فما كان بأسرع حتّى طلعت هوادي الخيل (1) مع الحرّ بن يزيد التميميّ ، فجاء حتّى وقف هو وخيله مقابل الحسين ( عليه السلام ) في حرّ الظهيرة ، وكان مجيء الحرّ بن يزيد من القادسيّة ، يقدم الحصين بن نمير في ألف فارس ، فحضرت صلاة الظهر ، فصلّى الحسين ( عليه السلام ) وصلّى الحرّ خلفه ، فلمّا سلّم أنصرف إلى القوم وحمد الله وأثنى عليه وقال : « أيّها الناس إنّكم إن تتّقوا الله وتعرفوا الحقّ لأهله يكن أرضى لله عنكم ، ونحن أهل بيت محمد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم ، والسائرين فيكم بالجور والعدوان ، فإن أبيتم إلاّ الكراهة لنا ، والجهل بحقّنا ، وكان رأيكم الآن غير ما أتتني به كتبكم ، وقدمت به عليّ رسلكم انصرفت عنكم » .
   فقال له الحر : أنا والله ما أدري ما هذه الكتب التي تذكر ! فقال الحسين ( عليه السلام ) لبعض أصحابه : « يا عقبة بن سمعان اُخرج الخرجين اللذين فيهما كتبهم إليّ » ، فأخرج خرجين مملوءَين صحفاً فنثرت بين يديه ، فقال له الحرّ : لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك ، وقد اُمرنا إذا لقيناك أن لا نفارقك حتّى نقدم بك الكوفة على عبيد الله ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : « الموت أدنى إليك من ذلك » ثمّ قال لأصحابه : « قوموا فاركبوا » فركبوا ، فقال : « انصرفوا » .

---------------------------
(1) اقبلت هوادي الخيل : إذا بدت أعناقها . « الصحاح ـ هدى ـ 6 : 2534 » .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 302 _

   فلمّا ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الانصراف فقال الحسين ( عليه السلام ) للحرّ : « ثكلتك اُمّك يا ابن يزيد » ، قال الحرّ : أمّا لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل الحال التي أنت عليها ما تركت ذكر اُمّه بالثكل ، ولكن والله ما لي إلى ذكر أمّك من سبيل إلاّ باحسن ما نقدر عليه ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : « فما تريد ؟ » ، قال : اُريد أن أنطلق بك إلى الأمير عبيد الله ، قال : « إذاً والله لا أتّبعك » ، قال : إذاً والله لا أدعك ، وترادّا القول ، فلمّا كثر الكلام بينهما قال الحر : إنّي لم أومر بقتالك ، إنّما اُمرت أن لا اُفارقك حتّى أقدم بك الكوفة ، فتياسر ههنا عن طريق العذيب والقادسيّة حتّى أكتب إلى الأمير ويكتب إلى عبيد الله لعل الله أن ياتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن اُبتلى بشيء من أمرك .
   فسار الحسين ( عليه السلام ) وسار الحرّ في أصحابه يسايره وهو يقول له : إنّي أذكرك الله في نفسك ، فإنّي أشهد لئن قاتلت لتقتلن ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : « أفبالموت تخوّفني ؟ ! وساقول ما قال أخو الأوس لابن عمّه وهو يريد نصرة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فخوّفه ابن عمّه وقال : إنّك مقتول فقال :

سأمضي وما بالموتِ عارٌ على الفتى      إذا مـا نـوى حـقّاً وجـاهدَ مسلما
واسـى  الـرجالَ الصالحينَ iiبنفسهِ      وفــارقَ  مـثبوراً وودّعَ مـجرما
   فلمّا سمع ذلك الحرّ تنحّى عنه ، قال عقبة بن سمعان : فسرنا معه ساعة فخفق ( عليه السلام ) هو على ظهر فرسه خفقة ثمّ انتبه وهو يقول : « إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، والحمد لله ربّ العالمين » ففعل ذلك مرّتين أو ثلاثاً ، فأقبل إليه عليّ بن الحسين ( عليهما السلام ) على فرس فقال : يا أبه فيم حمدت الله واسترجعت ؟ قال : « يا بنيّ ، إنّي خفقت خفقة فعنّ لي فارس على فرس وهو يقول : القوم يسيرون والمنايا تسري إليهم ، فعلمت أنّها أنفسنا نُعيت إلينا » ، فقال له : يا أبه لا أراك الله سوءاً ، ألسنا على الحقّ ؟ قال : « بلى والذي إليه مرجع العباد » ، قال : فإنّنا إذن لا نبالي أن نموت محقّين ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : « جزاك الله من ولد خير ما جزى ولداً عن والده » ، فلمّا أصبح نزل فصلّى الغداة ، ثمّ عجلّ الركوب فأخذ يتياسر بأصحابه يريد أن يفرّقهم فيأتيه الحر بن يزيد فيرّده وأصحابه ، فجعل إذا ردّهم نحو الكوفة امتنعوا عليه ، فلم يزالوا يتياسرون كذلك حتّى انتهوا إلى نينوى المكان الذي نزل به الحسين ( عليه السلام ) ، فإذا راكب على نجيب له ، فلمّا انتهى إليهم سلّم على الحرّ ولم يسلّم على الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه ، ودفع إلى الحرّ كتاباً من عبيد الله بن زياد ، فإذا فيه : أمّا بعد : فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي ولا تنزله إلاّ بالعراء في غير خضر وعلى غير ماء ، وقد أمرت رسولي أن يلزمك ولا يفارقك حتّى يأتيني بإنفاذك أمري ، والسلام .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 303 _

   فأخذهم الحرّ بالنزول في ذلك المكان على غير ماء ولا في قرية ، فقال له الحسين : « دعنا ويحك ننزل في هذه القرية أو هذه » ـ يعني نينوى والغاضريّة ـ ، قال : لا والله لا أستطيع ذالك ، هذا رجل قد بُعث عيناً عليّ ، فقال زهير بن القين : إنّي والله ما أراه يكون بعد هذا الذي ترون إلاّ أشدّ ما ترون ، يا ابن رسول الله إن قتال هؤلاء الساعة أهون علينا من قتال من يأتينا من بعدهم ، فلعمري ليأتينا بعدهم من لا قبل لنا به .
   فقال الحسين ( عليه السلام ) : « ما كنت لأبدأهم بالقتال » ثمّ نزل ، وذلك في يوم الخميس الثاني من المحرّم سنة إحدى وستين ، فلمّا كان من الغد قدم عليهم عمر بن سعد بن أبي وقّاص في أربعة آلاف فارس فنزل نينوى ، فبعث إلى الحسين ( عليه السلام ) عروة بن قيس الأحمسي ، فقال له : فأته فسله ما الذي جاء بك ؟ وكان عروة ممّن كتب إلى الحسين ( عليه السلام ) فاستحيى منه أن يأتيه ، فعرض ذلك على الرؤساء فكلّهم أبى ذلك لمكان أنّهم كاتبوه ، فدعا عمرقرّة بن قيس الحنظليّ فبعثه ، فجاء فسلّم على الحسين ( عليه السلام ) فبلّغه رسالة ابن سعد ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : « كتب إليّ أهل مصركم هذا أن أقدم ، فامّا إذا كرهوني فأنا أنصرف عنكم » ، فلمّا سمع عمر هذه المقالة قال : أرجو أن يعافيني الله من حربه وقتاله ، وكتب إلى عبيد الله بن زياد لعنه الله : أمّا بعد : فإني حيث نزلت بالحسين بعثت إليه رسولي فسألته عمّا أقدمه وماذا يطلب ، فقال : كتب إليّ أهل هذه البلاد وأتتني رسلهم يسألوني القدوم فأمّا إذ كرهوني فإنّي منصرف عنهم .
   فلمّا قرأ ابن زياد الكتاب قال :
الآنَ إذْ عـلِقتْ مـخالبنا iiبـهِ      يرجو النجاةَ ولاتَ حينَ مناصِ
   وكتب إلى عمر بن سعد : أمّا بعد : فقد بلغني كتابك وفهمته ، فاعرض على الحسين أن يبايع ليزيد هو وجميع أصحابه ، فإذا هو فعل ذلك رأينا رأينا والسلام ، فلما ورد الجواب قال عمر بن سعد : قد خشيت أن لا يقبل ابن زياد العافية ، وورد كتاب ابن زياد في الأثر إليه : أن حل بين الحسين وأصحابه وبين الماء ، فلا يذوقوا منه قطرة كما صُنع بالتقيّ الزكيّ عثمان بن عفّان ! ! فبعث ابن سعد في الوقت عمرو بن الحجّاج في خمسمائة فارس فنزلوا على الشريعة وحالوا بين الحسين وأصحابه أن يستقوا منه ، وذلك قبل قتل الحسين ( عليه السلام ) بثلاثة أيام .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 304 _

   ونادى عبد الله بن الحصين الأزدي لعنه اللهّ بأعلى صوته : يا حسين ، ألا ترون إلى الماء كأنّه كبد السماء ، والله لا تذوقون منه قطرة حتّى تموتوا عطشاً ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : « اللهمّ اقتله عطشاً ولا تغفر له أبداً » ، قال حميد بن مسلم : فوالله لعدته بعد ذلك في مرضه ، فوالله الذي لا إله غيره ، لقد رأيته يشرب الماء حتّى يبغر (1) ثمّ يقيء ويصيح : العطش العطش ، ثمّ يعود يشرب الماء حتّى يبغر، ثمّ يقيئه ويتلظّى عطشاً ، فما زال ذلك دأبه حتى لفظ نفسه ، ولما رأى الحسين ( عليه السلام ) نزول العساكر مع عمر بن سعد ومددهم لقتاله أنفذ إلى عمر بن سعد : « أنّي اُريد لقاءك » فاجتمعا فتناجيا طويلاً ، ثمّ رجع عمرإلى مكانه وكتب إلى عبيد الله بن زياد : أمّا بعد : فإنّ الله تعالى قد أطفأ النائرة ، وجمع الكلمة ، وأصلح أمر الاُمّة ، هذا حسين أعطاني عهداً أن يرجع إلى المكان الذي منه أتى أو أن يسير إلى ثغر من الثغور فيكون رجلاً من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم ، أو أن ياتي أمير المؤمنين يزيد فيضع يده في يده فيرى فيما بينه وبينه رأيه ، وفي هذا لك رضا وللاُمّة صلاح .
   فلما قرأ عبيد الله الكتاب قال : هذا كتاب ناصح مشفق على قومه ، فقام إليه شمر بن ذي الجوشن فقال : أتقبل هذا منه وقد نزل بأرضك وإلى جنبك ؟ ! والله لئن رحل من بلادك ولم يضع يده في يدك ليكوننّ أولى بالقوّة ولتكوننّ أولى بالضعف ، فلا تعطه هذه المنزلة ، ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه ، فإن عاقبت فانت أولى بالعقوبة ، وإن عفوت كان ذلك لك ، فقال ابن زياد : نعم ما رأيت ، الرأي رأيك اُخرج بهذا الكتاب إليّ عمر بن سعد فليعرض على الحسين وأصحابه النزول على حكمي ، فإن أبوا فليقاتلهم ، فإن أبى أن يقاتلهم فانت أمير الجيش واضرب عنقه وأنفذ إلف برأسه .
   وكتب إلى عمر : إنّي لم أبعثك إلى الحسين لتكفّ عنه ، ولا لتطاوله ، ولا لتمنّيه السلامة ، ولا لتعتذر له ، ولا لتكون له عندي شافعاً ، انظر فإن نزل الحسين وأصحابه على حكمي واستسلموا فابعث بهم إليّ سلماً ، وإن أبوا فازحف إليهم حتّى تقتلهم وتمثّل بهم فإنهم لذلك مستحقّون ، فإن قتلت الحسين فاوطن الخيل صدره وظهره ، فإنّه عاق ظلوم ! ! ولست أرى أن هذا يضرّ بعد الموت شيئاً ولكن على قول قد قلته : لوقد قتلته لفعلت هذا به ، فإن أنت مضيت لأمرنا فيه جزيناك جزاء السامع المطيع ، وإن أبيت فاعتزل جندنا وعملنا وخلّ بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر ، فإنّا قد أمرناه بامرنا والسلام .

---------------------------
(1) البغر : داء ياخذ الابل فتشرب فلا تروى وتمرض منه فتموت ، قال الفرزدق :
فقلت  ما هو الا السامُ تركبهُ      كأنما الموت في أجنادهِ البَغرُ
« لسان العرب 4 : 72 » .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 305 _

   فاقبل شمر بكتاب عبيد الله إلى عمر بن سعد ، فلمّا قرأه قال له : ما لك ؟ لاقرّب الله دارك ، قبّح الله ما قدمت به عليّ ، لا يستسلم والله حسين ، إنّ نفس أبيه لبين جنبيه ، قال شمر : اخبرني ما أنت صانع ، امض أمر أميرك وإلاّ فخلّ بيني وبين الجند ، قال : لا ، ولا كرامة لك ، ولكن أنا أتولّى ذلك وكن أنت على الرجالة ، ونهض عمر بن سعد عشيّة يوم الخميس لتسع مضين من المحرّم ، وجاء شمر فوقف على أصحاب الحسين ( عليه السلام ) فقال : أين بنو اُختنا ؟ فخرج إليه العبّاس وجعفر وعثمان بنو عليّ ( عليه السلام ) فقالوا : ما تريد ؟ قال : أنتم يا بني اُختي آمنون ، فقالوا : لعنك الله ولعن أمانك ، أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له ! !
   ثمّ نادى عمر بن سعد : يا خيل الله اركبي ، فركب الناس ثم زحف نحوهم بعد العصر ، والحسين ( عليه السلام ) جالس أمام بيته محتب بسيفه إذ خفق برأسه على ركبتيه ، وسمعت اُخته الصيحة فدنت من أخيها فقالت : يا أخي أما تسمع الأصوات ؟ فرفع رأسه فقال : « إنّي رأيت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في المنام فقال لي : إنّك تروح إلينا » فلطمت اُخته وجهها ونادت بالويل ، فقال لها : « ليس لك الويل يا اُخيّة ، اسكتي رحمك اللهّ » ، وقال له العبّاس بن عليّ : يا أخي قد جاءك القوم ، فنهض وقال : « يا عبّاس ، اركب ـ بنفسي أنت يا أخي ـ حتّى تلقاهم وتقول لهم : ما لكم » ؟ فاتاهم العبّاس في عشرين فارساً فيهم زهير بن القين وحبيب بن مظاهر فقال : ما بدا لكم وما تريدون ؟ قالوا : جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو نناجزكم ، فانصرف العبّاس راجعاً يركض إلى الحسين ( عليه السلام ) يخبره الخبر ، ووقف أصحابه يعظون القوم ويكفّونهم عن قتال الحسين ( عليه السلام ) ، وجاء العبّاس وأخبره بما قال القوم ، فقال : « ارجع إليهم فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غد وتدفعهم عنّا العشيّة فافعل ، لعلّنا نصلّي لربنّا الليلة وندعوه ونستغفره » ، ومضى العبّاس ورجع ومعه رسول من قبل عمر بن سعد يقول : إنّا قد أجّلناكم إلى غد وانصرف .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 306 _

   فجمع الحسين ( عليه السلام ) أصحابه عند قرب المساء ، قال عليّ بن الحسين زين العابدين ( عليهما السلام ) : « فدنوت لأسمع ما يقول لهم وأنا إذ ذاك مريض فسمعت أبي ( عليه السلام ) يقول لأصحابه : اُثني على الله أحسن الثناء ، وأحمده على السرّاء والضرّاء ، اللهم إنّي أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوّة ، وعلّمتنا القرآن ، وفقّهتنا في الدين (1) .
   أمّا بعد : فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي ، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي ، فجزاكم الله عنّي خير الجزاء ، ألا وإنّي قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلّ ، ليس عليكم منّي ذمام ، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً ، فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه وأبناء عبد الله بن جعفر : ولم نفعل ذلك ، لنبقى بعدك ؟ ! لا أرانا اللهّ ذلك أبداً ، بدأهم بهذا القول العبّاس بن عليّ فأتبعه الجماعة عليه وتكلّموا بمثله ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : يا بني عقيل ، حسبكم من القتل بمسلم فاذهبوا أنتم فقد أذنت لكم .
   قالوا : سبحان الله فما يقول الناس ؟ ! يقولون : إنا تركنا شيخنا وسيّدنا وسيّد بني عمومتنا خير الأعمام ولم نرم معهم بسهم ، ولم نطعن برمح ، ولم نضرب دونهم بسيف ، ولا ندري ما صنعوا ؟ ! ، لا واللهّ لا نفعل ، ولكن نفديك بانفسنا وأموالنا وأهلينا ، ونقاتل معك حتّى نرد موردك ، فقبّح الله العيش بعدك ، وقام إليه مسلم بن عوسجة فقال : أنحن نخلّي عنك ولم نعذر إلى الله تعالى في أداء حقّك ؟ ! لا والله حتّى أطعن في صدورهم برمحي ، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ، والله لو علمت أنّي اُقتل ثمّ اُحرق ثمّ اُحيى ، يفعل بي ذلك سبعين مرّة ما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك ، فكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة ، ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً ! وقام زهير بن القين فقال : والله لوددت أنّي قُتلت ثمّ نُشرت ثمّ قُتلت ، وهكذا ألف مرّة ، وأنّ الله سبحانه يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك ، ثمّ تكلّم جماعة من أصحابه بكلام يشبه ما ذكرناه ، فجزاهم الحسين ( عليه السلام ) خيراً وانصرف إلى مضربه » .

---------------------------
(1) في الارشاد زيادة : وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة فاجعلنا من الشاكرين .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 307 _

   قال عليّ بن الحسين ( عليهما السلام ) : إنّي لجالس في تلك العشيّة ـ وعندي عمّتي زينب تمرّضني ـ إذ اعتزل أبي في خباء له وعنده جوين مولى أبي ذرّ الغفاري وهو يعالج سيفه ـ ويصلحه ـ وأبي يقول :
يـا دهرُ أفٍّ لكَ من خليلِ      كم لكَ بالإشراقِ iiوالأصيلِ
منْ صاحبِ أو طالبِ قتيلِ      والـدهرُ لا يـقنعُ بالبديل
وإنَـما  الأمَرُ إلى iiالَجليلِ      وكـلّ  حـيٍّ سالكٌ iiسبيلِ
   وأعادها مرّتين أو ثلاثاً حتى فهمتها وعرفت ما أراد فخنقتني العبرة ، فرددتها ولزمت السكوت ، وعلمت أنّ البلاء قد نزل ، وأمّا عمّتي فإنّها سمعت ما سمعت وهي امرأة ومن شأن النساء الرقّة والجزع ، فلم تملك نفسها أن وثبت تجرّثوبها وإنّها لحاسرة حتّى انتهت إليه فقالت : واثكلاه ، ليت الموت أعدمني الحياة ، اليوم ماتت اُمّي فاطمة الزهراء وأبي عليّ وأخي الحسن ، يا خليفة الماضين وثمال الباقين ، فنظر إليها الحسين ( عليه السلام ) وقال : يا اُختاه لا يذهبنّ حلمك الشيطان ، وترقرقت عيناه بالدموع وقال : لوترِك القطا لنام ، فقالت : يا ويلتاه أتغتصب نفسك اغتصاباً ، فذاك أقرح لقلبي وأشدّ على نفسي ، ثمّ لطمت على وجهها وأهوت إلى جيبها فشقّته وخرّت مغشياً عليها ، فقام إليها الحسين ( عليه السلام ) فصبّ الماء على وجهها وقال لها : يا اُختاه اتّقي الله وتعزّي بعزاء الله ، واعلمي أنّ أهل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون ، وأنّ كلّ شيء هالك إلاّ وجه اللهّ الذي خلق الخلق بقدرته وإليه يعودون وهو فرد واحد ، وإنّ أبي خيرٌ منّي ، وأخي خيرٌ منّي ، ولكلّ مسلم برسول اللهّ اُسوة ، فعزّاها بهذا ونحوه ، وقال لها : يا اُختاه ، إني أقسمت عليك فأبرّي قسمي ، لاتشقّي عليّ جيباً ، ولا تخمشي عليّ وجهاً ، ولا تدعي عليّ بالويل والثبور إذا أنا هلكت ، ثمّ جاء بها وأجلسها عندي .
   ثمّ خرج إلى أصحابه فأمرهم أن يقرّب بعضهم بيوتهم من بعض ، وأن يدخلوا الأطناب بعضها في بعض ، وأن يكونوا بين البيوت فيستقبلوا القوم من وجه واحد والبيوت من ورائهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم قد حفّت بهم إلاّ الوجه الذي يأتيهم منه عدوّهم ، ورجع إلى مكانه فقام الليل كلّه يصلّي ويستغفر ويدعو ، وقام أصحابه كذلك يدعون ويصلّون ويسغفرون » ، وأصبح ( عليه السلام ) فعبأ أصحابه بعد صلاة الغداة ، وكان معه اثنان وثلاثون فارساً وأربعون راجلاً ، فجعل زهير بن القين في ميمنة أصحابه ، وحبيب بن مظاهر في ميسرة أصحابه ، وأعطى رايته العبّاس أخاه ، وجعلوا البيوت في ظهورهم ، وأمر بحطب وقصب كان من وراء البيوت أن يترك في خندق كان هناك قد حفر وأن يحرق بالنار مخافة أن ياتوهم من ورائهم .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 308 _

   وأصبح عمر بن سعد في ذلك اليوم ، وهو يوم الجمعة ـ وقيل : يوم السبت ـ فعبأ أصحابه ، فجعل على ميمنته عمرو بن الحجّاج ، وعلى ميسرته شمر بن ذي الجوشن ، وعلى الخيل عروة بن قيس ، وعلى الرجّالة شبث بن ربعي ، ونادى شمر ( لعنه الله ) باعلى صوته : يا حسين ، تعجّلت النار قبل يوم القيامة ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : « يا ابن راعية المعزى أنت أولى بها صليّاً » ورام مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهم فمنعه الحسين ( عليه السلام ) من ذلك ، فقال له : دعني حتّى أرميه ، فإنّ الفاسق من عظماء الجبّارين وقد أمكن الله منه ، فقال ( عليه السلام ) : « أكره أن أبدأهم » .
   ثمّ دعا الحسين ( عليه السلام ) براحلته فركبها ونادى بأعلى صوته ـ وكلّهم يسمعون ـ فقال : « أيّها الناس إسمعوا قولي ولا تعجلوا حتّى أعظكم بما يحقّ عليّ لكم وحتّى أعذر إليكم فإنّ أعطيتموني النصف كنتم بذلك أسعد وإن لم تعطوني النصف من أنفسكم فاجمعوا رأيكم ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمّة ثمّ اقضوا إليّ ولا تنظرون ، إنّ وليّي الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولّى الصالحين » ، ثمّ حمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيّ عليه وآله السلام فلم يسمع متكلّم قطّ قبله ولا بعده أبلغ في منطق منه ، ثمّ قال : « أمّا بعد : فانسبوني وانظروا من أنا ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها فانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي ؟ ألست ابن بنت نبيّكم وابن وصيّه وابن عمّه وأوّل المؤمنين المصدّقين لرسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بماجاء به من عند ربّه ؟ أو َليس حمزة سيّد الشهداء عمّ أبي ؟ أوَ ليس جعفر الطيّار في الجنة بجناحين عمّي ؟ أو َلم يبلغكم ما قال رسول اللهّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لي ولأخي : هذان سيّدا شباب أهل الجنّة ؟ فإن صدقتموني بما أقول ـ وهو الحق ـ فوالله ما تعمّدت كذباً منذ علمت أنّ الله تعالى يمقت عليه ( أهله ) ، وإن كذّبتموني فإنّ فيكم من إذا سألتموه عن ذلك أخبركم ، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاريّ ، وأبا سعيد الخدريّ ، وسهل بن سعد الساعديّ ، وزيد بن أرقم ، وأنس بن مالك يخبرونكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لي ولأخي ، أما في هذا حاجزلكم عن سفك دمي ؟ » .
   فقال له شمر لعنه الله : هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما يقول ، فقال له حبيب بن مظاهر : واللهّ إنّي لأراك تعبد الله على سبعين حرفاً ، وأنا أشهد أنّك صادق ما تدري ما يقول ، قد طبع الله على قلبك ، ثمّ قال لهم الحسين ( عليه السلام ) : « فإن كنتم في شكّ من هذا أفتشكّون أنّي ابن بنت نبيّكم ؟ ! فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيّ غيري فيكم ولا في غيركم ، ويحكم أتطلبوني بقتيل منكم قتلته ، أومال لكم استهلكته ، أو بقصاص جراحة ؟ ! » فأخذوا لا يكلّمونه .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 309 _

   فنادى ( عليه السلام ) : « يا شبث بن ربعي ، يا حجّار بن أبجر ، يا قيس ابن الأشعث ، يا يزيد بن الحارث ، ألم تكتبوا إليّ : أن قد أينعت الثمار واخضرّ الجناب وإنّما تقدم على جند لك مجنّد ؟ » ، فقال له قيس بن الأشعث : ما ندري ما تقول ، ولكن انزل على حكم بني عمّك فإنّهم لم يريدوا بك إلاّ ما تحبّ ، فقال الحسين ( عليه السلام : « لا والله لا اُعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفرّ فرار العبيد ، ثمّ ادى : يا عباد الله ( إنّي عُذتُ بِربّي وَرَبِّكم أنْ تَرجُمُونِ ) (1) أعوذ ( برّبي وربكمُ مِنْ كُلِّ مُتَكَبّرٍ لا يُؤمِنُ بيَومِ الحِسإِب ) (2) ثمّ إنّه أناخ راحلته وأمرعقبة بن سمعان فعقلها ، وأقبلوا يزحفون نحوه .
   فلمّا رأى الحرّ بن يزيد أنّ القوم قد صمّموا على قتال الحسين ( عليه السلام ) قال : لعمر بن سعد : اي عمر ، أتقاتل الحسين ؟ ! قال : إي والله قتالاً أيسره أن تسقط فيه الرؤوس وتطيح فيه الأيدي ، قال : أفما لكم فيما عرضه عليكم رضىً ؟ قال : لوكان الأمرإليّ لفعلت ، ولكن أميرك قد أبى ، فاقبل الحرّ ومعه رجل من قومه يقال له : قرّة بن قيس فقال له : يا قرّة هل سقيت فرسك اليوم ؟ قال : لا ، قال قرّة : فظننت أنّه يريد أن يتنحّى فلا يشهد القتال ، ولوأنّه اطلعني على الذي يريد لخرجت معه إلى الحسين ( عليه السلام ) ، فاخذ يدنو من الحسين ( عليه السلام ) قليلاً قليلاً فقال له رجلٌ : ما هذا الذي أرى منك ؟ فقال : إني والله أخيّر نفسي بين الجنّة والنار ، فوالله ما أختار على الجنّة شيئاً ولو قُطعتُ وحُرّقتُ ، ثمّ ضرب فرسه فلحق بالحسين ( عليه السلام ) فقال له : جعلت فداك يا ابن رسول الله ، أنا صاحبك الذي جعجعت بك في هذا المكان ، وما ظننت أنّ القوم يردّون عليك ما عرضته عليهم ولا يبلغون منك هذه المنزلة ، والله لو علمت أنّ القوم ينتهون بك إلى ما أرى ما ركبت منك الذي ركبت ، وإنّي تائب إلى الله تعالى ممّا صنعت ، فترى لي من ذلك توبة ؟ فقال الحسين ( عليه السلام ) : « نعم يتوب الله عليك فانزل » قال : فانا لك فارساً خيرٌ منّي راجلاً ، اُقاتلهم لك على فرسي ساعة وإلى النزول يصير آخر أمري ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : « فاصنع ـ يرحمك الله ـ ما بدا لك » .

---------------------------
(1) الدخان 44 : 20 .
(2) غافر 40 : 27 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 310 _

   فاستقدم أمام الحسين ( عليه السلام ) فقال : يا أهل الكوفة لاُمّكم الهبل والعبر ، دعوتم هذا العبد الصالح حتّى إذا أتاكم أسلمتموه ، وزعمتم أنّكم قاتلوا أنفسكم دونه ، ثمّ عدوتم عليه لتقتلوه ، أخذتم بكظمه (1) ، وأحطتم به من كلّ جانب لتمنعوه التوجّه إلى بلاد الله العريضة ، فصار كالأسير في أيديكم لا يملك لنفسه نفعاً ، ولا يدفع عنها ضرّاً ، وحلأ تموه (2) ونساءه وصبيته وأهله عن ماء الفرات الجاري يشربه اليهود والنصارى والمجوس وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه ، وها هم قد صرعهم العطش ، بئس ما خلّفتم محمّداً في ذرّيّته ، لا سقاكم الله يوم الظمأ ، فحمل عليه رجال يرمونه بالنبل ، فأقبل حتّى وقف أمام الحسين ( عليه السلام ) ، ورمى عمر بن سعد بسهم وقال : اشهدوا أنّي أوّل من رمى ، ثمّ ارتمى الناس وتبارزوا ، فبرز يسار مولى زياد بن أبيه ، فبرز إليه عبد الله بن عمير فضربه بسيفه فقتله ، فشدّ عليه سالم مولى عبيد الله بن زياد فصاحوا به : قد رهقك العبد ، فلم يشعر حتّى غشيه فبدره بضربة اتّقاها ابن عمير بيده اليسرى فأطارت أصابع كفّه ، ثمّ شدّ عليه فضربه حتّى قتله ، وأقبل وقد قتلهما وهو يرتجز ويقول :
إنْ تَـنكروني فـأنا ابنُ iiالكلب      إنّي امرؤٌ ذو مرة وَعضب (3)
ولـستُ  بـالَخوّار عندَ النكب
   وحمل عمرو بن الحجّاج على ميمنة أصحَاب الحسين ( عليه السلام ) بمن كان معه من أهل الكوفة ، فلمّا دنا من الحسين ( عليه السلام ) جثوا له على الركب واشرعوا الرماح نحوهم فلم تقدم خيلهم على الرماح ، فذهبت الخيل لترجع فرشقهم أصحاب الحسين ( عليه السلام ) بالنبل فصرعوا منهم رجالاً وجرحوا آخرين .

---------------------------
(1) أخذتم بكظمه : أي بمخرج نفسه . « الصحاح ـ كظم ـ 5 : 2023 » .
(2) حلأه عن الماء : طرده ولم يدعه يشرب . « الصحاح ـ حلأ ـ 1 : 45 » .
(3) العضب : السيف القاطع . « العين 1 : 283 » .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 311 _

   وجاء رجل من بني تميم يقال له : عبد الله بن حوزة إلى عسكر الحسين ( عليه السلام ) فناداه القوم : إلى أين ثكلتك اُمّك ؟ فقال : إنّي أقدم على ربّ كريم وشفيع مطاع ، فقال الحسين ( عليه السلام ) لأصحابه : « من هذا ؟ » فقيل : ابن حوزة ، فقال : « اللهم حزه إلى النار » فاضطربت به فرسه في جدول فوقع وتعلّقت رجله اليسرى في الركاب وارتفعت اليمنى ، وشدّ عليه مسلم بن عوسجة فضرب رجله اليمنى فطارت ، وعدا به فرسه فضرب رأسه كلّ حجر وكلّ شجر حتى مات وعجّل الله بروحه إلى النار .
   ونشب القتال ، فقتل من الجميع جماعة ، وحمل الحرّ بن يزيد على أصحاب عمر بن سعد وهو يتمثّل بقول عنترة :
مازلتُ  أرميهم بغُرّةِ iiوجههِ      ولبانِهِ (1) حتّى تسربلَ بالدم
   فبرزإليه رجل من بني الحارث فقتله الحرّ ، وبرز نافع بن هلال وهو يقول :
أنا ابنُ هلالِ البجلي      أنـا على دينِ iiعلي
   فبرز إليه مزاحم بن حريث وهو يقول : أنا على دين عثمان ، فقال له نافع : أنت على دين الشيطان ، وحمل عليه فقتله .
  فصاح عمر بن الحجّاج بالناس : يا حمقى ، أتدرون من تبارزون ومن تقاتلون ؟ تقاتلون فرسان أهل المصر ، تقاتلون قوماً مستميتين ، لا يبرز إليهم منكم أحدٌ فإنّهم قليل وقلّما يبقون ، واللهّ لو لم ترموهم إلاّ بالحجارة لقتلتموهم ، فقال عمر بن سعد : صدقت الرأي ما رأيت ، فأرسل في الناس واعرض عليهم أن لا يبارز رجل منكم رجلاً منهم ، ثمّ حمل عمرو بن الحجّاج في أصحابه على أصحاب الحسين ( عليه السلام ) من نحو الفرات ، واضطربوا ساعة ، فصرع مسلم بن عوسجة الأسديَ ( رحمه الله ) وانصرف عمرو بن الحجّاج وأصحابه ، وانقطعت الغبرة فوجدوا مسلماً صريعاً ، فسعى إليه الحسين ( عليه السلام ) فإذا به رمق فقال له : « رحمك الله يا مسلم مِنهُم مَن قَضى نحبَة ( وَمنهُم مَن يَنتَظِرُ وَفا بَدّثوا تَبدِيلاً ) (2) .
   وحمل شمر بن ذي الجوشن في الميسرة على أهل الميسرة ، وحمل على الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه من كلّ جانب ، وقاتلهم أصحاب الحسين ( عليه السلام ) قتالاً شديداً ، وأخذت خيلهم تحمل ـ وإنّما هي اثنان وثلاثون فارساً ـ فلا تحمل على جانب من خيل الكوفة إلاّ كشفته .

---------------------------
(1) لبانة : صدره . « الصحاح ـ لبن ـ 6 : 2193 » .
(2) الأحزاب 33 : 23 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 312 _

   فلما رأى ذلك عروة بن قيس ـ وهو على خيل الكوفة ـ بعث إلى عمر ابن سعد : أما ترى ما تلقى خيلي منذ اليوم من هذه العدّة اليسيرة ، فابعث إليهم الرجال الرماة ، فبعث إليهم بالرماة ، فعقر بالحرّ بن يزيد فرسه فنزل عنه وهو يقول :
إن تَعقروا بي فآنا ابنُ الحُرّ      أشـجَعُ  مِن ذِي لِبَدٍ iiهِزَبرِ
   فجعل يضربهم بسيفه ، وتكاثروا عليه حتّى قتلوه ، وقاتل أصحاب الحسين ( عليه السلام ) أشدّ قتال ، حتّى أنتصف النهار فلمّا رأى الحصين بن نمير ـ وكأن على الرماة ـ صبر أصحاب الحسين ( عليه السلام ) تقدّم إلى أصحابه ـ وكانوا خمسمائة نابل ـ : أن يرشتوا أصحاب الحسين ( عليه السلام ) بالنبل فرشقوهم ، فلم يلبثوا أن عقروا خيولهم وجرحوا الرجال حتى ارجلوهم ، واشتدّ القتال بينهم ساعة .
   وجاءهم شمر بن ذي الجوشن لعنه الله في اصحابه ، فحمل عليهم زهير بن القين في عشرة رجال وكشفوهم عن البيوت ، وعطف عليهم شمر فقتل من القوم وردّ الباقين إلى مواضعهم ، وكان القتل يبين في أصحاب الحسين ( عليه السلام ) لقلّة عددهم ولا يبين في أصحاب عمر بن سعد لكثرتهم ، واشتدّ القتال ، وكثر القتل في أصحاب أبي عبد الله ( عليه السلام ) إلى أن زالت الشمس فصلّى الحسين ( عليه السلام ) بأصحابه صلاة الخوف ، وتقدم حنظلة بن سعد الشبامي بين يدي الحسين ( عليه السلام ) فنادى أهل الكوفة : يا قوم إنّي أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب ، يا قوم إنّي أخاف عليكم يوم التناد، يا قوم لا تقتلوا حسيناً فيسحتكم الله بعذاب وقد خاب من افترى ، ثمّ تقدّم فقاتل حتّى قتل ( رحمه الله ) ، وتقدم بعده شوذب مولى شاكر فقال : السلام عليك يا أبا عبد الله ورحمة الله وبركاته ، أستودعك الله ، ثمّ قاتل حتّى قتل ، ولم يزل يتقدّم رجلٌ بعد رجل من أصحابه فيقتل حتّى لم يبق مع الحسين ( عليه السلام ) إلاّ أهل بيته خاصّة .
   فتقدم ابنه عليّ بن الحسين ( عليهما السلام ) وكان من أصبح الناس وجهاً وله يومئذ بضع عشرة سنة ، فشدّعلى الناس وهو يقول :
أناعليّ بنُ الحسينِ بنِ iiعليّ      نحن وبيتِ اللهِ أولى iiبالنَّبيّ
تاللهِ لا يحكم فِينا ابنُ الدعي

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 313 _

   ففعل ذلك مراراً وأهل الكوفة يتّقون قتله ، فبصر به مُرّة بن منقذ العبدي لعنه الله ، فطعنه فصرعه ، واحتواه القوم فقطّعوه بأسيافهم ، فجاء الحسين ( عليه السلام ) حتّى وقف عليه فقال : « قتل اللهّ قوماً قتلوك يا بُنيّ ، ما أجرأهم على اللهّ وعلى انتهاك حرمة الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) » وانهملت عيناه بالدّموع ، ثم قال : « على الدنيا بعدك العفاء » ، وخرجت زينب اُخت الحسين مسرعة تنادي : يا اُخيّاه وابن اُخيّاه ، وجاءت حتّى أكبّت عليه ، وأخذ الحسين ( عليه السلام ) برأسها فردها إلى الفسطاط الذي كانوا يقاتلون أمامه .
   ثمّ رمى رجلٌ من أصحاب عمر بن سعد يقال له : عمرو بن صبيح عبد الله بن مسلم بن عقيل بسهم ، فوضع عبد الله يده على جبهته يتقيه فاصاب السهم كفّه ونفذ إلى جبهته فسمّرها بها فلم يستطيع تحريكاً ، ثمّ انتحى عليه اخر برمحه فطعنه في قلبه فقتله ، وحمل عبد الله بن قطبة الطائي على عون بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ( عليه السلام ) فقتله ، وحمل عامربن نهشل التيمي على محمّد بن عبد اللهّ بن جعفر بن أبي طالب ( عليه السلام ) فقتله ، قال حميد بن مسلم : فأنا كذلك إذ خرج علينا غلام كأنّ وجهه فلقة قمر ، في يده سيف وعليه قميص وإزار ونعلان قد انقطع شسعع إحداهما ، فقال لي عمر بن سعيد بن نفيل الأزديّ : والله لأشدّنّ عليه ، فقلت : سبحان الله ، وماذا تريد منه ؟ ! دعه يكفيكه هؤلاء القوم ، فشد عليه فقتله ، ووقع الغلام لوجهه فقال : يا عمّاه ، فجلى (1) الحسين ( عليه السلام ) كما يجلي الصقر ، ثمّ شدّ شدّة ليث أغضب ، فضرب عمر بن سعيد بالسيف فاتّقاها بالساعد فأطنّها (2) من لدن المرفق ، فصاح صيحة سمعها أهل العسكر ثمّ تنحّى عنه الحسين وحملت خيل أهل الكوفة ليستنفذوه فتوطّأته بأرجلها حتّى مات لعنه الله ، وانجلت الغبرة فرأيت الحسين ( عليه السلام ) قائماً على رأس الغلام وهو يفحص برجليه والحسين ( عليه السلام ) يقول : « بعداً لقوم قتلوك ومن خصمهم يوم القيامة فيك جدّك » ثمّ قال : « عزّ والله على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك ، أو يجيبك فلا ينفعك ، صوت ـ والله ـ كثر واتره وقلّ ناصره » ثمّ حمله على صدره ، فكأنّي أنظر إلى رجلي الغلام يخطّان الأرض ، فجاء به حتّى ألقاه مع ابنه عليّ بن الحسين والقتلى من أهل بيته ، فسألت عنه فقيل : هو القّاسم بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب ( عليهم السلام ) .

---------------------------
(1) جلى ببصره : إذا رمى به كما ينظر الصقر إلى الصيد . « الصحاح ـ جلا ـ 6 : 2305 » .
(2) اطنها : أي قطعها ، ويراد بذلك صوت القطع . « الصحاح ـ ضنن ـ 6 : 2159 » .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 314 _

   ثمّ جلس الحسين ( عليه السلام ) أمام الفسطاط ، فأُتي بابنه عبد اللهّ بن الحسين وهو طفلٌ فأجلسه في حجره ، فرماه رجل من بني أسد بسهم فذبحه ، فتلقّى الحسين من دمه ملء كفّه وصبّه في الأرض ثمّ قال : « ربّ إن تكن حبست عنّا النصر من السماء ، فاجعل ذلك لما هو خير ، وانتقم لنا من هؤلاء الظالمين » ، ثمّ حوّله حتّى وضعه مع قتلى أهله ، ورمى عبد الله بن عقبة الغنوي أبا بكربن الحسن بن عليّ بن أبي طالب ( عليهما السلام ) فقتله ، فلما رأى العبّاس بن عليّ كثرة القتلى في أهله قال لإخوته من أمّه ـ وهم عبد اللهّ وجعفر وعثمان ـ : يا بني اُمّي تقدّموا حتّى أراكم قد نصحتم لله ولرسوله ، وإنّه لا ولد لكم ، فتقدّم عبد اللهّ فقاتل قتالاًَ شديداً فاختلف هو وهانئ بن ثبيت الحضرمي ضربتين فقتله هانئ ، وتقدّم بعده جعفر بن عليّ ( عليه السلام ) فقتله أيضاً هانئ ، وتعمّد خولي بن يزيد الأصبحي عثمان بن عليّ ـ وقد قام مقام إخوته ـ فرماه فصرعه ، وشدّ عليه رجل من بني دارم فاحتزّ رأسه .
   وحملت الجماعة على الحسين ( عليه السلام ) فغلبوه على عسكره ، واشتدّ به العطش فركب المسنّاة يريد الفرات وبين يده أخوه العبّاس ، فاعترضته خيل ابن سعد وفيهم رجلٌ من بني دارم ، فقال لهم : ويلكم حولوا بينه وبين ماءِ الفرات ولا تمكنوه من الماء، فقال الحسين ( عليه السلام ) : « اللهم اظمأه » فغضب الدارمي فرماه بسهم فاثبته في حنكه (1) ، فانتزع الحسين ( عليه السلام ) السهم وبسط يده تحت حنكه (2) فامتلأت راحتاه بالدم فرماه ثمّ قال : « اللهم إنّي أشكوإليك ما يفعل بابن بنت نبّيك ( صلَى الله عليه وآله وسلّم ) » ، ثمّ رجع إلى مكانه واشتدّ به العطش ، وأحاط القوم بالعبّاس فاقتطعوه عنه ، فجعل يقاتلهم وحده حتّى قُتل رحمه الله .

---------------------------
(1) وردت بمعنى : جبينه .
(2) وردت بمعنى : جبينه .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 315 _

   ولمّا رجع الحسين ( عليه السلام ) من المسنّاة تقدّم إليه شمر بن ذي الجوشن لعنه الله في جماعة من أصحابه ، وضربه رجل يقال له : مالك الكنديّ على رأسه بالسيف ، وكان عليه قلنسوة فقطعها حتّى وصل إلى رأسة فادماه وامتلأت القلنسوة دماً ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : « لا أكلت بيمينك ، ولا شربت بها ، وحشرك الله مع الظالمين » ثمّ ألقى القلنسوة ودعا بخرقة فشدّ بها رأسه ، واستدعى قلنسوة اُخرى فلبسها واعتمَ عليها ، ورجع عنه شمر ومن كان معه إلى مواضعهم ، مكث هنيهة ثمّ عاد وعادوا إليه وأحاطوا به ، فخرج إليه عبد الله بن الحسن ـ وهو غلامٌ لم يراهق ـ من عند النساء يشتد حتّى وقف إلى جنب الحسين ( عليه السلام ) فلحقته زينب بنت علي ( عليه السلام ) لتحبسه فقال لها الحسين ( عليه السلام ) : « احبسيه يا أختي » فابى وامتنع عليها إمتناعاً شديداً وقال : والله لا اُفارق عمّي ، فأهوى ابجر بن كعب إلى الحسين بالسيف فقال له الغلام : ويلك يا ابن الخبيثة أتقتل عمّي ؟ فضربه ابجر بالسيف فاتّقاها الغلام بيده فاطنّها إلى الجلدة فإذا يده معلّقة ، فنادى الغلام : يا اُمّاه ، فأخذه الحسين ( عليه السلام ) فضمّه إلى صدره وقال له : « يا بنيّ اصبر على ما نزل بك واحتسب في ذلك الخير، فإنَ الله يلحقك بآبائك الصالحين » .
   ثم رفع الحسين ( عليه السلام ) يده وقال : « اللهم إن متّعتهم إلى حين ففرّقهم فرقاً ، واجعلهم طرائق قدداً ، ولا ترض الولاة عنهم أبداً ، فإنّهم دعونا لينصرونا ثمّ عدوا علينا فقتلونا » ، وحملت الرجّالة يميناً وشمالاً على من كان بقي معه ، فقتلوهم حتّى لم يبق معه إلاّ ثلاثة نفر أو أربعة ، فلمّا رأى الحسين ( عليه السلام ) ذلك دعا بسراويل (1) يلمع فيها البصر ففزرها (2) ثمّ لبسها ، وإنّما فزرها لكي لا يسلب بعد قتله ، فلمّا قتل ( عليه السلام ) عمد أبجر بن كعب ـ لعنه الله ـ إليه فسلبه السراويل وتركه مجرّداً ، فكانت يداً أبجر بن كعب بعد ذلك تتيبّسان في الصيف كأنّهما عودان ، وتترطّبان في الشتاء فتنضحان دماً وقيحاً إلى أن أهلكه الله ، ولما لم يبق معه إلاّ ثلاثة رهط من أهله أقبل على القوم يدفعهم عن نفسه وعن الثلاثة والثلاثة يحمونه ، حتّى قتل الثلاثة وأثخن بالجراح في رأسه وبدنه ، وجعل يضاربهم بسيفه وهم يتفرّقون عنه يميناً وشمالاً ، قال حميد بن مسلم : فوالله ما رأيت مكثوراً قطَ قد قتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً ولا أمضى جناناً منه ، إن كانت الرجالة لتشدّ عليه فيشدّ عليها بسيفه فيكشفهم عن يمينه وشماله انكشاف المعزى إذأ اشتدّ عليها الذئب .
   فلمّا رأى ذلك شمر بن ذي الجوشن أمر الرماة أن يرموه ، فرشقوه بالسهام حتّى صار كالقنفذ ، فأحجم عنهم ، فوقفوا بإزائه ، ونادى شمر : ويحكم ما تنتظرون بالرجل ثكلتكم اُمّهاتكم .

---------------------------
(1) في الإرشاد : بسراويل يمانية .
(2) الفزر : الفسخ في الثوب ، يقال : لقد تفزّر الثوب ، اذا تقظع وبلى . « الصحاح ـ فزر ـ 2 : 781 » .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 316 _

   فحُمل عليه من كلّ جانب ، فضرِبه زرعة بن شريك على كتفه اليسرى ، وطعنه سنان بن أنس بالرّمح فصرعه ، ونزل إليه خولي بن يزيد الأصبحي لعنه الله ليحز رأسه فاُرعد ، فقال له شمر : فتّ الله (1) في عضدك ، ما لك ترعد ؟ ونزل إليه شمر لعنه الله فذبحه ثمّ دفع رأسه إلى خولي بن يزيد الأصبحي ، فقال له : إحمله إلى الأمير عمر بن سعد ، ثمّ أقبلوا على سلب الحسين ( عليه السلام ) ، فأخذ قميصه إسحاق بن حيوة الحضرمي ، وأخذ سراويله أبجر بن كعب ، وأخذ عمامته أخنس بن مرثد ، وأخذ سيفه رجلٌ من بني دارم ، وانتهبوا رحله وإبله وأثقاله وسلبوا نساءه .
   قال حميد بن مسلم : فوالله لقد كنت أرى المرأة من نسائه وبناته وأهله تنازع ثوبها عن ظهرها حتّى تُغلب عليه فيذهب به منها ، قال : ثمّ انتهينا إلى عليّ بن الحسين ( عليه السلام ) وهو منبسط على فراشه مريض ، ومع شمر جماعة من الرجّالة ، فقالوا : ألا نقتل هذا العليل ، فقلت : سبحان الله أتقتل الصبيان ! إنما هذا صبيّ ، وإنّه لما به ، فلم أزل بهم حتَى دفعتهم عنه ، وجاء عمر بن سعد فصاح النساء في وجهه وبكين فقال لأصحابه : لا يدخل أحد منكم بيوت هؤلاء النساء ، ولا تتعرّضوا لهذا الغلام المريض ، فسألته النسوة أن يسترجع ما أخذ منهنّ ليستترن به ، فقال : من أخذ من متاعهنّ شيئاً فليردّه ، فوالله ما ردّ أحدٌ منهم شيئأ ، فوكّل بالفسطاط وبيوت النساء وعليّ بن الحسين ( عليهما السلام ) جماعة ممّن كانوا معه ، فقال : احفظوهم .

---------------------------
(1) فتّ الشيء : أي كسره . « الصحاح ـ فتت ـ 1 : 259 » .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 317 _

   ثمّ عاد إلى مضربه ونادى في عسكره : من ينتدب للحسين فيوطئه فرسه ؟ فانتدب عشرة ، منهم : إسحاق بن حيوة ، وأخنس بن مرثد ، فداسوا الحسين ( عليه السلام ) بخيولهم حتّى رضّوا ظهره لعنهم الله ، وسرح عمر بن سعد لعنه الله برأس الحسين ( عليه السلام ) من يومه ـ وهو يوم عاشوراء ـ مع خولي بن يزيد الأصبحي وحميد بن مسلم الأزدي إلى عبيد الله بن زياد لعنه الله ، وأمر برؤوس الباقين فقطعت وكانت إثنين وسبعين رأساً ، فسرّح بها مع شمر بن ذي الجوشن وقيس بن الأشعث وعمرو ابن الحجاج لعنهم الله ، فاقبلوا حتّى قدموا بها على ابن زياد لعنه الله، وأقام هو بقيّة يومه واليوم الثّاني إلى الزوال ، ثمّ نادى في الناس بالرحيل ، وتوجّه نحو الكوفة ومعه بنات الحسين ( عليه السلام ) وأخواته ومن كان معه من النساء والصبيان ، وعليّ بن الحسين ( عليه السلام ) فيهم وهو مريض بالذّرَب (1) وقد أشفى (2) .
   فلما رحل إبن سعد خرج قوم من بني أسد ـ كانوا نزولاً بالغاضريّة ـ إلى الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه ، فصلّوا عليهم ، ودفنوا الحسين ( عليه السلام ) حيث قبره الآن ، ودفنوا ابنه عليّ بن الحسين الأصغر عند رجليه ، وحفروا للشهداء من أهل بيته وأصحابه الذين صُرعوا حوله حفيرة ممّا يلي رجله وجمعوهم فدفنوهم جميعاً معاً ودفنوا العبّاس بن عليَ في موضعه الذي قتل فيه على طريق الغاضريّة حيث قبره الأن .
   فلما وصل رأس الحسين ( عليه السلام ) ووصل ابن سعد من غد يوم وصوله جلس ابن زياد في قصر الإمارة وأذن للناس إذناً عاماً ، وأمر بإحضار الرأس فوضع بين يديه فجعل ينظر إليه ويتبسّم وبيده قضيب يضرب به ثناياه ، وكان إِلى جانبه زيد بن أرقم صاحب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ـ وهو شيخ كبيرٌ ـ فقال : إرفع قضيبك عن هاتين الشفتين ، فوالله الذي لا إله غيره لقد رأيت شفتي رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ما لا اُحصيه تترشفهما ، ثمّ انتحب باكياً ، فقال له ابن زياد : أبكى الله عينك ، أتبكي لفتح الله ، والله لولا أنّك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك ، فنهض زيد بن أرقم وصار إلى منزله ، واُدخل عيال الحسين ( عليه السلام ) على ابن زياد ، فدخلت زينب اُخت الحسين في جملتهم متنكّرة وعليها أرذل ثيابها ، فمضت حتى جلست ناحية من القصر وحفّ بها إماؤها ، فقال ابن زياد : من هذه التي انحازت ومعها نساؤها ؟ فلم تجبه زينب ، فأعاد ثانية وثالثة فقال له بعض إمائها : هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول الله ( صلَى الله عليه واله وسلّم ) ، فاقبل عليها ابن زياد لعنه الله وقال : الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب اُحدوثتكم .

---------------------------
(1) الترَب : الداء الذي يعرض للمعدة فلا تهضم الطعام ، ويفسد فيها ولا تمسكه . « لسان العرب 1 : 385 » .
(2) اشفى : قرب من الموت . « الصحاح ـ شفا ـ 6 : 4 239 » .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 318 _

   فقالت زينب : الحمد للّه الذي أكرمنا بنبيّه محمد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وطهّرنا من الرجس تطهيراً ، إنّما يفتضح الفاسق ، ويكذب الفاجر ، وهو غيرنا ، فقال ابن زياد : كيف رأيت فعل الله باهل بيتك ؟ قالت : كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجّون إليه وتختصمون عنده .
   فغضب ابن زياد واستشاط ، فقال عمرو بن حريث : إنّها امرأة ، والمرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها ، فقال لها ابن زياد : قد شفى الله نفسي من طاغيتك والعصاة من أهل بيتك ، فرقّت زينب وبكت ، وقالت : لعمري لقد قتلت كهلي ، وأبرت أهلي ، واجتثثت أصلي ، فإن يشفك هذا فقد اشتفيت .
   فقال ابن زياد : هذه سجّاعة ، ولعمري لقد كان أبوها سجّاعاً ، فقالت : ما للمرأة والسجاعة ، إنّ لي عن السجاعة لشغلاً ، ولكن صدري نفث بما قلت ، وعرض عليه عليّ بن الحسين ( عليهما السلام ) فقال له : من أنت ؟ قال : « أنا عليّ بن الحسين » ، قال : أليس قد قتل الله عليّ بن الحسين ؟ فقال : « كان لي أخِّ يسمّى عليّاً ، فقتله الناس » ، قال ابن زياد : بل الله قتله ، فقال عليّ بن الحسين ( عليهما السلام ) : ( اللهً يَتَوفّى الأنفُسَ حينَ مَوِتها ) (1) .
   فغضب ابن زياد وقال : بك جرأة لجوابي ، وفيك بقيّة للردّ عليّ ، إذهبوا به فاضربوا عنقه ، فتعلَقت به زينب عمّته وقالت : يا ابن زياد ، حسبك من دمائنا ، واعتنقته وقالت : والله لا أفارقه ، فإن قتلته فاقتلني معه ، فنظر ابن زياد إليها ساعة وقال : عجباً للرحم ، والله اني لأظنّها ودت أنّي قتلتها معه ، دعوه فإنّي أراه لما به مشغول ، ثمّ قام من مجلسه .

---------------------------
(1) الزمر 39 : 42 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 319 _

   ولما أصبح ابن زياد لعنه الله بعث برأس الحسين ( عليه السلام ) فدير به في سكك الكوفة وقبائلها .
   فروي عن زيد بن أرقم أنّه قال : مرّ به عليّ وهو على رمح وأنا في غرفة لي فلمّا حاذاني سمعته يقرأ : ( اَمْ حَسِبْتَ اَنَ اَصحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقيمِ كانوا مِنْ اياتِنا عَجَباً ) وقف والله شعري وناديت : رأسك والله يا ابن رسول الله أعجب وأعجب ، ولما فرغ القوم من التطواف به ردّوه إلى باب القصر فدفعه ابن زياد إلى زحر بن قيس ودفع إليه رؤوس أصحابه وسرّحه إلى يزيد بن معاوية وأنفذ معه جماعة من أهل الكوفة حتّى وردوا بها إلى يزيد بن معاوية بدمشق ، فقال يزيد : قد كنت اقنع وأرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين أما لوأنّي صاحبه لعفوت عنه .
   ثم إنّ عبيد الله بن زياد بعد إنفاذه برأس الحسين أمر بنسائه وصبيانه فجهّزوا وأمر بعليّ بن الحسين ( عليه السلام ) فغلّ بغلّ إلى عنقه ثمّ سرّح به في أثر الرأس مع مجفر بن ثعلبة العائذيّ وشمر بن ذي الجوشن لعنهما الله فانطلقا بهم حتّى لحقوا بالقوم الذين معهم الرأس ولم يكن عليّ بن الحسين ( عليه السلام ) يكلّم أحداً من القوم في الطريق كلمة حتّى بلغوا باب يزيد فرفع مجفر بن ثعلبة صوته فقال : هذا مجفر بن ثعلبة أتى أمير المؤمنين باللئام الفجرة ، فأجابه عليّ بن الحسين ( عليه السلام ) : « ما ولدت أمّ مجفر أشر وألأَم » .
   ولمّا وضعت الرؤوس بين يدي يزيد وفيها رأس الحسين ( عليه السلام ) قال يزيد :
نـفلّقُ  هـاماً مِـن رجالٍ iiأعِزة      عَلينا وَهُم كانُوا أعَقّ وأظلما (1)
   فقال يحيى بن الحكم ـ أخو مروان بن الحكم ـ وكان جالساً مع يزيد :
لَـهـامٌ بـأدنـى الـطَفّ أدنـى iiقَـرابة      من ابنِ زياد العبدِي ذي الحَسَب الرَّذلِ (2)
أمـيّـةُ  أمـسى نـسلها عـددَ iiالـحَصى      وبـنـتُ رسـولِ اللهِ لَـيسَ لـها iiنَـسلُ
   فضرب يزيد في صدر يحيى بن الحكم وقال : اُسكت ، ثمَ قال لعليّ بن الحسين ( عليهما السلام ) : يا ابن حسينٍ أبوك قطع رحمي ، وجهل حقّي ، ونازعني سلطاني ، فصنع الله به ما قد رأيت ، فقال عليّ بن الحسين ( عليهما السلام ) : ( ما أَصابَ مِن مّصِيبَةٍ فِي ألأرضء وَلأ فِي أَنفُسِكم إلاّ في كتاب من قبل أَن نَّبرَأَها إِنّ ذلِكَ عَلَى الله يسيرً ) (3) ، فقال يزيد لابنه خالد : اردد عليه ، فلم يدر خالد ما يردّ عليه ، فقال له يزيد : قل : ( ما أَصابَكُم مِن مُصِيبَةٍ فَبما كَسَبَت أَيدِيكُم ويَعفو عَن كَثيرٍ ) (4) ، ثمّ دعا بالنساء والصبيان فأجلسوا بين يديه فرأى هيئة قبيحة فقال : قبّح الله ابن مرجانة ، لوكانت بينكم وبينه قرابة ورحم ما فعل هذا بكم ولا بعث بكم على هذا .

---------------------------
(1) البيت من قصيدة للحصين بن الحمام من شعراء الجاهلية . أنظر: الأغاني 14 : 7 ، شرح إختيارات المفضل : 325 .
(2) جاءت ايضاً بمعنى الوغل .
(3) الحديد 57 : 22 .
(4) الشورى 42 :35 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 320 _

   قالت فاطمة بنت الحسين ( عليهما السلام ) : فلمّا جلسنا بين يدي يزيد رقّ لنا ، فقام رجل من أهل الشام أحمر فقال : يا أمير المؤمنين هب لي هذه الجارية ـ يعنيني ـ وكنت جارية وضيئة ، فاٌرعدت وظننت أنّ ذلك جائز لهم فاخذت بثياب عمّتي زينب وكانت تعلم أنّ ذلك لا يكون ، فقالت عمّتي للشامي : كذبت والله ولؤمت ، ما ذلك لك ولا له ، فغضب يزيد وقال : كذبتِ ، إنّ ذلك لي ولوشئت لفعلت .
   قالت : كلاّ والله ما جعل الله ذلك لك إلاّ أن تخرج من ملّتنا وتدين بغيرها ، فاستطار يزيد غضباً وقال : إياي تستقبلين بهذا ، إنما خرج من الدين أبوك وأخوك ، قالت زينب : بدين الله ودين أبي وأخي اهتديت أنت وجدّك وأبوك إن كنت مسلماً ، قال : كذبتِ يا عدوّة الله ، قالت له : أنت أميرتشتم ظالماً وتقهر بسلطانك ، فكأنّه استحيا وسكت ، فعاد الشامي فقال : هب لي هذه الجارية ، فقال له يزيد : اعزب ، وهب الله لك حتفاً قاضياً .
   ثم امر بالنسوة أن ينزلن في دار على حدة معهنّ عليّ بن الحسين زين العابدين ( عليهما السلام ) ، فافرد لهم داراً تتّصل بدار يزيد ، فاقاموا أيّاماً ، ثمّ ندب يزيد النعمان بن بشير وقال له : تجهّز لتخرج بهؤلاء النسوة إلى المدينة ، ولمّا أراد أن يجهّزهم دعا عليّ بن الحسين ( عليه السلام ) فاستخلاه ؟ قال له : لعن الله ابن مرجانة ، أم والله لوأنّي صاحب أبيك ما سألني خصلة إلاّ أعطيته ايّاها ، ولدفعت الحتف عنه بكل ما استطعت ، ولكن الله قض بما رأيت (1) ، كاتبني من المدينة وأنه كلَ حاجة تكون لك .

---------------------------
(1) لست أدري بأي عبارة اُجيب يزيد على أكاذيبه هذهِ ، ودعاواه الباطلة السقيمة الي لا تنطلي إلاّ على السذج والبسطاء الذين لا يعرفون قطعاً من هو يزيد بن معاوية بن هند ، وما هي أفعاله سواء في كربلاء أو المدينة أو غيرهما .
نعم إنَ هذا القول ـ إن صح صدوره عنه ـ فإنّه والله تعالى من مهازل الدهر التي تبقى شاهدة على أحابيل الطغاة ، وأكاذيب الفراعنة الفاسقين ، وإلاّ فمَنْ كان ابن زياد ، وابن سعد ، وابن الجوشن وغيرهم من شذاذ الآفاق ومزابل التأريخ ، هل كانوا إلاّ سيوف يزيد التي تنقاد لإرادته ، وتستجيب مذعنة لمشيئته ؟ بل وهل يخفى على أحد تسلسل الأحداث منذ أن هلك معاوية وحتى العاشر من محرم ، وكيف كان الأمر يدور برمًته بين أصابع يزيد القذرة ، ولا ينطلق إلاّ منه ؟ إنها دعوة صادقة للتأمل والتدبر مرة بعد اُخرى في هذهِ الأحداث برمتها، ثم الحكم بعد ذلك على مثل هذه الاقوال وفق هذا الفهم السليم .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 321 _

   وتقدّم بكسوته وكسوة أهله ، وأنفذ معهم في جملة النعمان بن بشير رسولاً تقدّم إليه أن يسير بهم في الليل ويكونوا أمامه حيث لا يفوتون طرفة عين ، فإذا نزلوا تنحّى عنهم وتفرّق هو وأصحابه حولهمِ كهيئة الحرس لهم ، وينزل منهم حيث لو أراد إنسان من جماعتهم وضوءاًَ أو قضاء حاجة لم يحتشم ، فسار معهم في جملة النعمان ابن بشير ، فلم يزل يرفق بهم في الطريق حتى وصلوا إلى المدينة فجمع من قتل مع الحسين ( عليه السلام ) من أهل بيته بطفّ كربلاء ثمانية عشر نفساً ، هو صلوات الله عليه تاسع عشرهم ، منهم : العبّاس ، وعبد الله ، وجعفر ، وعثمان بنو أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، أمّهم اُمّ البنين ، وعبيد الله ، وأبو بكر ابنا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، اُمّهما ليلى بنت مسعود الثقفيّة ، وعليّ ، وعبد الله ابنا الحسين ( عليه السلام ) ، والقاسم ، وعبد الله ، وأبو بكر بنو الحسين بن عليّ ( عليهما السلام ) ، ومحمّد ، وعون ابنا عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، وعبد الله ، وجعفر ، وعقيل (1) ، وعبدالرحمن بنو عقيل بن أبي طالب .
   ومحمد بن أبي سعيد بن عقيل بن أبي طالب ، وهم كلّهم قد دفنوا ممّا يلي رجلي الحسين ( عليه السلام ) حفر لهم حفيرة واُلقوا جميعاً فيها وسوّي عليهم التراب إلاّ العبّاس بن عليّ بن أبي طالب فإنّ قبره ظاهر (2) .
   وقال الشيخ المفيد أبو عبد الله ( قدّس الله روحه ) : فأمّا أصحاب الحسين ( عليه السلام ) فإنّهم مدفونون حوله ، ولسنا نحصل لهم أجداثاً على التحقيق ، إلاّ أنّنا لا نشكّ أنّ الحائر محيط بهم (3) ، وذكر ـ السيد الأجلّ المرتضى ( قدّس الله روحه ) في بعض مسائله : أنّ رأس الحسين بن عليّ ( عليهما السلام ) ردّ إلى بدنه بكربلاء من الشام وضمّ إليه (4) ، والله أعلم .

---------------------------
(1) كذا ، وهو اشتباه واضح ، حيث لم تذكر المصادر التاريخية وجود من يسمى بعقيل في ولد عقيل ابن أبي طالب . « أنظر : الارشاد للمفيد 2 : 125 ، مقاتل الطالبيين : 92 ، تاريخ الطبري 5 : 469 ، الكامل في التاريخ 4 : 92 » .
(2) اُنظر ارشاد المفيد 2 : 125 .
(3) أرشاد المفيد 2 : 126 .
(4) رسائل الشريف المرتضى 3 : 130 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 322 _


   كان له عليه السلام ستّة أولاد : علي بن الحسين الأكبر زين العابدين ( عليهما السلام ) ، اُمّه شاه زنان بنت كسرى يزدجرد بن شهريار ، وعلي الأصغر ، قُتل مع أبيه ، اُمّه ليلى بنت أبي مرّة بن عروة بن مسعود الثقفيّة ، والناس يغلطون ويقولون : إنه علي الأكبر ، وجعفر بن الحسين ، واُمّه قضاعية ، ومات في حياة أبيه ولا بقيَة له ، وعبد الله ، قُتل مع أبيه صغيراً وهو في حجر أبيه ، وقد مرّ ذكره فيما تقدّم ، وسكينة بنت الحسين ، واُمّها الرباب بنت امرئ القيس بن عديّ بن أوس ، وهي اُمّ عبد الله بن الحسين ( عليه السلام ) ، وفاطمة بنت الحسين ، واُمها اُمّ إسحاق بنت طلحة بن عبيد الله تيميّة (1) .


   وفيه خمسة فصول .

---------------------------
(1) انظر ارشاد المفيد 2 : 135 ، المناقب لابن شهرآشوب 4 : 77 ، كشف الغمة 2 : 38 الفصول المهمة : 199 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 323 _


   كنيته ، أبو محمد ، ويكنّى بأبي الحسن أيضاً ، وبأبي القاسم ، ولقبه : سيّد العابدين ، وزين العابدين ، والسجّاد ، وذو ا لثفنات ، وإنّما لقب بذلك لأنّ مواضع السجود منه كانت كثفنة البعير من كثرة سجوده عليه السلام (1) .
   ولد ( صلوات الله عليه ) بالمدينة يوم الجمعة ـ ويقال : يوم الخميس ـ في النصف من جمادى الآخرة (2) ، وقيل : لتسع خلون من شعبان سنة ثمان وثلاثين من الهجرة (3) ، وقيل : سنة ستّ وثلاثين (4) ، وقيل : سنة سبع وثلاثين (5) واسم اُمّه شاه زنان ، وقيل : شهربانويه ، وكان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ولّى حريث بن جابر الحنفي جانباً من المشرق فبعث إليه ببنتي يزدجرد ابن شهريار ، فنحل ابنه الحسين ( عليه السلام ) إحداهما فأولدها زين العابدين ( عليه السلام ) ، ونحل الاُخرى محمد بن أبي بكر فولدت له القاسم بن محمد ابن أبي بكر ، فهما ابنا خالة (6) .
   وتوفّي ( عليه السلام ) يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة بقيت من المحرّم سنة خمس وتسعين من الهجرة ، ودفن بالبقيع مع عمّه الحسن ( عليهما السلام ) (7) ، وكانت مدّة إمامته بعد أبيه أربعاً وثلاثين سنة ، وكان في أيّام إمامته بقيّة ملك يزيد بن معاوية ، وملك معاوية بن يزيد ، ومروان بن الحكم ، وعبد الملك بن مروان ، وتوفّي ( عليه السلام ) في ملك الوليد بن عبد الملك (8) .

---------------------------
(1) انظر : ارشاد المفيد 2 : 137 ، المناقب لابن شهرآشوب 4 : 175 ، كشف الغمة 2 : 74 ، العدد القويّة : 58 | 75 ، دلائل الامامة للطبري : 80 ، تذكرة الخواص : 291 ، الفصول المهمة : 201 .
(2) انظر : المناقب لابن شهرآشوب 4 : 175 ، روضة الواعظين : 201 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 46 : 13 | 27 .
(3) المناقب لابن شهرآشوب 4 : 175 ، روضة الواعظين : 201 ، كشف الغمة 2 : 73 ، الفصول المهمة : 201 .
(4) العدد القوية : 55 | 67 ، روضة الواعظين : 201 ، اقبال الاعمال : 621 .
(5) المناقب لابن شهراشوب 4 : 175 ، تذكرة الخواص : 291 .
(6) ارشاد المفيد 2 : 137 ، المناقب لابن شهرآشوب 4 : 176 أورد قطعة منه ، روضة الواعظين : 201 ، كشف الغمة 2 : 83 ، العدد القوية : 56 | 73 .
(7) الكافي 1 : 388 ، ارشاد المفيد 2 : 137، المناقب لابن شهرآشوب 4 : 175 ، روضة الواعظين : 201 ، دلائل الإمامة : 80 ، تذكرة الخواص : 299 .
(8) انظر : ارشاد المفيد 2 : 138 ، المناقب لابن شهرآشوب 4 : 175 ، دلائل الامامة : 80 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 324 _


   المعوّل في تصحيح إمامة أكثر أئمّتنا ( عليهم السلام ) النظر والاعتبار دون تواتر الأخبار ، لأنّهم ( عليهم السلام ) كانوا في زمان الخوف وشدّة التقية والاضطرار ، ولم يتمكّن شيعتهم من ذكر فضائلهم التي تقتضي إِمامتهم ، فضلاً عن ذكرما يوجب فرض طاعتهم ويبين عن تقدّمهم على جميع الخلائق ورئاستهم .
   فمما يدلّ على إمامته ( عليه السلام ) من طريق النظر العقلي ما ثبت من وجوب العصمة ، وأنّ الحقّ لا يخرج عن اُمّة محمد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، ولا أحدٌ يدّعي العصمة لامامه في زمان سيد العابدين ( عليه السلام ) ، إلاّ من قال بإمامته من الامامية ، أو من قال بإمامة محمد بن الحنفيّة وذهب إلى أنّه حيّ لم يمت وهم الكيسانيّة ، وفسد قول الكيسانيّة لأنّهم ادّعوا حياة من علم وفاته كما علم وفاة أبيه وأخيه ، ولعجزهم أيضاً عن إتيان النصّ على محمد بالإمامة ، وبطل قول من قال بإمامة من هو غير معصوم فثبتت إمامته ( عليه السلام ) .
   وأما ما روي من النص عليه بالإمامة والإشارة بالإمامة إليه من أبيه وجدّه فكثير ، منها : مارواه محمد بن يعقوب ، عن محمد بن يحيى ، عن محمد ابن الحسين ، وأحمد بن محمد ، عن محمد بن إسماعيل ، عن منصور بن يونس ، عن أبي الجارود ، عن أبي جعفر الباقر ( عليهما السلام ) قال : « إن الحسين ( عليه السلام ) لمّا حضره الذي حضره دعا ابنته فاطمة الكبرى فدفع إليها كتاباً ملفوفاً ووصيّة ظاهرة ، وكان عليّ بن الحسين ( عليهما السلام ) مريضاً لا يرون أنّه يبقى بعده ، فلمّا قُتل الحسين ( عليه السلام ) ورجع أهل بيته إلى المدينة دفعت فاطمة الكتاب إلى عليّ بن الحسين ( عليهما السلام ) ، ثمّ صار ذلك الكتاب والله إلينا يا زياد » (1) .
   وعنه ، عن عدّة من أصحابه ، عن أحمد بن محمد ، عن عليّ بن الحكم ، عن سيف بن عميرة ، عن أبي بكر الحضرميّ ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : « إنّ الحسين ( عليه السلام ) لمّا سار إلى العراق استودع اُمّ سلمة ( رضي الله عنها ) الكتب والوصيّة ، فلمّا رجع عليّ بن الحسين ( عليهما السلام ) دفعتها إليه » (2) .
   وقد ذكرنا فيما تقدّم النصّ والإشارة إليه من جدّه أمير المؤمنين ( عليهما السلام ) في وصيّته إلى الحسن ( عليه السلام ) ، فلا معنى لتكراره هنا وأمّا الأخبار الواردة عن النبيّ ( صلّى الله عليه واله وسلّم ) وعن أمير المؤمنين صلوات الله عليه بالنصّ على الأئمة الاثني عشر من آل محمد ( عليهم السلام ) وتعيينهم ، وحديث اللوح الذي رواه جابر عن النبيّ ( صلّى الله عليه واله وسلم ) (3) ورواه جابر بن يزيد الجعفي ، عن الباقر ، عن أبيه ، عن جدْه عن فاطمة بنت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) (4) فإنها مشهورة عند أهلها ، مذكورة في مظانّها ، ووافقهم أصحاب الحديث العامة على نقل كثير منها على طريق الجملة ، وسنورد أكثرها في الركن الرابع من الكتاب إذا انتهينا إليه إن شاء الله .

---------------------------
(1) الكافي 1 : 241 | 1 ، وكذا في : بصائر الدرجات : 168 | 9 ، المناقب لابن شهرآشوب 4 : 172 ، اثبات الوصية : 142 .
(2) الكافي 1 : 242 | 3 ، وكذا في : الغيبة للطوسي : 195 | 159 ، والمناقب لابن شهرآشوب 4 : 172 .
(3) الكافي 1 : 442 | 3 ، عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) 1 : 40 | 1 ، الغيبة للنعماني : 62 ، الاختصاص : 210 ، أمالي الطوسي 1 : 297 ، الغيبة للطوسي : 143 | 108 ، اثبات الوصية : 143 .
(4) كمال الدين : 311 | 1 ، اثبات الوصية : 227 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 325 _


   أما ما يدل على إمامته ( عليه السلام ) من طريق المعجز الخارق للعادة فحديث حبابة الوالبيّة وما جاء فيه من طبعه نقش فصّه في الحجر ، وماثبت من دعائه ( عليه السلام ) وإيمائه إليها حتّى عادت شابّة ولها يومئذ مائة سنة وثلاث عشرة سنة (1) ، وكذلك نطق الحجر الأسود له ( عليه السلام ) وقد استشهد به على محمد ابن الحنفية فشهد له بالإمامة ، وكانا يومئذ بمكّة فقال لمحمد : « ابدأ فابتهل إلى الله واسأله أن ينطق لك » فابتهل محمد في الدعاء ثم دعا فلم يجبه فقال ( عليه السلام ) : « أما إنّك يا عم لوكنت إماماً لأجابك » .
   فقال له محمد : فادع أنت يا ابن أخي ، فدعا ( عليه السلام ) بما أراد ثم قال : « أسالك بالذي جعل فيك ميثاق الأنبياء وميثاق الأوصياء لما أخبرتنا بلسان عربيّ مبين من الوصيّ والامام بعد الحسين بن عليّ ؟ » ، فتحرّك الحجر حتّى كاد أن يزول عن موضعه ثمّ انطقه الله بلسان عربيّ مبين فقال : اللهم إن الوصيّة والإمامة بعد الحسين بن عليّ إلى عليّ بن الحسين ( عليهما السلام ) ، فانصرف محمد وهو يتولى علي بن الحسين ( عليهما السلام ) (2) .
   وأورد هذا الخبر بإسناده محمد بن أحمد بن يحيى في كتاب نوادر الحكمة ، وفي هذا المعنى يقول السيد الحميري لما رجع عن القول بالكيسانيّة إلى القول بإمامة الصادق جعفر بن محمد ( عليهما السلام ) :
عـجبتُ لكرِّ صروف الزمان      وأمـر أبـي خالد ذيَ iiالبيان
ومِـن  ردّه الأمـر لا iiينثني      إلى الطيّب الطهر نور الجنان
عـليّ ومـاكان مـن iiعـمّه      بـردّ  الأمـانة عطف iiالبيان
وتـحـكيمه حـجراً iiأسـوداً      ومـا كان سن بطقه iiالمستبان
بـتسليم  عـمّ بـغير iiامتراء      إلـى ابـن أخ منطقاً iiَباللسان
شـهدت  بـذلك حـقّاً iiكـما      شـهدت  بتصديق آي القرآن
عـليّ  أمـامي ولا iiأمـتري      وخلّيت  قولي بكان iiوكان (3)
   قال الصادق ( عليه السلام ) : « كان أبو خالد يقول بإمامة محمد بن الحنفية فقدم من كابل شاه إلى المدينة فسمع محمداً يخاطب عليّ بن الحسين ( عليه السلام ) فيقول : يا سيّدي ، فقال له : أتخاطب ابن أخيك بما لا يخاطبك مثله ؟ ! فقال : إنّه حاكمني إلى الحجر الأسود فصرت إليه فسمعت الحجر يقول : سلم الأمر إلى ابن أخيك فإنّه أحقّ به منك ، وصار أبو خالد الكابلي إماميّاً » (4) ، وروى عنه أنّه قال : قال لي عليّ بن الحسين ( عليه السلام ) : « يا كنكر » ولا والله ما عرفني بهذا الاسم إلاّ أبي وأمّي (5) .

---------------------------
(1) كمال الدين : 537 | ضمن ح ا و 2 ، وقطعة منه في : المناقب لابن شهرآشوب 4 : 135 .
(2) أنظر : بصائر الدرجات : 522 ، الكافي ا : 282 | 5 الامامة والتبصرة : 61 و 62 | 49 ، الهداية الكبرى للخصيبي : 220 ، روضة الواعظين : 197 ، الاحتجاج 2 : 316 ، الخرائج والجرائح 1 : 257 | 3 ، المناقب لابن شهرآشوب 4 : 147 ، اثبات الوصية : 147 .
(3) المناقب لابن شهرآشوب 4 : 148 .
(4) المناقب لابن شهرآشوب 4 : 147 .
(5) انظر : الهداية الكبرى : 221 ، رجال الكشي 1 : 336 ، الخرائج والجرائح 1 : 261 | 6 ، المناقب لابن شهرآشوب 4 : 147 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 326 _


   روى الحسين بن علوان ، عن أبي عليّ زياد بن رستم ، عن سعيد بن كلثوم قال : كنت عند الصادق جعفر بن محمد ( عليهما السلام ) فذكر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فمدحه بما هو أهله ثمّ قال : « والله ما أطاق عمل رسول الله ( صلّى الله عليه واله وسلّم ) من هذه الأمة غيره ، وإن كان ليعمل عمل رجل كان وجهه بين الجنّة والنار يرجوا ثواب هذه ويخاف عقاب هذه ، ولقد أعتق من ماله ألف مملوك في طلب وجه الله والنجاة من النار ممّا كدّه بيده ورشح منه جبينه ، وما كان لباسه إلاّ الكرابيس إذا فضل شيء عن يده من كمّه دعا بالجلم (1) فقصّه ، وما أشبهه من ولده ولا أهل بيته أحد أقرب شبهاً به في لباسه وفقهه من عليّ بن الحسين ين العابدين ( عليهم السلام ) ، ولقد دخل أبو جعفر ابنه ( عليه السلام ) عليه فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحدٌ ، فرآه قد اصفرّ لونه سن السهر ، ورمصت عيناه من البكاء ، ودبرت جبهته من السجود ، وورمت ساقاه وقدماه من القيام في الصلاة ، فقال أبو جعفر ( عليه السلام ) : فلك أملك حين رأيته بتلك الحال من انبكاء ، فبكيت رحمة له ، وإذا هو يفكّر فالتفت إليّ بعد هنيئة من دخولي ، فقال يا بنيّ : أعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة عليّ ( عليه السلام ) ، فأعطيته فقرأ فيها يسيراً ثمّ تركها من يده تضجّراً وقال : من يقوى على عبادة عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) (2) .
   وكان عليّ بن الحسين ( عليهما السلام ) إذا توضّأ اصفرّ لونه فقيل له : ما هذا الذي يغشاك ، فقال : « أتدرون من أتأهّب للقيام بين يديه ؟ » (3) .
   وروي : أنّه ( عليه السلام ) كان يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة ، وكانت الريح تميله بمنزلة السنبلة (4) ، وعن سفيان الثوري قال : ذكر لعليّ بن الحسين ( عليهما السلام ) فضله قال : « حسبنا أن نكون من صالحي قومنا » (5) .
   وعن الزهري قال : لم ادرك أحداً من هذا البيت أفضل من عليّ بن الحسين ( عليه السلام ) (6) .
   ورويَ أنّ عليّ بن الحسين ( عليهما السلام ) رأى يوماً الحسن البصري وهو يقصّ عند الحجر الأسود فقال له ( عليه السلام ) : « أترضى يا حسن نفسك للموت ؟ » ، قال : لا ، قال : « فعملك للحساب ؟ » .

---------------------------
(1) الجَلَم : ما يقص به الشعر والصوف ، وهوكالمقص . « أنظر: مجمع البحرين 6 : » .
(2) ارشاد المفيد 2 : 142 ، المناقب لابن شهرآشوب 4 : 149 ، كشف الغمة 2 : 85 .
(3) ارشاد المفيد 2 : 142 ، المناقب لابن شهرآشوب 4 : 148 ، كشف الغمة 2 : 86 ، الطبقات الكبرى 5 : 216 ، حلية الأولياء 3 : 133 ، مختصر تاريخ دمشق 17 : 236 ، سير أعلام النبلاء 4 : 2 39 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 46 : 73 | 61 .
(4) انظر : الخصال : 517 | 4 ، ارشاد المفيد 2 : 143 ، روضة الواعظين : 198 ، المناقب لابن شهرآشوب 4 : 149 ، كشف الغمة 2 : 86 ، سير أعلام النبلاء 4 : 392 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 46 : 74 | 62 .
(5) ارشاد المفيد 2 : 143 ، روضة الواعظين : 198 ، المناقب لابن شهرآشوب 4 : 164 ، كشف الغمة 2 : 86 ، الطبقات الكبرى 5 : 214 ، مختصر تاريخ دمشق 17 : 235 .
(6) ارشاد المفيد 2 : 144 ، الجرح والتعديل 6 : 179 ، سير أعلام النبلاء 4 : 189 .