ودَاع أهـل الشّـام لَـه

   أرسل معاوية الى أبي ذر ، فدعاه ، وأقرأه كتاب عثمان ، وقال له : النجاء الساعة !
   فخرج أبو ذر الى راحلته فشدها بكورها وأنساعها ، فاجتمع اليه الناس ، فقالوا :
   يا أبا ذر ، رحمك الله أين تريد ؟
   قال : أخرجوني اليكم غضباً علي ، وأخرجوني منكم الآن عبثاً بي ، ولا يزال هذا الامر فيما أرى ، شأنهم فيما بيني وبينهم ، حتى يستريح برّ ، أو يستراح من فاجر .
   ومضى ، فسمع الناس بمخرجه فاتبعوه ، حتى خرج من دمشق ، فساروا معه حتى انتهى الى دير المرّان ، فنزل ، ونزل معه الناس ، فاستقدم ، فصلى بهم .
   ثم قال : أيها الناس ، إني موصيكم بما ينفعكم ، وتارك الخُطب والتشقيق ، احمدوا الله عز وجل ، قالوا : الحمد لله .
   قال : اشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله .
   فأجابوه بمثل ما قال :
   فقال : أشهد أن البعث حق ، وأن الجنة حق ، وأن النار حق ، وأقر

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 128 _

  بما جاء من عند الله ، واشهدوا علي بذلك .
   قالوا : نحن على ذلك من الشاهدين .
   قال : ليبشر من مات منكم على هذه الخصال ، برحمة الله وكرامته ، ما لم يكن للمجرمين ظهيرا ، أو لأعمال الظلمة مصلحا ، أو لهم معينا .
   أيها الناس : إجمعوا مع صلاتكم وصومكم غضبا لله عز وجل اذا عُصي في الارض ، ولا ترضوا أئمتكم بسخط الله ، وإن أحدثوا ما لا تعرفون ، فجانبوهم ، وازروا عليهم وأن عُذِّبتم وحرمتم وسُيِّرتم حتى يرضى الله عز وجل ، فان الله أعلى وأجل ، لا ينبغي أن يُسخط برضا المخلوقين ، غفر الله لي ولكم ، أستودعكم الله وأقرأ عليكم السلام ورحمة الله .
   فناداه الناس : أن سلَّم الله عليك ورحمك ، يا أبا ذر ، يا صاحب رسول الله ! ألا نردّك إن كان هؤلاء القوم أخرجوك ؟ ألا نمنعك ؟
   فقال لهم : إرجعوا ، رحمكم الله ، فاني أصبر منكم على البلوى ، واياكم والفرقة والاختلاف (1) .
   وهذه الرواية ، لا تتنافى مع الروايات الاخرى التي تؤكد على أنه حمل على ناقة مسنة ، بلا غطاء ولا وطاء ، حتى وصل الى المدينة وقد تسلخ فخذاه .
   فان الغاية كانت ، هي الانتقام من أبي ذر شخصيا ، وفي وسع معاوية أن لا يثير على نفسه تساؤلات الناس ، وكبار الشاميين ممن عرف أبا ذر ، وأخذ منه وسمع عنه .
  فتركه يخرج من الشام بصورة طبيعية ، ثم بعد أن

---------------------------
(1) أعيان الشيعة 16 / 356 ـ 357 نقلا عن كتاب المجالس .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 129 _

  صار خارج حدودها نفذ فيه أمر عثمان ، فحمل على الصورة المعروفة .
  وترك معاوية إتمام هذه المأساة ، مأساة أبي ذر الصحابي الجليل ليكملها غيره .
   فحمل من المدينة الى الربذة ، حتى مات هناك وحيدا غريبا .
   وبدوري ، فانني أترك للمؤرخين تفصيل ذلك .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 131 _

الفَصـل الثـالِـث
تسيير أبي ذَر إلى الربذَة
وَوَداع أمير المؤمنين علي عَليه السّلام له
كما وصفه المؤرخون

  * منَ الشّـام إلى المَدينَة إلى الرّبذَة
  * في الـرّبـذَة
  * بَين أبي ذَرّ وّحُذيفَة بن اليَمان
  * يَمشي وَحدَهُ وَيمُوتُ وَحدَه
  * المَـأسَـاة

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 133 _

من الشام إلى المدينة إلى الرّبذة

   روى البلاذري : (1) .
   لما أعطى عثمان مروان بن الحكم ما أعطاه ، وأعطى الحارث بان الحكم إبن أبي العاص ، ثلاثمائة ألف درهم ، جعل أبو ذر يقول : بشر الكانزين بعذاب أليم ، ويتلو قول الله عز وجل : ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) ، فرفع ذلك مروان بن الحكم الى عثمان ، فأرسل الى أبي ذر ، ناتلا مولاه : أن انته عما يبلغني عنك .
   فقال : أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله ، وعيب من ترك أمر الله ؟ فوالله ، لئن أرضي الله بسخط عثمان ، أحب الي ، وخير لي ، من أن أسخط الله برضاه .
   فاغضب عثمان ذلك ، واحفظه ، فتصابر ، وكف .
   وقال عثمان يوما : أيجوز للامام أن يأخذ من المال ، فاذا أيسر قضى ؟
   فقال كعب الأحبار : لا بأس بذلك !
   فقال أبو ذر : يا ابن اليهوديين ، أتعلمنا ديننا ؟

---------------------------
(1) الغدير 8 / 292 ـ 293 عن الانساب 5 / 52 / 54 .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 134 _

   فقال عثمان : ما أكثر أذاك لي ، وأولعك باصحابي ؟ إلحق بمكتبك ، وكان مكتبه بالشام ، إلا أنه كان يقدم حاجا ، ويسال عثمان الإذن له في مجاورة قبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيأذن له في ذلك ، وانما صار مكتبه بالشام ، لأنه قال لعثمان حين رأى البناء قد بلغ سلعا (1) ، أني سمعت رسول الله يقول : اذا بلغ البناء سلعا ، فالهرب ، فاذن لي أن آتي الشام فأغزو هناك ، فأذن له .
   وكان ابو ذر ينكر على معاوية اشياء يفعلها ، وبعث اليه معاوية بثلاث مائة دينار ، فقال : إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا ؟ قبلتها ! وان كانت صلة فلا حاجة لي فيها ، وبعث اليه مسلمة الفهري بمائتي دينار ، فقال : أما وجدت أهون عليك مني ، حين تبعث الي بمال ؟ وردَّها .
   وبنى معاوية الخضراء بدمشق ، فقال : يا معاوية ، إن كانت هذه الدار من مال الله ؟ فهي الخيانة ، وان كانت من مالك ؟ فهذا الاسراف ، فسكت معاوية ، وكان ابو ذر يقول : والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها ، والله ما هي في كتاب الله ، ولا سنة نبيه ، والله اني لأرى حقا يطفأ ، وباطلا يحيى ، وصادقا يكذب ، وأثرة بغير تقى ، وصالحا مستأثرا عليه .
   فقال حبيب بن مسلمة لمعاوية : ان أبا ذر مفسد عليك الشام ، فتدارك أهله إن كانت لكم به حاجة ، فكتب معاوية الى عثمان فيه .
   وجاء في شرح النهج :
   عن جلاّم بن جندل الغفاري قال : كنت غلاما لمعاوية على قنسِّرين والعواصم ، في خلافة عثمان ، فجئت اليه اسأله عن حال عملي ، اذ سمعت صارخا على باب داره يقول : أتتكم القطار ، تحمل النار ! اللهم العن الآمرين بالمعروف ، التاركين له ، اللهم العن الناهين عن المنكر المرتكبين له .

---------------------------
(1) سَلع : موضع بقرب المدينة ( معجم البلدان ـ 3 / 236 ) .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 135 _

   فازبأرَّ (1) معاوية ، وتغير لونه وقال : يا جلاّم أتعرف الصارخ ؟ فقلت : اللهم لا .
   قال : من عذيري من جندب بن جنادة ! يأتينا كل يوم ، فيصرخ على باب قصرنا بما سمعت ! ثم قال : أدخلوه عليَّ .
   فجيء بأبي ذر بين قوم يقودنه ، حتى وقف بين يديه ، فقال له معاوية :
   يا عدو الله وعدو رسوله ! تأتينا في كل يوم ، فتصنع ما تصنع ! أما إني لو كنت قاتل رجل من أصحاب محمد من غير إذن أمير المؤمنين عثمان ، لقتلتك ، ولكني أستأذن فيك .
   قال جلاّم : وكنت أحب أن أرى أبا ذر ، لأنه رجل من قومي ، فالتفت اليه ، فاذا رجل أسمر ضَرب (2) من الرجال ، خفيف العارضين ، في ظهره جَنأ (3) فأقبل على معاوية وقال :
   ما أنا بعدوّ لله ولا لرسوله ، بل أنت وأبوك عدوّان لله ولرسوله ، أظهرتما الاسلام ، وأبطنتما الكفر ، ولقد لعنك رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ودعا عليك مرّات ألا تشبع .
   سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : اذا ولي الامة الأعين ، الواسع البلعوم ، الذي يأكل ولا يشبع ، فلتأخذ الامة حذرها منه .
   فقال معاوية : ما أنا ذاك الرجل .
   قال أبو ذر : بل أنت ذلك الرجل ، اخبرني بذلك رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وسمعته يقول ـ وقد مررت به ـ : اللهم إلعنه ، ولا تشبعه الا بالتراب .. الخ ..

---------------------------
(1) ازبأرّ : غَضِب .
(2) ضرب : الخفيف اللحم .
(3) الجنأ : يقال جنئ ، جنأ ، اذا اشرف كاهله على ظهره حدبا .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 136 _

   فكتب عثمان الى معاوية : أن أحمل جندبا اليّ على اغلظ مركب ، وأوعره ، فوجَّه به مع من سار به الليل والنهار ، وحمله على شارف (1) ليس عليها إلا قتب حتى قدم به المدينة ، وقد سقط لحم فخذيه من الجهد .
دخـوله علـى عثمـان    وفي رواية الواقدي : أن أبا ذر لما دخل على عثمان ، قال له :
لا  أنعم الله بقين iiعينا      نعم ولا لقاه يوماً زينا

تحيـة الـسخـط اذا الـتقينـا

   فقال أبو ذر : ما عرفت اسمي ( قيناً ) قط .
   وفي رواية أخرى : لا أنعم الله بك عينا يا جنيدب !
   فقال أبو ذر : أنا جندب ، وسماني رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عبد الله ، فاخترت اسم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذي سماني به على اسمي .
   فقال له عثمان : أنت الذي تزعم أنا نقول : يد الله مغلولة ، وان الله فقير ونحن أغنياء !
   فقال أبو ذر : لو كنتم لا تقولون هذا ، لأنفقتم مال الله على عباده ، ولكني أشهد أني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول ، ( اذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا ، جعلوا مال الله دُولا ، وعباده خَوَلا ، ودينه دَخَلا ) .
   فقال عثمان لمن حضر : أسمعتموها من رسول الله ؟
   قالوا : لا .
   قال عثمان : ويلك يا أبا ذر ! أتكذب على رسول الله ؟

---------------------------
(1) الشارف : الناقة المسنَّة .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 137 _

   فقال أبو ذر لمن حضر : أما تدرون أني صَدقتُ !؟
   قالوا : لا والله ، ما ندري .
   فقال عثمان : ادعوا الي عليا ، فلما جاء ، قال عثمان لأبي ذر : أقصص عليه حديثك في بني العاص ، فأعاده .
   فقال عثمان لعلي عليه السلام : أسمعت هذا من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
   قال : لا ، وقد صَدق أبو ذر .
   فقال : كيف عرفت صِدقهُ ؟
   قال : لأني سمعت رسول الله يقول : ( ما أظلَّتِ الخضراء ، ولا أقلَّت الغبراء ، من ذي لهجة أصدقُ من أبي ذَرِّ ) .
   فقال من حضر : أما هذا ، فسمعناه كُلُّنا من رسول الله .
   فقال أبو ذر : أحدثكم اني سمعت هذا من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فتتهموني ! ما كنت أظن اني أعيش حتى أسمع هذا من أصحاب محمد (1) .
   وجاء في رواية الواقدي ، عن صهبان مولى الاسلميين .
   قال : رأيت أبا ذر يوم دخل به على عثمان ، فقال له : أنت الذي فعلت ، وفعلت !؟
   فقال أبو ذر : نصحتك فاستغششتني ، ونصحت صاحبك ، فاستغشني !
   قال عثمان : كذبت ، ولكنك تريد الفتنة ، وتحبها ، قد انغلت (2) الشام علينا .
   فقال أبو ذر : اتبع سنة صاحبيك ، لا يكن لأحد عليك كلام .
   فقال عثمان : مالك وذلك ، لا أمّ لك !

---------------------------
(1) شرح النهج 8 ص 257 ـ 258 ـ 259 و ج 3 منه .
(2) النغل : الافساد بين القوم .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 138 _

   قال أبو ذر : والله ما وجدت لي عذرا ، إلا الامر بالمعروف ، والنهي عن المنكر .
   فغضب عثمان ، وقال : اشيروا علي في هذا الشيخ الكذاب ، إما ان أضربه ، أو أحبسه ، أو أقتله ، فانه قد فرَّق جماعة المسلمين ، أو أنفيَه من أرض الاسلام .
   فتكلم علي عليه السلام ـ وكان حاضرا ـ فقال :
   أشير عليك بما قال مؤمن آل فرعون ( فان يَكُ كاذِباً فَعَليهِ كَذِبُه ، وإن يَكُ صادقاً ، يُصِبكم بَعض الذي يَعدِكم ، إن الله لا يهدي مَن هُو مُسرِف كذَّاب ) .
   فأجابه عثمان بجواب غليظ ، وأجابه علي عليه السلام بمثله (1) ..
   وجاء في مروج الذهب :
   وكان في ذلك اليوم قد أتي عثمان بتركة عبد الرحمن بن عوف الزهري من المال ، فنثرت البدر ، حتى حالت بين عثمان وبين الرجل الواقف ، فقال عثمان :
   إني لأرجو لعبد الرحمن خيرا ، لأنه كان يتصدق ، ويقري الضيف ، وترك ما ترون .
   فقال كعب الأحبار : صدقت يا أمير المؤمنين .
   فشال أبو ذر العصا ، فضرب بها رأس كعب ولم يشغله ما كان فيه من الألم ، وقال :
   يا ابن اليهودي ، تقول لرجل مات وترك هذا المال إن الله أعطاه خير الدنيا وخير الآخرة ، وتقطع على الله بذلك ، وانا سمعت النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول :

---------------------------
(1) نفس المصدر السابق .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 139 _

  ما يسرني أن أموت ، وأدَعَ مايزن قيراطاً (1) .
   قال الواقدي : ثم إن عثمان حظر على الناس أن يقاعدوا أبا ذر ، أو يكلموه ، فمكث كذلك أياماً .
   ثم أتي به ، فوقف بين يديه ، فقال أبو ذر : ويحك ياعثمان أما رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ورأيت أبا بكر وعمر ! هل هَديُكَ كهديِهم ، أما إنَّك لتبطُش بي بطشَ جبَّار ! .
   فقال عثمان : أخرج عنا من بلادنا ـ (2) الى آخر الرواية .
   وفي مروج الذهب :
   فقال له عثمان : وارِ عني وجهك .
   فقال : أسير الى مكة .
قال : لا والله ؟
  قال : فتمنعني من بيت ربي أعبده فيه حتى أموت ؟ قال ، إي والله .
   قال : فالى الشام ، قال : لا والله .
   قال : البصرة .
قال : لا والله ، فاختر غير هذه البلدان .
   قال : لا والله ما اختار غير ما ذكرت لك ، ولو تركتني في دار هجرتي ، ما أردت شيئا من البلدان ، فسيرني ، حيث شئت من البلاد .
   قال : فاني مسيرك الى الربذة .
   قال : الله أكبر ، صدق رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد أخبرني بكل ما أنا لاق .
   قال : عثمان : وما قال لك ؟
   قال : أخبرني بأني أمنع عن مكة ، والمدينة ، وأموت بالربذة ، ويتولى

---------------------------
(1) مروج الذهب 2 / 340 .
(2) شرح النهج 8 / 259 ـ 260 .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 140 _

  مواراتي نفر ممن يردون من العراق نحو الحجاز (1) .

نـفيـه الـى الـربـذة

   جاء في شرح النهج ، عن ابن عباس ، قال :
   لما أخرج أبو ذر الى الربذة ، أمر عثمان ، فنودي في الناس : ألاّ يكلم أحد أبا ذر ، ولا يشيِّعه وأمر مروان بن الحكم أن يخرج به ، فخرج به ، وتحاماه الناس ، إلا عليّ بن أبي طالب عليه السلام وعقيلا أخاه ، وحسنا وحسينا عليهما السلام ، وعمارا فانهم خرجوا معه يشيعونه .
   فجعل الحسن عليه السلام ، يكلم أبا ذر ..
   فقال له مروان : إيها يا حسن ، ألا تعلم أن أمير المؤمنين قد نهى عن كلام هذا الرجل ؟ ! فان كنت لا تعلم ، فاعلم ذلك .
   فحمل علي عليه السلام على مروان ، فضرب بالسوط بين أذني راحلته ، وقال : تنحَّ ، لَحَاك الله الى النار !
   فرجع مروان مغضبا الى عثمان ، فأخبره الخبر ، فتلظى على عليّ ( عليه السلام ) (2) .

كـلام الامـام ( عليه السـلام ) لابي ذر

   وودع علي عليه السلام أبا ذر ( رض ) قائلا له :
   يا أبا ذر ، انك غضبت لله ، فأرجُ من غضبتَ له إن القومَ خافوك

---------------------------
(1) مروج الذهب 2 / 340 ـ 341 .
(2) شرح النهج 8 / 252 ـ 253 .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 141 _

  على دنياهم ، وخِفتهم على دينك ، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه ، واهرَب منهم بما خفتهم عليه ، فما أحوَجهم الى ما منعتهم ، واغناك عمَّا منعوك !
   وستعلم من الرابح غدا ، والأكثر حُسَّدا ، ولو أن السمواتِ والأرضين كانتا على عبد رتقاً ، ثم اتقى الله ، لجعل الله له منهما مخرجا ، لا يؤنسنك الاّ الحق ، ولا يُوحشنَّك إلا الباطل ، فلو قبلت دنياهم لأحبُّوك ولو قرضت منها لأمنَّوك (1) .
   وجاء في رواية ابن عباس : عن ذكوان ـ وكان حافظاً ـ ، كما في شرح النهج .
   قال ذكوان : فحفظت كلام القوم ، فقال علي عليه السلام : يا أبا ذر ، أنك غضبت لله ، إن القوم خافوك على دنياهم ، وخفتهم على دينك ، فامتحنوك بالقِلى ، ونفوكَ الى الفلا ، والله لو كانت السموات ..الخ .
   ثم قال علي عليه السلام لأصحابه : ( ودِّعوا عمَّكم ، وقال لعقيل : ودِّع أخاك .

كـلام عـقـيـل

   فتكلم عقيل : فقال : ما عسى أن نقولَ يا أبا ذر ، وأنت تعلم أنا نحبُّك ، وأنت تُحبُّنا ! فاتق الله ، فان التقوى نجاة ، وإصبر ، فان الصبرَ كَرم ، وإعلم أن إستثقالك الصبرَ ، من الجزعِ ، واستبطاءَك العافيةَ ، من اليأسِ ، فدَع اليأس والجزع .

---------------------------
(1) نهج البلاغة 2 / ص 12 ـ 13 .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 142 _

كـلام الحسـن عليه السـلام

   ثم تكلم الحسن ، عليه السلام ، فقال : يا عمَّاه ، لو لا أنه لا ينبغي للمودِّع أن يسكت ، وللمشيِّع أن ينصرف لقصر الكلام ، وإن طال الأسف ، وقد أتى القوم اليك ما ترى ، فضَع عنك الدنيا ، بتذكر فراغها وشِدَّة ما اشتد منها ، برجاء ما بعدها ، وإصبِر حتى تلقى نبيَّك ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو عنك راض .

كـلام الحسيـن عليه السـلام

   ثم تكلم الحسين عليه السلام فقال : يا عمَّاه ، ان الله تعالى قادر أن يغيِّر ما قد يرى ، والله كلَّ يوم هو في شأن ، وقد منَعَك القوم دنياهم ، ومنعتهم دينَك ، فما أغناك عمَّا منعوك ، وأحوجهم الى ما منعتهم ! فاسأل الله الصبرَ والنصرَ واستعذ به من الجشع والجزع ، فان الصبرَ من الدين والكرم ، وان الجشع لا يُقدّم رزقاً ، والجزع لا يؤخِّر أجلا .

كـلام عمَّـار بن يـاسر

   ثم تكلم عمار ـ رحمه الله ـ مغضباً ، فقال :
   لا آنس الله من أوحشَك ، ولا آمنَ من أخافك ، أما والله ، لو أردتَ دنياهم ، لأمنُّوك ، ولو رضيت أعمالهم ، لأحبُّوك ، وما منع الناس أن يقولوا بقولك ، إلا الرضا بالدنيا ، والجزع من الموت ، مالوا الى ما سلطان جماعتهم عليه ، والملك لمن غَلب ، فوهبوا لهم دينهم ، ومنحهم القوم دنياهم ، فَخسِروا الدنيا والآخرة ، ألا ذلك هو الخسران المبين !

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 143 _

كـلام ابـي ذر رضي الله عنـه

   فبكى أبو ذر رحمه الله ـ وكان شيخا كبيرا ـ وقال :
   رحمكم الله يا أهل بيت الرحمة ! اذا رأيتكم ، ذكرت بكم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مالي بالمدينة سَكن ولا شجن غيركم ، إني ثقلتُ على عثمان بالحجاز ، كما ثقلت على معاوية بالشام ، وكَرِه أن أجاور أخاه وابن خاله بالمصرين ، فأفسد الناس عليهما ، فسيَّرني الى بلد ليس لي به ناصر ولا دافع إلا الله ! والله ما أريد إلا الله صاحباً ، وما أخشى مع الله وحشة .

بيـن علـي عـليه السـلام وعثمان

   ورجع القوم الى المدينة ، فجاء علي ( عليه السلام ) الى عثمان ، فقال له :
   ما حملك على ردّ رسولي ، وتصغير أمري !؟
   فقال علي ( عليه السلام ) : أما رسولك ، فأراد أن يردَّ وجهي ، فرددته ، وأما أمرك ، فلم أصغِّره .
   قال : أم بلغك نهيي عن كلام ابي ذر !؟
   قال ( عليه السلام ) : أو كلما أمرت بأمر معصية ، أطعناك فيه !
   قال عثمان : أقِد مروان من نفسك .
   قال : ممَّ ذا ؟
   قال : من شَتمِه ، وجَذبِ راحِلتَه .
   قال : أما راحلتُه ، فراحلتي بها ، وأما شتمه إياي ، فوالله لا يشتمني شتمة ، إلا شتمتك مثلها ، لا أكذب عليك .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 144 _

   فغضب عثمان ، وقال : لِم لا يشتمكَ ؟ كأنك خير منه !
   قال علي ( عليه السلام ) : إي والله ، ومِنكَ ! ثمّ قام ، فخرج (1) .
   وبلغ أبا الدرداء * ـ وهو في الشام ـ ان عثمان قد سيَّر أبا ذر الى الربذة ، فقال : ( إنا لله وانا اليه راجعون ، لو أن أبا ذر قطع لي عضوا أو يدا ، ما هجته ، بعد ان سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من رجل أصدق لهجة من أبي ذر (2) )

---------------------------
(1) شرح النهج 8 / 253 الى 255 .
* الصاري ، واسمه عامر ، كان مصاحبا لابي ذر .
(2) المستدرك على الصحيحين 3 / 344 .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 145 _

فـي الـرّبـذَة

   عن أبي الاسود الدؤلي ، قال :
   كنت أحب لقاء أبي ذر ، لاسأله عن سبب خروجه الى الربذة ، فجئته ، فقلت له :
   الا تخبرني ، أخرجت من المدينة طائعا ، أم أخرجت كرها ؟ فقال : كنت في ثغر من ثغور المسلمين أغني عنهم ، فأُخرجتُ الى المدينة ! فقلت : دار هجرتي وأصحابي ! فأخرجت من المدينة الى ما ترى ! .
   ثم قال : بينا أنا ذات ليلة نائم في المسجد ، على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، أذ مرَّ بي عليه السلام فضربني برجله ، وقال : لا أراك نائما في المسجد .
   فقلت : ـ بأبي أنت وأمي ـ غلبتني عيني ، فنمتُ فيه .
   قال : فكيف تصنع ، اذا أخرجوك منه ؟
   قلت : الحق بالشام ، فانها أرض مقدَّسة ، وأرض الجهاد .
   قال : فكيف تصنع اذا أخرجتَ منها ؟
   قلت : أرجع الى المسجد !
   قال : فكيف تصنع اذا أخرجوك منه ؟

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 146 _

   قلت : آخذ سيفي ، فأضربهم به .
   فقال : ألا أدلُّك على خير من ذلك ؟ إنسق معهم حيث ساقوك ، وتسمع وتطيع ، فسمعت وأطعت ، وأنا أسمع وأطيع ! والله ليلقَين الله عثمان ، وهو آثم في جنبي (1) .
   وفي حلية الاولياء ، بسنده عن عبد الله بن خراش ، قال .
   رأيت أبا ذر بالربذة ، في ظُلة له سوداء ، له امرأة سحماء ، وهو جالس على قطعة جوالق ، فقيل له : انك إمرؤ ما يبقى لك ولد ؟
   فقال : الحمد لله الذي يأخذهم في دار الفناء ، ويدَّخرهم في دار البقاء .
   قالوا : يا أبا ذر ، لو اتخذت امرأة غير هذه ؟
   قال : لئن أتزوج امرأة تضعني ، أحب اليَّ من امرأة ترفعني .
   فقالوا : لو اتخذت بساطا ألين من هذا ؟
   قال : اللهم غفرا ! خذ مما خوّلتَ ، ما بدا لك (2) .
   ودخل عليه قوم من أهل الربذة ، فقالوا : يا أبا ذر ! ما تشتكي ؟   قال : ذنوبي !
   قالوا : فما تشتهي ؟
   قال : رحمةَ ربي .
   قالوا : هل لك بطبيب ؟

---------------------------
(1) شرح النهج 8 / 260 ـ 261 .
(2) الاعيان 329 .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 147 _

  قال : الطبيبُ أمرضني (1) !! .

كـلامه ( رض ) على قبـر ولده

   روى الكليني في الكافي ، بسنده عن علي بن ابراهيم ، رفعه ، قال :
   لما مات ذر بن ابي ذر ، مسح ابو ذر القبر بيده ، ثم قال .
   رحمك الله يا ذر ، والله إن كنت بي بارا ، ولقد قُبِضتَ واني عنك لراض ، أما والله ما بي فقدُك وما علي من غضاضة (2) وما لي الى أحد سوى الله من حاجة ، ولولا هول المطَّلع ، لسرني أن أكون مكانك ، ولقد شغلني الحزن لك ، عن الحزن عليك ، والله ما بكيت لك ! ولكن بكيت عليك ، فليت شعري ماذا قلتَ ؟ وماذا قيل لك ؟
   ثم قال : اللهم إني قد وهبت له ما افترضتَ عليه من حقي ، فَهب له ما افترضتَ عليه من حقك ، فأنت أحق بالجود مني (3) .

---------------------------
(1) المصدر السابق / 373 .
(2) ما بي فقدك ، أي ليس علي بأس وحزن من فقدك .
(3) الفروع من الكافي ج 3 / 250 ـ 251 .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 148 _

بَين أبي ذَرّ وَحُذيفَة بن اليمَان

   ما كتبه أبو ذر ، الى حُذَيفَة بن اليمان يشكو اليه ما فعل به في كتاب الفصول للسيد المرتضى ، عن أبي مخنف ، قال : حدثني الصلت ، عن زيد بن كثير ، عن ابي أمامة ، قال : كتب أبو ذر الى حذيفة بن اليمان يشكو اليه ما صنع به عثمان .

بسم الله الرحمن الرحيم
   أما بعد يا أخي ، فَخَف الله مخافة يكثر منها بكاء عينيك ، وحرِّر قلبك ، وأسهر ليلك ، وانصَب بدنك في طاعة الله ، فحق لمن عَلِم أن النار مثوى من سخط الله عليه ، أن يطول بكاؤه ، ونَصَبُه ، وسهر ليله ، حتى يعلم أنه قد رضي الله عنه .
   وحق لمن علم أن الجنة مثوى من رضي الله عنه ، أن يستقبل الحق كي يفوز بها ، ويستصغر في ذات الله الخروج من أهله وماله ، وقيام ليله ، وصيام نهاره ، وجهاد الظالمين الملحدين بيده ولسانه ، حتى يعلم ان الله أوجبها له ، وليس بعالِم ذلك دون لقاء ربَّه ، وكذلك ينبغي لكل من رغب في جوار الله ، ومرافقة انبيائه ، أن يكون .
يا أخي ، أنت ممن أستريح الى التصريح اليه ببثي وحزني ، وأشكو اليه تظاهر الظالمين علي .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 149 _

إني رأيت الجور ـ يعمل به ـ بعيني ، وسمعته يقال ، فرددته ، فحُرمت العطاء ، وسُيِّرت الى البلاد ، وغُرِّبت عن العشيرة والاخوان ، وحَرَم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأعوذ بربي العظيم أن يكون مني هذا شكوى ، أن رُكب مني ما رُكب ، بل انبأتُك أني قد رضيت ما أحب لي ربي ، وقضاه علي ، وأفضيت ذلك اليك ، لتدعوَ الله لي ، ولعامَّة المسلمين بالروح والفرج ، وبما هو أعم نفعا ، وخير مغبَّة وعقبى ـ والسلام .

جـواب حـذيفـة لـه : فكتب اليه حذيفة :
بسم الله الرحمن الرحيم

أما بعد يا أخي ، فقد بلغني كتابك ، تُخَوّفني به ، وتحذّرني فيه منقلَبي ، وتحثني فيه على حظ نفسي ، فقديما ـ يا أخي ـ ما ، كنت بي ، وبالمؤمنين حفيَّاً لطيفا .
  وعليهم حدِبا شفيقا ، ولهم بالمعروف آمِرا ، وعن المنكرات ناهيا ، وليس يهدي الى رضوان الله إلا هو ، ولا يُتناهى من سخطه الا بفضل رحمته ، وعظيم منِّه .
   فنسأل الله ربنا ـ لأنفسنا وخاصَّتنا ، وعامَّتنا ، وجماعة أمَّتنا ـ مغفرة عامة ، ورحمة واسعة ، وقد فهمتُ ما ذكرتَ من تسييرك ، يا أخي ، وتغريبك ، وتطريدك ، فعزَّ والله عليًّ يا أخي ، ما وصل اليك من مكروه ولو كان يُفتدى ذلك بمال ، لأعطيتُ فيه مالي ، طيِّبة بذلك نفسي ، ليصرَف الله عنك ـ بذلك ـ المكروه .
   والله ، لو سألتُ لك المواساة ، ثم أعطيتُها لأحببت احتمال شطر ما نزل بك ، ومواساتك في الفقر ، والأذى ، والضرر ، لكنه ، ليس لأنفسنا ، إلا ما شاء ربنا ، يا أخي ، فافزع بنا الى ربنا ، ولنجعل اليه رغبتنا ،

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 150 _

  فقد استُحصِدنا ! واقترب الصَّرام (1) .
   فكأني ، واياك ، قد دعينا فأجبنا ! وعرضنا على أعمالنا ، فاحتجنا الى ما أسلفنا ! يا أخي : ولا تأسَ على ما فاتك ، ولا تحزن على ما أصابك ، واحتسب فيه الخير ، وارتقب فيه من الله أسنى الثواب .
   يا أخي : لا أرى الموت لي ولك ، إلا خيرا من البقاء ، فانه قد أظلتنا فتن يتلو بعضها بعضا ، كقطع الليل المظلم ، قد انبعثت من مركبها ، ووطئت في خطامها ، تشهر فيها السيوف ، وتنزل فيها الحتوف ! يُقتل فيها من اطلع لها ، والتبس بها ، وركض فيها ، ولا يبقى قبيلة من قبائل العرب ، من الوبر والمدر ، إلا دخلت عليهم ! فأعزّ أهل ذلك الزمان ، أشدهم عتوَّا ! وأذلُّهم ، اتقاهم ! فأعاذنا الله واياك ، من زمان هذه حال أهله .
   لن أدَعَ الدُعاء لك ، في القيام والقعود ، والليل والنهار ، وقد قال الله ، ولا خُلف لموعده : أدعوني ، أستجب لكم ، إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ، فنستجير بالله من التكبُّر عن عبادته ، والاستنكاف عن طاعته ، جعل الله لنا ولك فرجاً ، ومخرجا عاجلا برحمته ، والسلام (2) .

---------------------------
(1) الصرّام للنخل : أوان ادراكه وجزّه .
(2) أعيان الشيعة 16 / 366 ـ 368 .