قال : « هاتي ما معك » ، قالت : فاعطيته الحصاة ، فطبع لي فيها ، كما طبع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، قالت : ثم أتيت الحسين ( عليه السلام ) وهو في مسجد الرسول فقرّب ورحّب ، ثمّ قال لي : « أتريدين دلالة الإمامة ؟ » ، فقلت : نعم ياسيّدي ، قال : « هاتي ما معك » فناولته الحصاة فطبع لي فيها ، قالت : ثمّ أتيت عليّ بن الحسين ( عليهما السلام ) وقد بلغ بي الكبر إلى أن أعييت ، وأنا أعدّ يومئذ مائة وثلاث عشرة سنة ، فرأيته راكعاً وساجداً مشغولأ بالعبادة، فيئست من الدلالة ، فأومى إليّ بالسبّابة فعاد إليّ شبابي قالت : فقلت : يا سيّدي كم مض من الدنيا وكم بقي ؟ فقال : « أمّا ما مضى فنعم ، وأمّا ما بقي فلا » .
   قالت : ثمّ قال لي :« هات ما معك » فاعطيته الحصاة فطبع فيها ، ثمّ أتيت أبا جعفر ( عليهما السلام ) فطبع لي فيها ، ثمّ أتيت أبا عبد الله ( عليه السلام ) فطبع لي فيها ، ثمّ أتيت أبا الحسن موسى بن جعفر ( عليه السلام ) فطبع لي فيها ، ثم أتيت الرضا ( عليه السلام ) فطبع لي فيها ، وعاشت حبابة بعد ذلك تسعة أشهر على ما ذكره عبد الله بن هشام (1) .
   قال : وحدّثنا محمد بن محمد بن عصام ، عن محمد بن يعقوب الكليني قال : حدّثنا عليّ بن محمد قال : حدّثنا محمد بن إسماعيل بن موسى بن جعفر ( عليهما السلام ) قال : حدّثني أبي ، عن أبيه موسى بن جعفر ، عن أبيه جعفر ، عن أبيه محمد ( عليهم السلام ) قال : « إنّ حبابة الوالبيّة دعا لها علي بن الحسين ( عليهما السلام ) فرد الله عليها شبابها ، وأشار إليها بإصبعه فحاضت لوقتها ، ولها يومئذ مائة سنة وثلاث عشرة سنة (2) .

---------------------------
(1) كمال الدين 2 : 536 | 1 ، كشفت الغمة 1 : 534 .
(2) كمال الدين 2 : 537 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 276 _


   روي عن جابر بن عبد الله قال : لمّا ولدت فاطمة الحسن ( عليهما السلام ) قالت : لعلي « سمّه » فقال : « ما كنت لأسبق باسمه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) » فقال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : « ما كنت لأسبق باسمه ربّي عزّجلاًّ » فأوحى الله جلّ جلاله إلى جبرئيل ( عليه السلام ) : « أنّه قد ولد لمحمد ابن فاهبط إليه وهنّئه وقل له : إنّ عليّاً منك بمنزلة هارون من موسى ، فسمّه باسم ابن هارون » ، فهبط جبرئيل ( عليه السلام ) فهنّأه من الله تعالى جلّ جلاله ، ثمّ قال : « إنّ اللهّ تعالى يأمرك أن تسمّيه باسم ابن هارون » .
   قال : « وما كان اسمه ؟ » ، قال : « شبّر » ، قال : « لسِاني عربيّ » ، قال : « سمّه الحسن » فسمّاه الحسن (1) ، أورده الاُستاذ أبو سعيد الواعظ في كتاب « شرف النبيّ » مرفوعاً إلى جابر (2) ، وعن جابر أيضاً قال : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : « من سرّه أن ينظر إلى سيّد شباب الجنّة فلينظر إلى الحسن بن عليّ » (3) .

---------------------------
(1) علل الشرائع : 137 |ضمن حديث 5 ، ونحوه في : ذخائر العقبى : 120 .
(2) شرف النبي ( صلى الله عليه واله ) . . .
(3) منَاقب ابن شهرآشوب 4 : 20، تاريخ ابن عساكر ـ ترجمة الامام الحسن (ع) ـ : 78 | 136 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 277 _

   عبد اللهّ بن بريدة ، عن ابن عباس قال : انطلقت مع رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فنادى على باب فاطمة ثلاثاً فلم يجبه أحدٌ ، فمال إلى حائط فقعد فيه وقعدت إلى جانبه ، فبينا هوكذلك إذ خرج الحسن بن عليّ قد غسل وجهه وعلّقت عليه سبحة ، قال : فبسط النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يده ومدّها ثمّ ضمّ الحسن إلى صدره وقبّله وقال : « إنّ ابن هذا سيّد ، ولعلّ الله عزّ وجلّ يصلح به بين فئتين من المسلمين » (1) .
   وروى إبراهيم بن عليّ الرافعي عن أبيه ، عن جدّته زينب بنت أبي رافع قالت : أتت فاطمة ( عليها السلام ) بابنيها الحسن والحسين ( عليهما السلام ) إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في شكواه التي توفّي فيها فقالت : « يا رسول الله ، هذان إبناك فورّثهما شيئاً » ، فقال : « أمّا الحسن فإنّ له هيبتي وسؤددي ، وأمّا الحسين فإنّ له جودي وشجاعتي » (2) .
   ويصدّق هذا الخبر ما رواه محمّد بن إسحاق قال : ما بلغ أحد من الشرف بعد رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ما بلغ الحسن بن عليّ ، كان يبسط له على باب داره فإذا خرج وجلس انقطع الطريق فما مرّ أحدٌ من خلق الله إجلالاً له ، فإذا علم قام ودخل بيته فمرّ الناس ، ولقد رأيته في طريق مكّة نزل عن راحلته فمشى فما من خلق الله أحد إلاّ نزل ومشى ، حتّى رأيت سعد ابن أبي وقّاص قد نزل ومشى إلى جنبه (3) .
   وروي عن أنس بن مالك قال : لم يكن أحد أشبه برسول الله ( صلّى الله عليه واله وسلّم ) من الحسن بن عليّ ( عليهما السلام ) (4) .
   وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « إنّ الحسن ابني أشبه برسول الله ( صلّى اللهّ عليه وآله وسلّم ) ما بين الصدر إلى الرأس ، والحسين ( عليه السلام ) أسفل من ذلك » (5) ، وأشباه هذه الأخبار كثيرة ، وفيما أوردناه كَفاية .

---------------------------
(1) ورد ذيله في : مسند الطيالسي : 118 | 4 87 ، مصنف عبدالرزاق 11 : 452 ، وصحيح البخاري 5 : 32 ، ومسند أحمد5 : 37 و 51 ، والمعجم الكبير للطبراني 3 : 22 | 2591 ، وحلية الأولياء 2 : 35 ، والاستيعاب 1 : 370 ، مجمع الزوائد 9 : 175 .
(2) الخصال : 77 | 122 ، ارشاد المفيد 2 : 6 ، مناقب ابن شهرآشوب 3 : 396 ، مقتل الخوارزمي 1 : 105 ، تاريخ ابن عساكر ـ ترجمة الامام الحسن (ع) ـ : 123 |197 ، اُسد الغابة 5 : 467 ، كفاية الطالب : 424 ، الاصابة 4 : 316 ، وفي بعضها باختلاف يسير .
(3) مناقب ابن شهرآشوب 4 : 7 .
(4) ارشاد المفيد 2 : 5 ، صحيح البخاري 5 : 33 ، صحيح الترمذي 5 : 659 | 3776 ، تاريخ ابن عساكر ـ ترجمة الامام الحسن (ع) ـ : 28 | 48 .
(5) صحيح الترمذي 5 : 660 | 3779 ، مورد الضمآن بزوائد ابن حبان : 553 | رقم 2235 ، تاريخ ابن عساكر ـ ترجمة الامام الحسن (ع) ـ : 33 | 60 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 278 _


   عبد الله بن إبراهيم ، عن زياد المحاربي قال : لمّا حضرت الحسن ( عليه السلام ) الوفاة استدعى الحسين ( عليه السلام ) وقال له : « يا أخي إنّني مفارقك ولاحق بربّي ، وقد سقيت السمّ ورميت بكبدي في الطست ، وإنّي لعارف بمن سقاني ومن أين دهيت ، وأنا اُخاصمه إلى الله عزّ وجلّ ، فبحقّي عليك إن تكلّمت في ذلك بشيء ، وانتظر ما يحدث الله تبارك وتعالى فيّ ، فإذا قضيت فغسّلني وكفّنّي ، واحملني على سريري إلى قبر جدّي رسول الله( صلّى الله عليه واله وسلّم ) لاُجدّد به عهداً ، ثمّ ردّني إلى قبر جدّتي فاطمة فادفنّي هناك ، وستعلم يابن اُمّ إنّ القوم يظنّون أنّكم تريدون دفني عند رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فيجلبون في منعكم من ذلك ، وباللهّ اُقسم عليكم أن تهريق في أمري محجمة من دم » .
   ثمّ وصّى إليه بأهله وولده وتركاته وما كان وصّى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) حين استخلفه ، فلمّا مضى لسبيله وغسّله الحسين ( عليه السلام ) وكفّنه وحمله على سريره لم يشكّ مروان وبنو اُميّة أنّهم سيدفنونه عند رسول اللهّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فتجمّعوا ولبسوا السلاح ، فلمّا توجّه به الحسين ( عليه السلام ) إلى قبرجدّه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ليجدّد به عهداً أقبلوا في جمعهم ولحقتهم عائشة على بغل وهي تقول : نحوا ابنكم عن بيتي فإنّه لا يدفن فيه ويهتك عليه حجابه (1) .
   وفي رواية محمد بن مسلم عن أبي جعفر الباقر ( عليه السلام ) فقال الحسين لها : « قديماً أنت هتكتي حجاب رسول الله وادخلت بيته من أبغضه ، إن الله سائلك عن ذلك ، إن أخي أمرني أن أقرّبه من رسول الله ليجدد به عهداً » إلى آخر كلامه ، قال : ثمّ تكلّم محمد بن الحنفية فقال : يا عائشة يوماً على بغل ويوماً على جمل فما تملكين نفسك عداوة لبني هاشم ! قال : فأقبلت عليه وقالت : يا ابن الحنفيّة ، هؤلاء بنو الفواطم يتكلّمون فما كلامك ؟ فقال الحسين ( عليه السلام ) : « وأنّى تفقدين (2) محمّداً من الفواطم ، فوالله لقد ولدته ثلاث فواطم : فاطمة بنت عمران بن عائذ ، وفاطمة بنت ربيعة ، وفاطمة بنت أسد » ، فقالت عائشة : نحّوا ابنكم واذهبوا ، فإنّكم قوم خَصمون ، فمضى الحسين بالحسن ( عليهما السلام ) إلى البقيع ودفنه هناك (3) .

---------------------------
(1) ارشاد المفيد 2 : 17 ، كشف الغمة ا : 585 ، ونحوه في : مقاتل الطالبيين : 74 ، ودلائل الامامة : 61 ، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16 : 49 .
(2) كذا في نسخنا ، وفي الكافي : تُبعدين . وهو الصواب .
(3) الكافي 1 : 240 | ضمن حديث 3 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 279 _

   له من الأولاد ستّة عشر (1) ولداً ذكراً واُنثى : زيد بن الحسن ، واُختاه اُمّ الحسن ، واُمّ الحسين ، اُمّهم اُمّ بشير بنت أبي مسعود الخزرجيّة ، والحسن بن الحسن اُمّه خولة بنت منظور الفزاريّة ، وعمر بن الحسن وأخواه : عبد الله ، والقاسم ابنا الحسن قتلا مع الحسين ( عليه السلام ) بكربلاء ، اُمّهم اُمّ ولد ، وعبد الرحمن بن الحسن اُمّه اُمّ ولد ، والحسين بن الحسن الملقّب بالأثرم ، وأخوه طلحة ، وأختهما فاطمة ، اُمّهم اُمّ إسحاق بنت طلحة بن عبيد اللهّ التيميّ ، وأبو بكر قتل مع الحسين ( عليه السلام ) ، واُمّ عبد الله ، وفاطمة ، واُمّ سلمة ، ورقيّة ، لاُمّهات أولاد شتّى (2) .
   وكان زيد بن الحسن ( عليه السلام ) يلي صدقات رسول الله ( صلّى الله عليه واله وسلّم ) ، وكان جليل القدر كثير البرّ، ومات وله تسعون سنة ، وخرج من الدنيا ولم يدّع الإمامة ولا ادّعاها له مدّع من الشيعة ولا غيرهم (3) .

---------------------------
(1) اختلف البعض في ذكر عدد أولاده ( عليه السلام ) ، حيث عدهم الشيخ المفيد بخمسة عشر دون ذكر لأبي بكر حيث عده عين عبد الله المتقدم عليه ، وإلى ذلك ذهب الموضح النسابة فتأمل . « أنظر مصادر النص » .
(2) ارشاد المفيد 2 : 20 ، المجدي في أنساب الطالبيين : 19 ، عمدة الطالب : 68 .
(3) ارشاد المفيد 2 : 20 ، كشف الغمة 1 : 576 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 280 _

   وأمّا الحسن بن الحسن ( عليهما السلام ) فكان جليلاً فاضلاً ، وكان يلي صدقات أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، دخل على عبد الملك بن مروان محرشاً (1) على الحجّاج فقال له عبد الملك بعد أن رحّب به وأحسن مسألته : لقد أسرع إليك الشيب يا أبا محمد وكان عنده يحيى بن اُمّ الحكم وقد وعده أن ينفعه عنده .
   فقال يحيى : وما يمنعه يا أمير المؤمنين ؟ شيّبته أمانيّ أهل العراق ، تفد عليه الوفود يمنّونه الخلافة ، فاقبل عليه الحسن وقال : بئس ـ والله ـ الرفد رفدت ، ليس كما قلت ، ولكنّا أهل بيت يسرع إلينا الشيب ، فأقبل عليه عبد الملك وقال : هلّم ما قدمت له ، فقال : إنّ الحجّاج يقول : أدخل عمر بن عليّ معك في صدقة أبيك ، فقال عبد الملك : ليس ذلك له ، اكتب إليه كتاباً لا يجاوزه ، فكتب إليه وأحسن صلة الحسن وأكرمه ، فلمّا خرج من عنده لقيه يحيى بن اُمّ الحكم فعاتبه الحسن على سوء محضره فقال له يحيى : أيهاً عنك ، فوالله لا يزال يهابك ، ولولا هيبتك لم يقض لك حاجة ، وما ألوتك رفداً (2) .
   وروي : أنه خطب إلى عمّه الحسين ( عليه السلام ) إحدى ابنتيه ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : « يا بنيّ اخترأحبّهما إليك » فاستحيى الحسن فقال له الحسين ( عليه السلام ) : « فإنّي قد اخترت لك ابنتي فاطمة ، فهي أكثرهما شبهاً باُمّي فاطمة بنت رسول اللهّ ( صلى اللهّ عليه وآله وسلّم ) » (3) ، وقبض الحسن بن الحسن وله خمس وثلاثون سنة ، وأوصى إلى أخيه من اُمّه إبراهيم بن محمّد بن طلحة ، وكان عبد الله بن الحسن قد زوّجه الحسين ( عليه السلام ) ابنته سكينة فقتل قبل أن يبني بها (4) .

---------------------------
(1) الحرش : اغراء الانسان ليقع بقرنه ، وحرش بينهم : افسد واغرى بعضهم ببعض . « انظر : لسان العرب 6 : 279 » .
(2) ارشاد المفيد 2 : 23 ، أنساب الأشراف 3 : 73 | 85 .
(3) ارشاد المفيد 2 : 5 2 ، كشف الغمة 1 : 579 ، مقاتل الطالبيين : 180 ، الأغاني 21 : 115 .
(4) ارشاد المفيد 2 : 25 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 281 _


   وهو خمسة فصول :


   ولد ( عليه السلام ) بالمدينة يوم الثلاثاء ، وقيل : يوم الخميس لثلاث خلون من شعبان (1) ، وقيل : لخمس خلون منه سنة أربع من الهجرة (2) ، وقيل : ولد اخر شهر ربيع الأول سنة ثلاث من الهجرة (3) ولم يكن بينه وبين أخيه الحسن ( عليهما السلام ) إلاّ الحمل والحمل ستّة .
   وجاءت به فاطمة الزهراء أمه إلى رسول الله( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فسمّاه حسيناً وعقّ عنه كبشاً ، وعاش سبعاً وخمسين سنة وخمسة أشهر ، كان مع رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) سبع سنين ، ومع أمير المؤمنين سبعاً وثلاثين سنة ، ومع أخيه الحسن ( عليه السلام ) سبعاً وأربعين سنة ، وكانت مدّة خلافته عشر سنين وأشهراً ، وقتل ( صلوات اللهّ عليه ) يوم عاشوراء يوم السبت ، وقيل : يوم الاثنين (4) ، وقيل : يوم الجمعة سنة إحدى وستّين من الهجرة (5) .

---------------------------
(1) مسار الشيعة : 61 ، مصباح المتهجد : 758 .
(2) ارشاد المفيد 2 : 27 ، مناقب ابن شهراشوب 4 : 76 ، مقاتل الطالبيين : 78 ، اُسد الغابة 2 : 18 .
(3) المقنعة : 467 ، التهذيب للطوسي 6 : 41 .
(4) الكافي ا : 385 | ب 115 ، التهذيب للطوسي 6 : 42 ، مقاتل الطالبيين : 78 .
(5) التهذيب للطوسي 6 : 42 ، مقاتل الطالبيين : 78 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 282 _


   تدلّ على إمامته ( عليه السلام ) جميع الطرق الاعتبارية والإخباريّة التي ذكرناها في إمامة الحسن ( عليه السلام ) بعينها ، فإن جميعها كما تدلّ على إمامته تدلّ على إمامة أبي عبد الله الحسين ( عليه السلام ) من بعده مثلاً بمثل ، وقد صرّح النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) على إمامته أيضاً بقوله : « إبناي هذان إمامان قاما أو قعدا » (1) .
   وأيضاً فإنّ وصيّة الحسن ( عليه السلام ) إليه تدلّ على إمامته كما دنت وصيّة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى الحسن ( عليه السلام ) على إمامته ، بحسب ما دلّت وصيّة رسول الله ( صلّى الله عليه واله وسلّم ) إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على إمامته من بعده ، وممّا جاء من الأخبار في وصيّة الحسن ( عليه السلام ) إليه ما رواه محمد ابن يعقوب ، عن عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن بكر بن صالح ، عن محمد ابن سليمان الديلميّ ، عن هارون بن الجهم ، عن محمد بن مسلم قال : سمعت أبا جعفرمحمد بن علي ( عليهما السلام ) يقول : « لمّا احتضر الحسن ( عليه السلام ) قال للحسين : يا أخي إنّي اُوصيك بوصيّة ( فاحفظها ) (2) إذا أنا متّ فهيئني ووجّهني إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لأحدث به عهداً ، ثمّ اصرفني إلى اُمّي فاطمة ( عليها السلام ) ثمّ ردّني فادفنّي بالبقيع » (3) إلى آخر الخبر .
   وروى محمد بن يعقوب بإسناده ، عن المفضّل بن عمر ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : « لمّا حضرت الحسن الوفاة قال : يا قنبر انظر هل ترى من وراء بابك مؤمناً من غيرآل محمد ؟ فقال : الله ورسوله وابن رسوله أعلم ، قال : امض فادع لي محمد بن علي (4) ، قال : فاتيته ، فلمّا دخلت عليه قال : هل حدث إلاّ خير ؟ قلت : أجب أبا محمد .

---------------------------
(1) تقدّم في صفحة : 407 هامش (3) .
(2) أثبتناها من المصدر .
(3) الكافي 1 : 30 | 24 ، ونقله المجلسي في بحارالأنوار 44 : 174 | 1 .
(4) هو أخوه محمّد بن الحنفية .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 283 _

   فعجّل على شسع نعله فلم يسوّه ، فخرج معي يعدو ، فلمّا قام بين يديه سلّم فقال له الحسن ( عليه السلام ) : إجلس فليس مثلك يغيب عن سماع كلام يُحيى به الأموات ويموت به الأحياء ، كونوا أوعية العلم ومصابيح الدجى ، فإنّ ضوء النهار بعضه أضوء من بعض ، أما علمت أنّ الله عزّ وجلّ جعل ولد إبراهيم أئمة وفضّل بعضهم على بعض وآتى داود زبوراً ، وقد علمت بما استأثر « به » محمّداً ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، يا محمد بن علي ، إنّي أخاف عليك الحسد ، وإنّما وصف الله تعالى به الكافرين فقال : ( كفّاراً حَسَداً مِن عِندِ أنفُسِهِم مِن بَعدِفا تَبيَّنَ لَهُم الحقّ ) ولم يجعل الله للشيطان عليك سلطاناً ، يا محمد بن عليّ ، ألا اُخبرك بما سمعت من أبيك عليه السلام فيك ؟ قال : بلى ، قال : سمعت أباك يقول يوم البصرة : من أحبّ أن يبرّني في الدنيا والآخرة فليبر محمداً ولدي ، يا محمّد بن عليّ ، لو شئت أن اُخبرك وأنت نطفة في ظهرأبيك لأخبرتك .
   يا محمّد بن عليّ ، أما علمت أنّ الحسين بن عليّ بعد وفاة نفسي ومفارقة روحي جسمي إمام من بعدي ، وعند الله في الكتاب وراثة من النبيّ أضافها الله له في وراثة أبيه واُمّه ، علم الله أنّكم خيرة خلقه فاصطفى منكم محمّداً واختار محمّدٌ عليّاً واختارني عليّ للإمامة واخترت أنا الحسين ، فقال له محمّد بن عليّ : أنت إمامي وسيّدي ألا وإنّ في رأسي كلاماً لا تنزفه الدلاء ، ولا تغيّره نغمة الرياح ، كالكتاب المعجم في الرق المنمنم أهمّ بإبدائه فأجدني سبقت إليه سبق الكتاب المنزل وما جاءت به الرسل ، وإنّه لكلام يكلّ به لسان الناطق ويد الكاتب ، حتّى لا يجد قلماً ، ويؤتوا بالقرطاس حمماً ولا يبلغ فضلك ، وكذلك يجزي الله المحسنين ولا قوّة إلاّ بالله ، الحسين أعلمنا علماً ، وأثقلنا حلماً ، وأقربنا من رسول الله رحماً ، كان إماماً قبل أن يُخلق ، وقرأ الوحي قبل أن ينطق ، ولوعلم الله أنّ أحداً خيراً منّا ما اصطفى محمّداً ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فلما اختار محمداً اختار محمد عليّاً إماماً واختارك عليٌّ بعده واخترتَ الحسين ( عليه السلام ) بعدك ، سلّمنا ورضينا بمن هو الرضى وبمن نسلم به من المشكلات » (1) .
   وفي حديث حبابة الوالبيّة الذي رويناه هناك (2) ما فيه من ظهور الآية المعجزة على يده الدالّة على إمامته فلا معنى لتكريره وإعادته ، فكانت إمامته ( عليه السلام ) ثابتة بعد أخيه الحسن ( عليه السلام ) وإن لم يدع إلى نفسه ؛ للهدنة الحاصلة بينه وبين معاوية بن أبي سفيان ، وجرى في ذلك مجرى أبيه في ثبوت إمامته بعد النبي ( عليه وآله السلام ) مع الكفّ والصموت ، ومجرى أخيه ( عليه السلام ) في زمان الهدنة والسكوت ، فلمّا انقضى زمان الهدنة بهلاك معاوية ، واجتمع له في الظاهر الأنصار ، أظهر أمره بعض الإظهار ، وتشمّر للقتال ، وقدّم إلى العراق ابن عمّه ( عليه السلام ) مسلماً للاستنصار ، فبايعه أهل الكوفة وضمنوا له النصرة ، ثمّ نكثوا بيعته وخذلوه وأسلموه ، وخرجوا إليه فحصروه حيث لا يجد ناصراً ولا مهرباً ، وحالوا بينه وبين ماء الفرات حتّى تمكّنوا منه فقتلوه شهيداً كما استشهد أبوه وأخوه عليهم السلام .

---------------------------
(1) الكافي 1 : 239 | 2 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 44 : 174 | 2 .
(2) تقدم في صفحة : 458 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 284 _


   كان ( عليه السلام ) يشبه النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) من صدره إلى رجليه وكان الحسن ( عليه السلام ) يشبهه من صدره إلى رأسه كما تقدم (1) .
   وروى سعيد بن راشد ، عن يعلى بن مرّة قال : سمعت رسول الله ( صلّى الله عليه واله وسلّم ) يقول : « حسين منّي وأنا من حسين ، أحبّ الله من أحبّ حسيناً ، حسين سبط من الأسباط » (2) .
   وروى عبد الله بن ميمون القدّاح ، عن جعفر بن محمّد ( عليهما السلام ) قال : « إصطرع الحسن والحسين بين يدي رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فقال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : إيهاً (3) حسن خذ حسيناً ، فقالت فاطمة ( عليها السلام ) : يا رسول الله أتستنهض الكبير على الصغير ؟ فقال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : هذا جبرئيل يقول للحسين : ايهاً حسين خذ حسناً » (4) .
   وروى الأوزاعي ، عن عبد الله بن شدّاد ، عن اُمّ الفضل ، أنّها دخلت على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) فقالت : يا رسول الله رأيت الليلة حُلماً منكراً ، قال : « وما رأيت ؟ » ، فقالت : إنّه شديد ، قال : « وما هو ؟ » ، قالعت : رأيت كانّ قطعة من جسدك قطعت ووضعت في حجري ، فقال رسول الله ( صلّى الله عليه واله وسلّم ) : « خيراً رأيت ، تلد فاطمة غلاماً فيكون في حجرك » ، فولدت الحسين ( عليه السلام ) وكان في حجري كما قال ( صلوات الله عليه وآله ) .

---------------------------
(1) تقدم في صفحة : 413 .
(2) كامل الزيارات : 52 و 53 ، ارشاد المفيد 2 : 127 ، المصنّف لابن أبي شيبة 12 : 102 | 12244 ، سنن ابن ماجة 1 : 51 ، الأدب المفرد للبخاري 1 : 364 | 455 ، والتاريخ الكبير 8 : 414 | 3536 ، مسند أحمد 4 : 172 ، صحيح الترمذي 5 : 658 | 3775 ، المعجم الكبير للطبراني 3 : 20 | 2586 و 2587 و 2589 ، مستدرك الحاكم 3 : 177 ، ووافقه الذهبي في تلخيص المستدرك ، تاريخ ابن عساكر ـ ترجمة الامام الحسين (ع) ـ : 79 | 112 ، اُسد الغابة 2 : 19 ، جامع الأصول 9 : 29 ، ذخائر العقبى : 33 1 ، سير أعلام النبلاء 3 : 190 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 3 4 : 270 | 35 .
(3) إيهِ : اسم سُميَ به الفعل ، لأن معناه الأمر ، تقول للرجل إذا استزدته من حديث أو عمل : إيهِ ( بكسر الهاء ) ، قال ابن السكيت : فإن وصلت نؤنت فقلت : إيهٍ حدثنا ، « الصحاح ـ أيه ـ 6 : 2226 » .
(4) قرب الاسناد : 101 | 339 ، أمالي الصدوق : 361 ، ارشاد المفيد 2 : 128 ، أمالي الطوسي 2 : 172 ، مناقب ابن شهرآشوب 3 : 393 ، مقتل الخوارزمي : 105 ، تاريخ ابن عساكر ـ ترجمة الإمام الحسين (ع) ـ 116 ـ 117 | 154 ـ 156 ، أسد الغابة 2 : 19 ، ذخائر العقبى : 134 ، الاصابة : 1 : 332، وفي بعضها باختلاف يسير ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 43 : 276 | 45 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 285 _

   قالت : فدخلت به يوماً على النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فوضعته في حجره ، ثمّ حانت منّي التفاتة فإذا عينا رسول اللهّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) تهرقان بالدموع ، فقلت : بابي أنت واُمّي يا رسول الله مالك ؟ قال : « أتاني جبرئيل فاخبرني أنّ اُمّتي ستقتل ابني هذا ، وأتاني بتربة من تربته حمراء » (1) ، وفي مسند الرضا ( عليه السلام ) : عن عليّ بن الحسين ( عليهما السلام ) قال : « حدّثتني أسماء بنت عميس قالت : لمّا كان بعد حول من مولد الحسن ( عليه السلام ) ولد الحسين ( عليه السلام ) فجاء النبيّ ( عليه وآله السلام ) فقال : يا أسماء هاتي ابني ، فدفعته إليه في خرقة بيضاء فأذّن في اُذنه اليمنى ، وأقام في اليسرى ، ووضعه في حجره وبكى .
   قالت أسماء : فداك أبي واُمّي ممّ بكاؤك ؟ قال : من ابني هذا ، قلت : إنّه ولد الساعة ! قال : يا أسماء تقتله الفئة الباغية من بعدي ، لا أنالهم الله شفاعتي ، ثمّ قال : يا أسماء ، لا تخبري فاطمة فإنّها حديث عهد بولادته ، ثمّ قال لعليّ : أيّ شيءٍ سمّيت ابني هذا ؟ قال : ما كنت لأسبقك باسمه يا رسول الله ، وقد كنت اُحبّ أن اُسمّيه حرباً ، فقال رسول الله : ما كنت لأسبق باسمه ربّي ، فأتاه جبرئيل فقال : الجبّار يقرئك السلام ويقول : سمّه باسم ابن هارون ، فقال : وما اسم ابن هارون ؟ قال : شبير ، قال : لساني عربيّ ، قال : سمّه الحسين .

---------------------------
(1) ارشاد المفيد 2 : 129 ، دلائل الامامة : 72 ، مستدرك الحاكم 3 : 176 ، دلائل النبوة للبيهقي 6 : 468 ، مقتل الخوارزمي 1 : 158 ، البداية والنهاية 6 : 230 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 286 _

   فسمّاه الحسين ، ثمّ عقّ عنه يوم سابعه بكبشين أملحين ، وحلق رأسه وتصدّق بوزن شعره وَرِقاً ، وطلى رأسه بالخلوق وقال : الدم فعل الجاهليّة ، وأعطى القابلة فخذ كبش » (1) .
   وروى الضحّاك ، عن ابن المخارق ، عن اُمّ سلمة ( رضي الله عنها ) قالت : بينا رسول الله ( صلّى اللهّ عليه وآله وسلّم ) ذات يوم جالس والحسين ( عليه السلام ) في حجره إذ هملت عيناه بالدموع فقلت : يا رسول الله أراك تبكي جعلت فداك ؟ قال : « جاءني جبرئيل ( عليه السلام ) فعزّاني بابني الحسين ، وأخبرني أنّ طائفة من اُمّتي ستقتله ، لا أنالهم الله شفاعتي » (2) .
   وروي بإسناد آخر عن اُمّ سلمة : أنّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) خرج من عندنا ذات ليلة فغاب عنّا طويلاً ثم جاءنا وهو أشعث أغبر ويده مضمومة ، فقلت له : يا رسول الله ، ما لي أراك شَعِثاً مغبرّاً ؟ فقال : « اُسري بي في هذه الليلة إلى موضع من العراق يقال له : كربلاء ، فاُريت فيه مصرع الحسين ابني وجماعة من ولدي وأهل بيتي ، فلم أزل ألقط منه دماءهم فها هي في يدي » وبسطها فقال : « خذيه واحتفظي به » ، فأخذته فإذا هو شبه تراب أحمر ، فوضعته في قارورة وشددت رأسها واحتفظت بها ، فلمّا خرج الحسين ( عليه السلام ) متوجّها نحو العراق كنت اُخرج تلك القارورة في كلّ يوم وليلة فاشمّها وأنظر إليها ثمّ أبكي لمصابه ، فلمّا كان يوم العاشر من المحرّم ـ وهو اليوم الذي قُتل فيه ـ أخرجتها في أوّل النهار وهي بحالها ثمّ عدت إليها آخر النهار فإذا هي دمٌ عبيط ، فصحت في بيتي وكظمت غيظي مخافة أن يسمع أعداؤهم بالمدينة فيسرعوا بالشماتة ، فلم أزل حافظة للوقت واليوم حتّى جاء الناعي ينعاه ، فحقّق ما رأيت (3) .

---------------------------
(1) عيون أخبار الرضا (ع) 2 : 25 | ضمن حديث 5 .
(2) ارشاد المفيد 2 : 130 ، كشف الغمة 2 : 7 .
(3) ارشاد المفيد 2 : 130 ، كشف الغمة 2 : 8 ، وروى مضمونه اليعقوبي في تاريخه 2 : 245 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 287 _

   وعن ابن عبّاس ، عن النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قال : « قال لي جبرئيل ( عليه السلام ) : إنّ الله جلّ جلاله قتل بدم يحيى بن زكريّا سبعين ألفاً ، وهو قاتل بدم ابنك الحسين سبعين ألفاً وسبعين ألفاً » (1) .
   وروى سفيان بن عيينة ، عن عليّ بن زيد ، عن عليّ بن الحسين ( عليهما السلام ) قال : « خرجنا مع الحسين ( عليه السلام ) فما نزل منزلاً ولا ارتحل عنه إلاّ ذكر يحيى بن زكريّا ، وقال يوماً : من هوان الدنيا على الله عزّ وجلّ أنّ رأس يحيى بن زكريّا اُهدي إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل » (2) .
   وروى يوسف بن عبدة قال : سمعت محمّد بن سيرين يقول : لم تُرَ هذه الحمرة في السماء إلاّ بعد قتل الحسين ( عليه السلام ) (3).
   وذكر الحافظ الشيخ أبو بكر البيهقي في كتاب دلائل النبوة قال : أخبرنا القطّان : حدّثنا عبد الله بن جعفر ، حدّثنا يعقوب بن سفيان ، حدّثنا سليمان ابن حرب ، حدّثنا حمّاد بن زيد ، عن معمر قال : أوّل ما عُرف الزهري تكلّم في مجلس الوليد بن عبد الملك ، فقال الوليد : أيّكم يعلم ما فعلت أحجار بيت المقدس يوم قتل الحسين بن عليّ ؟ فقال الزهري : بلغني أنّه لم يُقلب حجرٌ إلاّ وجد تحته دمٌ عبيط (4) .
   قال : وأخبرنا القطّان بإسناده ، عن عليّ بن مسهر قال : حدّثتني جدّتي قالت : كنت أيّام الحسين ( عليه السلام ) جارية شابّة فكانت السماء أيّاماً علقة (5) ، قال : وأخبرنا القطّان بإسناده ، عن جميل بن مرّة قال : أصابوا إبلاً في عسكر الحسين ( عليه السلام ) يوم قُتل فنحروها وطبخوها ، قال : فصارت مثل العلقم فما استطاعوا أن يسيغوا منها شيئاً (6) .
   وعن ابن عبّاس قال : رأيت النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فيما يرى النائم ذات يوم بنصف النهار أشعث أغبر ، بيده قارورة فيها دم ، فقلت : بأبي أنت واُمّي يا رسول الله ما هذه ؟

---------------------------
(1) تاريخ بغداد ا : 2 4 1 ، تاريخ ابن عساكر ـ ترجمة الإمام الحسين (ع) ـ 241 | 286 ، الفردوس لابن شيرويه 3 : 187 | 4515 .
(2) ارشاد المفيد 2 : 32 1 ، مجمع البيان 3 : 502 ، كشف الغمة 2 : 9 .
(3) ارشاد المفيد 2 : 132 ، كشف الغمة 2 : 9 ، طبقات ابن سعد ـ ترجمة الامام الحسين (ع) ـ ج 8 انظر : مجلة تراثنا العدد 10 : ص 200 ح 326 ، تاريخ ابن عساكر ـ ترجمة الامام علي (ع) ـ : 245 | 298 ، وباختلاف يسير في : المعجم الكبير للطبراني 3 : 122 | 2840 ، ونحوه في : سير أعلام النبلاء 3 : 312 ، وتاريخ الاسلام للذهبي : ص 15 حوادث سنة 61 .
(4) دلائل النبوة للبيهقي 6 : 471 ، ورواه الطبراني في المعجم الكبير 3 : 127 | 2856 ، والذهبي في سير أعلام النبلاء 3 : 314 ، وتاريخ الاسلام : ص 16 حوادث سنة 61 ، والهيثمي في مجمع الزوائد 9 : 197 .
(5) دلائل النبوة للبيهقي 6 : 472 ، ورواه الطبراني في المعجم الكبير 3 : 120 | 2836 ، وابن عساكر في تاريخه ـ ترجمة الامام الحسين (ع) ـ : 242 | 289 ، والهيثمي في مجمع الزوائد 9 : 196 .
(6) دلائل النبوة للبيهقي 6 : 472 ، ورواه الذهبي في سير أعلام النبلاء 3 : 313 ، وتاريخ الاسلام : ص 15 حوادث سنة 61 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 288 _

   قال : « هذا دم الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه لم أزل ألتقطه منذ اليوم » ، فاُحصي بذلك الوقت فوجد ( قد ) قتل ذلك اليوم (1) .
   وعن نضرة الأزديّة : لمّا قتل الحسين بن علي ( عليهما السلام ) مطرت السماء دماً ، فأصبحت وكلّ شيء لنا ملء دم (2) ! !
   وروى محمد بن مسلم ، عن السيدين الباقر والصادق ( عليهما السلام ) قال : سمعتهما يقولان : « إنّ الله تعالى عوّض الحسين ( عليه السلام ) من قتله : أن جعل الإمامة في ذرّيّته ، والشفاء في تربته ، وإجابة الدعاء عند قبره ، ولا تُعدّ أيّام زائره جائياً وراجعاً من عمره » .
   قال محمد بن مسلم : فقلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : هذه الخلال تنال بالحسين فماله هوفي نفسه ؟ قال : « إنّ الله تعالى ألحقه بالنبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فكان معه في درجته ومنزلته » ثمّ تلا أبو عبد الله ( عليه السلام ) : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَأتبَعَتهُم ذُرِيّتهُم بإيفانٍ أَلحَقتا بِهِم ذُرِّيَّتَهُم ) (3) (4) ، وَالأخبار في هذا المعنى أكثر من أن تحصى .
   وممّا روي في السبطين ( عليهما السلام ) : ما رواه عتبة بن غزوان قال : كان النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يصلّي فجاء الحسن والحسين يركبان ظهره ، فانصرف فوضعهما في حجره وجعل يقبّل هذا مرّة وهذا مرّة ، فقال قوم : أتحبّهما يا رسول الله ؟

---------------------------
(1) مسند أحمد 1 : 242 و 283 ، المعجم الكبير للطبراني 3 : 116 | 2822 ، مستدرك الحاكم 4 : 397 ، ووافقه الذهبي في تلخيص المستدرك ، دلائل النبوة للبيهقي 6 : 471 ، تاريخ بغداد 1 : 142 ، تاريخ ابن عساكر ـ ترجمة الامام الحسين (ع) ـ : 261 | 325 ، اُسد الغابة 2 : 23 ، سير أعلام النبلاء 3 : 315 ، تاريخ الاسلام للذهبي : ص 17 حوادث سنة 61 ، البداية والنهاية 6 : 231 ، تهذيب التهذيب 2 : 355 ، مجمع الزوائد 9 : 194 .
(2) طبقات ابن سعد ـ ترجمة الامام الحسين (ع) ـ ج 8 انظر : مجلة تراثنا العدد 10 : ص 199 ح 321 ، دلائل النبوة للبيهقي 6 : 471 ، تاريخ ابن عساكر ـ ترجمة الامام الحسين (ع) ـ 244 |295 ، سير أعلام النبلاء 3 : 312 .
(3) الطور 52 : 21 .
(4) أمالي الطوسي ا : 324 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 289 _

   فقال : « ما لي لا اُحبّ ريحانتيّ من الدنيا » (1) .
   وروى سلمان الفارسي قال : سمعت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وهو يقول : « الحسن والحسين ابنيّ من أحبّهما أحبّني ، ومن أحبّني أحبّه الله ، ومن أحبّه الله أدخله الجنّة ، ومن أبغضهما أبغضني ، ومن أبغضني أبغضه الله ، ومن أبغضه الله أدخله النار على وجهه » (2) .
   وروى ابن لهيعة عن أبي عوانة رفعه إلى النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : أنّ الحسن والحسين شنفا (3) العرش ، وأنّ الجنّة قالت : يا ربّ اسكنتني الضعفاء والمساكين ، فقال لها الله تعالى : « ألا ترضين أنّي زيّنت أركانك بالحسن والحسين ، قال : فماست كما تميس (4) العروس فرحاً » (5) .
   وروى عبد الله بن بريدة قال : سمعت أبي يقول : كان رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يخطبنا فجاء الحسن والحسين ( عليهما السلام ) وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران ، فنزل رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) من المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه ، ثمّ قال : « صدق الله تعالى : ( اِنّما اَموالُكُم وَاَولأدُكُم فِتنَةٌ ) (6) نظرت إلى هذين الصبيّين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتّى قطعت حديثي ورفعتهما » (7) ، وأما ما جاء من الرواية في ثواب زيارته ، وفضل تربته ، وكيفيّة أخذها ، وغيرذلك ممّا يتعلّق بجلال رتبته ، وعلوّمنزلته عند الله فكثيرة ، وما ذكرناه كاف في هذا الباب .

---------------------------
(1) مناقب ابن شهرآشوب 3 : 383 .
(2) مستدرك الحاكم 3 : 166 ، وباختلاف يسير في : إرشاد المفيد 2 : 28 ، وتاريخ ا بن عساكر ـ ترجمة الامام الحسين (ع) ـ : 97 ـ 98 | 131 و 132 ، كفاية الطالب : 422 .
(3) الشنف : القرط الأعلى . « الصحاح ـ شنف ـ 4 : 1383 » .
(4) الميس : ضرب من الميسان ، أي ضرب من المشي في تبختر وتهاد ، كما تميس الجارية العروس « العين 7 : 323 » .
(5) ارشاد المفيد 2 : 127 ، مناقب ابن شهرآشوب : 395 ، وقطعة منه في : تاريخ بغداد 2 : 238 ، ومجمع الزوائد 9 : 184 ، وكنز العمال 12 : 121 .
(6) الأنفال 8 : 28 ، التغابن 64 : 15 .
(7) مسند أحمد 5 : 4 35 ، صحيح الترمذي 5 : 658 | 3774، تاريخ ابن عساكر ـ ترجمة الامام الحسين (ع) ـ : 107 | 144 و 145 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 290 _


   ذكر الثقات من أصحاب السير: أنّه لمّا مات الحسن بن عليّ ( عليهما السلام ) تحرّكت الشيعة بالعراق وكتبوا إلى الحسين ( عليه السلام ) في خلع معاوية ، فامتنع عليهم للعهد الحاصل بينه وبين معاوية ، فلمّا مات معاوية ـ وذلك في النصف من رجب سنة ستّين ـ كتب يزيد بن معاوية إلى الوليد ابن عتبة بن أبي سفيان والي المدينة أن يأخذ الحسين ( عليه السلام ) بالبيعة له ، فأنفذ الوليد إلى الحسين ( عليه السلام ) فاستدعاه ، فعرف الحسين ما أراد ، فدعا جماعة من مواليه وأمرهم بحمل السلاح وقال : « إجلسوا على الباب ، فإذا سمعتم صوتي قد علا فادخلوا عليه لتمنعوه مني » .
   وصار ( عليه السلام ) إلى الوليد ، فنعى الوليد إليه معاوية فاسترجع الحسين ( عليه السلام ) ، ثمّ قرأ عليه كتاب يزيد ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : « إنّي لا أراك تقنع ببيعتي ليزيد سرّاً حتّى اُبايعه جهراً » ، فقال الوليد : أجل ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : « فنصبح ونرى في ذلك » ، فقال الوليد : إنصرف على اسم الله تعالى ، فقال مروان : والله لئن فارقك الحسين الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتّى يكثر القتلى بينكم وبينه ، فلايخرج من عندك حتّى يبايع أو تضرب عنقه ، فوثب عند ذلك الحسين ( عليه السلام ) وقال : « أنت يا ابن الزرقاء تقتلني أو هو ؟ كذبت والله وأثمت » فخرج ، فقال مروان للوليد : عصيتني ، فقال : ويح غيرك يا مروان ، والله ما اُحبّ أنّ لي ما طلعت عليه الشمس وأنّي قتلت حسيناً ، سبحان الله أقتل حسيناً إن قال : لا اُبايع ، والله إنّي لأظنّ أنّ امرءاً يحاسب بدم الحسين خفيف الميزان عند الله تعالى يوم القيامة ، فقال مروان : إن كان هذا رأيك فقد أصبت .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 291 _

   وأقام الحسين تلك الليلة في منزله ، واشتغل الوليد بمراسلة عبد الله بن الزبير في البيعة ليزيد وامتناعه عليه ، وخرج ابن الزبير من ليلته متوجّهاً إلى مكّة ، وسرّح الوليد في إثره الرجال فطلبوه فلم يدركوه ، فلمّا كان آخر النهار بعث إلى الحسين ( عليه السلام ) ليبايع فقال ( عليه السلام ) : « اصبحوا وترون ونرى » فكفّوا تلك الليلة عنه ، فخرج ( عليه السلام ) ليلة الأحد لليلتين بقيتا من رجب متوجّهاً نحو مكّة ومعه بنوه وبنو أخيه الحسن وإخوته وجلّ أهل بيته ، إلاّ محمّد بن الحنفيّة فإنّه لم يدر أين يتوجّه ، وشيّعه وودعه .
   وخرج الحسين ( عليه السلام ) وهو يقول : ( فَخَرَج مِنْها خائِفاً يَتَرَقّبُ قالَ رَبّ نَجّني مِنَ الْقَوْم الظّالِمِينَ ) (1) فلمّا دخل مكّة دخلها لثلاث مضين من شعبان وهو يقول : ( وَلَمّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسف رَبّي أنْ يَهْدِيَني سَواءَ السّبِيل ) (2) ، وأقبل أهل مكّة يختلفون إليه ، ويأتيه ابن الزبير فيمن يأتيه بين كلّ يومين مرّة، وهو أثقل خلق الله على ابن الزبير وقد عرف أنّ أهل الحجاز لا يبايعونه مادام الحسين ( عليه السلام ) بالبلد .
   وبلغ أهل الكوفة هلاك معاوية ، وعرفوا خبر الحسين ، فاجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد الخزاعي وقالوا : إن معاوية قد هلك ، وإنّ الحسين قد خرج إلى مكة وأنتم شيعته وشيعة أبيه ، فإن كنتم تعلمون أنكم ناصروه ومجاهدوا عدوّه فاكتبوا إليه ، فكتبوا إليه كتباً كثيرة ، وأنفذوا إليه الرسل إرسالاً ، ذكروا فيها : أن الناس ينتظرونك لا رأي لهم غيرك ، فالعجل العجل (3) .
   فكتب إليه اُمراء القبائل : أمّا بعد : فقد اخضر الجناب وأينعت الثمار ، فإذا شئت فاقدم على جند لك مجندة ، « من الحسين بن عليّ إلى الملأ من المؤمنين ، أمّا بعد : فإنّ ( فلاناً وفلانأ ) (4) قدما عليّ بكتبكم ، وكانا اخر رسلكم ، وفهمت مقالة جلّكم : أنّه ليس علينا إمام فأقبل لعلّ الله يجمعنا بك على الحقّ ، وإنّي باعثٌ إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهلي مسلم بن عقيل ، فإن كتب إليّ أنّه قد اجتمع رأي ملئكم وذوي الحجا والفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم وقرأته في كتبكم أقدم عليكم وشيكاً إن شاء الله تعالى » ، ودعا بمسلم بن عقيل فسرحه مع قيس بن مسهر الصيداوي ، وعمارة ابن عبد الله السلولي ، وعبد الرحمن بن عبد الله الأرحبي .

---------------------------
(1 و 2) القصص 28 : 21 ـ 22 .
(3) ارشاد المفيد 2 : 32 ، روضة الواعظين : 171 ، ورواه مقطعاً الطبري في تاريخه 5 : 339 و 343 و ا 35 باختلاف ، ونحوه في : مقتل أبي مخنف : 27 ، ومقتل ابن طاووس : 14 وتذكرة الخواص : 213 و 220 .
(4) في الارشاد : هانئاً وسعيداً .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 292 _

   فاقبل مسلم حتّى دخل الكوفة ، فنزل دار المختار بن أبي عبيدة ، وأقبلت الشيعة تختلف إليه ، وبايعه الناس حتّى بايعه منهم ثمانية عشر ألفاً ، فكتب مسلم إلى الحسين ( عليه السلام ) يخبره بذلك ويأمره بالقدوم ، وعلى الكوفة يومئذ النعمان بن بشيرمن قبل يزيد (1) .
   وكتب عبد الله بن مسلم الحضرمي إلى يزيد بن معاوية : أنّ مسلم بن عقيل قدم إلى الكوفة فبايعته الشيعة للحسين بن عليّ ، فإن كان لك في الكوفة حاجة فابعث إليها رجلاً قويّاً ، فإنّ النعمان بن بشير رجلٌ ضعيفٌ ، وكتب إليه عمر بن سعد وغيره بمثل ذلك ، فلمّا وصلت الكتب إلى يزيد دعا بسرجون ـ مولى معاوية ـ وشاوره في ذلك ـ وكان يزيد عاتباً على عبيد الله بن زياد ـ فقال سرجون : أرأيت معاوية لو يشير لك ما كنت آخذاً برأيه ؟ قال : نعم .
   فأخرج سرجون عهد عبيد الله بن زياد على الكوفة وقال : إنّ معاوية مات وقد أمر بهذا الكتاب ، فضمّ المصرين إلى عبيد الله ، فقال يزيد : إبعث بعهد ابن زياد إليه ، وكتب إليه : أن سر حين تقرأ كتابي هذا حتّى تأتي الكوفة فتطلب ابن عقيل طلب الخرزة حتّى تثقفه فتوثقه أوتقتله أوتنفيه والسلام ، فلمّا وصل العهد والكتاب إلى عبيد الله أمر بالجهاز من وقته والمسير إلى الكوفة، ومعه مسلم بن عمرو الباهلي ، وشريك بن الأعور الحارثي ، وحشمه وأهل بيته ، حتّى دخل الكوفة وعليه عمامة سوداء وهو متلثم ، والناس قد بلغهم إِقبال الحسين ( عليه السلام ) ، فهم ينتظرون قدومه ، فظنّوا أنّه الحسين ( عليه السلام ) ، فكان لا يمرّ على ملأ من الناس إلاّ سلّموا عليه وقالوا : مرحبا يا ابن رسول الله قدمت خير مقدم ، فرأى من تباشرهم بالحسين ( عليه السلام ) ما ساءه ، فقال مسلم بن عمرو لمّا أكثروا : تأخّروا ، هذا الأمير عبيد الله بن زياد ، وسار حتّى وافى قصر الأمارة فأغلق النعمان بن بشير عليه حتّى علم أنّه عبيد الله ففتح له الباب (2) .

---------------------------
(1) وقعة الطف لأبي مخنف : 220 ، ارشاد المفيد 2 : 39 ، مناقب ابن شهرآشوب 4 : 90 ، مقتل ابن طاووس : 16 ، روضة الواعظين : 173 ، تاريخ الطبري 5 : 353 ، تذكرة الخواص : 220 .
(2) ارشاد المفيد 2 : 42 ، روضة الواعظين : 173 ، ونحوه في مقتل الحسين للخوارزمي : 198 ، وتهذيب التهذيب 2 : 302 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 293 _

   فلمّا أصلح نادى في الناس الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس فخطب وقال : أمّا بعد : فإنّ أمير المؤمنين ولاّني مصركم وثغركم وفيئكم ، وأمرني بإنصاف مظلومكم ، وإعطاء محرومكم ، والإحسان إلى سامعكم ومطيعكم كالوالد البرّ، وسوطي وسيفي على من ترك أمري وخالف عهدي ، فليُبقِ امرؤٌ على نفسه ( الصدق ينبىء عنك لا الوعيد ) (1) ، ثمّ نزل وأخذ الناس أخذاً شديداً .
   ولمّا سمع مسلم بن عقيل بمجيء ابن زياد إلى الكوفة ومقالته التي قالها خرج من دار المختار حتّى انتهى إلى دار هانئ بن عروة ، وأقبلت الشيعة تختلف إليه سرّاً ، ونزل شريك بن الأعور دار هانئ بن عروة أيضاً ، ومرض فاُخبر بأن عبيد الله بن زياد يأتيه يعوده ، فقال لمسلم بن عقيل : اُدخل هذا البيت ، فإذا دخل هذا اللعين وتمكّن جالساً فاخرج إليه واضربه ضربة بالسيف تأتي عليه ، وقد حصل المراد واستقام لك البلد ، ولومنّ الله عليّ بالصحّة ضمنت لك استقامة أمر البصرة ، فلمّا دخل ابن زياد وأمكنه ما وافقه عليه بدا له في ذلك ولم يفعل ، واعتذر إلى شريك بعد فوات الأمر بأنّ ذلك كان يكون فتكاً وقد قال النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : « إنّ الإيمان قيد الفتك » .
   فقال : أما والله لو قد قتلته لقتلت غادراً فاجراً كافراً ، ثمّ مات شريك من تلك العلّة رحمه الله ، ودعا عبيد الله بن زياد مولى له يقال له : معقل ، وقال : خذ ثلاثمائة درهم (2) ثمّ اطلب مسلم بن عقيل والتمس أصحابه ، فإذا ظفرت منهم بواحد أو جماعة فأعطهم هذه الدراهم وقل : استعينوا بها على حرب عدوّكم ، فإذا اطمأنّوا إليك ووثقوا بك لم يكتموك شيئاً من أخبارهم ، ثمّ اغد عليهم ورح حتّى تعرف مستقرّ مسلم بن عقيل .

---------------------------
(1) قال الجوهري في الصحاح ( 6 : 2500 ) : في المثل « الصدق ينبىء عنك لا الوعيد» : أي أن الصدق يدفع عنك الغائلة في الحرب دون التهديد .
(2) في المصادر : ثلاثة آلاف درهم .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 294 _

   ففعل ذلك ، وجاء حتّى جلس إلى مسلم بن عوسجة الأسدي في المسجد الأعظم وقال : يا عبد الله إنّي امرؤٌ من أهل الشام ، أنعم الله عليّ بحبّ أهل هذا البيت ، فقال له مسلم : أحمد الله على لقائك ، فقد سرّني ذلك ، وقد ساءني معرفة الناس إيّاي بهذا الأمر قبل أن يتمّ مخافة هذا الطاغية ، فقال له معقل : لا يكون إلاّ خيراً ، فخذ منّي البيعة .
   فأخذ بيعته ، وأخذ عليه المواثيق المغلّظة ليناصحنّ وليكتمنّ ، ثمّ قال : اختلف إليّ ايّاماً في منزلي فأنا طالب لك الإذن ، فأذن له ، فأخذ مسلم بيعته ، ثمّ أمر قابض الأموال فقبض المال منه ، وأقبل ذلك اللعين يختلف إليهم ، فهو أوّل داخل وآخر خارج ، حتّى علم ما احتاج إليه ابن زياد ، وكان يخبره به وقتاً وقتاً .
   وخاف هانئ بن عروة على نفسه من عبيد الله بن زياد ، فانقطع عن حضور مجلسه وتمارض ، فقال ابن زياد : مالي لا أرى هانئاً ؟ فقالوا : هو شاك ، فقال : لو علمت بمرضه لعدته ، ودعا محمد بن الأشعث وأسماء بن خارجة وعمرو بن الحجاج الزبيدي فقال لهم : ما يمنع هانئاً من إتياننا ؟ فقالوا : ما ندري وقد قيل : إنّه يشتكي ، قال : قد بلغني أنّه يجلس على باب داره فالقوه ومروه ألاّ يدع ما عليه من حقّنا ، فأتوه حتّى وقفوا عليه عشيّة ـ وهو على باب داره جالس ـ فقالوا : ما يمنعك من لقاء الأمير ؟ فقال لهم : الشكوى تمنعني من لقائه ، فقالوا له : قد بلغه أنّك تجلس على باب دارك عشيّة وقد استبطاك ، فدعا بثيابه فلبسها ، ودعا ببغلته فركبها ، فلمّا دخل على ابن زياد قال : أتتك بحائن رجلاه (1) والتفت نحوه وقال :

اُريـدُ حِـباءَهُ (2) ويُريدُ iiقتلي      عذيرَكَ مِن خَليلكَ مِن مُراد (3)
   فقال هانئ : وما ذاك أيّها الأمير ؟ قال : ما هذه الاُمور التي تربصّ في دورك لأمير المؤمنين وعامّة المسلمين ، جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك وجمعت له الرجال والسلاحِ قال : ما فعلت ذلك ، قال : بلى .

---------------------------
(1) مثل يضرب لمن يسعى إلى مكروه حتى يقع فيه ، « جمهرة الأمثال للعسكري 1 : 119 | 114 » ، والحائن : الهالك . « لسان العرب ـ حين ـ 13 : 136 » .
(2) اتت ايضاً بمعنى حياته .
(3) البيت لعمرو بن معدي كرب أنظر : كتاب سيبويه 1 : 276 ، الأغاني 10 : 27 ، العقد الفريد 1 : 121 ، جمهرة اللغة 6 : 361 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 295 _

   ثمّ دعا ابن زياد معقلاً ـ ذلك اللعين ـ فجاء حتّى وقف بين يديه ، فلمّا راه هانئ علم أنّه كان عيناً عليهم وأنّه قد أتاه بأخبارهم فقال : اسمع منّي وصدّق مقالتي ، والله ما دعوته إلى منزلي ولا علمت بشيء من أمره حتّى جاءني يسألني النزول فاستحيت من رده ، فضيّفته واويته ، وأنا أعطيك اليوم عهداً ألاّ أبغيك سوءاً ولا غائلة ، وإن شئت أعطيك رهينة فتكون في يدك حتّى آتيك به أو آمره حتى يخرج من داري إلى حيث شاء من الأرض فاخرج من جواره ، فقال ابن زياد : والله لا تفارقني أبداً حتّى تأتيني به ، فقال : لا والله لا آتيك به ، وكثر الكلام بينهما حتّى قال : والله لتأتينّي به قال : لا والله لا آتيك به ، قال : لتأتينّي به أو لأضربنّ عنقك ، فقال هانئ : إذاً والله تكثر البارقة حول دارك ، فقال ابن زياد : أبالبارقة تخوّفني ؟ ! وهو يظنّ أنّ عشيرته سيمنعونه ، فقال : ادنوه منّي ، فلم يزل يضرب وجهه بالقضيب حتّى كسر أنفه وسيَّل الدماء على ثيابه ، وضرب هانئ يده إلى قائم سيف شرطيّ وجاذبه الرجل ومنعه ، فقال ابن زياد : قد حلّ لنا قتلك ، فجرّوه فألقوه في بيت من بيوت الدار وأغلقوا عليه بابه .
   وبلغ الخبر مسلم بن عقيل فامرأن يُنادى في الناس ، فملأ بهم الدور وقال لمناديه : ناد « يا منصور أمت » فعقد مسلم لرؤوس الأرباع على القبائل كندة ومذحج وأسد وتميم وهمدان ، فتداعى الناس واجتمعوا فامتلأ المسجد من الناس والسوق ، وما زالوا يزيدون حتّى المساء ، وضاق بعبيد الله أمره ، وليس معه في القصر إلاّ ثلاثون رجلاً من الشرط وعشرون رجلاً من أشراف الناس وأهل بيته ، وأقبل من نأى عنه من أشراف الناس ، يأتونه من قبل الباب الذي يلي دار الروميّين ، وجعل من في القصر مع ابن زياد يشرفون عليهم فينظرون إليهم وهم يرمونه بالحجارة ، ودعا ابن زياد : بكثير بن شهاب ، ومحمد بن الأشعث ، وشبث بن ربعي ، وجماعة من رؤساء القبائل ، وأمرهم أن يسيروا في الكوفة ويخذّلوا الناس عن مسلم بن عقيل ، ويعلموهم بوصول الجند من الشام ، وأنّ الأمير قد أعطى الله عهداً لئن تمّمتم على حربه ولم تنصرفوا من عشيّتكم هذه أن يحرم ذرّيّتكم العطاء ، ويأخذ البريء بالسقيم ، والشاهد بالغائب .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 296 _

   فلمّا سمع الناس مقالتهم أخذوا يتفرّقون ، وكانت المرأة تأتي ابنها وأخاها وزوجها وتقول : انصرف الناس يكفونك ، ويجيء الرجل إلى ابنه وأخيه ويقول له : غداً يأتيك أهل الشام فما تصنع بالحرب والشرّ ؟ ! فيذهب به فينصرف ، فما زالوا يتفرّقون حتّى أمسى ابن عقيل وصلّى المغرب وما معه من أصحابه إلاّ ثلاثون نفساً ، فلمّا رأى ذلك خرج متوجّهاً نحو أبواب كندة ( فلمّا ) (1) بلغ الباب ومعه منهم عشرة ، فخرج من الباب فإذا ليس معه إنسان ، ولا يجد أحداً يدلّه على الطريق ، فمضى على وجهه متلدّداً (2) في أزقّة الكوفة لا يدري أين يذهب ، فمشى حتى انتهى إلى باب امرأة يقال لها : طوعة ، وهي على باب دارها تنتظر ولداً لها ، فسلّم عليها وقال : يا أمة الله اسقيني ماءً ، فسقته وجلس .
   فقالت : يا عبد الله ، قم فاذهب إلى أهلك ؟ فقال : يا أمة الله ما لي في هذا المصر منزل ، فهل لك فيّ أجر ومعروف ولعلّي أكافِئُكِ بعد اليوم ؟ فقالت : وما ذاك ؟ قال : أنا مسلم بن عقيل ، كذّبني هؤلاء القوم وغرّوني وأخرجوني ، قالت : أنت مسلم ؟ قال : نعم ، قالت : ادخل ، فدخل بيتاً في دارها غير الذي تكون فيه ، وفرشت له ، وعرضت عليه العشاء فلم يتعشّ .
   فجاء ابنها ، فرآها تكثر الدخول إلى البيت والخروج منه ، فسألها عن ذلك فقالت : يا بنيّ الْه عن هذا ، قال : والله لتخبريني ، فأخذت عليه الأيمان أن لا يخبر أحداً ، فحلف فاخبرته ، وكانت هذه المرأة اُمّ ولد للأشعث بن قيس ، فاضطجع ابنها وسكت ، وأصبح فغدا إلى عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فأخبره بمكان مسلم بن عقيل عند اُمّه ، فأقبل عبد الرحمن حتّى أتى أباه وهو عند ابن زياد فسارّه ، فعرف ابن زياد سراره ، فقال : قم فأتني به الساعة .

---------------------------
(1) كذا في نسخنا ، والصواب : فما .
(2) يتلدد : أي يلتفت يميناً وشمالاً . « الصحاح ـ لدد ـ 2 : 535 » .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 297 _

   فقام وبعث معه عبيد الله بن العبّاس السلمي في سبعين رجلاً من قيس ، حتّى أتوا الدار التي فيها مسلم ، فلمّا سمع وقع الحوافر وأصوات الرجال علم أنّه قد أُتي ، فخرج إليهم بسيفه واقتحموا عليه الدار ، فشدّ عليهم يضربهم بسيفه حتّى أخرجهم من الدار ، واختلف هو وبكر بن حمران الأحمري فضرب بكر فم مسلم فقطع شفته العليا وأسرع في السفلى ، وضربه مسلم على رأسه ضربة منكرة وثنّى باُخرى على حبل العاتق ، وخرج عليهم مصلتاً بسيفه ، فقال له محمد بن الأشعث : لك الأمان لا تقتل نفسك ، وهو يقاتلهم ويقول :
أقـسمتُ لا أُقـتلُ إلاّ iiحُرّا      إني رأيتُ الموتَ شيئاً نُكرا
كـلّ امرئ يوماً ملاقٍ iiشرّا      أخـافُ  أن اُكذبَ أو iiاُغَرّا
   فقال له محمد بن الأشعث : إنّك لا تكذب ولا تغرّ ، فلا تجزع ، إنّ القوم بنو عمّك وليسوا بقاتليك ، فقال مسلم : أمّا لو لم تؤمنوني ما وضعت يدي في أيديكم ، فاُتي ببغلةٍ فركبها ، واجتمعوا حوله وانتزعوا سيفه ، فكأنّه أيسَ هناك من نفسه ، فدمعت عيناه وقال : هذا أوّل الغدر ، وأقبل على محمد بن الأشعث وقال : إنّي أراك والله ستعجز عن أماني فهل عندك خيرٌ ؟ تستطيع أن تبعث من عندك رجلاً على لساني أن يبلّغ حسيناً ـ فإنّي لا أراه إلاّ خرج إليكم اليوم أو هو خارج غداً ـ ويقول : إنّ ابن عقيل بعثني إليك وهو أسير في أيدي القوم لا يرى أن يمسي حتّى يقتل ، وهو يقول : إرجع فداك أبي وأمّي بأهل بيتك ولا يغرنّك أهل الكوفة ، فإنّهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنّى فراقهم بالموت أو القتل ، إنّ أهل الكوفة كذبوك وليس لكذوب رأي .
   فقال ابن الأشعث : والله لأفعلنّ ، ولأعلمنّ ابن زياد أنّي قد آمنتك ، وأقبل ابن الأشعث بابن عقيل إلى باب القصر ، ودخل على عبيد الله فاخبره خبره وما كان من أمانه ، فقال ابن زياد : ما أنت والأمان ؟ كأنّا أرسلناك لتؤمنه وإنّما أرسلناك لتأتينا به ، فسكت ابن الأشعث ، وخرج رسول ابن زياد فأمر بإدخال مسلم ، فلمّا دخل لم يسلّم عليه بالإمرة ، فقال الحرسي : ألا تسلّم على الأمير ؟ قال : إن كان يريد قتلي فما سلامي عليه ، وإن كان لا يريد قتلي ليكثرنّ سلامي عليه ، فقال ابن زياد : لعمري لتقتلنّ قتلة لم يقتلها أحدٌ من الناس في الإسلام ، فقال له مسلم : أنت أحقّ من أحدث في الإسلام ، وأنّك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السيرة ، ولؤم الغلبة .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 298 _

   وأخذ إبن زياد لعنة الله عليه يشتمه ويشتم الحسين وعليّاً وعقيلَاَ ، وأخذ مسلم لا يكلّمه ، ثمّ قال ابن زياد : إصعدوا به فوق القصر واضربوا عنقه ثمّ أتبعوه جسده ، فقال مسلم : لوكان بيني وبينك قرابة ما قتلتني ، فقال ابن زياد : أين هذا الذي ضرب ابن عقيل رأسه بالسيف ، فدعي بكر بن حمران الأحمري فقال له : إصعد فكن أنت الذي تضرب عنقه ، فصعد وجعل مسلم يكبّر الله ويستغفره ، ويصلّي على النبيّ وآله ويقول : اللهم احكم بيننا وبين قوم غرّونا وخذلونا ، وضربت عنقه واُتبع جسده رأسه ، واُمر بهانئ بن عروة فاُخرج إلى السوق وضربت عنقه وهو يقول : إلى الله المعاد ، اللهم إلى رحمتك ورضوانك .
   وفي قتلهما يقول عبد الله بن الزبير الأسدي :
إن كنتِ لا تدرينَ ما الموتُ فانظري      إلـى هـانئ في السوقِ وابنِ iiعقيل
إِلـى  بـطلٍ قد هشّم السيفُ iiوجههُ      واخـر  يـهوي مـن طـمار iiقتيل
في أبيات (1) .
   وبعث ابن زياد لعنه الله برأسيهما إلى يزيد بن معاوية لعنه الله، وكان خروج مسلم رحمة الله عليه بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجّة يوم التروية ، وقتل يوم عرفة سنة ستّين ، وكان توجّه الحسين ( عليه السلام ) من مكّة إلى العراق في يوم خروج مسلم بالكوفة ، وكان قد اجتمع إليه ( عليه السلام ) مدّة مقامه بمكّة نفر من أهل الحجاز والبصرة ، ولمّا أراد الخروج إلى العراق طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وأحلّ من إحرامه وجعلها عمرة ، لأنّه لم يتمكّن من تمام الحجّ مخافة أن يُقبض عليه بمكّة فيُنفذ إلى يزيد بن معاوية (2) .
   فروي عن الفرزدق الشاعر أنّه قال : حججت باُمّي سنة ستّين ، فبينا أنا أسوق بعيرها حين دخلت الحرم إذ لقيت الحسين بن عليّ ( عليهما السلام ) خارجاً من الحرم معه أسيافه وتراسه فقلت : لمن هذا القطار ؟ فقيل ، للحسين بن عليّ ، فأتيته فسلّمت عليه وقلت له : أعطاك الله سؤلك وأملك فيما تحبّ يا ابن رسول الله بأبي أنت وأمّي ما أعجلك عن الحجّ ؟ قال : « لولم أعجل لأخذت » ثمّ قال لي : « من أنت ؟ » ، قلت : امرؤٌ من العرب ، فلا والله ما فتّشني أكثر من ذلك ، ثمّ قال : « أخبرني عن الناس خلفك ؟ » .

---------------------------
(1) ديوان عبد الله بن الزبير الأسدي : 115 .
(2) انظر : وقعة الطف لأبي مخنف : 109 ـ 147 ، ارشاد المفيد 2 : 43 ، مقتل ابن طاووس : 19 ، تاريخ الطبري 5 : 358 ، مقاتل الطالبيين : 96 ، مقتل الخوارزمي 1 : 199 ، تذكرة الخواص : 218 .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 299 _

   فقلت : الخبير سألت ، قلوب الناس معك وأسيافهم عليك ، وسألته عن أشياء من نذور ومناسك فأخبرني بها ، ثمّ حرّك راحلته وقال : « السلام عليكم » ، ثمّ افترقنا ، ولحقه عبد الله بن جعفر بكتاب عمرو بن سعيد بن العاص والي مكة مع أخيه يحيى بن سعيد يؤمنه على نفسه ، فدفعا إليه الكتاب وجهدا به في الرجوع فقال : « إنّي رأيت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في المنام وأمرني بما أنا ماض له » .
   قالا : فما تلك الرؤيا ؟ فقال : « ما حدّثت بها أحداً ولا اُحدّث أحداً حتّى ألقى ربّي عزّ وجل » ، فلمّا يئس عبد الله بن جعفر منه أمر ابنيه عوناً ومحمداً بلزومه والمسير معه والجهاد دونه ، ورجع هو ويحيى بن سعيد إلى مكّة ، وتوجّه الحسين ( عليه السلام ) نحو العراق ، ولمّا بلغ عبيد الله بن زياد إقبال الحسين ( عليه السلام ) إلى الكوفة بعث الحصين بن نمير صاحب شرطته حتّى نزل القادسيّة ، ولمّا بلغ الحسين ( عليه السلام ) بطن الرملة بعث عبدالله ابن يقطر ـ وهوأخوه من الرضاعة ـ وقيل : بل بعث قيس بن مسهر الصيداوي إلى أهل الكوفة ، ولم يكن علم بخبر مسلم ، وكتب معه إليهم كتاباً يخبرهم فيه بقدومه ، ويأمرهم بالانكماش (1) في الأمر .
   فأخذه الحصين بن نمير وبعث به إلى عبيد الله بن زياد ، فقال له عبيد الله بن زياد : إصعد وسبّ الكذّاب الحسين بن عليّ ، فصعد وحمد الله وأثنى عليه وقال : أيّها الناس ، هذا الحسين بن عليّ خير خلق الله ، ابن فاطمة بنت رسول الله ( صلّى الله عليه واله وسلّم ) ، وأنا رسوله إليكم فأجيبوه ، ثمّ لعن ابن زياد ، فأمر به فرمي من فوق القصر ، فوقع على الأرض وانكسرت عظامه ، وأتاه رجل فذبحه وقال : أردت أن اُريحه ! !

---------------------------
(1) الانكماش : الاسراع . « انظر : الصحاح ـ كمش ـ 3 : 1018 » .

اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى _ 300 _

   فلمّا بلغ الحسين ( صلوات الله عليه ) قتل رسوله استعبر ، ولمّا بلغ الثعلبيّة ونزل أتاه خبر قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة فقال : « إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، رحمة الله عليهما » يردّد ذلك مراراً ، وقيل له : ننشدك الله يا ابن رسول الله لما انصرفت من مكانك هذا ، فإنّه ليس لك بالكوفة ناصرٌ ولا شيعة ، بل نتخوّف أن يكونوا عليك ، فنظر إلى بني عقيل فقال : « ما ترون ؟ » فقالوا : والله لا نرجع حتّى نصيب ثارنا أو نذوق ما ذاق ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : « لا خير في العيش بعد هؤلاء » .
   ثمّ أخرج إلى الناس كتاباً فيه : « أمّا بعد : فقد أتانا خبر فظيع ، قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وعبد الله بن يقطر ، وقد خذلنا شيعتنا ، فمن أحبّ منكم الانصراف فلينصرف في غير حرجِ ، فليس عليه ذمام » ، فتفرّق الناس عنه وأخذوا يميناً وشمالاً حتّى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه ونفر يسير ممّن انضمّوا إليه ، وإنّما فعل ( عليه السلام ) ذلك لأنّه علم أنّ الأعراب الذين اتّبعوه يظنّون أنّه يأتي بلداً قد استقام عليه ، فكره أن يسيروا معه إلاّ وهم يعلمون على ما يقدمون .
   ثمّ سار ( عليه السلام ) حتّى مرّ ببطن العقبة ، فنزل فيها فلقيه شيخ من بني عكرمة يقال له : عمرو بن لوذان فقال : أنشدك الله يا ابن رسول الله لمّا انصرفت ، فوالله ما تقدم إلاّ على الأسنّة وحدّ السيوف ، وإنّ هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤونة القتال ووطّؤوا لك الأسياف فقدمت عليهم كان ذلك رأياً ، فقال : « يا عبد الله ، لا يخفى عليّ الرأي ولكنّ الله تعالى لا يغلب على أمره » ثمّ قال ( عليه السلام ) : « والله لا يَدَعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي ، فإذا فعلوا ذلك سلّط الله عليهم من يذلّهم حتّى يكونوا أذلّ فرق الاُمم » .
   ثمّ سار ( عليه السلام ) من بطن العقبة وأمر فتيانه أن يستقوا الماء ويكثروا ، ثم سار حتّى انتصف النهار ، فبينا هو يسير إذ كبّر رجل من أصحابه فقال ( عليه السلام ) : « الله أكبر لم كبّرت ؟ » قال : رأيت النخل ، فقال له جماعة من أصحابه : والله إنّ هذا المكان ما رأينا به نخلة قطّ ، قال : « فما ترونه ؟ » قالوا : نراه والله آذان الخيل ، قال : « أنا والله أرى ذلك » .