لا يُـبعدُ الله أبـا iiشـداد حيث أجاب دعوة المنادي وشد بالسيف على الأعادي نِعم الفتى كان لدى iiالطراد |
وفي طِعـانِ الـخيل والجـلاد ثم قاتل حتى قتل : فأخذها بعده أخوه عبد الرحمن بن قلع ، فقاتل حتى قتل ، ثم أخذها عفيف بن إياس ، فلم تزل بيده حتى تحاجز الناس ، وخرج رجل من عسكر الشام من أزد شنوءة ، يسأل المبارزة ، فخرج إليه الأشتر فما ألبثه أن قتله ، فقال قائل : كان هذا ريحاً فصار إعصاراً ، وقال رجل من أصحاب علي ( عليه السلام ) ، أما والله لأحملن على معاوية حتى أقتله ، فركب فرساً ثم ضربه حتى قام على سَنَابِكه ، ثم دفعه فلم ينهنِههُ شيء عن الوقوف على رأس معاوية ، فيهرب معاوية ، ودخل خباءه ، فنزل الرجل عن فرسه ودخل عليه ، فخرج معاوية من جانب الخباء الآخر ، فخرج الرجل في أثره ، فاستصرخ معاوية بالناس ، فأحاطوا به وحالوا بينهما ، فقال معاوية : ويحكم ، أن السيوف لم يؤذن لها في هذا ، ولولا ذلك لم يصل إليكم ، فعليكم بالحجارة ، فرضخوه بالحجارة حتى همد ، فعاد معاوية إلى محله .
ضربة ما مثلها ضربة :
وحمل رجل من أصحاب علي ( عليه السلام ) يُدعى أبو أيوب على صف أهل الشام ، ثم رجع فوافق رجلاً من أهل الشام صادراً قد حمل على صف أهل العراق ، ثم رجع فاختلفا ضربتين ، فنفحه أبو أيوب بالسيف فأبان عنقه ، فثبت رأسه على جسده كما هو ، وكذب الناس أن يكون هو ضربه ، فأراهم ذلك حتى إذا أدخلته فرسه في صف أهل الشام ندر رأسه ووقع ميتاً وقال علي ( عليه السلام ) : والله لأنا من ثبات رأس الرجل أشدُّ تَعَجّباً من الضربة ، وإن كان إليها ينتهي وصف الواصفين .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 103 _
وجاء أبو أيوب فوقف بين يدي علي ( عليه السلام ) ، فقال له : أنت والله كما قال :
وعَلّمنَا الضربَ آباؤُنا ونحن نعلّم أيضاً iiبنينا |
قتل حريث مولى معاوية :
وكان فارس معاوية الذي يُعدّهُ لكل مبارز ولكل عظيم ، وهو حُريثٌ مولاه ، وكان يلبس سلاح معاوية متشبهاً به ، فإذا قاتل قال الناس : ذاك معاوية ، وإن معاوية دعاه ، فقال له : يا حريث اتق علياً ، وضع رمحك حيث شئت ، فأتاه عمرو بن العاص فقال : يا حريث ، إنك والله لو كنت قرشياً لأحب لك معاوية أن تقتل علياً ، ولكن كره أن يكون لك حظها ، فإن رأيت فرصةً فأقتحم ، وخرج علي ( عليه السلام ) في هذا اليوم أمام الخيل ، فحمل عليه حُريّث ، وكان حريث شديداً ، أيّداً ، ذا بأس لا يرام ، فصاح : يا علي ، هل لك في المبارزة ؟ فأقدم أبا حسن إن شئت !! فأقبل علي ( عليه السلام ) وهو يقول :
أنـا عـلي وابن عبد المطلب نـحن لعمر والله أولى بالكُتُب منا النبي المصطفى غير كذب أهـل اللواء والمقام iiوالحُجُب |
نحـن نصـرنـاه على كـل الـعرب ثم خالطه فما أمهله أن ضربه ضربةً واحدة ، فقطعه نصفين ،
فجزع معاوية على حريث جزعاً شديداً ، وعاتب عمراً في إغرائه بعلي ( عليه السلام ) ، وقال في ذلك شعراً :
حـريث ألم تعلم وجَهلُك iiضائر بـأن عـلياً لـلفوارس قـاهرُ وأن عـلياً لـم يبارزه iiفارسٌ من الناس إلا أقصدته iiالأظافر أمـرتك أمراً حازماً iiفعصيتني فنجدك إذا لم تقبل النصح iiعاثر ودلاك عـمرو والحوادث iiجمة غروراً وما جرت عليك المقادر وظن حُريث أن عمراً iiنصيحه وقد يُهلكُ الإنسان من لا iiيحاذر |
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 104 _
قال نصر بن مزاحم : فلما قتل حريث ، برز عمرو بن الحصين السكسكي ، فنادى : يا أبا الحسن هلم الى المبارزة ، فأومأ ( عليه السلام ) الى سعيد بن قيس الهمداني ، فبارزه فضربه بالسيف فقتله ، وكان لهمدان بلاء عظيم في نصرة علي ( عليه السلام ) في صفين ، ومن الشعر الذي لا يُشكُّ أن قائله علي ( عليه السلام ) لكثرة الرواة له :
دعوتُ فلباني من القوم iiعصبةٌ فـوارس مـن همدان غير iiلئامِ فوارس من همدان ليسوا iiبعزلٍ غـداة الوغى من شاكرٍ iiوشبام بـكل رديـني وعضبٍ iiتخاله إذا اخـتلف الأقـوام سعدَ iiجذام لـهمدان أخـلاق كرامٌ iiتزينهم وبـأسٌ إذا لاقـوا حـدّ iiخصام وجدٌّ وصدق في الحروب ونجدة وقـول إذا قـالوا بـغير iiأثـام متى تأتهم في دارهم iiتستضيفهم تَـبت نـاعماً في خدمة iiوطعام جـزى الله همدان الجنان iiفإنها سـهام العدى في كل يوم iiزُحام ولـو كنت بواباً على باب iiجنةٍ لـقلت لـهمدان ادخـلوا iiبسلام |
علي يطلب معاوية للمبارزة :
ثم قام علي ( عليه السلام ) بصفين ونادى : يا معاوية ! يكررها. فقال معاوية : سلوه ما شأنه ؟ قال : أحب أن يظهر لي فأكلمه كلمة واحدة ، فبرز معاوية وعمرو بن العاص فلما قارباه ، لم يلتفت إلى عمرو ، وقال لمعاوية : ويحك ؛ علام يقتتل الناس بيني وبينك ؟ ويضرب بعضهم بعضاً ؟ ؟ أبرز إلي ؛ فأينا قتل صاحبه فالأمر له ! فالتفت معاوية إلى عمرو فقال : ما ترى يا أبا عبد الله ؟ قال : قد أنصفك الرجل ، واعلم أنك إن نكلت عنه لم يزل سبَّةً عليك وعلى عقبك ما بقي على ظهر الأرض عربي .
فقال معاوية : يا بن العاص ، ليس مثلي يُخدَعُ عن نفسه ، والله ما بارز ابن أبي طالب شجاعٌ إلا وسقى الأرض بدمه ! ثم انصرف معاوية راجعاً حتى انتهى إلى آخر الصفوف وعمرو معه ، فلما رأى علي ( عليه السلام ) ذلك ضحك وعاد إلى موقفه .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 105 _
وفي حديث الجرجاني : إن معاوية قال لعمرو ، ويحك ما أحمقك ، تدعوني إلى مبارزته ودوني عكٌّ وجذام ، والأشعريون ؟ ؟
قال نصر : وحقدها معاوية على عمرو باطناً ، وقال له ظاهراً ما أظنك قلت ما قلته يا أبا عبد الله إلا مازحاً. فلما جلس معاوية مجلسه ، وأقبل عمرو يمشي حتى جلس إلى جانبه ، فقال معاوية :
يا عمرو إنك قد قشرت لي العصا برضاكَ لي وسطَ العجاج بِرازي يـا عـمرو إنك قد أشرت iiبظنةٍ حـسبُ المبارز خطفةٌ من باري ولـقد ظـننتك قلت مزحة iiمازحٍ والـمزح يـحمله مـقال iiالهازي فـإذا الـذي مـنّتك نفسك iiحاكباً قـتلي جـزاك بما نَويت الجازي ولـقد كـشفت قـناعها iiمذمومةً ولـقد لـبست بها ثياب iiالخازي |
فقال عمرو : أيها الرجل ، أتجيفُ عن خصمك ، وتتهم نصيحك ، ثم قال مجيباً له :
مـعاوي إن نكلتَ عن البِراز وخِـفت فـإنها أم iiالمخازي معاوي ما اجترمت إليك iiذنباً ولا أنا في الذي حدثتُ خازي ومـا ذنـبي بأن نادى iiعليٌّ وكـبشُ الـقوم يُدعى iiللبراز ولـو بـارزته بـارزتَ iiليثاً حـديد النابِ يخطف كلَّ iiباز وتـزعم أنني أضمرت غِشاً جزاني بالذي أضمرت جازي |
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 106 _
قبح الله اللجاج :
قال أبو الأعز التميمي : بينا أنا واقف بصفين ، مرَّ بي العباس ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب مكفراً بالسلاح وعيناه تبصّان من تحت المِغفر كأنهما عينا أرقم ، وبيده صفيحة يمانية يقلبها وهو على فرس له صعب ، فبينا هو يمغثه
(1) ويلين من عريكته ، هتف به هاتف من أهل الشام يعرف بعرار بن أدهم : يا عباس ، هلم إلى البراز ، قال العباس : فالنزول إذن ، فإنه أيأس من القفول ، فنزل الشامي وهو يقول :
إن تركبوا فركوبُ الخيل عادتنا أو تـنزلون فـإنا معشر iiنُزُل |
وثنى العباس رجله وهو يقول :
ويـصد عنك مخيلة iiالرجل العرَّيض موضحة عن العظمِ بـحسام سـيفك أو iiلـسانك والكلم الأصيل كأرغب iiالكلم |
ثم عصب فضلات درعه في حجزته
(2) ، ودفع فرسه إلى غلام له أسود يقال له أسلم ، كأني والله أنظر إلى فلافل شعره ، ثم دلف كل واحد منهما إلى صاحبه ، فذكرت قول أبي ذؤيب :
فتنازلا وتواقفت iiخيلاهما وكلاهما بطل اللقاء مخدع |
وكفت الناس أعنة خيولهم ينظرون ما يكون من الرجلين ، فتكافحا ، بسيفيهما مليّاً من نهارهما لا يصل واحد منهما إلى صاحبه لكمال لأمته إلى أن لحظ العباس وهناً في درع الشامي فأهوى إليه بيده فهتكه إلى ثندوته ، ثم عاد لمجاولته وقد أصحر له ففتق الدرع ، فضربه العباس ضربةً انتظم بها جوانح صدره ، فخرَّ الشامي لوجهه وكبر الناس تكبيرةً ارتجت لها الأرض من تحتهم ، وسما العباس في الناس ، فإذا قائل يقول من ورائي : ( قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزيهم.. ) الآية. فالتفت فإذا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال لي : يا أبا الأعز ؛ من المنازل لعدونا ؟ قلت : هذا ابن أخيكم ، هذا العباس بن ربيعة ، فقال ، وإنه لهو. يا عباس ، ألم أنهك وابن عباس أن تخلا بمراكزكما وأن تباشرا حراباً ؟ ! قال : إن ذلك كان ، قال : فما عدا مما بدا ؟ قال : يا أمير المؤمنين ، أفأدعى إلى البراز فلا أجيب ؟ قال : نعم ، طاعة امامك أولى من إجابة عدوك ، ثم تغيظ واستطار حتى قلت الساعة الساعة !! ثم سكن وتطامن ورفع يديه مبتهلاً فقال : اللهم اشكر للعباس مقامه واغفر ذنبه ، إني قد غفرت له فاغفر له .
---------------------------
(1) المغث : الضرب المخيف .
(2) الحجزة : معقد الإزار .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 107 _
قال : ولهف معاوية على عرارٍ وقال ، متى ينتطح فحل لمثله ، أيطل دمه ؟ لا ها الله إذن ، ألا رجل يشري نفسه لله يطلب بدم عرار ؟ فانتدب له رجلان من لخم ، فقال لهما اذهبا ، فأيكما قتل العباس برازا فله كذا. فأتياه فدعواه للبراز ، فقال : إن لي سيداً أريد أن أؤامره ، فأتى علياً ( عليه السلام ) فأخبره الخبر ، فقال علي ( عليه السلام ) : والله لود معاوية أنه ما بقي من بنى هاشم نافخُ ضُرمة إلا طعن في بطنه إطفاءً لنور الله ( ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون ) أما والله ليملكنهم منا رجال ورجال يسومونهم الخسف حتى يحتفروا الآبار ويتكففوا الناس ، ويتوكلوا على المساحي !! ثم قال : يا عباس ، ناقلني سلاحك بسلاحي ، فناقله ووثب على فرس العباس ، وقصد اللخميين ، فما شكاَّ أنه هو ، قالا : إذِنَ لك صاحبك ؟ فحرج أن يقول نعم ، فقال : أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير ، فبرز إليه أحدهما فكأنما أختطفه ، ثم برز له الآخر فألحقه بالأول ، ثم أقبل وهو يقول : ( الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) ثم قال : يا عباس ، خذ سلاحك وهات سلاحي ، فإن عاد لك أحد فعد إليّ ، فنمي الخبر إلى معاوية ، فقال : قبّح الله اللجاج إنه لقعود ما ركبته قط إلا خُذلت فقال عمرو بن العاص : المخذول والله اللخميان لا أنت ، فقال : أسكت أيها الرجل وليست هذه من ساعاتك ، قال : وإن لم يكن ، فرحم الله اللخميين وما أراه يفعل ، قال : فإن ذلك والله أخسر لصفقتك وأضيق لحجزتك ، قال : لقد علمت ذلك ، ولولا مصر لركبت المنجاة منها ، قال : لمتك ولولاها ألفيت بصيرا (1) .
---------------------------
(1) شرح النهج 5 | 219 ـ 221 .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 108 _
أحتـدام الحـرب :
قال نصر : ثم التقى الناس فاقتتلوا قتالاً شديداً ، وحاربت طيء مع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) حرباً عظيماً وتداعت وارتجزت ، فقتل منها أبطال كثيرون ، وأشتد القتال بين ربيعة وحمير وعبيد الله بن عمر حتى كثرت القتلى ، وجعل عبيد الله بن عمر يحمل ويقول : أنا الطيب ابن الطيب : فتقول له ربيعة بل أنت الخبيث بن الطيب ، ثم خرج نحو خمسمائة فارس أو أكثر من أصحاب علي ( عليه السلام ) على رؤوسهم البيض ، وهم غائصون في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق ، وخرج إليهم من أهل الشام نحوهم في العدّة فاقتتلوا بين الصفين والناس وقوف تحت راياتهم ، فلم يرجع من هؤلاء ولا من هؤلاء مخبر : لا عراقي ولا شامي ، قتلو جميعاً بين الصفين .
قال نصر : وكان بصفين تلٌّ تلقى عليه جماجم الرجال ، فكان يدعى ( تل الجماجم ) فقال عقبة بن مسلم الرقاشي من أهل الشام :
ولـم أر فـرساناً أشـد iiحفيظةً وأمـنع مـنا يوم تل iiالجماجم غـداة غـدا أهل العراق iiكأنهم نـعام تلاقى في فجاج iiالمخارم إذا قـلت قـد ولوا تثوب كتيبة مـلملةً في البيض شمط iiالمقادم وقـالوا لـنا هذا علي iiفبايعوا فقلنا صهٍ بل بالسيوف الصوارم |
وقال شبث بن ربعي التميمي :
وقـفنا لـديهم يـوم صفين iiبالثنا لـدن غـدوةٍ حتى هوت iiلغروب وولى ابن حرب والرماح iiتنوشه وقد أرضت الأسياف كل غضوب نـجالدهم طـوراً وطوراً iiنشلهم عـلى كل محبوك السراة iiشبوب فـلم أر فـرساناً أشـد iiحـفيظة إذا غـشي الآفـاق رهج iiجنوب |
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 109 _
مقتل عبيد الله بن عمر :
وحمل عبيد الله في قرلاء أهل الشام ومعه ذو الكلاع في حمير ، حملوا على ربيعة وهي في ميسرة علي ( عليه السلام ) ، فقاتلوا قتالاً شديداً ، فأتى زياد بن خصفة إلى عبد القيس فقال لهم : لا بكر بن وائل بعد اليوم ! إن ذا الكلاع وعبيد الله أبادا ربيعة ، فانهضوا لهم وإلا هلكوا ، فركبت عبد القيس وجاءت كأنها غمامة سوداء ، فشدت أزر الميسرة ، فعظم القتال فقتل ذو الكلاع الحميري ، قتله رجل من بكر بن وائل اسمه خندف ، وتضعضعت أركان حِميَر وثبتت بعد قتل ذي الكلاع تحارب مع عبيد الله بن عمر ، وأرسل عبيد الله إلى الحسن بن علي إن لي إليك حاجةً ، فألقني ، فلقيه الحسن ( عليه السلام ) ، فقال له عبيد الله : إن أباك قد وتر قريشاً أولاً وآخراً ، وقد شنئه الناس ، فهل لك في خلعه وأن تتولى أنت هذا الأمر ؟ ! فقال الحسن : كلا والله لا يكون ذلك. ثم قال : يا بن الخطاب ، والله لكأني أنظر إليك مقتولاً في يومك أو غدك ، أما إن الشيطان قد زيّن لك وخدعك حتى أخرجك مخلّقاً بالخلوق ترى نساء أهل الشام موقفك ، وسيصرعك الله ويبطحك لوجهك قتيلاً .
قال نصر : فوالله ، ما كان إلا بياض ذلك اليوم حتى قتل عبيد الله وهو في كتيبةٍ رقطاء ـ وكانت تدعى الخضرية ـ كانوا أربعة آلاف عليهم ثياب خضر. فمر الحسن ( عليه السلام ) فإذا رجل متوسد برجل قتيل قد ركز رمحه في عينه ، وربط فرسه برجله ، فقال الحسن ( عليه السلام ) لمن معه : انظروا من هذا ؟ فإذا رجل من همدان ، وإذا القتيل عبيد الله بن عمر بن الخطاب .
عمار يحرض على الجهاد :
وقام عمار يوم صفين فقال : انهضوا معي عباد الله إلى قوم يزعمون أنهم يطلبون بدم ظالم إنما قتله الصالحون المنكرون للعدوان ، الآمرون بالإحسان ، فقال هؤلاء الذين لا يبالون إذا سلمت دنياهم ولو درس هذا الدين لم قتلتموه ؟ فقلنا : لإحداثه ، فقالوا : أنه لم يحدث شيئاً ! وذلك لأنه مكنهم من الدنيا ، فهم يأكلونها ويرعونها. ولا يبالون لو انهدمت الجبال ، والله ما أظنهم يطلبون بدم ، ولكن القوم ذاقوا الدنيا فاستحلوها واستمرؤها ، وعلموا أن صاحب الحق لو وليهم لحال بينهم وبين ما يأكلون ويرعون منها .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 110 _
إن القوم لم يكن لهم سابقة في الإسلام يستحقون بها الطاعة والولاية ، فخدعو أتباعهم بأن قالوا : قتل إمامنا مظلوماً ، ليكونوا بذلك جبابرة وملوكاً ، تلك مكيدة قد بلغوا بها ما ترون ، ولولاها ما بايعهم من الناس رجل ، اللهم إن تنصرنا فطالما نصرت ، وإن تجعل لهم الأمر ، فادخر لهم بما أحدثوا لعبادك العذاب الأليم ،
ثم مضى ، ومضى معه أصحابه ، فدنا من عمرو بن العاص فقال : يا عمرو ، بعت دينك بمصر ، فتباً لك وطالما بغيت للإسلام عوجاً ، ثم حمل عمار وهو يقول :
صـدق الله وهـو لـلصدق iiأهلٌ وتـعـالى ربـي وكـان جـليلاً رب عـجل شـهادةً لـي iiبـقتل فـي الـذي قـد أحب قتلاً جميلاً مـقبلاً غـير مـدبرٍ إن iiلـلقتل عـلـى كــل مـيتةٍ iiتـفضيلاً أنـهم عـند ربـهم فـي iiجـنانٍ يـشربون الـرحيق iiوالـسلسبيلا مـن شـراب الأبـرار iiخـالطه المسك وكأساً مزاجها زنجبيلاً (1) |
يطلب رضا الله سبحانه ثم قال : اللهم أنت تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أقذف بنفسي في هذا البحر ، لفعلت ! اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك أن أضع ضبة سيفي في بطني ثم أنحني عليه حتى يخرج من ظهري ، لفعلت ، اللهم إني أعلم مما علمتني إني لا أعمل عملاً صالحاً هذا اليوم هو أرضى من جهاد الفاسقين ، ولو أعلم عملاً هو أرضى لك منه لفعلته .
ونادى عمار بن ياسر عبد الله بن عمرو بن العاص ، فقال له : بعت دينك بالدنيا من عدو الله وعدو الإسلام معاوية ؟ وطلبت هوى أبيك الفاسق ! ؟ فقال : لا ، ولكن أطلب بدم عثمان الشهيد المظلوم .
---------------------------
(1) صفين 320 .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 111 _
قال : كلا ، أشهد على علمي فيك أنك أصبحت لا تطلب بشيء من فعلك وجه الله وأنك إن لم تقتل اليوم فستموت غداً ، فانظر إذا أعطى الله العباد على نياتهم ما نيّتك ؟ دماؤهم أحل من دم عصفور !
قال أسماء بن حكيم الغزاوي : كنا بصفين مع علي تحت راية عمار بن ياسر ارتفاع الضحى ، وقد استظللـنا برداءٍ أحمر ، إذ أقبل رجل يستقري الصف حتى انتهى إلينا فقال : أيكم عمار بن ياسر ؟ فقال عمار : أنا عمار ، قال : أبو اليقظان ؟ قال : نعم قال : إن لي إليك حاجة ، أفأنطق بها سراً أو علانيةً ؟ قال : إختر لنفسك أيهما شئت ، قال لا ، بل علانيةً ، قال : فانطق ، قال : إني خرجت من أهلي مستبصراً في الحق الذي نحن فيه لا أشك في ضلالة هؤلاء القوم وأنهم على الباطل ، فلم أزل على ذلك مستبصراً حتى ليلتي هذه ، فإني رأيت في منامي منادياً تقدم فأذن وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ونادى بالصلاة ، ونادى مناديهم مثل ذلك ، ثم أقيمت الصلاة فصلينا صلاةً واحدة ، وتلونا كتاباً واحداً ، ودعونا دعوةً واحدة ، فأدركني الشك في ليلتي هذه فبت بليلةٍ لا يعلمها إلا الله تعالى ، حتى أصبحت فأتيت أمير المؤمنين فذكرت ذلك له ، فقال هل لقيت عمار بن ياسر ؟ قلت : لا ، قال : فألقه فانظر ماذا يقول لك عمار فاتبعه ، فجئتك لذلك ، فقال عمار : تعرف صاحب الراية السوداء المقابلة لي ؟ فإنها راية عمرو بن العاص ، قاتلتها مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ثلاث مرات وهذه الرابعة ، فما هي بخيرهن ولا أبرهن ، بل هي شرهن وأفجرهن !
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 112 _
ثم قال له عمار : أشهدت بدراً وأحداً ويوم حنين ، أو شهدها أبٌ لك فيخبرك عنها ؟ قال : لا ، قال : فإن مراكزنا اليوم على مراكز رايات رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يوم بدرٍ ويوم أحد ويوم حنين ، وأن مراكز رايات هؤلاء على مراكز رايات المشركين من الأحزاب ، فهل ترى هذا العسكر ومن فيه ؟ والله لوددت أن جميع من فيه ممن أقبل مع معاوية يريد قتالنا ـ مفارقاً للذي نحن عليه كانوا خلقاً واحداً فقطعته وذبحته ! والله لدماؤهم جميعاً أحلُّ من دم عصفور ؛ أفترى دم عصفور حراماً ؟ قال : لا ، بل حلالٌ ، قال فإنهم حلال كذلك ، أتراني بينت لك ؟ قال : قد بينت لي ، قال : فأختر أي ذلك أحببت ! ؟ فانصرف الرجل ، فدعاه عمار ثم قال : أما إنهم سيضربونكم بأسيافهم حتى يرتاب المبطلون منكم فيقولوا ، لو لم يكونوا على حق ما أظهروا علينا ، والله ما هم من الحق على ما يقذي عين ذباب والله لو ضربونا بأسيافهم حتى يبلغونا سعفات هجرٍ
(1) ، لعرفت أنا على حق وهم على باطل ، وأيم الله لا يكون سلماً سالماً أبداً حتى يبوء أحد الفريقين على أنفسهم بأنهم كانوا كافرين ، وحتى يشهدوا على الفريق الآخر بأنه على الحق وأن قتلاهم في الجنة وموتاهم ، ولا تنصرم أيام الدنيا حتى يشهدوا بأن موتاهم وقتلاهم في الجنة ، وأن موتى أعدائهم وقتلاهم في النار ، وكان أحياؤهم على الباطل .
بين عمار وهاشم المرقال :
ودفع علي ( عليه السلام ) الراية إلى هاشم بن عتبة المعروف بالمرقال ، وقال له رجل من أصحابه من بكر بن وائل ، أقدم هاشم ، يكررها ثلاثاً ، ثم قال : مالك يا هاشم قد انتفخ سحرك ؟ ! أعوراً وجبناً !! قال : من هذا ؟ قالوا : فلان قال : أهلها وخير منها إذا رأيتني قد صرعت فخذها ، ثم قال لأصحابه : شدوا شسوع نعالكم وشدوا أزركم ، فإذا رأيتموني قد هززت الراية ثلاثاً فاعلموا أن أحداً منكم لا يسبقني إلى الحملة ، ثم نظر إلى معسكر معاوية فرأى جمعاً عظيماً ، فقال : من أولئك ؟ قيل : أصحاب ذي الكلاع ؟ ثم نظر فرأى جنداً ، فقال : من أولئك ؟ قيل : قريش وقوم من أهل المدينة ؟ فقال : قَومي لا حاجة لي في قتالهم ، من عند هذه القبة البيضاء ؟ قيل : معاوية وجنده ، قال : فإني أرى دونهم أسودة ، قيل ذاك عمرو بن العاص وإبناه ومواليه .
---------------------------
(1) هجر ـ نواحي البحرين .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 113 _
فأخذ الراية فهزها ، وجعل عمار بن ياسر يحرضه على الحرب ويقرعه بالرمح ويقول : أقدم يا أعور لا خير في أعور لا يأتي الفزع ، فقال هاشم :
قـد أكـثرا لومي وما iiأقلا أني شريت النفس لن أعتلا أعـور يـبغي أهله iiمحلاً قـد عالج الحياة حتى iiملا لا بـد أن يـفلَّ أو يُـفلا أشـلهم بذي الكعوب iiشلا مـع ابن عم أحمد iiالمعلى أول مـن صـدقه وصلى |
ثم حمل يتقدم ويركز الراية ، فإذا ركزها عاوده عمار بالقول ، فيتقدم أيضاً ، فقال عمرو بن العاص : إني لأرى لصاحب الراية السوداء عملاً لئن دام على هذا لتفنين العرب اليوم ، فاقتتلوا قتالاً شديداً وعمار ينادي : صبراً ، والله إن الجنة تحت ظلال البيض ، وكان بأزاء هاشم وعمار أبو الأعور السلمي ، ولم يزل عمار بهاشم ينخسه وهو يزحف بالراية حتى اشتد القتال وعظم والتقى الزحفان ، واقتتلا قتالاً لم يسمع السامعون بمثله وكثرت القتلى في الفريقين جميعاً ، ثم إن أهل العراق كشفوا ميمنة أهل الشام ، فطاروا في سواد الليل ، وكشف أهل الشام ميسرة أهل العراق فاختلطوا في سواد الليل ، وتبدلت الرايات بعضها ببعض ، فلما أصبح الناس وجد أهل الشام لواءهم وليس حوله إلا ألف رجل ، فاقتلعوه وركزوه من وراء موضعه الأول وأحاطوا به ، ووجد أهل العراق لواءهم مركوزاً وليس حوله إلا ربيعة وعلي ( عليه السلام ) بينها ، وهم محيطون به وهو لا يعلم من هم ويظنهم غيرهم ، فلما أذن مؤذن علي الفجر ، قال ( عليه السلام ) :
يا مرحباً بالقائلين عدلا وبالصلاة مرحباً iiوأهلا |
ثم وقف وصلى الفجر ، فلما انفتل أبصر وجوهاً ليست بوجوه أصحابه بالأمس وإذا مكانه الذي هو فيه ما بين الميسرة إلى القلب ، فقال : من القوم ؟ قالوا : ربيعة ، وانك يا أمير المؤمنين لعندنا منذ الليلة ، فقال : فخرٌ طويلٌ لك يا ربيعة .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 114 _
فضيحة عمرو بن العاص : (1)
كان الحارث بن النضر الخثعمي من أصحاب علي ( عليه السلام ) على قدر كبير من الشجاعة والفروسية وكان بينه وبين عمرو بن العاص عدواة ، وكان علي ( عليه السلام ) قد تهيبته فرسان الشام وملأ قلوبهم رعباً بشجاعته ، وكان عمرو قلما يجلس مجلساً إلا ذكر فيه الحارث بن النضر وعابه ، فقال الحارث في ذلك :
ليـس عمرو تبـارك ذِكـره الحـارث بـالسوء أويـلاقي عليـا واضـع الـسيف فـوق منكبـه الأيمن لا يحسب الفـوارس شيـّا لـيت عمراً يلـقاه في حومة الـنقع وقد أمست الـسيوف عصيّـا حيث يـدعـو لـلحـرب حامية القـوم إذا كان بـالبـراز مليّـا فـالقه إن أردت مكـرمة الـدهـر أو المـوت كـل ذاك عليـا فشاعت هذه الأبيات حتى بلغت عمراً ، فأقسم بالله ليلقيّن علياً ولو مات ألف موتةٍ ، فلما اختلطت الصفوف لقيه فحمل عليه برمحه ، فتقدم علي ( عليه السلام ) وهو مخترط سيفاً ومعتقل رمحاً ، فلما رهقه همز فرسه ليعلو عليه ، فألقى عمرو نفسه عن فرسه إلى الأرض شاغراً برجليه ، كاشفاً عورته ، فانصرف عنه علي ( عليه السلام ) لافتاً وجهه ، مستدبراً له ّ فعد الناس ذلك من مكارم أخلاقه وسؤدده وضُرب المثل به ، وفي ليلةٍ من ليالي صفين اجتمع عند معاوية كل من عمرو بن العاص ، وعتبة بن أبي سفيان والوليد بن عقبة ، ومروان بن الحكم وعبد الله بن عامر ، وابن طلحة الطلحات الخزاعي .
---------------------------
(1) راجع الحاشية المستقلة .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 115 _
فقال عتبة : إن أمرنا وأمر علي بن أبي طالب لعجيب ! ما فينا إلا موتور مجتاح ، أما أنا فقد قتل جدي عتبة بن ربيعة وأخي حنظلة ، وشرك في دم عمي شيبة يوم بدر ، وأما أنت يا وليد ، فقتل أباك صبراً. وأما أنت يا بن عامر ، فصرع أباك وسلب عمك ، وأما أنت يا بن طلحة ، فقتل أباك يوم الجمل ، وأيتم إخوتك ، وأما أنت يا مروان فكما قال الشاعر :
وأفـلتهن علباءٌ iiجريضا ولو أدركنه صفر الوطاب |
فقال معاوية : هذا الاقرار ، فأين الغير ؟ قال مروان : وأي غير تريد ؟ قال : أريد أن تشجروه بالرماح .
قال مروان : والله يا معاوية ما أراك إلا هاذياً أو هازئاً وما أرانا إلا ثقلنا عليك !! فقال ابن عتبة :
يقول لنا معاوية بن حرب أمـا فيكم لواتركم iiطلوبُ يـشد على أبي حسن عليٍّ بـأسمر لا تهجّنه iiالكعوبُ فـيهتك مجمع اللبّاتِ iiمنه ونقع الحرب مطرد iiيؤوبُ فقلت له أتلعبُ يا بن iiهند كـأنك بيننا رجل iiغريبُ أتـغرينا بـحية بطن iiوادٍ أتـيح لـه به أسد iiمهيبُ بـأضعف حيلةً منا إذا iiما لـقيناه ولـقياه iiعـجيبُ سوى عمرو وقته iiخصيتاه وكـان لـقلبه منه iiوجيب كـان الـقوم لـما iiعاينوه خلال النقع ليس لهم iiقلوبُ لعمر أبي معاوية بن حرب وما ظني ستلحقه iiالعيوبُ لـقد ناداه في الهيجا iiعليٌ فـاسمعه ولـكن لا iiيجيبُ |
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 116 _
فغضب عمرو ، وقال : إن كان الوليد صادقاً فليلق علياً ، أو فليقف حيث يسمع صوته : ثم قال :
يـذكرني الـوليد دعا iiعليٍّ ونـطق المرء يملأه الوعيدُ مـتى تذكر مشاهده قريش يطر من خوفه القلب السديدُ فـأما فـي اللقاء فأين منه مـعاوية بن حرب iiوالوليد وعـيرني الوليد لقاء iiليثٍ إذا مـا شـدّ هابته iiالأسود لـقيت ولـستُ أجهله iiعلياً وقـد بلّت من العلق اللبود فـأطعنه ويـطعنني خلاساً ومـاذا بـعد طـعنته iiأريدُ فرمها منه يا بن أبي iiمُعَيط وأنت الفارس البطل iiالنجيد وأقـسم لو سمعتَ ندا iiعلي لـطار القلب وانتفخ الوريد ولـو لاقـيته شُقّت iiجيوبٌ عليك ولطمت فيك iiالخدودُ |
بين عمار وعمرو بن العاص : (1)
قال نصر بن مزاحم : بينا علي ( عليه السلام ) واقفاً بين جماعة من همدان وحمير وغيرهم ، إذ نادى رجل من أهل الشام : من يدل على أبي نوح الحميري ؟ فقيل له : قد وجدته ، فماذا تريد ، فحسر عن لثامه فإذا هو ذو الكلاع الحميري ومعه جماعة من أهله ورهطه ، فقال لأبي نوح : سر معي حتى نخرج من الصف فإن لي إليك حاجة ، فخرج في كتيبة معه ، فقال ذو الكلاع : إنما أريد أن أسألك عن أمرٍ فيكم تمارينا فيه ، أحدثك حديثاً حدثناه عمرو بن العاص قديماً في خلافة عمر بن الخطاب ، ثم اذكرناه الآن فيه فأعاده ، إنه يزعم أنه سمع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : ( يلتقي أهل الشام وأهل العراق ، وفي أحدى الكتيبتين الحق وامام الهدى ومعه عمار بن ياسر ، فقال أبو نوح : نعم والله إنه لفينا .
قال : نشدتك الله أجاد هو في قتالنا ؟ قال : نعم ورب الكعبة لهو أشد على قتالكم مني ، ولوددت أنكم خلق واحد فذبحته وبدأت بك قبلهم وأنت ابن عمي .
---------------------------
(1) شرح النهج 8 | 16 وما بعدها .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 117 _
قال ذو الكلاع : ويحك ، علام تمنّى ذلك منا ، فوالله ما قطعتك فيما بيني وبينك قط ، وان رحمك لقريبة وما يسرني أن أقتلك .
قال أبو نوح : إن الله قطع بالإسلام أرحاماً قريبةً ، ووصل به أرحاماً متباعدةً ، وأني أقاتلك وأصحابك لأنا على الحق وأنتم على الباطل .
قال ذو الكلاع : فهل تستطيع أن تأتي معي صف أهل الشام ، فأنا لك جارٌ منهم حتى تلقى عمرو بن العاص فتخبره بحال عمّار وجدَّه في قتالنا لعله أن يكون صلح بين هذين الجندين .
فقال أبو نوح : إنك رجل غادر وأنت في قوم غدر ، وان لم ترد الغدر أغدروك واني أن أموت أحب إلي أن أدخل مع معاوية ! فألح عليه ذو الكلاع وكرّر عليه ما قاله أولاً ، وقال له : أنا لك بما قلت زعيم .
قال أبو نوح : اللهم انك ترى ما أعطاني ذو الكلاع ، وأنت تعلم ما في نفسي فاعصمني واختر لي وانصرني وادفع عني ، ثم سار مع ذي الكلاع حتى أتى عمرو بن العاص وهو عند معاوية وحوله الناس وعبد الله بن عمرو يحرض الناس على الحرب ، فلما وقفا على القوم ، قال ذو الكلاع لعمرو : يا أبا عبد الله ، هل لك في رجل ناصحٍ لبيب مشفق يخبرك عن عمار بن ياسر فلا يكذبك ؟ قال : ومن هو ؟ قال : هو ابن عمي هذا وهو من أهل الكوفة. فقال عمرو : أرى عليك سيماء أبي تراب ، فقال أبو نوح : علي سيماء محمدٍ وأصحابه ، وعليك سيماء أبي جهل وفرعون ! فقام ابو الأعور ، فسلَّ سيفه وقال : لا أرى هذا الكذاب اللئيم يسبّنا بين أظهرنا وعليه سيماء أبي تراب .
فقال ذو الكلاع : اقسم بالله ، لئن بسطت يدك إليه لأحطمن أنفك بالسيف ! ابن عمي وجاري عقدت له ذمتي وجئت به إليكم ليخبركم عما تماريتم فيه .
فقال له عمرو : يا أبا نوح اذكرك الله إلا ما صدقتنا ولم تكذبنا ، فيكم عمار بن ياسر ؟
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 118 _
قال : ما أنا مخبرك حتى تخبرني ، لم تسأل عنه ومعنا من أصحاب محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عدة غيره ، وكلهم جاد على قتالكم .
فقال عمرو : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : إن عماراً تقتله الفئة الباغية ، وأنه ليس لعمّار أن يفارق الحق ، ولن تأكل النار من عمّار شيئاً .
فقال له أبو نوح : لا إله إلا الله والله أكبر ، والله إنه لفينا ، جادٌّ على قتالكم ! ولقد حدثني يوم الجمل أنا سنظهر على أهل البصرة ، ولقد قال لي أمس أنكم لو ضربتمونا حتى تبلغوا بنا سعفات هجر ، لعلمنا أنا على الحق وأنكم على الباطل ، ولكانت قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار .
قال عمرو : فهل تستطيع أن تجمع بيني وبينه ؟ قال : نعم ، فركب عمرو بن العاص في اثني عشر فارساً ، وركب عمار بن ياسر في اثني عشر فارساً ، فالتقوا حتى اختلفت أعناق الخيل ، خيل عمار وخيل عمرو ، ونزل القوم واحتبوا بحمائل سيوفهم ، وأراد عمرو بن العاص أن يتكلم وبدأ بالشهادتين ، فقاطعه عمار وقال له : اسكت ، فلقد تركتها وأنا أحق بها منك ، فإن شئت كان خصومةً فيدفع حقنا باطلك ، وإن شئت كانت خطبةً فنحن أعلم بفصل الخطاب منك ، وإن شئت أخبرتك بكلمةٍ تفصل بيننا وبينك ، وتكفرك قبل القيام ، وتشهد بها على نفسك ولا تستطيع أن تكذبني فيها .
فقال عمرو : يا أبا اليقظان ، ليس لهذا جئت ، إنما جئت لأني رأيتك أطوع أهل هذا العسكر فيهم ، أذكرك الله إلا كففت سلاحهم وحقنت دماءهم ، وحرصت على ذلك ، فعلام تقاتلوننا ؟ أو لسنا نعبد إلهاً واحداً ونصلي إلى قبلتكم وندعو دعوتكم ، ونقرأ كتابكم ، ونؤمن بنبيكم ؟ !فقال عمار : الحمد لله الذي أخرجها من فيك ، إنها لي ولأصحابي ، القبلة والدين وعبادة الرحمان ، والنبي والكتاب من دونك ودون أصحابك .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 119 _
الحمد لله الذي قررك لنا بذلك وجعلك ضالاً مضلاً أعمى ، وسأخبرك بمَ أقاتلك عليه وأصحابك ، إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أمرني أن أقاتل الناكثين ، فقد فعلت ، وأمرني أن أقاتل القاسطين وهم أنتم ، وأما المارقون ، فلا أدري أدركهم أم لا ؟ أيها الأبتر ، ألست تعلم أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ويلم ) قال : من كنت مولاه فعليٌّ مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، فأنا مولى الله ورسوله ، وعلي مولاي بعدهما ، قال عمرو : لِمَ تشتمني أبا يقظان ، ولستُ أشتمك ؟ !قال عمار : وبمَ تشتمني ، أتستطيع أن تقول إني عصيت الله ورسوله يوماً قط ؟ ! قال عمرو : إن فيك لمساوىءَ سوى ذلك ، قال عمار : إن الكريم من أكرمه الله ، كنتُ وضيعاً فرفعني الله ، ومملوكاً فاعتقني الله ، وضعيفاً فقواني الله ، وفقيراً فأغناني الله ، قال عمرو : فما ترى في قتل عثمان ؟ قال : فتح لكم بابَ كلّ سوء ! قال عمرو : فعليٌّ قتله ؟ ! قال عمار : بل الله ربُّ علي قتله ، وعليٌّ معه ، فقال عمرو : ألا تسمعون ، قد اعترف بقتل إمامكم ! قال عمار : قد قالها فرعون من قبلك لقومه : ( ألا تستمعون ) ! فقام أهل الشام ولهم زَجَل ، فركبوا خيولهم ورجعوا ، وقام عمار وأصحابه فركبوا خيولهم ورجعوا ، وبلغ معاوية ما كان بينهم فقال : هلكت العربُ إن حركتهم خِفّةُ العبد الأسود : يعني عماراً .
نداءُ عمار في الناس :
وخرجت الخيول إلى القتال واصطفت بعضها لبعض ، وتزاحف الناس ، وعلى عمّار درعٌ بيضاء وهو يقول : أيها الناس ، الرواح إلى الجنة .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 120 _
فقاتل القوم قتالاً شديداً لم يسمع السامعون بمثله وكثرت القتلى ، حتى إن كان الرجل ليشد طنب فسطاطه بيد الرجل أو برجله ، وحكى الأشعث بعد ذلك فقال : لقد رأيت أخبية صفين وأروقتها وما فيها خباء ولا رواق ولا فسطاط إلا مربوطاً بيد إنسان أو برجله .
بطولة عمار وثبات إيمانه :
حين نظر عمار إلى راية ابن العاص قال : والله انها لراية قد قاتلتها ثلاث مرات وما هذه بأرشدهن : ثم قال : أو يـرجـع الحـق إلى سبيلـه .
نحنُ ضربناكم على iiتأويله كـما ضربناكم على تنزيلهِ ضرباً يزيل الهام عن مقيلهِ ويـذهل الخليل عن iiخليلهِ |
بين عمار وهاشم :
قال الأحنف بن قيس : والله إني إلى جانب عمار بن ياسر بيني وبينه رجل ، فتقدمنا حتى دنونا من هاشم بن عتبة ، فقال له عمار : إحمل ، فداك أبي وأمي ! فقال له هاشم : يرحمك الله يا أبا اليقظان ؟ أنك رجل تأخذك خِفّةٌ في الحرب ، وأني إنما أزحف باللواء زحفاً ، أرجو أن أنال بذلك حاجتي ، وان خفّفتُ لم آمن الهلكة ، وقد كان قال معاوية لعمرو : ويحك ، إن اللواء اليوم مع هاشم بن عتبة ، وقد كان من قبلُ يرقِلُ به إرقالاً ، وان زحف به اليوم زحفاً انه لليوم الأطول على أهل الشام ، فإن زحف في عنق من اصحابه إني لأطمع أن تقتطع ،
فلم يزل به عمار حتى حمل ، فبصُر به معاوية فوجه إليه حماة أصحابه ، وحمل عمار ذلك اليوم على صفّ أهل الشام وهو يرتجز :
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 121 _
كـلا ورب الـبيت لا أبرح اجي حـتى أمـوت أو أرى ما iiأشتهي لا أفـتأ الـدهر أحامي عن iiعلي صهر الرسول ذي الأمانات الوفي يـنصرنا رب الـسموات iiالعلي ويـقطع الـهام بـحدّ iiالمشرفي يـمنحنا الـنصر على من iiيبتغي ظـلماً عـلينا جـاهداً مـا يأتلي |
فضرب أهل الشام حتى اضطرهم إلى الفرار ، الصلاةُ هي الأهم ، قال عبد خير الهمداني : نظرت إلى عمار بن ياسر يوماً من أيام صفين قد رمي رميةً فأغمي عليه ، فلم يصل الظهر ولا العصر ولا المغرب ولا العشاء ولا الفجر ، ثم أفاق ، فقضاهن جميعاً ، يبدأ بأول شيء فاته ، ثم بالتي تليها .
آخر الشراب والشهادة :
صدق رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حين قال لعمار : تقتلك الفئة الباغية . . وآخر شرابك من الدنيا ضياح من لبن ، ففي يوم من أيام صفين استسقى عمارٌ وقد اشتد به العطش ، فأتته أمرأة طويلة البدن ومعها إداوة فيها ضياح من لبن ، فقال حين شرب : ( الجنةُ تحتَ الأسِنة ، اليوم ألقى الأحبة محمداً وحزبه ، والله لو ضربونا حى يبلغونا سعفات هجر ، لعلمنا أنا على الحق وأنهم على الباطل ) ، ثم حمل ، وحمل عليه ابن حوّى السكسكي وأبو العادية ، فأما أبو العادية فطعنه ، وأما ابن حوّى فاحتز رأسه ، يتقربون بقتله وكثر المتقربون بقتل عمار إلى معاوية وعمرو ، فكان لا يزال الرجل يجيء إليهما فيقول : أنا قتلته ، فيقول له عمرو : فما سمعتَه يقول ؟ وكأن هناك كلمة سر ظلت مكتومةً في نفس هذا الشهيد العظيم لتدل على قاتله في آخر لحظات حياته كما تدل في نفس الوقت على عمق الهدف الذي استشهد من أجله . . فكان الرجل منهم يخلط ، فيعرف عمرو أنه ليس هو القاتل ، حتى أقبل ابن حوّى فقال : أنا قتلته ! فقال عمرو : فما كان آخر منطقه ؟ ! قال : سمعته يقول : اليوم ألقى الأحبة ، محمداً وحزبه . .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 122 _
فقال عمرو : صدقت ، أنت صاحبه ، أما والله ما ظفِرَت يداك ، ولقد أسخطتَ ربك ! يختصمان في النار ! قال السدي : إن رجلين بصفين اختصما في سلب عمار وفي قتله ، فأتيا عبد الله بن عمرو بن العاص ، فقال : ويحكما أخرجا عني ، فان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : ( ما لقريشٍ ولعمار ، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار ، وقاتله وسالبهُ في النار ) ، فلما سمع معاوية ذلك قال : إنما قتله من أخرجه ، يخدعُ بذلك طُغَام أهل الشام .
عتاب معاوية لعمرو بن العاص في شأن عمار :
كان ذو الكلاع الحميري يسمع عمرو بن العاص يقول : إن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول لعمار تقتلك الفئة الباغية ، وآخر شربك ضياح من لبن ، يسمع ذلك من عمرو قبل أن يُصاب عمار فقال ذو الكلاع لعمرو : ويحك ، ما هذا ! قال عمرو : انه سيرجع إلينا ويفارق أبا تراب ، وقد كان عبد الله بن سُويد الحميري قال لذي الكلاع : ما حديثٌ سمعتَه من ابن العاص في عمّار ؟ فأخبره فلما قتل عمار ، خرج عبد الله ليلاً يمشي فأصبح في عسكر علي ( عليه السلام ) ـ وكان عبد الله من عُباد أهل زمانه . . وكاد أهل الشام أن يضطربوا حين قتل عمار ، لولا أن معاوية قال لهم : إن علياً قتل عماراً لأنه أخرجه إلى الفتنة .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 123 _
وأرسل معاوية إلى عمرو ، لقد افسدت عليّ أهل الشام ، أكلَّ ما سمعت من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تقوله ؟ !
فقال عمرو : قلتُها ولستُ أعلم الغيب ولا أدري أن صفين تكون ، قلتُها وعمار يومئذٍ لك وليٌّ ، وقد رويتَ أنت فيه مثل ما رويت .
فغضب معاوية وتنمر لعمرو ، وعزم على منعه خيرَه ، فقال عمرو لابنه وأصحابه : لا خير في جوار معاوية ؛ إن تجلت هذه الحرب عنه لأفارقنّه ! وكان عمرو حمي الأنف ، قال في ذلك :
تـعاتبني أن قـلتُ شـيئاً iiسمعتُه وقـد قـلتَ لو انصفتني مثله iiقبلي أنـعلك فـيما قـلت نـعل iiثـبيتةٌ وتـزلق بـي في مثل ما قلتهُ نعلي ومـا كـان لـي علم بصفين iiأنها تـكون وعـمّار يـحث على iiقتلي ولـو كـان لي بالغيب علم كتمتها وكـايدت أقـواماً مـراجلهم تغلي أبـى الله إلا أن صـدرَك iiواغـرٌ عـليَّ بـلا ذنـب جنيت ولا ذحلِ سـوى أنـني والـراقصات iiعشية بنصرك مدخول الهوى ذاهل iiالعقل فـلا وضـعت عني حَصَانٌ قناعها ولـو حـملت وجناء ذِعلبةً رحلي ولا زلت أدعى في لؤي بن iiغالبٍ قـليلاً غَـنَائي لا أمـرُّ ولا iiأُحلي إن الله أرخـى مـن خـناقك iiمرةً ونلت الذي رجيت ان لم أزر iiأهلي واترك لك الشام التي ضاق iiرحبها عليك ولم يهنك بها العيش من أجلي |
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 124 _
فأجابه معاوية على شعره :
الآن لـمـا ألـقـت الـحرب iiبـركها وقـام بـنا الأمـر الـجليل على رجل غـمزتَ قـناتى بـعد سـتين iiحـجةٍ تـبـاعاً كـأنـي لا أمِـرّ ولا iiأحـلي أتـيـت بـأمـر فـيه لـلشام iiفـتنةٌ وفـي دون مـا أظـهرته زلـة النعل فـقلت لـك الـقول الذي ليس iiضائراً ولـو ضرّ لم يضررك حملك لي iiثقلي فـعـاتبتني فــي كـل يـوم iiولـيلةٍ كـأن الـذي ابـليك لـيس كـما iiابلي فـيـا قـبـح الله الـعـتاب iiوأهـله ألـم تـر مـا أصبحتُ فيه من iiالشغل فـدع ذا ولـكن هـل لـك اليوم iiحيلة تــرد بـها قـوماً مـراجلهم تـغلي دعـاهـم عـليٌّ فـاستجابوا iiلـدعوةٍ أحـب إلـيهم مـن ثرى المال iiوالأهل إذا قـلت هـابوا حـومة الموت أرقلوا إلى الموت إرقال الهَلوكِ إلى الفحل (1) |
---------------------------
(1) شرح النهج من صفحة 25 إلى 28 .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 125 _
حملة عليّ ( عليه السلام ) :
ثم إن علياً أمر الناس أن يحملوا على أهل الشام
(1) وذلك بعد استشهاد ، قال معاوية يوماً بعد إستقرار الخلافة له لعمرو بن العاص : يا أبا عبد الله لا أراك إلا ويغلبني الضحك ، قال : بماذا ؟ قال : أذكر يوم حمل عليك أبو تراب في صفين فأزريت نفسك فرقاً من شبا سنانه ، وكشفت سوأتك له ، فقال عمرو : أنا أشد منك ضحكاً ، إني لا أذكر يوم دعاك إلى البراز فانتفخ سحرك وربا لسانك في فمك ، وغصصت بريقك ، وارتعدت فرائصك ، وبدا منك ما أكره ذكره ، فقال معاوية : لم يكن هذا وكيف يكون ودوني عِكٌّ والأشعريون ! قال : إنك تعلم أن الذي وصفتُ دون ما أصابك ، وقد نزل ذلك بك ودونك عِكٌّ والأشعريون ، فكيف كانت حالك لو جمعكما مأقط الحرب ؟ ! فقال : يا أبا عبد الله ، خض بنا الهزل إلى الجد ، إن الجبن والفرار من عليٍّ لا عار على أحد فيهما ، وذكر أبو عمر في الإستيعاب : أن بسراً كان من الأبطال الطغاة ، وكان مع معاوية بصفين ، فأمره أن يلقى علياً ( عليه السلام ) في القتال ، وقال له : إني سمعتك تتمنى لقاءه ، فلو أظفرك الله به وصرعته حصلت على الدنيا والآخرة ، ولم يزل يُشجعه ويمنيّه حتى رأى علياً في الحرب ، فقصده والتقيا ، فصرعه علي ( عليه السلام ) وعرض له معه مثلما عرض له مع عمرو بن العاص في كشف السوأة .
قال أبو عمرو : إن بسر بن أرطأة بارز علياً يوم صفين ، فطعنه علي فصرعه ، فانكشف له فكفَّ عنه كما عرض له مثل ذلك مع عمرو بن العاص وقد أكثر الشعراء في ذلك ، ومنهم الحارث بن النضر الخثعمي حيث يقول : = عمار بن ياسر ، فحملوا عليهم فنقضوا صفوفهم .
---------------------------
(1) شرح النهج 8 | 54 .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 126 _
ومر على جماعةٍ من أهل الشام بصفين ، منهم الوليد بن عقبة وهم يشتمونه ويقصبونه ( يسبونه ) فأخبر بذلك ، فوقف على ناس من أصحابه وقال : أنهدوا إليهم وعليكم السكينة والوقار وسيماء الصالحين أقرِب بقوم من الجهل قائدهم ومؤدبهم معاوية وابن النابغة وأبو الأعور السلمي وابن أبي معيط شارب الحرام والمحدود في الإسلام ، وهم أولاء يقصبونني ويشتمونني وقبل اليوم ما قاتلوني وشتموني وأنا إذ ذاك أدعوهم إلى الإسلام ، وهم إذ ذاك يدعونني إلى عبادة الأصنام ، فالحمد لله ولا إله إلا الله لقديماً ما عاداني الفاسقون ، إن هذا لهو الخطب الجلل ، إن فساقاً كانوا عندنا غير مرضيين وعلى الإسلام وأهله متخوفين ، أصبحوا وقد خدعوا شطر هذه الأمة واشربوا قلوبهم حب الفتنة ، واستمالوا أهوائهم بالافك والبهتان ونصبوا لنا الحرب وجدوا في إطفاء نور الله ، والله مُتمٌّ نوره ولو كره الكافرون ، اللهم فانهم قد ردّوا الحق ، فافضض جمعهم ، وشتت كلمتهم ، وأبلسهم بخطاياهم ، فأنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت .
قال نصر : وكان عليٌّ إذا أراد الحملة هلّلّ وكبّرَ ثم قال :
من أيّ يوميَّ من الموت أفر يـوم لا يُـقدر أم يوم iiقُدر |
وكان معاوية قد جعل لواءه الأعظم مع عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، فأمر علي ( عليه السلام ) جارية بن قدامة السعدي أن يلقاه بأصحابه وأقبل عمرو بن العاص بعده في خيلٍ ومعه لواءٌ ثانٍ ، فتقدم حتى خالط صفوف العراق ، فقال علي ( عليه السلام ) لأبنه محمد : إمش نحو هذا اللواء رويداً ، حتى إذا أشرعت الرماح في صدورهم فأمسك يدك حتى يأتيك أمري ، ففعل ، وقد كان أعد علي ( عليه السلام ) مثلهم مع الأشتر ، فلما أشرع محمد الرماح في صدور القوم ، أمر علي ( عليه السلام ) الأشتر أن يحمل ، فحمل فأزالهم عن مواقفهم ، وأصاب منهم رجالاً ، وأقتتل الناس قتالاً شديداً فما صلى من أراد الصلاة إلا إيماءً .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 127 _
أفـي كل يوم فارسٌ لك iiينتهي وعـورته وسط العجاجة iiبادية يـكف لـها عـنه علي iiسنانه ويضحك منها في الخلاء معاوية بدت أمس من عمرو فقنع iiرأسه وعـورة بسرٍ مثلها حذو iiحاذية فـقولا لعمروٍ ثم بسرٍ ألا iiأنظرا لـنفسكما لا تـلقيا الليث iiثانية ولا تـحملا إلا الحيا iiوخِصاكما هـما كـانتا والله للنفس iiواقية ولـولا هما لم تنجيا من iiسنانه وتـلك بما فيها إلى العود iiناهية متى تلقيا الخيل المغيرة صبحةً وفـيها علي فاتركا الخيل ناجية وكـونا بعيداً حيث لا يبلغ iiالقنا نـحوركما إن الـتجارب iiكافية |
ثم إن علياً ( عليه السلام ) أرسل إلى جميع العسكر إن إحملوا ، فحمل الناس كلهم على راياتهم كل منهم يحمل على من بأزائه ، فتجالدوا بالسيوف وعمد الحديد لا يسمع إلا صوت ضرب الهامات كوقع المطارق على السنادين ، ومرّت الصلاة كلها فلم يصل أحد إلا تكبيراً عند مواقيت الصلاة حتى تفانوا ورَقَّ الناس .
واختلط أمر الناس تلك الليلة ، وزال أهل الرايات عن مراكزهم ، وتفرق أصحاب علي ( عليه السلام ) ، فأتى ربيعة ليلاً فكان فيهم ، وتعاظم الأمر جداً ، وأقبل عدي بن حاتم يطلب علياً في موضعه الذي تركه فيه فلم يجده ، فطاف يطلبه فأصابه بين رماح ربيعة ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أما إذا كنتَ حيّاً فالأمر أمم ، ما مشيت إليك إلا على قتيل ، وما أبقت هذه الوقعة لهم عميدا ، فقاتل حتى يفتح الله عليك ، فأن في الناس بقيةٌ بعد ، وأقبل الأشعث يلهث جزعاً ، فلما رأى علياً ( عليه السلام ) هللّ وكبرّ وقال : يا أمير المؤمنين ، خيل كخيل ، ورجال كرجال ، ولنا الفضل عليهم إلى ساعتنا هذه ، فعُد إلى مكانك الذي كنت فيه فان الناس إنما يظنونك حيث تركوك .
وأرسل سعيد بن قيس الهمداني إلى علي ( عليه السلام ) ، إنا مشتغلون بأمرنا مع القوم وفينا فضل. فإن أردت أن نمدّ أحداً أمددناه ، فأقبل علي ( عليه السلام ) على ربيعة فقال : أنتم درعي ورمحي
(1) ، فقال عدي بن حاتم : يا أمير المؤمنين ، إن قوماً أنست بهم وكنت في هذه الجولة فيهم لعظيم حقهم ، والله إنهم لصُبرٌ عند الموت ، أشداء عند القتال .
---------------------------
(1) قال : فربيعة تفخر بهذا الكلام إلى اليوم .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 128 _
فدعا علي ( عليه السلام) بفرس رسول الله ـ المرتجز ـ فركب ، ثم تقدم أمام الصفوف ، ثم قال : بل البَغلةَ ، بل البَغلة ، فقدمت له بغلة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكانت شهباء فركبها ، ثم تعصب بعمامة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكانت سوداء ، ثم نادى : أيها الناس ، من يشر نفسه لله يربح ، إن هذا اليوم له ما بعده ، إن عدوكم قد مسه القرح كما مسّكم ، فانتدبوا لنصرة دين الله ، فانتدب له ما بين عشرة آلاف إلى اثني عشر ألفاً قد وضعوا سيوفهم على عواتقهم ، فشد بهم على أهل الشام وهو يقول :
دُبوا دبيبَ النمل لا iiتفوتوا وأصبحوا في حربكم وبيتوا حتى تنالوا الثأرَ أو تموتوا أولا فـاني طالما iiعصيت قـد قـلتم لو جئتنا iiفجيتُ لـيس لكم مأ شئتم iiوشيتُ |
بـل مـا يريـد الـمحيـي الـمميـتُ وتبعه عديّ بن حاتم بلوائه وهو يقول :
أبـعد عـمار وبـعد iiهاشم وابـن بديل فارس iiالملاحم نرجوا البقاء ظل حلم الحالم لقد عضضنا أمس iiبالأباهم فـاليوم لا نـقرع سِنَّ iiنادم لـيس امرؤ من حتفه iiبسالم |
وحمل الأشتر بعدهما في أهل العراق كافة ، فلم يبق لأهل الشام صفٌّ إلا إنتقض ، وأهمد أهل العراق ما أتوا عليه حتى أفضى الأمر إلى مضرب معاوية ، وعلي ( عليه السلام ) يضرب الناس بسيفه قدماً قدماً ، ولا يمر بفارسٍ إلا قدَّه وهو يقول :
اضـربهم ولا أرى iiمعاوية الأخزر العين العظيم الحاوية |
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 129 _
هـوَت بـه في النـار أمَّ هـاويـة فدعا معاوية بفرسه لينجو عليه ، فلما وضع رجله في الركاب
(1) توقف وتلوم قليلاً ثم أنشد قول عمرو بن الإظنابة :
أبـت لـي عفتي وأبى iiبلائي واخـذي الحمد بالثمن iiالربيحِ وأقـدامي على المكروه iiنفسي وضـربي هامة البطل المشيحِ وقـولي كلما جَشأت iiوجاشت مـكانك تحمُدي أو iiتستريحي لأدفـع عـن مآثر iiصالحاتٍ وأحمي بعدُ من عرَضٍ صحيح |
ثم قال : يا عمرو بن العاص ، اليوم صبرٌ وغداً فخر ، قال : صدقت إنك وما أنت فيه كقول القائل :
مـا علتي وأنا جلد iiنابل والـقوم فيها وَترٌ iiعَنابل نزِلُّ عن صفحتها المعابل الموت حق والحياة iiباطل |
فثنى معاوية رجله من الركاب ، ونزل فاستصرخ بعكٍّ والأشعريين ، فوقفوا دونه وجالدوا عنه حتى كره كل من الفريقين صاحبه وتحاجز الناس
(2) .
---------------------------
(1) وقيل أنه بعد خلوص الأمر لمعاوية ، جاء رجل وقال له : يا أمير المؤمنين إن لي عليك حقاً ، قال : وما هو ؟ قال : حق عظيم ، قال : ويحك ما هو ؟ قال : أتذكر يوماً قدمت فرسك لتفر وقد غشيك أبو تراب والأشتر ، فلما أردت أن تستوثبه وأنت على ظهره أمسكت بعنانك وقلت لك : أين تذهب ؟ إنه للؤم بك أن تسمح العرب بنفوسها لك مقهرين ، ولا تسمح لها بنفسك ساعة وأنت ابن ستين ؟ ! وكم عسى أن تعيش في الدنيا بعد هذه السن إذا نجوت ! فتلومت في نفسك ساعة ثم أنشدت شعراً لا أحفظه ثم نزلت ، فقلت شعراً لا أحفظه ، فقال : ويحك ، فإنك لأنت هو ! والله ما أحلني هذا المحل إلا أنت . وأمر له بثلاثين ألف درهم .
(2) شرح النهج 8 | 60 .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 130 _
الشني يمدح علياً :
وقام الأعور الشني إلى علي ( عليه السلام ) فقال : يا أمير المؤمنين ، زاد الله في سرورك وهداك ، نظرت بنور الله فقدمت رجالاً وأخرت رجالاً ؛ عليك أن تقول وعلينا أن نفعل ، أنت الإمام ، فان هلكت فهذان من بعدك ـ يعني حسناً وحسيناً ( عليهما السلام ) ـ وقد قلت شيئاً فاسمعه ، قال : هات ، فأنشد :
أبـا حسن أنت شمسُ iiالنهار وهـذان فـي الحادثات iiالقمرْ وأنـت وهـذان حتى iiالممات بـمنزلةِ الـسمع بعد iiالبَصرْ وأنـتم أنـاس لـكم iiسـورةٌ تـقصر عـنها أكـف iiالبشر يـخبرنا الـناس عن فضلكم وفـضلكم الـيوم فوق الخبر عـقدت لـقوم أولـي نـجدةٍ من أهل الحياء وأهل iiالخطر مـساميحُ بـالموت عند اللقاءٍ مـنا واخـواننا مـن iiمُضر ومـن حـيّ ذي يـمنٍ iiجلّةً يـقيمون في النائبات الصعرْ فـكل يـسرك فـي iiقـومه ومـن قـال لا فبفيه iiالحجر ونـحن الفوارس يوم iiالزبير وطـلحة إذ قـيل أودى iiغدر ضـربناهم قبل نصف iiالنهار إلى الليل حتى قضينا iiالوطر ولم يأخذ الضرب إلا الرؤوس ولـم يـأخذ الطعن إلا iiالثغر فـنحن أولـئك فـي iiأمـسنا ونـحن كـذلك فيما غبر (1) |
فلم يبق أحد من الرؤساء إلا وأهدى إلى الشني واتحفه .
علي يدعو معاوية للمناجزة :
وأرسل علي ( عليه السلام ) إلى معاوية ، أن أبرز إلي وأعف الفريقين من القتال ، فأينا قتل صاحبه كان الأمر له ، فقال عمرو : لقد أنصفك الرجل ! فقال معاوية : أنا أبارز الشجاع الأخرق ؟ ! أظنك يا عمرو طمعت فيها ! فلما لم يجب ، قال علي ( عليه السلام ) : ( وانفساه ، أيطاع معاوية وأعصى ! ؟ ما قاتلت أمةٌ قط أهل بيت نبيها وهي مِقرّةٌ بنبيّها غير هذه الأمة ! )
(1) .
---------------------------
(1) شرح النهج 8 | 68 .
(2) صفين 387 .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 131 _
وهدأت المعركة ليستريح المحاربون ، غير أن أمير المؤمنين علياً أبى أن يستريح ، فأخذ يجول متفقداً من استشهد حوله ، حتى وقف على أبي اليقظان عمار بن ياسر ، فبكى بكاءً شديداً ثم قال مسمعاً من حوله :
( إن أمرؤ من المسلمين لم يعظُم عليه قتلُ ابن ياسر وتدخل به عليه المصيبةُ الموجعةُ لغيرُ رشيد ! رحم الله عماراً يوم أسلم ، ورحم الله عماراً يوم قُتل ، ورحم الله عماراً يوم يبعث حياً ) ، ثم قال :
لقد رأيت عماراً وما يُذكر من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أربعةٌ إلا كان رابعاً ، ولا خمسةٌ إلا كان خامساً ، وما كان أحد من قدماء أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يشكُّ أن عماراً قد وجبت له الجنة في غير موطن ولا إثنين ، فهنيئاً لعمار بالجنة ، ولقد قيل : إن عماراً مع الحق ، والحق معه ، يدور عمارٌ مع الحق أينما دار ، وقاتل عمار في النار
(1) .
وكان عمار أوصى بقوله : ( لا تغسلوا عني دماً ولا تحثو علي تراباً . . ادفنوني في ثيابي فإني مخاصِم ! ) فصلَّى عليه أمير المؤمنين ولم يُغسله ، وكان خزيمةُ بن ثابت الملقب بذو الشهادتين قد حضر صفين ولم يقاتل ، فلما قُتل عمار بن ياسر قال : قد بانت لي الضلالة ، ثم دخل فسطاطه وطرح عليه سلاحه وشن عليه من الماء فاغتسل ثم قاتل حتى قتل ، رحمه الله ، قال الحجاج بن عزية الأنصاري يرثي أبا اليقظان عمار بن ياسر :
يـا لـلرجال لـعينٍ دمعها iiجاري قـد هاج حزني أبو اليقظان iiعمارُ أهـوى إلـيه أبـو حوّى iiفوارسه يـدعو السكون وللجيشين iiإعصار فاختل صدر أبي اليقظان iiمعترضاً لـلرمح قـد وجـبتَ فينا له iiالنارُ قـال الـنبي لـه تـقتلك iiشرذمة سـيطت لـحومهم بالبغي ، iiفجّار فـاليوم يـعرفُ أهـل الشام iiأنهم أصحاب تلك وفيها النارُ والعارُ (2) |
---------------------------
(1) الطبقات الكبرى 3 | 362 وما بعدها .
(2) مروج الذهب 2 | 382 .