وقال محمّد بن إسحاق : استخلف عتّاب بن اُسيد وخلّف معه معاذاً يفقه الناس في الدين ويعلّمهم القرآن ، وحجّ بالناس في تلك السنة وهي سنة ثمان عتّاب بن اُسيد ، وأقام ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بالمدينة ما بين ذي الحجة إلى رجب
.
ثمّ كانت غزوة تبوك : تهيّأ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في رجب لغزو الرُوم ، وكتب إلى قبائل العرب ممّن قد دخل في الاِسلام وبعث إليهم الرسل يرغّبهم في الجهاد والغزو ، وكتب إلى تميم وغطفان وطيّ ، وبعث إلى عتّاب بن اُسيد عامله على مكّة يستنفرهم لغزو الروم .
فلمّا تهيّأ للخروج قام خطبياً فحمد الله وأثنى عليه ورغّب في المواساة وتقوية الضعيف والإنفاق ، فكان أوّل من أنفق فيها عثمان بن عفّان جاء بأواني من فضّة فصبّها في حجر رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فجهّز ناساً من أهل الضعف ، وهو الذي يقال إنّه جهّز جيش العسرة ، وقدم العبّاس على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فأنفق نفقة حسنة وجهّز ، وسارع فيها الأنصار ، وأنفق عبد الرحمن والزبير وطلحة ، وأنفق ناس من المنافقين رياءً وسمعة ، فنزل القرآن بذلك .
وضرب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) عسكره فوق ثنيّة الوداع بمن تبعه من المهاجرين وقبائل العرب وبني كنانة وأهل تهامة ومزينة وجهينة وطيّ وتميم ، واستعمل على المدينة عليّاً ( عليه السلام ) وقال له : « إنّه لابدّ للمدينة منّي أو منك » ، واستعمل الزبير على راية المهاجرين ، وطلحة بن عبيد الله على الميمنة ، وعبد الرحمن بن عوف على الميسرة .
وسار رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) حتّى نزل الجرف ، فرجع عبد الله بن اُبيّ بغير إذن فقال ( عليه السلام ) : « حسبي الله هو الذي أيدني بنصره وبالمؤمنين وألّف بين قلوبهم » فلمّا انتهى إلى الجرف لحقه عليّ ( عليه السلام ) وأخذ بغرز
(1) رجله وقال : « يا رسول الله زعمت قريش أنّك انما خلّفتني استثقالاً لي » ، فقال ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : « طالما آذت الاُمم أنبياءها ، أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى ؟ » .
فقال : « قد رضيت قد رضيت » ، ثمّ رجع إلى المدينة ، وقدم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) تبوك في شعبان يوم الثلاثاء فأقام بقيّة شعبان وأيّاماً من شهر رمضان ، وأتاه وهو بتبوك يحنّة بن رؤبة صاحب إيلة
(2) فأعطاه الجزية وكتب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) له كتاباً ، والكتاب عندهم ، وكتب أيضاً لاَهل جرباء وأذُرح
(3) كتاباً .
وبعث رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وهو بتبوك بأبي عبيدة بن الجرّاح إلى جمع من بني جذام مع زنباع بن روح الجذامي فأصاب منهم طرفاً وأصاب منهم سبايا ، وبعث سعد بن عبادة إلى ناس من بني سليم وجموع من بليّ ، فلمّا قارب القوم هربوا ، وبعث خالداً إلى الاُكيدر صاحب دومة الجندل وقال له : « لعل الله يكفيكه بصيد البقر فتأخذه » .
---------------------------
(1) الغرز : ركاب الرحل ، « لسان العرب 5 : 386 » .
(2) ايلة : مدينة بين الفسطاط ومكة على شاطئ بحر القلزم ، تعد من بلاد الشام ، «معجم البلدان 1 : 292 » .
(3) جرباء وأذرح : قريتان بالشام بينهما ثلاث ليال ، « النهاية 1 : 254 » .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 175 _
فبينا فخالد وأصحابه في ليلة إضحيان إذ أقبلت البقرة تنتطح فجعلت تنطح باب حصن اُكيدر وهو مع امرأتين له يشرب الخمر ، فقام فركب هو وحسّان أخوه وناس من أهله فطلبوها وقد كمن له خالد وأصحابه فتلقّاه اُكيدر وهو يتصيّد البقر فأخذوه وقتلوا أخاه حسّاناً وعليه قباء مخوّص بالذهب ، وأفلت أصحابه فدخلوا الحصن وأغلقوا الباب دونهم ، فأقبل خالد باُكيدر وسار معه أصحابه فسألهم أن يفتحوا له فأبوا فقال : أرسلني فإنّي أفتح الباب ، فأخذ عليه موثقاً وأرسله فدخل وفتح الباب حتّى دخل خالد وأصحابه ، وأعطاه ثمانمائة رأس وألفي بعير وأربعمائة درع وأربعمائة رمح وخمسمائة سيف ، فقبل ذلك منه وأقبل به إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فحقن دمه وصالحه على الجزية
(1) .
وفي كتاب دلائل النبوّة للشيخ أبي أحمد البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ـ وذكر الاِسناد مرفوعاً إلى أبي الأسود ـ عن عروة قال : لمّا رجع رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قافلاً من تبوك إلى المدينة حتّى إذا كان ببعض الطريق مكر به ناس من أصحابه فتآمروا أن يطرحوه من عقبة في الطريق أرادوا أن يسلكوها معه ، فاُخبر رسول ألله خبرهم ، فقال : « من شاء منكم أن يأخذ بطن الوادي فإنّه أوسع لكم » .
فأخذ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) العقبة وأخذ الناس بطن الوادي إلاّ النفر الذين أرادا المكر به استعدّوا وتلثّموا ، وأمر رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) حذيفة بن اليمان وعمّار بن ياسر فمشيا معه مشياً ، وأمر عمّاراً أن يأخذ بزمام الناقة ، وأمر حذيفة بسوقها ، فبينا هم يسيرون إذ سمعوا ركزة
(2) القوم من ورائهم قد غشوه، فغضب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وأمر حذيفة أن يردّهم فرجع ومعه محجن ، فاسقبل وجوه رواحلهم وضربها ضرباً بالمحجن ، وأبصر القوم وهم متلثّمون ، فرعّبهم الله حين أبصروا حذيفة وظنّوا أنّ مكرهم قد ظهر عليه ، فأسرعوا حتّى خالطوا الناس ، وأقبل حذيفة حتّى أدرك رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فلمّا أدركه قال : « اضرب الراحلة يا حذيفة ، وامش أنت يا عمّار » .
---------------------------
(1) انظر : ارشاد المفيد 1 : 154 ، المغازي للواقدي 3 : 1025 ، سيرة ابن هشام 4 : 169 ، الطبقات الكبرى 2 : 165 ، تأريخ اليعقوبي 2 : 68 ، دلائل النبوة للبيهقي 5 : 252 ، الكامل في التأريخ 2 : 278 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 244 | 25 .
(2) الركز : الصوت الخفي ، وقيل : هو الصوت ليس بالشديد ، « لسان العرب 5 : 355 » .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 176 _
فأسرعوا وخرجوا من العقبة ينتظرون الناس ، فقال النبيّ : « يا حذيفة هل عرفت من هؤلاء الرهط ـ أو الركب ـ أحداً ؟ » ، فقال حذيفة : عرفت راحلة فلان وفلان وكانت ظلمة الليل غشيتهم وهم متلثّمون ، فقال ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : « هل علمتم ما شأن الركب وما أرادو ؟ » .
قالا : لا يارسول الله، قال : « فإنّهم مكروا ليسيروا معي حتّى إذا أظلمت في العقبة طرحوني منها » ، قالا : أفلا تأمر بهم يا رسول الله إذا جاءك الناس فتضرب أعناقهم ؟ » ، قال : « أكره أن يتحدّث الناس ويقولون : إنّ محمّداً قد وضع يده في أصحابه » فسمّاهم لهما وقال : « اُكتماهم »
(1) .
وفي كتاب أبان بن عثمان : قال الأعمش : وكانوا اثني عشر ، سبعة من قريش
(2) ، قال : وقدم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) المدينة وكان إذا قدم من سفر استقبل بالحسن والحسين ( عليهما السلام ) فاخذهما إليه وحفّ المسلمون به حتّى يدخل على فاطمة ( عليها السلام ) ويقعدون بالباب ، وإذا خرج مشوا معه ، وإذا دخل منزله تفرّقوا عنه
(3) .
وعن أبي حميد الساعدي قال : أقبلنا مع رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) من غزوة تبوك حتّى إذا أشرفنا على المدينة قال : « هذه طابة ، وهذا اُحد جبل يحبّنا ونحبّه »
(4) .
وعن أنس بن مالك : أنّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لمّا دنا من المدينة قال : « إنّ بالمدينة لاَقواماً ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد إلاّ كانوا معكم فيه » .
---------------------------
(1) دلائل النبوة للبيهقي 5 : 256 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 247 | 25 .
(2) انظر : دلائل النبوة للبيهقي 5 : 259 و 260 ، البداية والنهاية 5 : 20 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 248 | 25 .
(3) نقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 248 | 25 .
(4) صحيح البخاري 6 : 9 ، دلائل النبوة للبيهقي 5 : 266 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 248 ؟ 25 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 177 _
قالوا : يا رسول الله وهم المدينة ؟ قال : « نعم ، وهم بالمدينة ، حبسهم العذر »
(1) ، وكانت تبوك آخر غزوات رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، ومات عبد الله بن اُبيّ بعد رجوع رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) من غزوة تبوك
(2) .
ونزلت سورة (بَراءة من الله وَرَسُولهِ )
(3) في سنة تسع ، فدفها إلى أبي بكر فسار بها ، فنزل جبرئيل ( عليه السلام ) فقال : « إنّه لا يؤدّي عنك إلاّ أنت أو عليّ » ، فبعث عليّاً ( عليه السلام ) على ناقته العضباء فلحقه فأخذ منه الكتاب ، فقال له أبو بكر : أنزل فيَّ شيِ ؟ قال : « لا ولكن لا يؤدي عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إلاّ هو أو أنا » .
فسار بها عليّ ( عليه السلام ) حتّى أذّن بمكّة يوم النحر وأيّام التشريق ، وكان في عهده : أن ينبذ إلى المشركين عهدهم ، وأن لا يطوف بالبيت عريان ، ولا يدخل المسجد مشرك ، ومن كان له عهد فإلى مدّته ، ومن لم يكن له عهد فله أربعة أشهر فإن أخذناه بعد أربعة أشهر قتلناه ، وذلك قوله تعالى : (فَاذَا انسلَخَ الأشهُرُ الحُرُمُ ـ إلى قوله : ـ كُلَّ مَرصَدٍ )
(4) .
قال : ولما دخل مكّة اخترط سيفه وقال : « والله لا يطوف بالبيت عريان إلاّ ضربته بالسيف » حتّى ألبسهم الثياب ، فطافوا وعليهم الثياب
(5) .
---------------------------
(1) صحيح البخاري 6 : 10 ، سنن ابن ماجة 2 : 923 ؟ 2764 ، مسند أحمد 3 : 103 ، دلائل النبوة للبيهقي 5 : 267 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 248 | 25 .
(2) دلائل النبوة للبيهقي 5 : 285 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 248 | 25 .
(3) التوبة 9 : 1 .
(4) التوبة 9 : 5 .
(5) انظر : تفسير العياشي 2 : 73 | 4 ، ارشاد المفيد 1 : 65 ، سيرة ابن هشام 4 : 190 ـ 191 ، مسند أحمد 1 : 151 ، تاريخ اليعقوبي 2 : 76 ، خصائص النسائي : 92 | 76 ، تاريخ الطبري 3 : 123 ، تفسير الطبري 10 : 46 ، مستدرك الحاكم 3 : 52 ، دلائل النبوة للبيهقي 5 : 296 ـ 298 ، مناقب الخوارزمي : 100 و 101 ، كفاية الطالب : 254 ، الدر المنثور 4 : 122 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 274 | 9 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 178 _
قام : ثمّ قدم على رسول الله ( صلّى عليه وآله وسلّم ) عروة بن مسعود الثقفي مسلماً واستأذن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في الرجوع إلى قومه فقال : « إنّي أخاف أن يقتلوك » .
فقال : إن وجدوني نائماً ما أيقظوني ، فأذن له رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فرجع إلى الطائف ودعاهم إلى الاِسلام ونصح لهم فعصوه وأسمعوه الأذى، حتّى إذا طلع الفجر قام في غرفة من داره فأذّن وتشهّد ، فرماه رجلٌ بسهم فقتله، وأقبل بعد قتله من وفد ثقيف بضعة عشر رجلاً هم أشراف ثقيف فأسلموا فأكرمهم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وحيّاهم وأمّر عليهم عثمان بن أبي العاص بن بشر، وقد كان تعلّم سوراً من القرآن
(1) .
وقد ورد في الخبر عنه أنّه قال : قلت : يا رسول الله إنّ الشيطان قد حال بين صلاتي وقراءتي ، قال : « ذاك شيطان يقال له : خنزب ، فإذا خشيت فتعوّذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثاً » ، قال : ففعلت فأذهب الله عنّي ، رواه مسلم في الصحيح
(2) .
فلمّا أسلمت ثقيف ضربت إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وفود العرب فدخلوا في دين الله أفواجاً كما قال الله سبحانه ، فقدم عليه ( صلى الله وآله وسلّم ) عطارد بن حاجب بن زرارة في أشراف من بني تميم منهم : الأقرع بن حابس ، والزبرقان بن بدر ، وقيس بن عاصم ، وعيينة بن حصن الفزاريّ ، وعمرو بن الأهتم ، وكان الأقرع وعيينة شهدا مع رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فتح مكّة وحنيناً والطائف ، فلمّا قدم وفد تميم دخلا معهم فأجارهم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وأحسن جوارهم
(3) .
---------------------------
(1) انظر : سيرة ابن هشام 4 : 182 ، الطبقات الكبرى 1 : 312 ، تاريخ الطبري 3 : 96 ، دلائل النبوة للبيهقي 5 : 299 ، الكامل في التأريخ 2 : 283 ، عيون الأثر 2 | 228 ، تأريخ الاسلام للذهبي (المغازلي) : 668 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 364 | 1 .
(2) صحيح مسلم 4 : 1728 | 2203 ، وكذا في : دلائل النبوة للبيهقي 5 : 307 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 364 | 1 .
(3) سيرة ابن هشام 4 : 206 ـ 207 ، تاريخ الطبري 3 : 115 ، دلائل النبوة للبيهقي 5 : 313 ، الكامل في التأريخ 2 : 287 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 364 | ذيل ح 1 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 179 _
وممّن قدم عليه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وقد بني عامر فيهم : عامر بن الطفيل ، وأربد بن قيس أخو لبيد بن ربيعة لامّه ، وكان عامر قد قال لأربد : إنّي شاغلٌ عنك وجهه فإذا فعلته فأعله بالسيف ، فلمّا قدموا عليه ، قال عامر : يا محمد خالني ، فقال : « لا ، حتّى تؤمن بالله وحده » ـ قالها مرّتين ـ فلمّا أبى عليه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قال : والله لأملاَنّها عليك خيلاً حمراً ورجالاً ، فلمّا ولّى قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : « اللهمّ اكفني عامر بن الطفيل » .
فلمّا خرجوا قال عامر لأربد : أين ما كنت أمرتك به ؟ قال : والله ما هممت بالذي أمرتني به إلاّ دخلت بيني وبين الرجل ، أفأضربك بالسيف ؟ وبعث الله على عامر بن الطفيل في طريقه ذلك الطاعون في عنقه فقتله في بيت امرأة من سلول ، وخرج أصحابه حين واروه إلى بلادهم ، وأرسل الله تعالى على أربد وعلى جملة صاعقة فأحرقتهما
(1) .
وفي كتاب أبان عن عثمان : أنّهما قدما على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بعد غزوة بني النضير قال : وجعل يقول عامر عند موته: أغدّة كغدّة
(2) البكر وموت في بيت سلوليّة ؟ قال : وكان رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قال في عامر وأربد : « اللّهم أبدلني بهما فارسي العرب » فقدم عليه زين بن مهلهل الطائي ـ وهو زيد الخيل ـ وعمرو بن معدي كرب
(3) .
وممّن قدم على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وفد طيّ فيهم : زيد الخيل ، وعديّ بن حاتم ، فعرض عليهم الاِسلام فأسلموا وحسن إسلامهم ، وسمّاه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) زيد الخير ، وقطع له فيداً وأرضين معه وكتب له كتاباً ، فلمّا خرج زيد من عند رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) راجعاً إلى قومه قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : « إن ينج زيد من حمّى المدينة أو من اُمّ ملدم »
(4) .
---------------------------
(1) سيرة ابن هشام 4 : 213 ، والطبقات الكبرى 1 : 310 ، تاريخ الطبري 3 : 144 ، ودلائل النبوة للبيهقي 5 : 318 ، والبداية والنهاية 5 : 56 ، تاريخ الاسلام للذهبي ( المغازي ) : 679 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 365 | ذيل ح 1 .
(2) الغدة : طاعون الابل وقلّما تسلم منه ، والبكر : الفتى من الابل ، « لسان العرب 3 : 323 و 4 : 79 » .
(3) نقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 365 .
(4) ام ملدم : كنية الحمى ، والعرب تقول : قالت الحمى : أنا اُم آكل اللحم وامص الدم ، «لسان العرب 12 : 539 » .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 180 _
فلمّا انتهى من بلد نجد إلى ماء يقال له فردة أصابته الحمّى فمات بها ، وعمدت امرأته إلى ما كان معه من الكتب فأحرقتها
(1) ، وذكر محمّد بن إسحاق : أنّ عديّ بن حاتم فرّ ، وأنّ خيل رسول الله ( صلّى عليه وآله وسلّم ) قد أخذوا اُخته فقدموا بها على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وأنّه منّ عليها وكساها وأعطاها نفقة ، فخرجت مع ركب حتّى قدمت الشام وأشارت على أخيها بالقدوم فقدم وأسلم وأكرمه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وأجلسه على وسادة رمى بها إليه بيده
(2) .
وقدم على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) عمرو بن معدي كرب وأسلم ، ثمّ نظر إلى اُبي بن عثعث الخثعمي فأخذ برقبته وأدناه إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فقال : أعدني على هذا الفاجر الذي قتل والدي ، فقال ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : « أهدر الاِسلام ما كان في الجاهليّة » .
فانصرف عمرو مرتدّاً وأغار على قوم من بني الحارث بن كعب ، فأنفذ رسول الله عليّاً ( عليه السلام ) إلى بني زبيد وأمّره على المهاجرين ، وأرسل خالد بن الوليد في طائفة من الأعراب وأمره أن يقصد الجعفي فإذا التقيا فأمير الناس عليّ بن أبي طالب .
فسار عليّ ( عليه السلام ) ، واستعمل على مقدّمته خالد بن سعيد بن العاص ، فلمّا رأوه بنو زبيد قالوا لعمرو : كيف أنت يا أبا ثور إذا لقيك هذا الغلام القرشيّ فأخذ منك الأتارة
(3) ؟ فقال : سيعلم إن لقيني .
---------------------------
(1) سيرة ابن هشام 4 : 224 ، والطبقات الكبرى 1 : 321 ، تاريخ الطبري 2 : 145 ، دلائل النبوة للبيهقي 5 : 337 ، الكامل في التأريخ 2 : 299 ، عيون الأثر 2 : 236 ، البداية والنهاية 5 : 63 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 365 .
(2) سيرة ابن هشام 4 : 225 ، الطبقات الكبرى 1 : 322 ، دلائل النبوة للبيهقي 5 : 338 ، عيون الأثر 2 : 237 ، البداية والنهاية 5 : 63 ـ 68 ، الكامل في التأريخ 2 : 285 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 366 | 1 .
(3) الاتارة : الخراج ، « العين 8 : 147 » .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 181 _
وخرج عمرو وخرج أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) فصاح به صيحة فانهزم ، وقتل أخوه وابن أخيه ، واُخذت امرأته ركانة ، وسبي منهم نسوان ، وخلّف على بني زبيد خالد بن سعيد ليقبض زكواتهم ويؤمن من عاد إليه من هرابهم مسلماً .
فرجع عمرو واستأذن على خالد بن سعيد فأذن له فعاد إلى الاِسلام ، وكلّمه في امرأته وولده فوهبهم له ، وكان أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) قد اصطفى من السبي جارية ، فبعث خالد بريدة الأسلمي إلى النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وقال له : تقدّم الجيش إليه فأعلمه ما فعل عليّ من اصطفائه الجارية من الخمس لنفسه ، وقع فيه .
فسار بريدة حتّى دخل على النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ومعه كتاب خالد فجعل يقرأه على رسول الله ووجهه يتغيّر فقال بريدة : إن رخّصت يا رسول الله للناس في مثل هذا ذهب فيؤهم ، فقال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : « ويحك يا بريدة أحدثت نفاقاً ، إنّ عليّ بن أبي طالب يحلّ له من الفيء ما يحلّ لي ، إنّ عليّ بن أبي طالب خير الناس لك ولقومك ، وخير من اُخلّف بعدي لكافّة اُمّتي ، يا بريدة أحذر أن تبغض عليّاً فيبغضك الله» .
قال بريدة : فتمنّيت أنّ الأرض انشقّت لي فسخت فيها وقلت : أعوذ بالله من سخط الله وسخط رسول الله، يا رسول الله استغفر لي فلن أبغض عليّاً أبداً ولا أقول فيه إلاّ خيراً ، فاستغفر له النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، قال بريدة : فصار عليّ أحبّ خلق الله بعد رسوله إليّ
(1) .
---------------------------
(1) انظر : ارشاد المفيد 1 : 158 ، كشف الغمة 1 : 228 ، عيون الأثر 2 : 240 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 358 | ذيل ح 1 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 182 _
وقدم على رسول الله ( صلّى الله وآله وسلّم ) وفد نجران فيهم بضعة عشر رجلاً من أشرافهم ، وثلاثة نفر يتولّون اُمورهم : العاقب وهو أميرهم وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلاّ عن رأيه وأمره واسمه عبد المسيح ، والسيّد وهو ثمالهم وصاحب رحلهم واسمه الأيهم ، وأبو حارثة بن علقمة الاُسقف وهو حبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم له فيهم شرف ومنزلة ، وكانت ملوك الروم قد بنوا له الكنائس ، وبسطوا عليه الكرامات لما يبلغهم من علمه واجتهاده في دينهم .
فلمّا وجّهوا إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) جلس أبو حارثة على بغلة وإلى جنبه أخ له يقال له : كرز ـ أو بشر ـ بن علقمة يسايره إذ عثرت بغلة أبي حارثة ، فقال كرز : تعس الأبعد ـ يعني رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ـ فقال له أبو حارثة : بل أنت تعست ، قال له ولم يا أخ ؟
فقال : والله إنّه للنبيّ الذي كنّا نتظر ، فقال كرز : فما يمنعك أن تتّبعه ؟ فقال : ما صنع بنا هؤلاء القوم ، شرّفونا وموّلونا وأكرمونا ، وقد أبوا إلاّ خلافه ، ولو فعلت نزعوا منّا كلّ ما ترى ، فأضمر عليها منه أخوه كرز حتّى أسلم ثمّ مرّ يضرب راحلته ويقول :
إليك تعدو قلقاً وضينها (1) معترضاً في بطنها iiجنينها
مخالفاً دين النصارى iiدينها |
---------------------------
(1) الوظين : بطان منسوج بعضه على بعض ، يشد به الرجل على البعير ، كالحزام للسرج ، أراد أنه سريع الحركة ، يصفه بالخفة وقلة الثبات كالحزام إذا كان رخواً ، أو أراد أنها هزلت ودقت للسير عليها ، « انظر : النهاية 5 : 199 » .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 183 _
فلمّا قدم على النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، قال : فقدموا على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وقت العصر وفي لباسهم الديباج وثياب الحبرة على هيئة لم يقدم بها أحد من العرب ، فقال أبو بكر : بأبي أنت واُمّي يا رسول الله لو لبست حلّتك التي أهداها لك قيصر فرأوك فيها .
قال : ثمّ أتوا رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فسلّموا عليه فلم يردّ ( عليهم السلام ) ولم يكلّمهم ، فانطلقوا يتتبّعون عثمان بن عفّان وعبد الرحمن بن عوف ـ وكانا معرفة لهم ـ فوجدوهما في مجلس من المهاجرين ، فقالوا : إنّ نبيّكم كتب إلينا بكتاب فأقبلنا مجيبين له ، فأتيناه فسلّمنا عليه فلم يردّ سلامنا ولم يكلّمنا ، فما الرأي ؟ فقالا لعليّ بن أبي طالب : ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم ؟ قال : « أرى أن يضعواحللهم هذه وخواتيمهم ثمّ يعودون إليه » .
ففعلوا ذلك فسلّموا فردّ عليهم سلامهم ، ثمّ قال : « والذي بعثني بالحقّ ، لقد أتوني المرّة الاُولى وأنّ إبليس لمعهم » ، ثمّ سائلوه ودارسوه يومهم ، وقال الاُسقف : ما تقول في السيّد المسيح يا محمّد ؟ قال : « هو عبد الله ورسوله » ، قال : بل كذا وكذا ، فقال ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : بل هو كذا وكذا ، فترادّا ، فنزل على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) من صدر سورة آل عمران نحو من سبعين آية تتبع بعضها بعضاً ، وفيما أنزل الله ( إنّ مَثَلَ عيسى عندَ اللهِ كَمَثَلِ آدمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ـ إلى قوله : ـ على الكاذِبينَ )
(1) .
فقالوا للنبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : نباهلك غداً ، وقال أبو حارثة لأصحابه : انظروا فإن كان محمّد غدا بولده وأهل بيته فاخذروا مباهلته ، وإن غدا بأصحابه وأتباعه فباهلوه
(2) .
---------------------------
(1) آل عمران 3: 59 ـ 61 .
(2) انظر : ارشاد المفيد 1 : 166 ، تاريخ اليعقوبي 2 : 82 ، مجمع البيان 1 : 451 ، سيرة ابن هشام 2 : 222 ، الطبقات الكبرى 1 : 357 ، دلائل النبوة للبيهقي 5 : 382 ، الكامل في التاريخ 2 : 93 ، البداية والنهايه 5 : 54 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 336 | 2 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 184 _
قال أبان : حدثني الحسن بن دينار ، عن الحسن البصري قال : غدا رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) آخذاً بيد الحسن والحسين ، تتبعه فاطمة ( عليهم السلام ) ، وبين يديه عليّ ( عليه السلام ) ، وغدا العاقب والسيّد بابنين على أحدهما درّتان كأنّهما بيضتا حمام ، فحفّوا بأبي حارثة ، فقال أبو حارثة : من هؤلاء معه ؟ قالوا : هذا ابن عمّه زوج ابنته ، وهذان ابنا ابنته ، وهذه بنته أعزّ الناس عليه وأقربهم إلى قلبه .
وتقدّم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فجثا على ركبتيه ، فقال أبو حارثة : جثا والله كما جثا الأنبياء للمباهلة ، فكع ولم يقدم على المباهلة ، فقال له السيّد : ادن يا أبا حارثة للمباهلة ، فقال : لا ، إنّي لاَرى رجلاً جريئاً على المباهلة ، وأنا أخاف أن يكون صادقاً فلا يحول والله علينا الحول وفي الدينا نصرانيّ يطعم الماء .
قال : وكان نزل العذاب من السماء لو باهلوه ، فقالوا : يا أبا القاسم ، إنّا لا نباهلك ، ولكن نصالحك ، فصالحهم النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) على ألفي حلّة من حلل الأواقي قيمة كلّ حلّة أربعون درهماً جياداً ، وكتب لهم بذلك كتاباً ، وقال لاَبي حارثة الاُسقف : « لكأنّني بك قد ذهبت إلى ذهبت إلى رحلك وأنت وسنان فجعلت مقدّمه مؤخّره » فلمّا رجع قام يرحل راحلته فجعل رحله مقلوباً فقال : أشهد أن محمّداً رسول الله
(1) .
---------------------------
(1) مجمع البيان 1 : 451 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 338 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 185 _
ثمّ بعث رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) عليّاً إلى اليمن ليدعوهم إلى الاِسلام ـ وقيل : ليخمّس ركازهم
(1) ويعلّمهم الأحكام ، ويبيّن لهم الحلال والحرام ـ وإلى أهل نجران ليجمع صدقاتهم ، ويقدم عليه بجزيتهم
(2) .
وروى الحاكم أبو عبد الله الحافظ بإسناده رفعه إلى عمرو بن شاس الأسلمي قال : كنت مع عليّ بن أبي طالب في خليه ، فجفاني عليّ بعض الجفاء ، فوجدت عليه وفي نفسي ، فلمّا قدم المدينة اشتكيته عند من لقيته ، فأقبلت يوماً ورسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) جالس في المسجد ، فنظر إليّ حتّى جلست إليه فقال : « يا عمرو بن شاس لقد آذيتني » .
فقلت: إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، أعوذ بالله والاِسلام أن اُوذي رسول الله، فقال : « من آذى عليّاً فقد آذاني » .
وقد كان بعث قبله رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الاِسلام فلم يجيبوه ، قال البراء : فكنت مع عليّ ( عليه السلام ) ، فلمّا دنونا من القوم خرجوا إلينا ، فصلى بنا عليّ ثمّ صففنا صفّاً واحداً ثمّ تقدّم بين أيدينا فقرأ عليهم كتاب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فأسلمت همدان كلّها ، فكتب عليّ ( عليه السلام ) إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فلمّا قرأ الكتاب خرّ ساجداً ثمّ رفع رأسه فقال : « السلام على همدان »
(3) ، أخرجه البخاري في الصحيح
(4) .
---------------------------
(1) الركاز: دفين أهل الجاهلية، كأنه رُكِزَ في الأرض ركزاً ، « الصحاح 3 : 880 » .
(2) انظر : ارشاد المفيد 1 : 170 ، كشف الغمة 1 : 235 ، تاريخ الطبري 3 : 131 ، دلائل النبوة البيهقي 5 : 394 ، الكامل في التاريخ 2 : 300 ، عيون الأثر 2 : 271 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 360 | 1 .
(3) مستدرك الحاكم 3 : 122 ، وانظر كذلك : مسند أحمد 3 : 483 ، تاريخ الطبري 3 : 132 ، دلائل النبوة للبيهقي 5 : 394 ، تذكرة الخواص : 48 ، اُسد الغابة 4 : 114 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 360 | 1 .
(4) صحيح البخاري 5 : 206 مختصراً من وجه آخر عن إبراهيم بن يوسف ، وكذا ذكر البيهقي عند نقله للرواية أعلاه ، فراجع الهامش السابق .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 186 _
وروى الأعمش عن عمرو بن مرّة ، عن أبي البختري ، عن عليّ ( عليه السلام ) قال : « بعثني رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إلى اليمن ، قلت : يا رسول الله، تبعثني وأنا شابٌ اقضي بينهم ولا أدري ما القضاء ؟ ! قال : فضرب بيده في صدري وقال : اللّهم اهد قلبه ، وثبّت لسانه ، فو الذي نفسي بيده ما شككت في قضاء بين اثنين »
(1) .
وخرج رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) من المدينة متوّجّهاً إلى الحجّ في السنة العاشرة لخمس بقين من ذي القعدة ، وأذّن في الناس بالحجّ ، فتجهّز الناس للخروج معه ، وحضرالمدينة من ضواحيها ومن جوانبها خلق كثير ، فلمّا انتهى إلى ذي الحليفة ولدت هناك أسماء بنت عميس محمّد بن أبي بكر ، فأقام تلك الليلة من أجلها ، وأحرم من ذي الحليفة ، وأحرم الناس معه ، وكان قارناً للحجّ بسياق الهدي ساق معه ستّاً وستّين بدنة .
وحجّ علي ( عليه السلام ) من اليمن وساق معه أربعاً وثلاثين بدنة ، وخرج بمن معه من العسكر الذي صحبه إلى اليمن ومعه الحلل التي أخذها من أهل نجران ، فلمّا قارب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) مكّة من طريق المدينة قاربها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من طريق اليمن فتقدّم الجيش إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فسرّ رسول الله بذلك وقال له : « بم أهللت يا عليّ ؟ » ، فقال : « يا رسول الله إنّك لم تكتب إليّ بإهلالك ، فعقدت نيّتي بنيّتك وقلت : اللهمّ إهلالاً كإهلال نبيّك » .
---------------------------
(1) ارشاد المفيد 1 : 194 ، كشف الغمة 1 : 114 ، الطبقات الكبرى 2 : 337 ، سنن ابن ماجه 2 : 774 | 2310 ، الأنساب للبلاذري 2 : 101 | 33 ، خصائص النسائي 56 | 32 ـ 36 ، مستدرك الحاكم 3 | 135 ، سنن البيهقي 10 : 86 ، دلائل النبوة للبيهقي 5 : 397 ، الاستيعاب 3 : 36 ، تاريخ بغداد 12 : 444 ، مناقب ابن المغازلي : 249 | 298 ، مناقب الخوازمي : 41 ، كفاية الطالب : 106 ، فرائد السمطين 1 : 167 ، وباختلاف يسير في مسند الطيالسي : 16 ، سنن أبي داود 3 : 301 | 3582 ، أخبار القضاة 1 : 84 ، مسند أبي يعلى 1 : 252 | 293 و 268 | 316 و 323 | 401 ، حلية الأولياء 4 : 381 ، ذخائر العقبى : 83 . ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 360 | 1 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 187 _
فقال ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : « فأنت شريكي في حجّي ومناسكي وهديي ، فأقم على إحرامك وعد على جيشك وعجّل بهم إليّ حتّى نجتمع بمكّة »
(1) .
وقد روي أيضاً عن الصادق ( عليه السلام ) : أن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ساق في حجّته مائة بدنة ، فنحر نيّفاً وستّين ، ثمّ أعطى عليّاً فنحر نيّفاً وثلاثين ، فلمّا رجع علي ( عليه السلام ) إلى جيشه وجد الناس قد لبسوا تلك الحلل ، فقال للذي استخلفه عليهم : « ويحك ما دعاك إلى ما فعلت من غير إذن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ؟ » قال : إنّهم سألوني أن أدفعها إليهم فيتجملوا بها ويحرموا فيها .
فقال : « بئس ما فعلوا وبئس ما فعلت » ، فانتزعها ( عليه السلام ) من القوم وشدّها في الأعدال ، فكثرت شكاية القوم عليّاً ، فنادى منادي رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ارفعوا ألسنتكم عن شكاية عليّ فإنّه أخشن في ذات الله، ولمّا قدم النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ومكّة وطاف وسعى نزل عليه جبرئيل ( عليه السلام ) ـ وهو على المروة ـ بهذه الآية ( وَاتِمّوا الحَجَّ والعُمرَةَ للهِ )
(2) فخطب الناس وحمد الله وأثنى عليه ، وقال : « دخلت العمرة في الحجّ هكذا إلى يوم القيامة ـ وشبّك بين أصابعه ـ ثمّ قال ( عليه السلام ) : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي » .
ثمّ أمر مناديه فنادى : من لم يسق منكم هدياً فليحلّ وليجعلها عمرة ، ومن ساق منكم هدياً فليقم على إحرامه .
---------------------------
(1) انظر : ارشاد المفيد 1 : 171 ، قصص الأنبياء للراوندي : 355 | 431 ، صحيح مسلم 2 : 888 ، سيرة ابن هشام 4 : 249 ، دلائل النبوة للبيهقي 5 : 399 ، أحكام القرآن للقرطبي 2 : 370 ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 383 | 10 .
(2) البقرة 2 : 196 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 188 _
وقام إليه رجلٌ من بني عديّ وقال : يا رسول الله أتخرجنّ إلى منى ورؤسنا تقطر من الماء فقال ( عليه السلام ) : «إنّك لن تؤمن بها حتّى تموت » ، فقام إليه سراقة بن مالك بن جعشم فقال : يا رسول الله ألعامنا هذا أم للأبد ؟ قال : « لا ، بل لأبد الأبد » ، فأحلّ الناس أجمعون ، إلاّ من كان معه هدي ، وخطب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) الناس يوم النفر من منى فودّعهم ، ولمّا قضى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) نسكه وقفل إلى المدينة ، وانتهى إلى الموضع المعروف بغدير خمّ ، وليس بموضع يصلح للنزول لعدم الماء فيه والمرعى ، نزل عليه جبرئيل ( عليه السلام ) ، وأمره أن يقيم عليّاً وينصبه إماماً للناس ، فقال : « ربّ إنّ اُمّتي حديثو عهد بالجاهليّة » فنزل عليه : أنّها عزيمة لا رخصة فيها ، فنزلت الآية : ( يا اَيُّها الرَّسُولُ بَلَّغ ما اُنزِلَ اِليك مِن رَبَّك وَاِن لَم تَفعل فَما بَلَّغتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعصمُك مِنَ النَّاسِ )
(1) .
فنزل رسول الله بالمكان الذي ذكرناه ، ونزل المسلمون حوله ، وكان يوماً شديد الحر ، فأمر رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بدوحات هناك فقمّ ما تحتها ، وأمر بجمع الرحال في ذلك المكان ووضع بعضها على بعض ، ثمّ أمر مناديه فنادى بالناس الصلاة جامعة ، فاجتمعوا إليه ، وإنّ أكثرهم ليلفٌ رداءه على قدميه من شدّة الرّمضاء ، فصعد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) على تلك الرحال حتّى صار في ذروتها ، ودعا عليّاً ( عليه السلام ) فرقى معه حتّى قام عن يمينه ، ثمّ خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ، ووعظ ونعى إلى الاُمّة نفسه فقال : « إنّي دعيت ويوشك أن اُجيب ، وقد حان منّي خفوقٌ من بين أظهركم ، وإنّي مخلّف فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليه الحوض » .
---------------------------
(1) المائدة 5 : 67 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 189 _
ثمّ نادى بأعلى صوته : « ألست أولى منكم بأنفسكم ؟ » ، فقالوا : اللهمّ بلى ، فقال لهم على النسق وقد أخذ بضبعي
(1) عليّ فرفعهما حتى رُئي بياض إبطيهما وقال : « فمن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه ، اللهمّ والِ من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله » .
ثمّ نزل ( عليه السلام ) وكان وقت الظهيرة ، فصلى ركعتين ، ثمّ زالت الشمس فأذّن مؤذّنه لصلاة الظهر فصلّى بالناس وجلس في خيمته ، وأمر عليّاً ( عليه السلام ) أن يجلس في خيمة له بإزائه ، ثمّ أمر المسلمين أن يدخلوا عليه فواجاً فوجاً فيهنّوه بالاِمامة ، ويسلّموا عليه بإمرة المؤمنين ، ففعل الناس ذلك اليوم كلّهم ، ثمّ أمر أزواجه وجميع نساء المؤمنين معه أن يدخلن معه ويسلّمن عليه بإمرة المؤمنين ففعلن ذلك ، وكان ممّن أطنب في تهنئته بذلك المقام عمر بن الخطّاب وقال فيما قال : بخّ بخّ لك يا عليّ ، أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة ، وأنشأ حسّان يقول :
يـناديهم يـوم الـغدير نبيّهم بـخمّ وأسمع بالرسول iiمناديا وقـال فـمن مـولاكم iiووليّكم فـقالوا ولم يبدوا هناك التعاديا إلـهك مـولانا وأنـت iiوليّنا ولن تجدن منّا لك اليوم عاصيا فـقال لـه قـم يا علي iiفإنّني رضيتك من بعدي إماماً iiوهاديا فـمن كـنت مولاه فهذا iiوليّه فكونوا له أنصار صدق iiمواليا هـناك دعـا اللهمّ وال ولـيّه وكـن لـلّذي عادا عليّاً iiمعاديا |
فقال له رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : « لا تزال يا حسان مؤيداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك » .
---------------------------
(1) الضبع : العضد ، « الصحاح ـ ضبع ـ 3 : 1247 » .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 190 _
ولم يبرح رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) من ذلك المكان حتّى نزل ( اَليَوم اَكمَلتُ لَكُم دِينَكُم وَاَتَممتُ عَلَيكُم نِعمَتي وَرَضِتُ لَكُمُ الاِسلامَ دِيناً )
(1) فقال : « الحمد لله على كمال الدين ، وتمام النعمة ، ورضا الربّ برسالتي والولاية لعليّ من بعدي »
(2) ، ولمّا قدم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) المدينة من حجّ الوداع بعث بعده اُسامة بن زيد وأمره أن يقصد حيث قتل أبوه ، وقال له : « أوطىء الخيل أواخر الشام من أوائل الرّوم » ، وجعل في جيشه وتحت رايته أعيان المهاجرين ووجوه الأنصار ، وفيهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة .
وعسكر اُسامة بالجرف ، فاشتكى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) شكواه التي توفّي فيها، وكان ( عليه السلام ) يقول في مرضه : « نفّذوا جيش اُسامة » ويكرّر ذلك ، وإنّما فعل ( عليه السلام ) ذلك لئلاّ يبقى في المدينة عند وفاته من يختلف في الاِمامة ، ويطمع في الامارة ، ويستوسق الأمر لأهله
(3) .
قال : ولمّا أحسّ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بالمرض الذي اعتراه ـ وذلك يوم السبت أو يوم الأحد ليال بقين من صفر ـ أخذ بيد عليّ ( عليه السلام ) ، وتبعه جماعة من أصحابه ، وتوجّه إلى البقيع ثمّ ، قال : « السلام عليكم أهل القبور ، ليهنئكم ما أصبحتم فيه ممّا فيه الناس ، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أوّلها ، ثمّ قال : إنّ جبرئيل ( عليه السلام ) كان يعرض عليّ القرآن كلّ سنة مرّة ، وقد عرضه علي العام مرّتين ، ولا أراه إلاّ لحضور أجلي » .
ثمّ قال : « يا علي ، إنّي خُيِّرت بين خزائن الدينا والخلود فيها أو الجنّة ، فاخترت لقاء ربّي والجنّة ، فإذا أنا مت فغسّلني واستر عورتي ، فإنّه لا يراها أحد إلاّ اُكمه » .
---------------------------
(1) المائدة 5 : 3 .
(2) ارشاد المفيد 1 : 173 ، وباختلاف يسير في تاريخ اليعقوبي 2 : 109 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 389 | 12 .
(3) انظر : ارشاد المفيد 1 : 180 ، قصص الأنبياء للراوندي : 357 | 432 ، سيرة ابن هشام 4 : 300 ، تاريخ اليعقوبي 2 : 113 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 191 _
ثمّ عاد إلى منزله ، فمكث ثلاثة أيّا موعوكاً ، ثمّ خرج إلى المسجد يوم الأربعاء معصوب الرأس متّكئاً على علي بيمنى يديه وعلى الفضل بن عبّاس باليد الاُخرى ، فجلس على المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : « أمّا بعد : أيّها الناس ، إنّه قد حان منّي خفوق من بين أظهركم ، فمن كانت له عندي عدة فليأتني اُعطه ايّاها ، ومن كان له عليّ دين فليخبرني به » .
فقام رجلٌ فقال : يا رسول الله لي عندك عدة ، إنّي تزوّجت فوعدتني ثلاثة أواق ، فقال ( عليه السلام ) : « أنحلها ايّاه يا فضل » ، ثمّ نزل فلبث الأربعاء والخميس ، ولمّا كان يوم الجمعة جلس على المنبر فخطب ثمّ قال : « أيّها الناس إنّه ليس بين الله وبين أحد شيء يعطيه به خيراً أو يصرف به عنه شرّاً إلاّ العمل الصالح ، أيّها الناس لا يدّع مدّع ، ولا يتمنّ متمنّ ، والذي بعثني بالحقّ لا ينجي إلاّ عمل مع رحمة الله، ولو عصيت لهويت ، اللهمّ هل بلّغت ؟ ـ ثلاثاً ـ » .
ثمّ نزل فصلّى بالناس ، ثمّ دخل بيته ، وكان إذ ذاك في بيت اُمّ سلمة ، فأقام به يوماً أو يومين ، فجاءت عائشة فسألته أن ينقل إلى بيتها لتتولّى تعليله فأذن لها ، فانتقل إلى البيت الذي أسكنته عائشة فاستمر المرض به فيه أيّاماً وثقل ( عليه السلام ) ، فجاء بلال عند صلاة الصبح ورسول الله مغمور بالمرض فنادى الصلاة رحمكم الله، فقال ( عليه السلام ) : « يصلّي بالناس بعضهم » ، فقالت عائشة : مروا أبا بكر فليصل بالناس ، وقالت حفصة : مروا عمر .
فقال ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : « اُكففن ، فإنّكن صويحبات يوسف » ، ثمّ قال وهو لا يستقلّ على الأرض من الضعف ، وقد كان عنده أنّهما خرجا إلى اُسامة ، فأخذ بيد عليّ بن أبي طالب والفضل بن عبّاس فاعتمدهما ورجلاه تخطان الأرض من الضعف ، فلمّا خرج إلى المسجد وجد أبا بكر قد سبق إلى المحراب ، فأومأ إليه بيده ، فتأخّر أبو بكر ، وقام رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وكبّر وابتدأ بالصلاة ، فلمّا سلّم وانصرف إلى منزله استدعى أبا بكر وعمر وجماعة من حضر المسجد ثمّ قال : « ألم آمركم أن تنفذوا جيش اُسامة ؟ » فقال أبو بكر : إنّي كنت خرجت ثمّ عدت لاُحدث بك عهداً ، وقال عمر : إنّي لم أخرج لاَني لم اُحب أن أسال عنك الركب .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 192 _
فقال ( عليه السلام ) : ( نفذوا جيش اُسامة ) ـ يكررها ثلاث مرات ـ ثمّ اُغمي عليه ( صلوات الله عليه وآله ) من التعب الذي لحقه ، فمكث هنيئة وبكى المسلمون وارتفع النحيب من أزواجه وولده ومن حضر ، فافاق ( عليه السلام ) وقال : « ائتوني بدواة وكتف أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً » ثمّ اُغمي عليه .
فقام بعض من حضر من أصحابه يلتمس دواة وكتفاً ، فقال له عمر : ارجع فإنّه يهجر ! ! فرجع ، فلمّا أفاق ( صلّى اللهّ عليه وآله وسلّم ) قال بعضهم : ألاّ نأتيك يا رسول الله بكتف ؟ دواة ؟ فقال : « أبعد الذي قلتم ! ! لا ، ولكن احفظوني في أهل بيتي ، واستوصوا بأهل الذمة خيراً ، وأطعموا المساكين ( الصلاة ) وما ملكت أيما نكم » .
فلم يزل يردّد ذلك حتّى أعرض بوجهه عن القوم ، فنهضوا ، وبقي عنده العبّاس والفضل وعليّ عليه السلام وأهل بيته خاصّة ، فقال له العبّاس : يا رسول اللهّ إن يكن هذا الأمر فينا مستقرّاً من بعدك فبشّرنا ، وإن كنت تعلم أنّا نغلب عليه فأوص بنا ، فقال : « أنتم المستضعفون من بعدي » واصمت ، ونهض القوم وهم يبكون ، فلمّا خرجوا من عنده قال : « ردّوا عليّ أخي عليّ بن أبي طالب وعمّي » فحضرا ، فلمّا استقر بهما المجلس قال رسول اللهّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : « يا عبّاس يا عمّ رسول الله ، تقبل وصيّتي وتنجزعدتي وتقضي ديني ؟ » ، فقال له العبّاس : يا رسول الله ، عمّك شيخ كبير ذوعيال كثير، وأنت تباري الريح سخاء وكرماً ، وعليك وعدٌ لا ينهض به عمّك ، فأقبل على عليّ ( عليه السلام ) فقال : « يا أخي تقبل وصيّتي وتنجز عدتي وتقضي ديني ؟ » .
فقال : «نعم يا رسول الله » ، فقال : « اُدن منّي » فدنا منه فضمّه إليه ونزع خاتمه من يده فقال له : «خذ هذا فضعه في يدك » ودعا بسيفه ودرعه وجميع لامته فدفع ذلك إليه ، والتمس عصابة كان يشدها على بطنه إذا لبس درعه ـ ويروى :أنّ جبرئيل نزل بها من السماء ـ فجيء بها إليه ، فدفعها إلى اميرالمؤمنين ( عليه السلام ) وقال له : « اقبض هذا في حياتي » ، ودفع إليه بغلته وسرجها وقال : « امض على اسم الله إلى منزلك » .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 193 _
فلمّا كان من الغد حجب الناس عنه ، وثقل في مرضه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وكان عليّ لا يفارقه إلاّ لضرورة ، فقام في بعض شؤونه فأفاق إفاقة فافتقد عليّاً فقال : «ادعوا لي أخي وصاحبي » وعاوده الضعف فاصمت ، فقالت عائشة : اُدعوا أبا بكر ، فدعي فدخل ، فلمّا نظر إليه أعرض عنه بوجهه ، فقام أبو بكر ، فقال : « اُدعوا لي أخي وصاحبي » فقالت حفصة : اُدعوا له عمر، فدعي ، فلمّا حضر رآه النبيّ ( عليه السلام ) فأعرض عنه بوجهه فانصرف .
ثمّ قال : « اُدعوا لي أخي وصاحبي » فقالت اُمّ سلمة : ادعوا له عليّاً فإنّه لا يريد غيره ، فدعي أميرالمؤمين ( عليه السلام ) ، فلمّا دنا منه أومأ إليه فأكبّ علجه ، فناجاه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) طويلاً ، ثمّ قام فجلس ناحية حتّى أغفى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فلمّا أغفى خرج فقال له الناس : يا أبا الحسن ما الذي أوعز إليك ؟ فقال : « علّمني رسول الله ألف باب من العلم فتح لي كلّ باب ألف باب ، ووصاني بما أنا قائمٌ به إن شاء اللهّ» .
ثمّ ثقل رسول الله ( صلّى إللهّ عليه وآله وسلّم ) وحضره الموت ، فلمّا قرب خروج نفسه قال له : « ضع رأسي يا عليّ في حجرك فقد جاء أمرالله عزّ وجل ، فإذا فاضت نفسي فتناولها بيدك وامسح بها وجهك ، ثمّ وجّهني إلى القبلة ، وتولّ أمري ، وصلّ عليّ أوّل الناس ، ولا تفارقني حتّى تواريني في رمسي ، واستعن بالله عزّوجل » ، وأخذ عليّ رأسه فوضعه في حجره فاُغمي عليه ، وأكبّت فاطمة ( عليها السلام ) تنظرفي وجهه وتندبه وتبكي وتقول :
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة iiللأرامل |
ففتح رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) عينيه وقال بصوت ضئيل : « يا بنيّة هذا قول عمّك أبي طالب لا تقوليه ، ولكن قولي : ( وَما مُحَمّدٌ الاّ رَسُولٌ قَد خَلَت مِن قَبلِهِ الرُّسُلُ اَفَاِن ماتَ اَو قُتِلَ أنقَلَبتُب عَلى أعقابكُم )
(1) » فبكت طويلاً ، فاومأ إليها بالدنوّ منه ، فدنت إليه ، فأسرإليها شيئَا هلل له وجهها .
---------------------------
(1) آل عمران 3 : 144 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 194 _
ثمّ قضى ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ويد أميرالمؤمنين اليمنى تحت حنكه ، ففاضت نفسه ( عليه السلام ) فيها ، فرفعها إلى وجهه فمسحه بها ، ثمّ وجّهه وغمّضه ومدّ عليه إزاره واشتغل بالنظر في أمره ، فسئلت فاطمة ( عليها السلام ) : ما الذي أسر إليك رسول اللهّ ( صلّى اللهّ عليه وآله وسلّم ) فسرى عنك ؟ قالت : « أخبرني أنّي أوّل أهل بيته لحوقاً به ، وأنّه لن تطول المدّة بي بعده حتّى أدركه ، فسرى ذلك عنّي »
(1) .
وروي عن اُمّ سلمة قالت : وضعت يدي على صدر رسول اللهّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يوم مات ، فمرّ بي جُمع آكل وأتوضّأ ما يذهب ريح المسك عن يدي
(2) .
وروى ثابت ، عن أنس قال : قالت فاطمة ( عليها السلام ) - لمّا ثقل النبي ( صلّى اللهّ عليه وآله وسلّم ) وجعل يتغشّاه الكرب - : « يا أبتاه إلى جبرئيل ننعاه ، يا أبتاه مِن ربه ما أدناه ، يا أبتاه جنان الفردوس مأواه ، يا أبتاه أجاب رباً دعاه »
(3) .
قال الباقر ( عليه السلام ) : « لمّا حضر رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلَم ) الوفاة نزل جبرئيل ( عليه السلام ) فقال : يا رسول الله أتريد الرجوع إلى الدنيا وقد بلغت ؟ قال : لا ، ثم قال له : يا رسول الله تريد الرجوع إلى الدنيا ؟ قال : لا ، الرفيق الأعلى»
(4) ، وقال الصادق ( عليه السلام ) : « قال جبرئيل ( عليه السلام ) : يا محمد هذا آخرنزولي إلى الدنيا ، إنّما كنت أنت حاجتي منها ، قال : وصاحت فاطمة ( عليها السلام ) وصاح المسلمون و ( صاروا ) يضعون التراب على رؤوسهم »
(5) .
---------------------------
(1) ارشاد المفيد ا : 181 ، ونقله المجلسي في بحارالأنوار 2 : 465 | 19 .
(2) دلائل النبوة للبيهقي 7 : 219 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 2 2 : 528 | 35 .
(3) المناقب لابن شهرآشوب 1 : 237 ، الطبقات الكبرى 2 : 311 ، دلائل النبوة للبيهقي 7 : 212 ، الأنوار في شمائل النبي المختار 2 : 1253 | 752 ، الوفا باحوال المصطفى 2 : 802 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 22 : 528 | 35.
(4) المناقب لابن شهرآشوب 1 : 237 ، ونقله المجلسي في بحارالأنوار 528 | 35 .
(5) نقله المجلسي في بحارالأنوار 22 : 529 | 35 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 195 _
ومات ( صلوات الله عليه واله ) لليلتين بقيتا من صفر سنة عشرمن هجرته
(1) .
وروي أيضاً لاثنتي عشرة ليلة من شهر ربيع الأول يوم الاثنين
(2) ، ولمّا أراد عليّ ( عليه السلام ) غسله استدعى الفضل بن عبّاس ، فأمره أن يناوله الماء، بعد أن عصب عينيه ، فشقّ قميصه من قبل جيبه حتّى بلغ به إلى سرّته ، وتولّى غسله وتحنيطه وتكفينه والفضل يناوله الماء ، فلمّا فرغ من غسله وتجهيزه تقدّم فصلّى عليه
(3) .
قال أبان : وحدّثني أبو مريم ، عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال : « قال الناس : كيف الصلاة عليه ؟ فقال عليّ ( صلوات الله وسلامه عليه ) : إنّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إمامنا حيّاً وميّتاً ، فدخل عليه عشرة عشرة فصلّوا عليه يوم الاثنين وليلة الثلاثاء ، حتّى الصباح ويوم الثلاثاء ، حتّى صلّى عليه صغيرهم وكبيرهم ، وذكرهم وانثاهم ، وضواحي المدينة ، بغير إمام .
وخاض المسلمون في موضع دفنه ، فقال عليّ ( عليه السلام ) : « إنّ الله سبحانه لم يقبض نبيّاً في مكان إلاّ وارتضاه لرمسه فيه ، وإنّي دافنه في حجرته التي قبض فيها » فرضي المسلمون بذلك ، فلمّا صلّى المسلمون عليه أنفذ العبّاس رجلاً إلى أبي عبيدة بن الجرّاح ، وكان يحفر لأهل مكّة ويصرح ، وأنفذ إلى زيد بن سهل أبي طلحة ، وكان يحفر لأهل المدينة ويلحد ، فاستدعاهما وقال : اللهم خر لنبيّك ، فوجد أبوطلحة فقيل له : اُحفرلرسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فحفرله لحداً .
ودخل أميرالمؤمنين علي ( صلوات الله وسلامه عليه ) والعباس والفضل واُسامة بن زيد ليتولّوا دفن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فنادت الأنصارمن وراء البيت : يا عليّ إنّا نذكرك الله وحقّنا اليوم من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) أن يذهب ، أدخِل منّا رجلاً يكون لنا به حظّ من مواراة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فقال : « ليدخل أوس بن خولي » رجل من بني عوف بن الخزرج وكان بدريّاً ، فدخل البيت وقال له عليّ صلوات الله وسلامه عليه : « انزل القبر » فنزل ، ووضع عليّ ( عليه السلام ) رسول الله على يديه ثمّ دلاه في حفرته ثمّ قال له : « اخرج » فخرج ونزل عليّ ( عليه السلام ) فكشف عن وجهه ووضع خدَّه على الأرض موجّهاً إلى القبلة على يمينه ، ثمّ وضع عليه اللبن وهال عليه التراب
(4).
---------------------------
(1) المقنعة : 456 ، مسار الشيعة ( ضمن مجموعة نفيسة ) : 63 ، التهذيب 6 : 2 ، مصباح المتهجد : 732، قصص الأنبياء للراوندي : 359 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 2 2 : 529 | 35 .
(2) الكافي 1 : 365 ، الكامل في التاريخ 2 : 323، دلائل النبوة للبيهقي 7 : 235 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 22 : 529 | 35 .
(3) ارشاد المفيد 1 : 187 ، ونقله المجلسي في بحارالأنوار 22 : 529 | 35 .
(4) ارشاد المفيد 1 : 188 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 22 : 529 | 35 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 196 _
وانتهزت الجماعة الفرصة لاشتغال بني هاشم برسول الله ( صلّى الله عليه واله وسلّم ) وجلوس عليّ ( صلوات الله وسلامه عليه ) للمصيبة فسارعوا إلى تقرير ولاية الأمر ، وتِّفق لأبي بكر ما اتّفق لاختلاف الأنصار فيما بينهم ، وكراهة القوم تأخير الأمر إلى أن يفرغ بنوهاشم من مصاب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فيستقرّ الأمر مقرّه ، فبايعوا أبا بكر لحضوره ، وليس هذا الكتاب بموضع لشرح ذلك ، وتجده في مواضعه إن شئت .
وروي : أنّ أبا سفيان جاء إلى باب رسول الله فقال :
بني هاشم لايطمع الناس فيكم ولا سيّما تيم بن مرّة أو عديّ فـما الأمـرإلاّ فـيكم iiوإليكم ولـيس لها إلاّ أبوحسن iiعليّ أبا حسن فاشدد بها كفّ iiحازم فإنّك بالأمر الذي يرتجى ملي |
ثمّ نادى بأعلى صوته : يا بني هاشم ، يا بني عبد مناف ، أرضيتم أن يلي عليكم أبوفصيل الرذل بن الرذل ؟ أما والله لئن شئتم لأملأنّها عليهم خيلاً ورجلاًَ ، فناداه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « ارجع يا أبا سفيان ، فوالله ما تريد الله بما تقول ، وما زلت تكيد الإسلام وأهله ، ونحن مشاغيل برسول اللهّ ( صلّى الله عليه وآله وسلِّم ) ، وعلى كلّ امرئ ما اكتسب وهووليّ ما احتقب »
(1) ، قال : وبعثوا إلى عكرمة بن أبي جهل وعمومته الحارث بن هشام وغيرهم فأحضروهم ، وعقدوا لهم الرايات على نواحي اليمن والشام ، ووجّهوهم من ليلهم ، وبعثوا إلى أبي سفيان فارضوه بتولية يزيد بن أبي سفيان .
قال : ولمّا بايع الناس أبا بكر قيل له : لوحبست جيش اُسامة واستعنت بهم على من يأتيك من العرب ؟ وكان في الجيش عامّة المهاجرين ، فقال اُسامة لأبي بكر : ما تقول في نفسك أنت ؟ قال : قد ترى ما صنع الناس ، فأنا اُحبّ أن تأذن لي ولعمر ، قال : فقَد أذنت لكما .
قال : وخرج اُسامة بذلك الجيش ، حتى إذا انتهى إلى الشام عزله واستعمل مكانه يزيد بن أبي سفيان ، فما كان بين خروج أسامة ورجوعه إلى المدينة إلاّ نحو من أربعين يوماً ، فلمّا قدم المدينة قام على باب المسجد ثمّ صاح : يا معشر المسلمين ، عجباً لرجل استعملني عليه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فتأمّر عليّ وعزلني !
---------------------------
(1) ارشاد المفيد 1 : 189 .