إلتحام الجيشين
  عند ذلك رفع علي ( عليه السلام ) رايته إلى ابنه محمّد بنِ الحنفية ، وقال تقدم يا بني فتقدم محمدٌّ ، ثم وقف بالراية لا يبرح. فصاح به علي ( عليه السلام ) اقتحم ، لا أم لك فحمل محمد الراية فطعن بها في أصحاب الجمل طعناً منكراً وعلي ينظر ، فأعجبه ما رأى من فعاله ، فجعل يقول :
  إطعـن بهـا طعـنَ أبيـك تُحمـدِ ، لا خيـر فـي الحـرب إذا لـم تُـوقـدِ بـالمشـرفي والقنـا المسـدّدِ فقاتل محمد بن الحنفية ساعة بالراية ثم رجع ، وضرب علي ( عليه السلام ) بيده إلى سيفه فاستله ، ثم حمل على القوم فضرب فيهم يميناً وشمالاً ، ثم رجع وقد انحنى سيفه ، فجعل يسويه بركبته ، فقال له أصحابه : نحن نكفيك ذلك يا أمير المؤمنين ! فلم يجب أحداً حتى سواه ، ثم حمل ثانية ً حتى اختلط بهم ، فجعل يضرب فيهم قِدماً حتى انحنى سيفه ، ثم رجع إلى أصحابه ووقف يُسوي السيف بركبته وهو يقول : واللهِ ما أريد بذلك إلا وجه الله والدار الآخرة ، ثم التفت إلى ابنه محمد بن الحنيفة وقال : هكذا إصنع يا بني ! ثم حملت ميمنةُ أهل البصرة على ميسرة أهل الكوفة كفشفوهم إلا قليلاً منهم ، وحملت ميمنة أهل الكوفة على ميسرة أهل البصرة فأزالوهم عن مواقفهم ، وثبت الناس بعضهم لبعض فاقتتلوا ساعةً من النهار وتقدم مخنف الأزدي من أصحاب علي وقاتل حتى جرح ، وتقدم أخوه الصعب بن سليم فقاتل حتى قتل رحمه الله ثم خرج أخوه الثالث عبيد الله بن سليم فقُتل ، ثم تقدم زيد بن صوحان العبدي من أصحاب علي فقاتل حتى قتل فأخذ الراية أخوه صعصعة فقاتل فجرح ، وأخذها أبو عبيدة العبدي وكان من خيار أصحاب علي فقاتل فقُتل ، فأخذ الراية عبد الله بن الرقية فقتل ، فأخذها رشيد بن سميّ فقتل .

عمار بن ياسر ( رضي الله عنه ) _ 43 _

   ثم تقدم رجل من أصحاب الجمل يقال له عبد الله بن سرّي ، فجعل يرتجز ويقول :
يارب إني طالبٌ أبا iiالحَسن      ذاك الذي يُعرف حقّاً iiبالفِتَن
ذاك الذي نطلبه على الإحن      وبـغضه شريعةٌ من iiالسنن
  فخرج إليه علي رضي الله عنه وهو يرتجز ويقول :
قـد كـنتَ ترميه بإيثار iiالفِتَن      قِـدماً  وتـطلبه بأوتار iiالأحن
والـيوم  تـلقاه مـلياً iiفأعلمن      بالطعن والضرب عليها بالسنن
  ثم شدّ عليه عليٌّ بالسيف ، فضربه ضربةً هتك بها عاتقه ، فسقط قتيلاً ، فوقف علي ( عليه السلام ) ـ عليه ـ ثم قال : قد رأيت أبا الحسن ، فكيف وجدته ؟ ثم تقدمت بنو ضبّة فأحدقوا بالجمل وجعلوا يرتجزون بالأشعار من كل ناحية ورجل منهم قد أخذ بخطام الجمل وفي يده سيف كأنه مخراق ، وهو يرتجز ويقول :
نحن  بنو ضبة أصحاب iiالجمل      نـنازل  الموت إذا الموتُ iiنزل
ننعى  ابن عفان بأطراف iiالأسل      أضرب بالسيف إذا الرمح فصَل
  إن عليـاً يعد من خيـر البـدل فبدر إليه زيد بن لقيط الشيباني من أصحاب عليّ وهو يقول :
يا قائل الزور من أصحاب الجمل      نـحن قـتلنا نـعثلاً فـيمن iiقتل

عمار بن ياسر ( رضي الله عنه ) _ 44 _

  إلى آخرها . . . ثم حمل عليه الشيباني فقتله ، وتقدم رجل من بني ضُبة يقال له عاصم بن الدّلف وأخذ بخطام الجمل ، وجعل يرتجز ويقول أبياتاً مطلعها .
نـحن بـنو ضبة أعداءُ iiعلي      ذاك الذي يُعرف فيكم بالوصي
  فخرج إليه المنذر بن حفصة التميمي من أصحاب علي ( عليه السلام ) وهو يقول :
نـحن مـطيعون جـميعاً iiلـعلي      إذ أنت ساعٍ في الوغى سعي شقي
إن الـغوي تـابع أمـر iiالـغوي      قـد خالفت أمر النبي زوجُ iiالنبي
  ثم حمل على الضبي فقتله ، ثم جال في ميدان الحرب وهو يرتجز ويقول أبياتاً مطلعها :
أسامع أنت مطيع أم عصي      وتاركٌ ما أنت فيه أم iiغوي
  فخرج إليه وكيع بن المؤمل الضبي من أصحاب الجمل وهو يقول :
أسـامع أنـت مـطيع iiلعلي      وتارك في الحق أزواج النبي
إنـي ولما ذقت حد iiالمشرفي      أعـرف يوماً ليس فيه iiبغبي

عمار بن ياسر ( رضي الله عنه ) _ 45 _

  فحمل عليه صاحب عليٍّ فقتله ، وتقدم على وكيعٍ الأشتر حتى وقف بين الجمعين وهو يزأر كالأسد عند فريسته ، ويقول هو في ذلك شعراً ، فخرج إليه من أصحاب الجمل رجل يقال له عامر بن شداد الأزدي ، وأجابه على شعره ، فحمل عليه الأشتر فقتله ، ثم نادى فلم يجبه أحد ، فرجع .
  محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر ثم خرج محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر ، حتى وقفا قُدام الجمل ، وتبعهما الأشتر ووقف معهما ، فقال رجل من أصحاب الجمل : من أنتم ايها الرهط ؟ قال : نحن ممن لا تنكرونه ، وأعلنوا بأسمائهم ، ودعوا إلى البراز ، فخرج عثمان الضبي وهو ينشد شعراً ، فخرج إليه عمار بن ياسر فأجابه على شعره ، ثم حمل عليه عمار فقتله .
  وذهب كعب بن سور الأزدي ليخرج إلى عمار ، فسبقه إلى ذلك غلام من الأزد أمرد ، فخرج وهو يرتجز ويقول شعراً ، فذهب عمار ليبرز إليه ، فسبقه إلى ذلك أبو زينب الأزدي فأجابه إلى شعره ، ثم حمل عليه أبو زينب فقتله ورجع حتى وقف بين يدي علي ( عليه السلام ) .
  وخرج عمرو بن يثربي من أصحاب الجمل حتى وقف بين الصَفَيّن قريباً من الجمل ، ثم دعا إلى البراز وسأل النزال ، فخرج إليه علياء بن الهيثم من أصحاب علي ( عليه السلام ) فشدّ عليه عمرو فقتله ، ثم طلب المبارزة فلم يخرج إليه أحد ، فجعل يجول في ميدان الحرب وهو يرتجز ويقول شعراً ، ثم جال وطلب البراز فتحاماه الناس واتقوا بأسه ، فبدر إليه عمار بن ياسر وهو يجاوبه على شعره والتقوا بضربتين ، فبدره عمار بضربة فأرداه عن فرسه ، ثم نزل إليه عمار سريعاً فأخذ برجله وجعل يجره حتى ألقاه بين يدي علي ( عليه السلام ) ، فقال علي : اضرب عنقه ! فقال عمرو : يا أمير المؤمنين أستبقني حتى أقتل لك منهم كما قتلتُ منكم ، فقال علي : يا عدو الله ! أبعد ثلاثةٍ من خيار أصحابي أستبقيك ! لا كان ذلك أبداً ! قال : فأدنني حتى أكلمك في أذنك بشيء ، فقال علي : أنت رجل متمرد ، وقد أخبرني رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بكل متمرد عليّ : وأنت أحدهم ، فقال عمرو بن يثربي : أما والله لو وصلتُ إليك لقطعتُ أذنك ـ أو قال أنفك ، فقدمه عليٌّ فضرب عنقه بيده صبراً .

عمار بن ياسر ( رضي الله عنه ) _ 46 _

   وخرج أخوه عمير فجعل يرتجز ويقول شعراً ، فخرج علي ( عليه السلام ) وأجابه إلى شعره ، ثم حمل عليه علي فضربه ضربةً على وجهه فرمى بنصف رأسه ، وانفرق علي يريد أصحابه ، فصاح به صائح من ورائه ، فالتفت وإذا بعبد الله بن خلف الخزاعي ـ وهو صاحب منزل عائشة بالبصرة ـ فلما رآه علي عرفه فناداه : ما تشاء يا بن خلف ؟ قال : هل لك في المبارزة ؟ قال علي ( عليه السلام ) : ما أكره ذلك ولكن ويحك يا ابن خلف ! ما راحتك في القتل ، وقد علمت من أنا ؟ فقال عبد الله بن خلف : دعني من مدحك يا ابن أبي طالب وادن مني لترى أينا يقتل صاحبه ! ثم أنشد شعراً ، فأجابه علي ( عليه السلام ) والتقوا للضرب فبادره عبد الله بن خلف بضربة دفعها علي بجحفته ، ثم انحرف عنه علي فضربه ضربةً رمى بيمينه ، ثم ضربه أخرى فأطار قحف رأسه .
ثم رجع عليّ إلى أصحابه ، وخرج مبارز بن عوف الضبي من أصحاب الجمل وجعل يقول شعراً ، قال : فخرج إليه عبد الله بن نهشل من أصحاب علي مجيباً له على شعره ، ثم حمل على الضبي فقتله ، فخرج من بعد الضبي ابن عمه ثور بن عدي وهو ينشد شعراً فخرج إليه محمد بن أبي بكر مجيباً له وهو يقول شعراً. ثم شد عليه محمد بن أبي بكر فضربه ضربةً رمى بيمينه ، ثم ضربه ثانيةً فقتله ، قال : فغضبت عائشة وقالت : ناولوني كفاً من حصباء ، فناولوها فحصبت بها أصحاب علي وقالت : شاهت الوجوه ، فصاح بها رجل من أصحاب علي ( عليه السلام ) ، وقال : يا عائشة ! وما رميت أذ رميت ولكن الشيطان رمى ، ثم جعل يقول شعراً :
قد  جئت يا عيش iiلتعلمينا      وتـنشر  الـبرد iiلتهزمينا
وتقذفي الحصباء جهلاً فينا      فـعن  قليل سوف iiتعلمينا

عمار بن ياسر ( رضي الله عنه ) _ 47 _

مقتل طلحة بن عبيد الله :
  وجعل طلحة ينادي بأعلى صوته : عباد الله الصبر الصبر ! إن بعد الصبر النصر والأجر قال : فنظر إليه مروان بن الحكم فقال لغلام له : ويلك يا غلام ! والله إني لأعلم أنه ما حرّض على قتل عثمان يوم الدار أحد كتحريض طلحة ولا قتله سواه ! ولكن استرني فأنت حر ؛ قال : فستره الغلام ، ورمى مروان بسهم مسموم لطلحة بن عبيد الله فأصابه به ، فسقط طلحة لما به وقد أُغمي عليه ، ثم أفاق فنظر إلى الدم يسيل منه فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، أظن والله أننا عُنينا بهذه الآية ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب ) ثم أقبل على غلامه وقد بلغ منه الجهد ، قال : ويحك يا غلام ؛ اطلب لي مكاناً أدخله فأكون فيه ، فقال الغلام : لا والله لا أدري أين أنطلق بك ! فقال طلحة يا سبحان الله ! والله ما رأيت كاليوم قط ! دم قرشي أضيع من دمي ، وما أظن هذا السهم إلا سهماً أرسله الله ، وكان أمر الله قدراً مقدوراً ، ولم يزل طلحة يقول ذلك حتى مات ، ودفن ، ثم وضع في مكان يقال له السبخة ، ودخل من ذلك على أهل البصرة غم عظيم ، وكذلك على عائشة لأنه ابن عمها ، وجاء الليل فحجز بين الفريقين .
  فلما كان من الغد دنا القوم من بعضهم البعض ، وتقدمت عائشة على جملها عسكر حتى وقفت أمام الناس والناس من ورائها وعن يمينها وشمالها ، قال : وصف علي ( عليه السلام ) أصحابه وعبأهم كالتعبية الأولى ، وعزم القوم على المناجزة وتقدم كعب بن سور الأزدي حتى أخذ بخطام الجمل وجعل يرتجز ويقول :
يا معشر الناس عليكم أمكم      فـإنها  صلاتكم iiوصومكم

عمار بن ياسر ( رضي الله عنه ) _ 48 _

  والـرحمـة العـظمـى الـتي تعمـكـم ، الخ . . . فحمل عليه الأشتر ، فقتله ، وخرج من بعده غلام من الأزد اسمه وائل بن كثير ، فجعل يقول شعراً ، فبرز إليه الأشتر مجيباً له ، ثم حمل عليه الأشتر فقتله ، وخرج من بعده عمرو بن خنفر من أصحاب الجمل وهو يقول شعراً ، ثم حمل عليه الأشتر فقتله وخرج من بعده عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد ؛ فجعل يلعب بسيفه بين يدي عائشة وهو يقول شعراً قال : فبدر إليه الأشتر مجيباً ، ثم حمل عليه فضربه ضربة رمى بيمينه فسقط لما به ، وثناه الأشتر بضربةٍ أخرى فقتله ، ثم جال في ميدان الحرب وهو يقول شعراً ، ثم رجع الأشتر إلى موقفه .
  وصاح رجل من أهل الكوفة : يا معشر المؤمنين ! إذا خرج إليكم رجل من أنصار صاحبة الجمل وقال شيئاً من الشعر فلا تجيبوه بشيء ليستريح إلى إجابتكم له ، ولكن استعملوا فيمن خرج إليكم السيف فإنه أسرع للجواب ، قال : وإذا برجل من أصحاب الجمل يقال له الأسود البختري قد خرج وهو يقول شعراً ، فحمل عليه عمرو بن الحمق الخزاعي فقتله ، وخرج من بعده جابر بن مزيد الأزدي ، فحمل عليه محمد بن أبي بكر فقتله ، وخرج من بعده مجاشع بن عمر التميمي وهو يقول شعراً ، فحمل عليه أصحاب علي حملة ، وأستأمن إلى علي فكان من خيار أصحابه بعد ذلك. وخرج من بعده بشر بن عمرو الضبي وهو يقول شعراً ، فحمل عليه عمار بن ياسر فقتله ، وخرج من بعده حرسة بن ثعلبة الضبي في يده خطام الجمل وهو يقول شعراً ، ثم حمل فجعل يقاتل حتى قطعت يده على خطام الجمل وقتل ، وهكذا حتى قطع على الخطام يومئذٍ ثماني وتسعون يداً ، ونادت عائشة بأعلى صوتها : أيها الناس عليكم بالصبر ، فإنما تصبر الأحرار ، واشتبكت الحرب بين الفريقين ، وصاح الحجاج بن عمرو الأنصاري : يا معاشر الأنصار انه لم ينزل موت قط في جاهلية ولا إسلام إلا مضيتم عليه،

عمار بن ياسر ( رضي الله عنه ) _ 49 _

ولست أراكم اليوم كما أريد وأنا أنشدكم بالله أن تحدثوا ما لم يكن ، إن أخوانكم اليوم قد أبلوا وقاتلوا ، وأن الموت قد نزل فصبراً صبراً حتى يفتح الله عزَّ وجل عليكم ، ثم تقدم الحجاج يضرب بسيفه قدماً ، وتقدم في أثره خزيمة بن ثابت الأنصاري ذو الشهادتين وهو يقول شعراً ، ثم تقدم في أثره شريح بن هاني الحارثي ثم تقدم في إثره هاني بن عروة ، ثم تقدم في أثره زياد بن كعب الهمداني ثم تقدم في أثره مالك بن الحارث الأشتر ، ثم تقدم في أثره عدي بن حاتم الطائي وهو يقول شعراً ، ثم تقدم في أثره رفاعة بن شداد البجلي وهو يقول شعرا ثم تقدم في أثره هاني بن هانئ المذحجي ، ثم تقدم في أثره عمرو بن الحمق الخزاعي وكانوا كلهم ينشدون الشعر حين تقدمهم ، واقتتل القوم قتالاً شديداً لم يسمع بمثله ، وصار الهودج الذي فيه عائشة كأنه القنفذ مما فيه من النبل والسهام ، قال : وجعلت بنو ضبة يأخذون بعر الجمل فيشمونه ويقول بعضهم لبعض : ألا ترون إلى بعر جمل أمنا كأنه المسك الأذفر ، وجعل الأشتر يجول في ميدان الحرب وينادي بأعلى صوته : يا أنصار الجمل ! من يبارزني منكم ؟ قال : فبرز إليه عبد الله بن الزبير وهو يقول : إلى أين يا عدو الله ؟ فأنا أبارزك ! قال : فحمل عليه الأشتر فطعنه طعنة صرعه عن فرسه ، ثم بادر وقعد على صدره ، فجعل عبد الله بن الزبير ينادي من تحت الأشتر في يومه ذلك : إقتلوني ومالكاً واقتلوا مالكاً معي ، وكان الأشتر في يومه صائماً وقد طوى من قبل ذلك بيومين فأدركه الضعف ، فأفلت عبد الله من يده وهو يظن أنه غير ناج منه ، وفي ذلك يقول :
أعائش لولا أنني كنت طاوياً      ثلاثاً لألفيت ابن أختك iiهالكاً

عمار بن ياسر ( رضي الله عنه ) _ 50 _

عقر الجمل :
  قال : واحمرت الأرض بالدماء ، وعُقِر الجمل من ورائه فعج ورغا ، فقال علي ( عليه السلام ) : عرقبوه فإنه شيطان ، ثم التفت إلى محمد بن أبي بكر وقال له : انظر إذا عرقب الجمل فأدرك أختك فوارها ، قال : وبادر عبد الرحمن بن صرد التنوخي إلى سيفه ، فلم يزل يقاتل حتى وصل إلى الجمل فعرقبه من رجليه جميعاً فوقع الجمل لجنبه وضرب بجرانه الأرض ، ورغا رغاءً شديداً ، وبادر عمار بن ياسر فقطع أنساع الهودج بسيفه ، وأقبل علي ( عليه السلام ) على بغلة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقرع الهودج برمحه ، ثم قال : يا عائشة ! أهكذا أمرك رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن تفعلي ؟ فقالت عائشة : قد ظفرت فأحسن. فقال علي ( عليه السلام ) لمحمد بن أبي بكر : شأنك بأختك فلا يدنو منها أحد سواك ، فأدخل محمد يده إلى عائشة فأحتضنها ثم قال أصابك شيء ؟ فقالت : لا ، ما أصابني شيء ، ولكن من أنت ويحك ! فقد مسست مني ما لا يحل لك ؟ فقال محمد : اسكتي فأنا أخوك محمد ، فعلتِ بنفسك ما فعلتِ ، وعصيت ربك وهتكت سترك وابحت حرمتكِ وتعرضت للقتل ، ثم احتملها فأدخلها البصرة وأنزلها في دارعبد الله بن خلف الخزاعي ، فقالت عائشة لأخيها : يا أخي ، أنشدك بالله إلا طلبت لي ابن أختك عبد الله بن الزبير ، فقال لها محمد : ولم تسألين عن عبد الله ؟ فوالله ما سامك أحد سواه ! فقالت عائشة : مهلاً يا أخي فإنه ابن أختك ، وقد كان ما ليس إلى رده سبيل ؛ فأقبل محمد إلى موضع المعركة فإذا هو بعبد الله بن الزبير جريحاً لما به ـ فقال له محمد : اجلس يا مشؤوم أهل بيته ، اجلس لا أجلسك الله ! قال : فجلس ابن الزبير وحمله محمد بين يديه وركب من خلفه ، وجعل يمسكه وهو يميل من الجراح التي به حتى أدخله على عائشة ، فلما نظرت إليه على تلك الحالة بكت ثم قالت لأخيها محمد ! يا أخي ! استأمن له علياً وتمم إحسانك ، فقال لها محمد : لا بارك الله لك فيه ! ثم سار إلى علي وسأله ذلك ، فقال علي : قد آمنته وأمنت جميع الناس .

عمار بن ياسر ( رضي الله عنه ) _ 51 _

بين ابن عباس وعائشة :
  ودعا علي ( عليه السلام ) بعبد الله بن عباس فقال له : اذهب إلى عائشة فقل لها أن ترتحل إلى المدينة كما جاءت ولا تقيم بالبصرة ، فأقبل إلى عائشة فاستأذن عليها ، فأبت أن تأذن له ، فدخل عبد الله بغير إذن ، ثم التفت فإذا راحلةٌ عليها وسائد فأخذ منها وسادةً وطرحها ثم جلس عليها ؛ فقالت عائشة ، يا بن عباس أخطأت السنة ، دخلت منزلي بغير إذني ! فقال ابن عباس : لو كنت في منزلك الذي خلفك فيه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لما دخلت عليك إلا بإذنك ، وذلك المنزل الذي أمرك الله عزَّ وجل أن تقري فيه فخرجت منه عاصيةً لله عزَّ وجلّ ولرسوله محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبعد ، فهذا أمير المؤمنين يأمرك بالإرتحال إلى المدينة فارتحلي ولا تعصي ، فقالت عائشة : رحم الله أمير المؤمنين ! ذاك عمر بن الخطاب ! فقال ابن عباس : وهذا والله أمير المؤمنين وإن رغمت له الأنوف وأربدت له الوجوه ! فقالت عائشة : أبيت ذلك عليكم يا ابن عباس ! فقال ابن عباس : لقد كانت أيامك قصيرة المدة ظاهرة الشؤم بينة النكد ، وما كنت في أيامك إلا كقدر حلب شاة حتى صرت ما تأخذين وما تعطين ولا تأمرين ولا تنهين ، وما كنت إلا كما قال أخو بني أسد :
مـا زال إهداء القصائد iiبيننا      شتم  الصديق وكثرة iiالألقاب
حتى تركت كأن قولك عندهم      فـي كل محتفل طنين iiذباب

عمار بن ياسر ( رضي الله عنه ) _ 52 _

  قال : فبكت عائشة بكاءً شديداً ، ثم قالت : نعم والله أرحل عنكم فما خلق الله بلداً هو أبغض إلي من بلد أنتم به يا بني هاشم ، فقال ابن عباس : ولمَ ذلك ؟ فوالله ما هذا بلاؤنا عندك يا بنت أبي بكر ! فقالت عائشة : وما بلاؤكم عندي با بن عباس ؟ فقال : بلاؤنا عندك أننا جعلناك أم المؤمنين وأنت بنت أم رومان ، وجعلنا أباك صديقاً وهو ابن أبي قحافة ، وبنا سميت أم المؤمنين لا بتيم وعدي. فقالت عائشة : يا ابن عباس ! أتمنون علي برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟ فقال : ولم لا نمن عليك برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولو كانت فيك شعرة منه أو ظفر لمننت علينا وعلى جميع العالمين بذلك ! بعد فإنما كنت تسع أحدى حشايا من حشاياه لست بأحسنهن وجهاً ولا بأكرمهن حسباً ، ولا بأرشحهن عرقاً ، وأنت الآن تريدين أن تقولي ولا تُعصين ، وتأمري ولا تخالفين ، ونحن لحم الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ودمه وفينا ميراثه وعلمه ، فقالت عائشة : يا ابن عباس ما باذل لك علي بن أبي طالب ؟ فقال ابن عباس : والله أقر له ، وهو أحق به مني وأولى ، لأنه أخوه وابن عمه ، وزوج الطاهرة إبنته وأبو سبطيه ، ومدينة علمه وكشاف الكرب عن وجهه ، وأما أنت ، فلا والله ما شكرت نعماءنا عليك وعلى أبيك من قبلك ! ثم خرج وسار إلى علي فأخبره بما جرى بينه وبينها من الكلام .

دخول علي ( عليه السلام ) على عائشة وما جرى بينهما من الكلام :
  فدعا علي ببغلة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فاستوى عليها ، وأقبل إلى منزل عائشة ثم استأذن ودخل ، فإذا عائشة جالسة وحولها نسوة من نساء أهل البصرة وهي تبكي وهن يبكين معها ، قال : ونظرت صفية بنت الحارث الثقفية زوجة عبد الله بن خلف إلى علي ، فصاحت هي ومن كان معها هناك من النسوة وقلن بأجمعهن : يا قاتل الأحبة ، يا مفرق بين الجميع أيتم الله منك بنيك كما أيتمت ولد عبد الله بن خلف ! فنظر إليها علي فعرفها فقال : أما أني لا ألومك أن تبغضيني وقد قتلت جدك في يوم بدر ، وقتلت عمك يوم أحد ، وقتلت زوجك الآن ! ولو كنت قاتل الأحبة كما تقولين لقتلت من في هذا البيت ومن في هذه الدار ؟ وأقبل علي على عائشة فقال : ألا تنحين كلابك هؤلاء عني ، أما أنني قد هممت أن أفتح باب هذا البيت فأقتل من فيه ، وباب هذا البيت فأقتل من فيه ، ولولا حبي للعافية لأخرجتهم الساعة فضربت أعناقهم صبراً ، قال : فسكتت عائشة وسكتت النسوة فلم تنطق واحدة منهن .

عمار بن ياسر ( رضي الله عنه ) _ 53 _

  ثم أقبل على عائشة فجعل يوبخها ويقول : أمرك الله أن تقري في بيتك ، وتحتجبي بسترك ولا تبرحي ، فعصيته وخضت الدماء تقاتليني ظالمةً وتحرضين علي الناس ، وبنا شرفك الله وشرف اباءك من قبلك وسماك أم المؤمنين وضرب عليك الحجاب ، قومي الآن فأرحلي واختفي في الموضع الذي خلفك فيه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى أن يأتيك فيه أجلك ، ثم قام فخرج من عندها ، فلما كان من الغد بعث إليها ابنه الحسن ، فجاء فقال لها : يقول لك أمير المؤمنين ، أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ! لئن لم ترحلي الساعة لأبعثن عليك بما تعلمين ـ وكان عائشة قد ضفرت قرنها الأيمن وهي تريد أن تضفر الأيسر ـ فلما قال لها الحسن ذلك وثبت من ساعتها وقالت : رحلوني ! فقالت لها امرأة من المهالبة : يا أم المؤمنين ! جاءك عبد الله بن عباس فسمعناك وأنت تجاوبيه حتى علا صوتك ثم خرج من عندك وهو مغضب ، ثم جاءك الآن هذا الغلام برسالة أبيه فأقلقك ، وقد كان أبوه جاءك فلم نر منك هذا القلق والجزع ! فقالت عائشة ، إنما أقلقني لأنه ابن بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فمن أحب أن ينظر إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فلينظر إلى هذا الغلام ، وبعد ، فقد بعث إلي أبوه بما قد علمت ، ولا بد من الرحيل ، فقالت لها المرأة : سألتك بالله وبمحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلا أخبرتني بماذا بعث إليك علي (عليه السلام ) ، فقالت عائشة : ويحك ! إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أصاب من مغازيه نفلاً فجعل يقسم ذلك في أصحابه ، فسألناه أن يعطينا منه شيئاً وألححنا عليه في ذلك ، فلامنا علي ( عليه السلام ) وقال : حسبكن فقد أضجرتن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فتجهمناه وأغلظنا له في القول .
   فقال : ( عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن ) فأغلظنا له أيضاً في القول وتجهمناه ، فغضب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من ذلك وما استقبلنا به علياً ، فأقبل عليه ثم قال : يا علي إني قد جعلت طلاقهن إليك ، فمن طلقتها منهن فهي بائنة ، ولم يوقت النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في ذلك وقتاً في حياةٍ ولا موت ! فهي تلك الكلمة ، وأخاف أن أبين من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .

عمار بن ياسر ( رضي الله عنه ) _ 54 _

إنصراف عائشة إلى المدينة :
  ثم دعا علي ( عليه السلام ) بنسوةٍ من نساء أهل البصرة فأمرهن أن يخرجن مع عائشة إلى المدينة ، فرحلت عائشة من البصرة في تلك النسوة ، وقد كان علي ( عليه السلام ) أوصاهن وأمرهن أن يتزيين بزي الرجال ، عليهن العمائم ، فجعلت عائشة تقول في طريقها : فعل بي علي وفعل ، ثم وجّه معي رجالاً يردوني إلى المدينة ! قال : فسمعتها امرأة منهن فحركت بعيرها حتى دنت منها ثم قالت : ويحك يا عائشة أما كفاك ما فعلتِ حتى أنك الآن تقولين في أبي الحسن ما تقولين ! ثم تقدمت النسوة وسفرن عن وجوههن ، فاسترجعت عائشة واستغفرت وقالت : هذا مالقيت من ابن أبي طالب ، ثم دخلت عائشة المدينة وصارت إلى منزلها نادمةً على ما كان منها ، وانصرفت النسوة إلى منازلهن بالبصرة ، وكانت عائشة إذا ذكرت يوم الجمل تبكي لذلك بكاءً شديداً ثم تقول :
  يا ليتني لم أشهد ذلك المشهد ! يا ليتني مت قبل هذا بعشرين سنة ، ثم قالت عائشة : ولو لم أشهد الجمل لكان أحب إليّ من أن أيكون لي من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مثل ولد عبد الرحمن بن الحارث ، فإنه كان له عشرة أولاد ذكور كل يركب ، ونظر رجل من بني تميم إلى عبد الرحمن بن صرد التنوخي عاقر الجمل ، فقال له : أنت الذي عرقبت الجمل يوم البصرة ؟ فقال التنوخي : أنا والله ذلك الرجل ! ولو لم أعرقبه لما بقي من أصحاب عائشة ذلك اليوم مخبر ، فإن شئت فاغضب ، وإن شئت فارض ، ثم أنشأ يقول شعراً :
عـقرت ولـم أعقر بها iiلهوانها      عـلي ولـكني رأيـت iiالمهالكا
وما  زالت الحرب العوان iiيحثها      بنوها بها حتى هوى العود باركا
  وأقام علي ( عليه السلام ) بالبصرة بعد حرب الجمل أياماً قلائل ، فلما أراد الرحيل عنها نصب في عسكره منبراً ، ثم نادى في الناس فجمعهم ، وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وذكر من أمر القوم ما ذكر ، فوثب إليه المنذر بن الجاورد العبدي ، فسأل عن أمر الفتن وغيرها فأخذ علي في ذلك يخبره من يومه ذلك إلى أن تقوم الساعة ، فذكر الفتن في مدينةٍ مدينة وكيف تخرب ومن يتولى خرابها إلخ . . .

عمار بن ياسر ( رضي الله عنه ) _ 55 _

  ثم قال في آخر كلامه : يا منذر إنه لن تقوم الساعة إلا على أشرار خلق ربك ، وذلك في أول يوم من المحرم يوم الجمعة فافهم عني يا منذر ما نبأتك به ولم أكتمه عن غيرك والله ولي الإحسان ، اللهم صلى على سيدنا محمدٍ الكريم في الحسب الرفيع في النسب سليل عبد المطلب وسيد العجم والعرب وسلم تسليماً كثيراً ، ثم نزل عن المنبر وأمر أصحابه بالرحيل وانصرف إلى الكوفة مؤيداً منصوراً .

حـرب صفين . . المحنة الكبرى :
  إن حرب الجمل بالرغم من شراستها وماتركت من مآسٍ وآلام في نفوس المسلمين ، تبقى المحنة الأقل والأهون بالقياس لما حدث بعدها من حروب ، لا سيما حرب ( صفين ) التي استهدفت أكبر قوةٍ بشرية وعسكرية ومادية على الساحة الإِسلامية في ذلك الوقت ، وأمعنت فيها نزفاً وتمزيقاً ، إنها في الحقيقة محنة المسلمين الكبرى التي واجهها أمير المؤمنين عليّ ( عليه السلام ) بصبر وشجاعة عظيمين ، شأنه في ذلك شأن الأوصياء الذين يجهدون في إقامة العدل على الأرض وتثبيت شريعة السماء مهما كلف الأمر ، متوخياً من وراء ذلك رضا الله سبحانه وحده ، والبعد عن الذات ودوافعها الشخصية ، إن الإنسان المتبصر لا يتردد في القول أن علياً ( عليه السلام ) كان بإمكانه أن يعيش عيش الأمراء ـ على الأقل ـ منذ وفاة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حتى استشهاده ، فلا أحد من المسلمين يستطيع إنكار فضله وسمو مكانه ، وما قدم في ميادين الجهاد ، والذين خلفوا الرسول حتى عهد عثمان لا يترددون في هذه المقولة لو شاء أو أراد ، ولم يؤثر عنده ( عليه السلام ) البتة أنه طالب يوماً من الأيام بشيء من حطام هذه الدنيا الزائلة ، اللهم إلا ما كان من أمر ( فدك ) التي طالب بها على إنها حق من حقوق ( فاطمة الزهراء ( عليه السلام ) نحلةً أو ميراثاً من أبيها ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وما ذلك منه إلا احدى دعواته لإقامة الحق ورفع الظلم أياً كان المظلوم .

عمار بن ياسر ( رضي الله عنه ) _ 56 _

  نعم ، طالب منذ اليوم الأول بالخلافة معتبراً إياها حقا مشروعاً له ، واعتبرها معظم قدماء الصحابة من المهاجرين والأنصار حقاً مشروعاً كذلك (1) ، ومهما يكن الأمر فلم تكن مطالبته بها هدفاً دنيوياً ـ كما يتوهم البعض ـ بل محض واسطةٍ لتثبيت دعائم شريعة الله ، يبدو ذلك واضحاً جلياً من خلال خطبه ومواعظه التي وردت في كتب المؤرخين وفي نهج البلاغة ، كما يتضح ذلك أكثر خلال فترة حكمه وما جرى له مع الولاة الذين سبقوا عصر خلافته .
  لقد كان علي ( عليه السلام ) منذ اليوم الأول لوفاة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يراقب الأمور عن كثب مراقبة المسؤول الحريص على سلامة المسلمين ووحدتهم وكان الأهم عنده سلامة تطبيق مبادئ الإسلام وشرائعه . . حتى جاء عهد عثمان ، فكان الإنحراف وكان الإلتواء ، كانا ماثلين أمام عينيه بشكل صارخ من جراء بعض الممارسات الشاذة التي قام بها بعض الولاة والأمراء ممن سبقوا عصر سلطته ـ كما قرأت ، لذلك وجدناه يصرّح في أكثر من مناسبة : بأنه سيجهد في إقامة العدل وتثبيته على الأرض بكل ما أوتي من قوة ومهما كانت النتائج وكان الثمن ، ومن ذلك قوله ( عليه السلام ) : ( وسأجهد في أن أطهر الأرض من هذا الشخص المعكوس والجسم المركوس ، حتى تخرج المدرة من بين حب الحصيد ) (2) .

---------------------------
(1) بالنص من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عليه في حجة الوداع | راجع. الغدير 1 | 8 وما بعدها .
(2) من كتاب له ( عليه السلام ) إلى ابن حنيف ، نهج البلاغة 3 | 73 .

عمار بن ياسر ( رضي الله عنه ) _ 57 _

  كما وجدناه أيضاً عمد إلى استبدال الرموز المتسلطة في الدولة بآخرين ممن استقامت الروح الإِسلامية في عقولهم وسلوكهم ، ثم بعد ذلك أوعز بإرجاع القطائع والأموال التي اقطعها عثمان لبعض ولاته وأقربائه وجعلها في بيت مال المسلمين ، وكان يقول في ذلك : ( والله لو وجدته قد تُزوّجَ به النساء ، ومُلِك به الإماءُ لرددته فإن في العدل سعةٌ ، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق ) (1) .
  وكان (عليه السلام ) في سياسته أمور الناس أبعد ما يكون عن الدهاء ، الذي يعتبره ضرباً من ضروب المكر الذي ينتهي بصاحبه إلى الغدر ، فكان صريحاً واضحاً في مواقفه ، كاشفاً لحقائق الأمور بدون خوف ولا وجل ، متوخياً بذلك رضا الله سبحانه ، غير عابىءٍ بما ينتج عن ذلك من مضاعفات على الأرض قد تؤدي إلى خسارته وانكماش سلطانه ، وهو (عليه السلام ) هو الذي يرى الدنيا عنده أزهد وأحقر من نعلٍ بالٍ إلا أن يقيم حقاً أو يدفع باطلاً ، لذلك ، كان البعض يظن أن معاوية تغلب في مواقفه بدهائه ومكره ، وأن علياً كان يفتقر إلى ذلك في سياسة الأمور ، ومنهم المغيرة بن شعبة الذي أشار على علي (عليه السلام ) أن يقر معاوية على الشام حتى تستقيم له الأمور ، ثم بعد ذلك يرى رأيه فيه ، وكان جواب علي (عليه السلام ) ( ما كان الله ليراني متخذ المضلين عضدا ) .
  وفي هذا المضمار يقول علي (عليه السلام ) : ( والله ما معاوية بأدهى مني ، ولكنه يغدر ويفجر ، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس ؛ ولكن كل غدرة فجرة ، وكل فجرةٍ كفرةٌ ، ولكل غادرٍ لواءٌ يعرف به يوم القيامة ، والله ما أُستغفل بالمكيدة ، ولا أستغمزُ بالشديدة ) (2) .

---------------------------
(1) النهج 1 | 46. (2) النهج 3 | 180 ، لا أستغمز بالشديدة يعني : لا يستضعفني شديد القوة .

عمار بن ياسر ( رضي الله عنه ) _ 58 _

  ومن طبيعة أرباب السياسة الفاجرة ، أن يجوروا في أحكامهم ضد الغير ، لا سيما حين يجدون أنفسهم في موقع صعب ينذر بإنهيارهم وسقوطهم ، ويجدون في ذلك الغير الذي هو خصم لهم القوةَ والكفاءة للحكم ، فنراهم في هذا الحال ينسبون له جريمةً هو أبعد الناس عنها طمعاً منهم في إضعافه ولوي رقاب الناس عنه ، وتبريراً منهم لشن الحرب ضده أمام أعين الناس كي تخلو الساحة لهم ، وبذلك يستطيعون تنفيذ أطماعهم ومآربهم ، إن هذا اللون من السياسة الظالمة استعمل من الأمويين حيال علي ( عليه السلام ) إبان خلافته ، فانه بعد مقتل عثمان انصبت التهمة بقتله منهم على علي ، ومرجع ذلك في رأيي إلى أمرين :
  الأول : هو الخوف من سيطرة مبادئ علي والعودة بهم إلى ما قبل الخلافة والإمارة وبذلك يخسرون كل شيء ، بالإضافة للخسارة الفعلية التي واجهوها في أمور دنياهم .
  الثاني : ضياع دم عثمان بين المسلمين ، وبذلك يضيع ما بناه الأمويون خلال عشرين سنة ، وكفى به إذلالاً لهم ، والحق ، أن علياً كان أبعد ما يكون عن قدر محجمةٍ من دم عثمان ، بل هو على العكس من ذلك ، فلقد جهد بكل ما أوتي من قوة في إبعاد المسلمين عن الفتنة ، وردء القتل عنه ، وهو القائل لأبن عباس حين أتاه برسالةٍ من عثمان وهو محصور يسأله فيها الخروج إلى ينبع : يا بن عباس ، ما يريد عثمان إلا أن يجعلني جملاً ناضحاً بالغرب ، أقبل وأدبر ! بعث إليَّ أن أخرج ، ثم بعث إلي أن أقدم ، ثم هو الآن يبعث إلي أن أخرج والله لقد دفعتُ عنه حتى خشيت أن أكون آثماً (1) ! .
  وهو في الوقت ذاته ليس جندياً من أجناد السلطة الأموية حتى يكون ملزماً بالدفاع عن مصالحهم الشخصية التي تكرس لهم الحكم والسلطة لا أكثر ، بل إن المسلمين لا يرضون له ذلك مطلقاً ، فموقع علي ( عليه السلام ) في نفوسهم منذ عهد الرسول له ميزات لا يمكن تخطيها بسهولة .

---------------------------
(1) النهج 2 | 233 .

عمار بن ياسر ( رضي الله عنه ) _ 59 _

  ومع ذلك ، فقد أوعز إلى ولديه الحسن والحسين ( عليهما السلام ) أن يكونا في جملة المدافعين عنه (1) .
  هذا كله ، بالإضافة إلى أنه ( عليه السلام ) لم يكن يملك القوة الضاربة ليمنع حصول ما وقع بل كان مكفوف اليد تماماً ، وحتى بعد مبايعته بالخلافة طولب من قبل بعض الصحابة بمعاقبة من أجلب على عثمان ، فقال : ( يا اخوتاه ، اني لست أجهل ما تعلمون ، ولكن كيف لي بقوةٍ والقوم المجلبون على حدّ شوكتهم ، يملكوننا ولا نملكهم ! وها هم أولاء قد ثارت معهم عبدانكم ، والتفت إليهم أعرابكم ، وهم خلالكم يسومونكم ما شاؤوا ، وهل ترون موضعاً لقدرةٍ على شيء تريدونه ! ) (2) .
  ومن الممكن القول أن عليا ( عليه السلام ) حينما يتخذ موقفا من قضية ما ، فأنه إنما يتعامل معها من موقع الإمام المعصوم العادل ، وبذلك لا يكون بحاجة الى محام أو مدافع يبرر له مواقفه وقراراته ، بعد هذا العرض المبسط يمكننا أن نستخلص الأسباب التي دفعت بطلحة والزبير إلى إخراج عائشة أم المؤمنين والتمرد على خلافة علي ( عليه السلام ) وتجييش الناس عليه ، وانتهاء الأمر بحرب ( الجمل ) التي قدمنا ذكرها والتي انتهت بنصره ( عليه السلام ) ، فأن الدوافع لهم على ذلك كانت محض شخصية تتحكم فيها الأنانية والرغبة في الحكم ، كما تتضح لنا أسباب حرب ( صفين ) التي انتهت بالتحكيم. هذه الحرب المدمرة التي شنها معاوية ومن معه من الأمويين وأتباعهم ضد علي وضد خلافته وضد من كانوا معه من المهاجرين والأنصار ، فالمعلوم الواضح أن معاوية كان أحد الرموز التي أصر الإمام على استبدالها إنطلاقاً من نهجه الجديد الذي سار عليه بعد استخلافه ؛ والسبب في ذلك أنه ليس من ذوي السابقة في الدين والصحبة ، بل هو أحد الطلقاء يوم الفتح ومثله لا يكون حاكماً على المسلمين ، هذا بالإضافة إلى السياسة التي انتهجها معاوية في حكمه بلاد الشام والتي تشبه إلى حدٍ بعيد سياسة الملوك والأباطرة من الأستئثار بالفيء والإِغداق على المقربين ، والإساءة إلى بعض الصحابة ، كأبي ذر الغفاري رضي الله عنه ، والتلويح بالترهيب والترغيب بشكل دقيق ومركز .

---------------------------
(1) قال الشيخ محمد عبدة ، أما نهيه عن قتله بلسانه فهو ثابت ، وهو الذي أمر الحسن والحسين أن يذابا عنه.
(2) النهج 2 | 80 ـ 81 .

عمار بن ياسر ( رضي الله عنه ) _ 60 _

  لقد كان هذا الإجراء من علي ( عليه السلام ) في حق معاوية بمثابة صدمةٍ قويةٍ له ، فكان عليه أن يتأهب ويستعد للمواجهة ، وكان معاوية بسياسته تلك قد استطاع أن يرسخ قدميه على بلاد الشام منذ عهد الخليفة عمر بن الخطاب ، حتى عهد عثمان الذي زاد في سلطانه بأن ضم إليه فلسطين وحمص والجزيرة ، واستطاع أيضاً أن يستغل سذاجة الناس وبسطاتهم وعفويتهم ، فنجح في تجميع قبائل أُفرزت من أقاليم عدة كانت بعيدةً عن روح الإسلام ، وعمد إلى ذوي النفوذ من القادة والزعماء ، وزاد في تقريبهم والإغداق عليهم بعد أن شحذ أذهانهم وأنفسهم بضرورة الأخذ بثأر الخليفة المظلوم عثمان ! وراح هؤلاء بدورهم ينشرون ذلك في الآفاق وفيمن هم تحت سلطانهم ، حتى تم له بذلك تجميع جيش كثيف لمواجهة علي ، وكأن علياً هو المسؤول عن قتل الخليفة ! .
  لقد كانت هذه الخطة أفضل وسيلةٍ للإنتقام من علي ومبادئه في عرف الأمويين وأتباعهم ، وان كان طلحة والزبير قد فشلا في خطتهما ، فربما حالف الحظ معاوية ، من يدري ؟ هكذا أراد معاوية ، أراد القضاء على بقية الله في أرضه ، أو الشام ! ملكاً طلقاً يتوهج بمفاتن الدنيا وبهارج الحياة عله يستطيع بذلك أن يستر دفائن نفسه وأطماعها عن كثير ممن عميت عيونهم عن الحقيقة . . تلك الدفائن التي أفرغتها فيه سيوف المسلمين في بدرٍ وأحد والخندق حتى الفتح. وتلك الأطماع التي ورثها عمن كان قبله فعاشت وأمرعت حتى أفرخت حرباً ظالمة ، قطف ثمارها فيما بعد ملكاً أوسع من ملك كسرى وقيصر ! إنها حرب صفين ! وسوف تقرأ فيما يلي ظروفها وملابساتها ، ولا ننسى دور عمار بن ياسر فيها فلقد كان شاهد الحق مع علي ، كما كان شهيدها .

عمار بن ياسر ( رضي الله عنه ) _ 60 _

عودة علي إلى الكوفة :
  (1) بعد انتهاء وقعة الجمل قدم علي ( عليه السلام ) الكوفة في شهر رجب سنة 36 هـ ، فدخلها ومعه أشراف الناس من أهل البصرة وغيرهم ، فاستقبله أهل الكوفة وفيهم قراؤهم وأشرافهم ، فدعوا له بالبركة وقالوا : يا أمير المؤمنين ، اين تنزل ؟ أتنزل القصر ؟ قال : لا ، ولكني أنزل الرحبة ، فنزلها وأقبل حتى دخل المسجد الأعظم فصلى فيه ركعتين ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله ، ثم قال : أما بعد يا أهل الكوفة ، فإن لكم في الإسلام فضلاً ما لم تبدلوا وتغيروا ، دعوتكم إلى الحق فأجبتم ، وبدأتم بالمنكر فغيرتم ، س إلا أن فضلكم فيما بينكم وبين الله ، فأما في الأحكام والقسم فأنتم أسوة غيركم ممن أجابكم ودخل فيما دخلتم فيه ، ألا إن أخوفَ ما أخافُ عليكم أتّبَاعَ الهوى وطول الأمل ، أما اتباعُ الهوى فيصد عن الحق ، وأما طول الأمل فينسي الآخرة ؛ ألا ان الدنيا قد تَرحلَت مدبرة وان الآخرة قد ترحّلَت مقبلة ، ولكل واحدةٍ منهما بنون ، فكونوا من أبناء الآخرة اليوم عمل ولا حساب ! غداً حساب ولا عمل ؛ الحمد لله الذي نصر وليه ، وخذل عدوه ، وأعز الصادق المحق ، وأذل الناكث المبطل .

---------------------------
(1) اعتمدت في نقل حوادث واقعة صفين على كتاب صفين لنصر بن مزاحم بالإضافة إلى شرح النهج لابن أبي الحديد ، ومروج الذهب للمسعودي ، وكذلك تاريخ الطبري وغيرها ، ولا أرى نفسي ملزماً بذكر الجزء والصفحة من هذه الكتب وغيرها ، لأنه يشبه بعضها بعضاً في النص وقد تقصدت التغيير في صورة النص مع حفظ المضمون طبعاً وحذف الأسانيد اللهم إلا ما تفردت به بعض هذه الكتب دون غيرها من النصوص .