9 ـ أعطى أبا سفيان : بن حرب مائتي ألف من بيت المال ، في اليوم الذي أمر فيه لمروان بن الحكم بمائة ألف من بيت المال
.
10 ـ قدمت ابل : الصدقة على عثمان ، فوهبها للحرث بن الحكم .
وكان عثمان يقول في ذلك ( هذا مال الله اعطيه من شئت ، وأمنعه من شئت فأرغم الله أنف من رغم ) ويقول : ( لنأخذنّ من ذلك حاجتنا ، وان رغمت أنوف أقوام )
.
لم تقتصر هبات عثمان على آله وذوي رحمه ، بل شملت المبرزين في قريش من ذوي النفوذ ، وخصوصا بعض أعضاء الشورى ، الذين امتدت أعناقهم الى الخلافة ، فزرعت في نفوسهم نوعا من الشعور بالحرمان ، يقابله نوع من الطموح الى الحكم ، فكان عثمان يغدق عليهم من بيوت الاموال .
بالاضافة الى ذلك ، فقد سهل لهم تنمية هذه الثروات ( فقد قام باجراء مالي فتح به للطبقة الثريَّة أبوابا من النشاط المالي ، وأتاح لها فرص التمكين لنفسها وتنمية ثرواتها ، وذلك ، حين اقترح أن ينقل الناس فيئهم من الارض الى حيث أقاموا ، فمن كان له أرض في العراق أو الشام أو في مصر ، له أن يبيعها ممن له أرض بالحجاز ، أو غيره من بلاد العرب .
وقد سارع الاثرياء الى الاستفادة من هذا الاجراء ، فاشتروا بأموالهم المكدسة أرضين في البلاد المفتوحة ، وبادلوا أرضهم في الحجاز ، أرضين في البلاد المفتوحة ، وجلبوا لها الرقيق والاحرار ، يعملون فيها ويستثمرونها ،
وبذلك نمت هذه الثروات نموا عظيما وازدادت هذه الطبقة الطامحة الى الحكم ، والطامحة الى السيادة قوة الى قوتها )
(1).
ونذكر من اولئك النفر الذين صار اليهم مال عظيم وثراء فاحش في عهد عثمان .
1 ـ الزبير بن العوام : أحد أعضاء الشورى .
( ترك احدى عشرة دارا بالمدينة ، ودارين بالبصرة ، ودار بالكوفة ، ودارا بمصر ، وكان له أربع نسوة ، فأصاب كلَّ إمرأة بعد رفع الثلث ( مليون ومائتا الف ) قال البخاري : فجميع ماله : خمسون ألف ألف وثمانمائة الف الخ ..)
(2).
وقال المسعودي : وخلف الزبير ألف فرس ، وألف عبد وأمة ..
(3) .
2 ـ طلحة بن عبيد الله التيمي : أحد أعضاء الشورى أيضا .
كانت غلته من العراق كل يوم ألف دينار .
وترك ما قيمته ثلاثين مليون درهما
(4).
3 ـ عبد الرحمن بن عوف الزهري : أحد اعضاء الشورى .
قال ابن سعد في طبقاته : ترك عبد الرحمن الف بعير ، وثلاثة آلاف شاة ، ومائة فرس ترعى بالبقيع ، وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحاً ، وقال : وكان فيما خلفه : ذهب قطع بالفؤوس حتى مجلت أيدي الرجال منه ، وترك أربع نسوة ، فأصاب كل امرأة ثمانون ألفا .
---------------------------
(1) ثورة الحسين ـ بتصرف 36 ـ 37 .
(2) الغدير 8 / 282 نقلا عن صحيح البخاري .
(3) المسعودي 3 / 333 .
(4) الغدير 8 ص 484 نقلا عن الطبقات لابن سعد 3 / 96 و 3 / 105 .
أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني
_ 114 _
4 ـ سعد بن ابي وقاص : ترك يوم مات ، مائتين وخمسين ألف درهم ، ومات في قصره بالعقيق
(1) .
5 ـ زيد بن ثابت : خلف من الذهب والفضة ما كان يكسر بالفؤوس ، غير ما خلف من الاموال والضياع بقيمة مائة ألف دينار .
6 ـ يعلي بن منية : خلف بعد موته خمسمائة ألف دينار ، وديونا على الناس ، وعقارات ، وغير ذلك من التركة ما قيمته ثلاثمائة ألف دينار .
قال المسعودي : وهذا باب يتسع ذكره ، ويكثر وصفه فيمن تملك من الاموال في أيامه
(2).
هذه لمحة سريعة عن سياسة عثمان ، حيال المال ، ونهجه في اختيار الولاة ، وتقريبه للامويين ، وفتحه المجال أمامهم ، وأمام غيرهم من خاصته للوصول الى مراكز النفوذ في الدولة الاسلامية .
قال العقاد : فكانت له نظرة للامامة ، قاربت أن تكون نظرة الى الملك ، وكان يقول لابن مسعود ـ كلما ألحَّ عليه في المحاسبة ـ ( مالك ولبيت مالنا ؟ ) وقال في خطبته الكبرى ، يرد على من أخذوه بهباته الجزيلة ..( فضل من مال ، فلِم لا أصنع في الفضل ما أريد ، فلِمَ كنت إماما ؟ )
(3).
في قبال هذه الفئة المتخمة من الناس ، كانت هناك فئة أخرى من خيرة الصحابة حرمهم عثمان من عطائهم ، كأبي ذر ، وعبد الله بن مسعود (رض ) ، ونقم عليهم عثمان ، لأنهم كانوا صريحين في جنب الله ، لا تلومهم في الله لومة لائم ، فشرَّد الاول ، وكسر أضلاع الثاني .
---------------------------
(1) الغدير 8 / 284 .
(2) المسعودي 3 / 333 .
(3) عثمان 211 / 212 .
أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني
_ 115 _
معَـارضَـة أبـي ذرّ
إن هذا الانحراف الواضح في سياسة عثمان ، هو الذي فتح عليه أبواب المعارضة في عدة جبهات ، في المدينة ، والشام ، ومصر ، والعراق ! ومن أجلاَء الصحابة وعظمائهم .
فقد ألزمتهم هذه السياسة بالتحرك المعاكس لها ، أملا في ارجاع الحق الى نصابه ، وتداركا لما قد تسببه من نتائج خطيرة على المجتمع الاسلامي كافة .
وهم ـ مع هذا كله ـ كانوا لا يتوانون في إسداء النصيحة للخليفة ، واضعين في حسابهم وحدة المصير ، لكنه كان لا يلتفت اليهم ، ولا الى نصائحهم ، بل يقابلهم بأسلوب خشن ، في حين كان يصغي لمروان بن الحكم ، وعمرو بن العاص ، ومعاوية ، واضرابهم من المنحرفين وممن أمرهم في الاسلام واضح .
لقد كان أبو ذر ( رض ) من جملة أولئك المخلصين ، فلم يتلكأ في ابداء النصيحة لعثمان بل كان يجهد في ذلك ، فيصارحه ، ويصارح غيره من ولاته بما أحدثوه وبدَّلوه في مسرى الخلافة الاسلامية ، وحرفهم إياها عن الطريق المميز لها .
أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني
_ 116 _
يظهر هذا من قول ابي ذر له : ( نصحتك فاستغششتني ، ونصحت صاحبك ـ يعني معاوية ـ فاستغشني )
(1).
لكن الطرف الثاني ، كان يعير لهذه النصائح أذنا صمَّاء ، ويتمادى في سياسته تلك غير آبه ولا مكترث بما يجري من حوله ، واذا أراد أن يجيب في بعض الاحيان ، فانه يرمي من ينصحه ، بالكذب والافتراء تارة ، وبتدبير المكائد وشق عصا الامة ، تارة أخرى ! الى غير ذلك مما يبعث في نفس الناصح نوعا من الشعور باليأس ، والاشمئزاز ، والفشل في مهمته الاصلاحية ، فيجعله مضطرا للمجاهرة بقول الحق ، في كل مناسبة .
وكل مكان ، بوحي من ضرورة وجوب : الامر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو من ركائز الاسلام ومقوماته .
وهذا ما حصل فعلا لأبي ذر مع عثمان حين أمعن بالاستمرار في سياسته ، لقد جاهر أبو ذر ( رض ) بمعارضته للولاة والمقربين ، وكشف أوراقهم ، غير خائف ولا مكترث .
وفي هذه المرحلة ، نرى أبا ذر ( رض ) قد اتصف بصفة مميزة عن باقي الصحابة حول هذا الامر ، يصح لنا تسميتها بصفة : الاقحام ، فهو في دوره هذا ينسى نفسه بعض الاحيان ، فيتحرر من الذات وعلائقها ، ومن كل تقاليد محيطه ، ويقحم نفسه ليحرر كلمته ، فكانت المناسبات منبرا له ، منبرا حرا غير مقيد بزمان ولا بمكان ، وكانت كلمته ، الكلمة الجريئة التي لا تعرف الوجل ، ولا الرياء ، ولا المداهنة ، كان يقولها في الطرقات وفي الشوارع وبين الناس ، وعلى أبواب قصر الخضراء ، يقولها ، حفاظا لعهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وحيطة على الاسلام .
---------------------------
(1) شرح النهج 8 / 259 .
أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني
_ 117 _
قال ابن ابي الحديد : ( إن عثمان لما أعطى مروان وغيره بيوت الاموال ، واختص زيد بن ثابت بشيء منها ، جعل أبو ذر يقول بين الناس ، وفي الطرقات ، والشوارع : بشر الكانزين بعذاب أليم ! ويرفع بذلك صوته ، ويتلو قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ )
(1).
وهذه الآية إنما تندد وتتوعد فئة معينة من أصحاب الثروة ، وهم الذين يجمعونها من طرق غير مشروعة ، كالذين كانوا يأخذون ما أفاء الله على المسلمين ، ويستأثرون به دون غيرهم ، في عهد عثمان ، بأرقام خيالية ، كما عرفنا ،أو الذين يأخذونها عن طرق مشروعة ـ كالكسب ـ ولكن لا يؤدون زكاتها المفروضة .
فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما نزلت هذه الأية ، قال : ( كل ما يؤدي زكاته فليس بكنز ، وان كان تحت سبع أرضين ، وكل مال لا يؤدى زكاته ، فهو كنز ، وان كان فرق الارض
(2)، وقد ذكر البخاري هذه الآية في كتاب الزكاة
(3).
وأبو ذر ، رضي الله عنه ، أكرم مقاما وأعلى شأنا من أن يتخذ مذهبا معينا في المال ، في قبال ما هو ضروري في الاسلام ـ كما يدعي بعض المؤرخين ـ كيف وهو نفسه كان يمتلك الشياه والمواشي ، ويأخذ عطاءه كل سنة والبالغ أربعمائة دينار ذهباً .
؟
إذن كان تكريره لهذه الآية على سبيل إلفات المسؤولين ـ آنذاك ـ
---------------------------
(1) المصدر السابق / 256 .
(2) الميزان 9 / 256 .
(3) البخاري / باب اثم مانع الزكاة 2 / 110 .
أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني
_ 118 _
الى أن ما جمعوه أو أعطوه على حساب بقية المسلمين ، انما هو جريمة في حقهم ، وأنهم سيلقون جزاءهم العادل يوم القيامة .
وقد كان أبو ذر في سعة من ابداء هذا النقد الصريح القاسي الذي يسبب له عيشا ضنكا في ظل سُخط الخليفة والمقربين من حوله ، وظلَّ تهديداتهم إياه بالفقر أو القتل ، على حد تعبيره : ( إن بني أمية تهددني بالفقر والقتل
(1) فقد كان بوسعه أن يحظى بكل ما يتمناه من التكريم والعطاء والقرب لدى عثمان ، لكنه مع هذا ، كان يجد في هذه السعة ضيقا ، وحرجا عليه يلزمانه بقول الحق ، وان كان مُرَّاً ، ففضَّل الضيق في الحق ، على السعة في الباطل ، وفضَّل أن يرضي الله بسخط عثمان وغضبه ، ولا يغضب الله تعالى برضا عثمان .
وكانت أقوال أبي ذر تبلغ عثمان ، فيسكت ، ويغضي حيث لا مناص عن السكوت والإغضاء وما عساه أن يفعل مع صحابي من ذوي السابقة في الدين مشهود له بالفضل على لسان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أيمنعه عن قراءة القرآن ، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟
كيف ، وفي منعه له عن ذلك تعدّ واضح على أحكام الاسلام سوف يفتح عليه أبوابا جديدة من المعارضة .
قال ابن ابي الحديد : ثم أنه أرسل اليه مولى من مواليه : أن انته عما بلغني عنك !
فقال أبو ذر : أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله ، وعيب من ترك أمر الله فوالله لئن أرضي الله بسخط عثمان ، أحب الي وخير لي من أن اسخط
---------------------------
(1) اعيان الشيعة 16 / 353 عن حلية الاولياء .
أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني
_ 119 _
الله برضا عثمان )
(1).
ويلاحظ المتتبع ، أن أبا ذر ، كان مؤدبا غاية الأدب مع عثمان نفسه ، فكان يتحاشى أن يسمعه كلاما يسيء اليه ، أو يرد عليه بأجوبة غليظة ، بينما في الوقت ذاته نجده لا يتحرج من توجيه الكلام الشديد الى بطانته وبعض ولاته ، ومرد ذلك لأمرين .
أحدهما : أن أبا ذر الصحابي الجليل قمة في الاخلاق والفضيلة ، والخصال الحميدة التي ينبغي للمؤمن أن يتخلَّق بها ، فلا يسب ولا يشتم ، ولا يتهم الطرف المقابل بما هو بعيد عنه .
ثانيهما : أن حواره مع الخليفة كان يبتني على الاحتفاظ بالصفة التي أعطيت له ، فهو ينظر الى عثمان في محاوراته معه ، من زاوية سلطته الزمنية ، لا من زاوية ذاته .
أما نظرته الى حاشيته ، وبعض ولاته ، فانها تختلف اختلافا كليا عن ذلك ، فهو يعرفهم على حقيقتهم ، كما يعرف نواياهم ، فلا يترك لأحد منهم فرصة للتقول على الله بغير الحق ، بل يجبههم بالأجوبة المقذعة حينا ، والمسكتة حينا آخر ، ويكيل لهم الصاع صاعين في ذلك .
قال عثمان يوما ـ والناس حوله ـ : أيجوز للامام أن يأخذ من المال ، فاذا أيسر قضى ؟
فقال كعب الأحبار : لا بأس بذلك !
فقال أبو ذر : يا ابن اليهوديين ! أتعلمنا ديننا ؟ !
فقال عثمان : ما أكثر اذاك لي ، وأولعك بأصحابي ؟ إلحق بمكتبك ،
---------------------------
(1) شرح النهج 8 / 256 .
أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني
_ 120 _
وكان مكتبه بالشام إلا أنه كان يقدم حاجا ، ويسأل عثمان الإذن له في مجاورة قبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيأذن له في ذلك ) .
لم يعد الخليفة يطيق وجود أبي ذر وأمثاله في المدينة ، فأمره باللحوق بالشام ، وفي هذا الامر تعجيل على أبي ذر بالرحيل اليها ، وتقييد لحريته في الإقامة بالمدينة متى أحب .
لقد غضب عثمان على أبي ذر ، فظن أن غضبه هذا سيضع حدَّاً لنشاط أبي ذر ، لكن الذي حصل هو العكس ، خصوصا بعد ان انقطعت الشعرة التي كانت بينهما .
أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني
_ 121 _
مَوقـف أبي ذَرّ مِن مُعـاويَة
ففي الشام ، كان المجال لأبي ذر أوسع من أي بلد آخر .
كما كانت نظرته الى معاوية ، تختلف عن نظرته الى عثمان .
فهو يعرف معاوية على حقيقته ، ويعرف إسلام معاوية واسلام أبيه من قبله ، لذلك كان صريحا في أقواله ، وخطبه ، ومواعظه ، وواضحا في دعوته ومنهجه ..
كان صريحا في موقفه الذي ربما تكتم منه بعض الشيء في المدينة ، فكان يركز على الانحراف السائد آنذاك ، واستئثار الولاة بالفيء ، وعدولهم عن جادة الحق ، واطفائهم للسنة ، واحيائهم للبدعة ، الى غير ذلك ، مما يدعو الى اثارة الناس .
وبذلك فتح على عثمان جبهة جديدة ـ ربما لم تخطر على باله ـ استهدفته ومعاوية معاً .
( كان يقوم في كل يوم ، فيعظ الناس ، ويأمرهم بالتمسك بطاعة الله ، ويحذرهم من ارتكاب معاصيه ، ويروي عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما سمعه منه في فضائل أهل بيته عليه وعليهم السلام ويحضهم على التمسك بعترته )
(1).
---------------------------
(1) الاعيان 16 / 355 ـ 356 .
أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني
_ 122 _
وكان يقول : ( أما بعد ، فانا كنا في جاهليتنا ، قبل أن ينزل علينا الكتاب ، ويبعث فينا الرسول ، ونحن نوفي بالعهد ، ونصدق الحديث ، ونحسن الجوار ، ونقري الضيف ، ونواسي الفقير .
فلما بعث الله تعالى فينا رسول الله ، وأنزل علينا كتابه ، كانت تلك الاخلاق يرضاها الله ورسوله ، وكان أحقّ بها أهل الاسلام ، وأولى ان يحفظوها ، فلبثوا بذلك ما شاء الله أن يلبثوا .
ثم ان الولاة ، قد أحدثوا أعمالا قِباحا لا نعرفها ، من سنَّة تطفى ! وبدعة تحيى ! وقائل بحق مكذَّب ، وأثرة لغير تقى ، وأمين ـ مُستأثر عليه ـ من الصالحين ..) وكان يعيد هذا الكلام ويبديه !
(1) .
وكان أبو ذر ، ينكر على معاوية ، أشياء يفعلها ، فبعث اليه معاوية يوما ثلاثمائة دينار !
فقال أبو ذر لرسوله : إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا ، أقبلها ، وان كانت صلة ، فلا حاجة لي فيها ، وردّها عليه
(2).
وكان أبو ذر يقول بالشام : والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها ، والله ما هي في كتاب الله ، ولا في سنة نبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والله إني لأرى حقا يطفأ ، وباطلا يحيا .. الخ ..
ولم يكن أبو ذر ، غريبا عن الشام ـ أرض الجهاد ـ على حد تعبيره ، وعن معسكر المسلمين هناك ، فقد اشترك في غزوة الصائفة ( الروم ) كما شارك في فتح قبرص ، وكان أحد الصحابة البارزين في تلك المعارك ـ كما مر معنا .
---------------------------
(1) المصدر السابق .
(2) شرح النهج 8 / 356 .
أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني
_ 123 _
فكان يحدث بأحاديثه تلك أمام العامة والخاصة ، كما كان يحدث بها أمام الجند ، مما دفع حبيب بن مسلمة الفهري ـ أحد القادة ـ الى تحذير معاوية من مغبَّة ذلك ، وهذا ما يؤكده قول إبن بطَّال ـ المتقدم ـ من أنه كان كثير المنازعة لمعاوية والاعتراض عليه ، وكان في جيشه مَيل له .
ولا يغرب عن بالنا ، أن معاوية ـ بالاضافة الى تكريس نفسه أميرا على الشام ـ كان يمني نفسه بالخلافة مع أول فرصة تلوح ، وكان يمهد لذلك أيام إمارته .
لذا ، فانه يرى أن وجود أبي ذر وأمثاله من المبرزين ، ضمن دائرة سلطانه ، قد يحول دون استقامة هذا الامر له ، فكان أحرص على إبعاده عنه ، من ابعاد عثمان إياه عن المدينة ، فكتب الى عثمان فيه :
( انك قد أفسدت الشام على نفسك بأبي ذر )
(1).
والواقع : أنه أفسدها على معاوية وعلى عثمان معاً ، لأنه كان يندد بأعمال الولاة ، وانجرافهم ، واستئثارهم بالفيء ، بحجة انه ( مال الله ) ، وكأن الله سبحانه قد أوكل بهذا المال ـ المال الذي أفاءه الله على المسلمين بفضل جهادهم ـ الى عثمان ، كي يبيح لمعاوية صرفه في سبيل غاياته الشخصية .
وكي يعطيه لمروان بن الحكم ، وللحكم ابن ابي العاص ( طريد رسول الله ) ، ولأبي سفيان !! ولعبد الله بن سعد ! ومن هم على شاكلتهم ممن جرّوا الويلات على هذه الامة بتحكمهم في رقاب الناس ، وفي مقدراتهم .
ويظهر ان عثمان ـ بعد ورود كتاب معاوية عليه ـ وجد مبرراً للانتقام من أبي ذر ، وتأديبه كما يشتهي ، فكتب الى معاوية :
( أما بعد ، فاحمل جندبا الي على أغلظ مركب وأوعره ..)
(2).
---------------------------
(1) اليعقوبي 2 / 172 .
(2) الغدير 8 / 293 .