8 ـ وعن ابن عباس رضي الله عنه ، قال :
  أقبل عبد الله بن سلاّم ، ومعه نفر من قومه ، ممن قد آمنوا بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقالوا : يا رسول الله ، إن منازلنا بعيدة ، وليس لنا مجلس ، ولا متحدث دون هذا المجلس ، وان قومنا لما رأونا آمنا بالله ورسوله ، وصدقناه ، رفضونا ، وآلوا على أنفسهم أن لا يجالسونا ، ولا يناكحونا ( أي لا يتزوجون منا ولا نتزوج منهم ) ولا يكلمونا ، فشق ذلك علينا .
   فقال لهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ( إنما وليُّكم الله ورَسُولُهُ والذين آمنوا الذين يُقيمونَ الصلاة ، ويؤتُونَ الزكاةَ وهُمْ راكِعُون ) ( 55 ـ المائدة ) .
   ثم إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خرج الى المسجد ، والناس بين قائم وراكع ، وبصر بسائل .
   فقال له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : هل أعطاك أحد شيئاً ؟
   قال : نعم ، خاتم من ذهب * .
   فقال النبي ( صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) : من أعطاكه ؟
   قال : ذلك القائم ـ وأومأ بيده الى علي بن أبي طالب ـ .
   فقال النبي ( صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) : على أي حال أعطاك ؟
   قال : أعطاني وهو راكع ! .
   فكبَّر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ثم قرأ : ( ومَن يتولَّى اللهَ

---------------------------
* هكذا في شواهد التنزيل ، ولكن في الحديث المروي عن ابن عباس : خاتم من فضة / راجع التعليقة .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 52 _

   وَرَسُولَهُ والذين آمنوا فانَّ حِزبَ اللهِ هُم الغَالِبُون ) ( 55 ـ المائدة ) .
   فأنشأ حسان بن ثابت يقول :
أبا حسن تفديك نفسي iiومهجتي      وكل  بطيئ في الهوى ومسارع
أيذهب  مدحي والمحبين iiضائعاً      وما المدح في جنب الإله بضائع
فأنت الذي اعطيت اذ كنت iiراكعاً      فدتك  نفوس القوم يا خير iiراكع
فـانزل فـيك الـلَّه خير iiولاية      وبينها في محكمات iiالشرائع(1)

   وقصة التصدّق بالخاتم ـ هذه ـ من أشهر المشهورات ، وقد رواها الجويني بعدة طرق ، وبأسانيد مختلفة ، كما رواها غيره من أرباب الحديث .
   ونكتفي هنا بهذا العرض لبعض الروايات في هذا المضمون ، والتي هي نزر قليل من الكثير الكثير ، اذ لو أردنا استقصاء وذكر الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في فضل أمير المؤمنين علي عليه السلام ، والمشتملة على النص بالولاية منه ( صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) له ( عليه السلام ) من بعده ، وعلى إلزام المسلمين بالأخذ عن أهل البيت ( عليهم السلام ) معالم دينهم لألزمنا ذلك بافراد كتاب مستقل ، ولأخرجنا عن الموضوع .
   ومجمل القول :
   فان الشيعة يعتقدون بأن الإمامة ، لا تكون إلا بالنص من الله تعالى ،

---------------------------
(1) فرائد السمطين 1 / 189 / 190 ، راجع مجمع البيان وشواهد التنزيل ، وذخائر العقبى ، فانه أشار فيه الى هذه الآية وثماني آيات نزلت في علي ، راجع ص 88 ـ 89 ـ ومن أحب الاستزادة في فضائل الامام ، فليراجع صحيح مسلم م 4 ص 1870 وفضائل الخمسة من الصحاح السنة وغيرها .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 53 _

   على لسان النبي ، أو على لسان الإمام الذي قبله ، وأن الإمام لا بد وأن يكون معصوماً من جميع الرذائل ، ومن السهو والخطأ والنسيان ، كما لا بد وأن يكون أفضل الناس بعد النبي ( صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) .
   ولا يهمنا من بحث الإمامة هنا ( اثبات انهم هم الخلفاء الشرعيون ، وأهل السلطة الإلهية ، فان ذلك أمر مضى في ذمة التاريخ ، وليس في اثباته ما يعيد دورة الزمن من جديد أو يعيد الحقوق المسلوبة الى أهلها ، وانما يهمنا منه ، ما ذكرنا من لزوم الرجوع اليهم في الأخذ بأحكام الله الشرعية ، وتحصيل ما جاء به الرسول الأكرم على الوجه الصحيح الذي جاء به ، وان في أخذ الأحكام من الرواة والمجتهدين الذين لا يستقون من نمير مائهم ، ولا يستضيئون بنورهم ، ابتعاداً عن محجة الصواب في الدين ) (1) .

---------------------------
(1) عقائد الشيعة الامامية / 99 .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 54 _

أبـو ذَرّ وَالـتّـشيُّـع

   من هذا المنطلق الواضح ، يمكننا القول بأن التشيع ليس مذهبا طارئا على الاسلام ، أو فكرة دخيلة عليه ، بل هو من صميم الاسلام ، وأصل من أصوله ، نشأ في عهد النبي الأعظم ، وبايعاز منه صلوات الله عليه ، فهو الذي بذر هذه البذرة المباركة وتعاهدها بنفسه .
   والمهم لدينا الآن ، هو الوصول الى ما نريده من هذه الحقيقة ، الهامة ، وهو التحدث عن تشيع أبي ذر الصحابي العظيم ( رض ) ، وغيره من الصحابة ..وما علينا في هذا الحال إلا أن نسرد بعض النصوص التأريخية المتضمنة لذلك .
   قال أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني :
   إن لفظ الشيعة على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) كان لقب أربعة من الصحابة ..سلمان الفارسي ، وأبي ذر الغفاري ، والمقداد بن الأسود الكندي ، وعمار بن ياسر (1) ..
   وقال الشيخ المفيد رحمه الله ، في بيان إمامة أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) .
   فاختلفت الأمة في إمامته يوم وفاة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ،

---------------------------
(1) الشيعة وفنون الاسلام / 31 .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 55 _

   فقالت شيعته ، وهم : بنو هاشم كافة ، وسلمان ، وعمار ، وأبو ذر (1) ..الخ .
   وقال اليعقوبي ، حول الموضوع ذاته :
   وتخلف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار ، ومالوا مع علي بن أبي طالب ،منهم : العباس بن عبد المطلب ، الى أن قال : وأبو ذر الغفاري ، وعمار بن ياسر (2) .. الخ ما ذكره .
   وقال الكشي عنه : وهو الهاتف بفضائل أمير المؤمنين عليه السلام ، ووصي رسول الله واستخلافه إياه (3) ..
   وجاء في سيرة الأئمة الإثني عشر ، حول الموضوع ذاته :
   ( واحتج عليهم سلمان الفارسي ، وأبو ذر ، وعمار ، والمقداد ، وغيرهم من وجوه الصحابة (4) ..
   وجاء في كتاب أصل الشيعة وأصولها ، في ذكر طبقات الشيعة :
   الطبقة الأولى : وهم أعيان الصحابة ، وأبرارهم ، كسلمان المحمدي ـ أو الفارسي ـ وأبي ذر ، والمقداد وعمار ، وخزيمة ذي الشهادتين ، وابن التيهان ، وحذيفة بن اليمان ، والزبير ، والفضل بن العباس ، وأخيه الحبر عبد الله ، وهاشم بن عتبة المرقال ، وابي ايوب الأنصاري ، وأبان وأخيه خالد ـ ابني سعيد العاص ، الأمويين ـ وأبي بن كعب سيد القراء .
   وانس بن الحرث بن نبيه ، الذي سمع النبي ( صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) يقول : أن ابني الحسين ( عليه

---------------------------
(1) الارشاد / 10 .
(2) تاريخ اليعقوبي 2 / 124 .
(3) معجم رجال الحديث 4 / 168 .
(4) سيرة الأئمة 1 / 295 .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 56 _

   السلام ) يقتل في أرض يقال لها : كربلاء فمن شهد ذلك منكم ، فلينصره ، فخرج أنس ، وقتل مع الحسين عليه السلام ( راجع الإصابة والاستيعاب ) .
   ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى : ولو أردت أن أعد عليك الشيعة من الصحابة ، واثبات تشيعهم من كتب السنة ، لأحوجني ذلك الى إفراد كتاب ضخم (1) .
   الى غير ذلك من النصوص والأخبار ، التي تصرح بتشيع أبي ذر ( رض ) وغيره من الصحابة لعلي ( عليه السلام ) وآل البيت الطاهر تشيعاً ليس عاطفياً يقتصر على حبهم فحسب ، بل تشيعاً مبدئياً ، ينادي بأحقية علي عليه السلام في الخلافة بعد رسول الله ( صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) بلا فصل .
   استناداً الى ما سمعه هو ، وبقية الصحابة منه ( صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) في ذلك ، كحديث الغدير المتقدم وأمثاله .
   فقد كان أبو ذر رضي الله عنه ، ممن ثبت على هذا المبدأ ، فنافح عنه ، ودافع على أكثر من جبهة ، وفي عدة مواطن ، ودعا المسلمين اليه بكل جرأة وصراحة ، حتى آخر لحظة من حياته .
   ففي مكة ، كان لسانه يلهج بذلك ، وفي المدينة ، كما في الشام ، وحتى في منفاه الأخير في الربذة ، لم يتوان ، ولم يتلكأ في تأدية الأمانة .
   وفي مكة المكرمة ، وحول البيت العتيق ، مهوى قلوب الملايين من المسلمين ومركز تجمعهم في كل عام ، كان أبو ذر يغتنم الفرصة ، فيدعو المسلمين ، ليحدثهم بما سمع عن رسول الله ( صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) في حق أهل البيت بصورة عامة ، وعلي عليه السلام بصورة خاصة .
   فمن ذلك ، ما رواه الجويني بسنده ، عن عباية بن ربعي ، قال :

---------------------------
(1) أصل الشيعة وأصولها / 86 .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 57 _

   بينما عبد الله بن عباس ، جالس على شفير زمزم ( يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) ، اذ أقبل رجل متعمم بعمامة ) فجعل ابن عباس لا يقول ، قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، إلا قال الرجل : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
   فقال ابن عباس : سألتك بالله ، من أنت ؟
   قال : فكشف العمامة عن وجهه ، وقال : يا أيها الناس من عرفني ، فقد عرفني ، ومن لم يعرفني ، فأنا جندب ابن جنادة البدري ، أبو ذر الغفاري ، سمعت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بهاتين ، وإلا فصمَّتا ، ورأيته بهاتين ، وإلا فعميتا .
   يقول : علي قائد البررة ، وقاتل الكفرة ، منصور من نصره ، مخذول من خذله .
   أما اني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوماً من الأيام صلاة الظهر ، فسأل سائل في المسجد ، فلم يعطه أحد ، فرفع السائل يده الى السماء وقال : ( اللهم ) إشهد اني سألت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلم يعطني أحد شيئا ، وعلي عليه السلام كان راكعا ، فأومأ بخنصره اليمنى ـ وكان يتختم فيها ـ فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره ، وذلك بعين رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فلما فرغ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من صلاته ، رفع رأسه الى السماء ، وقال :
   اللهم إن أخي موسى سألك فقال : ( رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) (1) ، فأنزلت عليه قرآناً ناطقاً

---------------------------
(1) مقتبس من آية 25 ـ 32 / طه .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 59 _

   عرفني ، فأنا من عرفتم ، ومن أنكرني ، فأنا أبو ذر ، سمعت رسول الله يقول :
   ألا إن مثل أهل بيتي فيكم ، مثل سفينة نوح من قومه ، من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق (1) .
   وفي المدينة ، عاصمة العالم الاسلامي ، ومقر الخلافة ، كان رضي الله عنه يقوم بنفس الدور ، على الرغم من المراقبة الشديدة المفروضة من قبل الأمويين ودعاتهم في ذلك الوقت .
   قال اليعقوبي في تأريخه :
   ( وبلغ عثمان أن أبا ذر ، يقعد في مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) ويجتمع اليه الناس ، فيحدث بما فيه الطعن عليه ، وأنه وقف بباب المسجد ، فقال :
   أيها الناس ، من عرفني ، فقد عرفني ، ومن لم يعرفني ، فأنا أبو ذر الغفاري ، جندب بن جنادة الربذي : إن الله إصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم ، وآل عمران على العالمين .
   ذرية بعضها من بعض ، والله سميع عليم ، محمد الصفوة من نوح ، فالأول من إبراهيم ، والسلالة من إسماعيل ، والعترة الهادية من محمد .
   إنه شرف شريفهم واستحقوا الفضل في قوم ( قومهم ) هم فينا كالسماء المرفوعة ، وكالكعبة المستورة ، أو كالقبلة المنصوبة ، أو كالشمس الضاحية ، أو كالقمر الساري ، أو كالنجوم الهادية ( أو كالشجرة الزيتونة ) أضاء زيتها ، وبورك زبدها .
   ومحمد وارث علم آدم ، وما فضل به النبيون ، وعلي بن أبي طالب وصي محمد ووارث علمه .
   أيتها الأمة المتحيرة ، أما لو قدمتم من قدَّم الله ، وأخرتم من أخَّر

---------------------------
(1) المستدرك / 3 / 150 ـ 151 .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 60 _

   الله وأقررتم الوالية والوراثة في أهل بيت نبيكم ، لأكلتم من فوق رؤوسكم ، ومن تحت أقدامكم ، ولما عال ولي الله ، ولا طاش سهم من فرائض الله ، ولا اختلف إثنان في حكم الله ، إلا وجدتم علم ذلك عندهم ، من كتاب الله وسنة نبيِّه ، فأما اذا فعلتم ما فعلتم ، فذوقوا وبال أمركم ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .
   وفي الشام ، كان أبو ذر يسلك نفس المسلك مع من يجتمع اليه من الناس ويحدثهم بمثل ذلك .
   قال اليعقوبي : وكان يجلس في المسجد ـ يعني في الشام ـ فيقول كما كان يقول ( في المدينة ) ويجتمع اليه الناس ، حتى كثر من يجتمع اليه ، ويسمع منه(1) .
   وحتى في الربذة ، منفاه الموحش المقفر ، لم تصرفه آلامه وهمومه ، ولا ما هو فيه من الاغتراب عن مواطن الايمان والجهاد ، والأصحاب الأخلاء .
   لم يصرفه ذلك ولم يشغله عن اكمال مسيرته التي بدأت خطاها في عهد النبي ( صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) فظل متمسكا بمبدأه هذا ، منادياً به حين تمكنه الفرصة من ذلك ، فرصة اللقاء بمن يستمع اليه ، ويأخذ منه .
   في شرح النهج ، عن أبي رافع ، قال :
   أتيت أبا ذر بالربذة ، أودعه ، فلما أردت الانصراف ، قال لي ، ولأناس معي : ستكون فتنة ، فاتقوا الله ، وعليكم بالشيخ : علي بن أبي طالب ، فاتبعوه .
   والحق أن موقف أبي ذر من مبدأ التشيع ، كان موقفاً مثالياً يجسم لنا كل معاني الثبات والصمود ، فما كان لتلين له عريكة فيه ، ولا لتميل له

---------------------------
(1) تأريخ اليعقوبي 2 / 172 .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 61 _

   قناة ، لقد كان صلباً قوياً ، متفانياً في سبيل ذلك ، وكأنه في موقفه هذا ، يفسر لنا بيعته لرسول الله ( صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) .
   أن لا تأخذه في الله لومة لائم ، وأن يقول الحق ولو كان مرا ! .
   عن معاوية بن ثعلبة الليثي قال :
   مرض أبو ذر ، فأوصى الى علي ( عليه السلام ) .
   فقال بعض من يعوده : لو أوصيت الى أمير المؤمنين عثمان ، كان أجمل لوصيتك من علي .
   قال : والله لقد أوصيت الى أمير المؤمنين ، حق أمير المؤمنين ! والله أنه للربيع الذي يسكن اليه ، ولو قد فارقكم ، لقد انكرتم الناس وانكرتم الأرض .
   قال : قلت : يا أبا ذر ، انا لنعلم أن أحبهم الى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أحبهم اليك !
   قال : أجل !
   قلنا : فأيهم أحب اليك ؟
   قال : هذا الشيخ المظلوم ، المضطهد حقه ! يعني علي بن أبي طالب (1) .

---------------------------
(1) أعيان الشيعة 16 / 332 .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 65 _

إقـامتـُه في بِلاَد الشَّـام

   حين نقرأ سيرة أبي ذر في الكتب التأريخية وغيرها ، نجد أنفسنا أمام صورة غير واضحة لهذا الصحابي العظيم ، فنجد شيئا من الغموض يكاد يكتنف حياته ، ولعل مردّ ذلك يعود الى نوع من التعتيم الاعلامي ، فرض على مسار هذه الشخصية .
   فمثلا ، نجد بعض المؤرخين ، كالطبري ، وابن الأثير ، قد أهملوا التفصيل في كيفية نفي أبي ذر الى المدينة ، فالربذة ، كما أهملوا ذكر النزاع الذي جرى بينه وبين عثمان .
   ونجد : البعض الآخر يحاول الدفاع عن عثمان ، فيذهب الى القول : بأن أبا ذر نزل الربذة بمحض اختياره .
   والبعض الآخر ، يؤكد نفي أبي ذر الى الشام أوّلا ، ثم الى المدينة ، ثم الى الربذة .
   ونحن بدورنا ، نريد التثبت من الحقائق حول هذا الامر ، عن طريق الاستعانة ببعض الروايات ، والنصوص التأريخية ، والابتعاد عمَّا تمليه العاطفة والحساسيات الخاصة .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 66 _

   والذي وجدته ـ بعد التأمل والتدقيق ـ أن أبا ذر كان قد أقام في الشام مدة طويلة ، ربما نافت على العشرة سنوات ، تسنى له من خلالها نشر مذهبه في التشيع لعلي وأهل البيت عليهم السلام .
   وعليّ الآن ، أن أعرض للقارئ كلمات بعض المؤرخين والباحثين ، الذين ذهبوا الى القول : بأن أبا ذر أُخرج الى الشام منفيَّاً ، ليتسنى له المقارنة بينها وبين النصوص الاخرى التي تؤكد خلاف ذلك .
   قال أبن أبي الحديد في شرح النهج :
   ( واعلم : أن الذي عليه اكثر أرباب السيرة ، وعلماء الاخبار والنقل ، أن عثمان نفى أبا ذر أوّلا الى الشام ، ثم استقدمه الى المدينة لمَّا شكا منه معاوية ، ثم نفاه من المدينة الى الربذة ، لما عمل بالمدينة نظير ما كان يعمل بالشام ) (1) .
   وقال السيد المرتضى رحمه الله تعالى :
   ( بل المعروف والظاهر ، أنه نفاه أوّلا الى الشام ، ثم استقدمه الى المدينة لما شكا منه معاوية ، ثم نفاه من المدينة الى الربذة ..) (2) .
   وقال السيد الامين رحمه الله :
   ( وما كان أبو ذر ليترك المدينة ، مهاجر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ومسجده ، ومجاورة قبره ، اختيار ، ويذهب الى الشام ، فيجاور بني أميَّة ، وانما خرج الى الشام منفياً ) (3) .

---------------------------
(1) شرح النهج 8 / 255 ـ 256 .
(2) اعيان الشيعة 16 / 363 .
(3) نفس المصدر / 353 / 354 .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 67 _

   الى غير ذلك من أقوال غيرهم ، التي تفيد الشهرة حول هذا الامر ، والشهرة في هذا المقام لا تغني من الحق شيئاً ، فرب مشهور لا أصل له ، سيما اذا قام الدليل على خلافه .
   والآن نعرض للقارئ بعض النصوص الاخرى ، نضعها بين يديه للتأكد مما نرمي اليه ، من القول : بأن إقامة أبي ذر في الشام كانت طويلة جدا ، وكانت بادئ الامر بمحض اختياره ورغبته ، وكامل حريته ، إلا أن حريته في الذهاب الى المدينة المنورة ، ومجاورة قبر الرسول ( صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) متى شاء ، أصبحت مقيدة آخر الامر بسبب ما جرى بينه وبين عثمان .
   قال في الاستيعاب :
   ( بعد أن أسلم أبو ذر ، رجع الى بلاد قومه ، فأقام بها حتى مضت بدر ، وأحد ، والخندق ، ثم قدم على النبي ( صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) المدينة ، فصحبه الى أن مات صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
   ثم خرج بعد وفاة أبي بكر الى الشام ، فلم يزل بها حتى ولي عثمان ، ثم استقدمه عثمان لشكوى معاوية ، فنفاه وأسكنه الربذة ، فمات بها ..) (1) .
   وهنا ، يحق لنا التساؤل :
   ما هو المبرر لرفض هذه الرواية ؟ مع أن هناك الشواهد الكثيرة على صحة مضمونها !؟
   إن رفض هذه الرواية ، لا مبرر له ، فأي مانع من أن يكون أبو ذر ، قد أقام في الشام بمحض اختياره ، إن لم نقل بأنه كان يتعرض لمضايقات معينة

---------------------------
(1) الاستيعاب ( حاشية على كتاب الاصابة ) م 1 ص 213 .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 68 _

   ـ نظرا لجرأته وصراحته ـ دفعت به الى الاقامة فيها أثناء خلافة عمر بن الخطاب .
   إن من يتتبع سيرة أبي ذر ، يجد أن هذه الشخصية الفريدة ، يكتنف مسارها الغموض والتعتيم من الفترة ما بين خلافة عمر الى خلافة عثمان ، فلا حديث ، ولا رواية ، ولا أي شيء يتعلق به في تلك الفترة ، ! مع كونه من المبرزين الأول في الاسلام ، دينا ، وفضلا ، وعلما ، فهو لم يكن مسلما عاديا يقرن بعامة المسلمين ، بل كان من خيرة خيرتهم ، ممن نوَّه رسول الله ( صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) بفضلهم ، وممن حازوا قصب السبق في مجالي الدين والعلم ، ويكفي قول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيه : ( ما تقل الغبراء ، ولا تظل الخضراء من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذر ، شبيه عيسى بن مريم ) (1) .
   وحديث علي عليه السلام فيه : ( وعاء ملىء علما ، ثم أوكأ عليه ) (2) .
   إن التعتيم الاعلامي على مسار أبي ذر ( رض ) في تلك الفترة ، ربما لم يكن مقصودا ، ولكنه يؤكد تأكيدا كاملا على أنه كان بعيدا عن مركز الخلافة ، أعني : المدينة المنورة ـ عاصمة العالم الاسلامي ـ آنذاك .
   كما أنه لم يكن في تلك الفترة في موطنه الاصلي ، أعني منازل قومه بني غفار ، لأن النصوص لا تشير الى ذلك البتة .
   اذن : أين كان أبو ذر في تلك الفترة ؟ .
   الشواهد التأريخية كلها ساكتة عن وجوده في أي بلد ، ما عدا الشام .

---------------------------
(1) المستدرك مع التلخيص م 3 / 342 .
(2) الغدير 8 / 311 نقلا عن أسد الغابة 5 / 186 وشرح الجامع الصغير 5 / 423 وفي الاصابة / 4 ص 64 .
* الوكاء ـ ما يشد به الكيس ، والمقصود هنا ربما يكون هو أن علم أبي ذر مما لا يطيقه الناس ولا تتحمله عقولهم فلذلك أخفاه عنهم .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 69 _

   نعم : كان أبو ذر رضي الله عنه في تلك الفترة ، قد اتخذ الشام وجوارها مقرا له ، وقد كان يقوم بدوره الرسالي فيها على أكمل وجه ، هذا ما يستفاد من بقية النصوص والروايات في هذا الصدد .
   جاء في رواية البلاذري :
   ( وقال عثمان يوما : أيجوز للامام أن يأخذ من المال ؟ فاذا أيسر قضى ؟
   فقال كعب الأحبار : لا بأس بذلك .
   فقال أبو ذر : يابن اليهوديين ، أتعلمنا ديننا ! ؟
   فقال عثمان : ما أكثر أذاك لي ، وأولعك بأصحابي ! ؟ إلحق بمكتبك ! وكان مكتبه بالشام ، إلا أنه كان يقدم حاجا ، ويسأل عثمان الإذن له في مجاورة قبر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فيأذن له في ذلك ..) (1) .
   وكلمة ( مكتب ) هنا ، تعني : مركز تجمع كتائب الجيش الاسلامي ، والرواية صريحة في كون إقامته بالشام لم تكن قسرا .
   ويؤيدها ، ما جاء في تأريخ ابن الأثير ، قال في حوادث سنة 23 :    ( وفيها غزا معاوية الصائفة ( الروم ) ومعه عبَّادة بن الصامت ، وأبو أيوب الأنصاري ، وأبو ذر ..) .
   وقال في حوادث سنة 28 :
   ( كان فتح قبرس على يد معاوية ..الى أن قال : ولما غزا معاوية هذه السنة ، غزا معه جماعة من الصحابة ، فيهم أبو ذر ..) (2) الخ .

---------------------------
(1) الغدير 8 / 293 نقلا عن الانساب 5 / 52 / 54 .
(2) الكامل 3 / 77 و 95 .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 70 _

   وجاء في كلام ابن بطال :
   ( وكان في جيشة ـ يعني معاوية ـ ميل الى أبي ذر ، فأقدمه عثمان حشية الفتنة ) (1) .
   وجاء في رواية الواقدي :
   ( إن أبا الأسود الدؤلي قال : كنت أحب لقاء أبي ذر ، لأسأله عن سبب خروجه الى الربذة ، فجئته ، فقلت له :
   ألا تخبرني ، أخرجت من المدينة طائعا ؟ أم أخرجت كرها ؟ فقال : كنت في ثغر من ثغور المسلمين ، أغني عنهم ، فأخرجت الى المدينة ، فقلت دار هجرتي وأصحابي ، فأخرجت من المدينة الى ما ترى ! ) (2).
   والثغر الذي عناه ، هو بلاد الشام بالطبع ، ويلاحظ هنا ، أنه لم يقل أخرجت الى ثغر من ثغور المسلمين ، أو اخرجت الى الشام ، بينما قال : أخرجت الى المدينة ، ثم قال : فأخرجت الى ما ترى ـ يعني البرذة ـ مما يدل على أنه كان مختارا ، أو مرتاحا ـ على الأقل ـ في اقامته بالشام .
   وجاء في رواية ثانية للواقدي :
   ( فقال عثمان : أخرج عنا من بلادنا !
   فقال أبو ذر : ما أبغض الي جوارك ، فالى أين أخرج ؟
   قال : حيث شئت !
   قال : أخرج الى الشام ، أرض الجهاد ؟ !

---------------------------
(1) الغدير 8 / 325 عن عمدة القارئ للعيني 4 / 291 .
(2) شرح النهج 80 / 360 .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 71 _

   قال : انما جلبتك من الشام ، لما قد أفسدتها ، أفأردك اليها !؟ ) (1) .
   إن هذه الروايات ، تعطينا الدليل الكافي ، بل القاطع ، على أن اقامة أبي ذر في الشام لم تكن جبرية ، ولم يكن مكرها فيها ، كما لم تكن قصيرة تقاس بالأشهر .
   ولا يعني هذا ، أنه في خلال اقامته تلك ، كان قد انقطع عن زيارة مدينة الرسول ( صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) فمما لا شك فيه أن أبي ذر لا يفوته الحج الى بيت الله الحرام في كل عام ، كما لا تفوته زيارة قبر الرسول ( صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) ومجاورته ، ومن ثمَّ اللقاء بالصحابة ، وزيارة دار الخلافة ، والنظر في شئون المسلمين .
   من هنا ، يمكننا الركون ـ بكل بساطة ـ الى القول بأن ما جرى بينه وبين عثمان بادئ الامر ، من النقاشات الكلامية الحادة ، لم يكن سببا في نفيه الى الشام ـ كما يتصور ـ بل كان في أغلب الاحيان ، سببا في تعجيل رجوعه الى الشام ، وتقييدا لحريته في الاقامة بالمدينة متى شاء ، وكيف أراد .
   وبهذا يتضح وهن الرأي القائل بأن عثمان نفاه الى الشام ، هذا الرأي الذي يهدف ـ غالبا ـ الى إضفاء صبغة مأساوية ، تضاف الى مأساة أبي ذر الحقيقية ، وهي نفيه ( الى المدينة ، ومن ثم الى الربذة ) .
   بعد هذا العرض ، ننتقل الى حقيقة تأريخية هامة ، تتصل بسيرة هذا الصحابي العظيم ، ومكوثه في بلاد الشام هذه المدة الطويلة ، وقيامه بدوره الرسالي على أكمل وجه .
   تلك هي : صلته بنشأة التشيع في جبل عامل ، وهذا ما سنعرضه في الفصل التالي :

---------------------------
(1) المصدر السابق .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 72 _

أبـو ذرّ وَالتّـشيُّع في جَبـل عَامِـل

   وقبل الدخول في الموضوع ، لا بد لنا من الوقوف على موقع ( جبل عامل ) الجغرافي من بلاد الشام ، تأريخيا ، لكي تتثبت من إقامة ابي ذر فيه ، وتنجلي لنا حقيقة الامر في ذلك .

حـدود الـشـام :
   قال ياقوت في معجم البلدان : وأما حدها ـ يعني الشام ـ فمن الفرات الى العريش المتاخم للديار المصرية .
   وأما عرضها : فمن جبلي طيىء من نحو القبلة ، الى بحر الروم ، وما بشأمة ذلك من البلاد ، وبها من أمهات المدن : منبج ، وحلب ، وحماة ، وحمص ، ودمشق ، والبيت المقدس ، والمعرة ، وفي الساحل : إنطاكية ، وطرابلس ، وعكا ، وصور ، وعسقلان ، وغير ذلك .. الخ (1) .
   هذه هي سعة الشام وسعة حدودها ـ في ذلك الوقت ـ ويتضح من ذلك ، ان منطقة جبل عامل داخلة في ضمنها ، لأن منها صور .
   وقال في متن اللغة ، مادة : ع م ل .
   بنو عاملة ، حي يمان من ولد الحرث بن عدي ، ينتهي الى كهلان بن سبأ ، نُسبوا الى أمهم عاملة بنت مالك القضاعية ، وجبلهم بالشام ، فوق

---------------------------
(1) معجم البلدان 3 / 312 مادة : شأم .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 73 _

   صور وصيدا ، يعرف بهم ، واشتهر باسم : جبل عامل (1) .
   المهم : ان الشام لم تكن اسما لخصوص دمشق ( العاصمة ) ، بل كان لفظ الشام يطلق على المنطقة المشار اليها آنفا بأجمعها ، بما فيها جبل عامل .
   وقد أشرنا سابقا الى أن أبا ذر ( رض ) أقام في الشام بعد وفاة أبي بكر ـ كما يظهر من رواية الاستيعاب ـ حتى شكاه معاوية الى عثمان ، فأخرجه الى المدينة ، ثم نفاه الى الربذة .
   وأن الروايات الاخرى التي تشير الى اخراجه من المدينة الى الشام ، لا تعني اخراجه اليها منفيا ، بل كل ما هناك أن عثمان كان يأمره بالتعجيل في الخروج الى الشام ، كما في قوله له : ( الحق بمكتبك ) ، راجع ص 67 .
   ثم ان اقامة أبي ذر فيها ، لا تعني في خصوص دمشق ـ كما يتوهم ـ بل في المنطقة عامة ، يؤيد ذلك قول أبي ذر مخاطبا عليا عليه السلام حين كان في وداعه : ( اني ثقلت على عثمان بالحجاز ، كما ثقلت على معاوية بالشام ! ) (2) .
   فكما أن كلمة ( الحجاز ) تشمل كل مدن الحجاز بما فيها المدينة ، كذلك كلمة ( الشام ) تشمل كل مدن الشام ، بما فيها دمشق ، وبما فيها ( جبل عامل ) .
   ومن الواضح : أنه ( رض ) ، كان في هذه المنطقة ، تحت قبضة معاوية وسلطانه ، فصح أن يقال : كان عند معاوية .

---------------------------
(1) متن اللغة 4 / مادة : ع م ل / 209 .
(2) شرح النهج 8 / 254 .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 74 _

تحـديـد مـدة اقـامته في الشـام
   النصوص التأريخية ، لا تحدد مقدار إقامته فيها ، إلا ما ورد عن كميل بن زياد رحمه الله ، قال : ( كنت بالمدينة حين أمر عثمان أبا ذر باللحاق بالشام ، وكنت بها في العام المقبل حين سيَّره الى الربذة ) (1) .
   هذه الرواية فقط ـ اذا صحت ـ تشير الى ان اقامته فيها استغرقت سنة ، أما ما عداها ، فلا يستند إلا الى التخمين والاستنتاجات الخاصة ، ومع ذلك ، فان رواية كميل هذه لا يستفاد منها مجموع إقامته في الشام ، بل يستفاد منها : أن المدة ما بين أمر عثمان أبا ذر باللحاق بالشام ، وبين نفيه الى الربذة ، استغرقت سنة .
   وعلى هذا ، فلا تنافي بين رواية ( الاستيعاب ) المتقدمة وهذه الرواية .
   وبوسعنا القول الآن : أن اقامة ابي ذر في بلاد الشام ، في مدنها وقراها ، كانت طويلة جدا ، ربما استغرقت أربعة عشر سنة ، وأهم الشواهد على ذلك ، ما يلي :    اولا : رواية الاستيعاب المتقدمة ( ص 65 ) وهي صريحة فيما نرمي اليه ، حيث يقول فيها : ( ثم خرج بعد وفاة ابي بكر الى الشام ، فلم يزل بها حتى ولي عثمان ، ثم استقدمه عثمان لشكوى معاوية ..) والمعروف أن وفاة أبي بكر كانت في سنة 13 هـ .
   وفي هذه السنة ولي عمر بن الخطاب ، حتى توفي سنة 23 هـ ، وفيها بويع عثمان بن عفان (2) ، الى سنة 35 هـ ( على التقريب ) وقد نفى عثمان أبا ذر من الشام الى المدينة ، فالربذة ، في سنة 30 ـ على ما ذكره ابن الأثير ـ (3) .

---------------------------
(1) الغدير 8 / 204 .
(2) مروج الذهب 2 / 297 / 304 .
(3) الكامل 3 / 113 .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 75 _

   فعلى هذا تكون الفترة ما بين خروج أبي ذر الى الشام ونفيه الى المدينة سبعة عشر سنة .
على رواية الاستيعاب !
   ثـانيـا : النصوص التي تتحدث عما أوجده أبو ذر ، ـ في اقامته تلك ـ من تغيير في ذهنية المجتمع الشامي ، وصرفه الناس اليه ، وأخذهم منه الحكم والفتيا واجتماعهم من حوله ، من جهة ، وميل المعسكر الذي كان فيه ، اليه من جهة أخرى .
   الى حدّ حرك في نفس معاوية الخوف من عواقب ذلك ، فكتب الى عثمان يحمله اليه ، واليك بعض هذه النصوص :
   أ ـ قول حبيب بن مسلمة الفهري لمعاوية : ( إن أبا ذر لمفسد عليكم الشام ، فتدارك أهله ، إن كان لك فيه حاجة .. )(1).
   ب ـ كتب معاوية الى عثمان : ( إن أبا ذر تجتمع اليه الجموع ، ولا آمن أن يفسدهم عليك ، فان كانت لك في القوم حاجة ، فاحمله اليك .. )(2) .
   ج ـ وكتب اليه : ( إن أبا ذر قد حرف قلوب أهل الشام ، وبغضك اليهم فلا يستفتون غيره ! ولا يقضي بينهم إلا هو ..! )(3).
   د ـ ( قول عثمان لأبي ذر حين طلب الرجوع الى الشام : ( انما جلبتك من الشام لما قد أفسدتها ! أفأردّك اليها !؟ )(4) .
   ويؤيد ذلك ، كلام ابن بطال المتقدم : ( كان في جيش معاوية ميل الى أبي ذر ، فأقدمه عثمان خشية الفتنة ) .

---------------------------
(1) شرح النهج 8 / 257 .
(2) مروج الذهب 2 / 340 .
(3) رجال بحر العلوم 2 / 152 .
(4) شرح النهج 8 / 260 .