ومنها : ما رواه الكلبيّ ، عن أبي صالح ، عن ابن عبّاس : أنّ ناساً من بني مخزوم تواصوا بالنبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ليقتلوه منهم أبو جهل ، والوليد بن المغيرة ، ونفر من بني مخزوم ، فبينا النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قائم يصلّي إذ أرسلوا إليه الوليد ليقتله ، فإنطلق حتّى إنتهى إلى المكان الذي كان يصلّي فيه ، فجعل يسمع قراءته ولا يراه ، فإنصرف إليهم فأعلمهم ذلك فأتاه من بعده أبو جهل والوليد ونفر منهم ، فلمّا إنتهوا إلى المكان الذي يصلّي فيه سمعوا قراءته وذهبوا إلى الصوت ، فإذا الصوت من خلفهم ، فيذهبون إليه فيسمعونه أيضاً من خلفهم ، فإنصرفوا ولم يجدوا إليه سبيلاً ، فذلك قوله سبحانه : ( وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ )
.
ومنها : أنّه كان ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في غزاة الطائف في مسيره ليلاً على راحلته بواد بقرب الطائف يقال له : نجب ، ذو شجر كثير من سدر وطلح ، فغشي وهو في وسن النوم سدرة في سواد الليل فإنفرجت السدرة له بنصفين ، فمرّ بين نصفيها وبقيت السدرة منفرجة على ساقين إلى زماننا هذا ، وهي معروفة مشهور أمرها هناك وتسمى سدرة النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، أورده الشيخ أبو سعيد الواعظ في كتاب شرف النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم )
، ولو عدّدنا جميع معجزاته وأعلامه ( صلوات الله عليه وآله ) التي دوِّنها
المحدّثون في كتبهم لطال الكتاب ، فإن نبيّنا ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أكثر الأنبياء أعلاماً ، وقد ذكر بعض المصنّفين : أنّ أعلامه تبلغ ألفاً ، فالأولى الإقتصار على الإختصار ، وسنذكر بعض آياته وأعلامه ومعجزاته ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فيما يأتي من أخبار مبعثه إلى هجرته وغزواته وقدوم الوفود عليه إلى وقت وفاته على سبيل الاِيجاز إن شاء الله تعالى ، وأما آياته ( صلوات الله عليه وآله ) في إخباره بالغائبات والكوائن بعده فأكثر من أن تحصى وتعدّ :
فمن ذلك : ما روي عنه في معنى قوله تعالى : ( لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ )
(1)وهو ما رواه اُبيّ بن كعب : أنّ رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قال : ( بشّر هذه الاُمّة بالسناء والرفعة والنصرة والتمكين في الاَرض ، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب )
(2)، وروى بريدة الاَسلمي : أنّه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قال : ( ستبعث بعوث ، فكن في بعث يأتي خراسان ، ثمّ اسكن مدينة مرو فإنّه بناها ذو القرنين ودعا لها بالبركة وقال : لا يصيب أهلها سوء )
(3) ، وروى أبو هريرة قال : قال رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( لا تقوم الساعة حتّى تقاتلوا خوزاً وكرمان قوماً من الاَعاجم ، حمر الوجوه ، فطس
(4) الاُنوف ، صغار الأعين ، كأنّ وجوههم المجان
(5)المطرقة )
(6) .
---------------------------
(1) التوبة 9 : 33 ، الصف 61 : 9 .
(2) مسند أحمد 5 : 134 ، دلائل النبوة للبيهقي 6 : 316 .
(3) دلائل النبوة للاصبهاني 2 : 700 ، دلائل النبوة للبيهقي 6 : 332 .
(4) الفطس : إنخفاض قصبة الانف وانفراشها ( النهاية 3 : 458 ) .
(5) المجان : الترس والترسة ( لسان العرب 13 : 400 ) .
(6) صحيح البخاري 4 : 238 ، مستدرك الحاكم 4 : 476 ، دلائل النبوة للبيهقي 6 : 336 ، الأنوار في شمائل النبي المختار 1 : 102 / 114 ، البداية والنهاية 6 : 224 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 62 _
روى أنس بن مالك قال : قال رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( رأيت ذات ليلة فيما يرى النائم كأنّا في دار عقبة بن رافع فاُتينا برطب من رطب ابن طاب ، فأوّلت الرفعة لنا في الدنيا والعافية في الآخرة وأنّ ديننا قد طاب )
(1).
ومن ذلك : إخباره بما تحدث اُمّته بعده نحو قوله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( لا ترجعوا بعدي كفّاراً ، يضرب بعضكم رقاب بعض ) ، رواه البخاريّ في الصحيح مرفوعاً إلى ابن عمر
(2) ، وقوله رواه أبو حازم عن سهل بن حنيف عن النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( انا فرطكم على الحوض ، من ورد شرب ومن شرب لم يظمأ أبداً ، وليّردنّ عليّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ثمّ يحال بيني وبينهم ) ، قال أبو حازم : سمع النعمان بن أبي عيّاش وأنا اُحدث الناس بهذا الحديث فقال : هكذا سمعت سهلاً يقول ؟ قلت : نعم ، قال : فأنها أشهد على أبي سعيد الخدريّ يزيد فيه : ( فأقول : إنّهم اُمّتي ، فيقال : إنّك لا تدري ما عملوا بعدك ، فأقول : سحقاً سحقاً لمن بدّل بعدي ) ، ذكره البخاري في الصحيح
(3) ، قوله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فيما رواه شعبة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم : أنّ عائشة لما أتت على الحوأب
(4)سمعت نباح الكلاب فقالت : ما أظنّني إلاّ راجعة ، سمعت النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قال لنا : ( أيّتكنّ تنبح عليها كلاب الحوأب ) ؟ فقال الزبير : لعلّ الله أن يصلح بك بين النّاس
(5) .
---------------------------
(1) صحيح مسلم 4 : 1779 / 18، سنن أبي داود 4 : 306 / 5025 ، دلائل النبوة للبيهقي 6 : 337 .
(2) صحيح البخاري 8 : 48 ، وكذا في مسند أحمد 2 : 85 ، دلائل النبوة للبيهقي 6 : 361 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 18 : 122 / 36 .
(3) صحيح البخاري 9 : 59 ، وكذا في : مسند أحمد 5 : 333 ، ودلائل النبوة للبيهقي 6 : 361 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 18 : 122 / 36 .
(4) الحوأب : منزل بين البصرة ومكة ( معجم البلدان 2 : 314 ) .
(5) مسند أحمد 6 : 97 ، دلائل النبوة للبيهقي 6 : 410 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 18 : 123 / 36 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 63 _
وقوله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) للزبير لمّا لقيه وعلياً ( عليه السلام ) في سقيفة بني ساعدة فقال : ( أتحبّه يا زبير ) ؟ قال : وما يمنعني ؟ قال : ( فكيف بك إذا قاتلته وأنت ظالم له )
(1)،
وعن أبي جرورة المازني قال : سمعت علياً ( عليه السلام ) يقول للزبير : ( نشدتك الله أما سمعت رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يقول : إنّك تقاتلني وأنت ظالم ) ؟ قال : بلى ولكنّي نسيت
(2) .
وقوله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لعمّار بن ياسر : ( تقتلك الفئة الباغية ) ، أخرجه مسلم في الصحيح
(3) ، وعن أبي البختري : أنّ عماراً اُتي بشربة من لبن فضحك فقيل له : ما يضحك ؟ قال : إنّ رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أخبرني وقال هو آخر شراب أشربه حين أموت
(4) .
وقوله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في الخوارج : ( ستكون في اُمّتي فرقة يحسنون القول ويسيئون الفعل ، يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء ، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، لا يرجون إليه حتى يرتدّ على فوقه ، هم شرّ الخلق والخليقة ، طوبى لمن قتلوه ، طوبى لمن قتلهم ، ومن قتلهم كان أولى بالله منهم
) ، قالوا : يا رسول الله فما سيماهم ؟
---------------------------
(1) دلائل النبوة للبيهقي 6 : 414 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 18 : 123 / 36 .
(2) دلائل النبوة للبيهقي 6 : 415 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 18 : 123 / 36 .
(3) صحيح مسلم 4 : 2236 / 72 ، وكذا في : مسند أحمد 2 : 161 ، سنن الترمذي 5 : 669 / 3800 ، دلائل النبوة للبيهقي 6 : 420 ، الوفا بأحوال المصطفى 1 : 308 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 18 : 123 / 36 .
(4) مسند أحمد 4 : 319 ، مستدرك الحاكم 3 : 389 ، دلائل النبوة للبيهقي 6 : 421 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 18 : 123 / 36 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 64 _
قال : ( التحليق ) ، رواه أنس بن مالك عنه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم
(1) .
وقوله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لأمير المؤمنين عليّ
( عليه السلام ) : ( الاُمّة ستغدر بك بعدي )
(2) ، وقوله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( تقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين )
(3)، ومن ذلك : إخباره بقتل معاوية حِجراً وأصحابه فيما رواه ابن وهب عن أبي لهيعة عن أبي الأسود قال : دخل معاوية على عائشة فقالت : ما حملك على قتل أهل عذراء
(4) ، حجراً وأصحابة ؟ فقال : يا اُمّ المؤمنين إنّي رأيت قتلهم صلاحاً للاُمّة وبقاءهم فساداً للاُمّة ، فقالت : سمعت رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قال : ( سيُقتل بعذراء ناس يغضب الله لهم وأهل السماء )
(5).
---------------------------
(1) سنن أبي داود 4 : 243 / 4765 ، دلائل النبوة للبيهقي 6 : 430 ، ونقله المجلسي في بحار الانوار 18 : 124 / 36 .
(2) دلائل النبوة للبيهقي 6 : 440 ، تاريخ بغداد 11 : 216 / 5928 ، تاريخ ابن عساكر ـ ترجمة الاِمام علي ( عليه السلام ) ـ 3 : 116 / 1157 ، تذكرة الحفاظ 3 : 995 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 18 : 124 / 36 .
(3) الخرائج والجرائج 1 : 123 / 201 ، مناقب الخوارزمي 75 / 212 و 190 / 225 و 226 ، تاريخ ابن عساكر ـ ترجمة الاِمام علي ( عليه السلام ) ـ 3 : 161 / 1201 و 162 / 1202 ، فرائد السمطين 1 : 282 / 232 و 331 / 257 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 18 : 124 / 36 .
(4) عذراء ( بالفتح ثم السكون والمد ) وهو في الاَصل : الرملة التي لم توطأ ، والدرة العذراء التي لم تثقب ، وهي قرية بغوطة دمشق من اقليم خولان ، واليها ينسب مرج ( انظر : معجم البلدان 4 : 91 ) .
(5) دلائل النبوة للبيهقي 6 : 456 ، البداية والنهاية 6 : 226 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 18 : 124 / 36 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 65 _
وروى ابن لهيعة ، عن الحارث بن يزيد ، عن عبد الله بن زرير الغافقي قال : سمعت عليّاً ( عليه السلام ) يقول : ( يا أهل العراق سيقتل سبعة نفر بعذراء مثلهم كمثل أصحاب الاُخدود ) فقتل حجر بن عدي وأصحابه
(1) .
ومن ذلك : إخباره بقتل الحسين بن علي ( عليهما السلام ) ، روى أبو عبد الله الحافظ بإسناده عن اُمّ سلمة : أنّ رسول الله إضطجع ذات يوم للنوم فإستيقظ وهو خاثر
(2) ) ، ثمّ إضطجع فرقد ، ثمّ إستيقظ وهو خاثر دون ما رأيت منه في المرّة الاُولى ، ثمّ اضطجع وإستيقظ وفي يده تربة حمراء يقلّبها فقلت : ما هذه التربة يا رسول الله ؟ قال : ( أخبرني جبرئيل فقال : انّ هذا يقتل بأرض العراق ـ للحسين ( عليه السلام ) ـ فقلت : يا جبرئيل أرني تربة الاَرض التي يقتل بها ، فهذه تربتها )
(3) .
وعن أنس بن مالك قال : إستأذن ملك المطر أن يأتي رسول الله فاذن له ، فقال لاُمّ سلمة : ( إحفظي علينا الباب لا يدخل أحدٌ ) فجاء الحسين بن علي ( عليهما السلام ) فوثب حتى دخل فجعل يقع على منكب النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فقال الملك : ( أتحبّه )؟
فقال النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( نعم ) ، قال : ( اُمّتك ستقتله ، وإن شئت أريتك المكان الذي يقتل فيه ) ، قال : فضرب يده فأراه تراباً احمراً ، فأخذته اُمّ سلمة فصرّته في طرف ثوبها ، فكنّا نسمع أن يقتل بكربلاء
(4) .
---------------------------
(1) دلائل النبوة 6 : 456 ، البداية والنهاية 6 : 225 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 18 : 124 / 36 .
(2) الخاثر : أي ثقيل النفس غير طيبها ، ( انظر : لسان العرب 4 : 230 ) .
(3) مستدرك الحاكم : 4 : 398 ، دلائل النبوة للبيهقي 6 : 468 ، البداية والنهاية 6 : 230 ، سير أعلام النبلاء 3 : 289 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 18 : 124 / 36 .
(4) مسند أحمد 3 : 242 ، دلائل النبوة للاصبهاني 2 : 709 ، دلائل النبوة للبيهقي 6 : 469 ، البداية والنهاية 6 : 229 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 18 : 124 / 36 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 66 _
ومن ذلك : إخباره بمصارع أهل بيته ( عليهم السلام ) ؛ روى الحاكم أبو عبد ألله الحافظ بإسناده ، عن سيّد العابدين علي بن الحسين ( عليهما السلام ) ، عن أبيه ، عن جدّه قال : ( زارنا رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فعملنا له حريرة ، وأهدت إليه اُمّ أيمن قعباً من زبد وصحفة من تمر ، فأكل رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم وأكلنا معه ، ثم توضأ رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلم ) فمسح رأسه ووجهه بيده واستقبل القبلة فدعا الله ما شاء ثمّ أكبّ إلى الاَرض بدموع غزيرة مثل المطر ، فهبنا رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أن نسأله، فوثب الحسين فأكبّ على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: يا أبه، رأيتك تصنع ما لم تصنع مثله قطّ ؟ قال : يا بنيّ سررت بكم اليوم سروراً لم أسرّ بكم مثله ، وإنّ حبيبي جبرئيل أتاني فإخبرني أنّكم قتلى وأن مصارعكم شتّى ، فأحزنني ذلك ، فدعوت الله لكم بالخيرة ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : فمن يزورنا على تشتتنا وتبعّد قبورنا ؟ فقال رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) طائفة من اُمّتي يريدون به برّي وصلتي ، إذا كان يوم القيامة زرتها بالموقف وأخذت بأعضادها فأنجيتها من أهواله وشدائده )
(1) .
ومن ذلك : إخباره بقتلى أهل الحرّة
(2) ، فكان كما أخبر ، روي عن أيوب ابن بشير ، قال : خرج رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم )
---------------------------
(1) انظر : كامل الزيارات : 58 / 7 ، امالي الطوسي 2 : 281 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 18 : 125 / 36 .
(2) إشارة إلى وقعة الحرة الشهيرة التي جرت بأوامر من يزيد بن معاوية ( لعنه الله) ، حيث أرسل إلى مدينة رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) احد قوّاد جيشه وهو مسلم بن عقبة ـ المعروف بفجوره وفساده ، وعدائه للإسلام وأهله ـ للتنكيل بأهلها بعد رفضهم إعطاء البيعة ليزيد لمعرفتهم بمن هو يزيد وما هي حاله ، فأمره بإستباحة مدينة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) التي قال عنها ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( من أخاف المدينة أخافه الله( عز وجل )، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يُقبل منه عدل ولا صرف ) ، بل وأن يأخذ أهله خول وعبيد ، إن شاء يزيد أطلق وإن شاء إسترق ! ! نعم ، وكان من نتيجة ذلك ان وقعت أمور تشيب لها الصبيان ، وتقشعر لهولها الجلود ،
وترتجف لها السموات والاَرضون ، حيث إن هذا المجرم أمر جنوده بإستباحة المدينة ثلاثة أيام ، فنهب ما نُهب ، وقتل من قُتل ، وأغتصبت المئات من نساء المهاجرين والأنصار ، وحيث روت المصادر المختلفة أن ألف عذراء إفتضت في هذه الواقعة ، وقتل من المهاجرين والاَنصار وابنائهم وغيرهم من المسلمين أكثر من عشرة آلاف رجل ، حتى قيل لم يبق بعد ذلك بدري ، هذا عدا النساء والاَطفال ، بل ومن ثم فإنّ مسلم بن عقبة ( لعنه الله) وأخزاه أمر المسلمين المغلوبين على أمرهم بالبيعة ليزيد على أنّهم عبيد له ، وأرسل برؤوس أهل المدينة الذين قتلوا إلى يزيد لتتشفّى بمنظرهم نفسه النتنة كما تشفّت برأس السبط الشهيد الامام الحسين بن علي ( عليه السلام ) .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 67 _
في سفر من أسفاره فلمّا مرّ بحرّة زهرة وقف فإسترجع ، فساء ذلك من معه وظنّوا أنّ ذلك من أمر سفرهم ، فقال عمر بن الخطّاب : يا رسول الله ما الذي رأيت ؟ فقال رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( أما إنّ ذلك ليس من سفركم ) ، قالوا : فما هو يا رسول الله ؟ قال : ( يقتل بهذه الحرّة خيار اُمتي
بعد أصحابي )
(1) .
قال أنس بن مالك : قتل يوم الحرّة سبعمائة رجل من حملة القرآن فيهم ثلاثة من أصحاب النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم )،
وكان الحسن يقول : لمّا كان يوم الحرّة قُتل أهل المدينة حتّى كاد لا ينفلت أحدٌ ، وكان فيمن قتل إبنا زينب ربيبة رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وهما إبنان من زمعة بن عبد الاَسود ، وكانت وقعة الحرّة يوم الاَربعاء لثلاث بقين من ذي الحجّة سنة ثلاث وستّين
(2) ،
ومن ذلك : قوله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في إبن عباس : ( لن يموت حتّى يذهب بصره ويؤتى علماً )
(3) فكان كما قال ، وقوله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في زيد بن أرقم وقد عاده من مرض كان به : ( ليس عليك من مرضك بأس ، ولكن كيف بك إذا عمّرت بعدي فعميت ) ؟ قال : إذاً أحتسب وأصبر ، قال : ( إذاً تدخل الجنّة بغير حساب )
(4) .
ومن ذلك : قوله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في الوليد بن يزيد ، رواه الاَوزاعي ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيّب قال : ولد لاَخي أمّ سلمة من اُمّها غلام فسمّوه الوليد فقال النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( تسمّون بأسماء فراعنتكم ، غيّروا إسمه ، فسمّوه عبد الله، فإنّه سيكون في هذه الاُمّة رجل يقال له : الوليد هو شرّ لاُمّتي من فرعون لقومه ) .
---------------------------
(1) دلائل النبوة للبيهقي 6 : 473 ، البداية والنهاية 6 : 233 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 18 : 125 / 36 .
(2) دلائل النبوة للبيهقي 6 : 474 ، البداية والنهاية 6 : 234 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 18 : 125 / 36 .
(3) دلائل النبوة للبيهقي 6 : 478 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 18 : 126 / 36 .
(4) دلائل النبوة للبيهقي 6 : 479 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 18 : 126 / 36 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 68 _
قال : فكان الناس يرون أنّه الوليد بن عبد الملك ثمّ رأينا أنّه الوليد بن يزيد
(1) .
ومن ذلك : قوله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في بني أبي العاص وبني اُمّية ، روى أبو سعيد الخدريّ عنه أنّه قال ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً إتّخذوا دين الله دغلاً ، وعباد الله خولاً ، ومال الله دولاً ) ، وفي رواية أبي هريرة : ( أربعين رجلاً )
(2) ، ابن موهب قال : كنت عند معاوية بن أبي سفيان فدخل عليه مروان يكلّمه في حاجته فقال : إقض حاجتي فو الله إنّ مؤونتي لعظيمة وإنّي أبو عشرة وعمّ عشرة وأخو عشرة ، فلمّا أدبر مروان وابن عباس جالس معه على السرير فقال معاوية : إشهد بالله يا إبن عباس أما تعلم أنّ رسول الله قال : ( إذا بلغ بنو الحكم ثلاثين رجلاً إتّخذوا مال الله بينهم دولاً ، وعباد الله خولاً ، ودين الله دغلاً ، فإذا بلغوا تسعة وتسعين وأربعمائة كان هلاكهم أسرع من لوك تمرة ) ؟
فقال ابن عباس : اللّهم نعم ، وترك مروان حاجة له ، فرد عبد الملك إلى معاوية فكلّمه ، فلمّا أدبر عبد الملك قال : أنشدك الله يا ابن عباس أما تعلم أنّ رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ذكر هذا فقال : ( أبو الجبابرة الاَربعة ) ؟ قال ابن عبّاس : اللّهم نعم
(3) .
---------------------------
(1) دلائل النبوة للبيهقي 6 : 505 ، البداية والنهاية 6 : 241 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 18 : 126 / 36 .
(2) دلائل النبوة للبيهقي 6 : 507 ، البداية والنهاية 6 : 242 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 18 : 126 / 36 .
(3) دلائل النبوة للبيهقي 6 : 508 ، البداية والنهاية 6 : 242 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 18 : 126 / 36 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 69 _
يوسف بن مازن الراسبي قال : قام رجل إلى الحسن بن عليّ
( عليهما السلام ) فقال : يا مسوّد وجه المؤمنين ، فقال الحسن : ( لا تؤنّبني رحمك الله ، فإنّ رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) رأى بني اُميّة يخطبون على منبره رجلاً فرجلاً فساءه ذلك ، فنزلت ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) الكوثر نهر في الجنّة ، ونزلت ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) يعني ألف شهر تملكه بنو اُميّة ) ، فحسبنا ذلك فإذا هو لا يزيد ولا ينقص
(1) ، والروايات في هذا الفنّ من الآيات كثيرة لا يتّسع لذكر جميعها هذا الكتاب ، وفي ما أوردناه كفاية لذوي الاَلباب .
الباب الثالث
في ذكر مختصر من أحوال رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) من لدن مبعثه إلى وقت هجرته إلى المدينة ، ثم إلى أن اُمر ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بالقتال ، وبعض ماظهر من الآيات والمعجزات في أثناء هذه الأحوال ، وفيه ثمانية فصول :
---------------------------
(1) سنن الترمذي 5 : 444 / 3350 ، مستدرك الحاكم 3 : 170 ، دلائل النبوة للبيهقي 6 : 509 ، البداية والنهاية 6 : 243 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 18 : 127 / 36 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 70 _
الفصل الأول
في ذكر مبدأ المبعث
ذكر عليّ بن إبراهيم بن هاشم ـ وهو من أجلّ رواة أصحابنا ـ في كتابة : أنّ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لمّا أتى له سبع وثلاثون سنة كان يرى في نومه كأنّ آتياً أتاه فيقول : يا رسول الله ، فينكر ذلك ، فلمّا طال عليه الأمر وكان بين الجبال يرعى غنماً لأبي طالب فنظر إلى شخص يقول له : ( يا رسول الله ) ، فقال له : ( من أنت ) ؟ قال : ( جبرئيل ، أرسلني الله ليتّخذك رسولاً ) ،
فأخبر رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) خديجة بذلك ، وكانت خديجة قد إنتهى إليها خبر اليهودي وخبر بحيراء وما حدّثت به آمنة اُمّه ، فقالت : يا محمّد إنّي لأرجوا أن تكون كذلك ، وكان رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يكتم ذلك فنزل عليه جبرئيل ( عليه السلام ) وأنزل عليه ماءً من السماء فقال : ( يا محمّد قم توضّأ للصلاة ) فعلّمه جبرئيل الوضوء على الوجه واليدين من المرفق ومسح الرأس والرجلين إلى الكعبين وعلّمه السجود والركوع ، فلمّا تمّ له ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أربعون سنة أمره بالصلاة وعلّمه حدودها ، ولم ينزل عليه أوقاتها ، فكان رسول الله ( صلّى عليه وآله وسلّم ) يصلّي ركعتين ركعتين في كلّ وقت ، وكان عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) يألفه ويكون معه في مجيئه وذهابه لا يفارقه ، فدخل على رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وهو يصلّي ، فلمّا نظر إليه يصلّي قال : ( يا أبا القاسم ما هذا ) ؟ قال : ( هذه الصلاة التي أمرني الله بها ) ، فدعاه إلى الاسلام ، فأسلم وصلّى معه ، وأسلمت خديجة ، فكان لا يصلّي إلاّ رسول الله ، وعليّ وخديجة ( عليهم السلام ) خلفه ، فلمّا أتى لذلك أيّام دخل أبو طالب إلى منزل رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ومعه جعفر ، فنظر إلى رسول الله وعليّ ( عليهما السلام ) بجنبه يصلّيان ، فقال لجعفر : ياجعفر صل جناح ابن عمّك ، فوقف جعفر بن أبي طالب ( عليه السلام ) من جانب الآخر ، فلمّا وقف جعفر على يساره بدر رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) من بينهما وتقدّم ،
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 71 _
وأنشأ أبو طالب في ذلك يقول :
إنّ عـليّاً وَجـعفّراً iiثـقتي عـندَ مـلمِّ الزمان iiوالكربِ والله لا أخـذلُ الـنبيّ ولا يَـخذِلهُ مِن بنيّ ذو iiحسبِ لا تخذلا وانصرا إبن عمّكما أخـي لاُمّي مِن بينهم iiوأبي |
قال : وكان رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يتّجر لخديجة قبل أن يزوّج بها وكان أجيراً لها ، فبعثته في عير لقريش إلى الشام مع غلام لها يقال له : ميسرة ، فنزلوا تحت صومعة راهب من الرهبان ، فنزل الراهب من الصومعة ونظر إلى رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فقال : من هذا ؟ قالوا : هذا ابن عبد المطّلب ، قال : لا ينبغي أن يكون أبوه حيّاً ، ونظر إلى عينيه وبين كتفيه فقال : هذا نبيّ الاُمّة ، هذا نبيّ السيف ، فرجع ميسرة إلى خديجة فأخبرها بذلك ، وكان هذا هو الذي أرغب خديجة في تزويجها نفسها منه ، وربحت في تلك السفرة ألف دينار ، ثمّ خرج رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إلى بعض أسواق العرب فرأى زيداً ووجده غلاماً كيّساً فإشتراه لخديجة ، فلمّا تزوّجها رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وهبته منه ، فلمّا نبىء رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وأسلم علي أسلم زيد بعده ، فكان يصلّي خلف رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) علي وجعفر وزيد وخديجة
(1) .
وذكر الشّيخ أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي في كتاب دلائل النبوّة : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال : حدّثنا أبو محمّد بن أحمد بن عبد الله المزني ، قال : حدّثنا يوسف بن موسى المرورذي ، قال : حدّثنا عباد بن يعقوب ، قال : حدّثنا يوسف بن أبي ثور ، عن السدّي عن عباد
---------------------------
(1) قصص الاَنبياء للراوندي : 317 / 395 ، وقطعة منه في : مناقب ابن شهر آشوب 1 : 44 ، وتاريخ الطبري 2 : 280 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 72 _
بن عبد الله ، عن عليّ ( عليه السلام ) قال : ( كنّا مع رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بمكّة فخرج في بعض نواحيها ، فما إستقبله شجر ولا جبل إلاّ قال له : ( السلام عليك يا رسول الله)
(1) .
وأخبرنا أبو الحسين بن بشران ، أخبرنا محمّد بن جعفر بن محمّد بن نصير ، حدّثنا محمّد بن عبد الله بن سليمان ، حدّثنا محمّد بن العلاء ، حدّثنا يونس بن عنبسة ، عن إسماعيل بن عبد الرحمن ، عن السدي ، عن عباد قال : سمعت عليّاً ( عليه السلام ) يقول :
( لقد رأيتني أدخل معه ـ يعني النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ـ الوادي فلا يمرّ بحجر ولا شجر إلاّ قال : السلام عليك يا رسول الله ، وأنا أسمعه )
(2) .
وأخبرنا الحافظ قال : حدّثنا أبو العباس محمّد بن يعقوب ، حدّثنا أحمد بن عبد الجبّار ، حدّثنا يونس بن بكير ، عن أبي إسحاق ، حدّثنا يحيى بن أبي الاَشعث الكندي ، حدّثني إسماعيل بن أياس بن عفيف ، عن ابيه ، عن جدّه عفيف أنه قال : كنت امرءاً تاجراً ، فقدمت منى أيّام الحج ، وكان العباس بن عبدالمطلب امراءاً تاجراً ، فأتيته أبتاع منه وأبيعه ، قال : فبينا نحن إذ خرج رجلٌ من خباء يصلّي فقام تجاه الكعبة ، ثمّ خرجت امرأة فقامت تصلّي ، وخرج غلام يصلّي معه ، فقلت : يا عبّاس ما هذا الدين ؟ إنّ هذا الدين ما ندري ما هو ؟ فقال : هذا محمّد بن عبد الله يزعم أنّ الله أرسله ، وأنّ كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه ، وهذه إمرأته خديجة بنت خويلد آمنت به ، وهذا الغلام ابن
---------------------------
(1) دلائل النبوة للبيهقي 2 : 153 ، وانظر : الخرائج والجرائح 1 : 46 / 59 ، سنن الدارمي 1 : 12 ، سنن الترمذي 5 : 593 / 3626 ، مستدرك الحاكم 2 : 620 ، السيرة النبوية لابن كثير 1 : 411 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 17 : 387 / 55 .
(2) دلائل النبوة للبيهقي 2 : 154 ، وكذا في : السيرة النبوية لابن كثير 1 : 411 ، البداية والنهاية 3 : 16 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 17 : 388 /ذيل حديث 55 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 73 _
عمّه عليّ بن أبي طالب آمن به ، قال عفيف : فليتني كنت آمنت به يومئذ فكنت أكون ثانياً
(1) ، تابعه إبراهيم بن سعد ، عن محمّد بن إسحاق ، وقال في الحديث : إذ خرج من خباء قريب فنظر إلى السماء فلمّا رآها قد مالت قام يصلّي ، ثمّ ذكر قيام خديجة خلفه
(2) .
وأخبرنا أبو الحسين الفضل بإسناد ذكره ، عن مجاهد بن جبر قال : كان ممّا أنعم الله على عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) وأراد به من الخير أنّ قريشاً أصابتهم أزمة شديدة ، وكان أبو طالب ذا عيال كثير ، فقال رسول الله للعبّاس عمّه ـ وكان من أيسر بني هاشم ـ : ( يا عبّاس إنّ أخاك أبا طالب كثير العيال وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة ، فإنطلق حتّى نخفّف عنه من عياله ) .
فأخذ رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) عليّاً فضمّه إليه ، فلم يزل عليّ مع رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) حتّى بعثه الله نبيّاً فإتّبعه عليّ وآمن به وصدّقه
(3) ، قال عليّ بن إبراهيم : فلمّا أتى لرسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بعد ذلك ثلاث سنين أنزل الله عليه ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ )
(4) فخرج رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وقام على الحجر فقال : ( يا معشر قريش ويا معشر العرب ،
---------------------------
(1) دلائل النبوة للبيهقي 2 : 162 ، وكذا في : تاريخ الطبري 2 : 311 ، مستدرك الحاكم 3 : 183 ، ووافقه الذهبي في ذيل المستدرك ، ذخائر العقبى : 59 ، السيرة النبوية لابن كثير 1 : 429 ، البداية والنهاية 3 : 25 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 18 : 207 / 37 .
(2) دلائل النبوة للبيهقي 2 : 163 ، وكذا في : السيرة النبوية لابن كثير 1 : 429 ، البداية والنهاية 3 : 25 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 18 : 208 / 37 .
(3) دلائل النبوة للبيهقي 2 : 162 ، وكذا في : سيرة ابن هشام 1 : 263 ، تاريخ الطبري 2 : 313 ، مستدرك الحاكم 3 : 567 ، السيرة النبوية لابن كثير 1 : 429 ، البداية والنهاية 3 : 25 ، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 18 : 208 / ذيل الحديث 37 .
(4) الحجر 15 : 94 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 74 _
أدعوكم إلى عبادة الله تعالى وخلع الأنداد الأصنام ، وأدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّي رسول الله ، فأجيبوني تملكوا بها العرب وتدين لكم العجم ، وتكونون ملوكاً في الجنّة ) ، فاستهزؤوا منه وضحكوا وقالوا : جنّ محمّد بن عبد الله ، وآذوه بألسنتهم ، فقال له أبو طالب : يابن أخي ما هذا ؟ قال : ( يا عمّ هذا دين الله الذي إرتضاه لملائكته وأنبيائه ودين إبراهيم والأنبياء من بعده ، بعثني الله رسولاً إلى الناس ) ، فقال : ياابن أخي إنّ قومك لا يقبلون هذا منك ، فاكفف عنهم ؟ فقال : ( لا أفعل ، فإنّ الله قد أمرني بالدعاء ) ، فكفّ عنه أبو طالب ، وأقبل رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في الدعاء في كلّ وقت ) يدعوهم ويحذّرهم ، فكان من سمع من خبره ما سمع من أهل الكتب يُسلمون ، فلمّا رأت قريش من يدخل في الاِسلام جزعوا من ذلك ومشوا إلى أبي طالب وقالوا : اكفف عنّا ابن أخيك فإنّه قد سفّه أحلامنا ، وسبّ آلهتنا ، وأفسد شبّاننا ، وفرّق جماعتنا ، فدعاه أبو طالب فقال : يا ابن أخي إنّ القوم قد أتوني يسألونك أن تكفّ عن آلهتهم ، قال : ( يا عمّ لا أستطيع ذلك ، ولا أستطيع أن أخالف أمر ربيّ ) ،
فكان يدعوهم ويحذّرهم العذاب ، فإجتمعت قريش إليه فقالوا : إلى ما تدعو يا محمّد ؟ قال : ( إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله وخلع الاَنداد كلّها ) قالوا : ندع ثلاثمائة وستّين إلهاً ونعبد إلهاً واحداً ؟ ! فحكى الله سبحانه قولهم ( وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ، أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) ـ إلى قوله : ـ ( بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ )
(4) ، ثمّ إجتمعوا إلى أبي طالب فقالوا : يا أبا طالب إن كان ابن أخيك يحمله على هذا الفعل العدم جمعنا له مالاً فيكون أكثر قريش مالاً ، فدعاه أبو طالب وعرض ذلك عليه ، فقال له رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( يا عمّ مالي حاجة في المال ، فأجيبوني تكونوا ملوكاً في الدينا وملوكاً في الآخرة وتدين لكم العرب والعجم ) ، فتفرّقوا ، ثمّ جاءوا إلى أبي طالب فقالوا : يا أبا طالب أنت سيّد من سادتنا وابن أخَيك قد سفّه أحلامنا وسبّ آلهتنا وفرّق جماعتنا ، فهلمّ ندفع إليك أبهى فتى في قريش وأجملهم وأحسنهم وجهاً وأشبّهم شباباً وأشرفهم شرفاً عمارة بن الوليد ، يكون لك ابناً وتدفع إلينا محمّداً لنقتله .
---------------------------
(1) سورة ص 38 : 4 ـ 8 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 75 _
فقال : ما أنصفتموني ، تسألوني أن أدفع إليكم ابني لتقتلوه وتدفعون إليّ ابنكم لاُربّيه ! فلمّا آيسوا منه كفّوا
(1) ، وفي كتاب دلائل النبوّة : حدّثنا الحافظ بإسناد ذكره ، عن إبراهيم بن محمّد بن طلحة قال : قال طلحة بن عبيد الله : حضرت سوق بُصرى فإذا راهب في صومعته يقول : سلوا أهل هذا الموسم أفيهم أحدٌ من أهل الحرم ،
قال طلحة : قلت : نعم أنا ، فقال : هل ظهر أحمد بعد ؟ قال : قلت : ومن أحمد ؟ قال : ابن عبد الله بن عبد المطّلب ، هذا شهره الذي يخرج فيه ، وهو آخر الأنبياء ، مخرجه من الحرم ، ومهاجره إلى نخل وحرّة وسباخ ، فإيّاك أن تسبق إليه .
قال طلحة : فوقع في قلبي ما قال ، فخرجت سريعاً حتّى قدمت مكّة فقلت : هل كان من حدث ؟ قالوا : نعم محمّد بن عبد الله الاَمين تنبّأ وقد تبعه ابن أبي قحافة ، قال : فخرجت حتّى دخلت على أبي بكر فقلت : إتّبعت هذا الرجل ؟ قال : نعم ، فانطلق إليه فادخل عليه فإتبعه فإنه يدعو إلى الحق ، فأخبره طلحة بما قال الراهب ، فخرج أبو بكر بطلحة فدخل به على رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فأسلم طلحة وأخبر رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بما قال الراهب فسرّ رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بذلك ، فلما أسلم أبو بكر وطلحة أخذهما نوفل بن خويلد بن العدويّة فشدّهما في حبل واحد ولم يمنعهما بنو تيم ، وكان نوفل بن خويلد يدعى أسد قريش
(2) .
---------------------------
(1) انظر : تفسير القمي 1 : 378 ـ 380 ، قصص الاَنبياء للراوندي : 318 / 396 ، مناقب ابن شهر آشوب 1 : 57 ، تاريخ الطبري 2 : 322 .
(2) دلائل النبوة للبيهقي 2 : 166 ـ 167 ، وكذا في : مستدرك الحاكم 3 : 369 ،والبداية والنهاية 3 : 29 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 76 _
الفصل الثاني
في ذكر إعتراف مشركي قريش بما في القرآن من الإعجاز
وأنّه لا يشبه شيئاً من لغاتهم مع كونهم من أرباب اللغة والبيان
وكان رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لا يكفّ عن عيب آلهة المشركين ويقرأ عليهم القرآن فيقولون : هذا شعر محمّد ، ويقول بعضهم : بل هو كهانة ، ويقول بعضهم : بل هو خطب ،
وكان الوليد بن المغيرة شيخاً كبيراً ، وكان من حكام العرب يتحاكمون إليه في الأمور وينشدونه الأشعار ، فما إختاره من الشعر كان مختاراً ، وكان له بنون لا يبرحون مكّة ، وكان له عبيد عشرة عند كلّ عبد ألف دينار يتّجر بها ، وملك القنطار في ذلك الزمان ، والقنطار جلد ثور مملوءٌ ذهباً ، وكان من المستهزئين برسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وكان عمّ أبي جهل بن هشام ، فقالوا له : يا عبد شمس ما هذا الذي يقول محمّد أسحر أم كهانة أم خطب ؟ فقال : دعوني أسمع كلامه ،
فدنا من رسول الله وهو جالسٌ في الحجر فقال : يا محمّد أنشدني من شعرك ، فقال : ( ما هو شعر ولكنّه كلام الله الذي بعث أنبياءه ورسله ) ،
فقال : اُتل عليّ منه ، فقرأ عليه رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ( بسم الله الرحمن الرحيم ) فلمّا سمع الرحمن إستهزأ فقال : تدعو إلى رجل باليمامة يسمى الرحمن ؟ .
قال : ( لا ولكنّي أدعو إلى الله وهو الرحمن الرحيم ) ،
ثمّ إفتتح ( حم السجدة ) فلما بلغ إلى قوله :( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ )
(1)وسمعه إقشعرّ جلده وقامت كلّ شعرة في رأسه ولحيته ، ثمّ قام ومضى إلى بيته ولم يرجع إلى قريش ، فقالت قريش : يا ابا الحكم صبا ابو عبد شمس إلى دين محمّد ، أما تراه لم يرجع إلينا وقد قبل قوله ومضى إلى منزله ، فإغتمّت قريش من ذلك غمّاً شديداً وغدا عليه أبو جهل فقال : يا عمّ نكست برؤوسنا وفضحتنا .
---------------------------
(1) فصلت 41 : 13 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 77 _
قال : وما ذلك يابن أخي ؟ قال : صبوت إلى دين محمّد ، قال : ماصبوت وإنّي على دين قومي وآبائي ولكنّي سمعت كلاماً صعباً تقشعرّ منه الجلود ، قال أبو جهل : أشعر هو ؟ .
قال : ما هو بشعر ، قال : فخطب هي ؟ قال : لا إنّ الخطب كلام متّصل وهذا كلام منثور ، لا يشبه بعضه بعضاً ، له طلاوة
(1) ، قال : فكهانة هو ؟ ! فكأنّه هي ، قال : لا ، قال : فما هو ؟ قال : دعني اُفكّر فيه .
فلما كان من الغد ، قالوا : يا عبد شمس ما تقول ؟
قال : قولوا : هو سحرٌ فإنه أخذ بقلوب الناس ، فأنزل الله تعالى فيه : ( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ، وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً ، وَبَنِينَ شُهُوداً ) إلى قوله ( عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ )
(2) (3) .
وفي حديث حمّاد بن زيد ، عن أيّوب ، عن عكرمة قال : جاء الوليد بن المغيرة إلى رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فقال له : إقرأ عليّ ، فقرأ عليه ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ )
(4) ، فقال : أعد ، فأعاد ، فقال : والله إنّ له لحلاة ، وإنّ عليه لطلاوة ، وإنّ أعلاه لمثمر ، وإنّ أسفله لمغدق ، وما يقول هذا بشرٌ
(5) .
---------------------------
(1) الطلاوة : الرونق والحسن ، ( النهاية 3 : 137 ).
(2) المدثر 74 : 11 ـ 30 .
(3) انظر : تفسير القمي 2 : 393 ، قصص الأنبياء للراوندي : 319 / 397 ، مناقب ابن شهر آشوب 1 : 52 .
(4) النحل 16 : 90 .
(5) قصص الأنبياء للراوندي : 320 / 398 ، مناقب ابن شهر آشوب 1 : 53 ، دلائل النبوة للبيهقي 2 : 198 وفيه بإختلاف يسير ، وبتفصيل في أسباب النزول للواحدي : 250 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 78 _
الفصل الثالث
في ذكر كفاية الله المستهزئين وما ظهر فيها من الآيات
قال : وكان المستهزئون برسول الله خمسة نفر : الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل السهميّ ، والأسود بن المطّلب وهو أبو زمعة ؛ والأسود بن عبد يغوث من بني زهرة ؛ والحارث بن الطلاطلة الخزاعيّ ، قال : فمرّ الوليد بن المغيرة برسول الله( صلى عليه وآله وسلّم ) ومعه جبرئيل ( عليه السلام ) فقال : ( يا محمّد هذا الوليد بن المغيرة وهو من المستهزئين ) ، فقال : ( نعم ) ، وكان مرّ برجل من خزاعة على باب المسجد وهو يريش فلما نبالاً له فوطأ على بعضها فأصاب أسفل عقبه قطعة من ذلك فدميت ، فلما مرّ جبرئيل أشار جبرئيل إلى ذلك الموضع ، فرجع إلى منزله ونام على سريره ، وكانت ابنته نائمة أسفل منه فإنفجر ذلك الموضع الذي أشار إليه جبرئيل أسفل عقبه ، فسال الدم حتّى صار على فراش ابنته فصاحت ابنته وقالت : يا جارية انحلّ وكاء القربة ، فقال لها الوليد : يا بنيّة ما هذا ماء القربة ولكنّه دم أبيك ، فاجمعي لي ولدي وولد أخي فإنّي ميّت ، فلمّا حضروا أوصاهم بوصيّته وفاظت نفسه .
ومرّ الأسود بن المطّلب برسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فأشار جبرئيل ( عليه السلام ) إلى بصره فعمي ، ثمّ مات بعد ذلك ، ومرّ به الأسود بن عبد يغوث ، فأشار جبرئيل إلى بطنه فإستسقى فإنتفخ حتّى انشقّ بطنه .
ومرّ به العاص بن الوائل ، فأشار جبرئيل إلى رجله فدخلت جذلة
(1) في أخمص قدميه وخرجت من ظاهر قدمه ، فورمت رجله فمات .
ومرّ به ( ابن ) الطلاطلة ، فتفل جبرئيل في وجهه فخرج إلى جبال تهامة فأصابه السمائم فإحترق واسودّ ، فرجع إلى منزله فلم يدعوه أن يدخل وقالوا : لست بصاحبنا ، فخرج من منزله فأصابه العطش فما زال يستسقي حتّى انشقّ بطنه وهو قول الله تعالى : ( إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ َ )
(2)(3) .
---------------------------
(1) الجذل : أصل الشجرة إذا قطع رأسها ، وقد يسمى العود جذلاً أيضاً ، انظر ( العين 6 : 94 ، النهاية 1 : 251 ) .
(2) الحجر 15 : 95 .
(3) اُنظر : تفسير القمي 1 : 378 ، الإحتجاج 1 : 216 ، تفسير الطبري 14 : 48 ـ 49 ، التفسير العظيم 2 : 580 ، الكشاف 2 : 399 ، البحر المحيط 5 : 470 ، دلائل النبوة للبيهقي 2 : 316 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 79 _
الفصل الرابع
في ذكر الهجرة إلى الحبشة وتصديق النجاشي له ومن تبعه ( عليه السلام )
لمّا إشتدّت قريش في أذى رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وأصحابه أمرهم رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أن يخرجوا إلى الحبشة ، وأمر جعفر أن يخرج بهم ، فخرج جعفر وخرج معه سبعون رجلاً حتّى ركبوا البحر ، فلمّا بلغ قريشاً خروجهم بعثوا عمرو بن العاص السهميّ وعمارة بن الوليد إلى النجاشي أن يردهم إليهم ، وأن يعلماه أنّهم مخالفون لهم ، فخرج عمارة وكان شابّاً حسن الوجه مترفاً ، وأخرج عمرو بن العاص أهله ، فلمّا ركبوا السفينة شربوا الخمر فقال عمارة لعمرو بن العاص : قل لاَهلك تقبّلني ، فقال : سبحان الله أيجوز هذا ؟ ! فتركه حتّى إنتشى ، وكان على صدر السفينة فدفعه عمارة وألقاه في البحر ، فتشبّث عمرو بصدر السفينة وأدركوه فأخرجوه ، فلمّا أن رأى عمرو ما فعل به عمارة قال لاَهله : قبّليه ! ! فوردوا على النجاشي فدخلوا عليه ـ وقد كانوا حملوا إليه هدايا ـ فقال عمرو : أيّها الملك إنّ قوماً منّا خالفونا في ديننا وصاروا إليك فردّهم إلينا ، فبعث النجاشي إلى جعفر فأحضره فقال : يا جعفر إنّ هؤلاء يسألونني أن أردّكم إليهم ، فقال : أيّها الملك سلهم أنحن عبيد لهم ؟ قال عمرو : لا ، بل أحرارٌ كرامٌ ، قال : فسلهم ألهم علينا ديونٌ يطالبوننا بها ؟
قال : لا ، ما لنا عليهم ديونٌ ، قال : فلهم في أعناقنا دماء يطالبوننا بذحولها
(1) .
قال عمرو بن العاص : لا ، ما لنا في أعناقهم دماء ولا نطالبهم بذحول ، قال : فما تريدون منّا ؟ قال عمرو : خالفونا في ديننا ودين آبائنا ، وسبّوا آلهتنا ، وأفسدوا شبّاننا ، وفرّقوا جماعتنا ، فردّهم إلينا ليجتمع أمرنا ، فقال جعفر : أيّها الملك خالفناهم لنبيّ بعثه الله فينا ، أمرنا بخلع الأنداد ، وترك الإستقسام بالأزلام ، وأمرنا بالصلاة والزكاة ، وحرّم الظلم والجور وسفك الدماء بغير حلّها ، والزنا والربا والميتة والدم ، وأمر بالعدل والاِحسان وإيتاء ذي القربى ، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي .
---------------------------
(1) الذحول : جمع ذحل ، وهو الحقد والعداوة ، يقال : طلب بذَحله ، أي بثأره ( الصحاح ـ ذَحل ـ 4 : 1701 ) .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 80 _
فقال النجاشي : بهذا بعث الله عيسى بن مريم ، ثمّ قال النجّاشي : يا جعفر أتحفظ ممّا أنزل الله على نبيّك شيئاً ، قال : نعم ، قال : إقرأ ، فقرأ عليه سورة مريم ( عليها السلام ) فلمّا بلغ إلى قوله : ( وَهُزّي اِليكَ بِجِذعِ النّخلَةَ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً ، فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً )
(1) بكى النجاشي وقال : إنّ هذا هوالحقّ .
فقال عمرو : أيّها الملك إنّ هذا ترك ديننا فردّه علينا حتّى نردّه إلى بلادنا ، فرفع النجاشي يده فضرب بها وجهه ، ثمّ قال : لئن ذكرته بسوء لاَقتلنّك ، فقال عمرو ـ والدماء تسيل على ثيابه ـ : أيّها الملك إن كان هذا كما تقول فإنّا لا نعرض له ، فخرج من عنده ،
وكانت على رأس النجاشي وصيفة له تذبّ عنه فنظرت إلى عمارة بن الوليد وكان فتى جميّلاً ، فلمّا رجع عمرو بن العاص إلى منزله قال لعمارة : لو راسلت جارية الملك ، فراسلها عمارة فأجابته فقال لعمرو بن العاص : قد أجابتني ، قال : قل لها : تحمل إليك من طيب الملك شيئاً ، فقال لها ، فحملته إليه فأخذه عمرو بن العاص وكان الذي فعل به عمارة ـ حيث ألقاه في البحر ـ في قلبه ، فأدخل الطيب على النجاشي فقال : أيها الملك إنّ من حرمة الملك وحقّه علينا وإكرامه إيّاناإذا دخلنا بلاده ونأمن فيه أن لا نغشّه ، وإنّ صاحبي هذا الذي معي قد راسل حرمتك وخدعها وبعثت إليه من طيبك ، فعرض عليه طيبه ، فغضب النجاشي لذلك غضباً شديداً ، وهمّ أن يقتل عمارة ثمّ قال : لا يجوز قتله لاَنّهم دخلوا بلادي بأمان ، فدعا السحرة وقال : اعملوا به شيئاً يكون عليه أشدّ من القتل .
فأخذوه ونفخوا في إحليله شيئاً من الزئبق فصار مع الوحش ، فكان يغدو معهم ولا يأنس بالناس ، فبعثت قريش بعد ذلك في طلبه ، فكمنوا له فى موضع فورد الماء مع الوحش فقبضوا عليه ، فما زال يضطرب في أيديهم ويصيح حتّى مات ، فرجع عمرو إلى قريش فأخبرهم خبره وأنّه بقي جعفر بأرض الحبشة في أكرم كرامة ، فما زال بها حتّى بلغه أنّ رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قد هادن قريشاً وقد وقع بينهم صلح ، فقدم بجمع من معه ووافى رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وقد فتح خيبر .
---------------------------
(1) مريم 19 : 25 و 26 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 81 _
وولد لجعفر من أسماء بنت عميس بالحبشة عبد الله بن جعفر ، وولد للنجاشي ابن فسمّاه محمداً وسقته أسماء من لبنها
(1) ، وقال أبو طالب ـ يحضّ النجاشي على نصرة النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) واتّباعه ـ :
تـعلم مـليك الـحبش أنّ iiمحمداً نـبيّ كموسى والمسيح إبن مريم أتـى بـالهدى مثل الذي أتيا iiبه وكـلّ بـأمر الله يـهدي iiويعصم وإنّـكـم تـتلونه فـي iiكـتابكم بـصدق حديث لا حديث iiالترجّم فـلا تـجعلوا لـله نـدّا وأسلموا فإنّ طريق الحقّ ليس بمظلم (2) |
وفيما رواه أبو عبد الله الحافظ بإسناده ، عن محمّد بن إسحاق قال : بعث رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) عمرو بن اُميّة الضمري إلى النجاشي في شأن جعفر بن أبي طالب وأصحابه وكتب معه كتاباً :
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
من محمّد رسول الله إلى النجاشي الأصحم ملك الحبشة ، سلامٌ عليك ، فإنّي أحمد إليك الله الملك القدّوس المؤمن المهيمن ، وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيّبة الحصينة ، فحملت بعيسى فخلقه من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده ونفخه ، وإنّي أدعوك إلى الله وحده لا شريك له ، والموالاة على طاعته ، وأن تتبعني وتؤمن بي وبالذي جاءني ، فإنّي رسول الله ، وقد بعثت إليكم ابن عمّي جعفراً ومعه نفر من المسلمين ، فإذا جاءوك فأقرهم ودع التجبّر ، فإنّي أدعوك وجنودك إلى الله ، وقد بلّغت ونصحت فإقبلوا نصيحتي ، والسلام على من اتبع الهدى ) .
---------------------------
(1) قصص الأنبياء للراوندي : 322 / 322 ، وانظر : تاريخ اليعقوبي 2 : 29 ، دلائل النبوة للبيهقي 2 : 293 ، البداية والنهاية 3 : 69 .
(2) قصص الأنبياء للراوندي : 323 / 323 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 18 : 418 / 4 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 82 _
فكتب النجاشي إلى رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) :
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الى محمّد رسول الله من النجاشي الأصحم بن أبحر، سلام عليك يا نبيّ الله من الله ورحمة الله وبركاته ، لا إله إلاّ هو الذي هداني إلى الاِسلام ، وقد بلغني كتابك ، يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى ، فوربّ السماء الأرض إنّ عيسى ما يزيد على ما ذكرت ، وقد عرفنا ما بعثت به إلينا ، وقد قربنا ابن عمّك وأصحابه ، فأشهد أنّك رسول الله صادقاً مصدّقاً ، وقد بايعتك وبايعت ابن عمّك وأسلمت على يديه لله ربّ العالمين ، وقد بعثت إليك يا نبي الله أريحا بن الأصحم بن أبحر ، فإنّي لا أملك إلاّ نفسي ، وإن شئت أن آتيك فعلت يا رسول الله ، فإنّي أشهد أن ما تقول حقّا ، ثمّ بعث إلى رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بهدايا ، وبعث إليه بمارية القبطيّة ، اُمّ إبراهيم ، وبعث إليه بثياب وطيب كثير وفرس ، وبعث إليه ثلاثين رجلاً من القسّيسين لينظروا إلى كلامه ومقعده ومشربه ، فوافوا المدينة ودعاهم رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إلى الاِسلام فأمنوا ورجعوا إلى النجاشي
(1) .
وفي حديث جابر بن عبد الله : أنّ رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) صلّى على أصحمة النجاشي
(2) .
---------------------------
(1) انظر : قصص الأنبياء للراوندي : 323 / 404 ، ودلائل النبوة للبيهقي 2 : 308 ، والبداية والنهاية 3 : 83 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 18 : 418 / 5 .
(2) نقله المجلسي في بحار الأنوار 18 : 420 / 6 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 83 _
الفصل الخامس
في ذكر ما لقي رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم )
من أذى المشركين ، وإسلام حمزة بن عبد المطّلب
قال : وجدّت قريش في أذى رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وكان أشدّ الناس عليه عمّه أبو لهب ، وكان رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ذات يوم جالساً في الحجر فبعثوا إلى سلى
(1) الشاة فألقوه على رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فإغتمّ رسول الله من ذلك فجاء إلى أبي طالب ، فقال : يا عمّ كيف حسبي فيكم ؟ قال : وما ذاك يا ابن أخ ؟ قال : إن قريشاً ألقوا عليّ سلى ، فقال لحمزة : خذ السيف ، وكانت قريش جالسة في المسجد ، فجاء أبو طالب ( عليه السلام ) ومعه السيف وحمزة ومعه السيف ، فقال : أمّر السلى على سبالهم فمن أبى فأضرب عنقه ، فما تحرّك أحدٌ حتّى أمرّ السلى على سبالهم ، ثمّ إلتفت إلى رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فقال : يا بن أخ هذا حسبك فينا
(2) .
وفي كتاب دلائل النبوّة : عن ابي داود ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق : سمعت عمرو بن ميمون يحدّث عن عبد الله قال : بينما رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ساجدٌ وحوله ناس من قريش ، وثمّ سلى بعير فقالوا : من يأخذ سلى هذا الجزور أو البعير فيقذفه على ظهره ؟.
---------------------------
(1) السلى : الجلد الرقيق الذي يخرج فيه الولد من بطن امه ملفوفاً فيه ، وقيل : هو في الماشية السلى ، وفي الناس المشيمة ، ( العين 2 : 396 ) .
(2) انظر : قصص الأنبياء للراوندي 320 / 399 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 18 : 209 / 38 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 84 _
فجاء عقبة بن أبي معيط فقذفه على ظهر النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم )، وجاءت فاطمة ( عليها السلام ) فأخذته من ظهره ! ؟ ودعت على من صنع ذلك ، قال عبد الله : فما رأيت رسول الله دعا عليهم إلاّ يومئذ فقال : ( اللهم عليك الملأ من قريش ، اللّهم عليك أبا جهل بن هشام ، وعتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وعقبة بن أبي معيط ، واُميّة بن خلف ـ أو اُبيّ بن خلف ـ ) شك شعبة ، قال : عبد الله ولقد رأيتهم قتلوا يوم بدر واُلقوا في القليب ـ أو قال : في بئر ـ غير أنّ اُميّة بن خلف ـ أو اُبي بن خلف ـ كان رجلاً بادنّا فتقطّع قبل أن يبلغ به البئر
(1) ، أخرجه البخاري في الصحيح
(2) .
قال : وأخبرنا الحافظ : أخبرنا أبوبكر الفقيه ، أخبرنا بشر بن موسى ، حدّثنا الحميدي ، حدّثنا سفيان ، حدّثنا بيان بن بشر ، وإسماعيل بن أبي خالد قالا : سمعنا قيساً يقول : سمعنا خبّاباً يقول : أتيت رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وهو متوسّد برده فى ظلّ الكعبة ، وقد لقينا من المشركين شدّة شديدة فقلت : يا رسول الله ألا تدعو الله لنا ؟ فقعد وهو محمرٌ وجهه ، فقال : ( إن كان مَن كان قبلكم ليمشَّط أحدهم بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه ، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشقّ باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه ، وليتّمن الله هذا الاَمر حتّى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلاّ الله ( عزّ وجلّ ) والذئب على غنمه ) ، رواه البخاري في الصحيح عن الحميدي
(3).
---------------------------
(1) دلائل النبوة للبيهقي 2 : 278 ، وكذا في : قصص الأنبياء للراوندي : 321 / 400 ، صحيح مسلم 3 : 1419 / 108 ، السيرة النبوية لابن كثير 1 : 468 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 18 : 209 / 38.
(2) صحيح البخاري 1 : 69 و 4 : 127 .
(3) صحيح البخاري 5 : 56 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 85 _
وأخرجناه من وجه آخر عن إسماعيل
(1) ، قال : وحدّثنا الحافظ بإسناده ، عن هشام ، عن أبي الزّبير ، عن جابر : أنّ رسول الله مرّ بعمّار وأهله وهم يعذّبون في الله فقال : ( أبشروا آل عمّار فإنّ موعدكم الجنّة )
(2) ، وأخبرنا ابن بشران العدل بإسناده ، عن مجاهد قال : أوّل شهيد كان إستشهد في الاِسلام اُمّ عمّار سميّة ، طعنها أبو جهل بطعنة في قلبها
(3) ، وروى عليّ بن إبراهيم بن هاشم بإسناده قال : كان أبو جهل تعرّض لرسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وآذاه بالكلام ، وإجتمعت بنو هاشم فأقبل حمزة وكان في الصيد فنظر إلى إجتماع الناس فقال : ما هذا ؟ فقالت له امرأة من بعض السطوح : يا أبا يعلى إنّ عمرو بن هشام تعرّض لمحمّد وآذاه ، فغضب حمزة ومرّ نحو أبي جهل وأخذ قوسه فضرب بها رأسه ، ثمّ إحتمله فجلد به الأرض ، وإجتمع الناس وكاد يقع فيهم شرّ ، فقالوا له : يا أبا يعلى صبوت إلى دين ابن أخيك ؟ قال : نعم ، أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله، على جهة الغضب والحميّة ، فلمّا رجع إلى منزله ندم فغدا على رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فقال : يا ابن أخ أحقاً ما تقول ؟ فقرأ عليه رسول الله( صلّى عليه وآله وسلّم ) سورة من القرآن ، فإستبصر حمزة ، وثبت على دين الاِسلام ، وفرح رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وسرّ بإسلامه أبو طالب ، فقال في ذلك :
---------------------------
(1) دلائل النبوة للبيهقي 2 : 283 .
(2) دلائل النبوة للبيهقي 2 : 282 ، وكذا في : سيرة ابن هشام 1 : 342 ، مستدرك الحاكم 3 : 388 ، اُسد الغابة 5 : 481 ، الاصابة 4 : 335 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 18 : 210 .
(3) دلائل النبوة للبيهقي 2 : 282 ، وكذا في الإستيعاب 4 : 330 ، اُسد الغابة 5 : 481 ، الإصابة 4 : 335 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 18 : 210 / 38 .