فما رأيتهما ، وسمعت التكبير تحتها ، فعلمت أنّ عليّاً قد قتله ، وانكشف أصحابه حتّى طفرت خيولهم الخندق .
وتبادر المسلمون حين سمعوا التكبير ينظرون ما صنع القوم ، فوجدوا نوفل بن عبد العزّى في جوف الخندق فجعلوا يرمونه بالحجارة فقال لهم : قتلة أجمل من هذه ، ينزل إليّ بعضكم اُقاتله ، فنزل إليه عليّ ( عليه السلام ) فضربه حتّى قتله ، قال جابر : فما شبّهت قتل عليّ عمراً إلاّ بما قصّ الله تعالى من قصّة داود وجالوت حيث قال : ( فَهَرمُوهُمْ بِاِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ )
، وقال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بعد قتله : « الان نغزوهم ولا يغزوننا »
.
ومن مواقفه في بني قريظة : أنّه ضرب أعناق رؤساء اليهود أعداء رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في الخندق ، منهم : حيي بن أخطب وكعب بن أسد بأمر رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم )
، ومن مقاماته المشهورة في غزوة وادي الرمل ـ ويقال : إنّها تسمّى غزوة السلسلة ـ : انه خرج ومعه لواء النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بعد أن خرج غيره إليهم ورجع عنهم خائباً ، ثمّ خرج صاحبه وعاد بما عاد به الأول ، فمضى عليّ ( عليه السلام ) حتّى وافى القوم بسحر ، وصلّى بأصحابه صلاة الغداة وصفّهم صفوفاً واتّكأ على سيفه مقبلاً على العدوّ وقال : « يا هؤلاء ، أنا رسول رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أن تقولوا : لا إله إلاّ الله محمد رسول الله وإلاّ ضربتكم بالسيف » .
فقالوا له : إرجع كما رجع صاحباك ، قال : « أنا أرجع ! لا والله حتّى تسلموا أو لأضربنّكم بسيفي هذا ، أنا عليّ بن أبي طالب بن عبد المطّلب » ، فاضطرب القوم وواقعهم فانهزموا وظفر المسلمون وحازوا الغنائمِ
(1) .
فروت اُمّ سلمة قالت : كان نبيّ الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قائلاً في بيتي إذ انتبه فزعاً من منامه فقلت : الله جارك ، قال : « صدقت ، الله جاري ، ولكن هذا جبرئيل يخبرني أنّ عليّاً قادم » ، ثمّ خرج إلى الناس فامرهم أن يستقبلوا عليّاً ، وقام المسلمون صفّين مع رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فلمّا بصر به عليّ ترجّل عن فرسه وأهوى إلى قدميه يقبّلهما ، فقال له النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : « اركب ، فإنّ الله ورسوله عنك راضيان » ، فبكى عليّ عليه السلام فرحاً وانصرف إلى منزله
(2).
وقد ذكر بعض أصحاب السير إنّ في هذه الغزاة نزل على النبيّ ( والْعادياتِ ضَبْحاً )
(3) (4) إلى آخرها .
وأما مقامه بخيبر وبلاؤه يوم الحديبية فممّا مرّ ذكره فيما قبل
(5) .
ومن مقاماته قبل الفتح : أنّ رسول الله ( صلّى اللهّ عليه وآله وسلّم ) دبّر الأمر في ذلك بالكتمان وسأل الله عزّ وجلّ أن يطوي خبره عن أهل مكّة حتّى يفجأهم بدخولها ، فكان المؤتمن على هذا السرّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، ثمّ أنماه إلى جماعة من بعد، فكتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلى أهل مكّة يطلعهم فيه على سرّ رسول اللهّ في المسير إليهم ، وأعطى الكتاب امرأة سوداء وأمرها أن تاخذ على غير الطريق .
فنزل بذلك الوحي ، فدعا النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وقال : « إنّ بعض أصحابي قد كتب إلى أهل مكّة يخبرهم بخبرنا ، والكتاب مع امرأة سوداء قد أخذت على غير الطريق ، فخذ سيفك والحقها وانتزع الكتاب منها » وبعث معه الزبير بن العوّام .
فمضيا على غير الطريق ، فادركا المرأة، فسبق إليها الزبير وسألها عن الكتاب فانكرته وحلفت أنّه لا شيء معها وبكت ، فقال الزبير: يا أبا الحسن ما أرى معها كتاباً ، فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « يخبرني رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) أنّ معها كتاباً ويأمرني بأخذه منها وتقول أنه لا كتاب معها » ! ثمّ اخترط السيف وقال : « أما والله لئن لم تخرجي الكتاب لأكشفنّك ثمّ لأضربن عنقك » ، فقالت له : إذا كان لا بدّ من ذلك فاعرض يا ابن أبي طالب عنّي بوجهك .
---------------------------
(1) ارشادالمفيد 1 : 113 مفصلاً .
(2) ارشادالمفيد 1 : 116 .
(3) العاديات 100 : ا .
(4) انظر : تفسير القمي 2 : 434 ، ارشاد المفيد 1 : 117 ، وأمالي الطوسي 2 : 21 ، ومجمع البيان 5 : 528 ، ومناقب ابن شهرآشوب 3 : 141 .
(5) مرّ في صفحة : 366 و 371 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 262 _
فاعرض عنها ، فكشفت قناعها فاخرجت الكتاب من عقيصتها ، فاخذه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وصار به إلى رسول الله ( صلّى الله وآله وسلّم )
(1) ، ومن مقاماته : أنّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أعطى الراية سعد ابن عبادة يوم الفتح وأمره أن يدخل بها مكّة ، فاخذها سعد وجعل يقول :
الـيوم يـوم iiالـملحمه اليوم تسبى الحرمه |
فقال ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : « أدرك يا عليّ سعداً وخذ الراية وكن أنت الذي تدخل بها »
(2) ، فاستدرك النبيّ ( صلّى الله عليه واله وسلّم ) به ما كاد يفوت من صواب التدبير بإقدام سعد على أهل مكّة ، وعلم أنّ الأنصار لا ترضى أن يأخذ أحد من الناس الراية من سيّدها سعد ويعزله عن ذلك المقام إلاّ من كان في مثل حال النبيّ من رفعة الشأن وجلالة المكان .
ومن مواقفه : أنّه لمّا دخل رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) المسجد الحرام وجد فيه ثلاثمائة وستين صنماً بعضها مشدود ببعض ، فقال لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « أعطني يا عليّ كفّاً من الحصى » فقبض له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كفاً من الحص ، فرماها بها وهو يقول : ( جاء الحقّ وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقأ )
(3) ، فما بقي منها صنم إلاّ خرّ لوجهه ، ثمّ أمر بها فاُخرجت من المسجد وكُسّرت
(4) .
ومن حسن بلائه في الإسلام فيما اتّصل بفتح مكّة : أنّ الله خصّه بتلافي فارط من خالف نبيّه في أوامره ، وذلك أنّه أنفذ خالد بن الوليد إلى بني جذيمة داعياً لهم إلى الإسلام ، فخالف أمره وقتل القوم وهم على الإسلام لترة
(5) كانت بينه وبينهم ، فأصلح النبيّ ( صلّى اللهّ عليه واله وسلّم ) ما أفسده خالد بأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فأنفذه ليعطف القوم ويسل سخائمهم
(6) ، وأمره أن يَدّي القتلى ، ويُرضي بذلك الأولياء ، فبلغ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في ذلك مبلغ الرضا، وأدّى ديات القتلى وأرضاهم عن اللهّ وعن رسوله ، فتمّ بذلك موادّ الصلاح ، وانقطعت أسباب الفساد
(7) .
---------------------------
(1) ارشاد المفيد ا : 56 ، ونحوه في : سيرة ابن هشام 4 : 40 ، وصحيح البخاري 5 : 184 وصحيح مسلم 4 : 1941 | 2494 ، وتاريخ اليعقوبي 2 : 58 ، ومسند أحمد 1 : 79 ، وتاريخ الطبري 3 : 48 ، ومستدرك الحاكم 3 : 301 ودلائل النبوة للبيهقي 5 : 14 .
(2) ارشاد المفيد ا : 60 و 134 ، مغازي الواقدي 2 : 822 ، سيرة ابن هشام 4 : 49 ، تاريخ الطبري 3 : 56 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 17 : 272 .
(3) الاسراء 17 : 81 .
(4) ارشاد المفيد 1 : 138 .
(5) الترة : التبعة . « النهاية 1 : 189 » .
(6) السخيمة : الموجدة في النفس . « العين 4 : 205 » .
(7) انظر : ارشاد المفيد 1 : 55 ، وسيرة ابن هشام 4 : 70 ، طبقات ابن سعد 2 : 147 ، تاريخ الطبري 5 : 66 ، ودلائل النبوة للبيهقي 5 : 113 ، الكامل في التاريخ 2 : 255 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 263 _
ومن مقاماته في غزوة حنين : أنّ المسلمين انهزموا بأجمعهم ، فلم يبق مع النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إلاّ عشرة أنفس : تسعة من بني هاشم خاصّة وعاشرهم أيمن ابن اُمّ أيمن ، فقُتل أيمن وثبتَ التسعة الهاشميّون حتّى ثاب إلى رسول الله من كان انهزم وكانت الكرّهّ لهم على المشركين ، وذلك قوله تعالى : ( ثُمّ أَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ على رسوله وعلى المُؤمِنِينَ )
(1) يعني عليّاً ( عليه السلام ) ومن ثبت معه من بني هاشم ، وهم ثمانية : العبّاس ابن عبد المطّلب عن يمين رسول الله ، والفضل بن العباس عن يساره ، وأبو سفيان بن الحارث ممسك بسرجه عند ثفر
(2) بغلته ، وأمير المؤمنين ( عليه السلام ) بين يديه بالسيف ، ونوفل بن الحارث ، وربيعة بن الحارث ، وعبد الله ابن الزبير بن عبد المطّلب ، وعتبة ومعتب ابنا أبي لهب حوله .
ولما رأى رسول الله ( صلّى الله عليه واله وسلّم ) هزيمة القوم عنه قال للعبّاس وكان جهورياً صيّتاً : « ناد في القوم وذكّرهم العهد » فنادى العبّاس بأعلى صوته : يا أهل بيعة الشجرة ، يا أصحاب سورة البقرة إلى أين تفرّون ؟ ! اذكروا العهد الذي عاهدكم عليه رسول الله ( صلّى اللهّ عليه واله وسلّم ) .
فلم يسمعها أحدٌ إلاّ رمى بنفسه الأرض ، وانحدروا حتّى لحقوا بالعدوّ ، وأقبل رجل من هوازن على جمل له أحمر ، بيده راية سوداء وهو يرتجز :
أنا أبو جَرولَ iiلابَراح حتّى نُبيحَ القومَ أونُباح |
فصمد له أمير المؤمنين فضرب عجز بعيره فصرعه ، ثمّ ضربه فقطّره
(3) وكانت هزيمة المشركين بقتل أبي جرول ولمّا قتله وضع المسلمون سيوفهم فيهم وأمير المؤمنين ( عليه السلام ) يقدمهم حتّى قتل أربعين رجلاً من القوم ، ثمّ كانت الهزيمة والأسر حينئذ
(4) ، ولمّا قسّم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) غنائم حنين أقبل رجلٌ طوال أدم ، بين عينيه أثر السجود فسلّم ولم يخصّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) ثمّ قال : قد رأيتك وما صنعت في هذه الغنائم ، فقال : « وكيف رأيت ؟ » قال : لم أرك عدلت ! !
---------------------------
(1) التوبة 9 : 26 .
(2) الثفَر : السير في مؤخرة السرج . « القاموس المحيط 1 : 383 » .
(3) قطّره : ألقاه على أحد جانبيه . « الصحاح ـ قطر ـ 2 : 796 » .
(4) انظر : ارشاد المفيد 1 : 140 ، المناقب لابن شهرآشوب 3 : 143 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 264 _
فغضب رسول اللهّ ( صلّى اللهّ عليه واله وسلّم ) وقال : « ويلك إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون ؟ » فقال المسلمون : ألا نقتله ؟ قال : « دعوه ، فإنّه سيكون له أتباع يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، يقتلهم الله على يد أحبّ الخلق إليه من بعدي » فقتلهم أمير المؤمنين ( صلوات اللهّ وسلامه عليه ) في من قتل من الخوارج
(1) .
ومن مقاماته يوم الطائف : أنّ النبي ( صلّى الله عليه واله وسلّم ) أنفذه وأمره أن يطأ ما وجد ، ويكسّر كلّ صنم وجده ، فخرج فلقيه خيلٌ من خثعم في جمع كثير ، فبرز له رجلٌ من القوم يقال له : شهاب في غبش الصبح فقال : هل من مبارز ، فقتله أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ومضى في تلك الخيل حتّى كسّر الأصنام وعاد إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وهو محاصر أهل الطائف ، فلمّا رآه النبي ( صلّى الله عليه واله وسلّم ) كبّر للفتح وأخذ بيده فخلا به وناجاه طويلاً .
ثمّ خرج من حصن الطائف نافع بن غيلان في خيل من ثقيف فقتله أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وانهزم المشركون ولحق القوم الرعب ، فنزل منهم جماعة إلى النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فاسلموا
(2) .
---------------------------
(1) ارشاد المفيد 1 : 148 ، وأنظر : مسند أحمد 2 : 219 ، وتاريخ الطبري 3 : 92 ، واُسد الغابة 2 : 139 .
(2) انظر : ارشاد المفيد 1 : 152 ، ومناقب ابن شهرآشوب 3 : 144 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 265 _
روى جماعة « من » أهل السير : أن نفراً من الخوارج اجتمعوا بمكّة فتذاكروا الاُمراء وعابوهم وذكروا أهل النهروان فترحّموا عليهم فقال بعضهم لبعض : لو شرينا أنفسنا لله وثأرنا لإخواننا الشهداء، وأرحنا من أئمّة الضلالة البلاد والعباد .
فقال عبد الرحمن بن ملجم المرادي لعنه الله : أنا أكفيكم عليّاً ، وقال البرك بن عبد الله التميميّ : أنا أكفيكم معاوية ، وقال عمرو بن بكر التميمي : أنا أكفيكم عمرو بن العاص ، وتعاهدوا على ذلك وتواعدوا ليلة تسع عشر من شهر رمضان ، فاقبل ابن ملجم ـ عدو الله ـ حتى قدم الكوفة كاتماً أمره ، فبينا هو هناك إذ زار أحداً من أصحابه من تيم الرباب ، فصادف عنده قطام بنت الأخضر التيميّة ـ وكان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قتل أباها وأخاها بالنهروان وكانت من أجمل نساء زمانها ـ قال : فلمّا رآها ابن ملجم شغف بها ، فخطبها فاجابته إلى ذلك على أن يصدقها ثلاثة آلاف درهم ووصيفاً وخادماً وقتل عليّ بن أبي طالب !!
فقال لها : لك جميع ما سألت ، فامّا قتل عليّ فانّى لي ذلك ؟ قالت : تلتمس غرّته ، فإن قتلته شفيت نفسي وهنّاك العيش معي ، وإن قُتلت فما عند الله خيرٌ لك من الدنيا ! ! فقال : ما أقدمني هذا المصر إلأ ما سألتني من قتل عليّ ، فلك ما سألت ، قالت : فأنا طالبة لك من يساعدك على ذلك ، وبعثت إلى وردان بن مجالد من تيم الرباب فخبّرته الخبر وسألته معاونة ابن ملجم فأجابها إلى ذلك ، ولقي ابن ملجم رجلاً من أشجع يقال له : شبيب بن بجرة فقال : يا شبيب هل لك في شرف الدنيا والاخرة ! ! قال : وما ذاك ؟ قال : تساعدني في قتل عليّ ـ وكان يرى رأي الخوارج ـ فاجابه .
ثم اجتمعوا عند قطام ـ وهي معتكفة في المسجد الأعظم قد ضربت عليها قبّة ـ فقالوا : قد اجتمع رأينا على قتل هذا الرجل .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 266 _
ثمّ حضروا ليلة الأربعاء لتسع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة ، وجلسوا مقابل السدّة التي كان يخرج منها أمير المؤمنين إلى الصلاة ، وقد كانوا قبل ذلك ألقوا ما في نفوسهم إلى الأشعث وواطأهم عليه ، وحضر هو في تلك الليلة لمعونتهم ، وكان حجربن عديّ ( رحمه الله ) في تلك الليلة بائتاً في المسجد فسمع الأشعث يقول لابن ملجم : النجاء النجاء لحاجتك فقد فضحك الصبح ، فاحسّ حجر بما أراد الأشعث فقال له : قتلته يا أعور ، وخرج مبادراً ليمضي إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ليخبره الخبر ، فدخل ( عليه السلام ) المسجد فسبقه ابن ملجم لعنه الله فضربه بالسيف ، وأقبل حجر والناس يقولون : قُتل أمير المؤمنين .
وقد ضربه شبيب بن بجرة فأخطاه ووقعت ضربته في الطاق ومضى هارباً حتّى دخل منزله ودخل عليه ابن عمّ له فرآه يحلّ الحرير من صدره ، فقال : ما هذا لعلّك قتلت أمير المؤمنين ؟ فاراد أن يقول : لا ، فقال : نعم ، فضربه ابن عمّه بالسيف وقتله ، وأمّا ابن ملجم فإن رجلاً من همدان يقال له : أبو ذرّ لحقه وطرح عليه قطيفة كانت في يده ثمّ صرعه وأخذ السيف من يده وجاء به إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وأفلت الثالث فانسلّ بين الناس .
فلمّا أُدخل ابن ملجم لعنه الله على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) نظر إليه ثمّ قال : « النفس بالنفس ، إن أنا متّ فاقتلوه كما قتلني ، وإن سلمت رأيت فيه رأي » ، فقال ابن ملجم : والله لقد ابتعته بالف ، وسممته بالف ، فإن خانني فابعده الله ، فاُخرج من بين يدي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) والناس ينهشون لحمه باسنانهم وهم يقولون : يا عدوّ الله ماذا فعلت ، أهلكت اُمّة محمد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، قتلت خير الناس ، وهو صامت لا ينطق ، فذهب به إلى الحبس .
وجاء الناس إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقالوا له : مرنا بأمرك في عدوّ الله فقد أهلك الاُمّة وأفسد الملّة ، فقال : « إن عشت رأيت فيه رأي ، وإن هلكت فاصنعوا به ما يصنع بقاتل النبيّ ، اقتلوه ثمّ حرّقوه بالنار » ، فلمّا قضى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وفرغ من دفنه اُتي بابن ملجم لعنه الله فأمر به الحسن ( عليه السلام ) فضرب عنقه ، واستوهبت اُمّ الهيثم بنت الأسود النخعيّة جيفته منه فأحرقتها بالنار ، وأمّا الرجلان اللذان كانا مع ابن ملجم في العهد على قتل معاوية وعمرو بن العاص فإنّ أحدهما ضرب معاوية وهو راكع فوقعت ضربته في أليته فنجا منها ، « فاُخذ » وقُتل من وقته .
وأمّا الاخر فإنّ عَمْراً وجد في تلك الليلة علّة فاستخلف رجلاً يصلّي بالناس يقال له : خارجة العامريّ ، فضربه بالسيف وهو يظنّ أنّه عمرو فاُخذ واُتي به عمرو فقتله ، ومات خارجة
(1) .
---------------------------
(1) ارشاد المفيد 1 : 17 ، كشف الغمة 1 : 428 ، وقطعة منه في : الطبقات الكبرى 3 : 35 ، الإمامة والسياسة 1 : 159 ، أنساب الأشراف 2 : 489 | 524 ، تاريخ الطبري 5 : 143 ، مروج الذهب 2 : 411 ، مقاتل الطالبيين : 29 ، مناقب الخوارزمي : 275 ، الكامل في التاريخ 3 : 389 ، كفاية الطالب : 460 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 267 _
جابر بن يزيد الجعفي قال : سألت أبا جعفر الباقر عليه السلام أين دفن أمير المؤمنين ( صلوات الله وسلامه عليه ) ؟ قال : « دفن بناحية الغريين قبل طلوع الفجر ، ودخل قبره الحسن والحسين ( عليهما السلام ) ومحمّد بنوه ، وعبد الله بن جعفر رضي الله عنه »
(1) .
قال حبان
(2) بن عليّ العنزي قال : حدّثنا مولى لعليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) قال : لمّا حضرت أمير المؤمنين الوفاة قال للحسن والحسين ( عليهما السلام ) : « إذا أنا متّ فاحملاني على سرير ثمّ اخرجاني ، واحملا مؤخر السرير فانكما تكفيان مقدّمه ، ثمّ ائتيابي الغريّين ، فإنّكما ستريان صخرة بيضاء تلمع نوراً فاحتفرا فيها فإنّكما ستجدان فيها ساجة ، فادفناني فيها » .
قال : فلمّا مات ( عليه السلام ) أخرجناه وجعلنا نحمل مؤخر السرير ونكفى مقدّمه وجعلنا نسمع دويّاً وحفيفاً حتّى أتينا الغريّين فإذا صخرة بيضاء تلمع نوراً فاحتفرنا فإذ ساحة مكتوب عليها : هذا ما ادخره نوح ( عليه السلام ) لعليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، فدفناه فيها وانصرفنا ونحن مسرورون بإكرام الله لأمير المؤمنين عليه السلام ، فلحقنا قوم من الشيعة لم يشهدوا الصلاة عليه ، فاخبرناهم بما جرى وبإكرام الله أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقالوا : نحبّ أن نعاين من أمره ما عاينتم ، فقلنا لهم : إنّ الموضع قد عُفي أثره بوصيّة منه ( عليه السلام ) ، فمضوا وعادوا إلينا فقالوا : إنّهم احتفروا فلم يجدوا شيئاً
(3) .
---------------------------
(1) ارشاد المفيد 1 : 24 فرحة الغري : 51 .
(2) حيان ( بالياء ) وهو مختلف في ضبط اسمه ، إذ ضبطه العلامة الحلي وابن داود بالياء « انظر : خلاصة الرجال : 64 و 260 ، ايضاح الاشتباه : 97 ، رجال ابن داود : 136 و 352 » .
إلا أن الأقوى كونه حبّان ( بالباء الموحدة ) كما ضُبط في غير واحد من كتب رجال العامة ، انظر : تهذيب التهذيب 2 : 73 ، تقريب التهذيب 1 : 147 ، الجرح والتعديل 3 : 270 ، تبصيرالمنتبه : 278 الضعفاء للنسائي : 89 ، الضعفاء للعقيلي 1 : 193 ، الضعفاء لدارقطني : 301 ، الضعفاء الصغير للبخاري : 426 ، المجروحين لابن حبان .
(3) ارشاد المفيد 1 : 23 ، فرحة الغري 36 ، وصدره في : الخرائج والجرائح 1 : 233 | ذيل حديث 78 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 268 _
وهم سبعة وعشرون ولداً ذكراً واُنثى : الحسن ، والحسين ( عليهما السلام ) ، وزينب الكبرى ، وزينب الصغرى المكنّاة باُمّ كلثوم اُمّهم فاطمة البتول ( عليها السلام ) سيّدة نساء العالمين بنت سيّد المرسلين ( صلوات الله عليه وعليهما ) ، ومحمّد الأكبر المكنّى بأبي القاسم ، اُمّه خولة بنت جعفر بن قيس الحنفيّة ، والعبّاس ، وجعفر ، وعثمان ، وعبد الله الشهداء مع أخيهم الحسين ( عليه السلام ) بكربلاء ( رضي الله عنهم ) أمّهم اُمّ البنين بنت حزام بن خالد بن دارم ، وكان العبّاس يكنّى أبا قربة لحمله الماء لأخيه الحسين ( عليه السلام ) ويقال له : السقّاء ، وقُتل وله أربع وثلاثون سنة ، وله فضائل ، وقتل عبد الله وله خمس وعشرون سنة ، وقتل جعفر بن عليّ وله تسع عشرة سنة ، وعمر ، ورقيّة اُمّهما اُمّ حبيب بنت ربيعة وكانا توأمين .
ومحمّد الأصغر المكنّى بابي بكر ، وعبيد الله الشهيدان مع أخيهما الحسين ( عليه السلام ) بطفّ كربلاء واُمّهما ليلى بنت مسعود الدارميّة ، ويحيى ، اُمّه أسماء بنت عميس الخثعميّة وتوفي صغيراً قبل أبيه ، واُم الحسن ورملة اُمّهما اُمّ سعيد بنت عروة بن مسعود الثقفيّ ، ونفيسة وهي اُمّ كلثوم الصغرى ، وزينب الصغرى ، ورقيّة الصغرى ، واُمّ هانئ ، واُمّ الكرام ، وجمانة المكنّاة باُمّ جعفر ، واُمامة ، واُمّ سلمة ، وميمونة ، وخديجة ، وفاطمة للاُمّهات أولاد شتّى .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 269 _
وأعقب ( عليه السلام ) من خمسة بنين : الحسن والحسين ( عليهما السلام ) ، ومحمد والعباس وعمر ( رضي الله عنهم )
(1) ، وفي الشيعة من يذكر أنّ فاطمة ( عليها السلام ) أسقطت بعد النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ذكراً كان سمّاه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ـ وهو حمل ـ محسناً ، فعلى هذا يكون أولاده ثمانية وعشرون ولداً ، والله أعلم
(2) .
أمّا زينب الكبرى بنت فاطمة بنت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فتزوجها عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وولد له منها : عليّ ، وجعفر ، وعون الأكبر ، واُم كلثوم أولاد عبد الله بن جعفر ، وقد روت زينب عن اُمّها فاطمة ( عليها السلام ) أخباراً ، وأمّا اُمّ كلثوم فهي التي تزوجها عمر بن الخطّاب ، وقال أصحابنا : إنّه ( عليه السلام ) إنّما زوّجها منه بعد مدافعة كثيرة وامتناع شديد واعتلال عليه بشيء بعد شيء حتّى ألجاته الضرورة إلى أن رد أمرها إلى العبّاس بن عبد المطّلب فزوّجها إيّاه
(3) .
وأمّا رقيّة بنت عليّ ( عليه السلام ) فكانت عند مسلم بن عقيل فولدت له عبد الله قتل بالطف ، وعليّاً ومحمّداً ابني مسلم ، وأمّا زينب الصغرى فكانت عند محمّد بن عقيل فولدت له عبد اللهّ وفيه العقب من ولد عقيل ، وأمّا اُمّ هانئ فكانت عند عبد الله الأكبر بن عقيل بن أبي طالب فولدت له محمّداً قتل بالطف ، وعبد الرحمن .
وأمّا ميمونة بنت عليّ ( عليه السلام ) فكانت عند ( عبد الله ) الأكبر بن عقيل فولدت له عقيلاً ، وأمّا نفيسة فكانت عند عبد الله الأكبر بن عقيل فولدت له أمّ عقيل ، وأمّا زينب الصغرى فكانت عند عبد الرحمن بن عقيل فولدت له سعداً وعقيلاً ، وأمّا فاطمة بنت عليّ ( عليه السلام ) فكانت عند ( محمّد بن ) أبي سعيد ؟ ! ابن عقيل فولدت له حميدة ، وأمّا أمامة بنت عليّ فكانت عند الصلت بن عبد اللهّ بن نوفل بن الحارث بن عبدالمطّلب فولدت له نفيسة وتوفّيت عنده
(4) ، هذا آخر ما أثبتنا من أخبار أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
---------------------------
(1) ارشاد المفيد 1 : 354 ، كشف الغمة 1 : 440 ، العدد القوية : 242 | 22 .
(2) عين هذه العبارة وردت في ارشاد الشيخ المفيد رحمه الله تعالى ( 1 : 355 ) وقد اشرنا في هامش الكتاب المنشور محققاً من قبل مؤسستنا إلى أن العديد من المصادر تؤكد بوضوح وجود المحسن ضمن أولاد علي من فاطمة ( عليهما السلام ) ، ولم يقتصر هذا الأمر في حدود كتب الشيعة ، بل ان الكثير من كتب العامة ذكرت ذلك الامر وسلمت بوجوده من دون تعليق أو ترديد .
انظر : « الكافي 6 : 18 | 2 ، الخصال : 634 ، تاريخ اليعقوبي 2 : 213 ، المناقب لابن شهرآشوب 3 : 358 ، تاريخ الطبري 5 : 153 ، أنساب الأشراف 2 : 189 ، الكامل في
التاريخ 3 : 397 ، الاصابة 3 : 417 ، لسان الميزان 1 : 268 ، ميزان الاعتدال 1 : 139 ، القاموس المحيط 2 : 55 » وغيرها من المصادر المختلفة .
(3) ان قضية تزويج أم كلثوم لعمر بن الخطاب قد خضعت وطوال القرون الماضية ولا زالت إلى كثير من النقاش والأخذ والرد ؟ ففي حين يذهب البعض إلى الطعن أصلاً في هذا الموضوع ومناقشة الروايات الناقلة له واسقاطها ؟ ترى البعض الآخر يذهب إلى حمله على
جملة من الوجوه المختلفة وتأويله إلى العديد من التأويلات المنطقية والمقنعة ، وللاطلاع على مزيد من هذا النقاش والشرح تراجع الكتب المختصة بذلك والبحوث المتعلقة به .
(4) نقله المجلسي في بحار الأنوار 42 : 93 | 21 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 270 _
ويشتمل على عشرة أبواب :
ويتضمن خمسة فصول :
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 271 _
ولد ( عليه السلام ) بالمدينة ليلة النصف من شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة ، وقيل سنة اثنتين من الهجرة ، وكنيته أبو محمّد ، جاءت به اُمّه فاطمة سيّدة النساء ( عليها السلام ) إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يوم السابع من مولده في خرقة من حرير الجنّة نزل بها جبرئيل إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فسمّاه حسناً ، وعقّ عنه كبشاً
(1) .
وقبض رسول الله ( صلّى الله عليه واله وسلّم ) وله سبع سنين وأشهر ، وقيل : ثمان سنين
(2) ، وقام بالأمر بعد أبيه ( عليه السلام ) وله سبع وثلاثون سنة ، وأقام في خلافته ستّة أشهر وثلاثة أيّام ، ووقع الصلح بينه وبين معاوية في سنة إحدى وأربعين
(3) ، وإنّما هادنه
(4) ( عليه السلام ) خوفاً على نفسه ؛ إذ كتب إليه جماعة من رؤساء أصحابه في السرّ بالطاعة وضمنوا له تسليمه إليه عند دنوّهم من عسكره ، ولم يكن منهم من يأمن غائلته إلاّ خاصّة من شيعته لا يقومون لأجناد الشام .
وكتب إليه معاوية في الهدنة والصلح وبعث بكتب أصحابه إليه ، فاجابه إلى ذلك بعد أن شرط عليه شروطاً كثيرة ، منها : أن يترك سبّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) والقنوت عليه في الصلاة ، وأن يؤمن شيعته ولا يتعرّض لأحد منهم بسوء ، ويوصل إلى كلّ ذي حقّ حقّه ، فاجابه معاوية إلى ذلك كلّه ، وعاهده على الوفاء به ، فلمّا استتمّت الهدنة قال في خطبته : إنّي منّيت الحسن وأعطيته أشياء جعلتها تحت قدمي ، لا أفي بشيء منها له
(5) ! !
وخرج الحسن ( عليه السلام ) إلى المدينة وأقام بها عشر سنين ، ومضى إلى رحمة الله تعالى لليلتين بقيتا من صفر سنة خمسين من الهجرة وله سبع وأربعون سنة وأشهر مسموماً ، سمّته زوجته جعدة بنت الأشعث بن قيس ، وكان معاوية قد دسّ إليها من حملها على ذلك وضمن لها أن يزوّجها من يزيد إبنه وأوصل إليها مائة ألف درهم فسقته السمّ .
وبقي ( عليه السلام ) مريضاً أربعين يوماً ، وتولّى أخوه الحسين ( عليه السلام ) غسله وتكفينه ودفنه عند جدّته فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف بالبقيع
(6) .
---------------------------
(1) ارشاد المفيد 2 : 5 ، مناقب ابن شهرآشوب 4 : 28 .
(2) انظر : مناقب ابن شهرآشوب 4 : 28 .
(3) انظر : مناقب ابن شهر آشوب 4 : 29 .
(4) لإدراك مغزى وأبعاد هذا الصلح المبرم بين الامام الحسن ( عليه السلام ) ومعاوية بن أبي سفيان تراجع المصادر المختصة بهذا الموضوع .
(5) انظر : ارشاد المفيد 2 : 12 .
(6) انظر : ارشاد المفيد 2 : 15 ، مناقب ابن شهرآشوب 4 : 42 ، مقاتل الطالبيين : 73 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16 : 49 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 272 _
أحدها : أن نقول : قد ثبت وجوب الإمامة في كلّ زمان من جهة العقل ، وأنّ الإمام لا بدّ أن يكون معصوماً ، منصوصاً عليه ، وعلمنا أنّ الحقَ لا يخرج عن اُمّة محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فإذا ثبت ذلك سبرنا أقوال الاُمّة بعد وفاة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : فقائل يقول : لا إمام ، وقوله باطل بما ثبت من وجوب الإمامة ، وقائل يقول : بإمامة من ليس بمعصوم ، وقوله باطل بما ثبت من وجوب العصمة ، وقائل يقول : بإمامة الحسن ( عليه السلام ) ويقول : بعصمته ، فيجب القضاء بصحّة قوله ، وإلاّ أدّى إلى خروج الحقّ عن أقوال الأمّة .
وثانيها : أن نستدلّ بتواتر الشيعة ونقلها خلفاً عن سلف : أنّ أمير المؤمنين عليّاً ( عليه السلام ) نصّ على ابنه الحسن ( عليه السلام ) بحضرة شيعته واستخلفه عليهم بصريح القول ، ولا فرق بين من ادّعى عليهم الكذب فيما تواترت به ، وبين من ادّعى على الاُمّة الكذب فيما تواترت به من معجزات النبيّ ( صلّى اللهّ عليه وآله وسلّم ) ، أو ادّعى على الشيعة الكذب فيما تواتروا به من النص على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وكلّ سؤال ، يسأل على هذا فمذكور في كتب الكلام .
وثالثها : أنّه قد اشتهر في الناس وصية أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إليه خاصّة من بين ولده وأهل بيته ، والوصيّة من الإمام توجب الاستخلاف للموصى إليه على ما جرت به عادة الأنبياء والأئمّة في أوصيائهم ، لا سيّما والوصيّة علم عند آل محمد ( صلوات الله عليهم ) كافّة إذا انفرد بها واحدٌ بعينه على استخلافه ، وإشارة إلى إمامته ، وتنبيهٌ على فرض طاعته ، وإجماعُ آل محمّد ( صلوات الله عليهم ) حجّة .
ورابعها : أن نستدلّ بالأخبار الواردة فيما ذكرناه ، فمن ذلك : ما رواه محمّد بن يعقوب الكلينيّ ـ وهومن أجلّ رواة الشيعة وثقاتها ـ عن عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن حمّاد بن عيسى ، عن إبراهيم بن عمر اليماني وعمر بن اُذينة ، عن أبان ، عن سليم بن قيس الهلالي قال : شهدت أمير المؤمنين ( عليه السلام ) حين أوصى إلى ابنه الحسن ( عليه السلام ) وأشهد على وصيته الحسين ( عليه السلام ) ومحمّداً وجميع ولده ورؤساء شيعته وأهل بيته ، ثمّ دفع إليه الكتاب والسلاح وقال له : « يا بنيّ ، أمرني رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أن اُوصي إليك وأدفع إليك كتبي وسلاحي كما أوصى إِليّ ودفع إليّ كتبه وسلاحه ، وأمرني أن آمرك إذا حضرك الموت أن تدفعها إلى أخيك الحسين » .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 273 _
ثمّ أقبل على ابنه الحسين ( عليه السلام ) فقال : « وأمرك رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أن تدفعها إلى إبنك هذا » ثمّ أخذ بيد عليّ بن الحسين وقال : « وأمرك رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أن تدفعها إلى ابنك محمّد ابن عليّ ، واقرأه من رسول الله ومنّي السلام »
(1) .
وعنه ، عن عدّة من أصحابه ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن الحسين بن سعيد ، عن حمّاد بن عيسى ، عن عمروبن شمر ، عن جابر ، عن أبي جعفر محمد بن عليّ ( عليهما السلام ) مثل ذلك سواء
(2) ، وعنه ، عن عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير، عن عبد الصمد بن بشير ، عن أبي الجارود ، عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال : « إن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لمّا حضرته الوفاة قال لابنه الحسن : اُدن منّي حتّى أسر إليك ما أسر إليّ رسول اللهّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وأئتمنك على ما ائتمنني عليه » ففعل
(3) .
وبإسناده رفعه إلى شهر بن حوشب : أنّ عليّاً ( عليه السلام ) لمّا سار إلى الكوفة استودع اُمّ سلمة ( رضي الله عنها ) كتبه والوصيّة ، فلمّا رجع الحسن ( عليه السلام ) دفعتها إليه
(4) .
وخامسها : إنّا وجدنا الحسن بن عليّ ( عليهما السلام ) قد دعا إلى الأمر بعد أبيه وبايعه الناس على أنّه الخليفة والإمام ، فقد روى جماعة من أهل التاريخ : أنّه ( عليه السلام ) خطب صبيحة الليلة التي قبض فيها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ثمّ قال : « لقد قبض في هذه الليلة رجلٌ لم يسبقه الأوّلون ولا يدركه الاخرون ، لقد كان يجاهد مع رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فيقيه بنفسه ، وكان رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يوجّهه برايته فيكتنفه جبرئيل عن يمينه ، وميكائيل عن شماله ، فلا يرجع حتّى يفتح الله تعالى على يديه ، ولقد توفّي عليه السلام في هذه الليلة التي عرج فيها عيسى بن مريم ، وفيها قبض يوشع بن نون ، وما خلّف صفراء ولا بيضاء إلاّ سبعمائة درهم فضلت من عطائه أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله » .
---------------------------
(1) الكافي 1 : 236 | 1 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 43 : 322 | 1 .
(2) الكافي 1 : 237 | 5 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 43 : 322 | 2 .
(3) الكافي 1 : 236 | 3 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 43 : 322 | 3 .
(4) الكافي 1 : 236 | 3 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 43 : 322 | 4 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 274 _
ثمّ خنقته العبرة فبكى وبكى الناس معه ، ثمّ قال : « أنا ابن البشير ، أنا ابن النذير ، أنا ابن الداعي إلى الله بإذنه ، أنا ابن السراج المنير ، أنا ابن من أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، أنا من أهل بيت افترض الله تعالى مودّتهم في كتابه فقال : ( قُل لأ أَسئَلُكُم عَلَيهِ أَجراً إِلاّ المَوَدّةَ فِي القُربى وَمَن يَقتَرِف حَسَنَةً نَّزِد لَهُ فِيهَا حُسناً )
(1) فالحسنة مودّتنا أهل البيت » .
ثم جلس فقام عبد الله بن العبّاس بين يديه فقال : يا معاشر الناس ، هذا ابن نبيّكم ووصيّ إمامكم فبايعوه ، فتبادر الناس إلى البيعة له بالخلافة
(2) ، فلا بدّ أن يكون محقّاً في دعوته ، مستحقّاً لإمامة مع شهادة النبيّ ( صلّى الله عليه واله وسلّم ) له ولأخيه بالإمامة والسيادة في قوله ( صلّى الله عليه واله وسلّم ) : « إبناي هذان إمامان قاما أو قعدا »
(3) وقوله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : « الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة »
(4) وشهادة القرآن بعصمتهما في قوله تعالى : ( اِنَّما يُرِيدُ اللهَ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ اَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيراً )
(5) على ما تقدّم القول فيه .
وسادسها : أن نستدلّ على إمامته بما أظهر اللهّ عزّوجلّ على يديه من العلم المعجز ، ومن جملته حديث حبابة الوالبيّة أورده الشيخ أبو جعفر بن بابويه قال : حدّثنا عليّ بن أحمد الدقّاق قال : حدّثنا محمّد بن يعقوب ، قال : حدّثنا عليّ بن محمد ، عن أبي عليّ محمد بن إسماعيل بن موسى بن جعفر ( عليهما السلام ) ، عن أحمد بن القاسم العجليّ ، عن أحمد بن يحيى المعروف ببرد ، عن محمد بن خداهي ، عن عبد الله بن أيّوب ، عن عبد الله ابن هشام ، عن عبد الكريم بن عمرو الخثعميّ ، عن حبابة الوالبيّة قالت : رأيت أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في شرطة الخميس ، ثمّ ساقت الحديث إلى أن قالت : فلم أزل أقفو اثره حتّى قعد في رحبة المسجد فقلت له : يا أمير المؤمنين ما دلالة الإمامة رحمك الله ؟
قالت : فقال : « إئتيني بتلك الحصاة » وأشار بيده إلى حصاة ، فأتيته بها فطبع لي فيها بخاتمه ثمّ قال لي : « يا حبابة ، إذا ادّعى مدّع الإمامة فقدر أن يطبع كما رأيت فاعلمي أنّه إمام مفترض الطاعة ، والإمام لا يعزب عنه شيء يريد5 » .
قالت : ثمّ انصرفت حتّى قبض أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فجئت إلى الحسن ، وهو في مجلس أمير المؤمنين والناس يسألونه فقال لي : « يا حبابة الوالبيّة » ، فقلت : نعم يا مولاي .
---------------------------
(1) الشورى 42 : 23 .
(2) ارشاد المفيد 2 : 7 ، كشف الغمة ا : 532 ، مقاتل الطالبيين : 51 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16 : 30 .
(3) ارشاد المفيد 2 : 30 ، مناقب ابن شهرآشوب 3 : 394 ، كشف الغمة ا : 533 .
(4) أمالي الطوسي 1 : 319 ، مصنف ابن أبي شيبة 12 : 96 | 12226 ، سنن ابن ماجة ا : 44 | 118 ، مسند أحمد 3 و 62 و 82 و 5 : 319 و 392 ، صحيح الترمذي 5 : 656 | 3768 ، خصائص النسائي : 150 | 140 ، المعجم الكبير للطبراني 3 : 24 | 98 52 و 2618 و 19 : 292 | 650 ، مستدرك الحاكم 3 : 166 ، ووافقه الذهبي في تلخيص المستدرك ، حلية الأولياء 4 : 139 و 5 : 71 ، أخبار اصفهان 2 : 343 ، تاريخ بغداد 1 : 140 و 6 : 372 و 11 : 90 ، شرح السنة للبغوي 4 : 193 | 4827 ، المطالب العالية لابن حجر 4 : 71 | 3993 ، مجمع الزوائد 9 : 182 وانظر : طرق وأسانيد الحديث في تاريخ ابن عساكر ـ ترجمة الامام الحسن (ع) ـ صفحة 72 ـ 83 .
(5) الأحزاب 33 : 33 .