ذكر الثقات من أصحاب السير: أنّه لمّا مات الحسن بن عليّ ( عليهما السلام ) تحرّكت الشيعة بالعراق وكتبوا إلى الحسين ( عليه السلام ) في خلع معاوية ، فامتنع عليهم للعهد الحاصل بينه وبين معاوية ، فلمّا مات معاوية ـ وذلك في النصف من رجب سنة ستّين ـ كتب يزيد بن معاوية إلى الوليد ابن عتبة بن أبي سفيان والي المدينة أن يأخذ الحسين ( عليه السلام ) بالبيعة له ، فأنفذ الوليد إلى الحسين ( عليه السلام ) فاستدعاه ، فعرف الحسين ما أراد ، فدعا جماعة من مواليه وأمرهم بحمل السلاح وقال : « إجلسوا على الباب ، فإذا سمعتم صوتي قد علا فادخلوا عليه لتمنعوه مني » .
وصار ( عليه السلام ) إلى الوليد ، فنعى الوليد إليه معاوية فاسترجع الحسين ( عليه السلام ) ، ثمّ قرأ عليه كتاب يزيد ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : « إنّي لا أراك تقنع ببيعتي ليزيد سرّاً حتّى اُبايعه جهراً » ، فقال الوليد : أجل ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : « فنصبح ونرى في ذلك » ، فقال الوليد : إنصرف على اسم الله تعالى ، فقال مروان : والله لئن فارقك الحسين الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتّى يكثر القتلى بينكم وبينه ، فلايخرج من عندك حتّى يبايع أو تضرب عنقه ، فوثب عند ذلك الحسين ( عليه السلام ) وقال : « أنت يا ابن الزرقاء تقتلني أو هو ؟ كذبت والله وأثمت » فخرج ، فقال مروان للوليد : عصيتني ، فقال : ويح غيرك يا مروان ، والله ما اُحبّ أنّ لي ما طلعت عليه الشمس وأنّي قتلت حسيناً ، سبحان الله أقتل حسيناً إن قال : لا اُبايع ، والله إنّي لأظنّ أنّ امرءاً يحاسب بدم الحسين خفيف الميزان عند الله تعالى يوم القيامة ، فقال مروان : إن كان هذا رأيك فقد أصبت .
وأقام الحسين تلك الليلة في منزله ، واشتغل الوليد بمراسلة عبد الله بن الزبير في البيعة ليزيد وامتناعه عليه ، وخرج ابن الزبير من ليلته متوجّهاً إلى مكّة ، وسرّح الوليد في إثره الرجال فطلبوه فلم يدركوه ، فلمّا كان آخر النهار بعث إلى الحسين ( عليه السلام ) ليبايع فقال ( عليه السلام ) : « اصبحوا وترون ونرى » فكفّوا تلك الليلة عنه ، فخرج ( عليه السلام ) ليلة الأحد لليلتين بقيتا من رجب متوجّهاً نحو مكّة ومعه بنوه وبنو أخيه الحسن وإخوته وجلّ أهل بيته ، إلاّ محمّد بن الحنفيّة فإنّه لم يدر أين يتوجّه ، وشيّعه وودعه .
وخرج الحسين ( عليه السلام ) وهو يقول : ( فَخَرَج مِنْها خائِفاً يَتَرَقّبُ قالَ رَبّ نَجّني مِنَ الْقَوْم الظّالِمِينَ )
(1) فلمّا دخل مكّة دخلها لثلاث مضين من شعبان وهو يقول : ( وَلَمّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسف رَبّي أنْ يَهْدِيَني سَواءَ السّبِيل )
(2) ، وأقبل أهل مكّة يختلفون إليه ، ويأتيه ابن الزبير فيمن يأتيه بين كلّ يومين مرّة، وهو أثقل خلق الله على ابن الزبير وقد عرف أنّ أهل الحجاز لا يبايعونه مادام الحسين ( عليه السلام ) بالبلد .
وبلغ أهل الكوفة هلاك معاوية ، وعرفوا خبر الحسين ، فاجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد الخزاعي وقالوا : إن معاوية قد هلك ، وإنّ الحسين قد خرج إلى مكة وأنتم شيعته وشيعة أبيه ، فإن كنتم تعلمون أنكم ناصروه ومجاهدوا عدوّه فاكتبوا إليه ، فكتبوا إليه كتباً كثيرة ، وأنفذوا إليه الرسل إرسالاً ، ذكروا فيها : أن الناس ينتظرونك لا رأي لهم غيرك ، فالعجل العجل
(3) .
فكتب إليه اُمراء القبائل : أمّا بعد : فقد اخضر الجناب وأينعت الثمار ، فإذا شئت فاقدم على جند لك مجندة ، « من الحسين بن عليّ إلى الملأ من المؤمنين ،
أمّا بعد : فإنّ ( فلاناً وفلانأ )
(4) قدما عليّ بكتبكم ، وكانا اخر رسلكم ، وفهمت مقالة جلّكم : أنّه ليس علينا إمام فأقبل لعلّ الله يجمعنا بك على الحقّ ، وإنّي باعثٌ إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهلي مسلم بن عقيل ، فإن كتب إليّ أنّه قد اجتمع رأي ملئكم وذوي الحجا والفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم وقرأته في كتبكم أقدم عليكم وشيكاً إن شاء الله تعالى » ، ودعا بمسلم بن عقيل فسرحه مع قيس بن مسهر الصيداوي ، وعمارة ابن عبد الله السلولي ، وعبد الرحمن بن عبد الله الأرحبي .
---------------------------
(1 و 2) القصص 28 : 21 ـ 22 .
(3) ارشاد المفيد 2 : 32 ، روضة الواعظين : 171 ، ورواه مقطعاً الطبري في تاريخه 5 : 339 و 343 و ا 35 باختلاف ، ونحوه في : مقتل أبي مخنف : 27 ، ومقتل ابن طاووس : 14 وتذكرة الخواص : 213 و 220 .
(4) في الارشاد : هانئاً وسعيداً .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 292 _
فاقبل مسلم حتّى دخل الكوفة ، فنزل دار المختار بن أبي عبيدة ، وأقبلت الشيعة تختلف إليه ، وبايعه الناس حتّى بايعه منهم ثمانية عشر ألفاً ، فكتب مسلم إلى الحسين ( عليه السلام ) يخبره بذلك ويأمره بالقدوم ، وعلى الكوفة يومئذ النعمان بن بشيرمن قبل يزيد
(1) .
وكتب عبد الله بن مسلم الحضرمي إلى يزيد بن معاوية : أنّ مسلم بن عقيل قدم إلى الكوفة فبايعته الشيعة للحسين بن عليّ ، فإن كان لك في الكوفة حاجة فابعث إليها رجلاً قويّاً ، فإنّ النعمان بن بشير رجلٌ ضعيفٌ ، وكتب إليه عمر بن سعد وغيره بمثل ذلك ، فلمّا وصلت الكتب إلى يزيد دعا بسرجون ـ مولى معاوية ـ وشاوره في ذلك ـ وكان يزيد عاتباً على عبيد الله بن زياد ـ فقال سرجون : أرأيت معاوية لو يشير لك ما كنت آخذاً برأيه ؟ قال : نعم .
فأخرج سرجون عهد عبيد الله بن زياد على الكوفة وقال : إنّ معاوية مات وقد أمر بهذا الكتاب ، فضمّ المصرين إلى عبيد الله ، فقال يزيد : إبعث بعهد ابن زياد إليه ، وكتب إليه : أن سر حين تقرأ كتابي هذا حتّى تأتي الكوفة فتطلب ابن عقيل طلب الخرزة حتّى تثقفه فتوثقه أوتقتله أوتنفيه والسلام ، فلمّا وصل العهد والكتاب إلى عبيد الله أمر بالجهاز من وقته والمسير إلى الكوفة، ومعه مسلم بن عمرو الباهلي ، وشريك بن الأعور الحارثي ، وحشمه وأهل بيته ، حتّى دخل الكوفة وعليه عمامة سوداء وهو متلثم ، والناس قد بلغهم إِقبال الحسين ( عليه السلام ) ، فهم ينتظرون قدومه ، فظنّوا أنّه الحسين ( عليه السلام ) ، فكان لا يمرّ على ملأ من الناس إلاّ سلّموا عليه وقالوا : مرحبا يا ابن رسول الله قدمت خير مقدم ، فرأى من تباشرهم بالحسين ( عليه السلام ) ما ساءه ، فقال مسلم بن عمرو لمّا أكثروا : تأخّروا ، هذا الأمير عبيد الله بن زياد ، وسار حتّى وافى قصر الأمارة فأغلق النعمان بن بشير عليه حتّى علم أنّه عبيد الله ففتح له الباب
(2) .
---------------------------
(1) وقعة الطف لأبي مخنف : 220 ، ارشاد المفيد 2 : 39 ، مناقب ابن شهرآشوب 4 : 90 ، مقتل ابن طاووس : 16 ، روضة الواعظين : 173 ، تاريخ الطبري 5 : 353 ، تذكرة الخواص : 220 .
(2) ارشاد المفيد 2 : 42 ، روضة الواعظين : 173 ، ونحوه في مقتل الحسين للخوارزمي : 198 ، وتهذيب التهذيب 2 : 302 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 293 _
فلمّا أصلح نادى في الناس الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس فخطب وقال :
أمّا بعد : فإنّ أمير المؤمنين ولاّني مصركم وثغركم وفيئكم ، وأمرني بإنصاف مظلومكم ، وإعطاء محرومكم ، والإحسان إلى سامعكم ومطيعكم كالوالد البرّ، وسوطي وسيفي على من ترك أمري وخالف عهدي ، فليُبقِ امرؤٌ على نفسه ( الصدق ينبىء عنك لا الوعيد )
(1) ، ثمّ نزل وأخذ الناس أخذاً شديداً .
ولمّا سمع مسلم بن عقيل بمجيء ابن زياد إلى الكوفة ومقالته التي قالها خرج من دار المختار حتّى انتهى إلى دار هانئ بن عروة ، وأقبلت الشيعة تختلف إليه سرّاً ، ونزل شريك بن الأعور دار هانئ بن عروة أيضاً ، ومرض فاُخبر بأن عبيد الله بن زياد يأتيه يعوده ، فقال لمسلم بن عقيل : اُدخل هذا البيت ، فإذا دخل هذا اللعين وتمكّن جالساً فاخرج إليه واضربه ضربة بالسيف تأتي عليه ، وقد حصل المراد واستقام لك البلد ، ولومنّ الله عليّ بالصحّة ضمنت لك استقامة أمر البصرة ، فلمّا دخل ابن زياد وأمكنه ما وافقه عليه بدا له في ذلك ولم يفعل ، واعتذر إلى شريك بعد فوات الأمر بأنّ ذلك كان يكون فتكاً وقد قال النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : « إنّ الإيمان قيد الفتك » .
فقال : أما والله لو قد قتلته لقتلت غادراً فاجراً كافراً ، ثمّ مات شريك من تلك العلّة رحمه الله ، ودعا عبيد الله بن زياد مولى له يقال له : معقل ، وقال : خذ ثلاثمائة درهم
(2) ثمّ اطلب مسلم بن عقيل والتمس أصحابه ، فإذا ظفرت منهم بواحد أو جماعة فأعطهم هذه الدراهم وقل : استعينوا بها على حرب عدوّكم ، فإذا اطمأنّوا إليك ووثقوا بك لم يكتموك شيئاً من أخبارهم ، ثمّ اغد عليهم ورح حتّى تعرف مستقرّ مسلم بن عقيل .
---------------------------
(1) قال الجوهري في الصحاح ( 6 : 2500 ) : في المثل « الصدق ينبىء عنك لا الوعيد» : أي أن الصدق يدفع عنك الغائلة في الحرب دون التهديد .
(2) في المصادر : ثلاثة آلاف درهم .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 294 _
ففعل ذلك ، وجاء حتّى جلس إلى مسلم بن عوسجة الأسدي في المسجد الأعظم وقال : يا عبد الله إنّي امرؤٌ من أهل الشام ، أنعم الله عليّ بحبّ أهل هذا البيت ، فقال له مسلم : أحمد الله على لقائك ، فقد سرّني ذلك ، وقد ساءني معرفة الناس إيّاي بهذا الأمر قبل أن يتمّ مخافة هذا الطاغية ، فقال له معقل : لا يكون إلاّ خيراً ، فخذ منّي البيعة .
فأخذ بيعته ، وأخذ عليه المواثيق المغلّظة ليناصحنّ وليكتمنّ ، ثمّ قال : اختلف إليّ ايّاماً في منزلي فأنا طالب لك الإذن ، فأذن له ، فأخذ مسلم بيعته ، ثمّ أمر قابض الأموال فقبض المال منه ، وأقبل ذلك اللعين يختلف إليهم ، فهو أوّل داخل وآخر خارج ، حتّى علم ما احتاج إليه ابن زياد ، وكان يخبره به وقتاً وقتاً .
وخاف هانئ بن عروة على نفسه من عبيد الله بن زياد ، فانقطع عن حضور مجلسه وتمارض ، فقال ابن زياد : مالي لا أرى هانئاً ؟ فقالوا : هو شاك ، فقال : لو علمت بمرضه لعدته ، ودعا محمد بن الأشعث وأسماء بن خارجة وعمرو بن الحجاج الزبيدي فقال لهم : ما يمنع هانئاً من إتياننا ؟ فقالوا : ما ندري وقد قيل : إنّه يشتكي ، قال : قد بلغني أنّه يجلس على باب داره فالقوه ومروه ألاّ يدع ما عليه من حقّنا ، فأتوه حتّى وقفوا عليه عشيّة ـ وهو على باب داره جالس ـ فقالوا : ما يمنعك من لقاء الأمير ؟ فقال لهم : الشكوى تمنعني من لقائه ، فقالوا له : قد بلغه أنّك تجلس على باب دارك عشيّة وقد استبطاك ، فدعا بثيابه فلبسها ، ودعا ببغلته فركبها ، فلمّا دخل على ابن زياد قال : أتتك بحائن رجلاه
(1) والتفت نحوه وقال :
اُريـدُ حِـباءَهُ (2) ويُريدُ iiقتلي عذيرَكَ مِن خَليلكَ مِن مُراد (3) |
فقال هانئ : وما ذاك أيّها الأمير ؟ قال : ما هذه الاُمور التي تربصّ في دورك لأمير المؤمنين وعامّة المسلمين ، جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك وجمعت له الرجال والسلاحِ قال : ما فعلت ذلك ، قال : بلى .
---------------------------
(1) مثل يضرب لمن يسعى إلى مكروه حتى يقع فيه ، « جمهرة الأمثال للعسكري 1 : 119 | 114 » ، والحائن : الهالك . « لسان العرب ـ حين ـ 13 : 136 » .
(2) اتت ايضاً بمعنى حياته .
(3) البيت لعمرو بن معدي كرب أنظر : كتاب سيبويه 1 : 276 ، الأغاني 10 : 27 ، العقد الفريد 1 : 121 ، جمهرة اللغة 6 : 361 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 295 _
ثمّ دعا ابن زياد معقلاً ـ ذلك اللعين ـ فجاء حتّى وقف بين يديه ، فلمّا راه هانئ علم أنّه كان عيناً عليهم وأنّه قد أتاه بأخبارهم فقال : اسمع منّي وصدّق مقالتي ، والله ما دعوته إلى منزلي ولا علمت بشيء من أمره حتّى جاءني يسألني النزول فاستحيت من رده ، فضيّفته واويته ، وأنا أعطيك اليوم عهداً ألاّ أبغيك سوءاً ولا غائلة ، وإن شئت أعطيك رهينة فتكون في يدك حتّى آتيك به أو آمره حتى يخرج من داري إلى حيث شاء من الأرض فاخرج من جواره ، فقال ابن زياد : والله لا تفارقني أبداً حتّى تأتيني به ، فقال : لا والله لا آتيك به ، وكثر الكلام بينهما حتّى قال : والله لتأتينّي به قال : لا والله لا آتيك به ، قال : لتأتينّي به أو لأضربنّ عنقك ، فقال هانئ : إذاً والله تكثر البارقة حول دارك ، فقال ابن زياد : أبالبارقة تخوّفني ؟ ! وهو يظنّ أنّ عشيرته سيمنعونه ، فقال : ادنوه منّي ، فلم يزل يضرب وجهه بالقضيب حتّى كسر أنفه وسيَّل الدماء على ثيابه ، وضرب هانئ يده إلى قائم سيف شرطيّ وجاذبه الرجل ومنعه ، فقال ابن زياد : قد حلّ لنا قتلك ، فجرّوه فألقوه في بيت من بيوت الدار وأغلقوا عليه بابه .
وبلغ الخبر مسلم بن عقيل فامرأن يُنادى في الناس ، فملأ بهم الدور وقال لمناديه : ناد « يا منصور أمت » فعقد مسلم لرؤوس الأرباع على القبائل كندة ومذحج وأسد وتميم وهمدان ، فتداعى الناس واجتمعوا فامتلأ المسجد من الناس والسوق ، وما زالوا يزيدون حتّى المساء ، وضاق بعبيد الله أمره ، وليس معه في القصر إلاّ ثلاثون رجلاً من الشرط وعشرون رجلاً من أشراف الناس وأهل بيته ، وأقبل من نأى عنه من أشراف الناس ، يأتونه من قبل الباب الذي يلي دار الروميّين ، وجعل من في القصر مع ابن زياد يشرفون عليهم فينظرون إليهم وهم يرمونه بالحجارة ، ودعا ابن زياد : بكثير بن شهاب ، ومحمد بن الأشعث ، وشبث بن ربعي ، وجماعة من رؤساء القبائل ، وأمرهم أن يسيروا في الكوفة ويخذّلوا الناس عن مسلم بن عقيل ، ويعلموهم بوصول الجند من الشام ، وأنّ الأمير قد أعطى الله عهداً لئن تمّمتم على حربه ولم تنصرفوا من عشيّتكم هذه أن يحرم ذرّيّتكم العطاء ، ويأخذ البريء بالسقيم ، والشاهد بالغائب .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 296 _
فلمّا سمع الناس مقالتهم أخذوا يتفرّقون ، وكانت المرأة تأتي ابنها وأخاها وزوجها وتقول : انصرف الناس يكفونك ، ويجيء الرجل إلى ابنه وأخيه ويقول له : غداً يأتيك أهل الشام فما تصنع بالحرب والشرّ ؟ ! فيذهب به فينصرف ، فما زالوا يتفرّقون حتّى أمسى ابن عقيل وصلّى المغرب وما معه من أصحابه إلاّ ثلاثون نفساً ، فلمّا رأى ذلك خرج متوجّهاً نحو أبواب كندة ( فلمّا )
(1) بلغ الباب ومعه منهم عشرة ، فخرج من الباب فإذا ليس معه إنسان ، ولا يجد أحداً يدلّه على الطريق ، فمضى على وجهه متلدّداً
(2) في أزقّة الكوفة لا يدري أين يذهب ، فمشى حتى انتهى إلى باب امرأة يقال لها : طوعة ، وهي على باب دارها تنتظر ولداً لها ، فسلّم عليها وقال : يا أمة الله اسقيني ماءً ، فسقته وجلس .
فقالت : يا عبد الله ، قم فاذهب إلى أهلك ؟ فقال : يا أمة الله ما لي في هذا المصر منزل ، فهل لك فيّ أجر ومعروف ولعلّي أكافِئُكِ بعد اليوم ؟ فقالت : وما ذاك ؟ قال : أنا مسلم بن عقيل ، كذّبني هؤلاء القوم وغرّوني وأخرجوني ، قالت : أنت مسلم ؟ قال : نعم ، قالت : ادخل ، فدخل بيتاً في دارها غير الذي تكون فيه ، وفرشت له ، وعرضت عليه العشاء فلم يتعشّ .
فجاء ابنها ، فرآها تكثر الدخول إلى البيت والخروج منه ، فسألها عن ذلك فقالت : يا بنيّ الْه عن هذا ، قال : والله لتخبريني ، فأخذت عليه الأيمان أن لا يخبر أحداً ، فحلف فاخبرته ، وكانت هذه المرأة اُمّ ولد للأشعث بن قيس ، فاضطجع ابنها وسكت ، وأصبح فغدا إلى عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فأخبره بمكان مسلم بن عقيل عند اُمّه ، فأقبل عبد الرحمن حتّى أتى أباه وهو عند ابن زياد فسارّه ، فعرف ابن زياد سراره ، فقال : قم فأتني به الساعة .
---------------------------
(1) كذا في نسخنا ، والصواب : فما .
(2) يتلدد : أي يلتفت يميناً وشمالاً . « الصحاح ـ لدد ـ 2 : 535 » .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 297 _
فقام وبعث معه عبيد الله بن العبّاس السلمي في سبعين رجلاً من قيس ، حتّى أتوا الدار التي فيها مسلم ، فلمّا سمع وقع الحوافر وأصوات الرجال علم أنّه قد أُتي ، فخرج إليهم بسيفه واقتحموا عليه الدار ، فشدّ عليهم يضربهم بسيفه حتّى أخرجهم من الدار ، واختلف هو وبكر بن حمران الأحمري فضرب بكر فم مسلم فقطع شفته العليا وأسرع في السفلى ، وضربه مسلم على رأسه ضربة منكرة وثنّى باُخرى على حبل العاتق ، وخرج عليهم مصلتاً بسيفه ، فقال له محمد بن الأشعث : لك الأمان لا تقتل نفسك ، وهو يقاتلهم ويقول :
أقـسمتُ لا أُقـتلُ إلاّ iiحُرّا إني رأيتُ الموتَ شيئاً نُكرا كـلّ امرئ يوماً ملاقٍ iiشرّا أخـافُ أن اُكذبَ أو iiاُغَرّا |
فقال له محمد بن الأشعث : إنّك لا تكذب ولا تغرّ ، فلا تجزع ، إنّ القوم بنو عمّك وليسوا بقاتليك ، فقال مسلم : أمّا لو لم تؤمنوني ما وضعت يدي في أيديكم ، فاُتي ببغلةٍ فركبها ، واجتمعوا حوله وانتزعوا سيفه ، فكأنّه أيسَ هناك من نفسه ، فدمعت عيناه وقال : هذا أوّل الغدر ، وأقبل على محمد بن الأشعث وقال : إنّي أراك والله ستعجز عن أماني فهل عندك خيرٌ ؟ تستطيع أن تبعث من عندك رجلاً على لساني أن يبلّغ حسيناً ـ فإنّي لا أراه إلاّ خرج إليكم اليوم أو هو خارج غداً ـ ويقول : إنّ ابن عقيل بعثني إليك وهو أسير في أيدي القوم لا يرى أن يمسي حتّى يقتل ، وهو يقول : إرجع فداك أبي وأمّي بأهل بيتك ولا يغرنّك أهل الكوفة ، فإنّهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنّى فراقهم بالموت أو القتل ، إنّ أهل الكوفة كذبوك وليس لكذوب رأي .
فقال ابن الأشعث : والله لأفعلنّ ، ولأعلمنّ ابن زياد أنّي قد آمنتك ، وأقبل ابن الأشعث بابن عقيل إلى باب القصر ، ودخل على عبيد الله فاخبره خبره وما كان من أمانه ، فقال ابن زياد : ما أنت والأمان ؟ كأنّا أرسلناك لتؤمنه وإنّما أرسلناك لتأتينا به ، فسكت ابن الأشعث ، وخرج رسول ابن زياد فأمر بإدخال مسلم ، فلمّا دخل لم يسلّم عليه بالإمرة ، فقال الحرسي : ألا تسلّم على الأمير ؟ قال : إن كان يريد قتلي فما سلامي عليه ، وإن كان لا يريد قتلي ليكثرنّ سلامي عليه ، فقال ابن زياد : لعمري لتقتلنّ قتلة لم يقتلها أحدٌ من الناس في الإسلام ، فقال له مسلم : أنت أحقّ من أحدث في الإسلام ، وأنّك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السيرة ، ولؤم الغلبة .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 298 _
وأخذ إبن زياد لعنة الله عليه يشتمه ويشتم الحسين وعليّاً وعقيلَاَ ، وأخذ مسلم لا يكلّمه ، ثمّ قال ابن زياد : إصعدوا به فوق القصر واضربوا عنقه ثمّ أتبعوه جسده ، فقال مسلم : لوكان بيني وبينك قرابة ما قتلتني ، فقال ابن زياد : أين هذا الذي ضرب ابن عقيل رأسه بالسيف ، فدعي بكر بن حمران الأحمري فقال له : إصعد فكن أنت الذي تضرب عنقه ، فصعد وجعل مسلم يكبّر الله ويستغفره ، ويصلّي على النبيّ وآله ويقول : اللهم احكم بيننا وبين قوم غرّونا وخذلونا ، وضربت عنقه واُتبع جسده رأسه ، واُمر بهانئ بن عروة فاُخرج إلى السوق وضربت عنقه وهو يقول : إلى الله المعاد ، اللهم إلى رحمتك ورضوانك .
وفي قتلهما يقول عبد الله بن الزبير الأسدي :
إن كنتِ لا تدرينَ ما الموتُ فانظري إلـى هـانئ في السوقِ وابنِ iiعقيل إِلـى بـطلٍ قد هشّم السيفُ iiوجههُ واخـر يـهوي مـن طـمار iiقتيل |
في أبيات
(1) .
وبعث ابن زياد لعنه الله برأسيهما إلى يزيد بن معاوية لعنه الله، وكان خروج مسلم رحمة الله عليه بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجّة يوم التروية ، وقتل يوم عرفة سنة ستّين ، وكان توجّه الحسين ( عليه السلام ) من مكّة إلى العراق في يوم خروج مسلم بالكوفة ، وكان قد اجتمع إليه ( عليه السلام ) مدّة مقامه بمكّة نفر من أهل الحجاز والبصرة ، ولمّا أراد الخروج إلى العراق طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وأحلّ من إحرامه وجعلها عمرة ، لأنّه لم يتمكّن من تمام الحجّ مخافة أن يُقبض عليه بمكّة فيُنفذ إلى يزيد بن معاوية
(2) .
فروي عن الفرزدق الشاعر أنّه قال : حججت باُمّي سنة ستّين ، فبينا أنا أسوق بعيرها حين دخلت الحرم إذ لقيت الحسين بن عليّ ( عليهما السلام ) خارجاً من الحرم معه أسيافه وتراسه فقلت : لمن هذا القطار ؟ فقيل ، للحسين بن عليّ ، فأتيته فسلّمت عليه وقلت له : أعطاك الله سؤلك وأملك فيما تحبّ يا ابن رسول الله بأبي أنت وأمّي ما أعجلك عن الحجّ ؟ قال : « لولم أعجل لأخذت » ثمّ قال لي : « من أنت ؟ » ، قلت : امرؤٌ من العرب ، فلا والله ما فتّشني أكثر من ذلك ، ثمّ قال : « أخبرني عن الناس خلفك ؟ » .
---------------------------
(1) ديوان عبد الله بن الزبير الأسدي : 115 .
(2) انظر : وقعة الطف لأبي مخنف : 109 ـ 147 ، ارشاد المفيد 2 : 43 ، مقتل ابن طاووس : 19 ، تاريخ الطبري 5 : 358 ، مقاتل الطالبيين : 96 ، مقتل الخوارزمي 1 : 199 ، تذكرة الخواص : 218 .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 299 _
فقلت : الخبير سألت ، قلوب الناس معك وأسيافهم عليك ، وسألته عن أشياء من نذور ومناسك فأخبرني بها ، ثمّ حرّك راحلته وقال : « السلام عليكم » ، ثمّ افترقنا ، ولحقه عبد الله بن جعفر بكتاب عمرو بن سعيد بن العاص والي مكة مع أخيه يحيى بن سعيد يؤمنه على نفسه ، فدفعا إليه الكتاب وجهدا به في الرجوع فقال : « إنّي رأيت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في المنام وأمرني بما أنا ماض له » .
قالا : فما تلك الرؤيا ؟ فقال : « ما حدّثت بها أحداً ولا اُحدّث أحداً حتّى ألقى ربّي عزّ وجل » ، فلمّا يئس عبد الله بن جعفر منه أمر ابنيه عوناً ومحمداً بلزومه والمسير معه والجهاد دونه ، ورجع هو ويحيى بن سعيد إلى مكّة ، وتوجّه الحسين ( عليه السلام ) نحو العراق ، ولمّا بلغ عبيد الله بن زياد إقبال الحسين ( عليه السلام ) إلى الكوفة بعث الحصين بن نمير صاحب شرطته حتّى نزل القادسيّة ، ولمّا بلغ الحسين ( عليه السلام ) بطن الرملة بعث عبدالله ابن يقطر ـ وهوأخوه من الرضاعة ـ وقيل : بل بعث قيس بن مسهر الصيداوي إلى أهل الكوفة ، ولم يكن علم بخبر مسلم ، وكتب معه إليهم كتاباً يخبرهم فيه بقدومه ، ويأمرهم بالانكماش
(1) في الأمر .
فأخذه الحصين بن نمير وبعث به إلى عبيد الله بن زياد ، فقال له عبيد الله بن زياد : إصعد وسبّ الكذّاب الحسين بن عليّ ، فصعد وحمد الله وأثنى عليه وقال : أيّها الناس ، هذا الحسين بن عليّ خير خلق الله ، ابن فاطمة بنت رسول الله ( صلّى الله عليه واله وسلّم ) ، وأنا رسوله إليكم فأجيبوه ، ثمّ لعن ابن زياد ، فأمر به فرمي من فوق القصر ، فوقع على الأرض وانكسرت عظامه ، وأتاه رجل فذبحه وقال : أردت أن اُريحه ! !
---------------------------
(1) الانكماش : الاسراع . « انظر : الصحاح ـ كمش ـ 3 : 1018 » .
اِعـــــلامُ الــــوَرى بأعـلام الـهـُـدى
_ 300 _
فلمّا بلغ الحسين ( صلوات الله عليه ) قتل رسوله استعبر ، ولمّا بلغ الثعلبيّة ونزل أتاه خبر قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة فقال : « إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، رحمة الله عليهما » يردّد ذلك مراراً ، وقيل له : ننشدك الله يا ابن رسول الله لما انصرفت من مكانك هذا ، فإنّه ليس لك بالكوفة ناصرٌ ولا شيعة ، بل نتخوّف أن يكونوا عليك ، فنظر إلى بني عقيل فقال : « ما ترون ؟ » فقالوا : والله لا نرجع حتّى نصيب ثارنا أو نذوق ما ذاق ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : « لا خير في العيش بعد هؤلاء » .
ثمّ أخرج إلى الناس كتاباً فيه : « أمّا بعد : فقد أتانا خبر فظيع ، قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وعبد الله بن يقطر ، وقد خذلنا شيعتنا ، فمن أحبّ منكم الانصراف فلينصرف في غير حرجِ ، فليس عليه ذمام » ، فتفرّق الناس عنه وأخذوا يميناً وشمالاً حتّى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه ونفر يسير ممّن انضمّوا إليه ، وإنّما فعل ( عليه السلام ) ذلك لأنّه علم أنّ الأعراب الذين اتّبعوه يظنّون أنّه يأتي بلداً قد استقام عليه ، فكره أن يسيروا معه إلاّ وهم يعلمون على ما يقدمون .
ثمّ سار ( عليه السلام ) حتّى مرّ ببطن العقبة ، فنزل فيها فلقيه شيخ من بني عكرمة يقال له : عمرو بن لوذان فقال : أنشدك الله يا ابن رسول الله لمّا انصرفت ، فوالله ما تقدم إلاّ على الأسنّة وحدّ السيوف ، وإنّ هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤونة القتال ووطّؤوا لك الأسياف فقدمت عليهم كان ذلك رأياً ، فقال : « يا عبد الله ، لا يخفى عليّ الرأي ولكنّ الله تعالى لا يغلب على أمره » ثمّ قال ( عليه السلام ) : « والله لا يَدَعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي ، فإذا فعلوا ذلك سلّط الله عليهم من يذلّهم حتّى يكونوا أذلّ فرق الاُمم » .
ثمّ سار ( عليه السلام ) من بطن العقبة وأمر فتيانه أن يستقوا الماء ويكثروا ، ثم سار حتّى انتصف النهار ، فبينا هو يسير إذ كبّر رجل من أصحابه فقال ( عليه السلام ) : « الله أكبر لم كبّرت ؟ » قال : رأيت النخل ، فقال له جماعة من أصحابه : والله إنّ هذا المكان ما رأينا به نخلة قطّ ، قال : « فما ترونه ؟ » قالوا : نراه والله آذان الخيل ، قال : « أنا والله أرى ذلك » .