عليكم بتقوى الله وطاعة من أطاع الله من أهل بيت نبيكم الذين هم أولى بطاعتكم فيما أطاعوا الله فيه من المستحلين المدعين المقابلين إلينا ، يتفضلون بفضلنا ويجاحدوننا أمرنا ، وينازعوننا حقنا ، ويباعدوننا عنه ، فقد ذاقوا وبال ما اجترحوا فسوف يلقون غِياً ، ألا أنه قد قعد عن نصرتي رجال منكم ، وأنا عليهم عاتب زارٍ فاهجروهم وأسمعوهم ما يكرهون حتى يعتبوا ليُعرف بذلك حزب الله عند الفرقة .
فقام إليه مالك بن حبيب اليربوعي ـ وكان صاحب شرطته ـ فقال : والله إني لأرى الهجر وسماع المكروه لهم قليلاً ، والله لو أمرتنا لنقتلنهم ، فقال علي ( عليه السلام ) : سبحان الله يا مالكِ جُزت المدى وعدوت الحد فأغرقت في النزع. فقال : يا أمير المؤمنين ، لبعضُ الغشم أبلغ في أمرٍ ينوبك من مهادنة الأعادي ؟ فقال ( عليه السلام ) : ليس هكذا قضى الله يا مالكِ ، قال سبحانه : ( النفسُ بالنفسِ ) فما بال ذكر الغشم ؟ وقال تعالى : ( ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل ) ، والإِسراف في القتل أن تقتل غير قاتلك ، فقد نهى الله عنه ، وذاك هو الغشم .
فقام إليه أبو بردة بن عوف الأزدي ـ وكان ممن تخلف عنه ـ فقال : يا أمير المؤمنين ؛ أرأيت القتلى حول عائشة وطلحة والزبير ، علامَ قُتلوا ؟ أو قال : لِمَ قُتلوا ؟
فقال ( عليه السلام ) : قُتلوا بما قَتلوا شيعتي وعمالي ، وقتلوا أخا ربيعة العبدي في عصابةٍ من المسلمين قالوا إنا لا ننكث كما نكثتم ولا نغدر كما غدرتم فوثبوا عليهم فقتلوهم ، فسألتهم أن يدفعوا لي قَتَلةَ إخواني أقتلهم بهم ثم كتاب الله حكم بيني وبينهم فأبوا عليّ وقاتلوني وفي أعناقهم بيعتي ودماءُ قريبٍ من ألف رجل من شيعتي ، فقتلتهم أفي شك أنت من ذلك ؟ فقال : قد كنت في شك ، فأما الآن فقد عرفت ، وأستبان لي خطأ القوم ، وانك المهتدي المصيب .
ثم إن علياً ( عليه السلام ) تهيأ لينزل ، وقام رجال ليتكلموا ، فلما رأوه نزل جلسوا وسكتوا .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 62 _
ونزل بالكوفة على جعدةَ بن هبيرة المخزومي وهو ابن أخته أم هاني ، ودخل المسجد فصلى ثم تحول فجلس إليه الناس ، فسأل عن رجل من الصحابة كان نزل الكوفة فقال قائل : استأثر الله به ، فقال علي ( عليه السلام ) : إن الله تبارك وتعالى لا يستأثر بأحدٍ من خلقه ، إنما أراد الله جل ذكره بالموت اعزاز نفسه واذلال خلقه ، وقرأ قوله تعالى : ( كنتم أمواتاً فاحياكم ثم يُميتُكم ثم يُحييكُم ) ، ولما لحق به ( عليه السلام ) ثقَلُه قالوا : أنزل القصر ؟ فقال ( عليه السلام ) قصر الخبال
(1) لا تنزلوا فيه ، ومكث ( عليه السلام ) في الكوفة ، فقال شن بن عبد القيس :
قـل لهذا الإِمام قد خبتَ iiالحربُ وتــمـت بـذلـك iiالـنـعماءُ وفرغنا من حرب من نقض العهد وبـالـشـام حـيـة iiصـمـاءُ تـنفث الـسم مـا لـم iiنـهشته فـارمها قـبل أن تـعض iiشفاءُ إنـه والـذي يـحج لـه الناس ومــن دون بـيـته الـبـيداءُ لـضعيف النخاع إن رمي iiاليوم بـخـيـلٍ كـأنـها iiأشــلاء تـتبارى بـكل أصـيد iiكالفحل بـكـفـيه صُـعـدةٌ سـمـراء إن تـذره فـما مـعاوية الـدهر بـمـعطيك مــا أراك iiتـشاءُ ولـنَيلُ الـسماء أقرب من iiذاك ونـجـم الـعـيّوق iiوالـعـوّاءُ |
---------------------------
(1) الخبال : الفساد .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 63 _
فاعدُ بالحد والحديد iiإليهم ليس والله غير ذاك دواء |
وخطب علي ( عليه السلام ) الناس في يوم الجمعة ، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله :
أوصيكم بتقوى الله فان تقوى الله خير ما تواصى به عبادُ الله وأقربه إلى رضوان الله وخيره في عواقب الأمور عند الله ، وبتقوى الله أمرتم ، وللإِحسان والطاعة خلقتم ، فاحذروا من الله ما حذّركم من نفسه فانه حذر بأساً شديداً ، واخشوا خشيةً ليست بتعذير ، واعملوا في غير رياءٍ ولا سُمعة ، فانه من عمل لغير الله وكَلَهُ الله إلى ما عمل له ومن عمل لله مخلصِاً تولى الله أجره ، اشفقوا من عذاب الله فانه لم يخلقكم عبثاً ولم يترك شيئاً من أمركم سدى ، قد سمى أثاركم وعلم أعمالكم وكتب أجالكم ، فلا تغتروا بالدنيا فانها غرارةٌ لأهلها مغرورٌ من اغتر بها ، وإلى فناءٍ ما هي ، وان الآخرة هي دار الحيوان لو كانوا يعلمون ، اسأل الله منازل الشهداء ومرافقة الأنبياء ، ومعيشة السعداء فإنما نحن به وله ، ثم استعمل علي ( عليه السلام ) العمال وفرقهم في البلاد واستعد لمواجهة معاوية وأهل الشام
(1) .
عليٌّ يدعو معاوية إلى البيعة :
أقبل جرير بن عبد الله البجلي إلى علي ( عليه السلام ) فقال له : ابعثني يا أمير المؤمنين إليه ـ يعني معاوية ـ فانه لم يزل لي مستخصاً ووُداً ، آتيه فأدعوه على أن يسلم لك هذا الأمر ويجتمع معك على الحق على أن يكون أميراً من أمرائك وعاملاً من عمالك ما عمل بطاعة الله واتبع ما في كتاب الله ، وأدعو أهل الشام إلى طاعتك وولايتك ، فجلهم قومي وأهل بلادي ، وقد رجوت ألا يعصوني ، فبعثه علي ( عليه السلام ) وقال له : إن حولي من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من أهل الرأي والدين من قد رأيت ، وقد اخترتك عليهم لقول رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيك ( إنك من خير ذي يمن ) إئت معاوية بكتابي ، فان دخل فيما دخل فيه المسلمون ، وإلا فانبذ إليه ، وأعلمه أني لا أرضى به أميراً ، وان العامة لا ترضى به خليفة .
---------------------------
(1) صفين ص 3 ـ 10 وشرح النهج 3 | 102 ـ 108 .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 64 _
فانطلق جرير حتى أتى الشام ، ونزل بمعاوية ، فلما دخل عليه حمد الله وأثنى عليه وقال : أما بعد يا معاوية فانه قد اجتمع لأبن عمك أهل الحرمين وأهل المصرين ، وأهل الحجاز وأهل اليمن وأهل مصر ، وأهل العروض ـ عُمان ـ وأهل البحرين واليمامة ، فلم يبق إلا هذه الحصون التي أنت فيها ولو سال عليها سيل من أوديته لأغرقها ، وقد أتيتك أدعوك إلى ما يرشدك ويهديك إلى مبايعة هذا الرجل ، ثم دفع إليه كتاب علي ( عليه السلام ) وفيه :
كتاب علي لمعاوية :
أما بعد : فأن بيعتي بالمدينة لزمتكَ وأنتَ بالشام لأنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بُيعوا عليه ، فلم يكن للشاهد أن يختار ، ولا للغائب أن يرد ، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار إذا اجتمعوا على رجل فسمّوهُ إماماً ، كان ذلك لله رضاً ، فأن خرج من أمرهم خارج بطعنٍ أو رغبةٍ ، رَدوه إلى ما خرج منه فان أبى ، قاتلوه على إتباع سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى ويصليه جهنم وساءت مصيرا ، وان طلحة والزبير بايعاني ثم نقضا بيعتي فكان نقضهما كرِدّتِهما ، فجاهدتهما على ذلك حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون ، فادخل فيما دخل فيه المسلمون فان أحب الأمور إلي فيك العافية إلا أن تتعرض للبلاء ، فإن تعرضت له قاتلتك واستعنت بالله عليك ، وقد أكثرت الكلام في قتلة عثمان ، فأدخل فيما دخل فيه الناس ، ثم حاكم القوم إليّ أحملك وإياهم على كتاب الله ، فأما تلك التي تريدها فخدعةُ الصبي عن اللبن ، ولعمري لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ قريش من دم عثمان .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 65 _
وأعلم أنك من الطلقاء الذين لا يحل لهم الخلافة ، ولا تُعرض عليهم الشورى ، وقد أرسلت إليك وإلى من قبلك جرير بن عبد الله البجلي وهو من أهل الإيمان والهجرة ، فبايع ولا قوة إلا بالله
(1) .
أما جرير ، فإنه بعد أن سلم معاوية الكتاب وقرأه ، قام خطيباً فقال في جملة ما قال :
أيها الناس ، إن أمر عثمان قد أعيا من شهده فكيف بمن غاب عنه ، وان الناس بايعوا علياً غير واتر ولا موتور ، وكان طلحة والزبير ممن بايعاه ثم نكثا بيعته على غير حدث ، ألا وان هذا الدين لا يحتمل الفتن ، وقد كانت بالبصرة أمس روعة ملحمةٍ إن يشفع البلاء بمثلها فلا بقاء للناس ، وقد بايعت الأمة علياً ، ولو ملكنا والله الأمور لم نختر لها غيره ، ومن خالف هذا استعتب ، فادخل يا معاوية فيما دخل فيه الناس ، فإن قلت استعملني عثمان ثم لم يعزلني ، فإن هذا قول لو جاز لم يقم لله دين وكان لكل امرىءٍ ما في يديه ، ولكن الله جعل للآخر من الولاة حق الأول ، وجعل الأمور موطأةً ينسخ بعضها بعضاً .
فقال معاوية : انظرُ وتنظر ، واستطلع رأي أهل الشام .
معاوية يشاور أهل الشام :
وبعد أيام أمر معاوية مناديه فنادى ، الصلاة جامعة ، فلما اجتمع الناس صعد المنبر ثم خطب خطبة جاء في آخرها : أيها الناس ، قد علمتم أني خليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وخليفة أمير المؤمنين عثمان بن عفان عليكم ، واني لم أقم رجلاً منكم على خزايةٍ قط ، وأني وليُّ عثمان ، وقد قُتل مظلوماً ، والله تعالى يقول : ( ومن قُتل مظلوماً فقد جعلنا لوليهِ سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا ) .
---------------------------
(1) صفين 27 ـ وشرح النهج 2 | 74 ـ 76 .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 66 _
وأنا أحب أنت تعلموني ذات أنفسكم في قتل عثمان ؟ فقام أهل الشام بأجمعهم فأجابوا إلى الطلب بدم عثمان وبايعوه على ذلك ، واوثقوا له على أن يبذلوا بين يديه أموالهم وأنفسهم حتى يدركوا بثأره أو تلتحق أرواحهم بالله ، وغني عن التفسير ما يحمل هذا الأسلوب من مغالطات لا تنطلي إلا على السذج والبسطاء من الناس ، فمتى كان معاوية هو ولي عثمان ، سيما مع وجود الولي الشرعي أعني الخليفة المفترض الطاعة ، وهو الإمام علي ( عليه السلام ) ، فإن علياً هو الولي ـ بعد خلافته ـ ومن حقه هو فقط الطلب بدم عثمان وله السلطة المطلقة في ذلك طبقاً للموازين والأعراف الدينية والشرعية ، ولو تنازلنا وسلمنا بأن معاوية هو ولي عثمان ، فما علاقة علي بدم عثمان ، ولماذا يكون هو المستهدف بالثأر ؟ لكنها السياسة الفاجرة التي تلصق الجريمة بابعد الناس عنها !!
لكن معاوية حين أمسى واختلى بأهله ، اغتم وذهبت به الفكر بعيداً ، فبالأمس كان طلحة والزبير قد دفعا ثمن نكثهما بيعة علي غالياً ، وها هي الحواضر الإِسلامية برمتها تفتح ذراعيها لعلي ، ما عدا الشام ، ترى ماذا يفعل ؟ أيستسلم للأمر الواقع فيبايع وينتهي كل شيء وتنتهي أحلامه الكبار ؟ أم أنه يقاوم بقميص عثمان وأنامل نائلة ، يستثير بهما عواطف البسطاء من الناس ؟ إختار الثانية . . اختارها متأرجحةً بين خطر الموت والقتل بسيف علي ، وبين مجد السلطان وانبساط الدنيا وزهو الملك إذا قدر لعلي أن يخسر الحرب أو على الأقل أن لا يكون هنالك لا غالب ولا مغلوب .
أما أن علياً صاحب الحق وأن الخلافة لازمه الطبيعي والأخلاقي والشرعي ، فهذا مما لا يحرك في ضمير معاوية شيئاً ، وان شئت فقل :
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 67 _
استولت الدنيا على شعوره وتفكيره وأخذت بمجامع قلبه فلم يكن للآخرة عنده نصيب ، لذلك جعل يردد هذه الأبيات :
تطاول ليلي واعترتني iiوساوسي لآتٍ أتـى بـالترهات iiالبسابس أتـاني جـرير والـحوادث جَمّة بـتلك التي فيها اجتداع المعاطسِ أكـايده والـسيف بـيني iiوبينه ولـست لأثـواب الدنيء iiبلابس إن الـشام أعـطت طاعة iiيمنيةً تـواصفها أشياخها في iiالمجالس فـان يـفعلوا أصدم علياً iiبجبهةٍ تـفت عـليها كل رطب iiويابس وانـي لأرجـو خير ما نال iiنائل وما أنا من ملك العراق بآيس (1) |
ثم إن جريراً جعل يستحث معاوية بالبيعة لعلي ( عليه السلام ) ، فقال له معاوية : يا جرير ، أنها ليست بخلسة وأنه أمر له ما بعده ، فابلعني ريقي حتى أنظر ، وكان بإمكان معاوية أن يرفض البيعة حين جاءه جرير بكتاب علي وليكن ما يكون ولكنه في الفترة التي كان يكايد فيها جريراً ويوهمه أنه ينظر في الأمر ، كان قد بدأ بتجميع القوى الشامية وتكريسها لصالحه وتأهليها للحرب وكأنه بذلك يرد على كتاب علي بأنه والشام على أهبة الاستعداد لمواجهته عسكرياً ، لذلك دعا قادة الجند وزعماء القبائل ممن يثق بهم للإستشارة ، فأشار عليه أخوه عتبة بن أبي سفيان بعمرو بن العاص ، وقال له إنه من قد عرفت ، وقد اعتزل عثمان في حياته ، وهو لأمرك أشد إعتزالاً إلا أن يثمن له دينه .
معاوية يستعين بعمرو بن العاص وشرحبيل :
فاستدعى معاوية عمراً ، فاشترط عليه ولاية مصر ، ثم استقدم شُرَحبيل بن السمط ، رئيس اليمنية وشيخها والمقدم عليها ، ودسَّ إليه الرجال يغرونه بعلي ( عليه السلام ) ، ويشهدون عنده أنه قتل عثمان حتى ملأوا صدره وقلبه حقداً وتِرةً واحنةً على علي ( عليه السلام ) وأصحابه .
---------------------------
(1) شرح النهج 3 | 78 .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 68 _
قال له معاوية : يا شُرحبيل ، علي خير الناس لولا أنه قتل عثمان بن عفان ، وقد حبست نفسي عليك وإنما أنا رجل من أهل الشام أرضى ما رضوا وأكره ما كرهوا .
فقال شرحبيل : أخرج فأنظر ، فخرج شرحبيل ، فلقيه أولئك النفر الموطئون له ، فكلهم يخبره بأن علياً قتل عثمان بن عفان ، فخرج مغضباً إلى معاوية فقال : يا معاوية ، أبى الناس إلا أن علياً قتل عثمان ، والله لئن بايعت لنخرجنك من الشام أو لنقتلنك ، قال معاوية : ما كنت لاخالف عليكم ، وما أنا إلا رجل من أهل الشام ، قال : فرد هذا الرجل ـ يعني جريراً ـ إلى صاحبه ! فعرف معاوية أن شرحبيلاً قد نفذت بصيرته في حرب أهل العراق ، وأن الشام كله مع شرحبيل ، فأتى حُصَينَ بن نمير فقال : ابعث إلى جرير فليأتنا ، فبعث حصين بن نمير إلى جرير أن زرنا فعندنا شرحبيل ، فأجتمعا عند حصين ، فتكلم شرحبيل فقال : يا جرير ، أتيتنا بأمرٍ مُلفّف لتلقينا في لهوات الأسد ، وأردت أن تخلط الشام بالعراق ، وأطريت علياً وهو قاتل عثمان والله سائلك عما قلت يوم القيامة ، فقال له جرير : أما قولك اني جئت بأمر ملفف فكيف يكون كذلك وقد اجتمع عليه المهاجرون والأنصار ! وقوتل على رده طلحة والزبير ! ؟ وأما قولك إني القيك في لهوات الأسد ، ففي لهواتها ألقيت نفسك ، وأما خلط أهل الشام بأهل العراق ، فخلطهما على حق خير من فرقتهما على باطل ، وأما قولك إن علياً قتل عثمان ، فوالله ما في يديك من ذلك إلا القذف بالغيب من مكان بعيد ، ولكنك مِلتَ إلى الدنيا وشيء كان في نفسك على زمن سعد بن أبي وقاص .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 69 _
فبلغ ما قالاه إلى معاوية ، فبعث إلى جرير فزجره ، قال نصر في كتابه : وكتب إلى شرحبيل كتاب لا يعرف كاتبه ، فيه :
شرحبيل يا بن السَمط لا تتبع الهوى فـما لك في الدنيا من الدين من iiبدل وقـل لابن حرب ما لك اليوم iiخلة تـروم بها ما رمت واقطع له iiالأمل شـرحبيل ان الـحق قـد جدَّ iiجدُّه فـكن فـيه مأمون الأديم من iiالنعل مـقال ابـن هندٍ في علي iiعضيهة ولـلهُ في صدر ابن أبي طالب أجل ومـا كـان إلا لازمـاً قـعرَ iiبيته إلـى أن أتى عثمان في داره iiالأجل وصـي رسـول الله من دون iiأهله ومن باسمه في فضله يُضربُ iiالمثل |
فلما قرأ شرحبيل الكتاب ، ذُعر وفكر وقال : هذه نصيحة لي في ديني ، ولا والله لا أعجل في هذا الأمر بشيء وفي نفسي منه حاجة ، وكاد يحول عن نصر معاوية ويتوقف ، فلفق له معاوية الرجال يدخلون إليه ويخرجون ويعظمون عنده قتل عثمان ويرمون به علياً ، ويقيمون الشهادة الباطلة والكتب المختلفة حتى أعادوا رأيه وشحذوا عزمه
(1) .
وسار شرحبيل فبدأ بأهل حمص ، فقام فيهم خطيباً ، وكان أهل الشام يرونه مأموناً ناسكاً متألهاً ، فقال : أيها الناس ، إن علياً قتل عثمان. فغضب له قوم من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فلقيهم فهزم الجمع وقتل صلحائهم وغلب على الأرض ، فلم يبق إلا الشام وهو واضع سيفه على عاتقه ، ثم خائض غمرات الموت حتى يأتيكم ، أو يحدث الله أمراً ، ولا نجد أحداً أقوى على قتاله من معاوية ، فجدوا وانهضوا ،
فأجابه الناس كلهم ! إلا نُساكاً من أهل حمص ، فانهم قالوا له : بيوتنا قبورنا ومساجدنا ، وأنت أعلم بما ترى .
---------------------------
(1) نفس المصدر 80 .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 70 _
وجعل شرحبيل يستنهض مدائن الشام حتى استفرغها ، لا يأتي على قوم إلا قبلوا ما أتاهم به ، فبعث له النجاشي بن الحارث ـ وكان له صديقاً ـ بأبياتٍ ، منها :
شـرحبيل ما للدين فارقت iiديننا ولـكن لـبغض المالكي iiجريرِ وشـحناء دبـت بين سعدٍ iiوبينه فـأصبحت كالحادي بغير iiبعيرِ أتـفعل أمـراً غبت عنه iiبشبهةٍ وقـد حـار فيه عقل كل iiبصيرِ بـقول رجـالٍ لـم يكونوا iiأئمةً ولا لـلـتي لـقوكَهَا iiبـحضورِ وتترك أن الناس أعطوا عهودهم عـلياً عـلى أنـس به iiوسرورِ إذا قـيل هاتوا واحداً يُقتدى iiبه نـظيراً بـه لم يفصحوا iiبنظيرِ لـعلك أن تـشقى الغداة iiبحربه فـليس الـذي قد جئته iiبصغيرِ |
ثم أقبل شرحبيل حتى دخل على معاوية فقال له : أنت عامل أمير المؤمنين وابن عمه ، ونحن المؤمنون ، فإن كنت رجلاً تجاهد علياً وقتلةَ عثمان حتى ندرك ثأرنا أو تذهب أرواحنا استعملناك علينا ، وإلا عزلناك واستعملنا غيرك ممن نريد ثم جاهدنا معه حتى ندرك ثأرنا بدم عثمان ، أو نهلك ، فقال له جرير بن عبد الله : مهلاً يا شرحبيل ، فإن الله قد حقن الدماء ، ولمّ الشعث وجمع أمر الأمة ، ودنا من هذه الأمة سكون ، فإياك أن تفسد بين الناس وأمسك عن هذا القول أن يشيع ويظهر عنك قولٌ لا تستطيع ردَّه ، فقال : لا والله لا أستره أبداً ! ثم قام فتكلم به ، فقال الناس : صَدَقَ صدق ! القول ما قال ، والرأي ما رأى ، فأيِسَ جرير عند ذلك من معاوية ومن عوام أهل الشام
(1) .
---------------------------
(1) نفس المصدر 83 ـ 84 .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 71 _
قال نصر بن مزاحم في كتابه ( صفين ) : كان معاوية قد أتى جريراً قبل ذلك في منزله ، فقال له : يا جرير ، إني قد رأيت رأياً ، قال : هاته. قال : اكتب إلى صاحبك يجعل لي الشام ومصر جبايةٌ ، فإذا حضرته الوفاة لم يجعل لأحدٍ بعده في عنقه بيعةً ، وأسلم له هذا الأمر ، واكتب إليه بالخلافة ، فقال له جرير : أكتب ما أردت ، أكتُبُ معك ، فكتب معاوية بذلك إلى علي ( عليه السلام ) ، فكتب عليٌّ إلى جرير : أما بعد ، فإنما أراد معاوية ألا يكون لي في عنقه بيعة ، وأن يختار من أمره ما أحب ، وأراد أن يريثك ويبطئك حتى يذوق أهل الشام ؛ وأن المغيرة بن شعبة قد كان أشار عليَّ أن استعمل معاوية على الشام وأنا حينئذٍ بالمدينة فأبيت ذلك عليه ولم يكن الله ليراني أتخذ المضلين عضدا ، فان بايعك الرجل ، وإلا فأقبل ، والسلام ، فلما انتهى الكتاب إلى جرير أتى معاوية فاقرأه الكتاب وقال له : يا معاوية ، إنه لا يُطبع على قلب إلا بذنب ، ولا يُشرح صدر إلا بتوبة ، ولا أظن قلبك إلا مطبوعاً عليه ، أراك وقد وقفت بين الحق والباطل كأنك تنتظر شيئاً في يد غيرك ، قال معاوية : ألقاك بالفصل في أول مجلس إن شاء الله ، فلما بايع أهل الشام بعد أن جربهم واختبرهم ، قال يا جرير الحق بصاحبك ! وكتب إليه بالحرب ، وكتب في أسفل الكتاب شعر كعب بن جعيل :
أرى الـشام تكرهُ أهل iiالعراق وأهل العراق لهم كارِهونا (1) |
---------------------------
(1) شرح النهج 3 | 87 .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 72 _
الإمام علي يختبر الفريقين :
ولما عزم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على المسير إلى الشام دعا رجلاً فأمره أن يتجهز ويسير إلى دمشق ، فإذا دخل أناخ راحلته بباب المسجد ولا يلقي من ثياب سفره شيئاً ، فان الناس إذا رأوه عليه آثار الغربة ، سألوه ، فليقل لهم : تركت علياً قد نهد إليكم بأهل العراق ، فانظر ما يكون من أمرهم ، ففعل الرجل ذلك ، فاجتمع الناس وسألوه ، فقال لهم ، فكثروا عليه يسألونه فأرسل إليه معاوية الأعور السلمي يسأله ، فأتاه فسأله ، فقال له ، فأتى معاوية فأخبره ، فنادى : الصلاة جامعة ، ثم قام فخطب الناس وقال لهم : إن علياً قد نهد إليكم في أهل العراق ، فما ترون ؟ قال : فضرب الناس بأذقانهم على صدورهم لا يتكلمون ، فقام ذو الكلاع الحميري فقال : عليك الرأي وعلينا الفعال ، فنزل ونادى في الناس بالخروج إلى معسكرهم ، وعاد الرجل إلى علي ( عليه السلام ) فأخبره بذلك ، فنادى : الصلاة جامعة ، ثم قام فخطب الناس ، فأخبرهم أنه قدم عليه رسول كان بعثه إلى الشام وأخبره أن معاوية قد نهد إلى العراق في أهل الشام ، فما الرأي ؟ فاضطرب أهل المسجد ، هذا يقول الرأي كذا ، وهذا يقول الرأي كذا ، وكثر اللغط واللجب ، فلم يفهم علي ( عليه السلام ) من كلامهم شيئاً ولم يدر المصيب من المخطىء ، فنزل عن المنبر وهو يقول : إنا لله وإنا إليه راجعون ، ذهب بها ابنُ آكلة الأكباد ـ يعني معاوية
(1) .
اعتراض بعض قراء الشام على معاوية :
وقبل أن يتجهز أمير المؤمنين علي للمسير نحو صفين ، جاء أبو مسلم الخولاني في ناسٍ من قراء أهل الشام إلى معاوية فقالوا له : يا معاوية ، علام تقاتل علياً وليس لك مثل صحبته ولا هجرته ولا قرابته ولا سابقته ! فقال : إني لا أدعي أن لي في الإسلام مثل صحبته ولا هجرته ولا سابقته ، ولكن خبروني عنكم ، ألستم تعلمون أن عثمان قُتل مظلوماً ! قالوا .
---------------------------
(1) شرح النهج 3 | 96 .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 73 _
بلى ، قال : فليدفع إلينا قتلته لنقتلهم به ، ولا قتال بيننا وبينه ، قالوا : فاكتب إليه كتاباً يأته به بعضنا ، فكتب مع أبي مسلم الخولاني : من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب ، سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد ، فإن الله اصطفى محمداً بعلمه ، وجعله الأمين على وحيه ، والرسول إلى خلقه ، واجتبى له من المسلمين أعواناً أيده الله تعالى بهم ، فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام ، فكان أفضلهم في الإسلام وأنصحهم لله ورسوله الخليفة من بعده ، ثم خليفة خليفته من بعد خليفته ، ثم الثالث الخليفة المظلوم عثمان ! فكلهم حسَدتَ ، وعلى كلهم بغيت ، عرفنا ذلك في نظرك الشزر ، وقولك الهجر ، وتنفُسكَ الصعداء ، وابطائك عن الخلفاء ، تُقاد إلى كلٍ منهم كما يُقادُ الفحل المخشوش ، حتى تبايع وأنت كاره ، ثم لم تكن لأحد منهم بأعظم حسداً منك لأبن عمك عثمان ، وكان أحقهم أن لا تفعل ذلك في قرابته وصهره فقطعت رحمه ، وقبّحتَ محاسنَهُ وألبت الناس عليه ، وبطنت وظهرت حتى ضُرِبت إليه آباط الإبل ، وقيدت إليه الإبل العراب ، وحُمل عليه السلاح في حرم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقتل معك في المحنة وأنت تسمع في داره الهائعة ، لا تردع الظن والتهمة عن نفسك بقولٍ ولا عمل ، وأقسم قسماً صادقاً لو قمت فيما كان من أمره مقاماً واحداً تنهنه الناس عنه ما عدل بك من قِبلنا من الناس أحداً ولمحا ذكل عندهم ما كانوا يعرفونك به من المجانبة لعثمان والبغي عليه ، وأخرى أنت بها عند أنصار عثمان ظنين ، إيواؤك قتلة عثمان ، فهم عضدك وأنصارك ، ويدك وبطانتك ، وقد ذكر لي أنك تتنصل من دمه ، فان كنت صادقاً فأمكنّا من قتلته نقتلهم به ، ونحن أسرع الناس إليك ، وإلا فانه ليس لك ولأصحابك إلا السيف ، والذي لا إله إلا هو لنطلبنَّ قتلة عثمان في الجبال والرمال ، والبر والبحر حتى يقتلهم الله ، أو لتلحقَنَّ أرواحنا بالله ، والسلام .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 74 _
فلما قدم أبو مسلم على عليّ ( عليه السلام ) بهذا الكتاب ، قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد ، فانك قد قمت بأمرٍ وُلّيته ، ووالله ما أحب أنه لغيرك إن أعطيت الحق من نفسك ، إن عثمان قتل مسلماً محرماً مظلوماً ، فادفع إلينا قتلته وأنت أميرنا ، فإن خالفك من الناس أحد كانت أيدينا لك ناصرة ، وألسنتنا لك شاهدة ، وكنت ذا عذرٍ وحجة .
فقال له علي ( عليه السلام ) : أغدُ عليّ غدا فخذ جواب كتابك ، فانصرف أبو مسلم ، وفي اليوم التالي رجع ليأخذ جواب كتابه ، فوجد الناس قد بلغهم الذي جاء فيه ، فلبست الشيعة أسلحتها ثم غدوا فملأوا المسجد فنادوا : كلنا قتلة عثمان ؛ وأكثروا من النداء بذلك ، وأذِنَ لأبي مسلم ، فدخل ، فدفع علي ( عليه السلام ) جواب كتاب معاوية .
فقال أبو مسلم : لقد رأيت قوماً ما لَكَ معهم أمر ! قال : وما ذاك ؟ قال : بلغ القوم أنك تريد أن تدفع إلينا قتلة عثمان ، فضجوا واجتمعوا ولبسوا السلاح ، وزعموا أنهم قتلة عثمان .
فقال علي ( عليه السلام ) : والله ما أردت أن أدفعهم إليك طرفة عين قط ، لقد ضربت هذا الأمر أنفه وعينه ، فما رأيت ينبغي لي أن أدفعهم إليك ولا إلى غيرك ! ، فخرج أبو مسلم بالكتاب وهو يقول : الآن طاب الضِراب .
جواب الإمام لمعاوية :
من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان ، أما بعد : فإن أخا خولان قدم عليّ بكتاب منك تذكر فيه محمداً ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وما أنعم الله به عليه من الهدى والوحي ، فالحمد لله الذي صدقه الوعد ، وأيده بالنصر ، ومكن له في البلاد ، وأظهره على أهل العدواة والشنآن من قومه الذين وثبوا عليه ، وشنفوا له ، وأظهروا تكذيبه ، وبارزوه بالعدواة ، وظاهروا على إخراجه وعلى إخراج أصحابه وأهله ، وألبوا عليه العرب ، وجادلوهم على حربه ، وجهدوا في أمره كل الجهد ، وقلبوا له الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 75 _
وكان أشد الناس عليه تأليباً وتحريضاً أسرته والأدنى فالأدنى من قومه إلا من عصم الله ، وذكرت أن الله تعالى اجتبى له من المسلمين أعواناً أيده الله بهم فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام ، فكان أفضلهم ـ زعمت ـ في الإسلام وأنصحهم لله ولرسوله الخليفة وخليفة الخليفة ! لعمري إن مكانهما في الإسلام لعظيم ، وان المصاب بهما لجرحٌ في الإسلام شديد فرحمهما الله وجزاهما أحسن ما عملا ! وذكرت أن عثمان كان في الفضل تالياً ، فإن يك عثمان محسناً فسيجزيه الله بإحسانه وإن يك مسيئاً فسيلقى رباً غفورا ، لا يتعاظمه ذنب أن يغفره ، ولعمري إني لأرجو إذا أعطى الله الناس على قدر فضائلهم في الإسلام ونصيحتهم لله ولرسوله أن يكون نصيبنا في ذلك الأوفر ، إن محمداً ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لما دعا إلى الإيمان بالله والتوحيد له كنا أهل البيت أول من آمن به وصدقه فيما جاء ، فبتنا أحوالاً كاملةً مجرمّة (1) تامة ، وما يعبد الله في ربع ساكنٍ من العرب غيرنا ، فأراد قومنا قتل نبينا ، واجتياح أصلنا ، وهموا بنا الهموم ، وفعلوا بنا الأفاعيل ، ومنعونا الميرة (2) وأمسكوا عنا العذب وأحلسونا الخوف وجعلوا علينا الأرصاد والعيون ، واضطرونا إلى جبل وعر ، وأوقدوا لنا نار الحرب ، وكتبوا بينهم كتاباً ، لا يؤاكلوننا ، ولا يشاربوننا ، ولا يناكحوننا ، ولا يبايعوننا ولا نأمن منهم حتى ندفع إليهم محمداً فيقتلوه ويمثلوا به ، فلم نكن نأمن فيهم إلا من موسم إلى موسم ، فعزم الله لنا على منعه ، والذب عن حوزته ، والرمي من وراء حرمته ، والقيام بأسيافنا دونه في ساعات الخوف بالليل والنهار ، فمؤمننا يرجو بذلك الثواب ، وكافرنا يحامي عن نفسه .
---------------------------
(1) مجرّمة : كاملة .
(2) الميرة ـ المواد الغذائية .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 76 _
وأما من أسلم من قريش فإنهم مما نحن فيه خلاء ، منهم الحليف الممنوع ، ومنهم ذو العشيرة التي تدافع عنه ، فلا يبغيه أحد مثل ما بغانا به قومنا من التلف ، فهم من القتل بمكان نجوة وأمن ، فكان ذلك ما شاء الله أن يكون ، ثم أمر الله تعالى رسوله بالهجرة ، وأذن له بعد ذلك في قتال المشركين ، فكان إذا أحمر البأس ودعي للنزال ، أقام أهل بيته فاستقدموا ، فوقى أصحابه بهم حدّ الأسنة والسيوف ، فقتل عبيدة يوم بدر ، وحمزة يوم أحد ، وجعفر وزيد يوم مؤتة ، وأراد من لو شئت ذكر اسمه (1) مثل الذي أرادوا من الشهادة مع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) غير مرة ، إلا أن آجالهم عُجلت ومنيتهم أُخرت ، والله ولي الإحسان إليهم ، والمنة عليهم بما أسلفوا من أمر الصالحات ، فما سمعت بأحد ولا رأيته هو أنصح في طاعة رسوله ولا لنبيه ، ولا أصبر على اللأواء والسراء والضراء وحين البأس ، ومواطن المكروه مع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من هؤلاء النفر الذين سميتُ لك وفي المهاجرين خير كثير يعرف ، جزاهم الله خيراً بأحسن أعمالهم ، وذكرت حسدي للخلفاء وابطائي عنهم ، وبغيي عليهم ، فأما البغي فمعاذ الله أن يكون ، وأما الإِبطاء عنهم والكراهية لأمرهم فلست اعتذر للناس عن ذلك ،
إن الله تعالى ذكره لما قبض نبيه ، قالت قريش : منا أمير ؛ وقالت الأنصار : منا أمير ؛ فقالت قريش : منا محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نحن أحق بالأمر ! فعرفت ذلك الأنصار فسلمت لهم الولاية والسلطان ، فإذا استحقوها بمحمد دون الأنصار ، فان أولى الناس بمحمد أحق به منهم ، وإلا فإن الأنصار أعظم العرب فيها نصيباً ، فلا أعلم ، أصحابي سلموا من أن يكونوا حقي أخذوا ، أو الأنصار ظلموا ، بل عرفت أن حقي هو المأخوذ ، وقد تركته لهم تجاوزاً لله عنهم .
---------------------------
(1) يعني نفسه ( عليه السلام ) .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 77 _
وأما ما ذكرت من أمر عثمان وقطيعتي رحمه ، وتأليبي عليه ! عثمان عمل ما قد بلغك ، فصنع الناس به ما قد رأيت ، وأنك لتعلم أني قد كنت في عزلةٍ عنه ، إلا أن تتجنى ، فتجنى ما بدا لك ! وأما ما ذكرت من أمر قتلة عثمان ، فأني نظرت في هذا الأمر وضربت أنفه وعينه ، فلم أر دفعهم إليك ولا إلى غيرك ، ولعمري لئن لم تنزع عن غيّك وشقاقك لتعرفنهم عن قليل يطلبونك لا يكلفوك أن تطلبهم في برٍ ولا بحر ، ولا سهل ولا جبل ، وقد أتاني أبوك حين ولّى الناس أبا بكر فقال : أنت أحق بمقام محمد ، وأولى الناس بهذا الأمر ، وأنا زعيم لك بذلك على من خالف ، ابسط يدك أبايعك ، فلم أفعل. فأنت تعلم أن أباك قد قال ذلك وأراده حتى كنت أنا الذي أبيت لقرب عهد الناس بالكفر مخافة الفرقة بين أهل الإِسلام ، فأبوك كان أعرف بحقي منك ، فإن تعرف من حقي ما كان أبوك يعرف تُصب رشدك وان لم تفعل ، فسيغني الله عنك ؛ والسلام
(1) .
الإمام علي يستشير المهاجرين والأنصار في القتال :
وعزم علي ( عليه السلام ) على مواجهة معاوية عسكرياً ولكنه قبل أن يتجهز لذلك دعا إليه من كان معه من المهاجرين والأنصار فجمعهم وقام فيهم خطيباً فحمد الله وأثنى عليه وقال : ( أما بعد ، فإنكم ميامين الرأي ، مراجيح الحلم ، مقاويل بالحق ، مباركو الفعل والأمر ، وقد أردنا المسير إلى عدونا وعدوكم ، فأشيروا علينا برأيكم ) ، فقام المهاجرون والأنصار كلٌّ يدلي برأيه ، ونقتصر هنا على ذكر آراء بعضهم إختصاراً للمسافة ، فإن ذلك يعطينا فكرةً كافية عما كان يتمتع به أصحاب علي ( عليه السلام ) من قوة العقيدة ورباطة الجأش والجرأة والشجاعة .
---------------------------
(1) شرح النهج 15 | من 73 إلى 78 .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 78 _
خطبة هاشم بن عتبة :
فقام هاشم بن عبتة بن أبي وقاص الملقب « بالمرقال » فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال : ( أما بعد يا أمير المؤمنين ، فأنا بالقوم جدُّ خبير ، هم لك ولأشياعك أعداء ، وهم لمن يطلب حرث الدنيا أولياء ، وهم مقاتلوك ومجاهدوك لا يبقون جهداً ؛ مشاحةً على الدنيا ، وظناً بما في أيديهم منها ، وليس لهم إربةً غيرها إلا ما يخدعون به الجهال من الطلب بدم عثمان بن عفان ، كذبوا ، ليس بدمه يثأرون ، ولكن الدنيا يطلبون ، فسر بنا إليهم ، فإن أجابوا إلى الحق فليس بعد الحق إلا الضلال ، وإن أبوا إلا الشقاق ، فذلك الظن بهم ، والله ما أراهم يبايعون وفيهم أحد ممن يطاع إذا نهى ، ولا يسمع إذا أمر )
(1) .
رأي عمار بن ياسر :
وقام عمار فذكر الله بما هو أهله وحمده وقال : يا أمير المؤمنين ، إن إستطعت ألا تقيم يوماً واحداً فافعل ! إشخص بنا قبل استعار نار الفجرة ، واجتماع رأيهم على الصدود والفرقة وادعهم إلى حظهم ورشدهم ، فإن قبلوا سعدوا ؛ وإن أبوا إلا حربنا ، فوالله إن سفك دمائهم والجد في جهادهم لقربة عند الله وكرامة منه .
رأي قيس بن سعد بن عبادة :
ثم قام قيس بن سعد بن عبادة ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : يا أمير المؤمنين ، إنكمش بنا إلى عدونا ولا تعرج
(2) فوالله لجهادهم أحب إلي من جهاد الترك والروم ؛ لإدهانهم
(3) في دين الله ، وإستذلالهم أولياء الله من أصحاب محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان ، إذا غضبوا على رجل حبسوه وضربوه وحرموه وسيروه ، وفيئنا لهم في أنفسهم حلال .
---------------------------
(1) صفين : 92 .
(2) في الأصل لا تعرّد ، والتعريد معناه الإحجام والإنهرام .
(3) الإدهان : الغش والمصانعة .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 79 _
ونحن لهم فيما يزعمون قطين
(1) .
الإمام يدعو إلى المسير :
فقام علي خطيباً على منبره وجعل يحرض الناس ويامرهم بالمسير إلى صفين ، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه : ( سيروا إلى أعداء الله ، سيروا إلى أعداء السنن والقرآن ، سيروا إلى بقية الأحزاب ، قتلة المهاجرين والأنصار ، هذا ، وقد تقاعس نفر عن الإستجابة ، منهم حنظلة بن الربيع ، وقد هرب فيما بعد إلى معاوية ، ولحقه أناس من قومه ، فأمر علي ( عليه السلام ) بداره فهدمت
(2) .
بين علي ( عليه السلام ) وأبي زبيب :
ودخل أبو زبيب بن عوف على علي ، فقال : يا أمير المؤمنين ، لئن كنا على الحق لأنت أهدنا سبيلاً ، وأعظمنا في الخير نصيباً ، ولئن كنا في ضلالةٍ إنك لأثقلنا ظهراً وأعظمنا وزراً ، أمرتنا بالمسير إلى هذا العدو وقد قطعنا ما بيننا وبينهم من الولاية ، وأظهرنا لهم العدواة نريد بذلك ما يعلم الله من طاعتك ، وفي أنفسنا من ذلك ما فيها ، أليس الذي نحن عليه الحق المبين والحوب الكبير ؟ ) .
فقال علي : ( بلى ، شهدت أنك إن مضيت معنا ناصراً لدعوتنا ، صحيح النية في نصرتنا ، قد قطعت منهم الولاية ، وأظهرت لهم العدواة كما زعمت ، فانك ولي الله تسيح في رضوانه ، وتركض في طاعته ، فأبشر أبا زبيب ) .
عمار يحرض :
فقال له عمار بن ياسر : أثبت أبا زبيب ولا تشك في الأحزاب عدو الله ورسوله .
---------------------------
(1) القطين : الخدم والأتباع والحشم والمماليك .
(2) راجع كتاب صفين | 95 ـ 97 .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 80 _
فقال : ما أحب أن لي شاهدين من هذه الأمة فيشهدوا لي على ما سألت عنه من هذا الأمر الذي أهمني مكانكما ، وخرج عمار بن ياسر وهو يقول :
سيروا إلى الأحزاب أعداء النبي سـيروا فخيرُ الناس أتباعُ iiعلي هـذا أوان طاب سل iiالمشرفي وقَـودُنا الـخيل وهزُّ iiالسمهري |
يزيد بن قيس وزياد بن النضر :
ودخل يزيد بن قيس الأرحبي على علي بن أبي طالب فقال : يا أمير المؤمنين ، نحن على جهازٍ وعدة ، وأكثر الناس أهل قوة ، ومن ليس بمضعَّف وليس به علة ، فمر مناديك فليناد الناس يخرجوا إلى معسكرهم بالنخيلة ، فإن أخا الحرب ليس بالسؤوم ولا النؤوم ولا من إذا أمكنته الفرص أجلها واستشار فيها ، ولا من يؤخر الحرب في اليوم إلى غدٍ وبعد غد !
فقال زياد بن النضر : لقد نصح لك يا أمير المؤمنين يزيد بن قيس وقال ما يعرف ، فتوكل على الله وثق به ، واشخص بنا إلى هذا العدو راشداً معاناً ، فإن يرد الله بهم خيراً لا يدعوك رغبةً عنك إلى من ليس مثلك في السابقة مع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والقدم في الإسلام والقرابة من محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وإلا يُنيبوا ويقبلوا ويأبوا إلا حربنا ، نجد حربهم علينا هيناً ، ورجونا أن يصرعهم الله مصارع إخوانهم بالأمس .
رأي عبد الله بن بديل :
ثم قام عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي فقال : ( يا أمير المؤمنين ، إن القوم لو كانوا الله يريدون ، أو لله يعملون ، ما خالفونا ، ولكن القوم إنما يقاتلون فراراً من الأسوة
(1) وحباً للأثرة ، وظناً بسلطانهم ، وكرهاً لفراق دنياهم التي في أيديهم ، وعلى إحنٍ في أنفسهم ، وعداوةٍ يجدونها في صدورهم ، لوقائع أوقعتها يا أمير المؤمنين بهم قديمةٍ ، قتلت فيها آباءهم وإخوانهم .
---------------------------
(1) الأسوة : المساواة في الحقوق .