.
قال : آدم .
قال : نعم ! خلقه الله بيده ، ونفخ فيه من روحه ، ثم قال : يا أبا ذر ! وأربعة من الأنبياء سريانيون ، آدم ، وشيث ، وأخنوخ ( وهو إدريس ) وهو أول من خط بالقلم ، ونوح .
وأربعة من الأنبياء من العرب : هود ، وصالح ، وشعيب ، ونبيك محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وأول نبي من بني اسرائيل : موسى ، وآخرهم : عيسى بينهما ستمائة نبي .
قال : مائة كتاب ، وأربعة كتب ، أنزل الله على شيث ، خمسين صحيفة ، وعلى إدريس ثلاثين صحيفة ، وعلى ابراهيم ، عشرين صحيفة ، وانزل التوارة ، والانجيل ، والزبور ، والفرقان .
قال : كانت أمثالا كلها ! وفيها : ـ أيُّها الملِكُ المتسلِّط ، المبتلى ، المغرور ، إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها الى بعض ، ولكن بعثتك لتردّ دعوة المظلوم ، فاني لا أردّها ، وان كانت من كافر أو فاجر !! وفجوره على نفسه .
ساعات ، ساعة يناجي فيها ربَّه ، وساعة يصرفها في صنع الله تعالى ، وساعة يحاسب فيها نفسه فيما قدّم وأخَّر ، وساعة يخلو فيها لحاجته من الحلال في المطعم والمشرب .
فانَّ هذه الساعة عون لتلك الساعات واستجمام للقلوب ، وتوديع لها ؟ وعلى العاقل أن يكون طالبا لثلاث : تزوّد لمعاد ، أو مرمَّة لمعاش ، أو لذة في غير محرّم ، وعلى العاقل ، أن يكون بصيرا بزمانه ، مقبلا على شأنه ، حافظا للسانه ، ومن حسب كلامه من عمله ، قلّ كلامه إلا فيما يعنيه .
قلت : يا رسول الله ، ما كانت صحف موسى ( ع ) ؟
قال : كانت اعتبارا كلها !
عجباً لمن أيقن بالنار ، كيف يضحك ؟! عجباً لمن أيقن بالموت ، كيف يفرح ؟! عجبا لمن أبصر الدنيا ، وتقلُّبها بأهلها حالا بعد حال ، ثم يطمئن اليها !؟ عجباً لمن أيقن بالحسنات غدا ، كيف لا يعمل !؟
قلت : يا رسول الله ، فهل في أيدينا مما أنزل الله عليك ، شيء مما كان في صحف ابراهيم ، وموسى ؟ .
قال : إقرأ يا أبا ذر : قد أفلَحَ من تَزكَّى ، وذكَر إسم ربِّه فصلَّى ، بل تُؤثرونَ الحَياةَ الدُنيا ، والآخرة خير وأبقى إنَّ هذا ( يعني ذكر هذه الأربع آيات ) لفي الصحف الأولى ، صُحُفِ ابراهيمَ وموسى ..
قلت : يا رسول الله ، أوصني .
قال : أوصيك بتقوى الله ، فانها رأس أمرِكَ كلِّه .
قلت : يا رسول الله : زدني .
قال : عليك بتلاوةِ القرآن ، وذكرِ الله كثيرا ، فانه ذكر لك في السماء ، ونور لك في الارض .
أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني
_ 169 _
قلت : يا رسول الله ، زدني .
قال : عليك بالجهاد ، فانه رهبانية أمتي .
قلت : يا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، زدني .
قال : عليك بالصمت ، إلا من الخير ، فانه مطرَدة للشيطان عنك ، وعون لك على أمر دينك .
قلت : يا رسول الله ، زدني .
قال : إياك وكثرة الضحك ، فانه يميت القلب ، ويَذهب بنور الوجه .
قلت : يا رسول الله ، زدني .
قال : انظر ( الى ) من هو تَحتك ، ولا تنظر الى من هو فوقك ، فانه أجدر أن لا تزدري نعمة الله عليك .
قلت : يا رسول الله ، زدني .
قال : صِلْ قرابتك وإن قطعوك ، وأحِبّ المساكين وأكثر مجالستهم .
قلت : يا رسول الله ، زدني .
قال : قل الحق ، وان كان عليك مرّاً .
قلت : يا رسول الله ، زدني .
قال : لا تَخف في الله لومة لائم .
قلت : يا رسول الله زدني .
قال : يا أبا ذر ، ليرُدَّك عن الناس ما تعرف من نفسك ، ولا تجد
أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني
_ 170 _
عليهم فيما يأتي ، فكفى بالرجل عيباً أن يعرف من الناس ما يجهل من نفسه ، ويجد عليهم فيما يأتي .
قال : ثم ضرب بيده على صدري ، وقال : يا أبا ذر ، لا عقل كالتدبير ، ولا ورع كالكفّ ، ولا حسَب كحُسن الخلق
(1) .
---------------------------
(1) تنبيه الخواطر ـ 2 / 314 الى 316 / ومعاني الاخبار 333 الى 335 ، وقد وجدت بعضا من مقاطع هذا الحوار في الكامل 1 / ص 47 ـ 60 ـ 124 .
أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني
_ 171 _
أبـو ذَرّ العَـالِم
نكتفي هنا بعرض لما قيل وكتب حول علم أبي ذر ( رض ) فان في ذلك صورة واضحة عما يتمتع به هذا الصحابي الجليل من العلم والفضل .
قال أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) : وعى علماً عُجز فيه ، وكان شحيحا حريصا على دينه ، حريصا على العلم ، وكان يكثر السؤال ، فيعطى ويمنع ، أما أن قد ملئ في وعائه حتى امتلأ .
وقال أبو نعيم في الحلية : أول من تكلم في علم البقاء والفناء ، وثبت على المشقة والعناء وحفظ العهود والوصايا ، وصبر على المِحَن والرزايا ..الى أن قال : أبو ذر الغفاري رضي الله عنه خدم الرسول وتعلم الاصول ، ونبذ الفُضول .
وقال ابن حجر في الإصابة : كان يوازي ابن مسعود في العلم
(1) .
وجاء في كتاب فنون الاسلام ، في أول من جمع حديثا الى مثله في باب واحد ، وعنوان واحد من الصحابة الشيعة ، وهم : أبو عبد الله سلمان الفارسي ، وأبو ذر الغفاري ( رض ) وقد نص على ذلك ، رشيد الدين بن شهر آشوب في كتابه : معالم علماء الشيعة .
وذكر الشيخ أبو جعفر الطوسي
---------------------------
(1) الغدير 8 / 311 ـ 312 .
أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني
_ 172 _
شيخ الشيعة ، والشيخ أبو العباس النجاشي في كتابيهما ، في فهرست اسماء المصنفين من الشيعة ، مصنفاً لأبي عبد الله سلمان الفارسي ، ومصنفاً لأبي ذر الغفاري ، وأوصلا اسنادهما الى رواية كتاب سلمان ، وكتاب أبي ذر ، وكتاب سلمان : كتاب حديث الجاثليق ، وكتاب أبي ذر : كتاب كالخطبة ، يشرح فيه الامور بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الخ
(1) ..
وقد ذكر بعض الاعلام : ( أنه كان بينه وبين عثمان مشاجرة في مسألة من مسائل الزكاة ، فتحاكما عند رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فحكم لأبي ذر على عثمان )
(2) .
---------------------------
(1) كتاب الشيعة وفنون الاسلام / 31 .
(2) رجال بحر العلوم 2 / 151 .
أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني
_ 173 _
الـزّاهد المتعبِـّد
في حلية الاولياء بسنده عن أبي ذر ، قال :
والله لو تعلمون ما أعلم ، ما انبسطتم الى نسائكم ، ولا تقَاررتهم على فرشكم ، والله لوددت أن الله عز وجل خلقني ، يوم خلقني ـ شجرة تُعضد ، ويؤكل ثمرها .
وروى الصدوق في الخصال بسنده ، عن الصادق ( عليه السلام ) عن أبيه قال :
بكى أبو ذر من خشية الله عز وجل ، حتى اشتكى بصره !
فقيل له : يا أبا ذر ! لو دعوت الله أن يشفي بصرك ! ؟
فقال : اني عنه لمشغول ! وما هو من أكبر همي ، قالوا : وما يشغلك ؟
قال : العظيمتان ! الجنة والنار !! .
قال أبو ذر : من جزى الله عنه الدنيا خيرا ! فجزاها الله عني مذمة ، بعد رغيفي شعير ، أتغدى بأحدهما ، وأتعشى بالآخر ، وبعد شملتي صوف ، أتَّزر باحداهما ، وأرتدي بالأخرى .
وقال : كان قوتي على عهد رسول الله من تمر ، فلست بزائد عليه حتى ألقى الله !
أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني
_ 174 _
عن عيسى بن عميلة الفزاري قال : أخبرني من رأى أبا ذر يحلب غُنيمة له ، فيبدأ بجيرانه وأضيافه قبل نفسه ، ولقد رأيته ليلة حلب حتى ما بقي في ضروع غنمه شيء ، إلا مَصَره وقرَّب اليهم تمراً ، وهو يسير ، ثم تعذر اليهم وقال : لو كان عندنا ما هو أفضل من هذا ، لجئنا به ! وما رأيته ذاق تلك الليلة شيئاً .
وقيل له : ألا تتَّخذ ضيعة ، كما إتَّخذ فلان وفلان !؟
قال : وما أصنع ، بأن أكون أميرا ؟ وانما يكفيني كل يوم شربه ماء أو لبن ، وفي الجمعة قفيز من قمح .
قال أبو ذر : يولدون للموت ، ويعمرون للخراب ، ويحرصون على ما يفنى ، ويتركون ما يبقى ألا حبذا المكروهان : الموت ، والفقر ( في سبيل الله ) .
عن ابي جعفر ( عليه السلام ) قال : أتى أبا ذر رجل يبشره بغنم له قد ولدت ، فقال : يا أبا ذر ! أبشر فقد ولدت غنمك ، وكثرت !
فقال : ما يسرّني كثرتها ، وما أحب ذلك ! فما قلَّ وكفى ، أحب اليّ مما كَثر وألهى ! اني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : على حافتيّ الصراط يوم القيامة : الرحم ، والامانة ، فاذا مرَّ عليه الوصول للرحم ، المؤدي للأمانة ، لم يتكفأ به في النار .
وقيل له عند الموت : يا أبا ذر ، ما لك ؟
قال : عملي !
قالوا : إنا نسألك عن الذهب والفضة !
قال : ما أصبح ، فلا أمسى ، وما أمسى فلا أصبح ، لنا كندوج *
---------------------------
* الكندوج : لفظ معرب ، معناه : الخزانة .
أبـُو ذَرّ الـغـفَـاري رَمز اليَقظة في الضَمير الإنسَاني
_ 175 _
ندع فيه خير متاعنا ، سمعت حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : كندوج المرء ، قبره
(1) .
وفي حلية الاولياء ، بسنده ، عن محمد بن سيرين ، قال :
( بلغ الحارث ( رجلا كان بالشام ) أن أبا ذر به عوز ، فبعث اليه بثلاثمائة دينار .
فقال : ما وجد عبداً لله تعالى هو أهون عليه مني ؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ( من سأل ، وله أربعون ، فقد ألحف ! ) ولآل أبي ذر أربعون درهماً ، وأربعون شاة .
مـن فضـائلـه :
ما روي عن أبي عبد الله الصادق ( عليه السلام ) قال :
دخل أبو ذر على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ومعه جبرئيل ، فقال جبرئيل : من هذا يا رسول الله ؟
قال : أبو ذر :
قال : أما انه في السماء أعرف منه في الأرض ، وسله عن كلمات يقولهن اذا أصبح ، قال : فقال : يا أبا ذر ، كلمات تقولهن اذا أصبحتَ ، فما هنَّ ؟
قال : أقول ، يا رسول الله : ( اللهم اني أسألك الايمان بك ، والتصديق بنبيك ، والعافية من جميع البلايا ، والشكر على العافية ، والغنى عن شرار الناس
(2) ) .
---------------------------
(1) معجم رجال الحديث 4 / 171 .
(2) نفس المصدر 4 / 168 .