عرض وتحليل
تـأليـف
الشيخ محمد جواد آل الفقيه
قـدّمَ لـه
سماحة المرجع الديني الشيخ محمد تقي الفقيه


  
بسم الله الرّحمن الرّحيم

( ثُمَّ أَنتُم هَؤلاءِ تَقتلُون أنفُسَكُم وتُخرِجُونَ فَريقًا مِن دِيَارِهِم تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالعُدوَان (1) . . ) .
سورة البقرة ـ آية 85
  ما أَظَلَّتِ الخَضرآءِ ، وَلا أقَـلَّتِ الغَبْراء مِن ذِي لَهجَةٍ ، أَصدَقُ مِن أبي ذَرّ . وَمَن سَرّهُ أن يَنْظُرَ إلى تَوَاضُعِ عِيْسَى بِن مَريَم ، فَلِيَنْظُرْ إلى أبي ذَر .
الرسول الاعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) :
   وَالله إنيّ لأَرَى حَقّاً يُطفَى ، وَبَاطِلاً يُحيى وَصَادِقاً مُكذَّباً ، وإثرةً بِغَيْرِ تُقى ، وَصَالِحاً مُستأثِراً عَلَيه .

---------------------------
(1) قرأها ابن مسعود في خطبة له بمحفل من أهل الكوفة حين بلغه نفي أبي ذر عليه الرحمة .
(2) الاستيعاب ، الاصابة ج 1 / ص 216 .
(3) شرح النهج ج 8 ص 256 ـ 257 .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 7 _

كلمة الناشر

بسمِ اللهِ الرَّحمن الرَّحيم
الحمد لله رب العالمين ، وبعد :
   فان من حسن توفيق ( مؤسسة الأعلمي ) أن قامت باخراج هذا السفر القيم الذي يتناول سيرة الصحابي الجليل ( أبي ذر الغفاري رضي الله عنه ) كما حرصت كل الحرص على إخراجه بالشكل اللائق المناسب إيماناً منها بضرورة الإخلاص في العمل ، والتسهيل على القراء الكرام .
   ولا تفوتنا هنا الإشارة الى أن هذا الكتاب هو الحلقة الأولى في سلسلة ذات أربع حلقات ، تتناول سيرة الأركان الأربعة ( أبي ذر وعمار ، وسلمان والمقداد ) والتي نأمل أن تنال إعجاب القراء .
   هذا ، واننا نعلن بأننا قد عقدنا العزم على السير قدماً في مسيرتنا الثقافية هذه آملين من الله سبحانه مزيداً من التوفيق والتبريكات ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .
الناشر

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 9 _

تقديم : سماحة المرجع الديني الشيخ محمد تقي الفقيه

بسـمِ اللهِ الرَحمنِ الرَحِيم
   الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين ، الذين أدّوا الأمانة ، واجتنبوا الخيانة ، ونصحوا لله ورسوله وللمؤمنين ، فكانوا من خيرة أوصياء الأنبياء ، من أشدهم يقينا ، وأعظمهم صبرا ، وأكثرهم اجتهادا ، في حفظ ما ورثوه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصيانته من التحريف والتأويل والتبديل ، واتباع المتشابه من الكتاب العزيز ، ثم تحملوا من المصاعب والمتاعب ، ومقاساة الشدائد ما تحملوا ، في سبيل إيصاله الى العلماء الصالحين ، المحافظين ، الذين اختارهم الله سبحانه من خلقه ، لمشاركتهم في ذلك كله بعد غيبتهم ، فقاموا بالمهمة جهدهم ، فكان ذلك مصداقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : علماء أمتي كأنبياء بني اسرائيل ، أو أفضل من أنبياء بني اسرائيل .
  ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم : مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء ، وقد صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ، فاننا كنا وما زلنا نلمس ونلمح في العلماء ، وفي آثارهم ، وفيما يحكى عنهم ، من الصبر والورع والتسديد ، ما يشهد بأنهم في صفوف هؤلاء الأنبياء .
   وبعد : فقد كنت وما زلت ، أسأل الله سبحانه أن أكون وذريتي ، من

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 10 _

  الذين يقتفون آثارهم ، ويترسمون خطاهم ، ويستعينون بالله ، وبه يستنصرون ، لنفوز بالانضمام الى هذا الموكب المشرق الرفيع ، قولا وعملا ، وسمتاً ، وهدياً ، ولنتشرف بمحاولة حمل رسالتهم ، وفي فهمها ، وحفظها ، والعمل بها ، ونشرها .
   وانني ـ بحمد لله سبحانه ـ ألمح آثار الاستجابة ، في نفسي ، وولدي ، وفي طليعتهم اليوم ثانيهم ( ولدي الجواد ) ويتجلى ذلك في كتبه الثلاثة :
  1 ـ ( الانسان بين الحياة والموت )
  2 ـ ( نظريات تتعلق بالكون والمبدأ )
  3 ـ ( أبو ذر ) وهو الكتاب الذي بين يديك .
   فقد أعطاه الله قلماً محبباً مفهماً ، قليل الفضول ، وهداه الى الأخذ بأوائل معالم الطريق ، فهو ممن يهتم في فهم الاسلام ، وفي تفهيمه لأهل هذا العصر بلغتهم ، ثم في عرض الشخصيات الاسلامية النبيلة ، التي ساهمت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم مساهمة فعالة ، في نشر دعوته ، بالسير في سيرته ، في سلوكها ، وأقوالها ، وأفعالها ، فقد كانوا يجسدون الاسلام قولا وعملا ، فكانت أقوالهم حجة على الخاصة ، وأعمالهم دليلا وقدوة للعامة .
   وكتاب ( أبي ذر ) الذي هو بين يديك ، يهدف فيه مؤلفه الى تجسيد العقيدة الاسلامية ، بعرض صور للذين اعتنقوا الاسلام وهو في مهده ، صور هي أقرب شيء لواقعهم باحاطة وأمانة ، وتفهم ، وإتقان ، على عكس ما فعله المؤلفون من قبله ، فانهم اذا تحدثوا عن واحد من أولئك ، تحدثوا عنه من جانب واحد ، يتصل بنفسياتهم ، أو بما يهدفون اليه .
   فمن كان يرغب في الزهد ـ سواء فهم معناه أو لم يفهمه ـ تحدث عن أبي ذر من هذه الناحية فقط ، ومن كانت ميوله ، انحرف بسيرة أبي ذر الى ما يتلائم مع ميوله .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 11 _

   وعلى مرور الوقت ، أصبح أبو ذر يظهر للقراء على شاشة العرض شخصية محدوده بحدود ضيقة جداً ، تجعله متعبدا غيورا على الاسلام ، جريئاً على الحكام ، جرأة تنسيه قوله تعالى : ( ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ) .
   هذا ، مع أن أبا ذر ، أحد أركان الاسلام في مهده ، وهو أول من شهر السيف في وجه المشركين ، حين كان يقطع الطريق على قوافل قريش ، فينفِّر بهم ، فكانت الإبل تلقي أحمالها ، فلا يدعهم يأخذون منها شيئا حتى يسلموا .
  وهو أيضا ـ أحد معتمدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأحد عظماء الصحابة ، وهو من حواريي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحواريي أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) ، وليس من المنطق أن يمر في مخيلة أي انسان عاقل ، أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وعلياً عليه السلام ، وهما من عظماء البشر ، رفعا أبا ذر الذي تُصوِّره كتب الذين كتبوا عنه .
   وستراه في الكتاب الذي بين يديك انسانا آخر يرتفع عن عظماء الصحابة بالشجاعة ، والعلم والعمل ، وقوة الارادة والزهد ، والاخلاص ، والصبر ، والتحمل .
  ولو فسح لي الوقت مجالا لأوجزت ما أعرفه عنه ، وهو بعض ما استطعنا أن نصل اليه أثناء مطالعتنا ، ولو تم لي ذلك ، لأريتك أبا ذر انساناً يسير في ركب الأنبياء ، يتمتع بكياسة وقوة ، وعزة ، وجرأة ، ونزاهة .
   وفق الله المؤمنين للاقتباس من أنواره وآرائه ، وحشرنا واياهم ، يوم القيامة تحت لوائه ، والسلام عليه ، وعليهم ، ورحمة الله وبركاته .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 13 _

مقدمـة المؤلف

بِسـمِ اللَّهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
   حينما نعمد الى دراسة شخصية تأريخية ـ أياً كانت ـ تطالعنا صور ومشاهد ، تضفي علينا مزيداً من الوضوح في البحث عن الجوانب الهامة المحيطة بها .
   وأول شيء يواجهنا في هذا المضمار ، هو ( السيرة ) ولكن لا فائدة ولا جدوى منها بدون دراسة وتحليل ، إذ أنها وحدها هيكل شاخص لا روح فيه ، فهي لا تتجاوز أن تكون كلمات مرسومة على الورق ، بمستطاع كل قارئ أن يقرأها ، ويتندَّر بها أمام أقرانه وزملائه ، كأي قصة تأريخية مثيرة ، من دون أن تترك في نفس القارئ أو السامع أي أثر نافع مفيد ، سوى أنفعالات نفسية آنيَّة .
   ولكن ، حينما يصل الحديث الى عظماء الصحابة ، واستجلاء سيرتهم ، نجد أنفسنا أمام مدرسة مثالية ، غنية بالعطائين ، الفكري والروحي ، ومليئة بالعظات والعبر .
   ونلمس في سلوكهم وأفعالهم ، مع أنفسهم ومحيطهم ، تجسيداً كاملا للمبدأ الذي دعوا اليه وكافحوا من أجله ، كما نجد ان كلمتهم ، كانت الكلمة المسؤولة ، وحياتهم كانت كلها مواقف خالدة خلود الروح ، وباقية بقاء الإنسان .
   إن هذا النمط من العظماء ، يخضع لمراحل صعبة على محكِّ الإختبار

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 14 _

  تجعلهم بمستوى المسؤوليات التي أنيطت بهم ، تلك المسؤوليات الهامة والصعبة التي تتعدى مرحلة الذات الى مستوى أمانة وممثلية لمواجهة الناس على اختلاف أهوائهم ، وألوانهم ، ومراتبهم .
   وتتعدى مرحلة الوقت والجيل ، الى عصور وأجيال ، ونحن بدورنا نراهم يجتازون مراحل الإختبار هذه ، بصبر عجيب ، وصمود محيِّر ، حتى ولو أدى الأمر بهم الى النفي أو الى الموت .
   ومن هذا النمط النادر ـ في الإسلام ـ الأركان الأربعة ، وهم : ( أبو ذر الغفاري ، وسلمان الفارسي ، والمقداد بن الأسود ، وعمار بن ياسر ).
لقد عرف هؤلاء الأربعة ، بأنهم أول من نادى بالتشيع لعلي عليه السلام والولاية له بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لقد نادوا بذلك على أنه من صميم الاسلام .
   فكانوا المثل الأعلى للثبات على هذه العقيدة ، والدفاع عنها .
وبذلك استحقوا هذا الوسام ( الأركان الأربعة ) .
   وأبو ذر الغفاري رضي الله عنه ـ موضوع كتابنا هذا ـ واحد من هؤلاء ، دفعني الى إختياره فعلا ، أمران مهمان :
   الأول : ما لهذه الشخصية من الأثر الديني الكبير في حياتنا الدينية والذي يتصل بحياته ، ومقدمه الى الشام ، وسكناه في منطقة ( جبل عامل ) مدة طويلة من الزمن ، أتاحت له الفرصة في نشر التشيع ( لمذهب أهل البيت ) .
  فالمشهور بين سكان هذه المنطقة أن أبا ذر هو صاحب الفضل في ذلك .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 15 _

   الثاني : ان الذين تناولوا شخصية أبي ذر لم يعطوه القدر الكافي من الإحاطة ، فقد لاحظت من خلال قراءاتي لبعض ما كتب حول هذا الموضوع ، أن بعضهم يحاول التركيز على الناحية القصصية ، والبعض الآخر على الناحية ( الثورية ) في مسلك هذا الرجل ، والبعض الآخر يجهد في إخراجه بصورة ( المتصوف الراهب ) ، وآخر يعطيه صفة ( الحاقد على الإغنياء ) الى غير ذلك من الأوصاف التي تتناسب مع رغبة الكاتب وتفكيره ، ولا تتلائم مع شخصية أبي ذر المسلم الصحابي الجليل .
   فأبو ذر لا يعدو كونه من أجِّلاء الصحابة وخيرتهم ، وجدير بمثله أن يكون عنواناً واضحاً للاسلام .
   لذا فانني بذلت كامل جهدي في إلقاء الضوء على هذه الشخصية التأريخية المميزة ، محاولا بذلك الكشف عن جميع جوانبها ، دون أن أترك شيئاً مما يتعلق بها ، عدا بعض النصوص الزائدة التي لا جدوى من إثباتها ، وعدا ما يفوتني سهواً ، والعصمة لأهلها .
   وسيكون هذا الكتاب هو الحلقة الأولى في سلسلة تتناول حياة ( الأركان الأربعة ) وسيرتهم ، آملين من وراء ذلك ، رضا الله وحده ، سبحانه وتعالى .
  والوقوف على شيء ، من حياة هؤلاء الصفوة ـ من الخالدين ـ في تأريخنا الإسلامي المجيد ، علنا نستمد من سيرتهم مزيداً من الصبر ، والثبات ، في دربنا الطويل ، والله الموفق ،
محمد جواد الفقيه
14 ربيع الثاني / 1400 هـ
2 / 3 / 1980 م

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 16 _

بسم الله الرحمن الرحيم
   لكي نفهم جوهر حركة أبي ذر الغفاري يجب أن نفهم جوهر الاسلام ، وبقدر ما نفهم الاسلام واهدافه وما قصد اليه من أسعاد البشرية والنهوض بها الى أعلى مستويات الكرامة والعزة ـ بقدر ما نفهم الاسلام يمكن ان نفهم ابا ذر واهدافه .
   فالاسلام الذي أنشأ في الجزيرة العربية حكماً هو أولاً حكم الشعب ، ثم هو حكم الكفاءة والعدالة والمساواة والاخوة ، ثم هو حكم ازالة الفروق الاقتصادية الظالمة واتاحة العيش الكريم لكل مواطن ، ومنع تجمع الثروات وتكدسها في ايد محدودة .
   والاسلام الذي قلب اوضاع المجتمع رأساً على عقب واصبحت الكفاءة وحدها هي المؤهلة ، والفرصة متاحة لكل مواطن ان يتقدم ويبرز .
   هذا الاسلام وجد نفسه فجأة محكوما لاسرة كانت هي اقسى من حاربه وأشد من قاومه ، اسرة لم تسلم حتى اعياها القتال ، وعجزت عنه ، واكتسحتها الدعوة فاستسلمت لها وبقيت تتربص وتتحين الفرص لتثب من جديد .
  ولما جاءت الفرصة سيطرت على الاسلام وحكمه بكل احقادها على الاسلام وبكل نقمتها على المسلمين ، فاذا بنا امام انقلاب صريح على كل النظم الاسلامية حققت فيه هذه الاسرة اهدافها في تحويل مسيرة الاسلام ، فاذا بنا نبصر خمس غنائم افريقيا يوهب لرجل واحد ، بينما فقراء المسلمين وضعفاؤهم يعانون الحرمان ، واذا ما لدى افراد معينين من المسلمين ضخور من الذهب تحتاج الى الفؤوس لتقطيعها .
   هذا الانقلاب اذهل المخلصين من المسلمين وكان في طليعتهم ابو ذر الغفاري الذي صمم على الدعوة الى الرجوع بالاسلام الى اصوله الاولى التي تحمي الفقير وتقي المحروم ، وتسود بها العدالة الاجتماعية بين الناس جميعهم .
   وكان يعلم وعورة الطريق امامه ، ويدرك ما ينتظره من شدائد فلم يبال بذلك وصمم على الجهر بالدعوة جهرا لا هوادة فيه ، محاولا ايقاظ الشعب وزجر الحكام حتى آل الى المصير الذي يطالعه القارئ في صفحات هذا الكتاب .
   ولقد أحسنت دار الفنون حين جعلت باكورة كتبها كتابا عن ابي ذر ، فهي بذلك تحيي ذكرى هذا الصحابي الجليل ، والمجاهد النبيل ، وتسهل للقارئ الاطلاع على سيرة رجل يصلح لان يكون قدوة الرجال في نهضات الشعوب ووثبات الامم .
حسن الأمين

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 17 _

الفَصـل الأوَّل

  * صورَة مُجمَلة
  * الفَارِسُ الشّجاع
  * تعَبُّدهُ قبلَ الإسلام
  * إسـلاَمـه
  * معَ الرّسُول ( ص )
  * التشيُّع .. مَا هُوَ ؟
  * أبو ذَرّ وَالتّشيُّع
  * إقامتهُ في بِلاَد الشَّام
  * أبو ذرّ والتّشيَّع في جَبل عَامِل

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 19 _

صُـورَة مُجْـمَلة

   أبو ذر الغفاري : جُندب بن جَنادة * .
   رمز اليقظة في الضمير الانساني المتعب ، كما هو في الضمير الاسلامي .
   أتمثله شيخاً حاني الظهر ، ترتسم على وجهه سيماء الأولياء والصالحين ، وفي عينيه ألق ظل مشعاً بالأمل والحياة على هاتيك الفئات المظلومة من الناس .
   أتمثله ، وهو ينهب الأرض بقدميه ، في رحلته التأريخية الثأرية ، حاملا على ظهره هموم المظلومين والمعذبين ، وعلى لسانه تتجسد صرختهم .
   فهو هكذا أراد ، أراد أن يخرج عن حدود الزمان والمكان ، ويرقى قمة الحرية ... حرية الكلمة ، وحرية التعبير ، فكان منبر الاسلام في فترة من فترات الحكم .

---------------------------
* على الاصح الاشهر ، وقيل اسمه : برير بن جنادة ، وقيل جندب بن سكن وقيل السكن بن جنادة ولكن المشهور المتسالم عليه هو جندب ابن جنادة ، ولا يعرف في كتب التراجم بغير هذا الاسم .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 20 _

   لقد بايع أبو ذر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، على أن لا تأخذه في الله لومة لائم ، وعلى أن يقول الحق ، ولو كان مُرَّا (1) .
   فالتزم ببيعته ، فكان جريئاً في جنب الله آخر عمره ، كما كان في أول أمره .
   ولعل أجرأ نداء صريح في مسمع حاكم ظالم ، كان نداء أبي ذر ( رض ) على أبواب الخضراء ..( أتتكم القطار بحمل النار ! اللهم إلعن الآمرين بالمعروف التاركين له ، اللهم العن الناهين عن المنكر ، المرتكبين له ) (2) .
   هذا هو أبو ذر ، صاحب الكلمة الجريئة ، التي لا تعرف المداهنة ، ولا الرياء ولا الوجل .
   خاطب معاوية ذات مرة ، مجيباً إياه : ( ما أنا بعدو لله ولا لرسوله ، بل أنت وأبوك عدوّان لله ولرسوله ، أظهرتما الاسلام ، وأبطنتما الكفر ، ولقد لعنك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودعا عليك مرات أن لا تشبع .
   فقال معاوية : ما أنا ذاك الرجل .
   فقال أبو ذر : بل أنت ذلك الرجل ! أخبرني بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسمعته يقول ، وقد مررتَ به : اللهم إلعنه ، ولا تشبعه إلا بالتراب ..) (3) .
   وخُيِّل لجلاديه الحاكمين ، أن غضبه إنما كان لنفسه ، وأنه ربما كان عن فاقة ألمِّت به ، أو مطمع يدفعه الى ذلك ، فساوموه رجاء أن يسكت أو يكف ، لكنهم وجدوا خلاف ما كانوا يتوقعون .

---------------------------
(1) أعيان الشيعة / 16 / 319 نقلا عن أسد الغابة .
(2) شرح النهج ج 8 / 257 .
(3) شرح النهج 8 / 257 .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 21 _

   بعث اليه معاوية بثلاثمائة دينار ، فقال : إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا ، قبلتها .
وان كانت صلة ، فلا حاجة لي فيها ) (1) .
   وقال له ـ ذات مرة ـ حبيب بن مسلمة أحد القادة : ( لك عندي يا أبا ذر ، ألف درهم ، وخادم ، وخمسمائة شاة .
   قال أبو ذر : إعطِ خادمك ، وألفَكَ ، وشويهاتِكَ ، من هو أحوج الى ذلك مني ! فاني إنما أسأل حقي في كتاب الله ..! ) (2) .
   بهذه الصراحة ، وبهذا الوضوح يرسم لنا أبو ذر بعض مواقفه ، إنه لم يكن ليثأر ، ويغضب لنفسه ، بل للحق الذي طالب بتثبيته ، وبذلك جعل من نفسه رمزاً يدفع بالمقهورين والمظلومين الى المطالبة بحقوقهم ، وعرض ظلاماتهم ، فكان في تصرفاته تلك رائدا من رواد الحق ، يجازف بنفسه من أجل الآخرين .
   وما أغناه عن أن يقاسي ما قاسى ، لو أراد .
   لقد كان بوسعه أن يعيش حياة الرفاهية والترف ، شأن بعض الصحابة ممن هم دونه في الفضل بمراتب ، لو أراد .
   ولكن في هذه النقطة تكمن احدى الفوارق ما بين الانسان الرسالي ، والانسان العادي .
   بين الانسان الذي يحمل هموم ومستقبل أمة بأسرها ، وبين انسان ينشغل بنفسه ولهوه ، متخماً يتجشأ على موائد الترف !

---------------------------
(1) الغدير 8 / 293 .
(2) اعيان الشيعة 16 / 364 عن آمالي الطوسي .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 22 _

   نعم ، كان أبو ذر انساناً رسالياً ، ولم يكن انساناً عادياً ، وكان في بعض مواقفه يمثل مواقف أمير المؤمنين علي عليه السلام ، ولا غرو ولا عجب ، فهو تلميذ الإمام وواحد من أكثر الناس إخلاصاً له .
   قال أمير المؤمنين عليه السلام :
   ( ولو شِئتُ لاهتديتُ الطريق الى مُصفى هذا العسلِ ، ولُبابِ هذا القمح ، ونَسائجِ هذا القزِّ ، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ، ويقودني جَشعي الى تخيُّرِ الأطعمة ، ولعلَّ بالحجاز أو اليمامة ، من لا طمع له في القرص ، ولا عهد له بالشبع ، أوَ أبيت مبطاناً ، وحولي بطون غرثى ، وأكباد حرَّى ، أوَ أكونُ كما قال القائل :
وحـسبك  داء أن تبيت iiببطنة      وحولك أكباد تحِنُّ الى القِدِّ (1)

   لقد كان أمير المؤمنين علي عليه السلام ، يقول هذا ، ومقدرات الأمة تحت قبضة يده ، بل المعروف أن صدقاته الخاصة وحدها كانت تساوي آلاف الدنانير ذهباً .
   نعم ، كان يقول هذا ـ ويعمل بما يقول مع نفسه ـ ليلفت أنظار المسلمين الى ضرورة تفقد الضعفاء ، والمقهورين ، والمدفوعين عن حقوقهم ، ويلفت انظار الولاة الى الرفق بالرعية وتفقد أحوالهم .
   وكان أبو ذر ـ تلميذ الإمام ـ ممن سار على هذا الهدي ، فقد كان عطاؤه السنوي اربعماية ديناراً ذهباً .
   ومع هذا فانه كان لا يدخر منها

---------------------------
(1) نهج البلاغة 3 / 71 / 72 ( الجشع ـ الحرص ـ البطنة ـ الاشر ـ والبطر ) ، القد : سير من جلد غير مدبوغ ، والمعنى ان بعضهم يطلب أكله فلا يجده .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 23 _

   شيئاً .
   وكان يندد بالكانزين للذهب والفضة الذين لا يخرجون الزكاة الواجبة منها ، أو الذين أخذوها من طرق غير مشروعة أيام عثمان ، وكان يطلب حقه ( في كتاب الله ) كما تقدم ، ويرفض الألف درهم ، والعبد والخمسماية شاة .
   أجل ، انه لم يكن ليفعل هذا عن فاقة ، أو مطمع ، بل كان يريد إلفات المسؤولين ـ في حينه ـ الى انصاف المظلومين ، وايصال كل ذي حق الى حقه .
   وأعيت الحيلة غرماءه الحاكمين في إسكاته ، فعمدوا الى طريقة ثانية قرروا فيها إسكاته ، وكانت طريقة ناجحة ـ في نظرهم ـ فنفوه الى الربذة .
   حمل من الشام الى المدينة على مركب وعر ، حتى تسلخ فخذاه ، ثم بعد ذلك ، نفي الى الربذة * بعيداً عن مهاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ومواطن الايمان ، حتى توفي غريباً هناك !
   رحم الله أبا ذر ، لقد كان ينسى كل جراحه وآلامه في رحلته الثأرية تلك ، ليكتب على رمال الصحراء ملحمته الخالدة .
   ملحمته التي ستبقى مع الشمس تشرق ، ولكنها لا تغيب !!

---------------------------
* الربذة : موضع على بعد ثلاثة ايام من المدينة ... معجم البلدان 3 / 24 .