بلى أن هذا الرجل أسرف في القتل كثيرا ، و كان للعلويين النصيب الأكبر ، و حصة الأسد من هذا الظلم الكبير.
يقول المسعودي : جمع المنصور أبناء الحسن ، و أمر بجعل القيود و السلاسل في أرجلهم و أعناقهم ، و حملهم في محامل مكشوفة و بغير وطاء ، تماما كما فعل يزيد بن معاوية بعيال الحسين (عليه السلام) ، ثم أودعهم مكانا تحت الأرض لا يعرفون فيه الليل من النهار ، و اشكلت أوقات الصلاة عليهم ، فجزأوا القرآن خمسة أجزاء ، فكانوا يصلون على فراغ كل واحد من حزبه ، و كانوا يقضون الحاجة الضرورية في مواضعهم ، فاشتدت عليهم الرائحة ، و تورمت أجسادهم ، و لا يزال الورم يصعد من القدم حتى يبلغ الفؤاد ، فيموت صاحبه مرضا و عطشا وجوعا
.
و قال ابن الأثير : دعا المنصور محمد بن عبد الله العثماني ، و كان أخا لأبناء الحسن من أمهم ، فأمر بشق ثيابه حتى بانت عورته ، ثم ضرب مائة و خمسون سوطا ، فأصاب سوط منها وجهه فقال : و يحكك اكفف عن وجهي ، فقال المنصور للجلاد : الرأس الرأس ، فضربه على رأسه ثلاثين سوطا ، و أصاب إحدى عينيه فسالت على وجهه ، ثم قتله ـ ثم ذكر ـ و أحضرالمنصور محمد بن إبراهيم بن الحسن ، و كان أحسن الناس صورة ، فقال له : أنت الديباج الأصفر ، لأقتلنك قتلة لم أقتلها أحدا ، ثم أمر به ، فبني عليه اسطوانة و هو حي ، فمات فيها
.
3 ـ ثم ولي بعده المهدي ولد المنصور ، و بقي في الحكم من سنة (158 ه) إلى سنة (169 ه) و كفى في الإشارة إلى ظلمه للعلويين ، انه أخذ علي ابن العباس بن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام ) ، فسجنه فدس إليه السم فتفسخ لحمه و تباينت أعضاؤه.
4 ـ و لما هلك المهدي بويع ولده الهادي ، و كانت خلافته سنة و ثلاثة أشهر ، سار فيها على سيرة من سبقه في ظلم العلويين و التضييق عليهم ، و كفى في الإشارة إلى ذلك ما ذكره أبو الفرج الاصبهاني في مقاتل الطالبيين حيث قال : ان ام الحسين صاحب فخ هي زينب بنت عبد الله بن الحسن ابن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام ) ، قتل المنصور أباها و اخوتها و عمومتها و زوجها علي بن الحسن ، ثم قتل الهادي حفيد المنصور ابنها الحسين ، و كانت تلبس المسوح على جسدها ، لا تجعل بينها و بينه شيئا حتى لحقت بالله عز و جل
.
5 ـ ثم تولى بعده الرشيد سنة (170 ه) و مات (193 ه) و كان له سجل أسود في تعامله مع الشيعة تبلورت أوضح صورة في ما لاقاه منه الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليهم السلام ) ، و هو ما سنذكره لاحقا إن شاء الله تعالى ، و إليكواحدة من تلك الأفعال الدامية التي سجلها له التأريخ و رواها الاصبهاني عن إبراهيم بن رباح ، قال : إن الرشيد حين ظفر بيحيى بن عبد الله بن الحسن ، بنى عليه اسطوانة و هو حي ، و كان هذا العمل الاجرامي موروثا من جده المنصور
(1) .
6 ـ ثم جاء بعده ابنه الأمين ، فتولى الحكم أربع سنين و أشهرا ، يقول أبو الفرج : كانت سيرة الأمين في أمر آل أبي طالب خلاف من تقدم لتشاغله بما كان فيه من اللهو ثم الحرب بينه و بين المأمون ، حتى قتل فلم يحدث على أحد منهم في أيامه حدث.
7 ـ و تولى الحكم بعده المأمون ، و كان من أقوى الحكام العباسيين بعد أبيه الرشيد.فلما رأى المأمون إقبال الناس على العلويين و على رأسهم الإمام الرضا ، ألقى عليه القبض بحيلة الدعوة إلى بلاطه ، ثم دس اليه السم فقتله.
8 ـ مات المأمون سنة (210 ه) و جاء إلى الحكم ابنه المعتصم فسجن محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام )إلا أنه استطاع الفرار من سجنه.
9 ـ ثم تولى الحكم بعده الواثق الذي قام بسجن الإمام محمد بن علي الجواد ( عليه السلام ) و دس له السم بيد زوجته الأثيمة أم الفضل بنت المأمون.
10 ـ و ولي الحكم بعد الواثق المتوكل ، و إليك نموذجا من حقده علىآل البيت و هو ما ذكره أبو الفرج قال : كان المتوكل شديد الوطأة على آل أبي طالب ، غليظا في جماعتهم ، شديد الغيظ و الحقد عليهم ، و سوء الظن و التهمة لهم ، و اتفق له أن عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزيره يسيء الرأي فيهم ، فحسن له القبيح في معاملتهم ، فبلغ فيهم ما لم يبلغه أحد من خلفاء بني العباس قبله ، و كان من ذلك أن كرب
(2) قبر الحسين (عليه السلام ) و عفى آثاره ، و وضع على سائر الطرق مسالح له لا يجدون أحدا زاره إلا أتوه به و قتله أو أنهكه عقوبة.
---------------------------
(1) مقاتل الطالبيين 320 طبع النجف ، و روى في مقتله أمرا آخر.
(2) الكرب : إثارة الأرض للزرع.
الشيعة في موكب التاريخ
_ 68 _
و قال : بعث برجل من أصحابه (يقال له ( الديزج ) و كان يهوديا فأسلم) إلى قبر الحسين (عليه السلام) و أمره بكرب قبره و محوه و إخراب ما حوله ، فمضى ذلك فخرب ما حوله و هدم البناء و كرب ما حوله مائتي جريب ، فلما بلغ إلى قبره لم يتقدم إليه أحد ، فأحضر قوما من اليهود فكربوه ، و أجرى الماء حوله ، و وكل به مسالح ، بين كل مسلحتين ميل ، لا يزوره زائر إلا أخذوه و وجهوا به إليه .
و قال أيضا : حدثني محمد بن الحسين الأشناني : بعد عهدي بالزيارة في تلك الأيام ، ثم عملت على المخاطرة بنفسي فيها ، و ساعدني رجل من العطارين على ذلك ، فخرجنا زائرين نكمن النهار و نسير الليل ، حتى أتينا نواحي الغاضرية ، و خرجنا نصف الليل ، فصرنا بين مسلحتين ، و قد ناموا ، حتى أتينا القبر فخفي علينا ، فجعلنا نشمه(نتسمه)و نتحرى جهته حتى أتيناه ، و قد قلع الصندوق الذي كان حواليه ، و أحرق و أجري الماء عليه ، فانخسف موضع اللبن و صار كالخندق ، فزرناه و أكببنا عليه ـ إلى أن قال : ـ فودعناه و جعلنا حول القبر علامات في عدة مواضع ، فلما قتل المتوكل اجتمعنا مع جماعة من الطالبيين و الشيعة حتى صرنا إلى القبر فأخرجنا تلك العلامات و أعدناه إلى ما كان عليه.
و قال أيضا : و استعمل على المدينة و مكة عمر بن الفرج ، فمنع آل أبي طالب من التعرض لمسألة الناس و منع الناس من البر بهم ، و كان لا يبلغه أن أحدا أبر أحدا منهم بشيء و إن قل إلا أنهكه عقوبة ، و أثقله غرما ، حتى كان القميص يكون بين جماعة من العلويات يصلين فيه واحدة بعد واحدة ، ثم يرقعنه و يجلسن على مغازلهن عوارى حواسر ، إلى أن قتل المتوكل فعطف المنتصر عليهم و أحسن إليهم بمال فرقه بينهم ، و كان يؤثر مخالفة أبيه في جميع أحواله و مضادة مذهبه
(1) .
و ولي بعده المنتصر ابنه ، و ظهر منه الميل إلى أهل البيت و خالف أباهـكما عرفتـفلم يجر منه على أحد منهم قتل أو حبس أو مكروه فيما بلغنا.
و أول ما أحدثه أنه لما ولي الخلافة عزل صالح بن علي عن المدينة ، و بعث علي بن الحسين (عليهم السلام ) مكانه فقال له ـ عند الموادعة ـ : يا علي : إني أوجهك إلى لحمي و دمي فانظر كيف تكون للقوم ، و كيف تعاملهم ـ يعني آل أبي طالب ـ فقلت : أرجو أن أمتثل رأي أمير المؤمنين ـ أيده اللهـفيهم ، إن شاء الله .قال : إذا تسعد بذلك عندي
(2) .
---------------------------
(1) مقاتل الطالبيين 597ـ 599.
(2) مقاتل الطالبيين 636.
الشيعة في موكب التاريخ
_69 _
و قام بعده المستعين بالأمر ، فنقض كلما عزله المنتصر من البرو الإحسان ، و من جرائمه انه قتل يحيى بن عمر بن الحسين ، قال أبو الفرج : و كان ( رضي الله عنه ) رجلا فارسا شجاعا شديد البدن ، مجتمع القلب ، بعيدا من رهق الشباب و ما يعاب به مثله ، و لما أدخل رأسه إلى بغداد جعل أهلها يصيحون من ذلك إنكارا له ، و دخل أبو هاشم على محمد بن عبد الله ابن طاهر ، فقال : أيها الأمير ، قد جئتك مهنئا بما لو كان رسول الله (صلى الله عليه واله و سلم ) حيا يعزى به.
و أدخل الأسارى من أصحاب يحيى إلى بغداد و لم يكن روي قبل ذلك من الأسارى لحقه ما لحقهم من العسف و سوء الحال ، و كانوا يساقون و هم حفاة سوقا عنيفا ، فمن تأخر ضربت عنقه.
قال أبو الفرج : و ما بلغني أن أحدا ممن قتل في الدولة العباسية من آل أبي طالب رثي بأكثر مما رثي به يحيى ، و لا قيل فيه الشعر بأكثر مما قيل فيه.
أقول : إن العباسيين قد أتوا من الجرائم التي يندى لها الجبين و تقشعر منها الجلود في حق الشيعة بحيث تغص بذكرها المجلدات الكبيرة الواسعة ، بل و فاقوا بأفعالهم المنكرة ما فعله الأمويون من قبل ، و لله در الشاعر حيث قال :
تالله إن كانت أمية قد iiأتت قتل ابن بنت نبيها iiمظلوما فلقد أتاه بنو أبيه iiبمثلها هذا لعمرك قبره iiمهدوما أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا في قتله فتتبعوه iiرميما |
الشيعة في موكب التاريخ
_70 _
و من أراد أن يقف على سجل جرائم الدولتين (الأموية و العباسية) و ملف مظالمهم فعليه قراءة القصائد الثلاث التي نظمها رجال مؤمنونمخلصون ، عرضوا أنفسهم للمخاوف و الأخطار طلبا لرضى الحق :
1 ـ تائية دعبل الخزاعي الشهيد عام 246 هـ ، فإنها وثيقة تاريخية خالدة تعرب عن سياسة الدولتين تجاه أهل البيتـعليهم السلامـ ، و قد أنشدها الشاعر للإمام الرضا ، فبكى و بكت معه النسوة .
أخرج الحموي عن أحمد بن زياد عن دعبل الخزاعي قال : أنشدت قصيدة لمولاي علي الرضا( رضي الله عنه) :
مدارس آيات خلت من iiتلاوة و منزل وحي مقفر العرصات |
قال دعبل : ثم قرأت باقي القصيدة ، فلما انتهيت إلى قولي :
خروج إمام لا محالة iiواقع يقوم على اسم الله و البركات |
بكى الرضا بكاءا شديدا.
الشيعة في موكب التاريخ
_71 _
و من هذه القصيدة قوله :
هم نقضوا عهد الكتاب و فرضه و ما حكمه بالزور و iiالشبهات تراث بلا قربى ، و ملك بلا iiهدى و حكم بلا شورى ، بغير iiهداة |
و فيها أيضا قوله :
لآل الرسول بالخيف من iiمنى و البيت و التعريف و iiالجمرات ديار علي و الحسين و iiجعفر و حمزة و السجاد ذي iiالثفنات ديار عفاها جون كل iiمبادر و لم تعف بالأيام و iiالسنوات منازل كانت للصلاة و iiللتقى و للصوم و التطهير و الحسنات منازل وحي الله معدن iiعلمه سبيل رشاد واضح iiالطرقات منازل وحي الله ينزل iiحولها على أحمد الروحات و iiالغدوات |
الشيعة في موكب التاريخ
_72 _
إلى أن قال :
ديار رسول الله أصبحن iiبلقعا و دار زياد أصبحت iiعمرات و آل رسول الله غلت رقابهم و آل زياد غلظ القصرات و آل رسول الله تدمى نحورهم و آل زياد زينوا iiالحجلات |
و فيها أيضا :
أفاطم لو خلت الحسين iiمجدلا و قد مات عطشانا بشط iiفرات إذا للطمت الخد فاطم iiعنده و أجريت دمع العين من iiوجنات أفاطم قومي يا ابنة الخير و اندبي نجوم سماوات بأرض (1) iiفلات |
---------------------------
(1) لاحظ للوقوف على هذه القصيدة : المناقب لابن شهر آشوب 2/394 ، و روضة الواعظين للفتال النيسابوري 194 ، و كشف الغمة للأربلي 3/112ـ117 ، و قد ذكرها أكثر المؤرخين.
الشيعة في موكب التاريخ
_ 73 _
2 ـ ميمية الأمير أبي الفراس الحمداني (320ـ357 هـ) ، و هذه القصيدة تعرف بالشافية ، و هي من القصائد الخالدة ، و عليها مسحة البلاغة ، و رونق الجزالة ، و جودة السرد ، و قوة الحجة ، و فخامة المعنى ، أنشدها ناظمها لما وقف على قصيدة ابن سكرة العباسي التي مستهلها :
بني علي دعوا iiمقالتكم لا ينقص الدر وضع من وضعه |
فقال الأمير في جوابه ميميته المعروفة و هي :
الحق مهتضم و الدين مخترم و فيىء آل رسول الله مقتسم |
إلى أن قال :
يا للرجال أما لله منتصر من الطغاة ؟ أما لله iiمنتقم ؟ |
الشيعة في موكب التاريخ
_ 74 _
بنو علي رعايا في ديارهم
و الأمر تملكه النسوان و الخدم!
(1)
3 ـ جيمية ابن الرومي التي رثى بها يحيى بن عمر بن الحسين بن زيد ، و منها :
أمامك فانظر أي نهجيك iiتنهج طريقان شتى مستقيم و iiأعوج ألا أي هذا الناس طال ضريركم بآل رسول الله فاخشوا أو ارتجوا أكل أوان للنبي iiمحمد قتيل زكي بالدماء iiمضرج |
(2)
و كم من الانصاف في ما كتبه الاصبهاني عن مدى العب الذي تحمله أهل البيت و شيعتهم من أجل كلمة الحق ، و موقف الصدق ، و ما ترتب على ذلك من تكالب لا يعرف الرحمة من قبل الحكومات الجائرة المتلاحقة للقضاء على هذا الوجود المقدس و اجتثاثه من أصله ، حيث ذكر :
---------------------------
(1) نقلها في الغدير برمتها و أخرج مصادرها ، لا حظ 3/399ـ 402.
(2) مقاتل الطالبيين 639ـ 646.
الشيعة في موكب التاريخ
_ 75 _
(و الله لا يعرف التاريخ أسرة كأسرة أبي طالب بلغت الغاية من شرف الارومة ، و طيب النجار ، ضل عنها حقها ، و جاهدت في سبيل الله حق الجهاد من الأعصار ، ثم لم تظفر من جهادها المرير إلا بالحسرات ، و لم تعقب من جهادها إلا العبرات ، على ما فقدت من أبطال أسالوا نفوسهم في ساحة الوغي ، راضية قلوبهم مطمئنة ضمائرهم ، و صافحوا الموت في بسالة فائقة ، و تلقوه في صبر جميل يثير في النفس الاعجاب و الاكبار ، و يشيع فيها ألوان التقدير و الاعظام ، و قد أسرف خصوم هذه الأسرة الطاهرة في محاربتها ، و أذاقوها ضروب النكال ، و صبوا عليها صنوف العذاب ، و لم يرقبوا فيها إلا و لا ذمة ، و لم يرعوا لها حقا و لا حرمة ، و أفرغوا بأسهم الشديد على النساء و الأطفال ، و الرجال جميعا ، في عنف لا يشوبه لين ، و قسوة لا تمازجها رحمة ، حتى غدت مصائب أهل البيت مضرب الأمثال ، في فضاعة النكال ، و قد فجرت هذه القسوة البالغة ينابيع الرحمة و المودة في قلوب الناس ، و أشاعت الأسف الممض في ضمائرهم ، و ملأت عليهم أقطار نفوسهم شجنا ، و صارت مصارع هؤلاء الشهداء حديثا يروى ، و خبرا يتناقل ، و قصاصا تقص ، يجد فيها الناس إرضاء عواطفهم و إرواء مشاعرهم ، فتطلبوه و حرصوا عليه)
(1) .
نعم لقد اقترن تاريخ الشيعة بأنواع الظلم و النكال ، و القتل و التشريد ، بحيث لم تشهده أي طائفة أخرى من طوائف المسلمين ، بلى لم ير الأمويون و العباسيون و لا الملوك الغزانوة و لا السلاجقة و لا من أتى بعدهم أي حرمة لنفوسهم و أعراضهم و علومهم و مكتباتهم ، فحين كان اليهود و النصارى يسرحون و يمرحون في أرض الإسلام و المسلمين ، و قد كفل لهم الحكام حرياتهم باسم الرحمة الإسلامية ، كان الشيعة يؤخذون تحت كل حجر و مدر ، و يقتلون بالشبهة و الظنة ، و تشرد أسرهم ، و تصادر أموالهم ، و لا يجدون بدا من أن يخفوا كثيرا من عقائدهم خوف النكال و القتل ، و بأيدي و قلوب نزعت منها الرحمة ، فلا تثريب إذن على الشيعي أمام هذه الوحشية المسرفة من أن يتعامل مع أخيه المسلم بالتقية ، و أن يظهر خلاف ما يعتقده ، بل اللوم أجمعه يقع على من حمله على ذلك ، بعد أن أباح دمه و عرضه و ماله ، هذا هو طغرل بيك أول ملك من ملوك السلاجقة ورد بغداد سنة 447 هـ ، و شن على الشيعة حملة شعواء ، و أمر بإحراق مكتبة الشيعة التي أنشأها أبو نصر سابور بن أردشير ، وزير بهاء الدولة البويهي ، و كانت من دور العلم المهمة في بغداد بناها هذا الوزير الجليل في محلة بين السورين في الكرخ سنة 381 هـعلى مثال بيت الحكمة الذي بناه هارون الرشيد ، و كانت من الأهمية العلمية بمكان ، حيث جمع فيها هذا الوزير ما تفرق من كتب فارس و العراق ، و استكتب تآليف أهل الهند و الصين و الروم ، كما قاله محمد كرد علي ، و نافت كتبها على عشرة آلاف من جلائل الآثار و مهام الأسفار ، و أكثرها نسخ الأصل بخطوط المؤلفين
(2) .
---------------------------
(1) مقدمة مقاتل الطالبيين ، بقلم السيد أحمد صفر : الصفحة يـك ، طبع دار المعرفة.
(2) خطط الشام 3/ 185.
الشيعة في موكب التاريخ
_76 _
قال يا قوت الحموي : و بها كانت خزانة الكتب التي أوقفها الوزير أبو نصر سابور بن أردشير وزير بهاء الدولة بن عضد الدولة ، و لم يكن في الدنيا أحسن كتابا منها ، كانت كلها بخطوط الأئمة المعتبرة و أصولهم المحررة
(1) .
و كان من جملتها مصاحف بخط ابن مقلة على ما ذكره ابن الأثير
(2) .
و لما كان الوزير سابور من أهل الفضل و الأدب ، فقد أخذ العلماء يهدون إليه مصنفاتهم المختلفة ، فأصبحت مكتبته من أغنى دور الكتب ببغداد ، و قد أحرقت هذه المكتبة العظيمة في جملة ما احترق من محال الكرخ عند مجيء طغرل بيك ، و توسعت الفتنة حتى اتجهت إلى شيخ الطائفةو أصحابه فأحرقوا كتبه و كرسيه الذي كان يجلس عليه للكلام.
قال ابن الجوزي في حوادث سنة 448 ه : و هرب أبو جعفر الطوسي و نهبت داره ، ثم قال في حوادث سنة 449 هـ : و في صفر هذه السنة كبست دار أبي جعفر الطوسي متكلم الشيعة في الكرخ ، و أخذ ما وجد من دفاتره و كرسي يجلس إليه للكلام ، و أخرج إلى الكرخ أضيف إليه ثلاث سناجيق بيض كان الزوار من أهل الكرخ قديما يحملونها معهم إن قصدوا زيارسة الكوفة ، فأحرق الجميع
(3) .
و اخيرا فلعل القارىء الكريم إذا تأمل بتدبر و تأن إلى جملة ما كتب و ألف من المراجع التاريخيةـو حتى تلك التي كتبت في تلك العصور التي شهدت هذه المجازر المتلاحقة ، و التي بلا أدنى شك كان أغلبها يجاري أهواء الأسر الحاكمة آنذاك ـ فانه سيجد بوضوح إن بقاء الشيعة حتى هذه الأزمنة من المعاجز و الكرامات و خوارق العادات ، كيف و ان تاريخهم كان سلسلة من عمليات الذبح ، و القتل ، و القمع ، و الاستئصال ، و السحق ، و الإبادة ، قد تضافرت قوى الكفر و الفسق على إهلاكهم و قطع جذورهم ، و مع ذلك فقد كانت لهم دول و دويلات ، و معاهد و كليات ، و بلدان و حضارات ، و أعلام و مفاخر ، و عباقرة و فلاسفة ، و فقهاء ، و محدثون ، و وزراء و سياسيون ، و يشكلون اليوم خمس المسلمين أو ربعهم.
---------------------------
(1) معجم البلدان 2/ .342
(2) التاريخ الكامل 10/ .3
(3) المنتظم 8/173ـ179 ، نقلنا ما يتعلق بمكتبة أبي نصر سابور و الشيخ الطوسي عن مقدمة شيخنا الطهراني على التبيان و ذكرنا المصادر التي أومأ هو إليها في الهامش ، لا حظ الصفحة هـو : من المقدمة.
الشيعة في موكب التاريخ
_77 _
نعم إن ذلك من فضله سبحانه لتعلق مشيئته على إبقاء الحقو إزهاق الباطل في ظل قيام الشيعة طيلة القرون بواجبها و هو الصمود أمام الظلم ، و التضحية و التفدية للمبدأ و المذهب و قد قال سبحانه : إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين و إن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون
(1) .
و لا يفوتنك أخي القارىء الكريم ان ثوراتهم المتعاقبة على الحكومات الظالمة الفاسدة الخارجة عن حدود الشريعة الإسلامية العظيمة هي التي أدت إلى تشريدهم و قتلهم و الفتك بهم ، و لو أنهم ساوموا السلطة الأموية و العباسية ، لكانوا في أعلى المناصب و المدارج ، لكن ثوراتهم لم تكن عنصرية أو قومية أو طلبا للرئاسة ، بل كانت لإزهاق الباطل و رفع الظلم عن المجتمع ، و الدعوة إلى اعلاء كلمة الله و غير ذلك مما هو من وظائف العلماء العارفين .
---------------------------
(1) الأنفال/ .65