يَمشي وَحْـدَهُ وَيمُوتُ وَحْـدَه
( صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )

   حين استعدَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمحاربة الروم قاصدا ( تبوك ) من أرض الشام ، كان الفصل قائضا شديد الحرارة ، وكان العدو شديد البأس ، كثير العدّة والعدد ، مما دعا نفرا من المتاخذلين ـ ممن أسلم رهبة أو رغبة ـ الى القعود ، والتخلف عن الجهاد .
   وتابع المسلمون سيرهم بكل ثقة وشجاعة ، وانتهى الامر بالصلح مع الروم على دفع الجزية .
   فقد ألقى الله في قلوب زعمائهم الهيبة ، لما تناهى الى أسماعهم من أنباء الانتصارات الساحقة التي سجلها المسلمون في أكثر من موقع بالرغم من قلتهم ، ولما سمعوه عن بسالة المقاتل المسلم ، واستماتته في سبيل الدفاع عن اسلامه واضعا نصب عينيه الجنة ، قاتلا أو مقتولا ، لذلك ، فقد آثروا الانسحاب على المواجهة .
   ووجه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الى يوحنا بن رؤبة ـ أحد زعماء المنطقة ـ رسالة يدعوه فيها الى الاسلام ، أو دفع الجزية ، فقدم على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حاملا الهدايا ، ومعلنا الطاعة ، فصالحه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على الجزية ، في كل سنة ثلاثمائة

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 152 _

  دينار ، كما صالحه على ذلك أهل المناطق الاخرى ، وكتب ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بينه وبينهم كتبا تتضمن شروط الصلح بما يحفظ للمسلمين حقهم في الجزية ، والتجول في تلك المنطقة ، آمنين على انفسهم وأموالهم ، ويضمن لأصحاب تلك المناطق حرية العقيدة ، والعيش مع جيرانهم المسلمين بأمان .
   في هذه الغزوة ، تخلف بأبي ذر جمله ، فعالجه حتى أعياه أمره ، فأخذ رحله عنه ، وحمله على ظهره ، وتابع سيره ماشيا على قدميه .
   ( ونظر الناس ، فقالوا يا رسول الله ، هذا رجل على الطريق وحده .
   فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : كن أبا ذر ! فلما تأمله الناس ، قالوا : هو أبو ذر .
   فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : يرحم الله أبا ذر ، يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده ، ويشهده عصابة من المؤمنين .
   فلما نفى عثمان أبا ذر الى الربذة ، أصابه بها أجله ، ولم يكن معه الا مرأته وغلامه (1) .

---------------------------
(1) الكامل 2 / 280 .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 155 _

المَـأسَـاة

   عن أم ذر زوجة أبي ذر ، قالت : لما حضرت أبا ذر الوفاة ، بكيت .
فقال : ما يبكيك ؟
   فقلت : مالي لا أبكي ، وأنت تموت بفلاة من الارض ، وليس عندي يسعك كفنا ، لي ولا لك ، ولا يد لي للقيام بجهازك !
   قال : فأبشري ، ولا تبكي ، فاني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : لا يموت بين امرأين مسلمين ولدان ، أو ثلاثة ، فيصبران ، ويحتسبان ، فيريان النار أبدا .
   وقد مات لنا ثلاثة من الولد !
   واني سمعت رسول الله يقول لنفر أنا فيهم : ليموتن رجل منكم بفلاة من الارض ، يشهده عصابة من المؤمنين ! وليس من أولئك النفر أحد ، إلا وقد مات في قرية ، أو جماعة .
   ( ولم يبق غيري ، وقد أصبحت بالفلاة أموت (1) ) ، فأنا ذلك الرجل ، فوالله ما كَذِبت ، ولا كُذبت فأبصري الطريق .
   قلت : أنى ؟ وقد ذهب الحاج ، وتقطَّعت الطريق .

---------------------------
(1) كذا في أعيان الشيعة 16 / 368 .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 156 _

  قال : اذهبي ، فتبصَّري .
   قالت : فكنت أشتد الى الكثيب ، فانظر ! ثم أرجع اليه ، فأمرِّضه .
فبينما أنا وهو كذلك ، أذ أنا برجال على رحالهم ، كأنهم الرُخُم * ، تخب بهم رواحلهم ، فأسرعوا الي ، حتى وقفوا علي ، فقالوا :
   يا أمة الله ، مالَكِ ؟
قلت : إمرؤ من المسلمين ، يموت ! تكفنونه ، ( وتؤجرون فيه ) (1) .
قالوا : ومن هو ؟ قلت : أبو ذر ! ، قالوا : صاحب رسول الله ! ؟ قلت : نعم .
   قالت : فَفدَّوه بأبائهم ، وأمهاتهم ، ثم ( وضعوا سياطهم في نحورها ) ، وأسرعوا اليه حتى دخلوا عليه (2) .. الخ الرواية .
   وفي رواية الكشي ، عن جلاّم بن ذر ، وكان له صحبة ( مع رسول الله ) قال :
   مكث ابو ذر في الربذة حتى ، مات فلما حضرته الوفاة ، قال لامرأته : اذبحي شاة من غنمك واصنعيها ، فاذا نضجت ، اقعدي على قارعة الطريق ، فأول ركب ترينهم ، قولي :
   يا عباد الله المسلمين ، هذا أبو ذر صاحب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقد قضى نحبه ، ولقي ربه ، فأعينوني عليه ، وأجنوه ، فان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أخبرني أني أموت في أرض غربة ، وانه يلي غسلي ودفني والصلاة علي رجال من أمته صالحون .

---------------------------
* الرّخم : طائر على شكل النسر مبقع بسواد وبياض .
(1) كذا في أعيان الشيعة .
(2) الاستيعاب ، حاشية على الاصابة 1 / 214 الى 216 .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 157 _

  عن محمد بن علقمة بن الاسود النخعي ، قال : خرجت في رهط أريد الحج ، منهم مالك بن الحارث الأشتر ، وعبد الله بن فضل التيمي ، ورفاعة بن شداد البجلي ، حتى قدمنا الربذة ، فاذا امرأة على قارعة الطريق تقول :
   يا عباد الله المسلمين ، هذا أبو ذر صاحب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد هلك غريبا ليس أحد يعينني عليه !
   فنظر بعضنا الى بعض ، وحمدنا الله على ما ساق الينا ، واسترجعنا على عظيم المصيبة .
   ثم أقبلنا معها فجهزناه ، وتنافسنا في كفنه حتى خرج من بيننا بالسواء ، ثم تعاونا على غسله ، حتى فرغنا منه ، ثم قدمنا مالك الأشتر فصلى عليه ، ثم دفناه .
   فقام الأشتر على قبره ثم قال : اللهم هذا أبو ذر صاحب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عبدك في العابدين وجاهد فيك المشركين ، لم يغير ولم يبدل ، لكنه رأى منكرا فغيَّره بلسانه وقلبه حتى جفي ونفي ، وحرم واحتقر ، ثم مات وحيدا غريبا ، اللهم فاقصم من حرمه ونفاه من مهاجره ، وحرِم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فرفعنا أيدينا جميعا ، وقلنا : آمين .
   فقدمت الشاة التي صنعت ، فقالت أنه أقسم عليكم أن لا تبرحوا ، حتى تتغدوا فتغدينا ، وارتحلنا (1) .
  ( رواية ثانية حول كيفية وفاته ):
   في تفسير علي بن ابراهيم في تتمة خبره في غزوة تبوك :

---------------------------
(1) أعيان الشيعة / 372 نقلا عن الدرجات الرفيعة ، و 373 .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 158 _

  فلما سيَّره عثمان الى الربذة ، كان له غنيمات يعيش هو وعياله منها ، فأصابها داء يقال له النقاب ، فماتت كلها ، فأصاب أبا ذر وابنته الجوع ، فقالت ابنته :
   أصابنا الجوع وبقينا ثلاثة أيام لم نأكل شيئا ! فقال لي أبي : يا بنية ، قومي بنا الى الرمل ، نطلب العبب ( نبت له حب ) فصرنا الى الرمل ، فلم نجد شيئا ، فجمع أبي رملا , ووضع رأسه عليه ، ورأيت عينيه قد انقلبتا ، فبكيت ، فقلت له ـ يا أبه كيف أصنع بك ، وأنا وحيدة ؟
   فقال : يا بنيتي لا تخافي ، فاني اذا مت ، جائك من أهل العراق من يكفيك أمري ، فاني أخبرني حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك ، فقال لي : يا أبا ذر تعيش وحدك ، وتموت وحدك ، وتدخل الجنة وحدك ، يسعد بك أقوام من أهل العراق ، يتولون غسلك ، وتجهيزك ، ودفنك ، فاذا أنا مت فمدي الكساء على وجهي ، ثم اقعدي على طريق العراق ، فاذا أقبل ركب ، فقومي اليهم وقولي : ـ هذا ابو ذر صاحب رسول الله قد توفي .
   قالت : فدخل اليه قوم من أهل الربذة ، فقالوا : يا أبا ذر ، ما تشتكي ؟ قال : ذنوبي ! قالوا : فما تشتهي ؟ قال : رحمة ربي ! قالوا : هل لك بطبيب ؟ قال : الطبيب أمرضني !!
   قالت ابنته : فلما عاين ، سمعته يقول : مرحبا بحبيب أتى على فاقة ، لا أفلح من ندم ! اللهم خنقني خناقك ، فوحقك إنك لتعلم أني أحب لقاءك .
   قالت ابنته : فلما مات ، مددت الكساء على وجهه ، ثم قعدت على

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 159 _

  طريق العراق ، فجاء نفر ، فقلت لهم : يا معشر المسلمين ، هذا أبو ذر ، صاحب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد توفي .
   فنزلوا ، ومشوا يبكون ، فجاؤا ، فغسَّلوه وكفَّنوه ودفنوه ، وكان فيهم الأشتر .
   فروي أنه قال : دفنته في حلَّة كانت معي ، قيمتها أربعة آلاف درهم (1) .

---------------------------
(1) أعيان الشيعة / 372 نقلا عن الدرجات الرفيعة و 373 .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 161 _

الفَصْـل الـرّابِـع

  * أبو ذَرّ عَلى لِسَان النّبي الكَريم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
  * بَيـنَ النّبـي وَأبي ذَرّ .
  * أبـو ذَرّ العَـالِـم .
  * الـزّاهـِد الـمتعبّدِ .
  * مِـن فَضَـائِلـه .
  * مِـن كَـلاَمـه .
  * وَصـفه لآخر الزمَان .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 163 _

  أبو ذَرّ عَلى لِسان النّبي الكَريم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ونستعرض هنا ، ما جاء على لسان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بشأن هذا الصحابي الجليل من كلمات مضيئة هي بمثابة أوسمة منحها اياه النبي الكريم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) باستحقاق وجدارة ، ونقتصر هنا على ذكر الرواية بذلك ، دون ذكر السند .
   قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ما أظلَّتِ الخضراء ، ولا أقلَّتِ الغَبراء من ذي لهجة أصدق ، ولا أوفى من أبي ذر ، شِبهُ عيسى بن مريم .
   وفي لفظ آخر : ما أظلَّت الخضراء ، ولا أقلَّت الغبراء على ذي لهجة ، أصدق من أبي ذر ، من سرّه أن ينظر الى زُهدِ عيسى بن مريم ، فلينظر الى أبي ذر .
   من أحبّ أن ينظر الى المسيح عيسى بن مريم ، الى بره وصدقه ، وجدِّه ، فلينظر الى أبي ذر .
   إن أبا ذر ليباري عيسى بن مريم في عبادته .
   رحم الله أبا ذر ، يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده .
   إن الله عز وجل أمرني بحُبِّ اربعة ، وأخبرني انه يحبُّهم : عليّ ، وأبو ذر ، والمقداد ، وسلمان .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 164 _

  عن أبي ذر قال ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : يا أبا ذر ! كيف أنت اذا كنت في حثالة ؟ وشبَّك بين أصابعه .
   قلت : يا رسول الله ! فما تأمرني ؟ قال : إصبر ، إصبر ، إصبر ، خالقوا الناس بأخلاقهم ، وخالفوهم في أعمالهم .
   عن أبي ذر أيضا ، قال : بَينَا أنا واقف مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال لي : يا أبا ذر ، أنت رجل صالح ، وسيُصِيبُك بلاء بعدي ! قلت : في الله ؟ قال : في الله ، قلت مرحبا بأمر الله .
   عن أبي ذر قال : قال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : يا أبا ذر ! كيف أنت اذا كانت عليك أمراء يستأثرون بالفيء ؟ قال : قلت : اذاً ، والذي بعثك بالحق ، أضربُ بسيفي حتى ألحقَ بك .
   فقال : أفلا أدلُّك على ماهو خير من ذلك ، ؟ إصبر حتى تلقاني (1) .

---------------------------
(1) هذه الأحاديث اخذناها عن المستدرك ج 3 ص 342 و 343 / وعن الغدير ج 8 ص 312 الى 316 .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 165 _

بَينَ النّـبي وَأبي ذَرّ    قال أبو ذر : ودخلت على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وهو في المجلس جالس وحده ، فاغتنمت خلوته !
   فقال : يا أبا ذر ، إن للمسجد تحيَّة !
   قلت : وما تحيته يارسول الله ؟
   قال : ركعتان ، فركعتهما ، ثم التفتّ اليه ، فقلت : يا رسول الله ، أي الاعمال أحبّ الى الله جلَّ ثناؤه ؟
   فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : الإيمان بالله ، ثم الجهاد في سبيله .
   قلت : يا رسول الله ، أمرتني بالصلاة ، فما الصلاة ؟
   قال : خير موضوع ، فمن شاء أقلّ ، ومن شاء أكثر !
   قلت : يا رسول الله ، أي المؤمنين ، اكمل إيماناً ؟
   قال : أحسنهم خُلقاً .
   قلت : فأيّ المؤمنين أفضل ؟
   قال : من سَلِمَ المسلمون من يده ولسانه !
   قلت : فأيّ الهجرة أفضل ؟
   قال : من هجر الشر !

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 166 _

   قلت : فأيّ الليل أفضل (1) ؟
   قال : جوف الليل الغابر ! .
   قلت : فأي الصلاة أفضل ؟
   قال : طول القنوت !
   قلت : فأي الصدقة أفضل ؟
   قال : جَهد (2) من مُقلّ الى فقير في سر .
   قلت : فما الصوم ؟
   قال : فرض مجزيء ، وعند الله أضعاف ذلك .
   قلت : فأي الرقاب أفضل ؟ (3)
   قال : أغلاها ثمنا ، وأنفسها عند أهلها .
   قلت : فأي الجهاد أفضل ؟
   قال : من عقر جواده ، وأهريق دمه !
   قلت : فأيّ آية انزلها الله عليك أعظم ؟
   قال : أية الكرسي ! ثم قال : يا أبا ذر ، مالسموات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة ! وفضل العرش على الكرسي ، كفضل الفلاة على تلك الحلقة .
   قلت : يا رسول الله ، كم النبيون ؟
   قال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألف نبي !

---------------------------
(1) يعني : للعبادة .
(2) جهد المقل : قدر ما يحتمله قليل المال .
(3) للعتق .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 167 _

  قلت : كم المرسلون منهم ؟
   قال : ثلاثمائة وثلاثة عشر ! جمَّاً غفيرا * .
   قلت : من كان أول الأنبياء ؟
   قال : آدم .
   قلت وكان من الانبياء مرسلا ؟
   قال : نعم ! خلقه الله بيده ، ونفخ فيه من روحه ، ثم قال : يا أبا ذر ! وأربعة من الأنبياء سريانيون ، آدم ، وشيث ، وأخنوخ ( وهو إدريس ) وهو أول من خط بالقلم ، ونوح .
   وأربعة من الأنبياء من العرب : هود ، وصالح ، وشعيب ، ونبيك محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وأول نبي من بني اسرائيل : موسى ، وآخرهم : عيسى بينهما ستمائة نبي .
   قلت : يا رسول الله ، كم أنزل الله من كتاب ؟
   قال : مائة كتاب ، وأربعة كتب ، أنزل الله على شيث ، خمسين صحيفة ، وعلى إدريس ثلاثين صحيفة ، وعلى ابراهيم ، عشرين صحيفة ، وانزل التوارة ، والانجيل ، والزبور ، والفرقان .
   قال ، قلت : يا رسول الله ، فما كانت صُحُف ابراهيم ؟
   قال : كانت أمثالا كلها ! وفيها : ـ أيُّها الملِكُ المتسلِّط ، المبتلى ، المغرور ، إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها الى بعض ، ولكن بعثتك لتردّ دعوة المظلوم ، فاني لا أردّها ، وان كانت من كافر أو فاجر !! وفجوره على نفسه .
   وكان فيها : على العاقل ـ ما لم يكن مغلوبا على عقله ـ ان يكون له

---------------------------
* الجم الغفير ، هنا : الكثير البركة .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 168 _

  ساعات ، ساعة يناجي فيها ربَّه ، وساعة يصرفها في صنع الله تعالى ، وساعة يحاسب فيها نفسه فيما قدّم وأخَّر ، وساعة يخلو فيها لحاجته من الحلال في المطعم والمشرب .
   فانَّ هذه الساعة عون لتلك الساعات واستجمام للقلوب ، وتوديع لها ؟ وعلى العاقل أن يكون طالبا لثلاث : تزوّد لمعاد ، أو مرمَّة لمعاش ، أو لذة في غير محرّم ، وعلى العاقل ، أن يكون بصيرا بزمانه ، مقبلا على شأنه ، حافظا للسانه ، ومن حسب كلامه من عمله ، قلّ كلامه إلا فيما يعنيه .
   قلت : يا رسول الله ، ما كانت صحف موسى ( ع ) ؟
   قال : كانت اعتبارا كلها !
   عجباً لمن أيقن بالنار ، كيف يضحك ؟! عجباً لمن أيقن بالموت ، كيف يفرح ؟! عجبا لمن أبصر الدنيا ، وتقلُّبها بأهلها حالا بعد حال ، ثم يطمئن اليها !؟ عجباً لمن أيقن بالحسنات غدا ، كيف لا يعمل !؟
   قلت : يا رسول الله ، فهل في أيدينا مما أنزل الله عليك ، شيء مما كان في صحف ابراهيم ، وموسى ؟ .
   قال : إقرأ يا أبا ذر : قد أفلَحَ من تَزكَّى ، وذكَر إسم ربِّه فصلَّى ، بل تُؤثرونَ الحَياةَ الدُنيا ، والآخرة خير وأبقى إنَّ هذا ( يعني ذكر هذه الأربع آيات ) لفي الصحف الأولى ، صُحُفِ ابراهيمَ وموسى ..
   قلت : يا رسول الله ، أوصني .
   قال : أوصيك بتقوى الله ، فانها رأس أمرِكَ كلِّه .
   قلت : يا رسول الله : زدني .
   قال : عليك بتلاوةِ القرآن ، وذكرِ الله كثيرا ، فانه ذكر لك في السماء ، ونور لك في الارض .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 169 _

   قلت : يا رسول الله ، زدني .
   قال : عليك بالجهاد ، فانه رهبانية أمتي .
   قلت : يا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، زدني .
   قال : عليك بالصمت ، إلا من الخير ، فانه مطرَدة للشيطان عنك ، وعون لك على أمر دينك .
   قلت : يا رسول الله ، زدني .
   قال : إياك وكثرة الضحك ، فانه يميت القلب ، ويَذهب بنور الوجه .
قلت : يا رسول الله ، زدني .
   قال : انظر ( الى ) من هو تَحتك ، ولا تنظر الى من هو فوقك ، فانه أجدر أن لا تزدري نعمة الله عليك .
   قلت : يا رسول الله ، زدني .
   قال : صِلْ قرابتك وإن قطعوك ، وأحِبّ المساكين وأكثر مجالستهم .
   قلت : يا رسول الله ، زدني .
   قال : قل الحق ، وان كان عليك مرّاً .
   قلت : يا رسول الله ، زدني .
   قال : لا تَخف في الله لومة لائم .
   قلت : يا رسول الله زدني .
   قال : يا أبا ذر ، ليرُدَّك عن الناس ما تعرف من نفسك ، ولا تجد

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 170 _

  عليهم فيما يأتي ، فكفى بالرجل عيباً أن يعرف من الناس ما يجهل من نفسه ، ويجد عليهم فيما يأتي .
   قال : ثم ضرب بيده على صدري ، وقال : يا أبا ذر ، لا عقل كالتدبير ، ولا ورع كالكفّ ، ولا حسَب كحُسن الخلق (1) .

---------------------------
(1) تنبيه الخواطر ـ 2 / 314 الى 316 / ومعاني الاخبار 333 الى 335 ، وقد وجدت بعضا من مقاطع هذا الحوار في الكامل 1 / ص 47 ـ 60 ـ 124 .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 171 _

أبـو ذَرّ العَـالِم

   نكتفي هنا بعرض لما قيل وكتب حول علم أبي ذر ( رض ) فان في ذلك صورة واضحة عما يتمتع به هذا الصحابي الجليل من العلم والفضل .
   قال أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) : وعى علماً عُجز فيه ، وكان شحيحا حريصا على دينه ، حريصا على العلم ، وكان يكثر السؤال ، فيعطى ويمنع ، أما أن قد ملئ في وعائه حتى امتلأ .
   وقال أبو نعيم في الحلية : أول من تكلم في علم البقاء والفناء ، وثبت على المشقة والعناء وحفظ العهود والوصايا ، وصبر على المِحَن والرزايا ..الى أن قال : أبو ذر الغفاري رضي الله عنه خدم الرسول وتعلم الاصول ، ونبذ الفُضول .
   وقال ابن حجر في الإصابة : كان يوازي ابن مسعود في العلم (1) .
   وجاء في كتاب فنون الاسلام ، في أول من جمع حديثا الى مثله في باب واحد ، وعنوان واحد من الصحابة الشيعة ، وهم : أبو عبد الله سلمان الفارسي ، وأبو ذر الغفاري ( رض ) وقد نص على ذلك ، رشيد الدين بن شهر آشوب في كتابه : معالم علماء الشيعة .
   وذكر الشيخ أبو جعفر الطوسي

---------------------------
(1) الغدير 8 / 311 ـ 312 .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 172 _

  شيخ الشيعة ، والشيخ أبو العباس النجاشي في كتابيهما ، في فهرست اسماء المصنفين من الشيعة ، مصنفاً لأبي عبد الله سلمان الفارسي ، ومصنفاً لأبي ذر الغفاري ، وأوصلا اسنادهما الى رواية كتاب سلمان ، وكتاب أبي ذر ، وكتاب سلمان : كتاب حديث الجاثليق ، وكتاب أبي ذر : كتاب كالخطبة ، يشرح فيه الامور بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الخ (1) ..
   وقد ذكر بعض الاعلام : ( أنه كان بينه وبين عثمان مشاجرة في مسألة من مسائل الزكاة ، فتحاكما عند رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فحكم لأبي ذر على عثمان )(2) .

---------------------------
(1) كتاب الشيعة وفنون الاسلام / 31 .
(2) رجال بحر العلوم 2 / 151 .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 173 _

الـزّاهد المتعبِـّد

   في حلية الاولياء بسنده عن أبي ذر ، قال :
   والله لو تعلمون ما أعلم ، ما انبسطتم الى نسائكم ، ولا تقَاررتهم على فرشكم ، والله لوددت أن الله عز وجل خلقني ، يوم خلقني ـ شجرة تُعضد ، ويؤكل ثمرها .
   وروى الصدوق في الخصال بسنده ، عن الصادق ( عليه السلام ) عن أبيه قال :
   بكى أبو ذر من خشية الله عز وجل ، حتى اشتكى بصره !
   فقيل له : يا أبا ذر ! لو دعوت الله أن يشفي بصرك ! ؟
   فقال : اني عنه لمشغول ! وما هو من أكبر همي ، قالوا : وما يشغلك ؟
قال : العظيمتان ! الجنة والنار !! .
   قال أبو ذر : من جزى الله عنه الدنيا خيرا ! فجزاها الله عني مذمة ، بعد رغيفي شعير ، أتغدى بأحدهما ، وأتعشى بالآخر ، وبعد شملتي صوف ، أتَّزر باحداهما ، وأرتدي بالأخرى .
   وقال : كان قوتي على عهد رسول الله من تمر ، فلست بزائد عليه حتى ألقى الله !

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 174 _

   عن عيسى بن عميلة الفزاري قال : أخبرني من رأى أبا ذر يحلب غُنيمة له ، فيبدأ بجيرانه وأضيافه قبل نفسه ، ولقد رأيته ليلة حلب حتى ما بقي في ضروع غنمه شيء ، إلا مَصَره وقرَّب اليهم تمراً ، وهو يسير ، ثم تعذر اليهم وقال : لو كان عندنا ما هو أفضل من هذا ، لجئنا به ! وما رأيته ذاق تلك الليلة شيئاً .
   وقيل له : ألا تتَّخذ ضيعة ، كما إتَّخذ فلان وفلان !؟
   قال : وما أصنع ، بأن أكون أميرا ؟ وانما يكفيني كل يوم شربه ماء أو لبن ، وفي الجمعة قفيز من قمح .
   قال أبو ذر : يولدون للموت ، ويعمرون للخراب ، ويحرصون على ما يفنى ، ويتركون ما يبقى ألا حبذا المكروهان : الموت ، والفقر ( في سبيل الله ) .
   عن ابي جعفر ( عليه السلام ) قال : أتى أبا ذر رجل يبشره بغنم له قد ولدت ، فقال : يا أبا ذر ! أبشر فقد ولدت غنمك ، وكثرت !
   فقال : ما يسرّني كثرتها ، وما أحب ذلك ! فما قلَّ وكفى ، أحب اليّ مما كَثر وألهى ! اني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : على حافتيّ الصراط يوم القيامة : الرحم ، والامانة ، فاذا مرَّ عليه الوصول للرحم ، المؤدي للأمانة ، لم يتكفأ به في النار .
   وقيل له عند الموت : يا أبا ذر ، ما لك ؟
   قال : عملي !
   قالوا : إنا نسألك عن الذهب والفضة !
   قال : ما أصبح ، فلا أمسى ، وما أمسى فلا أصبح ، لنا كندوج *

---------------------------
* الكندوج : لفظ معرب ، معناه : الخزانة .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 175 _

  ندع فيه خير متاعنا ، سمعت حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : كندوج المرء ، قبره (1) .
   وفي حلية الاولياء ، بسنده ، عن محمد بن سيرين ، قال :
   ( بلغ الحارث ( رجلا كان بالشام ) أن أبا ذر به عوز ، فبعث اليه بثلاثمائة دينار .
   فقال : ما وجد عبداً لله تعالى هو أهون عليه مني ؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ( من سأل ، وله أربعون ، فقد ألحف ! ) ولآل أبي ذر أربعون درهماً ، وأربعون شاة .
  مـن فضـائلـه :
   ما روي عن أبي عبد الله الصادق ( عليه السلام ) قال :
   دخل أبو ذر على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ومعه جبرئيل ، فقال جبرئيل : من هذا يا رسول الله ؟
   قال : أبو ذر :
   قال : أما انه في السماء أعرف منه في الأرض ، وسله عن كلمات يقولهن اذا أصبح ، قال : فقال : يا أبا ذر ، كلمات تقولهن اذا أصبحتَ ، فما هنَّ ؟
   قال : أقول ، يا رسول الله : ( اللهم اني أسألك الايمان بك ، والتصديق بنبيك ، والعافية من جميع البلايا ، والشكر على العافية ، والغنى عن شرار الناس (2) ) .

---------------------------
(1) معجم رجال الحديث 4 / 171 .
(2) نفس المصدر 4 / 168 .