ثم التفت إلى الناس فقال : فكيف يبايع معاوية علياً وقد قتل أخاه حنظلة وخاله الوليد ، وجده عتبة في موقف واحد ، والله ما أظن أن يفعلوا ، ولن يستقيموا لكم دون أن تقصد فيهم المرّان
(1) ، وتقطع على هامهم السيوف ، وتنثر حواجبهم بعمد الحديد ، وتكون أمور جمة بين الفريقين ، ثم إن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كتب إلى ولاته وعماله في الآفاق كتباً يوصيهم فيها بتقوى الله والعطف على الرعية ويأمرهم بالتوسعة في العطاء على من عندهم وإرسال ما يتبقى لصرفه في شؤون الجيش .
الإِنذار الأخير :
وكتب إلى معاوية كتاباً يعظه فيه أولاً ويخوفه من الدنيا ، ثم يبكّته ويضعه في خانة العدو المغتصب للحق ، والمتسلط والباغي الذي ركبه الشيطان حتى جرى منه مجرى الدم في العروق ، وينصحه بالعودة إلى جادة الصواب ، ولعله آخر كتبه ( عليه السلام ) لمعاوية قبل الخروج للحرب ، وكأنه يعطيه الإِنذار الأخير ويقيم عليه الحجة ، وجاء فيه : ( إنك قد رأيت من الدنيا وتصرفها بأهلها وإلى ما مضى منها ، وخير ما بقي من الدنيا ما أصاب العباد الصادقون فيما مضى ، ومن نسي الدنيا نسيان الآخرة يجد بينهما بوناً بعيداً ، وأعلم يا معاوية أنك قد أدعيت أمراً لست من أهله لا في القَدَم ولا في الولاية ، ولست تقول فيه بأمرٍ بيّن تعرف لك به أثرة ولا لك عليه شاهد من كتاب الله ولا عهد تدعيه من رسول الله ، فكيف أنت صانع إذا إنقشعت عنك جلابيب ما أنت فيه من دنياً أبهجت بزينتها ، وركنت إلى لذتها ، وخلي فيها بينك وبين عدوٍ جاهد ملح ، مع ما عرض في نفسك من دنيا قد دعتك فأجبتها ، وقادتك فاتبعتها ، وأمرتك فأطعتها ، فاقعس
(2) عن هذا الأمر وخذ أهبة الحساب ، فإنه يوشك أن يقفك واقف على ما لا يُجنُّك من مِجَنّ .
---------------------------
(1) الرماح .
(2) أي تأخر وارجع .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 82 _
ومتى كنتم يا معاوية ساسةً للرعية ، أو وُلاةً لأمر هذه الأمة بغير قدَمٍ حسن ، ولا شرفٍ سابقٍ على قومكم ، فشمر لما قد نزل بك ، ولا تُمكن الشيطان من بُغيته فيك ، مع أني أعرف أن الله ورسوله صادقان ، فنعوذ بالله من لزوم سابق الشقاء ، وإلا تفعل أعلمك ما أغفلك من نفسك ، فإنك مُترفٌ قد أخذ منك الشيطان مأخذه ، فجرى منك مجرى الدم في العروق ، وإعلم أن هذا الأمر لو كان الى الناس أو بأيديهم لحسدونا وأمتنوا به علينا ، ولكنه قضاءٌ ممن أمتن به علينا على لسان نبيه الصادق المصدق ، لا أفلح من شك بعد العرفان والبينة ، اللهم أحكم بيننا وبين عدونا بالحق وأنت خير الحاكمين ) ، وكتب ( عليه السلام ) إلى عمرو بن العاص كتاباً يعظه فيه ويحذره أمر الدنيا ، ويقول فيه أخيراً ( والسعيد من وعظ بغيره ، فلا تحبط أجرك أبا عبد الله ، ولا تجارين معاوية في باطله فإن معاوية غمص الناس ، وسفه الحق ، والسلام ) .
وأرسل إلى قادة العرب وزعماءهم في الأمصار يستنهضهم للقتال ، فأجابه منهم خلق كثير ، وقد اقتصرنا على هذا القدر تحاشياً عن الإطالة .
كتاب محمد بن أبي بكر إلى معاوية :
ولمحمد بن أبي بكر قدم سبق في الإسلام ولدى أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) مكانة خاصة ، وتشهد له على ذلك مواقفه في حرب الجمل كما قدمنا ، ومواقفه قبل وبعد صفين ، وقد كتب إلى معاوية كتاباً بمثابة إقرار واعتراف من الصادق الصدوق بفضل الإمام علي ( عليه السلام ) على بقية أصحاب الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، كما أن فيه تبكيت وتأنيب لمعاوية على موقفه من الإِمام علي ( عليه السلام ) وبغيه وطلبه ما ليس له ، ونحن نذكره كما جاء في رواية نصر : بسم الله الرحمن الرحيم : من محمد بن أبي بكر إلى الغاوي بن صخر ، سلام على أهل طاعة الله من هو مسلمٌ لأهل ولاية الله ، أما بعد :
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 83 _
فإن الله بجلاله وعظمته وسلطانه وقدرته خلق خلقاً بلا عنَت ، ولا ضعف في قوته ، ولا حاجةٍ به إلى خلقهم ، ولكنه خلقهم عبيداً ، وجعل منهم شقياً وسعيداً ، وغوياً ورشيداً ، ثم أختارهم على علمه ، فأصطفى وانتخب منهم محمداً ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فأختصه برسالته ، وأختاره لوحيه ، وإتمنه على أمره ، وبعثه رسولاً مصدقاً لما بين يديه من الكتب ، ودليلاً على الشرائع ، فدعا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ، فكان أول من أجاب وأناب ، وصدّق ووافق وأسلم وسلّم ـ أخوه وابن عمه علي بن أبي طالب ( عليه لسلام ) فصدّقه بالغيب المكتوم وآثره على كل حميم ، فوقاه كل هول ، وواساه بنفسه في كل خوف ، فحارب حربه ، وسالم سَلمَه ، فلم يبرح مبتذلاً لنفسه في ساعات الأزل (1) ومقامات الروع ، حتى برز سابقاً لا نظير له في جهاده ، ولا مقارب له في فعله ، وقد رأيتك تساميه وأنت أنت ، وهو هو المبرز السابق في كل خير ، أول الناس إس لاماً ، وأصدق الناس نية ، وأطيب الناس ذرية ، وأفضل الناس زوجة ، وخير الناس ابن عم ، وأنت اللعين بن اللعين ، ثم لم تزل أنت وأبوك تبغيان الغوائل لدين الله ، وتجهدان على إطفاء نور الله ، وتجمعان على ذلك الجموع ، وتبذلان فيه المال ، وتخالفان فيه القبائل ، على ذلك مات أبوك ، وعلى ذلك خلفته ، والشاهد عليك بذلك من يأوي ويلجأ إليك من بقية الأحزاب ، ورؤوس النفاق والشقاق لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والشاهد لعليٍّ مع فضله المبين وسبقه القديم ، أنصاره الذين ذُكروا بفضلهم في القرآن فأثنى الله عليهم من المهاجرين والأنصار ، فهم معه عصائب وكتائب حوله ، يجالدون بأسيافهم ويهريقون دماءهم دونه ، يرون الفضل في إتباعه ، والشقاء في خلافه ، فكيف ـ يا لك الويل ـ تعدل نفسك بعلي ، وهو وارث رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ووصيُّه وأبو ولده ، وأول الناس له إتباعاً ، وأخرهم به عهداً ، يخبره بسرّه ويُشركه في أمره ؛ وأنت عدُّوه وابن عدوه ؟ ! فتمتع ما استطعت بباطلك ، وليمدد لك ابن العاص في غوايتك ، فكأن أجلك قد إنقضى ، وكيدك قد وهى ، وسوف يستبين لمن تكون العاقبة العليا .
---------------------------
(1) ـ الإزل : الضيق والشدة .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 84 _
واعلم أنك إنما تكايد ربك الذي قد أمنت كيده ، وأيست من روحه ، وهو لك بالمرصاد ، وأنت منه في غَرور ، وبالله وأهل رسوله عنك الغَنَاء ، والسلام على من اتبع الهدى
(1) .
وقد أجابه معاوية على كتابه هذا ولا داعي لذكره .
الإمام علي ( عليه السلام ) يأمر بالخروج :
وأمر عليٌّ الحارث الأعور ينادي في الناس : أن اخرجوا إلى معسكركم بالنخيلة ، فنادى : أيها الناس ، أخرجوا إلى معسكركم بالنخيلة ، وبعث عليٌّ إلى مالك بن حبيب اليربوعي ـ صاحب شرطته ـ فأمره أن يحشر الناس إلى المعسكر ، ودعا عقبةَ بن عمروٍ الأنصاري فاستخلفه على الكوفة ، وكان أصغر أصحاب بيعة العقبة السبعين ، وأوصاه بوصاياه ، ثم خرج عليٌّ وخرج الناس معه إلى الحرب يسيرون وخرج أمامه الحر بن سهم بن طريف الربعي وهو يقول :
يا فرسي سيري وأمي الشاما وقـطعي الحزون iiوالأعلاما ونـابذي من خالف iiالإماما إنـي لأرجو أن لقينا iiالعاما جـمع بـني أمـية iiالطغاما أن نـقتل العاصي iiوالهُماما |
وأن نـزيـل من رجـال هـامـا وسار عليٌّ ( عليه السلام ) حتى أتى مكاناً يقال له دير أبي موسى ، فصلى بالناس صلاة العصر ، فلما انصرف من الصلاة ، رفع يديه بالدعاء وقال : ( سبحان ذي الطَولِ والنِعَم ، سبحان ذي القدرة والإفضال ، أسأل الله الرضا بقضائه ، والعمل بطاعته ، والإنابة إلى أمره ؛ فإنه سميع الدعاء ) .
---------------------------
(1) كتاب صفين ص 118 .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 85 _
ثم سار حتى نزل على شاطىء نرس ، وهو نهر حفره نرس بن بهرام بنواحي الكوفة ، فصلى هناك صلاة المغرب ، فلما انصرف قال : الحمد لله الذي يولج الليل في النهار ، ويولج النهار في الليل ، والحمد لله كلما وقب ليل وغسق ، والحمد لله كلما لاح نجم وخفق ) .
ثم أقام حتى صلى الغداة ، ثم شخص حتى بلغ قُبّة قُبيِّن ـ مكان ـ وفيها نخل طوال إلى جانب البِيعة من وراء النهر ، فلما رآها قال : ( والنخلَ باسقاتٍ لها طلعٌ نضيد ) ، ثم أقحم دابته النهر فعبر إلى تلك البيعة فنزلها فمكث بها قدر الغداة ، ثم تابع سيره فوصل إلى أرض بابل ، فجعل ( عليه السلام ) يخفُّ في سيره ويقول : إن ببابل أرضاً قد خسف بها فلعلنا نصلي العصر خارجاً منها ، فحرك دابته وحرك الناس دوابهم في أثره ، حتى أتوا على مكان وقد كادت الشمس أن تغيب ، فنزل علي ( عليه السلام ) فدعا الله ، فرجعت الشمس كمقدارها من صلاة العصر ، فصلى بالناس العصر ثم غابت الشمس
(1) .
قول علي في كربلاء :
عن هرثمة بن سليم قال : غزونا مع علي بن أبي طالب غزوة صفين ، فلما نزلنا بكربلاء صلى بنا صلاةً ، فلما سلم رُفع إليه من تربتها فشمها ثم قال : واهاً لك أيتها التربة ليُحشَرُّنَّ منك قوم يدخلون الجنة بغير حساب.
وعن سعيد بن وهب قال : بعثني مخنف بن سُليم إلى علي ، فأتيته بكربلاء ، فوجدته يشير بيده ويقول : ههنا ههنا ! فقال رجل : وما ذلك يا أمير المؤمنين ؟ قال : ثقل لآل محمدٍ ينزل هاهنا ، فويلٌ لهم منكم ، وويلٌ لكم منهم ، فقال له الرجل : ما معنى هذا الكلام يا أمير المؤمنين ؟ قال ، ويلٌ لهم منكم : تقتلونهم ، وويلٌ لكم منهم : يُدخلكم الله بقتلهم إلى النار .
---------------------------
(1) صفين ص 136 .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 86 _
وعن الحسن بن كثير عن أبيه : أن علياً أتى كربلاء فوقف بها ، فقيل يا أمير المؤمنين هذه كربلاء ، قال : ذات كربٍ وبلاء ، ثم أومأ بيده إلى مكان فقال : ها هنا موضع رحالهم ، ومناخ ركابهم ، وأومأ بيده إلى موضع آخر فقال : ها هنا مهراق دمائهم
(1) .
قوله حين مر بآثار كسرى :
ثم مضى ( عليه السلام ) إلى مدينة بُهرُ سير ، وإذا برجل من أصحابه يقال له حرّ بن سهم ، ينظر إلى آثار كسرى وهو يتمثل قول ابن يعفر التميمي :
جرتِ الرياح على مكان ديارهم فـكأنما كـانوا عـلى مـيعادِ |
فقال علي ( عليه السلام ) : ( كم تركوا من جناتٍ وعيونٍ ، وزروع ومَقَامٍ كريم ، ونَعمَةٍ كانوا فيها فاكهين. كذلك وأورثناها قوماً آخرين ، فما بكت عليهم السماءُ والأرضُ وما كانوا مُنظَرين )
(2) ، إن هؤلاء كانوا وارثين فأصبحوا موروثين ، إن هؤلاء لم يشكروا النعمة فسُلبوا دنياهم بالمعصية ، إياكم وكُفرُ النِعَم لا تحلَّ بكم النقم ، ثم قال : أنزلوا بهذه النجوة
(3) .
وصوله إلى المدائن ثم الأنبار :
لما وصل ( عليه السلام ) المدائن ، أمر الحارث الأعور فصاح في أهلها : من كان من المقاتلة فليواف أمير المؤمنين صلاة العصر ، فوافوه في تلك الساعة ، ولحق به فيما بعد ألف ومائتا مقاتل .
---------------------------
(1) ـ صفين 140 ـ 142 .
(2) ـ سورة .
(3) ـ النجوة : المكان المرتفع .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 87 _
وجاء علي حتى مر بالأنبار ، فاستقبله دهاقنتها بنو خُشنُوشَك
(1) ثم جاؤوا يشتدون معه ، قال : ما هذه الدواب التي معكم ؟ وما أردتم بهذا الذي صنعتم ؟ قالوا : أما هذا الذي صنعنا هو خُلُقٌ منا نعظم به الأمراء ، وأما هذه البراذين فهدية لك ، وقد صنعنا لك وللمسلمين طعاماً ، وهيأنا لدوابكم علفاً كثيراً ، قال ( عليه السلام ) : أما هذا الذي زعمتم أنه منكم خلق تعظمون به الأمراء ، فوالله ما ينفع هذا الأمراء ، وأنكم لتشقون به على أنفسكم وأبدانكم ، فلا تعودوا له ، وأما دوابكم هذه ، فإن أحببتم أن نأخذها منكم فنحسبها من خراجكم ، أخذناها منكم ، وأما طعامكم الذي صنعتم لنا ، فإنا نكره أن نأكل من أموالكم شيئاً إلا بثمن .
قالوا : يا أمير المؤمنين ، نحن نقومه ثم نقبل ثمنه ؛ قال : إذن لا تقوِّمُونَهُ قيمته ، نحن نكتفي بما دونه .
قالوا : يا أمير المؤمنين ، فإن لنا من العرب موالي ومعارف ، فتمنُعنا أن نهدي لهم وتمنعهم أن يقبلوا منا ؟ قال : كل العرب لكم موالٍ ، وليس ينبغي لأحدٍ من المسلمين أن يقبل هديتكم ، وإن غصبكم أحد فأعلمونا .
قالوا : يا أمير المؤمنين ، إنا نحب أن تقبل هديتنا وكرامتنا ، قال لهم : ويحكم ، نحن أغنى منكم ! فتركهم وسار .
قصة الصخرة ، وصاحب الدير ، وإسلام الراهب :
وعطش الناس وهم في طريقهم إلى صفين ، فانطلق علي ( عليه السلام ) مع بعض أصحابه حتى أتى على صخرة ضرس
(2) من الأرض كأنها ربضة عنز
(3) فأمرهم ، فأقتلعوها ، فخرج لهم ماء ، فشربوا وارتووا وشرب الناس منه ، ثم أمرهم علي أن يرجعوا الصخرة مكانها .
---------------------------
(1) خشن يعني طيب ونوشك معناها راضٍ ، يعني بين الطيب الراضي ـ بالفارسية .
(2) الضِرس بالكسر : الأرض الخشنة .
(3) ربضة عنز : حجم جثتها إذا بركت .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 88 _
ثم سار قليلاً ثم التفت إلى بعض أصحابه وقال : هل منكم أحد يعلم مكان هذا الماء الذي شربتم منه ؟ قالوا : نعم يا أمير المؤمنين ، قال : فانطلقوا إليه. فانطلق منهم رجال مشاةً وركباناً حتى وصلوا إلى المكان الذي يعتقدون أنها فيه ، فطلبوها فلم يجدوها ، فانطلقوا إلى ديرٍ قريب بعد أن يئسوا منها ، وسألوهم : أين الماء الذي هو عندكم ؟ قالوا : ما قربنا ماء ! فقال صاحب الدير : ما بني هذا الدير إلا بذلك الماء ، وما استخرجه إلا نبي أو وصي نبي ! (1) .
ثم سار ( عليه السلام ) حتى وصل الرقة فنزل فيها بمكان يقال له بليخ ، على جانب الفرات ، وكان هنالك صومعة فيها راهب ، فلما رأى أمير المؤمنين نزل من صومعته ، وسلم عليه وقال له : إن عندنا كتاباً توارثناه عن آبائنا ، كتبه أصحاب عيسى بن مريم ، أعرضه عليك .
قال علي ( عليه السلام ) : نعم ، فما هو ؟ قال الراهب : بسم الله الرحمن الرحيم الذي قضى فيما قضى ، وسطر فيما سطر ، أنه باعث في الأميَّين رسولاً منهم يعلمهم الكتاب والحكمة ، ويدلهم على سبيل الله ، لا فظٌّ ولا غليظ ، ولا صخاب في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح ، أمته الحمادُّون الذين يحمدون الله على كل نشز ، وفي كل صعود وهبوط ، تذل ألسنتهم بالتهليل والتكبير والتسبيح ، وينصره الله على كل من ناواه ، فإذا توفاه الله اختلفت أمته ثم اجتمعت ، فلبثت بذلك ما شاء الله ثم اختلفت ، فيمر رجل من أمته بشاطىء هذا الفرات ، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويقضي بالحق ، ولا يرتشي في الحكم ، الدنيا أهون عليه من الرماد في يوم عصفت به الريح ، والموت أهون عليه من شرب الماء على الظماء ، يخافُ اللهَ في السر ، وينصح له في العلانية ، ولا يخاف في الله لومةَ لائم ، من أدرك ذلك النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من أهل هذه البلاد فآمن به ، كان ثوابه رضواني والجنة ، ومن أدرك ذلك العبد الصالح فلينصره ؛ فإن القتل معه شهادة .
---------------------------
(1) ـ صفين 145 وفي كشف الغمة 1 ص 279 وردت القصة بصورة أخرى وأنه ( عليه السلام) قلع الصخرة بيده .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 89 _
ثم قال له : فأنا مصاحبك غير مفارقك حتى يصيبني ما أصابك ، فبكى ( عليه السلام ) ثم قال : الحمد لله الذي لم يجعلني عنده منسيّاً ، الحمد لله الذي ذكرني في كُتُبِ الأبرار ، ومضى الراهب معه ، وكان ـ فيما ذكروا ـ يتغدى مع علي ويتعشى معه حتى أصيب يوم صفين ، فلما خرج الناس يدفنون قتلاهم ، قال علي : إطلبوه ، فلما وجدوه ، صلى عليه ودفنه ، وقال : هذا منا أهل البيت ، واستغفر له مراراً
(1) .
وعبر علي ( عليه السلام ) شاطىء الفرات بعد أن أقاموا له جسراً إلى صفين ، ودعا زياد بن النضر وشريح بن هاني ، فسرحهما أمامه نحو معاوية في اثني عشر ألفاً . . فلما انتهوا إلى معاوية ، لقيهم أبو الأعور السلمي في جند من أهل الشام ، فدعوهم إلى طاعة علي فأبوا ، فأرسلوا إلى علي يخبرونه ، فبعث إليهم مالك الأشتر وجعله أميرا عليهم ، وحذره من أن يبدأهم بقتال ، فخرج الأشتر حتى قدم على القوم ، فاتبع ما أمره به علي ( عليه السلام ) وكفَّ عن القتال حتى إذا جاء المساء حمل عليهم أبو الأعور السلمي ، فثبتوا له واضطربوا ساعة ، ثم خرج هاشم بن عتبة في خيل ورجال ، وخرج إليهم أبو الأعور ، فاقتتلوا يومهم ذلك ، فصبر القوم بعضهم لبعض ، ثم انصرفوا .
غلبة أصحاب معاوية على الماء :
وكان أصحاب معاوية قد غلبوا على الماء ، وكان في نيتهم أن يمنعوه عن علي وأصحابه حتى يموتوا عطشاً ـ على زعمهم ـ وقد أشار ابن العاص على معاوية أن لا يفعل ذلك ، لأن ابن أبي طالب لن يظمأ وفي يده أعنة الخيل حتى يشرب أو يموت ـ في حديث طويل ـ فأبى معاوية ذلك .
---------------------------
(1) صفين 148 .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 90 _
غلبة علي على الماء :
وفي صبيحة اليوم التالي نهض الأشعث بن قيس في اثني عشر ألف ، وتبعه الأشتر بخيله ورجاله ثم كّبر الأشعث وكبّر الأشتر ، ثم حملا ، فما ثار الغبار حتى انهزم أهل الشام ، وكان قد قتل من أصحاب معاوية أبطال لا يستهان بهم ، وغلب أصحاب علي على الماء .
وقال عمرو بن العاص لمعاوية : ما ظنك بالقوم إن منعوك الماء اليوم كما منعتهم أمس ، أتُراكَ تضاربهم عليه كما ضاربوك عليه ، وما أغنى أن تكشف لهم السوءة ؟ فقال : دع عنك ما مضى منه ، ما ظنك بعلي ؟ قال : ظني به أنه لا يستَحل منك ما استحلَلتَ منه ، وأن الذي جاء له غير الماء ، فقال له معاوية قولاً أغضبه ، فردّ عليه ابن العاص شعراً ، جاء فيه :
أمـرتـك أمـراً iiفـسخفته وخـالفني ابـن أبي سَرَحَة فكيف رأيت كباش iiالعراق ألـم ينطحوا جمعنا iiنطحَةَ فـإن يـنطحونا غداً iiمثلها نـكن كـالزبيري أو iiطلحَة وقد شرب القوم ماء iiالفرات وقلّدَك الأشتر الفضحة (1) |
وحين غلب علي أهل الشام وطردهم عن الماء بعث إلى معاوية : ( إنا لا نكافيك بصنعك ، هلّم إلى الماء فنحن وأنتم فيه سواء ) ، فأخذ كل واحد من الفريقين بالشريعة التي تليه ، وقال علي ( عليه السلام ) يومذاك لأصحابه : أيها الناس ، إن الخطب أعظم من منع الماء
(2) .
عدد الجيشين :
واختلف في عدد الجيشين ، والمتفق عليه ـ كما يقول المسعودي ـ أن عدة جيش علي ( عليه السلام ) تسعون ألفاً ، وأن عدة جيش معاوية خمسة وثمانون ألفاً ، بينما يذهب البعض إلى أن كلاً من الجيشين قارب المائة والخمسين ألفاً .
---------------------------
(1) الأبيات وما قبلها في صفين ـ 186 .
(2) صفين ـ 193 .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 91 _
هذا وقد بقيت الحرب فاترةً بين الطرفين مدة ثلاثة أشهر تقريباً ، أي من أواخر شهر شوال حتى انقضاء المحرم سنة 37 للهجرة .
وكان علي ( عليه السلام ) في تلك الفترة قد أمهل معاوية ، وأقام الحجة عليه ودعاه إلى الكف عن بغيه ، كما أن القُراءَ من الطرفين كانوا يحجزون بينهما ويحولون دون وقوع الحرب ويدعون إلى وحدة الكلمة دون جدوى ، ويظهر أن تلك المحاجزة استفاد منها معاوية في تقوية موقفه ، ولما كان آخر يوم من المحرم قبل غروب الشمس ، بعث علي إلى أهل الشام : إني قد احتججت عليكم بكتاب الله ، ودعوتكم إليه ، وإني قد نبذت إليكم على سواء ، إن الله لا يهدي كيد الخائنين ، فلم يردُّوا عليه جواباً إلا قولهم : ( السيف بيننا وبينك ، أو يهلك الأعجز منا )
(1) .
خطبة علي ( عليه السلام ) :
وخطب علي ( عليه السلام) في ذلك اليوم خطبةً جاء فيها : نحن أهل بيت الرحمة ، وقولنا الصدق ، وفعلنا القصد ، ومِنّا خاتَمُ النبيين ، وفينا قادة الإسلام ، وفينا حَمَلة الكتاب آلا إنا ندعوكم إلى الله وإلى رسوله وإلى جهاد عدوه ، والشدة في أمره ، وابتغاء مرضاته ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحج البيت . . إلى أن قال : ألا وأن أعجب العجائب أن معاوية بن أبي سفيان الأموي ، وعمرو بن العاص السهمي أصبحا يحرّضان الناس على طلب الدين بزعمهما ، ولقد علمتم أني لم أخالف رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قط ، ولم أعصِه في أمر ، أقيه بنفسي في المواطن التي ينكِصُ فيها الأبطال وترعُدُ فيها الفرائص ، بنجدةٍ أكرمني الله بها وله الحمد ، ولقد قُبِض رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وإن رأسه لفي حجري ، ولقد وَليتُ غسله بيدي وحدي ، تُقَلبُه الملائكة المقربون معي ، وأيم الله ما اختلفت أمة قط بعد نبيها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها إلا ما شاء الله .
---------------------------
(1) مروج الذهب 2 | 377 .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 92 _
فنادى عمار بن ياسر بالناس : أما أمير المؤمنين فقد أعلمكم أن الأمة لم تستقم عليه أولاً. وأنها لن تستقيم عليه آخرا ! فتفرّقَ الناس وقد نفذت أبصارهم في قتال عدوهم ، فتأهبوا واستعدوا ، ووثبوا إلى رماحهم وسيوفهم ونبالهم يُصلحونها ، وخرج ( عليه السلام ) يُعبّىءُ الناس ليلته تلك كلها حتى أصبح ، وعقد الألوية وأمر الأمراء وكّتب الكتائب ، وبعث إلى أهل الشام منادياً نادى فيهم : اغدوا إلى مَصَافّكم ! فضج أهل الشام واستعدوا .
خطبة عبد الله بن بُديل :
وقام عبد الله خطيباً في أصحاب علي فقال : ألا إن معاوية إدعى ما ليس له ، ونازع الأمر أهله ومن ليس مثله ، وجادَلَ بالباطل لِيدحض به الحق ، وصال عليكم بالأعراب والأحزاب ، وزيّنَ لهم الضلالة ، وزرع في نفوسهم حُبَّ الفتنة ، ولبسَ عليهم الأمور ، وزادهم رجساً إلى رجسهم ، وأنتم والله على نور وبرهان مبين ، قَاتِلوا الطُغاة الجُفاة ، قاتِلوهم ولا تخشوهم ، وكيف تخشونهم وفي أيديكم كتاب من ربكم ظاهر مبين . . إلى أن قال : لقد قاتَلـتُهُم مع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والله ما هم في هذه بأزكى ولا أتقى ولا أبرَّ ، إنهضوا إلى عدو الله وعدوكم .
خطبة سعيد بن قيس :
قام في الناس فقال : إن أصحاب محمد المصطفين الأخيار معنا وفي حيزنا . . إلى أن قال : وإنما رئيسنا ابن عم نبينا ، بَدريٌ صُدُقٌ ، صلى صغيراً وجاهد مع نبيكم كبيراً ، ومعاوية طليق من وثاق الإسار بن طليق ، ألا وإنه أغرى جفاةً فأوردهم النار ، وأوردهم العار ، والله محلٌ بهم الذل والصَغَار .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 93 _
خطبةُ ابن التيّهان :
وأقبل أبو الهيثم بن التيهان ، وكان من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بدرياً ، نقيباً ، عَقبيّاً ، يُسوي صفوف أهل العراق ويقول : يا معشر أهل العراق ، انه ليس بينكم وبين الفتح في العاجل والجنة في الآجل إلا ساعة من النهار ، فأرسوا أقدامكم وسووا صفوفكم ، وأعيروا ربكم جماجمكم ، واستعينوا بالله إلهِكم ، وجاهدوا عدو الله وعدوكم ، واقتلوهم قَتَلهم الله وأبادهم ، واصبروا فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين .
مالك الأشتر يشيد بالإمام علي ( عليه السلام ) :
وقام مالك الأشتر ( رضي الله عنه ) يخطب الناس وهو يومئذٍ على فرس أدهم مثل حلك الغراب ، فقال : الحمد لله الذي خلق السموات العلى ، والرحمان على العرش استوى . . إلى أن قال : معنا ابن عم نبينا ، وسيف من سيوف الله عليُّ بن أبي طالب ، صلى مع رسول الله ، لم يسبقه إلى الصلاة ذَكَرٌ حتى كان شيخاً ، لم تكن له صَبوَة ، ولا نَبوَة ، ولا هفوَة ولا سَقطة ، فقيهٌ في دين الله تعالى ، عالم بحدوده ، ذو رأيٍ أصيل وصبرٍ جميل ، وعَفَافٍ قديم ، فاتقوا الله وعليكم بالعزم والجد ، واعلموا أنكم على الحق ، وأن القوم على الباطل ، وإنما تقاتلون معاوية وأنتم مع البدريين قريب من مائة بدري سوى من حولكم من أصحاب محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أكثر ما معكم رايات قد كانت مع رسول الله ، ومع معاوية رايات قد كانت مع المشركين على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فما يَشُكُّ في قتال هؤلاء إلا من كان ميت القلب ، أنتم على إحدى الحُسنيين إما الفتح وإما الشهادة ، عصمنا الله وإياكم بما عصم .
مساومة عمرو لمعاوية :
وطلب معاوية إلى عمرو بن العاص أن يُسوي صفوف أهل الشام ، فقال له عمرو : على إن لي حكمي إن قتلَ الله ابنَ أبي طالب ؛ واستوثقت لك البلاد .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 94 _
فقال : أليس حكمك في مصر ؟ فقال : وهل مصر تكون لي عِوضاً عن الجنة ، وقتل ابن أبي طالب ثمناً لعذاب النار ؟ ! ( الذي لا يفتَرّ عنهم وهم فيه مُبلِسون ) ، فقال معاوية : إن لك حكمك أبا عبد الله إن قُتِل ابن أبي طالب ، رويداً لا يسمع أهل الشام كلامك .
فقام عمرو فقال : معاشر أهل الشام ، سووا صفوفكم قَصّ الشارِب ، وأعيرونا جماجمكم ساعة ، فقد بلغ الحق مقطعه ، فلم يبق إلا ظالم ، أو مظلوم . . ! يقاتلون طمعاً في الحكم وقام يزيد بن قيس الأرحبي خطيباً يحرض أهل العراق ، فقال : إن المسلم السليم من سلم دينه ورأيه ، وإن هؤلاء القوم ـ والله ـ ما إن يقاتلوننا على إقامة دين رأونا ضيعناه ، ولا على إحياء حق رأونا أمتناه ، ولا يقاتلوننا إلا على هذه الدنيا ليكونوا فيها جبابرةً وملوكاً ، ولو ظهروا عليكم ـ لا أراهم الله ظهوراً ولا سروراً ـ إذن لولِيكم مثل سعيد والوليد وعبد الله بن عامر السفيه ، يُحدث أحدهم في مجلسه بذَيت وذَيت ويأخذ مال الله ويقول : لا إثم عليّ فيه ! فكأنما أعطي تراثه من أبيه ، كيف ؟ إنما هو مال الله أفاءه الله علينا بأسيافنا ورماحنا ، قاتلوا عباد الله ـ القوم الظالمين الحاكمين بغير ما أنزل الله ، ولا تأخذكم فيهم لومةُ لائم ، إنهم إن يَظهروا عليكم يُفسدوا عليكم دِينكم ودُنياكم ، وهم من قد عرفتم وجرّبتم ، والله ما أرادوا باجتماعهم عليكم إلا شرّاً ، وأستغفر الله العظيم لي ولكم .
عمرو بن العاص يرتجز :
وارتجز عمرو بن العاص موجّهاً كلامه لعلي ( عليه السلام ) :
لا تـأمَنّنا بعدها أبا iiحَسن إنا نُمِرُّ الأمر إمرارَ الرَسَن |
خـذهـا إليـك واعلمـن أبـا حسـن فأجابه شاعر من أهل العراق :
ألا احذروا في حربكم أبا حسن لـيثاً أبا شبلين محذوراً iiفَطِنْ يـدقكم دق المهاريس iiالطحن لـتُغبَنَن يـا جـاهلاً أي iiغَبَنْ |
حتـى تعـضَّ الكـف أو تقـرع سِـنْ .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 95 _
بداية الحرب
من عادة علي ( عليه السلام ) عند الحرب أن يدعو ببغلةٍ يركبها ، فلما أوشكت الحرب أن تقع في صفين قال : إإتوني بفرس ، فأتي بفرس له ذَنُوب ، أدهم يُقَادَ بشِنطَيَن ، يبحث الأرض بيديه جميعاً ، له حَمحَمَةٌ وصهيل فركبه وقال : سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين ، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ،
وكان ( عليه السلام ) إذا سار إلى قتال ذكر إسم الله ثم يستقبل القبلة ويرفع يديه إلى السماء ويقول : ( اللهم إليك نُقِلَتِ الأقدام ، وأتعبت الأبدان ، وأفضِتِ القلوب ، ورُفِعَتِ الأيدي وشخَصَتِ الأبصار ، ربنا إفتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين ) ، ثم يقول : سيروا على بركة الله ، ثم يقول : الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله ، الله أكبر ، يا الله يا أحد يا صمد ، يا ربَّ محمد ، أكفف عنا بأس الظالمين .
ويُروى عنه ( عليه السلام ) : ما كان في قتال إلا ونادى : ( يا كهيعص ) ، وكان شعاره في الحرب ، الله أكبر ، ثم يحملُ فيوردُ ـ والله ـ من إتّبعه ومن حادّهُ حياض الموت
(1) .
---------------------------
(1) ـ شرح النهج 5 | 175 ـ 177 .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 96 _
دعاؤه يوم صفين
أما في صفين ، فكان له دعاء آخر يرويه زيد بن وهب ، قال : لما خرج علي ( عليه السلام ) إليهم غداة ذلك اليوم فاستقبلوه ، رفع يديه إلى السماء وقال : ( اللهم ربَّ هذا السقف المحفوظ المكفوف الذي جعلته محيطاً بالليل والنهار ، وجعلت فيه مجرى الشمس والقمر ، ومنازل الكواكب والنجوم ، وجعلت سكانه سبطاً من الملائكة لا يسأمون العبادة ، ورب هذه الأرض التي جعلتها قراراً للأنام والهوام والأنعام وما لا يحصى مما يُرى ولا يُرى من خلقك العظيم ورب الفُلك التي تجري في البحر المحيط بما ينفع الناس ، ورب السحاب المسخر بين السماء والأرض ، ورب البحر المسجور المحيط بالعالمين ، ورب الجبال الرواسي التي جعلتها للأرض أوتاداً ، وللخلق متاعاً ، إن أظهرتنا على عدونا فجنّبنا البغي وسدّدنا للحق ، وان أظهرتهم علينا فارزقنا الشهادة ، واعصم بقية أصحابي من الفتنة .
وصف علي ( عليه السلام )
وكان ( عليه السلام ) رجلاً ربعةً ، أدعج العينين ، كأن وجهه القمرُ ليلة البدر حسناً ، ضخم البطن ، عريض المسربة شئن الكفين ضخم الكُسور ، كأن عنقه إبريق فضة ، أصلع ، من خلفه شعر صفيف ، لمنكبه مشاش كمشاش الأسد الضاري ، إذا مشى تكفأ ومار به جسده ، ولظهره سنام كسنام الثور ، لا يبين عضده من ساعده ، قد أدمِجَت إدماجاً ، لم يمسك بذراع رجلٍ قط إلا أمسك بنفسه فلم يستطع أن يتنفس ، ولونه إلى سمرة ما ، وهو أذلف الأنف ، إذا مشى إلى الحرب هرول ، قد أيده الله في حروبه بالنصر والظفر .
علي يزحف بجيشه :
وكان على ميمنته يومئذٍ عبد الله بن بُديل الخزاعي ، وعلى ميسرته عبد الله بن العباس وقُراء العراق مع ثلاثة نفر هم ، عمار بن ياسر ، وقيس بن سعد بن عبادة ، وعبد الله بن بُديل ، والناس على راياتهم ومراكزهم ، وعلي ( عليه السلام ) في القلب في أهل المدينة ، جمهورهم الأنصار ومعهم من خزاعة وكنانة عدد حسن .
فلما راوه قد أقبل ، تقدموا إليه يزحفون بجموعهم
(1) .
---------------------------
(1) نفس المصدر ، وفي صفين | 232 وما بعدها .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 97_
جيش معاوية :
أما معاوية فرفع قبةً عظيمة ، وألقى عليها الكرابيس وجلس تحتها ، واجتمع إليه أهل الشام ، فعبأ خيله ، وعقد ألويته وأمر الأمراء وكتب الكتائب ، وأحاط به أهل حمص في راياتهم وعليهم أبو الأعور السلمي ، وأهل الأردن في راياتهم ، وعليهم عمرو بن العاص ، وأهل قنسرين ، وعليهم زفر بن الحارث الكلابي ، وأهل دمشق ـ وهم القلب ـ وعليهم الضحاك بن قيس الفهري ، فأطافوا كلهم بمعاوية .
المبارزة للقتال :
كان يوم السابع من شهر صفر يوماً عظيماً في صفين لما لقي فيه الطرفان من أهوال شديدة.
وأول فارسين التقيا في ذلك اليوم هما حُجر بن عدي الكندي ، الملقّب بحُجر الخير صاحب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وحجر الملقب بحجر الشر ، وهو ابن عمه ، وكلاهما من كندة وكان من أصحاب معاوية ، فاطّعَنا برمحيهما ، وخرج رجل من بني أسد يقال له خزيمة ، من عسكر معاوية ، فضرب حجر بن عدي برمحه ، فحمل أصحاب علي ( عليه السلام ) فقتلوا خزيمة الأسدي ونجا حجر الشر هارباً فالتحق بصف معاوية ، ثم برز حجر الشر ثانيةً ، فبرز إليه الحكم بن أزهر ـ من أهل العراق ـ فقتله حجر الشر فخرج إليه رفاعة بن ظاهر الحميري من صف العراق فقتله ، وعاد إلى أصحابه يقول : الحمد لله الذي قتل حجر الشر بالحكم بن أزهر .
علي ( عليه السلام ) يدعو إلى كتاب الله ، ومعاوية يرفض :
ثم أن علياً ( عليه السلام ) دعا أصحابه إلى أن يذهب واحد منهم بمصحف كان في يده إلى أهل الشام ، فقال : من يذهب إليهم فيدعوهم إلى ما في هذا المصحف ؟ فسكت الناس ، وأقبل فتىً إسمه سعيد فقال : أنا صاحبه : فأعاد عليّ القول ثانيةً فسكت الناس ؛ وتقدم الفتى فقال : أنا صاحبه. فسلّمه إليه فقبضه بيده ، ثم أتاهم فناشدهم الله ودعاهم إلى ما فيه ، فقتلوه !
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 98 _
الإمام علي يأمر أصحابه بالهجوم :
فقال علي ( عليه السلام ) لعبد الله بن بديل : إحمل عليهم الآن ؟ فحمل عليهم بمن معه من أهل الميمنة وعليه يومئذٍ سيفان ودرعان ، فجعل يضرب بسيفه قدماً ويقول :
لـم يبق غير الصبر iiوالتوكل والترس والرمح وسيفٍ iiمصقَل ثـم التمشي في الرعيل الأول مشي الجمال في حياض المنهل |
فلم يزل يحمل حتى انتهى إلى معاوية ومن معه ممن بايعه على الموت ، فأمرهم أن يصمدوا لعبد الله بن بديل ، وبعث إلى حبيب بن سلمة الفهري وهو في الميسرة أن يحمل عليه بجميع من معه ، واختلط الناس ، واصطدم الفيلقان ، ميمنةُ العراق وميسرة أهل الشام ، وأقبل عبد الله يضرب الناس بسيفه قِدماً حتى أزال معاوية عن موقفه جعل ينادي : يا لثارات عثمان ـ وهو يعني أخاً له قد قُتل ـ وظن معاوية وأصحابه أنه يعني عثمان بن عفان ، وتراجع معاوية عن مكانه القهقري ، وأشفق على نفسه ، وأرسل إلى حبيب بن مسلمة مرة ثانية وثالثة يستنجده ويستصرخه ، ويحمل حبيب حملةً شديدة بميسرة معاوية على ميمنة العراق فيكشفها حتى لم يبق مع ابن بُديل إلا نحو مائة إنسان من القراء ، فاستند بعضهم إلى بعض يحمون أنفسهم ، ولجَجَ ابن بُديل في الناس وصمم على قتل معاوية ، وجعل يطلب موقفه ويصمد نحوه حتى انتهى اليه ومع معاوية عبد الله بن عامر واقف ، فنادى معاوية في الناس : ويلكم ، الصخر والحجارة إذا عجزتم عن السلاح ! فرضخه الناس بالصخر والحجارة حتى أثخنوه ، فسقط فأقبلوا عليه بسيوفهم فقلتوه .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 99 _
وجاء معاوية وعبد الله بن عامر حتى وقفا عليه ، فأما عبد الله بن عامر فألقى عمامَتهُ على وجهه وترحمَ عليه وكان له أخاً صديقاً من قبل ، فقال معاوية : إكشف عن وجهه ؟ فقال : لا والله لا يُمَثلُ فيه وفيَّ روح .
فقال معاوية : إكشف عن وجهه فإنا لا نُمثل فيه ، قد وهبناه لك ، فكشف ابن عامر عن وجهه ، فقال معاوية : هذا كبش القوم ورب الكعبة ، اللهم أظفرني بالأشتر النُخعي والأشعث الكندي ، والله ما مَثلُ هذا إلا كما قال الشاعر :
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضّها وإن شـمّرَت عـن ساقها الحرب شمّرا ويـحمي إذا مـا الـموت كـان iiلـقاؤه قِـدى الـشِبر يـحمي الأنف إن iiيتأخرا كـلـيث هـزبر كـان يـحمي ذمـاره رمـته الـمنايا قـصدها فـتفطرا (1) ii |
الإمام علي ( عليه السلام ) يرّد الكتائب :
بعد مقتل ابن بديل ، إستعلى أهل الشام على أهل العراق يومئذٍ ، وانكشف من قِبلِ الميمنة وأجفلوا إجفالاً شديداً ، فأمر علي ( عليه السلام ) سهل بن حُنيف ، فاستقدم من كان معه ليرفِدَ الميمنة ويعضدها ، فاستقبلتهم جموع أهل الشام في خيل عظيمة ، فحملت عليهم ، فألحقتهم بالميمنة ، وكانت ميمنة أهل العراق متصلةً بموقف علي ( عليه السلام ) في القلب في أهل اليمن ، فلما انكشفوا انتهت الهزيمة إلى علي ( عليه السلام ) ، فانصرف يمشي نحو الميسرة ، فانكشفت مضر عن الميسرة أيضاً ، فلم يبق مع علي من أهل العراق إلا ربيعة وحدها في الميسرة .
قال زيد بن وهب : لقد مرّ علي ( عليه السلام ) يومئذٍ ومعه بنوه نحو الميسرة ومعه ربيعة وحدها ، وإني لأرى النبل يمر بين عاتقه ومنكبيه ، وما من بَنيهِ إلا من يقيه بنفسه ، فيكره علي ( عليه السلام ) ذلك ، فيتقدم عليه ويحول بينه وبين أهل الشام ، ويأخذه بيده إذا فعل ذلك ، فيلقيه من ورائه ؛ ويُبصر به أحمر مولى بني أمية ، وكان شجاعاً ، فقال عليٌّ ( عليه السلام ) : ورب الكعبة قتلني الله إن لم أقتلك ! فأقبل نحوه ، فخرج إليه كيسان مولى علي ( عليه السلام ) ، فاختلفا ضربتين ، فقتله أحمر ، وخالط علياً ليضربه بالسيف ، وينتهزه علي فتقع يده في جيب درعه ، فجذبه عن فرسه فحمله على عاتقه ، فوالله لكأني أنظر إلى رجلي أحمر تختلفان على عنق علي ، ثم ضرب به الأرض فكسر منكبيه وعضديه ، وشد إبنا علي محمد وحسينٌ فضرباه بأسيافهما حتى برد فكأني أنظر إلى علي قائماً وشبلاه يضربان الرجل حتى إذا أتيا عليه ، أقبلا إلى أبيهما والحسن قائم معه ، فقال له علي : يا بني ، ما منعك أن تفعل كما فعل أخواك ؟ فقال كفياني يا أمير المؤمنين .
---------------------------
(1) شرح النهج 5 | 195 وما يليها .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 100 _
قال : ثم أن أهل الشام دنوا منه يريدونه ! والله ما يزيدهم قربهم منه ودنوهم إليه سرعةً في مشيته ، فقال له الحسن ( عليه االسلام ) : ما ضرّك لو أسرعت حتى تنتهي إلى الذين صبروا لعدوك من أصحابك ؟ فقال علي ( عليه السلام ) : يا بُنَيّ ، إن لأبيك يوماً لن يعدوه ولا يبطىء به عن السعي ، ولا يقربه إليه الوقوف ، إن أباك لا يبالي إن وقع على الموت أو وقع الموت عليه .
لا هروب من القدر !!
قال أبو إسحاق : وخرج علي ( عليه السلام ) يوماً من أيام صفين وفي يده رُمح صغير ، فمرَّ على سعيد بن قيس الهمداني ، فقال له سعيد : أما تخشى يا أمير المؤمنين أن يغتالك أحد وأنت قرب عدوك ؟ ! فقال علي ( عليه السلام ) إنه ليس من أحد إلا وعليه من الله حَفَظَةٌ يحفوظونه من أن يتردى في قَلِيب
(1) ، أو يخِرّ عليه حائط ، أو تصيبه آفةٌ ، فإذا جاء القدر ، خلّوا بينَه وبينَه .
شجاعة الأشتر وتحريضه :
وكان بيد الأشتر يومئذٍ صفيحةٌ يمانيةٌ ، إذا طأطأها خِلتَ فيها ماءً ينصَبّ ، وإذا رفعها يكاد يغشي البصر شعاعُها ، ومرّ يضرب الناس بها قِدماً ويقول : الغمـراتُ ، ثم ينجـلينـا .
---------------------------
(1) القليب : البئر .
عمار بن ياسر ( رضي الله عنه )
_ 101 _
فبصُرَ به الحارث بن جمهان الجعفي والأشتر مقنعٌ في الحديد ، فلم يعرفه ، فدنا منه وقال له : جزاك الله منذ اليوم عن أمير المؤمنين وعن جماعة المسلمين خيراً ، فعرفه الأشتر ، فقال : يا بن جمهان ، أمثلك يتخلفُ عن مثل موطني هذا ؟ فتأمله أبن جمهان فعرفه ـ وكان الأشتر أعظم الرجال وأطولهم إلا أن في لحمه خفة قليلة ـ فقال له : جُعِلتُ فداك والله ما علمت مكانك حتى الساعة ، ولا والله لا أفارقك حتى أموت ، وخطب الأشتر محرضاً أصحابه فقال : عَضّوا على النواجذ من الأضراس ، واستقبلوا القوم بهَامِكم ، فإن الفِرار من الزحف فيه ذَهاب العز والغلبة على الفيء وذل الحياة والممات ، وعار الدنيا والآخرة ، ثم حمل على صفوف أهل الشام حتى كشفهم فألحقهم بمضارب معاوية ، وذلك بين العصر والمغرب .
قتال بجيلة :
وكانت راية بجيلة في صفين مع أهل العراق ، كانت في ( أحمس )
(1) ، مع أبي شداد قيس بن المكشوح الأنماري ، قالت له بجيلة : خذ رايتنا ، فقال : غيري خير لكم مني ! قالوا : لا نريد غيرك ، قال : فوالله لئن أعطيتمونيها لا أنتهي بكم دون صاحب الترس المذهب ـ وهو عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ـ وكان على رأس معاوية في خيل عظيمة من أصحاب معاوية ، فقالوا : إصنع ما شئت ، فأخذها ثم زحف بها وهم حوله يضربون الناس حتى انتهى إلى صاحب الترس ، فاقتتل الناس هناك قتالاً شديداً ، وشد أبو شداد بسيفه نحو صاحب الترس ، فتعرض له رومي من دونه لمعاوية فضرب قدَمَ أبي شداد فقطعها وضرب أبو شداد ذلك الرومي فقتله ، وأسرعت إليه الأسِنة ، فقتل ، فأخذ الراية بعده عبد الله بن قلع الأحمسي وارتجز وقال :
---------------------------
(1) اسم القبيلة .