رقَـابَة المُسـلِمين

   لقد كان المسلمون الأوائل يراقبون عن كثب ، سلوك الخليفة ، وتحركاته وتصرفاته ، سواء في ذلك ما تعلق به شخصياً ، من حسن السيرة ، وإحقاق الحق والحكم بين الناس بالعدل ، أو ما يتعلق بالمسلمين بشكل عام ، كالمساواة في العطاء ـ إلا ما أمر الله ـ وحُسنِ إختيار الولاة من أهل الكفاءة والدين والعدالة وما الى ذلك ، وهذا هو الذي أعطى الخلافة هيبتها ، وضمن لها الاستمرار فترة ما .
   فكان المسلمون لا يألون جهدا في تقويم ما أعوج ومالَ عن خط الاسلام ، قدر الإمكان ، فكانوا يستنكرون التصرفات الشاذة ، ويعلنون احتجاجهم عليها ، بل ربما استعملوا العنف حين لا تنفع الكلمة ، كما جرى بين أبي بكر وعمر بشأن خالد بن الوليد حين قتل ـ هذا الأخير ـ مالك بن نويرة ، ودخل بامرأته ليلة مقتله .
   فقد احتج عمر على ابقاء خالد في قيادة الجيش ، وحين رأى أن أبا بكر يعتذر عنه ، بأنه ( ما أول من تأوَّل فأخطأ ) نهض اليه عمر بنفسه ، ـ وكان خالد قد دخل المسجد ، وقد غرز في عمامته أسهما ـ فنزعها عمر وحطمها ، ثم قال له ( قتلت إمرء مسلما ، ثم نزوت على إمرأته والله لأرجمنك بأحجارك ) .

---------------------------
(1) الكامل 2 / 359 .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 102 _

   وقد أفسح أبو بكر المجال أمام الصحابة ، في إلفاته ، وتنبيهه على أخطائه ، وذلك ، حين قال في خطبته بعد السقيفة :
   ( وَليت أمركم ولست بخيركم ، فاذا أحسنت فأعينوني ، واذ أسأت فقَوِّموني ، إن لي شيطاناً يعتريني ، فاياي واياكم اذا غضبت ..الخ ) (1).
   وجاء عهد عمر بن الخطاب ، وتولى زمام الامور بعد أبي بكر ـ بوصية وعهد منه ـ وذلك : أنه حين مرض أبو بكر مرض الموت ، أحضر عثمان بن عفان ، فقال له :
   إكتب ، بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما عهده أبو بكر بن أبي قحافة الى المسلمين ، ثم أغمي عليه ، فكتب عثمان : أما بعد فاني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ، ولم آلكم خيرا ، ثم أفاق أبو بكر ، فقال : إقرأ علي ، فقرأ عليه ، فكبر أبو بكر وقال : أراك خفت أن يختلف الناس إن مِتّ في غشيتي ..) (2).
   وسار عمر بسيرة صاحبه ، إلا أنه كان كثير الفتيا ، وكثير الخطأ ، على حد تعبير ابن أبي الحديد ، قال : ( وكان عمر يفتي كثيرا بالحكم ثم ينقضه ويفتي بخلافه ، قضى في ( مسألة ) الجد مع الاخوة قضايا كثيرة مختلفة ، ثم خاف من الحكم في هذه المسألة ..) (3).
   إلا أن وجود الإمام علي عليه السلام في المدينة ـ آنذاك ـ كان يساعد الخليفة ، وكل المسلمين على حل ما يستعصي لديهم من الامور المتعلقة بالحكم أو الفتيا ، فكان المسلمون يرجعون اليه في ذلك ، ويأخذون منه .

---------------------------
(1) شرح النهج 6 / 20 .
(2) الكامل 2 / 425 .
(3) شرح النهج 1 / 181 .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 103 _

  فكان سيد الميدان في هذا المضمار ، والمرجع الوحيد الذي لا ينازعه أحد من المسلمين .
   وأصرح ما يدل على ذلك ، قول عمر بن الخطاب ، في أكثر من مناسبة :    ( كاد يهلك ابن الخطاب ، لولا علي بن أبي طالب ) .
   وقوله : ( أعوذ بالله أن أعيش في قوم لستَ فيهم أبا الحسن ) .
   وقوله : ( الله أعلمُ حيث يجعلُ رسالته ) .
   وقوله : ( اللهم لا تنزل بي شديدة ، إلا وأبو الحسن الى جنبي )(1).
   لقد كان علي عليه السلام والمخلصون من الصحابة ، يبدون النصيحة ، ولا يألون جهداً في ذلك ، وهذا هو الذي ضمن للخلافة هيبتها في تلك الفترة .
  فمن الواضح أن هيبة الخلافة في عهد عمر ، بلغت الى حد ، أن الدرة ( السوط ) كانت أمضى من السيف في حل الخصومات ، حتى قيل : درَّة عمر أهيب من سيف الحجاج .
   والحقيقة أن الهيبة لم تكن إلا لتكاتف المسلمين ووحدتهم وحيطتهم على الاسلام .

---------------------------
(1) راجع الغدير 6 / 103 الى 106 .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 104 _

فِـقدَان الهيـبَة في خِـلافَة عُـثمان

   ويلاحظ المتتبع ، أن الخلافة بدأت تفقد هيبتها ـ كسلطة زمنية ودينية ـ في السنة الثانية من خلافة عثمان ، وأخذت تتحول الى سلطة زمنية فحسب ، تقوم على القوة ، والقهر ، والإغراء بالمال ، بعيداً عن طابعها الحقيقي .
   فقد بدأ الأمويون يهيئون لهذه الخطة منذ اليوم الاول لخلافة عثمان ، وذلك ، عن طريق نفوذهم في الحكم ، حيث أصبح زمام السلطة بأيديهم يوجهونه أنى شاؤا ، دون أن يجرأ على معارضتهم في ذلك أحد ، واذا ما حاول بعض المخلصين من الصحابة ذلك ، وجدوا في الخليفة حاجزاً يحميهم ، ويداً طولى تساعدهم على تنفيذ مخططاتهم .
   نعم ، بدأت فكرة التحويل من اليوم الاول لخلافة عثمان ، ويبدو ذلك واضحاً من خلال ما قاله بعض أقطاب الامويين في أكثر من مناسبة .
   روى الشعبي ، قائلا : ( فلما دخل عثمان رحله ـ يعني بعد البيعة ـ دخل اليه بنو أمية حتى امتلأت بهم الدار ، ثم أغلقوها عليهم ، فقال أبو سفيان بن حرب ( وكان أعمى ) : أعندكم أحد من غيركم ؟ قالو : لا .
  قال : يا بني أميَّة ، تلقفوها تلقف الكرة ، فوالذي يحلف به أبو سفيان ، ما من

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 105 _

  عذاب ، ولا حساب ، ولا جنة ، ولا نار ، ولا بعث ولا قيامة ) (1).
   وقصد مرة قبر حمزة أسد الله وأسد رسوله ، فلما وصل اليه ( ركله برجله ، وقال : يا أبا عمارة ، إن الامر الذي اجتلدنا عليه بالسيف ، أمسى في يد غلماننا يتلعبون به ) (2).
   وفي السنة الثانية من خلافته ، مورست خطة التحويل عمليا ، فبالاضافة الى الهبات والقطائع الضخمة التي كان يمنحها الخليفة الى المقربين ـ كما ستقرأ ـ ، كان الولاة من بني أمية يستغلون منصب الولاية لتكريس مقدرات الامة لمصالحهم الشخصية ويتصرفون مع المسلمين من هذا المنطلق المنحرف عن الخط الاسلامي ، فكان بعضهم يرى أن الفيئ الذي أفاءه الله على المسلمين إنما هو بستان لقريش ليس لأحد دونها حق فيه ، كما قال سعيد بن العاص والي الكوفة مخاطبا بعض جلسائه (3).
   بل أكد ذلك الوليد بن عقبة بقوله ، مخاطبا سعداً : ( لا تجزعنَّ أبا إسحاق ، كل ذلك لم يكن ، وانما هو الملك ، يتغداه قوم ، ويتعشاه آخرون ! )(4).
   قالها الوليد حين ولي إمارة الكوفة بعد عزل سعد بن أبي وقاص عنها .
   وبذلك ، يتضح أن خلافة عثمان كانت فرصة لانقضاض الأمويين على مقدرات الامة وأرزاقها ، ولو لا يقظة بعض أقطاب المسلمين وحذرهم ، لتم

---------------------------
(1) شرح النهج 9 / 53 .
(2) حياة الامام الحسن 1 / 212 نقلا عن ابن عساكر 6 / 407 .
(3) راجع الكامل 3 / 139 .
(4) الكامل 3 / 83 .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 106 _

  لهم ذلك بسرعة ، لكن المعارضة المستمرة كانت تحول دون ذلك ـ جزئياً ـ معارضة أبي ذر الغفاري وأمثاله .
   ولو أن عثمان تقبل من مخلصي الصحابة ما كانوا يلفتونه اليه ، ويحذرونه منه ، لما انتهى الأمر الى ما انتهى ، ولظلت الخلافة الاسلامية في مركزها وهيبتها، فان إفراطه في التغاضي عن سلوك ولاته والمقربين منه كانت نتيجته : فقدان هيبة الخلافة في أيامه .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 107 _

سيَـاسـَة عُثمان في إختِيَار الوُلاة

   لقد اختار عثمان الولاة والعمال الاداريين ، على غير القاعدة المتعارفة لدى المسلمين ، ولدى من سبقه من الخلفاء .
   فالمعروف ، أن القاعدة التي ينطلق منها هذا الاختيار ، تبتني على أسس بعيدة عن منطق القرابة ، والرحم ، والعشيرة ، بل ترتكز على دعائم اسلامية ، يجمعها التقى والصلاح ، وحسن الادارة والأمانة ، فالولاية لا تعدو كونها ممثلية صغرى للخلافة التي هي أول ممثلية ـ في المفهوم الاسلامي ـ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لذلك ، فان اختيار الولاة كان ينصبّ على ذوي السابقة في الدين ، والجهاد في الاسلام .
   والملاحظ ، أن عثمان خالف القاعدة في ذلك ، فاختار أقاربه ، وذوي رحمه ممن كانوا متهمين في دينهم ، بل كان فيهم من أمره في الفسق معروف مشهور .
فمن هؤلاء الولاة :
1 ـ عبد الله بن سعد بن أبي سرح :
  ولاَّه عثمان على مصر ، وكان عبد الله هذا ، قد أسلم وكتب الوحي لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فكان أذا أملى عليه : عزيز حكيم ، يكتب : عليم حكيم ، وأشباه ذلك ، ثم ارتد ، وقال لقريش : إني أكتب أحرف محمد في قرآنه حيث شئت ، ودينكم خير من دينه .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 108 _

   فلما كان يوم الفتح ، فرَّ الى عثمان بن عفان ، وكان أخاه من الرضاعة ، فغيبه عثمان حتى اطمأن الناس ، ثم أحضره عند رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وطلب له الأمان ، فصمت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) طويلا ، ثم أمَّنه ، فأسلم وعاد ، فلما انصرف ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لأصحابه : لقد صَمَتّ ليقتله أحدكم ..) (1).
2 ـ معاوية ابن أبي سفيان :
   وكان عاملا لعمر على دمشق والاردن ، فضمَّ اليه عثمان ولاية حمص وفلسطين والجزيرة ، وبذلك مدَّ له في أسباب السلطان الى أبعد مدى مستطاع (2)، وأمر معاوية واضح غير خفي .
3 ـ الوليد بن عقبة :
   ولاه عثمان الكوفة سنة 25 للهجرة ، والوليد هذا ، هو الذي وصفه القرآن الكريم بالفسق ، ففيه نزلت الآية الكريمة ( يا أيها الذين آمنوا ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ) وكان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد بعثه في صدقات بني المصطلق، فخرجوا لاستقباله ، فظن انهم أرادوا قتله ، فرجع الى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأخبره انهم منعوا صدقاتهم ، الخ ..) (3).
   وقد ولاه عثمان الكوفة بعد عزل سعد بن ابي وقاص ، فالتفت الوليد الى سعد مسلياً اياه ، قائلا له : ( لا تجزعن أبا اسحاق كل ذلك لم يكن وانما هو الملك يتغداه قوم ، ويتعشاه آخرون ) .
   قال المسعودي : ثم عزله عثمان فيما بعد ، لما شاع وذاع من فسقه ، فقد كان يشرب مع ندمائه ومغنيه الى الصباح ، وذات يوم آذنه المؤذنون

---------------------------
(1) الكامل 2 / 249 .
(2) ثورة الحسين / 40 .
(3) مجمع البيان 9 / 132 / الحجرات .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 109 _

  بصلاة الصبح ، فخرج متفضلا في غلائله ، فتقدم الى المحراب ، فصلى بهم الصبح أربعاً ، وقال أتريدون أن أزيدكم ؟
   فقال له بعض من كان في الصف الاول خلفه : ما تزيد ؟ لا زادك الله من الخير ، والله لا أعجب إلا ممن بعثك الينا والياً وعلينا أميراً ..) (1)الى آخر الحكاية .
4 ـ سعيد بن العاص :
   عيَّنه عثمان والياً على الكوفة ، بعد أن عزل الوليد عنها ولم يكن سعيد ، ليخفي ما في نفسه من الرغبة في التسلط على فيئ المسلمين إن امكنت الفرصة من ذلك .
بل أكد على ذلك بقوله لبعض جلسائه : ( انما هذا السواد بستان قريش ) (2).
5 ـ عبد الله بن عامر بن كريز :
   وكان عبد الله هذا من أبرز الدعاة الى سياسة التضييق والافقار والاشغال ، التضييق على المسلمين الذين نادوا مطالبين عثمان بالعدالة ، ورفع الجور ، وعزل العمال .
   فقد أشار على عثمان بذلك حين استشاره ، بقوله : ( أرى لك يا أمير المؤمنين ، أن تشغلهم بالجهاد عنك ، حتى يذلوا لك ، ولا يكون هِمَّةُ أحدهم إلا في نفسه ، وما هو فيه من دُبُر دابته وقُمَّل فروته ..) (3).

---------------------------
(1) مروج الذهب 2 / 334 .
(2) للتفصيل راجع الكامل 3 / 139 .
(3) نفس المصدر / 150 ، فحمل على الصورة المعروفة ، وترك معاوية إتمام هذه المأساة ، مأساة أبي ذر الصحابي الجليل ليكملها غيره ، فحمل من المدينة الى الربذة ، حتى مات هناك وحيدا غريبا ، وبدوري ، فانني أترك للمؤرخين تفصيل ذلك .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 110 _

سَـياستـهُ في المَـال

   يصف المؤرخون عثمان ، بأنه كان جوادا وصولا بالأموال ، وقدم أقاربه وذوي أرحامه على سائر الناس ، وسوَّى بين الناس في الأعطية ، وكان الغالب عليه مروان بن الحكم ، وأبو سفيان بن حرب (1).
   وان تقريبه بني أمية وتقديمه اياهم على سائر المسلمين ، كان سببا في جرأة بعض الصحابة عليه ، حتى ان بعضهم وصمه بالكذب على مرأى ومسمع من حشود المسلمين ، حين كان يخطب لصلاة الجمعة ، فقد أقبل عبد الله بن مسعود ـ خازن بيت المال ـ فقال مخاطبا المسلمين :
   ( أيها الناس ، زعم عثمان أني خازن له ولأهل بيته ، وانما كنت خازنا للمسلمين ، وهذه مفاتيح بيت مالكم ..) (2).
   ( ولو كانت هذه الهبات من أمواله الخاصة ، لما أثارت اعتراض أحد ، ولكنها كانت من بيت المال ) (3).
   فقد ورد في حديث عبد الرحمن بن يسار قوله : ( وكان عثمان اذا أجاز أحدا من أهل بيته بجائزة ، جعلها فرضا من بيت المال ) (4) .

---------------------------
(1) اليعقوبي 2 / 173 .
(2) نفس المصدر ـ 169 .
(3) ثورة الامام الحسين / 36 .
(4) اليعقوبي 2 / 168 .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 111 _

اغداقه على الأمويين

   ومجمل القول ، فان هبات عثمان لاقربائه وذوي ارحامه ، بلغت حدا بفوق الوصف ، ولا سيما بالمقايسة مع طبيعة المجتمع الاسلامي آنذاك ، وعلى سبيل المثال ، نذكر بعض النصوص التي تعطينا صورة مجملة عن ذلك .
   1 ـ ( أرجع الحكم : ـ طريد رسول الله ـ من منفاه ، ووصله بمائة ألف ) .
   2 ـ اقطع مروان بن الحكم : فدك ، وكانت فاطمة عليها السلام طلبتها بعد وفاة أبيها ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بدعوى الميراث تارة ، وآخرى بالنحلة ، فدُفعت عنها .
   3 ـ أعطى عبد الله بن أبي سرح : ـ أخاه من الرضاعة ـ جميع ما أفاء الله على المسلمين من فتح افريقية ، من غير أن يشركه فيه أحد .
   4 ـ افتتحت ارمينية : في أيامه ، فأخذ الخمس كله فوهبه لمروان .
   5 ـ زوّج ابنته عائشة : من الحرث بن الحكم بن العاص ، فاعطاه مائة ألف درهم .
   6 ـ زوج ابنته : من عبد الله بن خالد بن أسيد ، وأمر له بستماية ألف درهم ، وكتب الى عبد الله بن عامر أن يدفعها اليه من بيت مال البصرة .
   7 ـ حمى المراعي : حول المدينة كلها ، من مواشي المسلمين كلهم إلا عن بني أمية .
   8 ـ والاغرب من ذلك : ( أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تصدق على المسلمين بموضع سوق بالمدينة يعرف بـ ( مهزور ) فأقطعه عثمان للحرث بن الحكم أخي مروان .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 112 _

   9 ـ أعطى أبا سفيان : بن حرب مائتي ألف من بيت المال ، في اليوم الذي أمر فيه لمروان بن الحكم بمائة ألف من بيت المال (1).
   10 ـ قدمت ابل : الصدقة على عثمان ، فوهبها للحرث بن الحكم .
   وكان عثمان يقول في ذلك ( هذا مال الله اعطيه من شئت ، وأمنعه من شئت فأرغم الله أنف من رغم ) ويقول : ( لنأخذنّ من ذلك حاجتنا ، وان رغمت أنوف أقوام ) (2).

تقريبه لذوي النفوذ والثراء

   لم تقتصر هبات عثمان على آله وذوي رحمه ، بل شملت المبرزين في قريش من ذوي النفوذ ، وخصوصا بعض أعضاء الشورى ، الذين امتدت أعناقهم الى الخلافة ، فزرعت في نفوسهم نوعا من الشعور بالحرمان ، يقابله نوع من الطموح الى الحكم ، فكان عثمان يغدق عليهم من بيوت الاموال .
   بالاضافة الى ذلك ، فقد سهل لهم تنمية هذه الثروات ( فقد قام باجراء مالي فتح به للطبقة الثريَّة أبوابا من النشاط المالي ، وأتاح لها فرص التمكين لنفسها وتنمية ثرواتها ، وذلك ، حين اقترح أن ينقل الناس فيئهم من الارض الى حيث أقاموا ، فمن كان له أرض في العراق أو الشام أو في مصر ، له أن يبيعها ممن له أرض بالحجاز ، أو غيره من بلاد العرب .
   وقد سارع الاثرياء الى الاستفادة من هذا الاجراء ، فاشتروا بأموالهم المكدسة أرضين في البلاد المفتوحة ، وبادلوا أرضهم في الحجاز ، أرضين في البلاد المفتوحة ، وجلبوا لها الرقيق والاحرار ، يعملون فيها ويستثمرونها ،

---------------------------
(1) شرح النهج 1 / 198 ـ 199 والغدير 8 / 267 الى 280 .
(2) الغدير 8 / 281 .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 113 _

  وبذلك نمت هذه الثروات نموا عظيما وازدادت هذه الطبقة الطامحة الى الحكم ، والطامحة الى السيادة قوة الى قوتها ) (1).
   ونذكر من اولئك النفر الذين صار اليهم مال عظيم وثراء فاحش في عهد عثمان .
   1 ـ الزبير بن العوام : أحد أعضاء الشورى .
   ( ترك احدى عشرة دارا بالمدينة ، ودارين بالبصرة ، ودار بالكوفة ، ودارا بمصر ، وكان له أربع نسوة ، فأصاب كلَّ إمرأة بعد رفع الثلث ( مليون ومائتا الف ) قال البخاري : فجميع ماله : خمسون ألف ألف وثمانمائة الف الخ ..) (2).
   وقال المسعودي : وخلف الزبير ألف فرس ، وألف عبد وأمة ..(3) .
   2 ـ طلحة بن عبيد الله التيمي : أحد أعضاء الشورى أيضا .
   كانت غلته من العراق كل يوم ألف دينار .
وترك ما قيمته ثلاثين مليون درهما (4).
   3 ـ عبد الرحمن بن عوف الزهري : أحد اعضاء الشورى .
   قال ابن سعد في طبقاته : ترك عبد الرحمن الف بعير ، وثلاثة آلاف شاة ، ومائة فرس ترعى بالبقيع ، وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحاً ، وقال : وكان فيما خلفه : ذهب قطع بالفؤوس حتى مجلت أيدي الرجال منه ، وترك أربع نسوة ، فأصاب كل امرأة ثمانون ألفا .

---------------------------
(1) ثورة الحسين ـ بتصرف 36 ـ 37 .
(2) الغدير 8 / 282 نقلا عن صحيح البخاري .
(3) المسعودي 3 / 333 .
(4) الغدير 8 ص 484 نقلا عن الطبقات لابن سعد 3 / 96 و 3 / 105 .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 114 _

   4 ـ سعد بن ابي وقاص : ترك يوم مات ، مائتين وخمسين ألف درهم ، ومات في قصره بالعقيق (1) .
   5 ـ زيد بن ثابت : خلف من الذهب والفضة ما كان يكسر بالفؤوس ، غير ما خلف من الاموال والضياع بقيمة مائة ألف دينار .
   6 ـ يعلي بن منية : خلف بعد موته خمسمائة ألف دينار ، وديونا على الناس ، وعقارات ، وغير ذلك من التركة ما قيمته ثلاثمائة ألف دينار .
   قال المسعودي : وهذا باب يتسع ذكره ، ويكثر وصفه فيمن تملك من الاموال في أيامه (2).
   هذه لمحة سريعة عن سياسة عثمان ، حيال المال ، ونهجه في اختيار الولاة ، وتقريبه للامويين ، وفتحه المجال أمامهم ، وأمام غيرهم من خاصته للوصول الى مراكز النفوذ في الدولة الاسلامية .
   قال العقاد : فكانت له نظرة للامامة ، قاربت أن تكون نظرة الى الملك ، وكان يقول لابن مسعود ـ كلما ألحَّ عليه في المحاسبة ـ ( مالك ولبيت مالنا ؟ ) وقال في خطبته الكبرى ، يرد على من أخذوه بهباته الجزيلة ..( فضل من مال ، فلِم لا أصنع في الفضل ما أريد ، فلِمَ كنت إماما ؟ ) (3).
   في قبال هذه الفئة المتخمة من الناس ، كانت هناك فئة أخرى من خيرة الصحابة حرمهم عثمان من عطائهم ، كأبي ذر ، وعبد الله بن مسعود (رض ) ، ونقم عليهم عثمان ، لأنهم كانوا صريحين في جنب الله ، لا تلومهم في الله لومة لائم ، فشرَّد الاول ، وكسر أضلاع الثاني .

---------------------------
(1) الغدير 8 / 284 .
(2) المسعودي 3 / 333 .
(3) عثمان 211 / 212 .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 115 _

معَـارضَـة أبـي ذرّ

   إن هذا الانحراف الواضح في سياسة عثمان ، هو الذي فتح عليه أبواب المعارضة في عدة جبهات ، في المدينة ، والشام ، ومصر ، والعراق ! ومن أجلاَء الصحابة وعظمائهم .
   فقد ألزمتهم هذه السياسة بالتحرك المعاكس لها ، أملا في ارجاع الحق الى نصابه ، وتداركا لما قد تسببه من نتائج خطيرة على المجتمع الاسلامي كافة .
   وهم ـ مع هذا كله ـ كانوا لا يتوانون في إسداء النصيحة للخليفة ، واضعين في حسابهم وحدة المصير ، لكنه كان لا يلتفت اليهم ، ولا الى نصائحهم ، بل يقابلهم بأسلوب خشن ، في حين كان يصغي لمروان بن الحكم ، وعمرو بن العاص ، ومعاوية ، واضرابهم من المنحرفين وممن أمرهم في الاسلام واضح .
   لقد كان أبو ذر ( رض ) من جملة أولئك المخلصين ، فلم يتلكأ في ابداء النصيحة لعثمان بل كان يجهد في ذلك ، فيصارحه ، ويصارح غيره من ولاته بما أحدثوه وبدَّلوه في مسرى الخلافة الاسلامية ، وحرفهم إياها عن الطريق المميز لها .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 116 _

   يظهر هذا من قول ابي ذر له : ( نصحتك فاستغششتني ، ونصحت صاحبك ـ يعني معاوية ـ فاستغشني ) (1).
   لكن الطرف الثاني ، كان يعير لهذه النصائح أذنا صمَّاء ، ويتمادى في سياسته تلك غير آبه ولا مكترث بما يجري من حوله ، واذا أراد أن يجيب في بعض الاحيان ، فانه يرمي من ينصحه ، بالكذب والافتراء تارة ، وبتدبير المكائد وشق عصا الامة ، تارة أخرى ! الى غير ذلك مما يبعث في نفس الناصح نوعا من الشعور باليأس ، والاشمئزاز ، والفشل في مهمته الاصلاحية ، فيجعله مضطرا للمجاهرة بقول الحق ، في كل مناسبة .
   وكل مكان ، بوحي من ضرورة وجوب : الامر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو من ركائز الاسلام ومقوماته .
   وهذا ما حصل فعلا لأبي ذر مع عثمان حين أمعن بالاستمرار في سياسته ، لقد جاهر أبو ذر ( رض ) بمعارضته للولاة والمقربين ، وكشف أوراقهم ، غير خائف ولا مكترث .
   وفي هذه المرحلة ، نرى أبا ذر ( رض ) قد اتصف بصفة مميزة عن باقي الصحابة حول هذا الامر ، يصح لنا تسميتها بصفة : الاقحام ، فهو في دوره هذا ينسى نفسه بعض الاحيان ، فيتحرر من الذات وعلائقها ، ومن كل تقاليد محيطه ، ويقحم نفسه ليحرر كلمته ، فكانت المناسبات منبرا له ، منبرا حرا غير مقيد بزمان ولا بمكان ، وكانت كلمته ، الكلمة الجريئة التي لا تعرف الوجل ، ولا الرياء ، ولا المداهنة ، كان يقولها في الطرقات وفي الشوارع وبين الناس ، وعلى أبواب قصر الخضراء ، يقولها ، حفاظا لعهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وحيطة على الاسلام .

---------------------------
(1) شرح النهج 8 / 259 .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 117 _

   قال ابن ابي الحديد : ( إن عثمان لما أعطى مروان وغيره بيوت الاموال ، واختص زيد بن ثابت بشيء منها ، جعل أبو ذر يقول بين الناس ، وفي الطرقات ، والشوارع : بشر الكانزين بعذاب أليم ! ويرفع بذلك صوته ، ويتلو قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) (1).
   وهذه الآية إنما تندد وتتوعد فئة معينة من أصحاب الثروة ، وهم الذين يجمعونها من طرق غير مشروعة ، كالذين كانوا يأخذون ما أفاء الله على المسلمين ، ويستأثرون به دون غيرهم ، في عهد عثمان ، بأرقام خيالية ، كما عرفنا ،أو الذين يأخذونها عن طرق مشروعة ـ كالكسب ـ ولكن لا يؤدون زكاتها المفروضة .
   فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما نزلت هذه الأية ، قال : ( كل ما يؤدي زكاته فليس بكنز ، وان كان تحت سبع أرضين ، وكل مال لا يؤدى زكاته ، فهو كنز ، وان كان فرق الارض(2)، وقد ذكر البخاري هذه الآية في كتاب الزكاة (3).
   وأبو ذر ، رضي الله عنه ، أكرم مقاما وأعلى شأنا من أن يتخذ مذهبا معينا في المال ، في قبال ما هو ضروري في الاسلام ـ كما يدعي بعض المؤرخين ـ كيف وهو نفسه كان يمتلك الشياه والمواشي ، ويأخذ عطاءه كل سنة والبالغ أربعمائة دينار ذهباً .
؟    إذن كان تكريره لهذه الآية على سبيل إلفات المسؤولين ـ آنذاك ـ

---------------------------
(1) المصدر السابق / 256 .
(2) الميزان 9 / 256 .
(3) البخاري / باب اثم مانع الزكاة 2 / 110 .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 118 _

  الى أن ما جمعوه أو أعطوه على حساب بقية المسلمين ، انما هو جريمة في حقهم ، وأنهم سيلقون جزاءهم العادل يوم القيامة .
   وقد كان أبو ذر في سعة من ابداء هذا النقد الصريح القاسي الذي يسبب له عيشا ضنكا في ظل سُخط الخليفة والمقربين من حوله ، وظلَّ تهديداتهم إياه بالفقر أو القتل ، على حد تعبيره : ( إن بني أمية تهددني بالفقر والقتل (1) فقد كان بوسعه أن يحظى بكل ما يتمناه من التكريم والعطاء والقرب لدى عثمان ، لكنه مع هذا ، كان يجد في هذه السعة ضيقا ، وحرجا عليه يلزمانه بقول الحق ، وان كان مُرَّاً ، ففضَّل الضيق في الحق ، على السعة في الباطل ، وفضَّل أن يرضي الله بسخط عثمان وغضبه ، ولا يغضب الله تعالى برضا عثمان .
   وكانت أقوال أبي ذر تبلغ عثمان ، فيسكت ، ويغضي حيث لا مناص عن السكوت والإغضاء وما عساه أن يفعل مع صحابي من ذوي السابقة في الدين مشهود له بالفضل على لسان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أيمنعه عن قراءة القرآن ، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟
   كيف ، وفي منعه له عن ذلك تعدّ واضح على أحكام الاسلام سوف يفتح عليه أبوابا جديدة من المعارضة .
   قال ابن ابي الحديد : ثم أنه أرسل اليه مولى من مواليه : أن انته عما بلغني عنك !
   فقال أبو ذر : أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله ، وعيب من ترك أمر الله فوالله لئن أرضي الله بسخط عثمان ، أحب الي وخير لي من أن اسخط

---------------------------
(1) اعيان الشيعة 16 / 353 عن حلية الاولياء .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 119 _

  الله برضا عثمان ) (1).
   ويلاحظ المتتبع ، أن أبا ذر ، كان مؤدبا غاية الأدب مع عثمان نفسه ، فكان يتحاشى أن يسمعه كلاما يسيء اليه ، أو يرد عليه بأجوبة غليظة ، بينما في الوقت ذاته نجده لا يتحرج من توجيه الكلام الشديد الى بطانته وبعض ولاته ، ومرد ذلك لأمرين .
   أحدهما : أن أبا ذر الصحابي الجليل قمة في الاخلاق والفضيلة ، والخصال الحميدة التي ينبغي للمؤمن أن يتخلَّق بها ، فلا يسب ولا يشتم ، ولا يتهم الطرف المقابل بما هو بعيد عنه .
   ثانيهما : أن حواره مع الخليفة كان يبتني على الاحتفاظ بالصفة التي أعطيت له ، فهو ينظر الى عثمان في محاوراته معه ، من زاوية سلطته الزمنية ، لا من زاوية ذاته .
   أما نظرته الى حاشيته ، وبعض ولاته ، فانها تختلف اختلافا كليا عن ذلك ، فهو يعرفهم على حقيقتهم ، كما يعرف نواياهم ، فلا يترك لأحد منهم فرصة للتقول على الله بغير الحق ، بل يجبههم بالأجوبة المقذعة حينا ، والمسكتة حينا آخر ، ويكيل لهم الصاع صاعين في ذلك .
   قال عثمان يوما ـ والناس حوله ـ : أيجوز للامام أن يأخذ من المال ، فاذا أيسر قضى ؟
   فقال كعب الأحبار : لا بأس بذلك !
   فقال أبو ذر : يا ابن اليهوديين ! أتعلمنا ديننا ؟ !
   فقال عثمان : ما أكثر اذاك لي ، وأولعك بأصحابي ؟ إلحق بمكتبك ،

---------------------------
(1) شرح النهج 8 / 256 .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 120 _

  وكان مكتبه بالشام إلا أنه كان يقدم حاجا ، ويسأل عثمان الإذن له في مجاورة قبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيأذن له في ذلك ) .
   لم يعد الخليفة يطيق وجود أبي ذر وأمثاله في المدينة ، فأمره باللحوق بالشام ، وفي هذا الامر تعجيل على أبي ذر بالرحيل اليها ، وتقييد لحريته في الإقامة بالمدينة متى أحب .
   لقد غضب عثمان على أبي ذر ، فظن أن غضبه هذا سيضع حدَّاً لنشاط أبي ذر ، لكن الذي حصل هو العكس ، خصوصا بعد ان انقطعت الشعرة التي كانت بينهما .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 121 _

مَوقـف أبي ذَرّ مِن مُعـاويَة

   ففي الشام ، كان المجال لأبي ذر أوسع من أي بلد آخر .
كما كانت نظرته الى معاوية ، تختلف عن نظرته الى عثمان .
   فهو يعرف معاوية على حقيقته ، ويعرف إسلام معاوية واسلام أبيه من قبله ، لذلك كان صريحا في أقواله ، وخطبه ، ومواعظه ، وواضحا في دعوته ومنهجه ..    كان صريحا في موقفه الذي ربما تكتم منه بعض الشيء في المدينة ، فكان يركز على الانحراف السائد آنذاك ، واستئثار الولاة بالفيء ، وعدولهم عن جادة الحق ، واطفائهم للسنة ، واحيائهم للبدعة ، الى غير ذلك ، مما يدعو الى اثارة الناس .
   وبذلك فتح على عثمان جبهة جديدة ـ ربما لم تخطر على باله ـ استهدفته ومعاوية معاً .
   ( كان يقوم في كل يوم ، فيعظ الناس ، ويأمرهم بالتمسك بطاعة الله ، ويحذرهم من ارتكاب معاصيه ، ويروي عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما سمعه منه في فضائل أهل بيته عليه وعليهم السلام ويحضهم على التمسك بعترته ) (1).

---------------------------
(1) الاعيان 16 / 355 ـ 356 .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 122 _

   وكان يقول : ( أما بعد ، فانا كنا في جاهليتنا ، قبل أن ينزل علينا الكتاب ، ويبعث فينا الرسول ، ونحن نوفي بالعهد ، ونصدق الحديث ، ونحسن الجوار ، ونقري الضيف ، ونواسي الفقير .
   فلما بعث الله تعالى فينا رسول الله ، وأنزل علينا كتابه ، كانت تلك الاخلاق يرضاها الله ورسوله ، وكان أحقّ بها أهل الاسلام ، وأولى ان يحفظوها ، فلبثوا بذلك ما شاء الله أن يلبثوا .
   ثم ان الولاة ، قد أحدثوا أعمالا قِباحا لا نعرفها ، من سنَّة تطفى ! وبدعة تحيى ! وقائل بحق مكذَّب ، وأثرة لغير تقى ، وأمين ـ مُستأثر عليه ـ من الصالحين ..) وكان يعيد هذا الكلام ويبديه !(1) .
   وكان أبو ذر ، ينكر على معاوية ، أشياء يفعلها ، فبعث اليه معاوية يوما ثلاثمائة دينار !
   فقال أبو ذر لرسوله : إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا ، أقبلها ، وان كانت صلة ، فلا حاجة لي فيها ، وردّها عليه (2).
   وكان أبو ذر يقول بالشام : والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها ، والله ما هي في كتاب الله ، ولا في سنة نبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والله إني لأرى حقا يطفأ ، وباطلا يحيا .. الخ ..
   ولم يكن أبو ذر ، غريبا عن الشام ـ أرض الجهاد ـ على حد تعبيره ، وعن معسكر المسلمين هناك ، فقد اشترك في غزوة الصائفة ( الروم ) كما شارك في فتح قبرص ، وكان أحد الصحابة البارزين في تلك المعارك ـ كما مر معنا .

---------------------------
(1) المصدر السابق .
(2) شرح النهج 8 / 356 .

أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني _ 123 _

   فكان يحدث بأحاديثه تلك أمام العامة والخاصة ، كما كان يحدث بها أمام الجند ، مما دفع حبيب بن مسلمة الفهري ـ أحد القادة ـ الى تحذير معاوية من مغبَّة ذلك ، وهذا ما يؤكده قول إبن بطَّال ـ المتقدم ـ من أنه كان كثير المنازعة لمعاوية والاعتراض عليه ، وكان في جيشه مَيل له .
   ولا يغرب عن بالنا ، أن معاوية ـ بالاضافة الى تكريس نفسه أميرا على الشام ـ كان يمني نفسه بالخلافة مع أول فرصة تلوح ، وكان يمهد لذلك أيام إمارته .
   لذا ، فانه يرى أن وجود أبي ذر وأمثاله من المبرزين ، ضمن دائرة سلطانه ، قد يحول دون استقامة هذا الامر له ، فكان أحرص على إبعاده عنه ، من ابعاد عثمان إياه عن المدينة ، فكتب الى عثمان فيه :
   ( انك قد أفسدت الشام على نفسك بأبي ذر ) (1).
   والواقع : أنه أفسدها على معاوية وعلى عثمان معاً ، لأنه كان يندد بأعمال الولاة ، وانجرافهم ، واستئثارهم بالفيء ، بحجة انه ( مال الله ) ، وكأن الله سبحانه قد أوكل بهذا المال ـ المال الذي أفاءه الله على المسلمين بفضل جهادهم ـ الى عثمان ، كي يبيح لمعاوية صرفه في سبيل غاياته الشخصية .
  وكي يعطيه لمروان بن الحكم ، وللحكم ابن ابي العاص ( طريد رسول الله ) ، ولأبي سفيان !! ولعبد الله بن سعد ! ومن هم على شاكلتهم ممن جرّوا الويلات على هذه الامة بتحكمهم في رقاب الناس ، وفي مقدراتهم .
   ويظهر ان عثمان ـ بعد ورود كتاب معاوية عليه ـ وجد مبرراً للانتقام من أبي ذر ، وتأديبه كما يشتهي ، فكتب الى معاوية :    ( أما بعد ، فاحمل جندبا الي على أغلظ مركب وأوعره ..) (2).

---------------------------
(1) اليعقوبي 2 / 172 .
(2) الغدير 8 / 293 .