افتراضات وهمية حول تاريخ الشيعة
  افتراضات وهمية
  لقد تقدم الحديث منا في الصفحات السابقة حول ما يمكن تسميته بنشأة التشيع ، و التي تبين لنا بوضوح أنه لا فصل هنا بين النشأتين ، تأريخ نشأة الإسلام ، و نشأة التشيع ، و أنهما وجهان لعملة واحدة ، إلا أن هناك جماعة من المؤرخين و كتاب المقالات ممن قادهم الوهم و سوء الفهم إلى اعتبار التشيع أمر حادث و طارى‏ء على المجتمع الإسلامي ، فأخذوا يفتشون عن مبدئه و مصدره ، و أشد تلك الظنون عدوانية فيه ما تلوكه أشداق بعض المتقدمين و المتأخرين ، هو كونه وليد عبد الله بن سبأ ذلك الرجل اليهودي ، الذي ـ بزعمهم ـ طاف الشرق و الغرب ، و أفسد الأمور على الخلفاء و المسلمين ، و ألب الصحابة و التابعين على عثمان فقتل في عقر داره ، ثم دعا إلى علي (عليه السلام )بالإمامة و الوصاية ، و إلى النبي بالرجعة ، و كون مذهبا باسم الشيعة ، فهو كما يتصور هؤلاء و صوروه لغيرهم صنيع ذلك الرجل اليهودي المتظاهر بالإسلام.و بما أن لهذا الموضوع أهمية خاصة لما احتلته من المساحة الواسعة في أذهان العديد من السذج و السطحيين ، فإنا لا نكتفي ببيان توهم واحد بل نأتي على ذكر كل تلك الإدعاءات واحدة بعد الأخرى ، مع رعاية التسلسل الزمني.

الافتراض الأول : الشيعة و يوم السقيفة
  ليس بخاف على أحد مدى الانعطافة الخطيرة التي حدثت في تاريخ الإسلام عقب انتهاء مؤتمر سقيفة بني ساعدة ، و ما ترتب عليه من جملة من النتائج و القرارات الخطيرة.
  و الحق يقال ان هذا المؤتمر الذي ضم بين صفوفة ثلة كبيرة من وجوه الصحابةـمن المهاجرين و الأنصار ـ قد أغفل عند انعقاده الواجب الأعظم في إكرام رسول الله ـ صلى الله عليه و آله ـ صاحب الفضل الأكبر فيما وصل إليه الجميع ـ عند ما ترك مسجى بين يدي أهل بيته و انشغلوا بما كان من غير الإنصاف أن ينسب إليه ( صلى الله عليه و آله وسلم ) من قصور لا عذر فيه في ترك الأمة حائرة به بعد موته.

الشيعة في موكب التاريخ _ 27 _

  أقول : و نتيجة لانشغالهم ذاك فقد حرموا من واجب إكرام الرسول ( صلى الله عليه و آله وسلم ) جله ، ففاتهم أعظمه ، و قصروا في تأديته ، و كان لأهل بيته وحدهم ذلك الدور كله ، فأوفوه ، و لم يألوا في ذلك جهدا ، و إذا كان المؤتمرون في السقيفة قد خرجوا إلى الملأ بقرار كان ثمرة مخاض عسير و اعتراك صعب ، فإنه أوضح و بلا أدنى ريب تبعثر الآراء و اختلافها ، بل و ظروف خطرة كان من الممكن أن تؤدي بالجهد العظيم الذي بذله رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم ) و من معه من المؤمنين في إرساء دعائم هذا الدين و تثبيت أركانه ، و أوضحتـو ذاك لا خفاء عليه ـ إن من غير المنطقي لرسول الله( صلى الله عليه و آله وسلم ) أن يرحل ـ مع أنه لم يفاجأه الموتـدون أن يدرك هذه الحقيقة التي ليس هو ببعيد عنها ، و لا يمكن أن يتغاضى عنها ، و هو الذي ما خرج في أمر جسيم إلا و خلف عنه من ينوبه في إدارة شؤون الأمة في فترة غيابه التي لا يلبث أن يعود منها بعد أيام معدودات ، فكيف بالرحيل الأبدي !
  نعم إن هذا الأمر لا بد و إن يستوقف كل ذي لب و عقل مستنير.
  كما أن الاستقراء المتأني لأحداث السقيفة قد أوضحت و بقوة في أثناء المؤتمر و بعده وجود تيار قوي و متماسك تبنته جملة من وجوه الصحابة و متقدميها ، و عمدت إلى التذكير بوجوده و الاجهار به ، و لو قادهم هذا الأمر إلى الاقتتال دون تنفيذه ، و ذاك الأمر هو الاصرار على إيكال أمر الخلافة إلى علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) دون غيره ، رغم ابتعاده ( عليه السلام ) عن ساحة الاعتراك و ميدان التنازع في تلك السقيفة.
  و لعل تمسك هذه الثلة من الصحابة بموقفها من بيعة الإمام دون غيره هو ما دفع بعض المؤرخين إلى الذهاب بأن التشيع كان وليد هذا المؤتمر و نتاج مخاضه ، و إن يليهم آخرون يتعبدون بهذا الرأي و يرتبون من خلاله تصوراتهم و أفكارهم ، فيتشعب ذلك إلى جملة واسعة من المتبنيات غيرالواقعية و القائمة على أرض واسعة من الأوهام و الاسترسال غير المنطقي.
  و لعل هذا التصورات تعتمد في فهمها أساسا لمبدأ نشأة التشيع على ما سبق أن رواه الطبري و غيره عن مجريات هذا المؤتمر و ما ترتب عليه من نتائج ، دون ان تمد بصرها إلى أبعد من هذه النقطة اللامعة التي أعمتهم عن التأمل في أبعادها ، قال الطبري : اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ليبايعوا سعد بن عبادة ، فبلغ ذلك أبا بكر فأتاهم و معه عمر و أبو عبيدة بن الجراح ، فقال : ما هذا ؟ فقالوا : منا أمير و منكم أمير ، فقال أبو بكر : منا الأمراء و منكم الوزراء ـ إلى أن قال : ـفبايعه عمر و بايعه الناس ، فقالت الأنصار ـ أو بعض الأنصار ـ : لا نبايع إلا عليا .
  ثم قال (أي الطبري) : أتى عمر بن الخطاب منزل علي و فيه طلحة و الزبير و رجال من المهاجرين ، فقال : و الله لأحرقن عليكم أو لتخرجن إلى البيعة.

الشيعة في موكب التاريخ _ 28 _

  فخرج عليه الزبير مصلتا بالسيف فعثر ، فسقط السيف من يده ، فوثبوا عليه فأخذوه.
  و قال أيضا : و تخلف علي و الزبير ، و اخترط الزبير سيفه و قال : لا أغمده حتى يبايع علي (عليه السلام ) .فبلغ ذلك أبا بكر و عمر فقالا : خذوا سيف الزبير (1) .
  و قال اليعقوبي في تاريخه : و مالوا مع علي بن أبي طالب ، منهم : العباس بن عبد المطلب ، و الفضل بن العباس ، و الزبير بن العوام بن‏العاص ، و خالد بن سعيد ، و المقداد بن عمرو ، و سلمان الفارسي ، و أبو ذر الغفاري ، و عمار بن ياسر ، و البراء بن عازب ، و أبي بن كعب (2) .
  و روى الزبير بن بكار في الموفقيات : ان عامة المهاجرين و جل الأنصار كانوا لا يشكون أن عليا هو صاحب الأمر.
  و روى الجوهري في كتاب السقيفة : ان سلمان و الزبير و بعض الأنصار كان هواهم ان يبايعوا عليا.   و روي أيضا : انه لما بويع أبو بكر و استقر أمره ، ندم قوم كثير من الأنصار على بيعته ، و لام بعضهم بعضا ، و هتفوا باسم الإمام علي (عليه السلام ) ، و لكنه لم يوافقهم (3) .
  و روى ابن قتيبة في الإمامة و السياسة (12) : كان أبو ذر وقت أخذ البيعة غائبا[ عن هذه الأحداث‏] فلما جاء قال : أصبتم قناعة ، و تركتم قرابة ، لو جعلتم الأمر في أهل بيت نبيكم لما اختلف عليكم الأثنان.
  و قال سلمان : أصبتم ذا السن ، و أخطأتم المعدن ، أما لو جعلتموه فيهم ما اختلف منكم إثنان ، و لأكلتموها رغدا.
  و هكذا فمن خلال هذه النصوص المتقدمة و غيرها اعتقد ذاك البعض ـ الذي أشرنا إليه سابقا ـ إن مبتدأ التشيع و نشأته كان في تلك اللحظات الحرجة في تأريخ الإسلام ، متناسين ان ما أعتمدوه في بناء تصوراتهم هو ما ينقضها و يثبت بطلانها ، فإن المتأمل في هذه النصوص‏يظهر له و بوضوح أن فكرة التشيع لعلي ليست وليدة هذا الظرف المعقد ، و ثمرة اعتلاجه ، و نقيض تصوره ، بقدر ما تؤكد على أن هذه الفكرة كانت مختمرة في أذهانهم و مذكورة في عقولهم و لسنين طوال ، فلما رأت هذه الجماعة انصراف الأمر إلى جهة لم تكن في حساباتهم و لا في حدود تصوراتهم ، و انحساره عما كان معهودا به إليهم ، عمدوا إلى التمسك به بالاجتماع في بيت علي (عليه السلام ) و الإعلان صراحة عن موقفهم و معتقدهم.

---------------------------
(1) تاريخ الطبري 2/443ـ .444
(2) تاريخ اليعقوبي 2/103 طبع النجف.
(3) انظر ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة 6/43ـ .44

الشيعة في موكب التاريخ _29 _

  نعم إن من غير المتوقع و المعهود أن يجتمع رأي هذه الجماعة ـ التي تؤلف خلاصة غنية من متقدمي الصحابةـعلى هذا الأمر في تلك اللحظات المضطربة و المليئة بالمفاجئات ، و أن يترتب عليه موقفا موحدا ثابتا ، فهذا الأمر يدل بوضوح على أنه ما كان وليد يومه و نتاج مخاضه .
  و مما يؤكد ذلك و يقوي أركانه ما نقلته جميع مصادر الحديث المختلفة من نداءات رسول الله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) و توصياته بحق علي و عترته و شيعته في أكثر من مناسبة و مكان ، و ما كان يشير إليه ( صلى الله عليه و آله و سلم ) من فضل شيعة علي و مكانتهم ، و التأكيد على وجوب ملازمتهم ، و في هذا دلالة لا تقبل النقض على أن التشيع ما كان وليد السقيفة أو ردة رافضة آنية لمجريات أحداثها ، بل إن هذا الوجود يمتد عميقا مع نشأة الإسلام و اشتداد عوده في زمن النبي محمد ( صلى الله عليه و آله و سلم ) و حياته المباركة المقدسة.

الافتراض الثاني : التشيع صنيع عبد الله بن سبأ
  لنقرأ ما كتبه الطبري حول هذا الوهم المصطنع :
  قال : ( إن يهوديا باسم عبد الله بن سبأ المكنى بابن السوداء في ـ صنعاء ـ أظهر الإسلام في عصر عثمان و اندس بين المسلمين ، و أخذ يتنقل في حواضرهم و عواصم بلادهم : الشام ، و الكوفة ، و البصرة ، و مصر ، مبشرا بأن للنبي الأكرم رجعة كما أن لعيسى بن مريم رجعة ، و أن عليا هو وصي محمد ( صلى الله عليه و آله و سلم ) كما كان لكل نبي وصي ، و أن عليا (عليه السلام ) خاتم الأوصياء كما أن محمدا خاتم الأنبياء ، و أن عثمان غاصب حق هذا الوصي و ظالمه ، فيجب مناهضته لإرجاع الحق إلى أهله).
  ( إن عبد الله بن سبأ بث في البلاد الإسلامية دعاته ، و أشار عليهم أن يظهروا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، و الطعن في الامراء ، فمال إليه و تبعه على ذلك جماعات من المسلمين ، فيهم الصحابي الكبير و التابعي الصالح‏من أمثال أبي ذر ، و عمار بن ياسر ، و محمد بن حذيفة ، و عبد الرحمان بن عديس ، و محمد بن أبي بكر ، و صعصعة بن صوحان العبدي ، و مالك الأشتر ، إلى غيرهم من أبرار المسلمين و أخيارهم ، فكانت السبأية تثير الناس على ولاتهم ، تنفيذا لخطة زعيمها ، و تضع كتبا في عيوب الأمراء و ترسل إلى غير مصرهم من الأمصار ، فنتج عن ذلك قيام جماعات من المسلمين ـ بتحريض السبأيين ـ و قدومهم إلى المدينة و حصرهم عثمان في داره ، حتى قتل فيها ، كل ذلك كان بقيادة السبأيين و مباشرتهم ).

الشيعة في موكب التاريخ _30 _

  ( إن المسلمين بعد ما بايعوا عليا ، و نكث طلحة و الزبير بيعته و خرجا إلى البصرة ، رأى السبأيون أن رؤساء الجيشين أخذوا يتفاهمون ، و أنه إن تم ذلك سيؤخذون بدم عثمان ، فاجتمعوا ليلا و قرروا أن يندسوا بين الجيشين و يثيروا الحرب بكرة دون علم غيرهم ، و انهم استطاعوا أن ينفذوا هذا القرار الخطير في غلس الليل قبل أن ينتبه الجيشان المتقاتلان ، فناوش المندسون من السياسيين في جيش علي من كان بازائهم من جيش البصرة ، ففزع الجيشان و فزع رؤسائهما ، و ظن كل بخصمه شرا ، ثم إن حرب البصرة وقعت بهذا الطريق ، دون أن يكون لرؤساء الجيشين رأي أو علم).
  و روى الطبري عن هذا الوهم في موضع آخر من كتابه :
  ( فيما كتب به إلى السري ، عن شعيب ، عن سيف ، عن عطية ، عن يزيد الفقعسي ، قال : كان عبد الله بن سبأ يهوديا من أهل صنعاء أمه سوداء ، فأسلم زمان عثمان ، ثم تنقل في بلدات المسلمين يحاول أضلالهم ، فبدأ بالحجاز ، ثم البصرة ، ثم الكوفة ، ثم الشام ، فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشام ، فأخرجوه حتى أتى مصر فاعتمر فيهم ، فقال لهم فيما يقول : العجب فيمن يزعم أن عيسى يرجع و يكذب بأن محمدا يرجع ، و قد قال الله عز و جل : إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد (1) ، فمحمد أحق بالرجوع من عيسى.قال : فقبل ذلك عنه ، و وضع لهم الرجعة فتكلموا فيها ، ثم قال لهم بعد ذلك :
  إنه كان ألف نبي ، و لكل نبي وصي ، و كان علي وصي محمد ، ثم قال : محمد خاتم الأنبياء و علي خاتم الأوصياء ، ثم قال بعد ذلك : من أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) و وثب علي (عليه السلام ) وصي رسول الله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) و تناول أمر الأمة ، ثم قال لهم بعد ذلك : إن عثمان أخذها بغير حق و هذا وصي رسول الله( صلى الله عليه و آله و سلم ) فانهضوا في هذا الأمر فحركوه ، و ابدأوا بالطعن على امرائكم ، و أظهروا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر تستميلوا الناس ، و ادعوهم إلى هذا الأمر ، فبث دعاته ، و كاتب من كان استفسد في الأمصار و كاتبوه ، و دعوا في السر إلى ما عليه رأيهم ، و أظهروا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، و جعلوا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعونها في عيوب ولاتهم ، و يكاتبهم اخوانهم بمثل ذلك ، و يكتب أهل كل مصر منهم إلى مصر آخر بما يصنعون ، فيقرأه أولئك في أمصارهم ، و هؤلاء في أمصارهم ، حتى تناولوا بذلك المدينة و أوسعوا الأرض إذاعة ، و هم يريدون غير ما يظهرون ، و يسرون غير ما يبدون ... إلى آخر ما يذكره الطبري في المقام)حتى يتوقف عن إيراد هذه الأحداث بعد حرب الجمل و لا يأتي بعد ذلك بشي‏ء عن السبأية. (2) .
  و هكذا فقد تبين لك مما أوردناه عن الطبري إن جلة من فضلاءالصحابة قد عدوا من كبار السبأية و قادتها ، و هم الذين كانوا يعرفون بالزهد و التقى و الصدق و الصفا ، فأما عبد الرحمان بن عديس البلوي : فهو ممن بايع النبي تحت الشجرة و شهد فتح مصر ، و كان رئيسا على من سار إلى عثمان من مصر (3) .
  و أما محمد بن أبي بكر : فأمه أسماء بنت عميس الخثعمية ، تزوجها أبو بكر بعد استشهاد جعفر بن أبي طالب فولدت له محمدا في حجة الوداع بطريق مكة ، ثم نشأ في حجر علي بعد أبيه ، و شهد معه حرب الجمل ، كما شهد صفين ، ثم ولي مصر عن علي إلى أن قتل فيها بهجوم عمرو بن العاص عليها (4) .

---------------------------
(1) القصص/ .85
(2) الطبري 3/ .378
(3) أسد الغابة 3/309 قال : و شهد بيعة الرضوان و بايع فيها و كان أمير الجيش القادمين من مصر لحصر عثمان بن عفانـرضي الله عنهـلما قتلوه روى عنه جماعة من التابعين بمصر.
(4) كان أحد من توثب على عثمان حتى قتل ثم انضم إلى علي : أسد الغابة 4/324 ، و الاستيعاب 3/328 و الجرح و التعديل 7/ .301

الشيعة في موكب التاريخ _31 _

  و أما صعصعة بن صوحان العبدي : فقد أسلم على عهد رسول الله و كان خطيبا مفوها ، شهد صفين مع علي ، و لما استشهد علي و استولى معاوية على العراق نفاه إلى البحرين و مات فيها (1) .
  و أما الأشتر : فهو مالك بن الحرث النخعي ، و هو من ثقات التابعين ، شهد وقعة اليرموك ، و صحب عليا في الجمل و صفين ، ولاه على مصر سنة (38 ه) و لما وصل إلى القلزم دس إليه معاوية السم بواسطة أحد عملائه فتوفي مسموما (2) .
  هذا هو الذي ذكره الطبري ، و قد أخذه من جاء بعده من المؤرخين و كتاب المقالات حقيقة راهنة ، و بنوا عليه ما بنوا من الأفكار و الآراء ، فصارت الشيعة وليدة السبأية في زعم هؤلاء عبر القرون و الأجيال ، و من الذين وقعوا في هذا الخطأ الفاحش دون فحص و تأمل في حقائق الامور :
  1 ـ ابن الأثير (ت 630 ه) ، فقد أورد القصة منبثة بين حوادث (30ـ36 ه) و هو و إن لم يذكر المصدر في المقام ، لكنه يصدر عن تاريخ الطبري في حوادث القرون الثلاث الاول (3) .
  2 ـ ابن كثير الشامي (ت 774 ه) فقد ذكر القصة في تاريخه ( البداية و النهاية)و أسندها عند ما انتهى من سرد واقعة الجمل إلى تاريخ الطبري ، و قال : هذا ملخص ما ذكره أبو جعفر بن جرير (4) .
  3 ـ ابن خلدون (ت 808 ه) ، في تاريخه( المبتدأ و الخبر ) أورد القصة في حادثة الدار و الجمل و قال : هذا أمر الجمل ملخصا من كتاب أبي جعفرالطبري (5) .
  و أما من جاء بعد أولئك المؤرخين و أخذوا ما أورده السابقون مأخذ التسليم فنذكر منهم :
  4 ـ محمد رشيد رضا ، منشى‏ء مجلة المنار (ت 1354 ه) ، ذكره في كتابه( السنة و الشيعة) و قال : و كان مبتدع اصوله (أي التشيع) يهودي اسمه عبد الله بن سبأ ، أظهر الإسلام خداعا ، و دعا إلى الغلو في علي كرم الله وجهه ، لأجل تفريق هذه الأمة ، و افساد دينها و دنياها عليها ، ثم سرد القصة و قال : و من راجع أخبار واقعة الجمل في تاريخ ابن الأثير مثلا يرى مبلغ تأثير افساد السبأيين دون ما كاد يقع من الصلح (6) .

---------------------------
(1) أسد الغابة 3/320 قال : تقدم نسبه في أخيه زيد و كان صعصعة مسلما على عهد رسول الله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) و لم يره و صغر عن ذلك و كان سيدا من سادات قومه عبد القيس و كان فصبحا بليغا لسنا دينا فاضلا يعد في أصحاب علي (عليه السلام ) و شهد معه حروبه.
(2) ملك العرب ، أحد الأشراف و الأبطال : الطبقات الكبرى 6/213 ، الإصابة 3/459 سير أعلام النبلاء 4/ .34
(3) لا حظ مقدمة تاريخ الكامل يقول فيه : فابتدأت بالتاريخ الكبير الذي صنفه الإمام أبو جعفر الطبري إذ هو الكتاب المعول عند الكافة عليه و المرجوع عند الاختلاف إليه فأخذت ما فيه جميع تراجمه ، لم اخل بترجمة واحدة منها.لا حظ 1/3 طبع دار صادر.
(4) البداية و النهاية 7/246 طبع دار الفكر بيروت.
(5) تاريخ ابن خلدون يقول : ( و بعث(عثمان)إلى الأمصار من يأتيه بصحيح الخبر : محمد ابن مسلمة إلى الكوفة ، و أسامة بن زيد إلى البصرة ، و عبد الله بن عمر إلى الشام و عمار ابن ياسر إلى مصر و غيرهم إلى سوى هذه ، فرجعوا إليه فقالوا : ما أنكرنا شيئا و لا أنكره أعيان المسلمين و لا عوامهم إلا عمارا فإنه استماله قوم من الأشرار انقطعوا إليه ، منهم عبد الله بن سبأ و يعرف بابن السوداء كان يهوديا و هاجر أيام عثمان فلم يحسن إسلامه و أخرج من البصرة ... تاريخ ابن خلدون أو كتاب العبر 2/139 ، و قال 166 : هذا أمر الجمل ملخص من كتاب أبي جعفر الطبري اعتمدناه للوثوق به و لسلامته من الأهواء.
(6) السنة و الشيعة 4ـ6ـ54ـ49ـ .103

الشيعة في موكب التاريخ _32 _

  5 ـ أحمد أمين (ت 1372 ه) ، و هو الذي استبطل عبد الله بن سبأ في كتابه( فجر الإسلام)و قال : إن ابن السوداء كان يهوديا من صنعاء ، أظهر الإسلام في عهد عثمان ، و حاول أن يفسد على المسلمين دينهم ، و بث في البلاد عقائدا كثيرة ضارة ، و قد طاف في بلاد كثيرة ، في الحجاز ، و البصرة ، و الكوفة ، و الشام ، و مصر.ثم ذكر أن أبا ذر تلقى فكرة الاشتراكية من ذلك اليهودي ، و هو تلقى هذه الفكرة من مزدكيي العراق أو اليمن.
  و قد كان لكتاب ( فجر الإسلام) عام انتشاره (1952 م) دوي واسع النطاق في الأوساط الإسلامية ، فإنه أول من ألقى الحجر في المياه الراكدة بشكل واسع ، و قد رد عليه أعلام العصر بأنواع الردود ، فألف الشيخ المصلح كاشف الغطاء( أصل الشيعة و اصولها)ردا عليه ، كما رد عليه العلامة الشيخ عبد الله السبيتي بكتاب أسماه( تحت راية الحق).
  6 ـ فريد وجدي مؤلف دائرة المعارف (ت 1370 ه) فقد أشار إلى ذلك في كتابه عند ذكره لحرب الجمل ضمن ترجمة الإمام علي بن أبي طالب (1) .
  7 ـ حسن إبراهيم حسن ، و ذكره في كتابه ( تاريخ الإسلام السياسي) في اخريات خلافة عثمان بقوله : ( فكان هذا الجو ملائما تمام الملائمة و مهيئا لقبول دعوة (عبد الله بن سبأ) و من لف لفه و التأثر بها إلى أبعد حد ـ و أضافـو قد أذكى نيران هذه الثورة صحابي قديم أشتهر بالورع و التقوىـو كان من كبار أئمة الحديثـو هو أبو ذر الغفاري الذي تحدى سياسة عثمان و معاوية و اليه على الشام بتحريض رجل من أهل صنعاء و هو عبد الله ابن سبأ ، و كان يهوديا فأسلم ، ثم أخذ ينتقل في البلاد الإسلامية ، فبدأ بالحجاز ، ثم البصرة فالكوفة و الشام و مصر ... الخ (2) .
  هذا حال من كتب عن الشيعة من المسلمين ، و أما المستشرقون‏المتطفلون على موائد المسلمين فحدث عنهم و لا حرج ، فقد ابتغوا تلك الفكرة الخاطئة في كتبهم الاستشراقية التي تؤلف لغايات خاصة ، فمن أراد الوقوف على كلماتهم فليرجع إلى ما ألفه الباحث الكبير السيد مرتضى العسكري في ذلك المجال ، فإنهـدام ظله ـ حقق المقال و لم يبق في القوس منزعا (3) .

---------------------------
(1) دائرة المعارف 6/ .637
(2) تاريخ الإسلام السياسي .347
(3) ع16د الله بن سبأ 1/46ـ .50

الشيعة في موكب التاريخ _ 33 _


نظر المحققين في الموضوع :
  1 ـ إن ما جاء في تاريخ الطبري من القصة ، على وجه لا يصح نسبته إلا إلى عفاريت الأساطير و مردة الجن ، إذ كيف يصح لانسان أن يصدق أن يهوديا جاء من صنعاء و أسلم في عصر عثمان ، و استطاع أن يغري كبار الصحابة و التابعين و يخدعهم ، و يطوف بين البلاد ناشرا دعواه ، بل و استطاع أن يكون خلايا ضد عثمان و يستقدمهم على المدينة و يؤلبهم على الخلافة الإسلامية ، فيها جموا داره و يقتلوه ، بمرأى و مسمع من الصحابة العدول و من تبعهم باحسان ، هذا شي‏ء لا يحتمله العقل و إن وطن على قبول العجائب و الغرائب.
  بل إن هذه القصة تمس كرامة المسلمين و الصحابة و التابعين و تصورهم أمة ساذجة يغترون بفكر يهودي ، و فيهم السادة و القادة و العلماء و المفكرون.
  2 ـ إن القراءة الموضوعية للسيرة و التاريخ توقفنا على سيرة عثمان بن عفان و معاوية بن أبي سفيان ، فإنهما كانا يعاقبان المعارضين لهم ، و ينفون‏المخالفين و يضربونهم ، فهذا أبو ذر الغفاري ـ رحمه الله ـ نفاه عثمان من المدينة إلى الربذة لاعتراضه عليه في تقسيم الفي‏ء و بيت المال بين أبناء بيته ، كما أنه ضرب الصحابي الجليل عمار بن ياسر حتى انفتق له فتق في بطنه و كسروا ضلعا من أضلاعه (1) ، إلى غير ذلك من مواقفهم من مخالفيهم و معارضيهم التي يقف عليها المتتبع ، و مع ذلك نرى في الأوهام التي عرضناها مسبقا أن رجال الخلافة و عمالها يغضون الطرف عمن يؤلب الصحابة و التابعين على أخماد حكمهم ، و قتل خليفتهم في عقر داره ، و يجر الويل و الويلات على كيانهم ! ! و هذا شي‏ء لا يقبله من له أدنى إلمام بتاريخ الخلافة و سيرة معاوية.
  يقول العلامة الأميني : لو كان ابن سبأ بلغ هذا المبلغ من إلقاح الفتن ، و شق عصا المسلمين ، و قد علم به و بعبثه أمراء الأمة و ساستها في البلاد ، و انتهى أمره إلى خليفة الوقت ، فلماذا لم يقع عليه الطلب ؟ و لم يبلغه القبض عليه ، و الأخذ بتلكم الجنايات الخطرة و التأديب بالضرب و الاهانة ، و الزج إلى أعماق السجون ؟ و لا آل أمره إلى الاعدام المريح للأمة من شره و فساده كما وقع ذلك كله على الصلحاء الأبرار الآمرين بالمعروف و الناهين عن المنكر ؟ و هتاف القرآن الكريم يرن في مسامع الملأ الديني : إنما جزاؤا الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا و لهم في الآخرة عذاب عظيم (2) فهلا اجتاح الخليفة جرثومة تلك القلاقل بقتله ؟ و هل كان تجهمه و غلظته قصرا على الأبرار من أمة محمد (صلى الله عليه و آله و سلم ) ففعل بهم ما فعل (3) .

---------------------------
(1) الاستيعاب 2/ .422
(2) المائدة/ .33
(3) الغدير 9/219ـ .220

الشيعة في موكب التاريخ _34 _

  و هناك لفيف من الكتاب ممن حضر أو غبر ، بدل أن يفتحوا عينوهم على الواقع المرير ، ليقفوا على الأسباب المؤدية إلى قتل الخليفة ، حاولوا التخلص من أوزار الحقيقة بالبحث عن فروض و همية سببت قتل الخليفة و أودت به.
  و في حق هؤلاء يقول أحد الكتاب المعاصرين :
  ( و في الشرق كتاب لا يعنيهم من التاريخ واقع و لا من الحياة حال أو ظرف ، فإذا بهم يعللون ثورة المظلومين على عثمان ، و يحصرون أحداث عصر بل عصور بإرادة فرد يطوف في الأمصار و الأقطار و يؤلب الناس على خليفة و دولة ! .
  إن النتيجة العملية لمثل هذا الزعم و هذا الافتراء هي أن الدولة في عهد عثمان و وزيره مروان إنما كانت دولة مثالية ، و أن الأمويين و الولاة و الأرستقراطيين إنما كانوا رسل العدالة الاجتماعية و الاخاء البشري في أرض العرب ، غير أن رجلا فردا هو عبد الله بن سبأ أفسد على الأمويين و الولاة و الأرستقراطيين صلاحهم و برهم ، إذ جعل يطوف الأمصار و الأقطار مؤلبا على عثمان و امرائه و ولاته الصالحين المصلحين ، و لو لا هذا الرجل الفرد و طوافه في الأمصار و الأقطار لعاش الناس في نعيم مروان و عدل الوليد و حلم معاوية عيشا هو الرغادة و هو الرخاء.
  و في مثل هذا الزعم افتراء على الواقع و اعتداء على الخلق ، و مسايرةضئيلة الشأن لبعض الآراء ، يلف ذلك جميعا منطق ساذج و حجة مصطنعة واهية ، و فيه ما هو أخطر من ذلك : فيه تضليل عن حقائق أساسية في بناء التاريخ ، إذ يحاول صاحب هذا المسعى الفاشل أن يحصر أحداث عصر بكامله ، بل عصور كثيرة ، بإرادة فرد يطوف في الأمصار و يؤلب الناس على دولة فيثور هؤلاء الناس على هذه الدولة لا لشي‏ء إلا لأن هذا الفرد طاف بهم و أثارهم ! .
  أما طبيعة الحكم ، و سياسة الحاكم ، و فساد النظام الاقتصادي و المالي و العمراني ، و طغيان الأثرة على ذوي السلطان ، و استبداد الولاة بالأرزاق ، و حمل بني أمية على الأعناق ، و الميل عن السياسة الشعبية الديمقراطية إلى سياسة عائلية أرستقراطية رأسمالية ، و إذلال من يضمر لهم الشعب التقدير و الاحترام الكثيرين أمثال أبي ذر و عمار بن ياسر و غيرهما ، أما هذه الامور و ما إليها جميعا من ظروف الحياة الاجتماعية ، فليست بذات شأن في تحريك الأمصار و إثارتها على الاسرة الأموية الحاكمة و من هم في ركابها ، في هؤلاء ! بل الشأن كل الشأن في الثورة على عثمان لعبد الله بن سبأ الذي يلفت الناس عن طاعة الأئمة و يلقي بينهم الشر.

الشيعة في موكب التاريخ _ 35 _

  أليس من الخطر على التفكير أن ينشأ في الشرق من يعللون الحوادث العامة الكبرى المتصلة اتصالا وثيقا بطبيعة الجماعة و اسس الأنظمة الاقتصادية و الاجتماعية بارادة فرد من عامة الناس يطوف في البلاد باذرا للضلالات و الفساد في هذا المجتمع السليم.
  أليس من الخطر على التفكير أن نعلل الثورات الاصلاحية في التاريخ تعليلا صبيانيا نستند فيه إلى رغبات أفراد في التاريخ شاءوا أن‏يحدثوا شغبا فطافوا الأمصار و أحدثوه) (1) .
  3 ـ إن رواية الطبري نقلت عن أشخاص لا يصح الاحتجاج بهم :
  أـالسري : إن السري الذي يروي عنه الطبري ، إنما هو أحد رجلين :
  (1) السري بن إسماعيل الهمداني الذي كذبه يحيى بن سعيد ، و ضعفه غير واحد من الحفاظ (2) .
  (2) السري بن عاصم بن سهل الهمداني نزيل بغداد المتوفى عام (258 ه )و قد أدرك ابن جرير الطبري شطرا من حياته يربو على ثلاثين سنة ، كذبه ابن خراش ، و وهاه ابن عدي ، و قال : يسرق الحديث ، و زاد ابن حبان : و يرفع الموقوفات ، لا يحل الاحتجاج به ، و قال النقاش في حديث وضعه السري (3) .
  فالاسم مشترك بين كذابين لا يهمنا تعيين أحدهما.
  و احتمال كونه السري بن يحيى الثقة غير صحيح ، لأنه توفي عام(167 ه)مع أن الطبري من مواليد عام(234 ه)فالفرق بينهما(57)عاما ، فلا مناص أن يكون السري ، أحد الرجلين الكذابين.
  بـشعيب : و المراد منه شعيب بن إبراهيم الكوفي المجهول ، قال ابن عدي : ليس بالمعروف ، و قال الذهبي : رواية ، كتب سيف عنه : فيه‏جهالة (4) .

---------------------------
(1) الإمام علي صوت العدالة الإنسانية 4/894ـ896ـو للكلام صلة من أراد فليرجع إليه .
(2) قال يحيى القطان : استبان لي كذبه في مجلس واحد ، و قال النسائي : متروك ، و قال غيره : ليس بشي‏ء ، و قال أحمد : ترك الناس حديثه.لا حظ ميزان الاعتدال 2/ 117
(3) تاريخ الخطيب 993 ، ميزان الاعتدال 2/117 ، لسان الميزان 3/ 12 .
(4) ميزان الاعتدال 2/275 ، لسان الميزان 3/ 145 .

الشيعة في موكب التاريخ _ 36 _

  جـسيف بن عمر : قال ابن حبان : كان سيف بن عمر يروي الموضوعات عن الاثبات ، و قال : قالوا : إنه كان يضع الحديث و اتهم بالزندقة.و قال الحاكم : اتهم بالزندقة و هو في الرواية ساقط ، و قال ابن عدي : بعض أحاديثه مشهورة ، و عامتها منكرة لم يتابع عليها.و قال ابن عدي : عامة حديثه منكر.و قال البرقانيـعن الدار قطني ـ : متروك.و قال ابن معين : ضعيف الحديث فليس خير منه .و قال أبو حاتم : متروك الحديث يشبه حديثه حديث الواقدي ، و قال أبو داود : ليس بشي‏ء ، و قال النسائي : ضعيف ، و قال السيوطي : وضاع ، و ذكر حديثا من طريق السري بن يحيى عن شعيب بن إبراهيم عن سيف فقال : موضوع ، فيه ضعفاء أشدهم سيف (1) .
  د ـ فإذا كان هذا حال السند ، فكيف نعتمد في تحليل تكون طائفة كبيرة من طوائف المسلمين تشكل خمسهم أو ربعهم على تلك الرواية ، مع أن هذا هو حال سندها و متنها ، فالاعتماد عليها خداع و ضلال لا يرتضيه العقل.
  4 ـ عبد الله بن سبأ ، أسطورة تاريخية :
  إن القرائن و الشواهد و الاختلاف الموجود في حق الرجل و مولده ، و زمن إسلامه ، و محتوى دعوته يشرف المحقق على القول بأن مثل عبد الله بن‏سبأ مثل مجنون بني عامر و بني هلال ، و أمثال هؤلاء الرجال و الأبطال كلها أحاديث خرافة وضعها القصاصون و أرباب السمر و المجنون ، فإن الترف و النعيم قد بلغ أقصاه في أواسط الدولتين : الأموية و العباسية ، و كلما اتسع العيش و توفرت دواعي اللهو اتسع المجال للوضع و راج سوق الخيال ، و جعلت القصص و الأمثال كي تأنس بها ربات الحجال ، و أبناء الترف و النعمة (2) .
  هذا هو الذي ذكره المصلح الكبير كاشف الغطاء ، و لعل ذلك أورث فكرة التحقيق بين أعلام العصر ، فذهبوا إلى أن عبد الله بن سبأ أقرب ما يكون إلى الأسطورة منه إلى الواقع ، و في المقام كلام للكاتب المصري الدكتور طه حسين ، يدعم كون الرجل أسطورة تاريخية عمد أعداء الشيعة إلى تضخيمها و تهويلها لاستغفال الناس نكاية بالشيعة و محاولة خبيثة لالقاء التفرقة و التباغض بين عموم المسلمين ، و لا بأس بالوقوف على كلامه حيث قال :
  و أكبر الظن أن عبد الله بن سبأ هذاـإن كان كل ما يروى عنه صحيحاـإنما قال و دعا إلى ما دعا إليه بعد أن كانت الفتنة ، و عظم الخلاف ، فهو قد استغل الفتنة ، و لم يثرها.

---------------------------
(1) ميزان الاعتدال 1/438 ، تهذيب التهذيب 4/295 ، اللئالي المصنوعة 1/157ـ199ـ 429 .
(2) أصل الشيعة و أصولها .73


الشيعة في موكب التاريخ _ 37 _

  إن خصوم الشيعة أيام الأمويين و العباسيين قد بالغوا في أمر عبد الله ابن سبأ هذا ليشككوا في بعض ما نسب من الأحداث إلى عثمان و ولاته من ناحية ، و ليشنعوا على علي و شيعته من ناحية أخرى ، فيردوا بعض أمور الشيعة إلى يهودي أسلم كيدا للمسلمين ، و ما أكثر ما شنع خصوم الشيعةعلى الشيعة.
  فلنقف من هذا كله موقف التحفظ و التحرج و الاحتياط ، و لنكبر المسلمين في صدر الإسلام عن أن يبعث بدينهم و سياستهم و عقولهم و دولتهم رجل أقبل من صنعاء ، و كان أبوه يهوديا و كانت أمه سوداء ، و كان هو يهوديا ثم أسلم ، لا رغبا و لا رهبا و لكن مكرا و كيدا و خداعا ، ثم اتيح له من النجح ما كان يبتغي ، فحرض المسلمين على خليفتهم حتى قتلوه ، و فرقهم بعد ذلك أو قبل ذلك شيعا و أحزابا.
  هذه كلها أمور لا تستقيم للعقل ، و لا تثبت للنقد ، و لا ينبغي أن تقام عليها امور التاريخ ، و إنما الشي‏ء الواضح الذي ليس فيه شك هو أن ظروف الحياة الإسلامية في ذلك الوقت كانت بطبعها تدفع إلى اختلاف الرأي ، و افتراق الأهواء ، و نشأة المذاهب السياسية المتباينة ، فالمستمسكون بنصوص القرآن و سنة النبي و سيرة صاحبيه كانوا يرون أمورا تطرأ ، ينكرونها و لا يعرفونها ، و يريدون أن تواجه كما كان عمر يواجهها في حزم و شدة و ضبط للنفس و ضبط للرعية ، و الشباب الناشئون في قريش و غير قريش من أحياء العرب كانوا يستقبلون هذه الأمور الجديدة بنفوس جديدة ، فيها الطمع ، و فيها الطموح ، و فيها الاثرة ، و فيها الأمل البعيد ، و فيها الهم الذي لا يعرف حدا يقف عنده ، و فيها من أجل هذا كله التنافس و التزاحم لا على المناصب و حدها بل عليها و على كل شي‏ء من حولها ، و هذه الامور الجديدة نفسها كانت خليقة أن تدفع الشيوخ و الشباب إلى ما دفعوا إليه ، فهذه أقطار واسعة من الأرض تفتح عليهم ، و هذه الأموال لا تحصى تجبى لهم من هذه الأقطار ، فأي غرابة في أن يتنافسوا في إدارة هذه الأقطار المفتوحة ، و الانتفاع‏بهذه الأموال المجموعة ؟ و هذه بلاد أخرى لم تفتح ، و كل شي‏ء يدعوهم إلى أن يفتحوها كما فتحوا غيرها ، فما لهم لا يستبقون إلى الفتح ؟ و ما لهم لا يتنافسون فيما يكسبه الفاتحون من المجد و الغنيمة إن كانوا من طلاب الدنيا ، و من الأجر و المثوبة إن كانوا من طلاب الآخرة ، ثم ما لهم جميعا لا يختلفون في سياسة هذا الملك الضخم و هذا الثراء العريض ؟ و أي غرابة في أن يندفع الطامحون الطامعون من شباب قريش من خلال هذه الأبواب التي فتحت لهم ليلجوا منها إلى المجد و السلطان و الثراء ؟ و أي غرابة في أن يهم بمنافستهم في ذلك شباب الأنصار و شباب الأحياء الأخرى من العرب ؟ و في أن تمتلى‏ء قلوبهم موجدة و حفيظة و غيظا إذا رأوا الخليفة يحول بينهم و بين هذه المنافسة ، و يؤثر قريشا بعظائم الامور ، و يؤثر بني أمية بأعظم هذه العظائم من الامور خطرا و أجلها شأنا.
  و الشي‏ء الذي ليس فيه شك هو أن عثمان قد ولى الوليد و سعيدا على الكوفة بعد أن عزل سعدا ، و ولى عبد الله بن عامر على البصرة بعد أن عزل أبا موسى ، و جمع الشام كلها لمعاوية ، و بسط سلطانه عليها إلى أبعد حد ممكن بعد أن كانت الشام ولايات تشارك في ادارتها قريش و غيرها من أحياء العرب ، و ولى عبد الله بن أبي سرح مصر بعد أن عزل عنها عمرو بن العاص ، و كل هؤلاء الولاة من ذوي قرابة عثمان ، منهم أخوة لأمه ، و منهم أخوة في الرضاعة ، و منهم خاله ، و منهم من يجتمع معه في نسبه الأدنى إلى أمية بن عبد شمس.

الشيعة في موكب التاريخ _ 38 _

  كل هذه حقائق لا سبيل إلى انكارها ، و ما نعلم أن ابن سبأ قد أغرى عثمان بتولية من ولى و عزل من عزل ، و قد أنكر الناس في جميع العصور على‏الملوك و القياصرة و الولاة و الأمراء إيثار ذوي قرابتهم بشؤون الحكم ، و ليس المسلمون الذين كانوا رعية لعثمان بدعا من الناس ، فهم قد أنكروا و عرفوا ما ينكر الناس و يعرفون في جميع العصور (1) .
  و هكذا نرى إن الموارد التي يستنتج منها كون ابن سبأ شخصية و همية خلقها خصوم الشيعة ترجع إلى الامور التالية :
  1 ـ إن المؤرخين الثقات لم يشيروا في مؤلفاتهم إلى قصة عبد الله بن سبأ ، كابن سعد في طبقاته ، و البلاذري في فتوحاته.
  2 ـ إن المصدر الوحيد عنه هو سيف بن عمر و هو رجل معلوم الكذب ، و مقطوع بأنه وضاع.
  3 ـ إن الامور التي نسبت إلى عبد الله بن سبأ ، تستلزم معجزات خارقة لا تتأتى لبشر ، كما تستلزم أن يكون المسلمون الذين خدعهم عبد الله ابن سبأ ، و سخرهم لمآربهـو هم ينفذون أهدافه بدون اعتراضـفي منتهى البلاهة و السخف.
  4 ـ عدم وجود تفسير مقنع لسكوت عثمان و عماله عنه ، مع ضربهم لغيره من المعارضين كمحمد بن أبي حذيفة ، و محمد بن أبي بكر ، و غيرهم.
  5 ـ قصة إحراق علي إياه و تعيين السنة التي عرض فيها ابن سبأ للاحراق تخلو منها كتب التاريخ الصحيحة ، و لا يوجد لها في هذه الكتب أثر.
  6 ـ عدم وجود أثر لابن سبأ و جماعته في وقعة صفين و في حرب النهروان ، و قد انتهى الدكتور بهذه الامور إلى القول : بأنه شخص ادخره خصوم الشيعة للشيعة و لا وجود له في الخارج (2) .
  و قد تبعه غير واحد من المستشرقين ، و قد نقل آراءهم الدكتور أحمد محمود صبحي في نظرية الإمامة (3) .

---------------------------
(1) الفتنة الكبرى 134 لا حظ الغدير أيضا 9/220ـ 221 .
(2) طه حسين : الفتنة الكبرى : فصل ابن سبأ ، و قد لخص ما ذكرنا من الامور من ذلك الفصل الدكتور الشيخ أحمد الوائلي في كتابه( هوية التشيع) 146 .
(3) نظرية الإمامة لأحمد محمود صبحي 37 .


الشيعة في موكب التاريخ _ 39 _

  إلى أن وصل الدور إلى المحقق البارع السيد مرتضى العسكري ـ دام ظله ـ فألف كتابه ( عبد الله بن سبأ) و درس الموضوع دارسة عميقة ، و هو الكتاب الذي يحلل التاريخ على أساس العلم ، و قد أدى المؤلف كما ذكر الشيخ محمد جواد مغنية : ( إلى الدين و العلم و بخاصة إلى مبدأ التشيع خدمة لا يعادلها أي عمل في هذا العصر ، الذي كثرت فيه التهجمات و الافتراءات على الشيعة و التشيع ، و أقفل الباب في وجوه السماسرة و الدساسين الذين يتشبثون بالطحلب لتمزيق وحدة المسلمين و اضعاف قوتهم (1) .
  و نحن و إن افترضنا ان لهذا الرجل وجود حقيقي على أرض الواقع إلا أن ذلك لا يعني الاقتناع بما نقل و روي عنه ، لأنه لا يعدو كونه سوى سراب و وهم و خداع لا ينطلي على أحد.يقول الدكتور أحمد محمود صبحي : و ليس ما يمنع أن يستغل يهودي الأحداث التي جرت في عهد عثمان ليحدث فتنةو ليزيدها اشتغالا ، و ليؤلب الناس على عثمان ، بل أن ينادي بأفكار غريبة ، و لكن السابق لأوانه أن يكون لابن سبأ هذا الأثر الفكري العميق ، فيحدث هذا الانشقاق العقائدي بين طائفة كبيرة من المسلمين (2) .
  و هكذا ، فإن ما يبدو واضح للعيان بطلان ما ذهب إليه بعض المنحرفين و المنخدعين من اعتبار أن نشأة التشيع عن هذا الطريق ، بل و يتضح الحق إنا إذا راجعنا كتب الشيعة نرى أن أئمتهم و علمائهم يتبرأون منه أشد التبرؤ.
  1 ـ قال الكشي ، و هو من علماء القرن الرابع : عبد الله بن سبأ كان يدعي النبوة و ان عليا هو الله فاستتابه ثلاثة أيام فلم يرجع ، فأحرقه بالنار في جملة سبعين رجلا (3) .
  2 ـ قال الشيخ الطوسي(385ـ460 ه)في رجاله في باب أصحاب أمير المؤمنين : عبد الله بن سبأ الذي رجع إلى الكفر و أظهر الغلو (4) .
  3 ـ و قال العلامة الحلي(648ـ726 ه) : غال ملعون ، حرقه أمير المؤمنين بالنار ، كان يزعم أن عليا إله و أنه نبي ، لعنه الله (5) .
  4 ـ و قال ابن داود(647ـ707 ه) : عبد الله بن سبأ رجع إلى الكفر و أظهر الغلو (6) .
  5 ـ و ذكر الشيخ حسن بن زين الدين(ت 1011 ه)في التحرير الطاووسي : غال ملعون حرقه أمير المؤمنينـعليه السلامـبالنار (7) .

---------------------------
(1) عبد الله بن سبأ 1/11 ، و الكتاب يقع في جزءين وصل فيهما إلى النتيجة التي تقدمت ، و قد استفدنا من هذا الكتاب في هذا الفصل.
(2) نظرية الإمامة 37 .
(3) رجال الكشي 98 برقم 48 .
(4) رجال الطوسي : باب أصحاب علي برقم 76/ 51 .
(5) الخلاصة للعلامة : القسم الثاني الباب الثاني : عبد الله 236 .
(6) رجال ابن داوود : القسم الثاني 254 برقم 278 .
(7) التحرير الطاووسي 173 برقم 234 .


الشيعة في موكب التاريخ _40 _

  و من أراد أن يقف على كلمات أئمة الشيعة في حق الرجل ، فعليه أن يرجع إلى رجال الكشي ، فقد روى في حقه روايات كلها ترجع إلى غلوه في حق علي ، و أما ما نقله عنه سيف بن عمر فليس منه أثر في تلك الروايات ، فأدنى ما يمكن التصديق به أن الرجل ظهر غاليا فقتل أو أحرق ، و القول بذلك لا يضر بشي‏ء ، و أما ما يذكره الطبري عن الطريق المتقدم فلا يليق أن يؤمن و يعتقد به من يملك أدنى إلمام
  بالتاريخ و السير.
  و أخيرا فقد تبين و بدون شك بطلان و فساد هذه النظرية المختلفة حول نشأة التشيع ، و التي لم تصمد أمام النقد و التمحيص ، بل و تحمل بذور سقوطها في ذاتها ، و في ذلك الدليل البين على أصالة مذهب التشيع و الذي أسلفنا القول بأصالة نشأته ، و انه وليد العقيدة الإسلامية الأصيلة و امتدادها الحقيقي ، و أما ما قام به ابن سبأـعلى فرض صحة وقوعهـفإنه يعبر عن موقف فردي و تصرف شخصي خارج عن إطار المذهب ، و من تبعه فقد أدخل نفسه دار البوار ، و أين هذا الافاق و زمرته من اولئك الذين لا يخالفون الله و رسوله و اولي الأمر و لا يتخلفون عن أوامرهم قيد أنملة ، كالمقداد و سلمان و حجر بن عدي و رشيد الهجري و مالك الأشتر و صعصعة و أخيه و عمر بن الحمق ، ممن يستدر بهم الغمام و تنزل بهم البركات.
  إلى هنا تم تحليل النظرية الثانية في تكون الشيعة فلننتقل إلى مناقشة النظرية الثالثة

الافتراض الثالث : التشيع فارسي المبدأ أو الصبغة
  و هناك فرضية ثلاثة اخترعها المستشرقون لتكون مذهب الشيعة في المجتمع الإسلامي ، و هذه الفرضية كسابقتيها تعتمد اعتبار حداثة هذا المذهب قصدا أم جهلا ، فقادها هذا التصور الخاطى‏ء إلى اعتماد نظرية تقول بفارسية المبدأ أو الصبغة لمذهب التشيع ، و هذا الترديد بين الأمرين مرجعه رأيين لأصحاب هذه النظرية في المقام :
  1 ـ إن التشيع من مخترعات الفرس ، اخترعوه لأغراض سياسية و لم يعتنقه أحد من العرب قبل الفرس ، و لكنهم لما أسلموا اخترعوا تلك الفكرة لغاية خاصة.
  2 ـ إن التشيع عربي المبدأ ، و إن لفيفا من العرب اعتنقوه قبل أن يدخل الفرس في الإسلام ، و لما أسلموا اعتنقوه و صبغوه صبغة فارسية لم تكن‏من قبل.
  و هذان الرأيان هما اللذان عبرنا عنهما في العنوان بما عرفت ، و إليك تفصيل أمرهما :

الشيعة في موكب التاريخ _ 41 _

  أما الأولى : فقد اخترعها المستشرق دوزي ، و ملخصه : أن للمذهب الشيعي نزعة فارسية ، لأن العرب كانت تدين بالحرية ، و الفرس تدين بالملك و الوراثة ، و لا يعرفون معنى الانتخاب ، و لما انتقل النبي إلى دار البقاء و لم يترك ولدا ، قالوا : علي أولى بالخلافة من بعده.
  و حاصله : ان الإنسجام الفكري بين الفرس و الشيعة ـ أعني كون الخلافة أمرا وراثياـدليل على أن التشيع وليد الفرس.
  و هذا التصور مردود لجملة واسعة من البديهيات ، منها :
  أولا : ان التشيع حسب ما عرفت ظهر في عصر النبي الأكرم و هو الذي سمى أتباع علي بالشيعة ، و كانوا متواجدين في عصر النبي و بعده ، إلى زمن لم يدخل أحد من الفرسـسوى سلمانـفي الإسلام .
  بلى فان رواد التشيع في عصر الرسول و الوصي كانوا كلهم عربا و لم يكن بينهم أي فارسي سوى سلمان المحمدي ، و كلهم كانوا يتبنون فكرة التشيع.
  و كان لأبي الحسن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ أيام خلافته ثلاثة حروب ، حرب الجمل ، و صفين ، و النهروان ، و كان جيشه كله عربا ينتمون إلى اصول و قبائل عربية مشهورة بين عدنانية و قحطانية ، فقد انضم إلى جيشه زرافات من قريش و الأوس و الخزرج ، و من قبائل مذحج ، و همدان ، و طي ، و كندة ، و تميم ، و مضر ، بل كان زعماء جيشه من رؤوس هذه القبائل كعمار بن ياسر ، و هاشم المرقال ، و مالك الأشتر ، و صعصعة بن صوحان و أخوه زيد ، و قيس بن سعد بن عبادة ، و عبد الله بن عباس ، و محمد ابن أبي بكر ، و حجر بن عدي ، و عدي بن حاتم ، و أضرابهم ، و بهذا الجند و بأولئك الزعماء فتح أمير المؤمنين البصرة ، و حارب القاسطين معاوية و جنوده يوم صفين ، و بهم قضى على المارقين.
  فأين الفرس في ذلك الجيش و أولئك القادة كي نحتمل أنهم كانوا الحجر الأساس للتشيع ، ثم ان الفرس لم يكونوا الوحيدين ممن اعتنقوا هذا المذهب دون غيرهم ، بل اعتنقه الأتراك و الهنود و غيرهم من غير العرب.
  شهادة المستشرقين على أن التشيع عربي المبدأ :
  إن لفيفا من المستشرقين و غيرهم صرحوا بأن العرب اعتنقت التشيع قبل الفرس و إليك نصوصهم :

الشيعة في موكب التاريخ _ 42 _

  1 ـ قال الدكتور أحمد أمين : الذي أرى كما يدلنا التاريخ أن التشيع لعلي بدأ قبل دخول الفرس إلى الإسلام و لكن بمعنى ساذج ، و لكن هذا التشيع أخذ صبغة جديدة بدخول العناصر الأخرى في الإسلام ، و حيث أن أكبر عنصر دخل في الإسلام الفرس فلهم أكبر الأثر في التشيع (1) .
  2 ـ و سيوافيك الكلام ما في ذيل كلامه من أن التشيع أخذ صبغة جديدة بعد فترة من حدوثه ، ـ و قال المستشرق فلهوزن : كان جميع سكان العراق في عهد معاوية خصوصا أهل الكوفة ـ شيعة ، و لم يقتصر هذا على الأفراد ، بل شمل القبائل و رؤساء العرب (2) .
  3 ـ و قال المستشرق جولد تسيهر : إن من الخطأ القول بأن التشيع في نشأته و مراحل نموه يمثل الأثر التعديلي الذي أحدثته أفكار الأمم الإيرانية في الإسلام بعد أن اعتنقته ، أو خضعت لسلطانه عن طريق الفتح و الدعاية ، و هذا الوهم الشائع مبني على سوء فهم الحوادث التاريخية ، فالحركة العلوية نشأت في أرض عربية بحتة (3) .
  4 ـ و أما المستشرق آدم متز فإنه قال : إن مذهب الشيعة ليس كما يعتقد البعض رد فعل من جانب الروح الإيرانية يخالف الإسلام ، فقد كانت جزيرة العرب شيعة كلها عدا المدن الكبرى مثل مكة و تهامة و صنعاء ، و كان للشيعة غلبة في بعض المدن أيضا مثل عمان ، و هجر ، و صعدة ، أما إيران فكانت كلها سنة ، ما عدا قم ، و كان أهل اصفهان يغالون في معاوية حتى اعتقد بعض أهلها أنه نبي مرسل (4) .
  و لعل المتأمل في كلمات هؤلاء يجد بوضوح أنهم يقطعون بفساد الرأي الذاهب إلى فارسية التشيع ، و أنهم لم يجدوا له تبريرا معقولا ، بالرغم من عدم تعاطفهم أصلا مع التشيع ، فتأمل ، ـ يقول الشيخ أبو زهرة : إن الفرس تشيعوا على أيدي العرب و ليس التشيع مخلوقا لهم ، و يضيف : و أما فارس و خراسان و ما وراءهما من بلدان الإسلام ، فقد هاجر إليها كثيرون من علماء الإسلام الذين كانوا يتشيعون فرارا بعقيدتهم من الأمويين أولا ، ثم العباسيين ثانيا ، و أن التشيع كان منتشرا في هذه البلاد انتشارا عظيما قبل سقوط الدولة الأموية بفرار أتباع زيد و من قبله إليها (5) .
  6 ـ و قال السيد الأمين : إن الفرس الذين دخلوا الإسلام لم يكونوا شيعة في أول الأمر إلا القليل ، و جل علماء السنة و أجلائهم من الفرس ، كالبخاري و الترمذي و النسائي و ابن ماجة و الحاكم النيسابوري و البيهقي ، و هكذا غيرهم ممن أتوا في الطبقة التالية (6) .
  و ثانيا : ان التاريخ يدلنا على أن الفرس دخلوا في الإسلام يوم دخلوا بالصبغة السنية ، و هذا هو البلاذري يحدثنا في كتابه عن ذلك بقوله :

---------------------------
(1) فجر الإسلام 176 .
(2) الخوارج و الشيعة 241ـ 148 .
(3) العقيدة و الشريعة 204 .
(4) آدم متز : الحضارة الإسلامية 102 .
(5)الإمام جعفر الصادق 545 .
(6) أعيان الشيعة .


الشيعة في موكب التاريخ _ 43 _

  كان ابرويز وجه إلى الديلم فأتى بأربعة آلاف ، و كانوا خدمه و خاصته ، ثم كانوا على تلك المنزلة بعده ، و شهدوا القادسية مع رستم ، و لما قتل و انهزم المجوس اعتزلوا ، قالوا : ما نحن كهؤلاء و لا لنا ملجأ ، و أثرنا عندهم غير جميل ، و الرأي لنا أن ندخل معهم في دينهم ، فاعتزلوا ، فقال سعد : ما لهؤلاء ! ؟ فأتاهم المغيرة بن شعبة فسألهم عن أمرهم ، فأخبرو بخبرهم ، و قالوا : ندخل في دينكم ، فرجع إلى سعد فأخبره فآمنهم ، فأسلموا و شهدوا فتح المدائن مع سعد ، و شهدوا فتح جلولاء ، ثم تحولوا فنزلوا الكوفةمع المسلمين (1) .
  لم يكن إسلامهمـيوم ذاكـإلا كإسلام سائر الشعوب ، فهل يمكن أن يقال : ان إسلامهم يوم ذاك كان إسلاما شيعيا ؟ و ثالثا : إن الإسلام كان ينتشر بين الفرس بالمعنى الذي كان ينتشر به في سائر الشعوب ، و لم يكن بلد من بلاد إيران معروفا بالتشيع إلى أن انتقل قسم من الأشعريين الشيعة إلى قم و كاشان ، فبذروا بذرة التشيع ، و كان ذلك في أواخر القرن الأول ، مع أن الفرس دخلوا في الإسلام في عهد الخليفة الثاني ، أي ابتداء من عام 17 ه ، و هذا يعني أنه قد انقضت أعوام كثيرة قبل أن يدركوا و يعلموا معنى و مفهوم التشيع ، فأين هذا من ذاك ، و هذا هو ياقوت الحموي يحدثنا في معجم البلدان بقوله :
  قم ، مدينة تذكر مع قاشان ، و هي مدينة مستحدثة إسلامية لا أثر للأعاجم فيها ، و أول من مصرها طلحة بن الأحوص الأشعري ، و كان بدو تمصيرها في أيام الحجاج بن يوسف سنة 83 ه ، و ذلك أن عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس ، كان أمير سجستان من جهة الحجاج ، ثم خرج عليه ، و كان في عسكره سبعة عشر نفسا من علماء التابعين من العراقيين ، فلما انهزم ابن الأشعث و رجع إلى كابل منهزما كان في جملة إخوة يقال لهم : عبد الله ، و الأحوص ، و عبد الرحمن ، و إسحاق ، و نعيم ، و هم بنو سعد بن مالك بن عامر الأشعري ، وقعوا في ناحية قم ، و كان هناك سبع قرى اسم احداها ( كمندان ) فنزل هؤلاء الأخوة على هذه القرى حتى افتتحوهاو استولوا عليها ، و انتقلوا إليها و استوطنوها ، و اجتمع عليهم بنو عمهم و صارت السبع قرى سبع محال بها ، و سميت باسم احداها ( كمندان) ، فأسقطوا بعض حروفها فسميت بتعريبهم قما ، و كان متقدم هؤلاء الأخوة عبد الله بن سعد ، و كان له ولد قد ربي بالكوفة ، فانتقل منها إلى قم ، و كان إماميا ، و هو الذي نقل التشيع إلى أهلها ، فلا يوجد بها سني قط (2) .
  إذن فهذا كله راجع إلى تحليل النظرية من منظار التاريخ ، و أما دليله فهو أوهن من بيت العنكبوت ، فإذا كان الفرس لا يعرفون معنى الانتخاب و الحرية ، فإن العرب أيضا مثلهم ، فالعربي الذي كان يعيش بالبادية عيشة فردية كان يحب الحرية و يمارسها ، و أما العربي الذي يعيش عيشة قبلية ، فقد كان شيخ القبيلة يملك زمام أمورهم و شؤونهم و عند موته يقوم أبناؤه و أولاده مكانه واحدا بعد الآخر ، فما معنى الحرية بعد هذا ! !

---------------------------
(1)البلاذري : فتوح البلدان .279
(2) معجم البلدان 4/396 ، مادة قم ، و يقول في مراصد الاطلاع بأن أهل قم ، و كاشان كلهم شيعة إمامية و لا حظ رجال النجاشي ترجمة الرواة الأشعريين فيه.


الشيعة في موكب التاريخ _ 44 _

تحليل النظرية الثانية :
  إن هذه النظرية و إن كانت تعترف بأن التشيع عربي المولد و المنشأ ، و لكنها تدعي أنه اصطبغ بصبغة فارسية بعد دخول الفرس في الإسلام ، و هذا هو الذي اختاره الدكتور أحمد أمين كما عرفت و لفيف من المستشرقين ك ( فلها وزن) فيما ذهبوا إليه في تفسير نشأة التشيع ، يقول الثاني : إن آراء الشيعة كانت تلائم الأيرانيين ، أما كون هذه الآراء قد انبثقت من الإيرانيين فليست تلك الملائمة دليلا عليه ، بل الروايات التاريخية تقول بعكس ذلك ، إذ تقول ان التشيع الواضح الصريح كان قائما أولا في الأوساط العربية ، ثم انتقل بعد ذلك منها إلى الموالي ، و جمع بين هؤلاء و بين تلك الأوساط.
  و لكن لما ارتبطت الشيعة العربية بالعناصر المضطهدة تخلت عن تربية القومية العربية ، و كانت حلقة الإرتباط هي الإسلام ، و لكنه لم يكن ذلك الإسلام القديم ، بل نوعا جديدا من الدين (1) .
  أقول : إن مراده أن التشيع كان في عصر الرسول و بعده بمعنى الحب و الولاء لعلي لكنه انتقل بيد الفرس إلى معنى آخر و هو كون الخلافة أمرا و راثيا في بيت عليـعليه السلامـو هو الذي يصرح به الدكتور أحمد أمين في قوله : إن الفكر الفارسي استولى على التشيع ، و المقصود من الاستيلاء هو جعل الخلافة أمرا و راثيا كما كان الأمر كذلك بين الفرس في عهد ملوك بني ساسان و غيرهم.
  إلا أنه يلاحظ عليه : أن كون الحكم و الملك أمرا وراثيا لم يكن من خصائص الفرس ، بل أن مبدأ وراثية الحكم كان سائدا في جميع المجتمعات ، فالنظام السائد بين ملوك الحيرة و غسان و حمير في العراق و الشام و اليمن كان هو الوراثة ، و الحكم في الحياة القبلية في الجزيرة العربية كان وراثيا ، و المناصب المعروفة لدى قريش من السقاية و الرفادة و عمارة المسجد الحرام و السدانة كانت أمورا وراثية ، حتى أن النبي الأكرم لم يغيرها بل أنه أمضاها كما في قضية دفعه لمفاتيح البيت إلى بني شيبة و إقرارهم على منصبهم هذا إلى الأبد.فالصاق مسألة الوراثة بالفرس دون غيرهم أمر عجيب لا يقره العقلاء ، فعلى ذلك يجب أن نقول : ان التشيع اصطبغ بصبغة فارسية و غسانية و حميرية و أخيرا عربية ، و إلا فما معنى تخصيص فكرة الوصاية بالفرس مع كونها آنذاك فكرة عامة عالمية ؟ !
  إن النبوة و الوصاية من الأمور الوراثية في الشرائع السماوية ، لا بمعنى أن الوراثة هي الملاك المعين بل بمعنى أنه سبحانه جعل نور النبوة و الإمامة في بيوتات خاصة ، فكان يتوارث نبي نبيا ، و وصي وصيا ، يقول سبحانه :

---------------------------
(1) الخوارج و الشيعة .169

الشيعة في موكب التاريخ _ 45 _

  و لقد أرسلنا نوحا و إبراهيم و جعلنا في ذريتهما النبوة و الكتاب (1) .
  و إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال و من ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين (2) .
   أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب و الحكمة و آتيناهم ملكا عظيما (3) .
  فلما ذا لا يكون سبب تشيع الفرس مفاد هذه الآيات و الروايات التي تصرح بأن الوصاية بين الأنبياء كانت أمرا وراثيا ؟ و إن هذه سنة الله في الأمم كما هو ظاهر قوله سبحانه : لا ينال عهدي الظالمين فسمى الإمامة عهد الله لا عهد الناس ، ثم إن من زعم أن التشيع من صنع الفرس مبدأ و صبغة فهو جاهل بتاريخ الفرس ، و ذلك لأن التسنن كان هو السائد فيهم إلى أوائل القرن العاشر حتى غلب عليهم التشيع في عصر الصفويين ، نعم كانت الري و قم و كاشان معقل التشيع و مع ذلك يقول أبو زهرة : إن أكثر أهل فارس إلى الأن من الشيعة و أن الشيعة الأولين كانوا من أهل فارس (4) .
  أما غلبة التشيع عليهم في الآونة الأخيرة فلا ينكره أحد ، إنما الكلام كونهم كذلك في بداية دخولهم إلى الإسلام ، فالذي يظهر كأن الرجل جاهل بتاريخ بلاد إيران و ليس له معرفة حقيقية بتفاصيل التركيبة المذهبية المختلفة التي كانت واضحة في أطراف المجتمع الإيراني و بينة فيه.
  و إليك ما ذكره أحد الكتاب القدامى في كتاب ( أحسن التقاسيم ) لتقف على أن المذهب السائد في ذلك القرن ، هل كان هو التشيع أم التسنن ؟ يقول :
  ( اقليم خراسان للمعتزلة و الشيعة ، و الغلبة لأصحاب أبي حنيفة إلا في كورة الشاش فأنهم شوافع و فيهم قوم على مذهب عبد الله السرخسي ، و اقليم الرحاب مذاهبهم مستقيمة إلا أن أهل الحديث حنابلة و الغالب بد بيلـلعله يريد أردبيلـمذهب أبي حنفية و بالجبال ، أما بالري فمذاهبهم مختلفة ، و الغلبة فيهم للحنفية ، و بالري حنابلة كثيرة ، و أهل قم شيعة ، و الدينور غلبه مذهب سفيان الثوري ، و اقليم خوزستان مذاهبهم مختلفة ، أكثر أهل الأهواز و رامهرمز و الدورق حنابلة ، و نصف أهل الأهوازشيعة ، و فيه من أصحاب أبي حنيفة كثير ، و بالأهواز مالكيون ، اقليم فارس العمل فيه على أصحاب الحديث و أصحاب أبي حنيفة ، اقليم كرمان المذاهب الغالبة للشافعي ، اقليم السند مذاهبهم أكثرها أصحاب الحديث ، و أهل الملتان شيعة يهيعلون في الأذان( أي يقولون حي على خير العمل ) و يثنون في الاقامةـأي يقولون الله أكبر مرتين ، و أشهد أن لا إله إلا الله مرتين أيضا و هكذا ـ و لا تخلوا القصبات من فقهاء على مذهب أبي حنيفة (5) .

---------------------------
(1) الحديد/ 26.
(2) البقرة/ 124.
(3) النساء/ 54.
(4) تاريخ المذاهب الإسلامية .
(5) شمس الدين محمد بن أحمد المقدسي ، أحسن التقاسيم/119(ألفه عام 375).

الشيعة في موكب التاريخ _ 46 _

  و أما ابن بطوطة في رحلته فيقول : ( كان ملك العراق السلطان محمد خدابنده قد صحبه في حال كفره فقيه من الروافض الإمامية يسمى جمال الدين بن مطهر ـ يعني العلامة الحلي (648ـ726 ه) ـ فلما أسلم السلطان المذكور و أسلمت باسلامه التترزاد في تعظيم هذا الفقيه فزين له مذهب الروافض و فضله على غيره ... فأمر السلطان بحمل الناس على الرفض ، و كتب بذلك إلى العراقين و فارس و آذر بايجان و اصفهان و كرمان و خراسان ، و بعث الرسل إلى البلاد ، فكان أول بلاد وصل إليها الأمر بغداد و شيراز و اصفهان ، فأما أهل بغداد فخرج منهم أهل باب الأزج يقولون لا سمعا و لا طاعة ، و جاءوا للجامع و هددوا الخطيب بالقتل إن غير الخطبة ، و هكذا فعل أهل شيراز و أهل اصفهان (1) .
  و قال القاضي عياض في مقدمة ( ترتيب المدارك ) و هو يحكي انتشار مذهب مالك : و أما خراسان و ما وراء العراق من بلاد المشرق فدخلها هذا المذهب أولا بيحيى بن يحيى التميمي ، و عبد الله بن المبارك ، و قتيبة بن‏سعيد ، فكان له هناك أئمة على مر الأزمان ، و تفشى بقزوين و ما والاها من بلاد الجبل ، و كان أخر من درس منه بنيسابور أبو إسحق بن القطان ، و غلب على تلك البلاد مذهبا أبي حنيفة و الشافعي (2) .
  قال ( بروكلمان ) : إن شاه إسماعيل الصفوي بعد انتصاره على ( الوند) توجه نحو تبريز فأعلمه علماء الشيعة التبريزيون أن ثلثي سكان المدينة الذين يبلغ عددهم ثلاثمائة ألف ، من السنة (3) .
  إذن فالنصوص المتقدمة تدل دلالة واضحة على أن مذهب التسنن كان هو المذهب السائد إلى القرن العاشر بين الفرس ، فكيف يمكن أن يقال : إن بلاد فارس كانت هي الموطن الأصلي للتشيع ! ؟
  و مما يؤكد ذلك أيضا ما رواه ابن الأثير في تأريخه من أن أهل طوس كانوا سنة إلى عصر محمود بن سبكتكين ، قال : إن محمود بن سبكتكين جدد عمارة المشهد بطوس الذي فيه قبر علي بن موسى الرضا و أحسن عمارته ، و كان أبوه سبكتكين أخر به ، و كان أهل طوس يؤذون من يزوره فمنعهم ابنه عن ذلك ، و كان سبب فعله ذلك أنه رأى في المنام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب و هو يقول : إلى متى هذا ؟ فعلم أنه يريد أمر المشهد ، فأمر بعمارته (4) .
  و يؤيد ذلك ما رواه البيهقي : ان المأمون العباسي هم بأن يكتب كتابا في الطعن على معاوية ، فقال له يحيى بن أكثم : يا أمير المؤمنين ! العامة لاتتحمل هذا و لا سيما أهل خراسان ، و لا تأمن أن يكون لهم نفرة (5) .

---------------------------
(1) رحلة ابن بطوطة 219ـ 220.
(2) ترتيب المدارك 1/ 53.
(3) تاريخ المذاهب الإسلامية 1/ 140.
(4) ابن الأثير : الكامل في التاريخ 5/ 139.
(5) البيه4قي : المحاسن و المساوى‏ء 1/ 108.

الشيعة في موكب التاريخ _ 47 _

  إلا أن المتوكل عمد و بصلافة و تهتك إلى هدم قبر الحسين ( عليه السلام ) و في ذلك قال الشاعر المعروف بالبسامي :
تالله إن كـانت أمـية قـد iiأتت‏      قـتل  ابـن بنت نبيها iiمظلوما
فـلقد أتـاه بـنو أبـيه بـمثله‏      هـذا لـعمرك قـبره iiمـهدوما
أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا      فــي قـتله فـتتبعوه iiرمـيما
(1)   فقد بان مما ذكر أمران :
  1 ـ ان التشيع ليس فارسي المبدأ ، و إنما هو حجازي المولد و المنشأ ، اعتنقه العرب فترة طويلة لم يدخل فيها أحد من الفرسـسوى سلمان المحمدي ـ و ان الإسلام دخل بين الفرس مثل دخوله بين سائر الشعوب ، و أنهم اعتنقوا الإسلام بمذاهبه المختلفة مثل اعتناق سائر الأمم له ، و بقوا على ذلك طويلا إلى أن اشتد عود التشيع و كثر معتنقيه في عهد بعض ملوك المغول أو عهد الصفوية 905 ه.
  2 ـ أن كون الإمامة منحصرة في علي و أولاده ليس صبغة عارضة على التشيع ، بل هو جوهر التشيع و حقيقته ، و لو لاه فقد التشيع روحه و جوهره ، فجعل الولاء لآل محمد أو تفضيل علي على سائر الخلفاء أصله و جوهره ، و اعتبار هذا الأمر ـ كما يعتقده البعض ـ أمرا عرضيا دخيلا على مذهب التشيع ، تصور لا دليل له إلا التخرص و الاختلاق.قال المفيد ـ رحمه اللهـ : الشيعي من دان بوجوب الإمامة و وجودها في كل زمان و أوجب النص الجلي و العصمة و الكمال لكل إمام ، ثم حصر الإمامة في ولد الحسين بن علي ( عليهما السلام ) و ساقها إلى الرضا علي بن موسى ( عليهما السلام ).

---------------------------
(1) تاريخ أبي الفداء 2/ .68

الشيعة في موكب التاريخ _48 _

الافتراض الرابع : الشيعة و يوم الجمل
  و أما الافتراض الخاطى‏ء الرابع فيذهب إلى أن الشيعة تكونت يوم الجمل ، حيث ذكر ابن النديم في فهرسه : ان عليا قصد طلحة و الزبير ليقاتلهما حتى يفيئا إلى أمر الله ـ جل اسمهـو تسمى من اتبعه على ذلك الشيعة ، و كان يقول : شيعتي ، و سماهم ـ عليه السلام : الأصفياء ، الأولياء ، شرطة الخميس ، الأصحاب (1) .
  و على ذلك جرى المستشرق ( فلهوزن) حيث يقول : بمقتل عثمان انقسم الإسلام إلى فئتين : حزب علي ، و حزب معاوية ، و الحزب يطلق عليه في العربية اسم ( الشيعة) فكانت شيعة علي في مقابل شيعة معاوية ، لكن لما تولى معاوية الملك في دولة الإسلام كلها ... أصبح استعمال لفظة ( شيعة) مقصورا على أتباع علي(2) .
  و الملفت للنظر أن ما ذكره ابن النديم من تقسيمه لشيعة علي عليه السلام ـ إلى الأصفياء و الأولياء و ... هو عين التقسيم الذي أورده معاصره البرقي (3) لأصحاب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) حيث قال :

أصحاب أمير المؤمنين :
  من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) ـ : الأصحاب ، ثم الأصفياء ، ثم الأولياء ، ثم شرطة الخميس :
  من الأصفياء من أصحاب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ـ : سلمان الفارسي ، المقداد ، أبو ذر ، عمار ، أبو ليلى ، شبير ، أبو سنان ، أبو عمرة ، أبو سعيد الخدري (عربي أنصاري) ـ أبو برزة ، جابر بن عبد الله ، البراء بن عازب(أنصاري) ، عرفة الأزدي ، و كان رسول الله ( صلى الله عليه و آله و سلم )دعا له فقال : اللهم بارك له في صفقته.
  و أصحاب أمير المؤمنين ، الذين كانوا شرطة الخميس كانوا ستة آلاف رجل ، و قال علي بن الحكم : (أصحاب) أمير المؤمنين الذين قال لهم : تشرطوا انما أشارطكم على الجنة ، و لست أشارطكم على ذهب أو فضة ، ان نبينا ( عليه السلام) قال لأصحابه فيما مضى : تشرطوا فاني لست اشارطكم ، إلا على الجنة (4) .

---------------------------
(1) ابن النديم : الفهرس 263 طبع القاهرة.
(2) الخوارج و الشيعة 146(ترجمة عبد الرحمن بدوي ، طبع القاهرة).
(3) توفي البرقي عام(274)أو(280)و ألف ابن النديم كتابه عام(277)و توفي عام(378).
(4) البرقي : الرجال 3 .

الشيعة في موكب التاريخ _49 _

  و مما تقدم يظهر أن من عده ابن النديم من أصحاب الإمام رجالاماتوا قبل أيام خلافته كسلمان و أبو ذر و المقداد ، و كلهم كانوا شيعة للإمام ، فكيف يكون التشيع وليد يوم الجمل ! ؟ و الظاهر وجود التحريف في عبارة ابن النديم.
  و على كل تقدير فما تلونا عليك من النصوص الدالة على وجود التشيع في عصر الرسول و ظهوره بشكل جلي بعد وفاته (صلى الله عليه و آله و سلم ) و هذا قبل أن تشب نار الحرب في البصرة ، دليل على و هن هذا الرأي ـ على تسليم دلالة كلام ابن النديم ـ فان الإمام و شيعته بعد خروج الحق عن محوره ، و استتاب الأمر لأبي بكر ، رأوا أن مصالح الإسلام و المسلمين تكمن في السكوت و مما شاة القوم ، بينما كان نداء التشيع يعلو بين آونة و اخرى من جانب المجاهرين بالحقيقة ، كأبي ذر الغفاري و غيره ، و لكن كانت القاعدة الغالبة هي المحافظة قدر الإمكان على بقاء الإسلام و عدم جر المسلمين إلى صدام كبير و نار متأججة لا تبقي و لا تذر ، و العمل قدر الإمكان لدعم الواجهة السياسية للخلافة الإسلامية و رفدها بالجهد الملخص و النصح المتواصل.
  إلا أن الأمر عند ما آل إلى الإمام علي وجدت شيعته متنفسا واسعا للتعبير عن وجودها و الافصاح عن حقيقتها ، فظهرت بأوضح و أجلى صورها ، فمن هنا وقع أصحاب هذه الفرضية و غيرها في هذه الاشتباهات الواضحة البطلان.

الافتراض الخامس : الشيعة و يوم صفين
  زعم بعض المستشرقين (1) أن الشيعة تكونت يوم إفترق جيش علي في مسألة التحكيم إلى فرقتين ، فلما دخل علي الكوفة و فارقته الحرورية ، و ثبت إليه الشيعة ، فقالوا : في أعناقنا بيعة ثانية ، نحن أولياء من واليت و أعداء من عاديت.
  و هذا الفهم الخاطى‏ء لهذه الواقعة ، و امتطاء هذه العبارة المذكورة لتحديد نشأة التشيع يعتمد بالأساس على افتراض ان لتكون الشيعة تاريخا مفصولا عن تاريخ الإسلام ، فأخذ يتمسك بهذه العبارة ، مع أن تعبير الطبري ـ أعني قوله : و ثبت إليه الشيعة (2) ـ دليل على سبق وجودهم على ذلك ، نعم كانت للشيعة بعد تولي الإمام الخلافة وجودا واضحا حيث ارتفع الضغط فالتف حوله مواليه من الصحابة و التابعين ، إلا أن الأمر الثابت هو أن ليس جميع من كان في جيشه من شيعته بالمعنى المفروض و الواقعي للتشيع ، بل أغلب من انخرط في ذلك الجيش كانوا تابعين له لأنه خليفة لهم و قد بايعوه على ذلك.

---------------------------
(1) تاريخ الإمامية : للدكتور عبد الله فياض 37.
(2) تاريخ الطبري 4/46 طبع مصر .

الشيعة في موكب التاريخ _50 _

الافتراض السادس : الشيعة و البويهيون
  تلقى آل بويه مقاليد الحكم و السلطة من عام 320ـ447 ه ، فكانت لهم السلطة في العراق و بعض بلاد إيران كفارس و كرمان و بلاد الجبل و همدان و إصفهان و الري ، و قد اقصوا عن الحكم في الأخير بهجوم الغزاونة عليه عام 420 هـ ، و قد ذكر المؤرخون ـ خصوصا ابن الأثير في الكامل و ابن الجوزي في المنتظم ـ شيئا كثيرا من أحوالهم ، و خدماتهم ، و افساحهم المجال لجميع العلماء من دون أن يفرقوا بينهم بافتراق طوائفهم و قد ألف المستشرق ( استانلي لين بول ) كتابا في حياتهم ترجم باسم : طبقات سلاطين الإسلام.
  يقول ابن الأثير في حوادث عام 372 هـفي حديثه عن أحد الملوك البويهيين ، و هو عضد الدولة : و كان عاقلا ، فاضلا ، حسن السياسة ، كثير الإصابة ، شديد الهيبة ، بعيد الهمة ، ثاقب الرأي ، محبا للفضائل و أهلها ، باذلا في مواضع العطاء ... إلى أن قال : و كان محبا للعلوم و أهلها ، مقربا للعلماء ، محسنا إليهم ، و كان يجلس معهم يعارضهم في المسائل ، فقصده العلماء من كل بلد ، و صنفوا له الكتب ، و منها الإيضاح في النحو ، و الحجة في القراءات ، و المكلى في الطب ، و التاجي في التاريخ إلى غير ذلك (1) ، و هذا يدل أنهم كانوا محبين للعلم و مروجين له و لهم إياد مشكورة في نشر العلم و مساندة العلماء.
  و بالرغم من أن في عصرهم كان يغلب على أكثر البلاد مذهب التسنن إلا أن البويهين لم يقفوا موقف المعادي لهم على الرغم مما وقفه غيرهم من الملوك الآخرين من غير الشيعة من معاداة التشيع و محاربته.
  و لعل التأريخ قد سجل في صفحاته أحداثا مؤلمة بعد سقوط البويهين و دخول طغرل بك مدينة السلام (بغداد) عام 447 هـ ، عند ما أحرقت مكتبة الشيخ الطوسي و كرسيه الذي كان يجلس عليه للتدريس (2) .
  نعم راج مذهب الشيعة في عصرهم و استنشق رجالاته نسيم الحرية بعد أن تحملوا الظلم و الاضطهاد طيلة حكم العباسيين خصوصا في عهد المتوكل و من بعده ، غير أن تكون مذهب الشيعة في أيامهم شي‏ء و كونهم مروجين و معاضدين له شي‏ء آخر ، و من السذاجة بمكان الخلط بين الحالين و عدم التمييز بينهما.

---------------------------
(1) ابن الأثير : الكامل في التاريخ 9/19ـ21 طبع دار صادر.
(2) المنتظم : ابن الجوزي 16/108 الطبعة الحديثة بيروت.


الشيعة في موكب التاريخ _51 _

الافتراض السابع : الشيعة و الصفويون
  و الكلام عن هذه الاسرة هو عين الكلام عن البويهيين.
  إن الصفويين هم اسرة الشيخ صفي الدين العارف المشهور في أردبيل المتوفى عام(735 ه) ، فعند ما انقرضت دولة المغول ، انقسمت البلاد التي كانت تحت نفوذهم إلى دويلات صغيرة شيعية و غير شيعية ، إلى أن قام أحد أحفاد صفي الدين ، الشاه إسماعيل عام(905 ه)باستلام مقاليد الحكم و السيطرة على بلاد فارس و إقامة حكومة خاصة به استطاع أن يمد نفوذها و يبسط سلطتها ، و استمر في الحكم إلى عام (930 ه) ، ثم ورثه أولاده إلى أن أقصوا عن الحكم بسيطرة الأفاغنة على إيران عام(1135 ه)فكان الصفويون خير الملوك لقلة شرورهم و كثرة بركاتهم ، و قد راج العلم و الأدب و الفنون المعمارية أثناء حكمهم ، و لهم آثار خالدة إلى الآن في ايران و العراق ، و من وقف على أحوالهم و وقف على تاريخ الشيعة يقف على أن عصرهم كان عصر ازدهار التشيع لا تكونه ، و هو أمر لا مراء فيه ، و لايقتنع به إلا السذج و الجهلاء.
  نعم إن هذه الآراء الساقطة في تحليل تاريخ الشيعة و مبدأ تكونهم ، كلها كانت امورا افتراضية بنوها على أساس خاطى‏ء و هو أن الشيعة ظاهرة طارئة على المجتمع الإسلامي بعد عهد النبي ، سامح الله الذين لم يتعمدوا التزييف و غفر الله لنا و لهم.
  زلة لا تستقال :

الشيعة في موكب التاريخ _52 _

  إن الدكتور عبد الله فياض زعم أن التشيع بمعنى الموالاة لعليـعليه السلامـنضج في مراحل ثلاث :
  1 ـ التشيع الروحي ، يقول : إن التشيع لعلي بمعناه الروحي زرعت بذرته في عهد النبي و تمت قبل توليه الخلافة ، ثم ساق الأدلة على ذلك و جاء بأحاديث يوم الدار أو بدء الدعوة و أحاديث الغدير و ما قال النبي في حق علي من التسليم على علي بإمرة المؤمنين.
  2 ـ التشيع السياسي ، و يريد من التشيع السياسي : كون علي أحق بالإمامة لا لأجل النص بل لأجل مناقبه و فضائله ، و يقول : إن التشيع السياسي ظهرت بوادرهـدون الالتزام بقضية الاعتراف بإمامته الدينية (يريد النص) في سقيفة بني ساعدة ، حين أسند حق علي بالخلافة عدد من المسلمين أمثال الزبير و العباس و غيرهما ، و بلغ التشيع السياسي أقصى مداه حين بويع علي بالخلافة بعد مقتل عثمان.
  3 ـ ظهوره بصورة فرقة ، فإنما كان ذلك بعد فاجعة كربلاء سنة(61ه)و لم يظهر التشيع قبل ذلك بصورة فرقة دينية تعرف بالشيعة.ثم استشهد بكلام المقدسي حيث قال : إن أصل مذاهب المسلمين كلها منشعبة من أربع : الشيعة ، و الخوارج ، و المرجئة ، و المعتزلة ، و أصل افتراقهم قتل عثمان ، ثم تشعبوا (1) .
  و أيد نظريته بما ذكره المستشرق ( فلهوزن) من قوله : تمكن الشيعة أولا في العراق و لم يكونوا في الأصل فرقة دينية ، بل تعبيرا عن الرأي السياسي في هذا الاقليم كله ، فكان جميع سكان العراق خصوصا أهل الكوفة شيعة علي على تفاوت بينهم (2) .

---------------------------
(1) أحسن التقاسيم 38 طبع ليدن 1906.
(2) تاريخ الإمامية 38ـ 47.

الشيعة في موكب التاريخ _53 _

  و هذا التصور المذكور يمكن تثبيت جملة من الملاحظات عليه :
  أولا : ان التفكيك بين المرحلتين الأوليتين و ان الاولى منهما كانت في عصر النبي و ظهرت بوادر المرحلة الثانية بعد رحلة النبي ، قد نقضه نفس الكاتب في كلامه حيث قال : كان رواد التشيع الروحي يلتزمون بآراء علي الفقهية إلى جانب الالتزام باسناده سياسيا (1) .
  و ثانيا : إن ما ذكره من النصوص في مجال التشيع الروحي كما يدل على أن عليا هو القائد الروحي ، فإنه يدل بوضوح على أنه القائد السياسي ، و قد نقل الكاتب جل النصوص الواردة في هذا المبنى ، فمعنى التفكيك بينهما هو أن الصحابة الواعين أخذوا ببعض مضامينها و تركوا بعضها ، و لو صح اسناد ذلك إلى بعض الصحابة فلا يصح إسناده إلى سلمان ، و أبي ذر ، و عمار ، الذين لا يتركون الحق و إن بلغ الأمر ما بلغ.
  و بما أن النبي كان هوالقائد المحنك للمسلمين ، فإنه لم تكن هناك حاجة لظهور التشيع السياسي في حياته ، بل كان المجال واسعا لظهور التشيع الروحي و رجوع الناس إلى علي في القضايا و الأحكام الفقهية ، و هذا لا يعني عدم كونه قائدا سياسيا و ان وصايا النبي لم تكن هادفة إلى ذلك الجانب.
  و ثالثا : إن التشيع السياسي ظهر في أيام السقيفة في ظل الاعتراف بإمامته الروحية ، فإن الطبري و غيره و إن لم يذكروا مصدر رجوع الزبير و العباس إلى علي ، و لكن هناك نصوص عن طرق الشيعة وردت في احتجاج جماعة من الصحابة على أبي بكر مستندين إلى النصوص الدينية .
  فقد روى الصدوق عن زيد بن وهب انه قال : كان الذين أنكروا على أبي بكر تقدمه على علي بن أبي طالب اثنا عشر رجلا من المهاجرين و الأنصار ، فمن المهاجرين : خالد بن سعيد بن العاص ، و المقداد بن الأسود ، و ابي بن كعب ، و عمار بن ياسر ، و أبو ذر الغفاري ، و سلمان الفارسي ، و عبد الله بن مسعود ، و بريدة الأسلمي.
  و من الأنصار : زيد بن ثابت ، و ذو الشهادتين ، و ابن حنيف ، و أبو أيوب الأنصاري ، و أبو الهيثم بن التيهان.
  و بعد ما صعد أبو بكر على المنبر قال خالد بن سعيد : يا أبا بكر اتق الله...ثم استدل على تقدم علي بما ذكره النبي فقال : معاشر المهاجرين و الأنصار ، أوصيكم بوصية فاحفظوها ، و أني مؤد إليكم أمرا فاقبلوه : ألا أن‏عليا أميركم من بعدي و خليفتي فيكمـإلى آخر ما ذكرهـثم قام أبو ذر و قال : يا معاشر المهاجرين و الأنصار ... طرحتم قول نبيكم و تناسيتم ما أوعز إليكم ، ثم ذكر مناشدة كل منهم مستندين في احتجاجهم على أبي بكر بالأحاديث التي سمعوها من النبي الأكرم (2) ، و هذا يعرب عن أن التشيع السياسي ـ الذي كان ظرف ظهوره حسب طبع الحال ـ بعد الرحلة كان مستفادا من نصوص النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ).

---------------------------
(1) تاريخ الإمامية 45.
(2) الخصال 461 طبع مكتبة الصدوق لا حظ المناشدة إلى آخرها ترى فيها دلائل كافية لاثبات الخلافة للإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ).

الشيعة في موكب التاريخ _ 54 _

  رابعا : ما ذا يريد من الفرقة و ان الشيعة تكونت بصورة فرقة بعد مقتل الإمام الحسين ؟ فهل يريد الفرقة الكلامية التي تبتني على آراء في العقائد تخالف فيها الفرق الاخرى ؟ فهذا الأمر لم يعلم له أي وجود يذكر إلى أواسط العقد الثالث من الهجرة ، و لم يكن يومذاك أية مسألة كلامية مطروحة حتى تأخذ شيعة علي بجانب و الآخرون بجانب آخر ، بل كان المسلمون متسالمين في العقائد و الأحكام حسب ما بلغ إليهم من الرسول ، و لم يكن آنذاك أي اختلاف عقائدي إلا في مسألة القيادة ، فالفرقة بهذا المعنى لم تكن موجودة في أوساط المسلمين.
  و ان أراد من الفرقة الجماعة المتبنية ولاية علي روحيا و سياسيا و انه أحق بالقيادة على جميع الموازين ، فإنها كانت موجودة في يوم السقيفة و بعدها.
  نعم إن توسع الرقعة الجغرافية للدولة الإسلامية و ما رافق ذلك من احتكاك مباشر بكثير من الفرق و الجماعات صاحبة الأفكار العقائدية المختلفة ، و تأثر بعض الفرق الإسلامية و مفكريها بجملة من تلك الآراءو التصورات ، ساعد بشكل كبير في إيجاد مدارس كلامية متعددة في كيان المجتمع الإسلامي ، و لما كان الشيعة أشد تمسكا بحديث الثقلين المشهور ، فقد رجعوا إلى أئمة أهل البيت فصاروا فرقة كلامية متشعبة الأفنان ، ضاربة جذورها في الكتاب و السنة و العقل.
  و هكذا فلا مرية من القول بخطأ كل الافتراضات السابقة و عدم حجيتها في محاولة تثبيت كون التشيع ظاهرة طارئة على الإسلام ، و إنما هو نفس الإسلام في إطار ثبوت القيادة لعلي بعد رحلة النبي بتنصيصه ، و تبناه منذ بعثة النبي الأكرم جملة من الصحابة و التابعين و امتد ذلك حسب الأجيال و القرون ، بل و ظهر بفضل التمسك بالثقلين علماء مجاهدون ، و شعراء مجاهرون ، و عباقرة في الحديث ، و الفقه ، و التفسير ، و الفلسفة ، و الكلام ، و اللغة ، و الأدب ، و شاركوا جميع المسلمين في بناء الحضارة الإسلامية بجوانبها المختلفة ، يتفقون مع جميع الفرق في أكثر الاصول و الفروع و إن اختلفوا معهم في بعضها كاختلاف بعض الفرق مع بعضها الآخر ، و سيوافيك تفصيل عقائدهم في مبحث خاص باذن الله.
  كما يظهر لك أيضا و هن ما ذهب إليه الدكتور عبد العزيز الدوري من أن التشيع باعتباره عقيدة روحية ظهر في عصر النبي و باعتباره حزبا سياسيا قد حدث بعد قتل علي (1) .

---------------------------
(1) لاحظ الصلة بين التصوف و التشيع .18