة الجرّاح الذي لا يميّز الهرّ من البرّ ، ولا يعرف خير نفسه فكيف بخير الآخرين .
  وقد تضمّنت أخبار السقيفة من كتب السيرة والحديث شناعة حاله ، كما أفاده في التنقيح (2) ، وهو من أعداء أمير المؤمنين (عليه السلام) (3).
  وحديث حسّان الجمّال في الفقيه (4) يدلّ على ذمّه ونفاقه ، فلاحظ .

---------------------------
(1) سورة البقرة : (الآية 220) .
(2) تنقيح المقال : (ج2 ص114 عند ترجمته تحت عنوان عامر بن الجرّاح) .
(3) معجم رجال الحديث : (ج10 ص216) .
(4) من لا يحضره الفقيه : (ج2 ص559 ح3144) .

العقائد الحقّة _ 302 _

  لا يمكن من الله الحكيم في تدبيره ، ولا من الرسول الرؤوف باُمّته أن يكون أهمل الخلافة بعده .
  ومن الحوار اللطيف أنّه سأل أبو الحسن الرّفا من ابن رامين الفقيه ـ وكلاهما من علماء العامّة ـ أنّه : لمّا خرج النبي (صلى الله عليه وآله) من المدينة ما استخلف عليها أحداً ؟
  قال : بلى إستخلف عليّاً .
  قال : وكيف لم يقل لأهل المدينة اختاروا فانّكم لا تجتمعون على الضلال !
  قال : خاف عليهم الخلف والفتنة .
  قال : فلو وقع بينهم فساد لأصلحه عند عودته .
  قال : هذا أوثق .
  قال : فاستخلف أحداً بعد موته ؟
  قال : لا .
  قال : فموته أعظم من سفره ، فكيف أمن على الاُمّة بعد موته ما خافه في سفره وهو حي عليهم ؟ فقطعه (1).
  البشر ليس بقادر على التشخيص المصيب لمن هو اللائق لهذا المنصب العظيم ...
  ويشهد لذلك عدم قدرتهم على نصب اللائق من جميع الجهات في الاُمور الدنيوية ، والمناصب الموقتة اليسيرة ، فكيف يمكنهم التصدّي لذلك المنصب الديني الدائمي الحسّاس ؟
  وكم رأينا أهل العقل والتدبير اتّفقوا على تعيين شخص لإنجاز أمر تبيّن لهم بعد ذلك خطأهم في تعيينه فغيّروه وبدّلوه .

---------------------------
(1) بحار الأنوار : (ج23 ص75) نقلا عن كتاب المناقب لابن شهر آشوب .

العقائد الحقّة _ 303 _

  بل الأعاظم الكُمّلين لا يمكن أن يكون إختيارهم كخيرة الله تعالى ... ألا ترى أنّ النبي موسى (عليه السلام) مع جلالة قدره وعزيميّة رسالته إختار من قومه لميقات ربّه سبعين رجلا ، ثمّ قالوا له : أرِنا الله جهرةً .
  سلّمنا قدرتهم على إنتخاب اللائق ، لكن الاُمّة لا تتّفق في الإختيار لزعم كلّ جماعة منهم أنّ هذا هو الأصلح دون ذاك ، فلا يتسنّى لهم إتّفاق الآراء مع إختلاف الأهواء .
  فكيف يمكن تفويض إختيار الإمام إليهم ، ألا يؤدّي ذلك إلى التشاجر والتنافر المنتهي إلى الفتنة والفساد ؟!
  ثمّ إنّ الإمامة كما تقدّم هي منصب إلهي يكون بجعل الله وتشريعه ، كالرسالة ، وليست إعتباراً عرفيّاً أو عقلائياً حتّى يجعلها العرف والعقلاء ، كما وأنّها ليست مرتبة علميّة مجرّدة حتّى يحوزها العلماء ، فلابدّ أن ينتهي تعيينها إلى من له التشريع فيقلّدها من اصطفاه من خُلّص عباده الصالحين ، وأوليائه المقرّبين .
  ثمّ إنّ نفس مقتضى منصب الخلافة والوصاية والولاية في الإمام هو أن يكون بجعل الله تعالى ، إذ لا تتحقّق الخلافة بدون إستخلاف ، ولا تكون الوصاية بدون إيصاء ، ولا تكون الولاية بدون التولية ... ولا معنى أن يكون أحد خليفة لشخص مع إستخلافه من قِبَل الآخرين .
  وحيث كانت الرسالة من الله فلا يصحّ أن تكون خلافتها ووصايتها والتولّي عنها إلاّ من قِبَل الله تعالى ...
  على أنّه بالإضافة إلى ذلك يدلّ على كون تعيين الإمام بيد الله تعالى : الكتاب والسنّة والعقل .

العقائد الحقّة _ 304 _

  1 ـ أمّا الكتاب فمثل :
  1 ـ قوله تعالى : ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (1).
  حيث يستفاد منه أنّ المختار في اُمور الدين والدنيا هو الله تعالى دون خلقه ، ولا إختيار في التصرّف في ذلك ... خصوصاً مع تقديم الربّ بقوله : ( وَرَبُّكَ ) في نسبة الخلق والإختيار إليه ونفيه عن المخلوقين .
  إذ الإختيار يلزم أن يكون مع العلم بأحوال من يقع عليه الإختيار ... ولا يعلم غير الله تعالى جميع أحوال المختار حتّى يكون له الخيرة .
  ويستفاد هذا الملاك من تلو هذه الآية التي قالت بعد ذلك ( وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ) (2) ، وفي هذا دلالة على أنّ من لا يعلم السرّ والجهر فلا إختيار له ، كما أفاده الشيخ الطبرسي في التفسير (3).
  وقد روى العلاّمة المجلسي (4) حديث أنس بن مالك ، عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) في تفسير هذه الآية الشريفة بقوله :
  ( إنّ الله اختارني وأهل بيتي على جميع الخلق فانتجَبَنا ، فجعلني الرسول ، وجعل علي بن أبي طالب (عليه السلام) الوصيّ ، ثمّ قال : ( ما كان لهم الخيرة ) يعني ما جعلت للعباد أن يختاروا ، ولكنّي أختار من أشاء ، فأنا وأهل بيتي صفوة الله وخيرته من خلقه ) .

---------------------------
(1) سورة القصص : (الآية 68) .
(2) سورة القصص : (الآية 69) .
(3) مجمع البيان : (ج7 ص263) .
(4) بحار الأنوار : (ج23 ص74 ب3 ح22) .

العقائد الحقّة _ 305 _

  2 ـ قوله تعالى : ( وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ )
(1).
  حيث يستفاد منه أنّ جاعل الإمامة هو الله تعالى ، وأنّها عهد من الله تعالى ، وأنّ هذا العهد لا ينال الظالم ، ومن المعلوم أنّ العهد يكون بين الطرفين المتعاهدين فقط دون غيرهم ... وتقديم ( إنّي ) في الخطاب بقوله : ( إنّي جاعلك ) ، لا ( جعلتك ) يفيد إنحصار الجعل به تعالى .
  وقد فسّر هذا العهد بالإمامة من قبل الخاصّة والعامّة ، فقد روي ذلك عن الإمامين الهمامين أبي جعفر الباقر وأبي عبدالله الصادق (عليهما السلام) ، كما فسّره بها مجاهد بن جبر المكّي من العامّة ، فيما حكاه الشيخ الطوسي في التبيان (2).
  3 ـ قوله تعالى : ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الاَْرْضِ خَلِيفَةً ) (3) حيث يستفاد منه أيضاً أنّ الخلافة الإلهية تكون بجعل الله تعالى ونصبه ، وأنّ هذا الجعل من شؤون الله تعالى شأنه ، مع أنّ مقتضى نفس الإستخلاف هو أن لا يكون إلاّ من المستخلف لا من غيره ... وخليفة الربّ يلزم أن يُنصب من جانب الربّ لا من جانب الناس ، وهذا معنى ظاهر ، لا شكّ فيه ولا رادّ عليه .

  2 ـ وأمّا السنّة :
  فهي دالّة أيضاً على لزوم كون تعيين الإمام من الله الملك العلاّم ، في أحاديث مثل :

---------------------------
(1) سورة البقرة : (الآية 124) .
(2) تفسير التبيان : (ج1 ص448) .
(3) سورة البقرة : (الآية 30) .

العقائد الحقّة _ 306 _

  1 ـ حديث عبدالعزيز بن مسلم ، عن الإمام الرضا (عليه السلام) الذي ورد فيه :
  ( إنّ الإمامة خلافة الله وخلافة الرسول ... فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام أو يمكنه إختياره ؟! هيهات ! هيهات ! ضلّت العقول وتاهت الحلوم ... ) (1).
  2 ـ حديث سعد بن عبدالله القمّي المتقدّم عن الإمام الحجّة عجّل الله تعالى فرجه (2).
  3 ـ حديث عمرو بن الأشعث قال : سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول : ونحن عنده في البيت نحو من عشرين رجلا ، فأقبل علينا وقال :
  ( لعلّكم ترون أنّ هذا الأمر في الإمامة إلى الرجل منّا يضعه حيث يشاء ، والله إنّه لعهد من الله نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى رجال مسمّين رجل فرجل حتّى ينتهي إلى صاحبها ) (3).

  3 ـ وأمّا العقل :
  فإنّه حاكم بتعيّن نصب الإمام والخليفة والوصي ممّن هو العارف بالأفضل ومن يؤمَن في إختياره من الخطأ والزلل ، ومن له الحقّ الأكمل ، وهو البصير الخبير .
  وقد ثبت أنّ الإمامة من المناصب الإتّخاذية كالرسالة ، لا من المراتب الإدراكية كالعلم ، والعقل يحكم في هكذا منصب أن يكون جعله بيد الجاعل .

---------------------------
(1) اُصول الكافي : (ج1 ص198 ح1) ، وقد تقدّم تفصيله .
(2) بحار الأنوار : (ج23 ص68 ب3 ح3) ، وتقد تقدّم في ص236 من هذا الكتاب فراجع .
(3) بحار الأنوار : (ج23 ص75 ب3 ح25) .

العقائد الحقّة _ 307 _

  على أنّ العقل يرى بداهة لزوم تعيين إمام الشريعة من قبل صاحب تلك الشريعة ، وتعيين الخليفة من قبل نفس المستخلِف ، وتعيين الوصيّ من قبل شخص الموصي ... ولا معنى عقلا لتصدّي الغير للنصب فضولة .
  بل يقبح أن ينصب الغير أحداً إماماً ، ثمّ يسلّطه على رقاب المسلمين ، لما عرفت من وقوع الظلم والفساد وحصول التنافر والتشاجر المبغوض عند العقل والعقلاء .
  فيتعيّن أن يكون نصب الإمام والخليفة والوصي بيد الله تعالى العالم الخبير ، والقادر البصير ، والعارف بصلاح أمرهم وسبيل خيرهم ... وقد خلق الخلق ليرحمهم فينصب الأفضل الأكمل لهم .
  واللابديّة الشرعيّة والعقليّة تقضي بأنّ الله تعالى قد عيّن الإمام للخليقة ونصبه للرعيّة بواسطة نبيّه الأمين صلوات الله عليه وآله أجمعين ... شأن سائر الاُمور التي يحتاجون إليها ممّا قد بلّغ النبي إيّاها ... وإلاّ لكان الدين ناقصاً من هذه الجهة ، وحاشا الدين الكامل عن النقص الذي هو بديهي البطلان ومخالف لقول ذاته المقدّسة ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الاِْسْلاَمَ دِيناً ) (1).
  فالحقّ المحقّق هو أنّ الله تعالى قد أتمّ الحجّة البالغة وأكمل النعمة السابغة بنصب أمير المؤمنين ثمّ من بعده أولاده الأئمّة المعصومين صلوات الله عليهم وعلى اُمّهم الصدّيقة الطاهرة وعلى أبيها سيّد العترة الغرر الميامين ... كما تعرفه في الفصل الآتي .

---------------------------
(1) سورة المائدة : (الآية 3) .

العقائد الحقّة _ 308 _

الفصل الثالث : في بيان انحصار الإمامة في الهداة الغرر المعصومين الإثني عشر (سلام الله عليهم أجمعين)

  بعد أن ثبت إحتياج الخلق إلى الإمام ، وثبت كون تعيينه بيد الخالق العلاّم ، فالحقيقة الحقّة التي لا يعتريها ريب ولا يدانيها شكّ ، هي انّ الذين إصطفاهم الله تعالى للإمامة ، وإختارهم للخلافة ، وعيّنهم للوصاية هم السادة الغرر الأئمّة الإثنا عشر .
  أوّلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، ثمّ الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) ، ثمّ الإمام الحسين سيّد الشهداء (عليه السلام) ، ثمّ الإمام السجّاد علي بن الحسين (عليه السلام) ، ثمّ الإمام الباقر محمّد بن علي (عليه السلام) ، ثمّ الإمام الصادق جعفر بن محمّد (عليه السلام) ، ثمّ الإمام الكاظم موسى بن جعفر (عليه السلام) ، ثمّ الإمام الرضا علي بن موسى (عليه السلام) ، ثمّ الإمام الجواد محمّد بن علي (عليه السلام) ، ثمّ الإمام الهادي علي بن محمّد (عليه السلام) ، ثمّ الإمام العسكري الحسن بن علي (عليه السلام) ، ثمّ خاتمهم الإمام الثاني عشر والوليّ المنتظر الحجّة بن الحسن المهدي صلوات الله عليهم .
  وقد دلّ على ذلك الدليل القاطع والبرهان الساطع ، كتاباً وسنّةً وعقلا وإعجازاً بالبيان التالي ذكره في الأدلّة الأربعة .

العقائد الحقّة _ 309 _

  مضافاً إلى قاعدة السنخيّة الثابتة ، وملاحظة الحكمة البارعة ، ولزوم المسانخة بين الخليفة والمستخلف ، وبين النبي ووصيّه الذي هو قائم مقامه ...
  فالسنخيّة موجودة في جميع الأشياء ، وواضحة في الاُمور بلا خفاء ، في الأفعال والأقوال وفي كلّ مجال .
  لذلك قال الله تعالى : ( وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ ) (1).
  وقال عزّ إسمه : ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) (2).
  وهذه السنخية نحسّها بوضوح فيما نشاهدها في حياتنا الطبيعية ، والعلاقات البشرية ...
  وممّا لا شكّ فيه أنّ الذي هو مسانخ لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذاته وصفاته ، وعلمه وأخلاقه ، وشجاعته ونزاهته ، ومكارمه وفضائله ، واُخوّته وقرابته هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) لا غيره ... فهو الذي يليق بوصاية الرسول الأعظم ، ويتعيّن لخلافة النبي الأكرم ، ويجدر أن يكون سيّد الاُمم .
  وأمّا الأدلّة الأربعة على إمامة الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) فهو كما يلي :
  1 ـ دليل الكتاب :
  وقد دلّت منه آيات بيّنات ودلائل واضحات على إمامة أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (عليه السلام) والأئمّة المعصومين من أولاده الطاهرين ، باتّفاق الفريقين ، نقطتف منها زهرة واحدة بها الكفاية والحجّة البالغة وهو قوله تعالى : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ

---------------------------
(1) سورة النور : (الآية 26) .
(2) سورة فاطر : (الآية 10) .

العقائد الحقّة _ 310 _

  اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (1).
  وقد اتّفقت الاُمّة ولم تختلف منها الكلمة في نزول هذه الآية المباركة في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أرواحنا فداه .
  وهذه الآية الشريفة صريحة في إختصاص الإمامة الكبرى والولاية العظمى به صلوات الله عليه .
  بيان ذلك : أنّ الولي وإن اُطلق في اللغة على المحبّ والناصر والصديق وغيرها أيضاً من المعاني إلاّ أنّ المعنى الشائع المنصرف إليه هو المعنى اللغوي والعرفي المعهود فيه ، وهو مالك الأمر ، والأولى بالتصرّف ، والأحقّ بالشيء ، والذي يلي تدبير الأمر ، ومنه قولهم : وليّ اليتيم ، أي الذي يلي أمره ويقوم بكفايته ، ووليّ المرأة : أي الذي يلي عقد النكاح عليها ، وولي الدم : أي الذي له حقّ المطالبة بالقصاص ...
  وحقيقة الولاية هو معنى تولّي الأمر كما في المفردات (2).
  والمولى حقيقة في الاُولى كما في العمدة (3).
  وقال أبو عبيدة معمّر بن المثنّى في كتاب المجاز : ( أنّ معنى مولاكم : أولى بكم ) كما حكاه في التلخيص (4).
  وقال المبرّد في كتاب العبارة: (أصل الوليّ: الذي هو أولى أي أحقّ ، ومثله

---------------------------
(1) سورة المائدة : (الآية 55) .
(2) المفردات للراغب : (533) .
(3) العمدة لابن بطريق : (ص55) .
(4) تلخيص الشافي : (ج2 ص177) .

العقائد الحقّة _ 311 _

  المولى ) كما حكاه عنه في المجمع (1).
  وذكر الزمخشري في الأساس : ( أنّ الولي بمعنى ولي الأمر والسيّد والمولى ) (2).
  ونقل الزبيدي في تاج العروس عن ابن الأعرابي : ( أنّ الولي هو الذي يلي عليك أمرك ) (3).
  وذكر ابن الأثير في النهاية : ( كأنّ الولاية تشعر بالتدبير والقدرة والفعل ، وما لم يجتمع ذلك فيه لم ينطلق عليه إسم الوالي ) .
  ثمّ تعرّض إلى أنّه قد تكرّر ذكر المولى في الحديث وهو إسم يقع على جماعة كثيرة :
  ( الربّ والمالك والسيّد والمُنعِم والمعتِق والناصر والمحبّ والتابع والجار وابن العمّ والحليف والعقيد ـ أي المعاقد المعاهد ـ والصهر والعبد والمعتَق والمنعَم عليه ) .
  ثمّ ذكر الحديث : ( من كنت مولاه فعلي مولاه ) ونصّ بكلامه الآتي : ( وقال الشافعي (رضي الله عنه) : يعني بذلك ولاء الإسلام كقوله تعالى : ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ ) (4) ) (5).
  ونقل ابن منظور في لسان العرب عن الفرّاء : ( أنّ الوليّ والمولى واحد في

---------------------------
(1) مجمع البيان : (ج3 ص209) .
(2) أساس البلاغة : (ص689) .
(3) تاج العروس : (ج10 ص399) .
(4) سورة محمّد : (الآية 11) .
(5) النهاية : (ج5 ص228) .

العقائد الحقّة _ 312 _

  كلام العرب ) .
  ثمّ قال ما نصّه : ( وروى ابن سلام ، عن يونس قال : المولى له مواضع في كلام العرب منها : المولى في الدين وهو الوليّ ، وذلك قوله تعالى : ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ ) أي لا وليّ لهم ، ومنه قول سيّدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ( من كنت مولاه فعلي مولاه ) أي من كنت وليّه ) (1).
  وقال الصاحب بن عبّاد في المحيط : ( المولى : الوليّ ، والله تعالى مولاه أي وليّه ) (2).
  ولا يصحّ في الآية المباركة بالنسبة إلى ولاية الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ، بل لا يجوز شيء من المعاني سوى الولاية بمعنى مالكية الأمر ، كما أفاده في المجمع (3) ، وكما يظهر لك بالتدبّر فيه وسيأتي مزيد تحقيقه .
  وإذا تبيّن أنّ المعنى الحقيقي المتعيّن المنصرف إليه المعهود هنا هي الأحقّية والأولوية وولاية الأمر ... قلنا إنّ الآية الشريفة ، حصرت هذه الولاية الحقّة بالذوات المقدّسة الثلاثة : الله ورسوله والمتصدّق في ركوعه ، بكلمة ( إنّما ) المفيدة للحصر باتّفاق أهل العربية .
  وفي مجمع البيان : لفظة إنّما مخصّصة لما أثبت بعدها ، نافية لما لم يثبت ، يقول القائل لغيره : إنّما لك عندي درهم ، فيكون مثل أن يقول : إنّه ليس لك عندي إلاّ درهم ، وقالوا : إنّما السخاء حاتم ، يريدون نفي السخاء عن غيره والتقدير :

---------------------------
(1) لسان العرب : (ج15 ص408) .
(2) المحيط في اللغة : (ج10 ص380) .
(3) مجمع البحرين : (ص97 مادّة ـ ولا ـ ) .

العقائد الحقّة _ 313 _

  إنّما السخاء ، سخاءُ حاتم (1).
  فتنحصر الولاية بمن ذكر في الآية وتنتفي عمّا عداهم ، وتتعيّن في الله ورسوله والمزكّي في ركوعه .
  ونفس ذكر ولاية الثلاثة في آية واحدة في سياق متّصل قرينة ظاهرة على سنخيّة ولاية المزكّي في ركوعه مع ولاية الله ورسوله ، وهي ولاية الأمر والأولى بالنفس .
  بل إنّ نفس حصر الولاية فيمن ذكر في الآية والإخبار عنها بخبر واحد قرينة قطعيّة على تعيّن معنى الولاية بما يرجع إلى أولوية الأمر والإمامة والتدبير .
  وذلك لأنّ ما تحتمله لفظة ( ولي ) من المعاني الاُخرى كالمحبّ والصديق وغيرهما ممّا تقدّم إمّا لا تناسب المورد ، وإمّا لا تنحصر بالله ورسوله والذين يقيمون الصلاة ويعطون الزكاة وهم راكعون فلا يكون وجه لحصرها .
  حيث إنّ المؤمنين كلّهم مشتركون في هذه المعاني الاُخرى ، وقد عبّر الكتاب بذلك في قوله عزّ إسمه : ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض ) (2).
  وإذا بطل الحمل على تلك المعاني تعيّن الحمل على المعنى الظاهر المسانخ المنصرف وهي الأولوية والأحقّية وولاية الأمر .
  وإذا عرفت تعيّن الآية الشريفة بولاية الأمر ثمّ حصرها فيمن خصّهم الله بالذكر ...
  قلنا : إنّ الاُمّة على إختلافها مجتمعة ، وأخبار الخاصّة والعامّة على كثرتها

---------------------------
(1) مجمع البيان : (ج3 ص209) .
(2) سورة التوبة : (الآية 71) .

العقائد الحقّة _ 314 _

  مطبقة على نزولها في أمير المؤمنين ومولى الموحّدين علي بن أبي طالب (عليه السلام) عند تصدّقه بخاتمه في حال ركوعه ، كما أفاده شيخ الطائفة في التلخيص (1).
  وقد أحصى شيخنا الأميني في كتابه الشريف الغدير (2) ، ستّة وستّين مصدراً من مصادر العامّة ذكرت نزول هذه الآية المحكمة في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) .
  ثمّ اعلم أنّه إنّما عبّر عنه (عليه السلام) في الآية بلفظ الجمع إمّا للتفخيم والتعظيم فانّه يعبّر عن الواحد بلفظ الجمع إذا كان معظّماً عالي الذكر نظير قوله : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (3) ، كما أفاده شيخ الطائفة في التبيان (4) ، أو لشموله سائر الأئمّة الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين ، كما أفاده السيّد الشبّر في حقّ اليقين (5).
  ويظهر من بعض الأحاديث الشريفة (6) أنّ المراد به جميع الأئمّة (عليهم السلام) ، وأنّهم قد وفّقوا جميعاً لمثل هذه الفضيلة ، كما أفاده شيخنا العلاّمة المجلسي أعلى الله مقامه (7).
  وأضاف الزمخشري في الكشّاف بعد التنصيص على نزولها في علي (عليه السلام) : ( إنّما جيء به على لفظ الجمع وإن كان السبب فيه رجلا واحداً ليرغب الناس في

---------------------------
(1) تلخيص الشافي : (ج2 ص18) .
(2) الغدير : (ج3 ص156) .
(3) سورة الحجر : (الآية 9) .
(4) التبيان : (ج3 ص562) .
(5) حقّ اليقين : (ج1 ص144) .
(6) تفسير البرهان : (ج1 ص293) .
(7) بحار الأنوار : (ج35 ص206) .

العقائد الحقّة _ 315 _

  مثل فعله ، وليُنبّه على أنّ سجيّة المؤمنين يجب أن تكون على هذه الغاية من الحرص على البرّ والإحسان ) (1).
  فهذه الآية الكريمة إذاً هي من أوضح الأدلّة ، وأجلى البراهين على أنّ الإمام والحجّة والولي الذي عيّنه الله تعالى هو أمير المؤمنين (عليه السلام) .
  وقد روي هذا من طرق الخاصّة بتسعة عشر حديثاً ، ومن طرق العامّة بأربعة وعشرين حديثاً تجدها في غاية المرام لسيّدنا البحراني طاب ثراه (2) وغيره .
  وللنموذج نذكر من أحاديث الخاصّة المفسّرة ، حديث العياشي بإسناده عن عمّار بن ياسر أنّه قال : وقف لعلي بن أبي طالب سائل وهو راكع في صلاة تطوّع فنزع خاتمه فأعطاه السائل فأتى رسول الله فاعلم بذلك ، فنزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الآية ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (3)... إلى آخر الآية ، فقرأها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علينا ، ثمّ قال : ( من كنت مولاه فعلي مولاه اللهمّ والِ مَن والاه وعادِ من عاداه ) (4).
  ومن أحاديث العامّة حديث ابن المغازلي بسنده عن ابن عبّاس في قوله : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) قال : نزلت في علي (عليه السلام) (5).

---------------------------
(1) تفسير الكشّاف : (ج1 ص422) .
(2) غاية المرام : (ص103 ـ 109 ب18 و19) ، وجاءت في إحقاق الحقّ : (ج2 ص399 ، وج3 ص502 ، وج4 ص60 ، وج14 ص2 ، وج20 ص2) .
(3) سورة المائدة : (الآية 55) .
(4) غاية المرام : (ص108 ب19 ح10) .
(5) غاية المرام : (ص104 ب18 ح5 و6) .

العقائد الحقّة _ 316 _

  وترى أحاديث أهل بيت العصمة ، المتظافرة في بحار الأنوار (1) وغيرها من كتب الشيعة الأبرار التي تؤكّد هذه الحقيقة وهي نزولها في شأن أمير المؤمنين (عليه السلام) .
  هذه زهرة عطرة ، وآية زاهرة من رياض آيات الله الباهرة إقتطفناها نموذجاً حيّاً ودليلا قطعيّاً من أدلّة الإمامة ...
  وآيات الذكر الحكيم في هذا الأصل كثيرة جدّاً تراها في مواردها مذكورة مفصّلة مثل آية الإطاعة ، وآية التطهير ، وآية الصادقين ، وآية إكمال الدين ، وآية الشاهد وغيرها من الآيات المباركات ، النازلة في شأن خليفة سيّد الكائنات صلوات الله عليه وآله المعصومين والمفسّرة بالأئمّة الطاهرين عليهم سلام الملك الحقّ المبين ، ممّا إعترف بها القوم واُحصيت في المجلّد الثاني من إحقاق الحقّ للسيّد القاضي التستري أعلى الله مقامه ، والمجلّد الثامن من دلائل الصدق للشيخ المظفّر طيّب الله رمسه في فصل إمامة علي والآل (عليهم السلام) في القرآن .
  وأضاف السيّد شرف الدين قدّس الله روحه أنّه تكفي آية التطهير في دليليتها لإمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) بتصديق أهل البيت المعصومين في بيانهم إمامتهم من قِبَل ربّ العالمين (2).

  2 ـ دليل السنّة :
  الأحاديث الشريفة الدالّة على إمامة الهداة الإثني عشر أكثر من أن تُحصى ، إلاّ أنّا نتيمّن بذكر لؤلؤة باهرة من تلك اللئالي الفاخرة ، وهي حديث

---------------------------
(1) بحار الأنوار : (ج35 ص183 ب4) .
(2) الكلمة الغرّاء : (ص317) .

العقائد الحقّة _ 317 _

  الدعوة الإلهيّة والعزيمة الربّانية ، حديث إكمال الدين وإتمام النعمة ، حديث الغدير الأغرّ ، الذي نزل به الكتاب المبين ، وتواترت فيه أحاديث النبي الأمين ... بأنّه ألقى وأجاد رسول الله بخطبته المباركة ، وناشد فيه القوم قائلا :
  ( ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ قالوا : بلى ، ثمّ أخذ بيد علي (عليه السلام) ورفعه وقال : من كنت مولاه فهذا علي مولاه ، اللهمّ والِ من والاه ، وعادِ من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ... ) .
  وقد إعترف المؤالف والمخالف حتّى الخوارج والنواصب بصحّته وتواتره والتسالم عليه .
  ففي نزل الأبرار للبدخشي ما نصّه : ( هذا حديث صحيح مشهور لم يتكلّم في صحّته إلاّ متعصّب جاحد ولا إعتبار بقوله ) (1).
  وفي روح المعاني للآلوسي حكى عن الذهبي أنّه قال : ( ( من كنت مولاه ) متواتر يُتيقّن أنّ رسول الله قاله ) (2).
  وفي سرّ العالمين المنسوب إلى الغزالي : ( أجمع الجماهير على متن الحديث من خطبته في يوم غدير خمّ باتّفاق الجميع وهو يقول : من كنت مولاه فعلي مولاه ) (3).
  وفي المناقب للشافعي : ( وهذا الخبر قد تجاوز حدّ التواتر ، فلا يوجد خبر قطّ نقل من طرق كهذه الطرق ) (4).

---------------------------
(1) نزل الأبرار : (ص21) .
(2) تفسير روح المعاني : (ج2 ص350) .
(3) سرّ العالمين : (ص9) .
(4) المناقب لعبدالله الشافعي : (ص108) .

العقائد الحقّة _ 318 _

  وقد جاءت نصوص الحديث من طريق الخاصّة في ثلاثة وأربعين حديثاً ومن طريق العامّة في تسعة وثمانين حديثاً تلاحظها بأسنادها ومتونها في غاية المرام وغيرها (1).
  وللنموذج نذكر من طرق الخاصّة ، حديث علي بن إبراهيم قال : حدّثني أبي ، عن ابن أبي عمير ، عن ابن سنان ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال :
  ( لمّا أمر الله نبيّه أن ينصب أمير المؤمنين للناس في قوله : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) (2) في علي بغدير خمّ فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، فجاءت الأبالسة إلى إبليس الأكبر وحثوا التراب على وجوههم ، فقال لهم إبليس : ما لكم ؟! قالوا : إنّ هذا الرجل قد عقد اليوم عقدة لا يحلّها شيء إلى يوم القيامة ، فقال لهم إبليس : كلاّ ! إنّ الذين حوله قد وعدوني فيه عِدة لن يخلفوني ، فأنزل الله على رسوله ( وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ ) (3) الآية ) (4).
  ومن طرق العامّة حديث أحمد بن حنبل بإسناده قال : كنّا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله ) في سفره فنزلنا بغدير خمّ ونودي فينا : الصلاة جامعة ، وكسح لرسول الله (صلى الله عليه وآله) تحت شجرة ، فصلّى الظهر وأخذ بيد علي (عليه السلام) فقال : ( ألستم تعلمون أنّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ قالوا : بلى .

---------------------------
(1) غاية المرام : (ص79 ـ 103 ب16 و17) ، وإحقاق الحقّ : (ج2 ص426 ، وج3 ص322 ، وج6 ص225 ، وج16 ص559 ، وج21 ص1) .
(2) سورة المائدة : (الآية 67) .
(3) سورة سبأ : (الآية 20) .
(4) غاية المرام : (ص91 ب17 ح8) .

العقائد الحقّة _ 319 _

  قال : ألستم تعلمون أنّي أولى بكلّ مؤمن من نفسه ؟ قالوا : بلى ، وأخذ بيد علي (عليه السلام) فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهمّ والِ من والاه وعادِ من عاداه ، قال : فلقيه عمر فقال : هنيئاً لك يا بن أبي طالب أصبحت مولى كلّ مؤمن ومؤمنة ) (1).
  وقد أوفى البحث غاية الإيفاء شيخنا العلاّمة الأميني في موسوعته الغرّاء الغدير ، فلاحظ إستقصاء البحث من حيث الكتاب والسنّة والأدب في المجلّد الأوّل منه ، ونحن نشير إلى فهرَسَة ما فصّل فيه هذا البحث الطيّب والحديث المستطاب ، راجعها لمزيد المعرفة :
  ففي صفحة 5 أحصى المحدّثين والمؤرخين والمتكلّمين والمفسّرين واللغويين الذين ذكروا حديث الغدير .
  وفي صفحة 9 ذكر المجموعة الكثيرة التي كانت في ركاب النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) حين إلقاء خطبة الغدير وأخذ العهد من الحاضرين وطلب إبلاغه للغائبين ، وأقلّ عدد ذكر في إحصاء الحاضرين هو تسعون الف شخص .
  وفي صفحة 14 ذكر رواة حديث الغدير من الصحابة مئة وعشر صحابياً ، مع ذكر تواتر جميع الطبقات في القرون الأربعة عشر .
  وفي صفحة 62 ذكر رواة حديث الغدير من التابعين وهم أربعة وثمانون تابعيّاً .
  وفي صفحة 73 ذكر طبقات رواة حديث الغدير من أئمّة الحديث وحفّاظه وهم ثلاث مئة وستّون نسمة .
  وفي صفحة 152 ذكر المؤرخين في حديث الغدير وهم ستّة وعشرون

---------------------------
(1) غاية المرام : (ص79 ب16 ح1) .

العقائد الحقّة _ 320 _

  مؤلّفاً .
  وفي صفحة 214 ذكر نزول قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) (1) في علي (عليه السلام) نقلا عن ثلاثين مصدراً من مصادر العامّة مضافاً إلى مصادر الخاصّة المتواترة .
  وفي صفحة 230 ذكر نزول قوله تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الاِْسْلاَمَ دِيناً ) (2) يوم الغدير بعد نصب علي أمير المؤمنين نقلا عن ستّة عشر مصدراً من مصادر العامّة .
  وفي صفحة 239 ذكر نزول قوله تعالى : ( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَاب وَاقِع * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللهِ ذِي الْمَعَارِجِ ) (3) في الحارث بن النعمان الفهري حينما ردّ على النبي (صلى الله عليه وآله) نصبه عليّاً أميراً ، نقلا عن ثلاثين مصدراً من مصادر العامّة .
  وفي صفحة 294 تعرّض إلى بيان سند هذا الحديث المتواتر واستغناؤه عن الإثبات .
  وفي صفحة 340 تطرّق إلى بيان دلالته القطعيّة على إمامة مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) بالقرائن المتّصلة والمنفصلة العشرين المعيّنة للأولوية مضافاً إلى حقيقة معنى الأولوية للولي ...
  ويحسن مراجعة تلك القرائن الصريحة التي كان يلزم ذكرها هنا لولا طلب الإختصار .

---------------------------
(1) سورة المائدة : (الآية 67) .
(2) سورة المائدة : (الآية 3) .
(3) سورة المعارج: (الآيات 1 ـ 3) .

العقائد الحقّة _ 321 _

  ثمّ إنّه تلاحظ أخبار الغدير ونصوصه الجليلة المائة وخمسة بمسالك الإستدلال السبعة في بحار الأنوار (1) ممّا لا يبقى معها مجال لأدنى شكّ وأقلّ ريب في هذه الحقيقة التي هي أظهر من الشمس وأبين من الأمس ... بعد كلماتهم الدرّية ، وبعد إعتراف جميع البريّة من المؤالف والمخالف .
  وهذا الحديث الشريف كاف في الإستدلال مع أنّ بجنبه الأحاديث القطعيّة المتواترة الاُخرى المتّفق عليها بين الفريقين كحديث الثقلين ، وحديث المنزلة ، وحديث المواساة ، وحديث السفينة ، وحديث الأمان ، وحديث العشيرة وغيرها ممّا تلاحظها من الطريقين في غاية المرام ، وإحقاق الحقّ ، ودلائل الصدق ومجلّدات الإمامة من بحار الأنوار .
  ممّا يحصل معها القطع واليقين بإنحصار الإمامة في أهل البيت الطيّبين صلوات الله عليهم أجمعين .
  مضافاً إلى آية إطاعة اُولي الأمر النازلة في علي وأولاده المعصومين (عليهم السلام) في أحاديث الخاصّة والعامّة كما تلاحظها في غاية المرام (2).
  مع التنصيصات على إمامة الأئمّة الإثني عشر التي تلاحظها في الإرشاد للشيخ المفيد ، وإثبات الهداة للحرّ العاملي بل أسنده أحمد بن حنبل عن ابن عمر في أربعة وثلاثين طريقاً (3) وتلاحظ نصوصها في فرائد السمطين (4).
  هذا من جهة ... ومن جهة اُخرى لم يكن ولم يمكن لأحد من شيوخ

---------------------------
(1) بحار الأنوار : (ج37) .
(2) غاية المرام : (ص263 ـ 268 ب58 و59) .
(3) إثبات الهداة : (ج1 ص706) .
(4) فرائد السمطين : (ج2 ص213) .

العقائد الحقّة _ 322 _

  المخالفين إقامة نصّ واحد يذكر أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عيّنهم لإمامة أو خلافة أو وصاية ...
  وعمدة ما استدلّوا به على خلافة أبي بكر هو دعوى إجماع أهل الحلّ والعقد ... لكنّه باطل من وجوه ثمانية :
  الأوّل : انّه لو كانت مشروعية الخلافة منوطة بهذا الدليل فلماذا لم يكن إجماع أهل الحلّ والعقد في خلافة عمر وعثمان أيضاً .
  الثاني : انّ الخلافة والإمامة والوصاية هي من الاُمور الإنتصابيّة كما عرفت ، لا من الاُمور الإنتخابية حتّى تتحقّق بانتخاب أهل الحلّ والعقد .
  الثالث : انّ اللازم على دعواهم أن يكون أبو بكر خليفة الناس لا خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما يدّعونه ، فنسأل أنّه : أي حجّة للناس في اتّباع من اختاروه هم بأنفسهم خليفة ؟ وهل يصير بانتخابهم خليفة للرسول ؟!
  الرابع : فرضنا حصول الإجماع بحسب دعواهم لكن نقول : إنّ من البديهي كون الإجماع على بيعة أبي بكر في كافّة بلاد المسلمين لم يحصل دفعةً واحدة ... بل لابدّ وأنّه بدأ بالآحاد الذين التفّوا حوله ثمّ تدرّج شيئاً فشيئاً إلى البلدان أطراف المدينة ، فنورد بأنّه أي شيء كان دليلا ومجوّزاً للطائفة الاُولى في إقدامهم على تلك البيعة قبل حصول إجماع مسلمي البلدان أو أهل الحلّ والعقد منهم ؟! فأيّ كتاب وأيّة سنّة جوّزت لهم ذلك ؟!
  الخامس : فرضنا تحقّق الإجماع على بيعة أبي بكر وإنتخابه ... لكن نطالب بالدليل على حجّية هذا الإجماع ؟
  لابدّ وأنّهم يدّعون كون دليل إعتباره هو ما نسبوه إلى رسول الله صلوات الله وسلامه عليه وآله من أنّه قال : ( ما كان الله ليجمع اُمّتي على ضلال ) .
  لكن غير خفيّ إنّ هذا القول موضوع مجعول مختلق ، ويشهد على ذلك ما

العقائد الحقّة _ 323 _

  يلي :
  1 ـ إنّه قد دفع صحّته جماعة من أهل النظر والإعتبار من نفس المخالفين وأنكره إمام المعتزلة وشيخها إبراهيم بن سيّار النظام ، كما حكاه الشيخ المفيد (قدس سره) (1).
  2 ـ إنّ عدم إجتماع الاُمّة على الضلال لا يصحّ إطلاقاً ، بل يندفع قطعاً بالأخبار الصحيحة المنقولة من الفريقين مثل :
  أ ) قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : ( لتتبعنّ سنن من كان قبلكم شبراً بشبر ، وذراعاً بذراع ، حتّى لو دخلوا في جُحر ضبٍّ لاتّبعتموهم ، فقالوا : يا رسول الله ! اليهود والنصارى ؟! قال : فمن إذاً ؟ ) (2).
  ب ) قوله صلوات الله وسلامه عليه وآله في حجّة الوداع لأصحابه : ( ألا لأعرفنّكم ترتدّون بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ، ألا إنّي قد شهدت وغبتم ) (3).
  ج ) قوله عليه وآله الصلاة والسلام : ( إنّكم محشورون إلى الله تعالى يوم القيامة حفاة عراة ، وإنّه سيُجاء برجال من اُمّتي فيؤخذ بهم ذات الشمال ، فأقول : يا ربّ ! أصحابي فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، إنّهم لا يزالون مرتدّين على

---------------------------
(1) الإفصاح : (ص47) .
(2) مسند أحمد بن حنبل : (ج2 ص511) .
(3) صحيح البخاري : (ج7 ص182) .

العقائد الحقّة _ 324 _

  أعقابهم منذ فارقتهم ) (1).
  وغيرها من الأخبار التي تصرّح بإرتداد الاُمّة وكفر بعضهم وضلالتهم ، فكيف لا يجتمعون على ضلال ؟
  وتلاحظها مفصّلة في أخبار الخاصّة الواردة في باب إفتراق الاُمّة وإرتدادهم عن الدين بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (2).
  وهذه الأخبار الحجّة عندهم تدفع أيضاً ما افتري على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انّه قال : ( أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم ) .
  فكيف يُهتدى بهم وفيهم مَن صار من أصحاب الشمال ، وارتدّ إرتداد كفر ؟!
  3 ـ تدفعه أيضاً إخبار الله تعالى عن ردّة الاُمّة بعد نبيّها في صريح قوله عزّ إسمه : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) (3).
  أي إرتددتم كفّاراً بعد إيمانكم ، فسمّي الإرتداد إنقلاباً على العقب وهو الرجوع القهقري لأنّ الردّة خروج إلى أقبح الأديان كما أنّ الإنقلاب خروج إلى أقبح ما يكون من المشي (4).

---------------------------
(1) صحيح مسلم : (ج4 ص58) .
(2) بحار الأنوار : (ج28 ص2 ب1 الأحاديث) .
(3) سورة آل عمران : (الآية 144) .
(4) مجمع البيان : (ج2 ص514) .

العقائد الحقّة _ 325 _

  ولا يخفى أنّ الإستفهام في المقام إنكاري متضمّن للإخبار كما صرّح به في مجمع البيان ، ويستفاد أيضاً من حديث ابن أبي المقدام في البرهان (1).
  السادس : أنّه كيف تحقّق الإجماع مع إنكار صفوة المسلمين وأرحام الرسول الأمين يعني بني هاشم ، ومخالفة الأنصار ، وخلاف وجوه الأصحاب كسلمان الفارسي ، وأبي ذرّ الغفاري ، والمقداد بن الأسود ، وعمّار بن ياسر ، وبريدة الأسلمي ، والزبير بن العوّام ، وخالد بن سعيد بن العاص ، وحذيفة بن اليمان ، واُبي بن كعب ، وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين ، وأبي الهيثم بن التيهان ، وسهل بن حنيف ، وأخيه عثمان بن حنيف ، وجابر بن عبدالله الأنصاري ، وأبي أيّوب الأنصاري ، وقيس بن سعد بن عبادة ، وغيرهم ، مع عدم حضور الجمع الكثير والجمّ الغفير من المهاجرين والأنصار الذين كانوا قد خرجوا مع جيش اُسامة ... خصوصاً مع قول ابن سعد في كتاب الطبقات أنّه لم يبق أحد من وجوه المهاجرين الأوّلين والأنصار إلاّ انتدب في تلك الغزوة (2).
  فكيف يتحقّق الإجماع مع مخالفة هؤلاء وإنكارهم أو عدم حضورهم ...
  مع أنّ الإجماع عند أكثر متقدّميهم كالقاضي عبدالجبّار المعتزلي وإمام الحرمين الجويني وأبي حامد الغزالي ، هو اتّفاق اُمّة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، كما حكاه في حقّ اليقين (3).
  السابع : أنّه ليس فقط لم يتحقّق إجماع الاُمّة بل لم يتحقّق إختيار أهل الحلّ والعقد ، بل لم يكن التعيين إلاّ من الجماعة التي حضرت السقيفة ، ثمّ أخذت البيعة

---------------------------
(1) تفسير البرهان : (ج1 ص197) .
(2) أعيان الشيعة : (ج1 ص346) .
(3) حقّ اليقين : (ج1 ص142) .

العقائد الحقّة _ 326 _

  من الناس لأبي بكر بالقهر والغلبة ، والسوط والسيف ... مع تهديد ( من لم يبايع ضربت عنقه ) فهل هذا هو الإجماع ؟!
  الثامن : أنّه حتّى نفس شيخ السقيفة الذي حمل السيف وأخذ البيعة إعترف بعدم الإجماع في بيعة أبي بكر ووقوعها فلتة (1) ، في قوله : ( كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرّها ، فمن عاد لمثلها فاقتلوه ) ، كما اعترف به جمع من أكابرهم كالبخاري في صحيحه ، وأحمد في مسنده ، والطبري في تاريخه ، وابن الأثير في كامله ، وابن هشام في سيرته ، وابن أبي الحديد في شرحه (2).
  فالحقيقة المكشوفة أنّ شيخ السقيفة وأعوانه هم الذين عيّنوا في مقابل الله خليفةً لرسول الله وجعلوا الخلافة فيمن اعترف هو بنفسه بعدم لياقته في قوله : ( أقيلوني ، أقيلوني لست بخيركم وعليّ فيكم ) كما صرّح بكلامه هذا ابن حجر في الصواعق ، وابن قتيبة في الإمامة والسياسة ، والطبري في الرياض ، والمتّقي في الكنز (3).
  وعلى الجملة ، لم يكن أي دليل ولو بعنوان جزئي على أدنى إستحقاق في تصدّي الخلافة ممّن تصدّاها ظلماً .
  مضافاً إلى أنّه لا مجال لها أساساً بصريح قوله تعالى : ( لاَ يَنَالُ عَهْدِي

---------------------------
(1) الفلتة : هي الأمر الفجأة من غير تدبّر ولا رويّة .
(2) صحيح البخاري : (ج10 ص44) ، ومسند أحمد : (ج1 ص55) ، وتاريخ الطبري : (ج3 ص200) ، وتاصيخ ابن الأثير : (ج2 ص135) ، وسيرة ابن هشام : (ج4 ص338) ، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : (ج2 ص26) .
(3) الصواعق المحرقة : (ص30) ، والإمامة والسياسة : (ص14) ، والرياض النضرة : (ج1 ص175) ، وكنز العمّال : (ج3 ص132) .

العقائد الحقّة _ 327 _

  الظَّالِمِينَ ) (1) فليست هذه الخلافة من الله في شيء ... ولا من رسول الله في موضع ... ولم يرض بها الخليفة الحقّ ، وأهل بيت العصمة ، بل استنكروها أبلغ إنكار عند وفاة الرسول وبعد الوفاة ويوم الشورى وأيّام عثمان ويوم الرُحبة ويوم صفّين ويوم الجمل وغيرها ممّا تلاحظها مع إحتجاج بني علي وبني هاشم والأصحاب ، بأحاديث الفريقين في كتاب الغدير (2) ، وبأحاديثنا في كتاب الإحتجاج (3) ، ويكفيك في ذلك خطبته الشقشقية المعروفة (4).

  3 ـ دليل العقل
  العقل يحكم بقبح تقديم المفضول ، ولزوم تقديم الأفضل ، حتّى لا يلزم خفض وإنحطاط لمرتبة الفضل والفضيلة والسداد .
  ومن الواضح عدم استواء مرتبة من يعلم ومن لا يعلم ، وأنّ العقل حاكم بتقديم الأعلم ...
  ومعلوم أنّ الأفضل والأعلم واللائق للإمامة بحكم العقل والعقلاء وباعتراف الخصماء هو علي بن أبي طالب (عليه السلام) .
  سُئل الخليل بن أحمد الفراهيدي : ما الدليل على أنّ عليّاً إمام الكلّ في الكلّ ؟

---------------------------
(1) سورة البقرة : (الآية 124) .
(2) الغدير : (ج1 ص159) .
(3) الإحتجاج : (ج1 ص157) .
(4) نهج البلاغة : (ص25 من الطبعة المصرية الخطبة3) .

العقائد الحقّة _ 328 _

  فأجاب : لإحتياج الكلّ إليه ، واستغنائه عن الكلّ (1).
  وهذه الأفضليّة ثابتة لجميع الأئمّة من أهل البيت فإنّهم ورثوا العلم من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يأخذوا العلم من أحد ، ولم يحتاجوا إلى أحد ، وفاقوا جميع الخلق وكانوا أفضل الخليقة فيحكم العقل بتقديمهم ولزوم إمامتهم ... بالإضافة إلى النصوص المستفيضة في إمامتهم .
  وقد استقصى العلم العلاّمة أعلى الله مقامه ، الأدلّة العقليّة على إمامة أمير المؤمنين في كتاب الألفين ، فلاحظ .

  4 ـ دليل الإعجاز
  كما كانت المعاجز من أدلّة صدق النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ومن قبله من الأنبياء والمرسلين ، كذلك تكون من أدلّة إمامة الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) .
  فإنّهم سلام الله عليهم أخبروا بإمامتهم ووصايتهم عن الله تعالى مقروناً بمعاجزهم الساطعة وآياتهم اللامعة التي هي شواهد قطعيّة ، ودلائل وجدانية على صدق كلامهم ، وصحّة إمامتهم ، وحقيقة إنتصابهم من قبل ربّهم ... وإلاّ لم يكونوا قادرين على إتيان ما لم يقدر عليه إلاّ ربّ العالمين ... ولمّا كانوا مؤيّدين بالآيات التي تكشف عن كونها من آيات الحقّ المبين .
  وقد جُمعت تلك المعجزات الباهرات في الأجزاء الثلاثة من كتاب إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات للمحدّث الحرّ العاملي ، وكتاب مدينة المعاجز للسيّد البحراني ، وكتاب الثاقب في المناقب للفقيه ابن حمزة الطوسي ، والمجلّد الحادي والأربعين والثاني والأربعين من بحار الأنوار لشيخ الإسلام المجلسي ...

---------------------------
(1) تنقيح المقال : (ج1 ص403) .

العقائد الحقّة _ 329 _

  ونحن نختار منها ونتشرّف عندها بالإشارة الموجزة إلى بعض معجزات سيّد العترة وأبي الأئمّة سيّد الوصيّين وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب سلام الله عليه وعلى أبنائه الكرام ...
  من ذلك ما ظهر حين ولادته في الكعبة المعظّمة حيث سجد على الأرض وهو يقول :
  ( أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله وأشهد أنّ عليّاً وصي محمّد رسول الله وبمحمّد يختم الله النبوّة ، وبي يُتِمُّ الوصيّة وأنا أمير المؤمنين ) .
  ثمّ حينما خرج من الكعبة المشرّفة وأخذه والده أبو طالب (عليه السلام) ثمّ أخذ بيد اُمّه فاطمة بنت أسد (عليها السلام) وخرج إلى الأبطح اُلقي إلى أبي طالب (عليه السلام) لوح أخضر مكتوب فيه هذان البيتان :
خُـصّصتُما بالوَلَد iiالزكيِّ      والطاهر المنتجب الوصيِّ
فـاسمُهُ مـن شامخ iiعليِّ      عـليٌّ  اشـتُقَّ مِنَ iiالعليِّ
  ومن ذلك مظهر الإعجاز في نفس بدنه المقدّس بما منحه الله تعالى من القوّة الإلهيّة والقدرة الربّانية ... ويكفي في ذلك ما ظهر منه في يوم خيبر حيث ضَرَب (عليه السلام) بسيفه مرحَب على رأسه بما فيها العمامة والخوذة وما عليه من الجوشن والحِلَق من قُدّام وخلف حتّى قدّها بنصفين تماماً ...
  ثمّ حمل بعده على اليهود فانهزموا إلى حصن قموص ، وأغلقوا على أنفسهم الباب ، فتقدّم علي (عليه السلام) إلى باب الحصن وهزّ الباب فارتعد الحصن حتّى ظنّوا وقوع زلزلة ، ثمّ هزّه اُخرى فقَلَعه ورمى به في الهواء أربعين ذراعاً ، ثمّ حمله واقتحم الحصن ، وتترّس بالباب وضارَبَ الأقران حتّى غلب عليهم ... ثمّ جعله جسراً على الخندق الذي كان قد حفره اليهود فعبر عليه عسكر المسلمين وكانوا

العقائد الحقّة _ 330 _

  ثمانية آلاف وسبع مئة رجل ، وحيث كان طول ذلك الباب أقلّ من عَرض الخندق جَعَل علي (عليه السلام) أحد جانبي الباب على حافّة الخندق والجانب الآخر على يده ليعبر عليه المسلمون إلى الحصن ...
  فقال أحد الصحابة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : ما عجبنا يا رسول الله من قوّته في حمله ورميه وإتراسه وإنّما عجبنا من جعله جسراً وإحدى طرفيه على يده . فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : يا هذا ! نظرتَ إلى يده ، فانظُر إلى رجليه ... فوجدهما معلّقتين في الهواء .
  فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : ليستا على الهواء ، وإنّما هما على جناحي جبرئيل .
  علماً بأنّ ذلك الباب كان أربعة أذرع في خمسة أشبار في أربع أصابع عمقاً حَجَراً صلداً ، وكان لا يقدر على غلقه إلاّ عشرون رجلا منهم .
  ومن ذلك ما ظهر من إعجازه في الأشياء مثل :
  آيته في إحياء الموتى كشمعون بن حمّون وصي عيسى بن مريم وتسليمه على الإمام علي (عليه السلام) في صفّين بقوله الذي سمعه الأصحاب : ( السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ، مرحباً بوصي خاتم النبيّين ، وقائد الغرّ المحجّلين ، والعالم المؤمن ، والفاضل الفائق ، ميراث الصدّيقين ، وسيّد الوصيّين ) .
  وكذلك إحياؤه بإذن الله تعالى امرأةً قتلت في محبّته تسمّى اُمّ فروة ، فذهب (عليه السلام) إلى قبرها وقال : ( يا أمة الله ! قومي بإذن الله تعالى ) فخرجت اُمّ فروة من القبر ورُدّت إلى زوجها ووَلدت بعد ذلك غلامين ، وعاشت إلى ما بعد شهادة أمير المؤمنين (عليه السلام) بستّة أشهر ...
  وكذلك تكلّمه مع جُمجمة ميّت في أرض بابل وسؤاله منها : من أنت ؟ فأجابت : أنا فلان بن فلان ملك بلد فلان ... وقصّت خبرها .

العقائد الحقّة _ 331 _

  ثمّ إعجازه في الثمار والأشجار حيث مدّ يده إلى اسطوانة المسجد ، ودعا ربّه ، فخرج منها غصن فيها أربع رمّانات ، فدفع إلى الحسن (عليه السلام) إثنتين ، وإلى الحسين (عليه السلام) إثنتين وقال : هذه من ثمار الجنّة ، فقال بعض الأصحاب : يا أمير المؤمنين ! أوَ تقدر عليها ؟
  فقال (عليه السلام) : أولستُ قسيم الجنّة والنار بين اُمّة محمّد (صلى الله عليه وآله) ؟
  ومرّة اُخرى ضرب بيده الشريفة إلى أصل شجرة يابسة وقع لحاؤها ، وبقي عودها ، وقال : ( ارجعي بإذن الله خضراء ذات ثمر ) فإذا هي تهتزّ بأغصانها وأخرجت حمل الكمثرى ، فقطع منها الأصحاب وأكلوا منها ، وحملوا معهم ثمرها .
  وأقبل إليه وهو يخطب يوم الجمعة على منبر مسجد الكوفة ثعبان عظيم من باب المسجد يهوي نحو المنبر ، حتّى صعد المنبر وتطاوَلَ إلى اُذُنِ أمير المؤمنين (عليه السلام) فأصغى (عليه السلام) إليه ثمّ أقبل عليه يُسارّه مليّاً في جواب سؤال الثعبان ثمّ مضى .
  وفي جبّانة بني أسد أقبل أسد يهوي إلى علي (عليه السلام) حتّى قام بين يديه ، فوضع علي (عليه السلام) يده بين اُذني الأسد وقال : ( إرجع بإذن الله تعالى ، ولا تدخل في دار هجرة بعد اليوم وبلّغ ذلك السباع عنّي ) ، فرجع .
  وقد رُدّت له الشمس مرّتين في حياة النبي (صلى الله عليه وآله) مرّة ، وبعد وفاته اُخرى .
  ومن إعجازه أنّه لمّا دخل إلى صفّين ونزل بقرية صندوداء ثمّ سار عنها إلى أرض بلقع ، قال له مالك الأشتر : يا أمير المؤمنين ! أَتُنزِل الناس على غير ماء ؟ فقال (عليه السلام) : يا مالك ! إنّ الله عزّ وجلّ سيسقينا في هذا المكان ماءً أعذب من الشَهد ، وألين من الزبد ، وأبرد من الثلج ، وأصفى من الياقوت ... ثمّ وقف على أرض وأمر بحفرها فخرجت صخرة سوداء عظيمة ، فيها حلقة تبرق كاللجين ... فقال لهم :

العقائد الحقّة _ 332 _

  روموها ، فراموها بأجمعهم وهم مئة رجل فلم يستطيعوا أن يزيلوها عن موضعها ...
  فدنا هو (عليه السلام) ودعا الله تعالى ثمّ إجتذبها ورماها أربعين ذراعاً فظهر لهم ماء بالوصف الذي وصفه ، فشربوا وسقوا ، ثمّ ردّ الصخرة وأمر بحثِّ التراب عليها ، وكانت (عين راحوما) من عيون الجنّة كما فصّل حديثه في ثاقب المناقب .
  منها إخباراته عن الغيب في مواضع كثيرة كإخباره حبيب بن جمّاز بحمله رأس الإمام الحسين (عليه السلام) ودخوله إلى مسجد الكوفة من باب الفيل .
  وكذا إخباره بحديث رشيد الهجري ، وكيفية شهادة ميثم التمّار ، وواقعة كربلاء ، وموضع القتال ، ومصارع الرجال ، فكان كما أخبر .
  ومنها أنّه هتف به يوماً هاتف غيبي : يا أمير المؤمنين ! خذ ما عن يمينك ، فإذا منديل فيه قميص ملفوف ، فأخذ (عليه السلام) القميص ولبسه ، فسقطت من جيبه رقعة مكتوب فيها : بسم الله الرحمن الرحيم هديّة من الله العزيز الحكيم إلى علي بن أبي طالب ، هذا قميص هارون بن عمران ( كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ ) (1).
  وأصاب البقيع بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رجفة تعدّت إلى حيطان المدينة وعزم أهل المدينة على الخروج منها ، فتوسّط (عليه السلام) البقيع ، وضَرَبَ برجله الأرض فسكنت .
  وقال له بعض أصحابه في مسجد الكوفة : بأبي أنت واُمّي ! إنّي لأتعجّب من هذه الدنيا التي في أيدي هؤلاء القوم وليست عندكم ، فقال (عليه السلام) : أترى أنّا نريد الدنيا ولا نُعطاها ؟ ثمّ قبض قبضة من الحصى فقال : ما هذا ؟ قال صاحبه : هذا من أجود الجواهر . فقال (عليه السلام) : لو أردنا هذا لكان ، لكنّا لم نُرد ، ثمّ رمى الحصى فعاد

---------------------------
(1) سورة الدخان : (الآية 28) .

العقائد الحقّة _ 333 _

  كما كان .
  ومنها تسليم الذئب عليه وشهادته بإمارته حينما لاقاه في بعض طرق المدينة ، فجعل الذئب خدّيه على الأرض أمامه ويؤمي بيده إلى علي (عليه السلام) ثمّ قال علي (عليه السلام) : اللهمّ أطلِق لسان الذئب فيكلّمني ، فأطلق الله لسان الذئب فإذا هو بلسان طلق ذلق يقول : السلام عليك يا أمير المؤمنين ... إلى آخر الكلام .
  ومنها إعجازه حين شكاية أهل الكوفة زيادة الفرات وفيضان الماء ، فضرب (عليه السلام) الماء بقضيبه وهو قضيب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزل الماء .
  ومنها أنّه تكلّم في اُذن زاذان بكلام وألقى ماء فمه المبارك في فيه ، فما زالت قدم زاذان من عنده إلاّ وهو حافظ للقرآن بإعرابه .
  ومنها أنّه نزل عليه في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بيت فاطمة (عليها السلام) ماء وضوئه في إبريق من الجنّة يقطر ماؤه كالجُمان ... وهاتف يهتف به : يا علي ! دونك الماء ... فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : يا علي ! تدري مَن الهاتف ، ومن أين كان الإبريق ؟
  فقال علي (عليه السلام) : الله ورسوله أعلم .
  فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : أمّا الهاتف فحبيبي جبرئيل (عليه السلام) ، وأمّا الإبريق فمن الجنّة ، وأمّا الماء فثلث من المشرق ، وثلث من المغرب ، وثلث من الجنّة ، فهبط جبرئيل (عليه السلام) وقال : يا رسول الله ! الله يقرؤك السلام ، ويقول لك : أقرئ عليّاً السلام منّي .
  ... إلى غير ذلك من الآيات الباهرات والمعجزات الظاهرات التي هي أكثر من أن تحصى في هذا الكتاب ، وكذلك معاجز سائر المعصومين التي لا يحصرها هذا الخطاب ، وقد إقتصرنا على هذا القليل مخافة التطويل .
  وعلى الجملة ، فأدلّة الكتاب والسنّة والعقل والإعجاز واضحة الدلالة على إمامة الحجج الطاهرة سلام الله عليهم أجمعين .

---------------------------
(1) بحار الأنوار : (ج23 ص19 ب1 ح14) .
(2) ساخت الأرض أي خسفت .
(3) بحار الأنوار : (ج23 ص29 ب1 ح43) .
(4) يقال : ماج البحر أي إضطرب موجه .
(5) بحار الأنوار : (ج23 ص35 ب1 ح59) .