الفهرس العام

بسم الله الرحمن الرحيم


المجلس السابع عشر :
المجلس الثامن عشر :
المجلس التاسع عشر :
المجلس العشرون :



  العظيم  ، ولله درّ السيد حيدر الحلي عليه الرحمة إذ يقول :
مَا ذَنْبُ أَهْلِ البيتِ iiحتَّ       ى  مِنْهُمُ  أَخْلَوا  iiرُبُوعَهْ
تركوهُمُ  شتَّى iiمصائبُهُمْ       وأجمعُهَا          iiفظيعَهْ
فَمُغَيَّبٌ كالبدرِ ترتقبُ ال       وَرَى    شَوْقاً   iiطُلُوعَه
ومُكََابِدٌ      للسمِّ     iiقَدْ       سُقِيَتْ   حُشَاشَتُهُ  iiنَقِيعَه
وَمُضَرَّجٌ    بالسيفِ   iiآ       ثَرَ  عِزَّهُ وأبى iiخُضُوعَه
  وقد أخبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) هذه الأمّة بما يجري على أهل بيته ( عليهم السلام ) من القتل والتشريد والإضطهاد  ، وما يقع عليهم من الظلم والعدوان ، روي عن عبدالله بن مسعود قال : أتينا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فخرج إلينا مستبشراً  ، يُعرف السرور في وجهه  ، فما سألناه عن شيء إلاَّ أخبرنا به  ، ولا سكتنا إلاّ ابتدأنا  ، حتى مرَّت فتية من بني هاشم فيهم الحسن والحسين ( عليهما السلام )   ، فلمَّا رآهم التزمهم وانهملت عيناه  ، فقلنا : يا رسول الله! ما نزال نرى في وجهك شيئاً نكرهه ؟
  فقال ( صلى الله عليه وآله ) : إنّا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا  ، وإنه سيلقى أهل بيتي من بعدي تطريداً  ، وتشريداً في البلاد  ، حتى ترتفع رايات سود من المشرق فيسألون الحق فلا يُعطونه  ، ثمَّ يسألونه فلا يُعطونه  ، ثمَّ يسألونه فلا يُعطونه  ، فيقاتلون فيُنصرون  ، فمن أدركه منكم أو من أعقابكم فليأت إمام أهل بيتي ولو حبواً على الثلج  ، فإنها رايات هدى  ، يدفعونها إلى رجل من أهل بيتي يواطىء اسمه اسمي ... فيملك الأرض  ، فيملأها قسطاً وعدلا كما ملئت جوراً وظلماً (1) .
  وروي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : إن أهل بيتي سيلقون من بعدي من أمتي قتلا وتشريداً  ، وإن أشدَّ قومنا لنا بغضاً بنو أمية  ، وبنو المغيرة  ،

---------------------------
(1) المستدرك على الصحيحين  ، الحاكم : 4/511  ، المعجم الكبير  ، الطبراني : 10/85 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 577 _

  وبنو مخزوم (1) .
  قال المناوي : وروي في الحديث : من آل بيتي مسموم  ، ومقتول  ، ومحروق  ، قال : وفُسِّر الأول بالحسن ( عليه السلام )   ، والثاني بالحسين ( عليه السلام )   ، والثالث بزيد بن علي ( عليه السلام ) (2) .
  وقد أوصى المصطفى ( صلى الله عليه وآله ) هذه الأمَّة بحفظ عترته وأهل بيته ( عليهم السلام ) ، ولكن هذه الأمة لم ترع حقَّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في عترته  ، فانظر أُيها الموالي ماذا فعلوا بهم  ، وما جرى عليهم من قتلهم  ، وسفك دمائهم  ، وتشريدهم عن أوطانهم  ، وحبسهم في المطامير  ، وغير ذلك من ألوان العذاب والتنكيل  ، من ولاة الجور والظلمة  ، فتناسوا كلَّ وصايا النبي ( صلى الله عليه وآله ) وكأنهم لم يسمعوا شيئاً من وصاياه في حقّ عترته وأبنائه الطاهرين ( عليهم السلام ) .
  قال الباري تعالى عن اليتيمين في القرآن الكريم : ( وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً ) (3). وجاء في تفسير هذه الآية عن ابن عباس وجابر وأبي عبدالله الصادق ( عليه السلام ) : إن الله يصلح بصلاح الرجل ولده وولد ولده  ، ويحفظه في ذرّيّته  ، وكان السابع (4) من آبائهما (5) .
  وقال المقريزي : فإذا صحَّ أن الله سبحانه قد حفظ غلامين لصلاح أبيهما فيكون قد حفظ الأعقاب برعاية الأسلاف  ، وإن طالت الأحقاب  ، ومن ذلك ما جاء في الأثر أن حمام الحرم من حمامتين عشَّشتا على فم الغار الذي اختفى فيه

---------------------------
(1) المستدرك على الصحيحين : 4/534 ح 8500  ، قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه  ، الفتن  ، نعيم بن حماد : 1/131 ح 319 .
(2) الكواكب الدرية  ، المناوي : 4/303 .
(3) سورة الكهف  ، الآية : 82 .
(4) وقيل التاسع  ، وقيل العاشر  ، راجع فتح القدير  ، الشوكاني 3/304 مورد الآية .
(5) راجع : الدر المنثور  ، السيوطي : 4/235  ، فتح القدير  ، الشوكاني : 3/306 وص 304 مورد الآية .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 578 _

  رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) (1) فلذلك حَرُمَ حَمامُ الحرم  ، وإذا كان كذلك فمحمد ( صلى الله عليه وآله ) أحرى وأولى وأحقّ وأجدر أن يحفظ الله تعالى ذرّيّته  ، فإنه إمام الصلحاء  ، وما أصلح الله فسادَ خَلقِه إلاَّ به (2) .
  وروي عن الإمام الحسن ( عليه السلام ) أنه قال لبعض الخوراج : بمَ حفظ الله مال الغلامين ؟ قال : بصلاح أبيهما  ، قال : فأبي وجدّي خيرٌ منه!! (3) .
  وروي عن الإمام علي بن الحسين ( عليهما السلام ) قال : ألا إن الله ذكر أقواماً بآبائهم فحفظ الأبناء للآباء  ، قال تعالى : ( وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً ) ولقد حدَّثني أبي عن آبائه أنه التاسع من ولده  ، ونحن عترة رسول الله احفظوها لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) (4) .
  وروي عن الإمام الصادق جعفر بن محمد ( عليهما السلام ) قال : احفظوا فينا ما حفظ العبد الصالح في اليتيمين (5) .
   وجاء عن ابن عباس ( رضي الله عنه ) ، في قوله تعالى : ( وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً ) قال : حُفظا لصلاح أبيهما  ، وما ذكر عنهما صلاحاً (6) .
  وقال الكاتب عبد الحليم الجندي : فليس في تأريخ البشرية كلِّها أسرةٌ شُرِّدت وجُرِّدت  ، وذاقت العذاب والاسترهاب  ، مثل أهل بيت النبي ( صلى الله عليه وآله )   ، بدأ بهم تأريخ الإسلام مجده  ، واستمر فيهم بعبرته وعظمتهم  ، قدَّم أبوهم للبشريَّة أسباب خلاصها بكتاب الله وسنة الرسول ( صلى الله عليه وآله )   ، وقدَّم أهل بيته أرواحهم في سبيل القيم التي نزل بها القرآن  ، وجاءت بها السنَّة  ، كانت مصابيحُهم تتحطَّم  ، لكنَّ

---------------------------
(1) راجع الصواعق المحرقة : 242 ط ، مصر  ، و 361 ط ، بيروت ـ خاتمة في ذكر أمور مهمة .
(2) فضل آل البيت  ، المقريزي : 110 .
(3) تفسير الرازي : 21/162 مورد الآية .
(4) رشفة الصادي  ، ابن شهاب الشافعي : 91 باب 9 .
(5) الصواعق المحرقة  ، ابن حجر : 175 ط ، مصر  ، 266 ط ، بيروت  ، المقصد الثالث من الآية الرابعة  ، فضائل آل البيت  ، المقريزي : 109 .
(6) المستدرك  ، الحاكم : 2/369  ، فضل آل البيت  ، المقريزي : 109 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 579 _

  شعلتهم لا تنطفىء  ، لتخلِّد الجهاد والاستشهاد والإرشاد  ، بالمثل العالي الذي كانوه  ، والضوء الذي لم تمنع الموانع من انتشاره  ، وعلَّم فيه أبناءُ النبي ( صلى الله عليه وآله ) أمتَه بعض علومه : أن الاستشهاد حياة للمستشهدين وللأحياء جيمعاً (1) .
  وناهيك ـ أيُّها الموالي ـ لو سمعت كلمات أهل البيت ( عليهم السلام ) فيما جرى عليهم من الظلمة من الجور والعدوان والظلم والاستبداد  ، فاستمع إلى كلماتهم التي خرجت من صدور مكلومة بالألم  ، طفح بها الكيل حتى أصبحت مما عانته من ولاة الجور وملؤها حسرةٌ وألم  ، فأصبحوا في الأُمة التي خلَّفهم فيها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون  ، يذبِّحون أنباءهم ويستحيون نساءهم .
  روي عن زيد بن علي بن الحسين  ، عن أبيه  ، عن جده ( عليهم السلام ) ، قال : قال علي ( عليه السلام ) : كنت مع الأنصار لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على السمع والطاعة له في المحبوب والمكروه  ، فلمَّا عزَّ الإسلام  ، وكثُر أهله  ، قال ( صلى الله عليه وآله ) : يا علي  ، زد فيها : على أن تمنعوا رسول الله وأهل بيته مما تمنعون منه أنفسكم وذراريكم  ، قال : فحملها على ظهور القوم  ، فوفى بها من وفى  ، وهلك من هلك (2) .
  وروي أنه قيل لعلي بن الحسين ( عليه السلام ) : كيف أصبحت ؟ فقال ( عليه السلام ) : أصبحنا خائفين برسول الله ( صلى الله عليه وآله )   ، وأصبح جميع أهل الإسلام آمنين به (3) .
  وروي عن الإمام علي بن الحسين ( عليه السلام ) هذه الأبيات الشريفة :
نحن بنو المصطفى ذوو غُصَص          يَجْرَعُها   في   الأنامِ  كَاظِمُنا
عظيمةٌ    في    الأنامِ    iiمِحْنَتُنا             أوَّلُنا     مُبْتَلىً     وآخِرُنا
يَفْرَحُ    هذا    الوَرَى   iiبعيدِهِمُ       ونحن        أعيادُنا       iiمآتِمُنا

---------------------------
(1) الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام )   ، عبد الحليم الجندي : 111 .
(2) شرح نهج البلاغة  ، ابن أبي الحديد : 6/44 / 45 .
(3) التذكرة الحمدونية  ، ابن حمدون : 9/224 رقم : 443 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 580 _

والناسُ في الأَمْنِ والسُّرُورِ ولا       يَأْمَنُ    طُوْلَ   الحَيَاةِ   iiخَائِفُنا (1)
  وروى القندوزي الحنفي من مقتل أبي مخنف أن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) لمَّا وصل من الأسر إلى المدينة خطب في أهل المدينة  ، وقال ( عليه السلام ) في خطبته : ...
   أيها الناس  ، أصبحنا مشرَّدين مطرودين مذودين شاسعين عن الأوطان  ، من غير جرم اجترمناه  ، ولا مكروه ارتكبناه  ، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها  ، ولا فاحشة فعلناها  ، فوالله لو أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أوصى إليهم في قتالنا لما زادوا على ما فعلوا بنا  ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون (2) .
  وقال الناشي الصغير في قصيدة له وهي بضعة عشر بيتاً  ، ذكر منها الحموي قوله :
عجب   لكم   تُفنون  قتلا  iiبِسَيْفِكُمُ       ويسطو  عليكم مَنْ لكم كان يَخْضَعُ
فما  بقعةٌ في الأرض شرقاً iiومغرباً      وليس   لكم  فيها  قتيلٌ  iiومَصْرَعُ
ظُلِمْتُم     وَقُتِّلْتُم    وَقُسِّمَ    iiفَيْئُكُمْ       وَضَاقَتْ بكم أرضٌ فلم يَحْمِ مَوْضِعُ
كأنَّ   رسولَ   اللهِ  أوصى  بقتِلكم         وأجسامُكُمْ  في  كُلِّ أرض iiتُوَزَّعُ (3)
  وقال السيِّد صالح النجفي القزويني عليه الرحمة المتوفى سنة 1306 هـ :
فطوسٌ لكم والكَرْخُ شَجْواً وكربلا      وكوفانُ   تبكي  والبقيعُ  iiوزمزمُ
وكم   قد  تعطَّفتم  عليهم  iiترحُّماً        فلم يعطفوا يوماً عليكم iiويرحموا
فَلاَ   رَبِحَتْ  آلُ  الطليقِ  iiتِجَارةً       ولا  بَرِحَتْ  هوناً  تُسامُ  iiوَتُرْغَمُ
فَمَا   مِنْكُمُ   قَدْ  حرَّم  اللهُ  iiحَلَّلُوا       وما   لَكُمُ  قد  حلَّل  اللهُ  iiحَرَّمُوا
وَجَدُّهُمُ  لو  كان  أوصى  iiبقتلِهِمْ       إليكم   لَمَا  زِدْتُم  على  ما  فَعَلْتُمُ

---------------------------
(1) شجرة طوبى  ، الحائري : 1/6  ، وأوردها الذهبي في سير أعلام النبلاء : 15/167 ونسبها لغير الإمام ( عليه السلام ) .
(2) ينابيع المودة لذوي القربى  ، القندوزي : 3/93 .
(3) معجم الأدباء  ، الحموي : 13/292 / 293  ، لسان الميزان  ، ابن حجر 4/239 ـ 240 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 581 _

فصمتُمْ  من  الدينِ الحنيفيِّ iiحَبْلَهُ        وعُرْوَتَهُ الوثقى التي ليس تُفْصَمُ (1)
  وعن المنهال بن عمرو قال : دخلت على علي بن الحسين ( عليه السلام ) فقلت : كيف أصبحت أصلحك الله ؟ فقال ( عليه السلام ) : ما كنت أرى شيخاً من أهل المصر مثلك لا يدري كيف أصبحنا  ، فأمَّا إذ لم تدر أو تعلم فسأخبرك : أصبحنا في قومنا بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون  ، إذ كانوا يذبِّحون أبناءهم  ، ويستحيون نساءهم  ، وأصبح شيخنا وسيِّدنا يُتَقَرَّبُ إلى عدوِّنا بشتمه أو سبِّه على المنابر  ، وأصبحت قريش تعدُّ أن لها الفضل على العرب لأن محمداً ( صلى الله عليه وآله ) منها  ، لا يعدُّ لها فضل إلاَّ به وأصبحت العربُ مقرَّةً لهم بذلك  ، وأصبحت العرب تعدُّ أن لها الفضل على العجم لأن محمداً ( صلى الله عليه وآله ) منها  ، لا يُعدُّ لها فضل إلاَّ به  ، وأصبحت العجمُ مقرَّةً لهم بذلك  ، فلئن كانت العرب صدَّقت أن لها الفضل على العجم  ، وصدَّقت قريش أن لها الفضل على العرب  ، لأن محمد ( صلى الله عليه وآله ) ( منها ) إن لنا أهل البيت الفضل على قريش لأن محمداً ( صلى الله عليه وآله ) منا  ، فأصبحوا يأخذون بحقّنا  ، ولا يعرفون لنا حقاً  ، فهكذا أصبحنا إذ لم تعلم كيف أصبحنا قال : فظننت أنه أراد أن يُسمع من في البيت (2) .
  وروي عن الإمام محمد الباقر ( عليه السلام ) أنه قال : لا رعى الله ( حقَّ ) هذه الأمة  ، فإنها لم ترع حقَّ نبيِّها ( صلى الله عليه وآله ) في أهله  ، أما والله لو تركوا الحقَّ لأهله لما اختلف في الله تعالى اثنان  ، وأنشد ( عليه السلام ) يقول :
إنَّ    اليهودَ   لِحُبِّهم   iiلنبيِّهم      أَمِنُوا  بَوَائِقَ  حَادِثِ  الأَزْمَانِ
وذوو الصليبِ بحبِّهم لصليبِهِمْ       يمشون زهواً في قُرَى iiنَجْرَانِ
والمؤمنون  بحُبِّ  آلِ  iiمحمَّد       يُرْمَونَ  في  الآفاق  iiبالنيرانِ(3)

---------------------------
(1) الإمام محمد الجواد ( عليه السلام )   ، الحاج حسين الشاكري : 489 .
(2) الطبقات الكبرى  ، ابن سعد : 5/219  ، تاريخ مدينة دمشق  ، ابن عساكر : 396  ، تهذيب الكمال  ، المزي : 20/399  ، المنتخب من ذيل المذيل  ، الطبري : 119 .
(3) كتاب الإلمام  ، الإسكندراني : 5/301  ، ينابيع المودة  ، القندوزي : 3/42 و 249 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 582 _

  وروي عن الإمام جعفر بن محمد الصادق ( عليه السلام ) أنه قال : احفظوا فينا ما حفظ العبد الصالح في اليتيمين لأبيهما الصالح  ، وكان الجدَّ السابع  ، وقد ضيَّعت هذه الأمَّة حقَّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بقتل أولاده (1) .
  قال الفخر الرازي في تفسير سورة ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) : فانظركم قتل من أهل البيت ( عليهم السلام ) ، ثم العَالَم ممتلئ منهم  ، ولم يبق من بني أمية أحدٌ يُعبأبه (2) .
  أقول : فهذه قبور آل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مشتتة في البلدان  ، نائية عن الأوطان  ، ورحم الله شاعر أهل البيت ( عليهم السلام ) دعبل الخزاعي إذ يقول في ذلك :
قبور  بكوفان   ، وأخرى iiبطيبة       وأخرى    بفخّ   نالها   iiصلواتِ
وأخرى بأرض الجوزجان iiمحلُّها      وقبر   بباخمرى  لدى  iiالغرباتِ
وقبر    ببغداد    لنفس    iiزكية       تضمنها   الرحمن  في  iiالغرفاتِ
وقبر  بطوس  يا لها من iiمصيبة      ألحت  على  الأحشاء  iiبالزفراتِ
قبور ببطن النهر من جنب كربلا       معرسهم    فيها    بشط   iiفراتِ
توفوا   عطاشا  بالفرات  iiفليتني         توفيت  فيهم  قبل  حين iiوفاتي

المجلس السابع عشر :

  ظلامات أهل البيت ( عليهم السلام ) وشيعتهم :
  روي أنه وقف الإمام الصادق صلوات الله عليه مستتراً في خفية  ، يشاهدالمحامل التي حمل عليها عبدالله بن الحسن وأهله في القيود والحديد من المدينة إلى العراق بأمر المنصور الدوانيقي  ، فلمَّا مرّوا به بكى  ، وقال ( عليه السلام ) : ما وفت الأنصار ولا

---------------------------
(1) مقتل الحسين ( عليه السلام )   ، الخوارزمي : 2/115 ح 47 .
(2) تفسير الفخر الرازي : 32/124 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 583 _

  أبناء الأنصار لرسول الله ( صلى الله عليه وآله )   ، بايعهم على أن يمنعوا محمداً وأبناءه وأهله وذرّيّته مما يمنعون منه أنفسهم وأبناءهم وأهلهم وذراريهم فلم يفوا  ، اللهم اشدد وطأتك على الأنصار (1) .
  وقال منصور النمري رحمه الله تعالى في ظلامة أهل البيت ( عليهم السلام ) :
آلُ   النبيِّ   وَمَنْ   iiيُحِبُّهُمُ       يتطامنون    مَخَافَةَ   الْقَتْلِ
أَمِنَ النصارى واليهودُ وَهُمْ       من  أُمَّةِ  التوحيدِ  في أَزْلِ (2)
  وقد أُنْشِدَ الرشيد هذين البيتين بعد موت منصور النمري رحمه الله تعالى  ، فقال الرشيد ـ بعد أن أرسل إليه من يقتله  ، فوجده قد مات ـ : لقد هممت أن أنبش عظامه فأحرقها ... (3) .
  وقال في طبقات الشعراء : إن الرشيد بعد سماعه لمدائح النمري في أهل البيت ( عليهم السلام ) ، أمر أبا عصمة بأن يخرج من ساعته إلى الرقّة  ، ليسلَّ لسان منصور من قفاه  ، ويقطع يده ورجله  ، ثمَّ يضرب عنقه  ، ويحمل إليه رأسه  ، بعد أن يصلب بدنه  ، فخرج أبو عصمة لذلك  ، فلمَّا صار بباب الرقّة استقبلته جنازة النمري  ، فرجع إلى الرشيد فأعلمه  ، فقال له الرشيد : ويلي عليك يا بن الفاعلة  ، فأَلاَّ إذ صادفته ميِّتاً فأحرقته بالنار! (4) .
  وروى ابن أبي الحديد المعتزلي أيضاً  ، قال : لما ولي خالد بن عبدالله القسري مكة ـ وكان إذا خطب بها لعن علياً والحسن والحسين ( عليهم السلام ) ـ فقال عبيدالله بن كثير السهمي وقد أخذ بأستار الكعبة :
لعن  اللهُ مَنْ يسبُّ عليّاً       وحسيناً من سُوقَة وَإِمَامِ

---------------------------
(1) شرح نهج البلاغة  ، ابن أبي الحديد : 6/44 / 45  ، مقاتل الطالبيين  ، الإصبهاني : 149 .
(2) زهر الآداب وثمر الألباب  ، القيرواني : 2/650  ، طبقات الشعراء  ، ابن المعتز العباسي : 225 .
(3) زهر الآداب  ، هامش المستطرف : 1/254  ، الشعر والشعراء : 547 .
(4) طبقات الشعراء  ، ابن المعتز العباسي : 223 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 584 _

أيُسَبُّ   المطهَّرون  iiجُدُوداً      والكِرَامُ   الآبَاءِ   iiوالأعمامِ
يَأْمَنُ  الطيرُ والحمامُ وَلاَ iiيَأْ      مَنُ  آلُ الرسولِ عندَ iiالمَقَامِ
طِبْتَ بيتاً وطاب أهلُكَ أَهْلا       أهلُ  بيتِ  النبيِّ  iiوالإسلام
رحمةُ  اللهِ  و السلامُ iiعليهم       كلَّما    قام    قائمٌ    iiبسَلاَمِ(1)
  وقال حين عابوه على محبَّته لأهل البيت صلوات الله عليهم :
إنَّ    امرءاً   أمستَ   iiمَعَايِبُهُ       حُبَّ   النبيِّ  لَغَيْرُ  ذي  iiذَنْبِ
وبني   أبي   حسن   iiوَوَالِدِهِمْ      مَنْ طَابَ في الأَرْحَامِ والصُّلْبِ
أَيُعَدُّ     ذنباً     أَنْ     iiأُحِبَّهُمُ       بل    حُبُّهم    كَفَّارَةُ    iiالذنبِ (2)
  وروى الآبي في نثر الدر بإسناده عن عبدالرحمن بن المثنى  ، قال : خطب عبد الملك بن مروان  ، فلمَّا انتهى إلى العظة قام إليه رجل من آل صوحان  ، فقال : مهلا مهلا  ، تأمرون فلا تأتمرون  ، وتنهون فلا تنتهون  ، وتعظون ولا تتعظون  ، أفنقتدي بسيرتكم في أنفسكم ؟ أم نطيع أمركم بألسنتكم ؟ فإن قلتم : اقتدوا بسيرتنا فأنَّى ؟
  وكيف ؟ وما الحجَّة ؟ وما النصير من الله باقتداء سيرة الظلمة الفسقة  ، الجورة الخونة  ، الذين اتّخذوا مال الله دولا  ، وعبيده خولا  ، وإن قلتم : اقبلوا نصيحتنا  ، وأطيعوا أمرنا  ، فكيف ينصح لغيره من يغشُّ نفسه ؟ أم كيف تجب الطاعة لمن لم تثبت له عند الله عدالته ؟ وإن قلتم : خذوا الحكمة من حيث وجدتموها  ، واقبلوا العظة ممن سمعتموها  ، فعلامَ ولَّيناكم أمرنا  ، وحكَّمناكم في دمائنا وأموالنا ؟
  أمَا علمتم أن فينا مَنْ هو أنطق منكم باللغات  ، وأفصح بالعظات  ، فتحلحلوا عنها أولا  ، فأطلقوا عقالها  ، وخلّوا سبيلها  ، يبتدر (3) إليها آل الرسول ( صلى الله عليه وآله )   ، الذين

---------------------------
(1) شرح نهج البلاغة  ، ابن أبي الحديد : 15/256  ، العتب الجميل  ، ابن عقيل : 147  ، كتاب الحيوان  ، الجاحظ : 3/194 .
(2) البيان والتبيين  ، الجاحظ 3/359 .
(3) في نهاية الإرب : ينتدب إليها .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 585 _

  شرَّدتموهم في البلاد  ، وفرَّقتموهم في كل واد  ، بل تثبت في أيديكم لانقضاء المدّة  ، وبلوغ المهلة  ، وعظم المحنة  ، إن لكل قائم قدراً لا يعدوه  ، ويوماً لايخطوه  ، وكتاباً بعده يتلوه ( لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا ) (1) ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَىَّ مُنقَلَب يَنقَلِبُونَ ) (2) قال : ثم أُجلس الرجل فطُلب فلم يوجد (3) .
قال ابن الرومي :
أَلاَ  أيُّها  النَّاسُ  طَالَ  iiضريرُكُمْ       بآلِ رَسُولِ اللهِ فَاخْشَوا أو ارْتَجُوا
أكُلَّ     أوان     للنبيِّ    iiمحمَّد       قتيلٌ    زَكِيٌّ   بالدِّمَاءِ   iiمُضَرَّجُ
تبيعون   فيه   الدينَ   شَرَّ  iiأئِمَّة       فللهِ   دينُ   اللهِ   قَدْ  كَادَ  يمرجُ
  إلى أن قال :
بني المصطفى كم يأكلُ الناسُ شِلْوَكم      لِبَلْوَاكُمُ      عمَّا     قليل     iiمفرجُ
أمَا     فِيهِمُ     راع    لحقِّ    نبيِّه       وَلاَ    خَائفٌ    من   رَبِّهِ   iiيتحرَّجُ (4)
  وأنشد موسى بن داود السلمي لأبيه يرثي الحسين صاحب فخ ومَن قُتل معه :
يَا  عَينُ  ابكي بِدَمْع منكِ iiمُنْهَمِرِ       فَقَدْ  رأيتِ  الذي لاقى بنو iiحَسَنِ
صَرْعَى  بِفَخ  تجرُّ الريحُ iiفوقَهُمُ       أذيالَها   وغوادي  الدُّلَّجِ  iiالمُزُنِ
حتَّى عَفَتْ أَعْظُمٌ لو كان شَاهَدَها      مُحَمَّدٌ   ذَبَّ   عنها  ثمَّ  لم  تَهُن
مَاذا   يقولونَ  والماضونَ  قَبْلَهُمُ       عَلَى  الْعَدَاوَةِ  والبغضاءِ والإِحَنِ
مَاذا  يقولون  إِنْ  قال النبيُّ iiلَهُمْ      مَاذَا صنعتم بنا في سَالِفِ iiالزَّمَنِ

---------------------------
(1) سورة الكهف  ، الآية : 49 .
(2) سورة الشعراء  ، الآية : 227 .
(3) نثر الدرّ الآبي : 5/203 / 204  ، نهاية الإرب  ، النويري : 7/249  ، ورواها أيضاً الشيخ المفيد عليه الرحمة في كتابه الأمالي : 280 .
(4) مقاتل الطالبيين  ، الإصفهاني : 646 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 586 _

لاَ النَّاسُ من مُضَر حَامَوا وَلاَ غَضِبُوا       ولا    ربيعةُ   والأحياءُ   من   iiيَمَنِ
يا  ويحَهُمْ  كيف  لم يَرْعَوا لهم iiحُرَماً      وقد رَعَى الفيلُ حقَّ البيتِ ذي iiالرُّكُنِ
وقيل : سُمع على مياه غطفان كلِّها  ، ليلة قتل الحسين صاحب فخ  ، هاتف يهتف ويقول :
أَلاَ  يَا  لَقَومي  لِلسَّوَادِ  iiالمُصَبِّحِ       وَمَقْتَلِ    أولادِ    النبيِّ   iiبِبَلْدَحِ
ليبكِ   حسيناً  كلُّ  كهل  iiوأمرد      من الجنِّ إِنْ لم يَبْكِكَ الإنسُ نُوَّحِ (1)
  وكذلك أصبح محبُّ آل البيت ( عليهم السلام ) آنذاك لا يأمن على نفسه وولده من أعداء أهل البيت ( عليهم السلام ) وأعوانهم الظلمة  ، ولا يسلم أيضاً من عذل أولئك الذين ساروا في ركابهم  ، فقد اضطّر الكثير من محبّي أهل البيت ( عليهم السلام ) أن يخفي حبَّه وولاءَه حتى لا يتعرَّض للأذى والجور  ، فمن عُرف يومئذ بولائه لأهل البيت ( عليهم السلام ) لا ينجيه إلاَّ التستُّر  ، أو التنكِّر  ، أو الهرب إلى حيث لايتبعه الطلب. قال الكميت رحمه الله تعالى :
أَلَمْ  تَرَني  من  حُبِّ  آلِ iiمحمَّد       أروحُ   وأغدوا   خائفاً  iiأترقَّبُ
كأنّيَ   جَانٌ   مُحْدِثٌ   iiوكأنّني      بهم أُتَّقَى من خَشْيَةِ الْعَارِ أَجْرَبُ
على  أيِّ  جُرْم  أم  بأَيَّةِ  iiسيرة         أُعَنَّفُ  في  تَقْرِيظِهِمْ  iiوأُؤَنَّبُ (2)
  وقال أبو القاسم الرسي بن إبراهيم بن طباطبا  ، إسماعيل الديباج  ، عندما هرب من المنصور إلى السند :
لَمْ  يُرْوِهِ  ما  أراق  البغيُ من iiدَمِنَا      في كلِّ أرض فَلَمْ يَقْصُرْ من الطَّلَبِ
وليس  يشفي غليلا في حَشَاه iiسوى      أَنْ  لا  يُرَى  فوقهَا  ابنُ بِنْتِ iiنبي(3)

---------------------------
(1) مقاتل الطالبيين ، أبو الفرج الاصفهاني : 306 / 307 .
(2) أدب الشيعة  ، الدكتور عبد الحسيب حميدة : 259 .
(3) النزاع والتخاصم  ، المقريزي : 51 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 587 _

  ويقول أبو حنيفة أو الطغرائي في جملة أبيات له :
ومتى تَوَلَّى آلَ أحمدَ مُسْلِمٌ       قتلوه  أَوْ وَصَمُوه iiبالإلحادِ
  وقال أبو فراس الحمداني :
مَا نَالَ منهم بنو حَرْب وإن عَظُمَتْ      تلك   الجرائرُ   إلاَّ   دُونَ   iiنيلِكُمُ (1)
  ولله درّ شاعر أهل البيت ( عليهم السلام ) ابن حماد رحمه الله تعالى إذ يقول :
لاَ  تَأمَنِ  الدَّهْرَ  إِنَّ الدَّهْرَ ذو iiغِيَر       وذو   لسانينِ  في  الدنيا  iiوَوَجْهَينِ
أَخْنَى  على  عِتْرَةِ  الهادي  iiفَشَتَّتَهُمْ       فَمَا   ترى  جَامعاً  منهم  iiبشَخْصَيْنِ
كأَنَّما    الدَّهرُ   آلَى   أَنْ   iiيُبَدِّدَهُمْ       كَعَاتِب   ذي   عِنَاد  أَو  كَذِي  iiدَيْنِ
بَعْضٌ    بطيبةَ   مدفونٌ   وبعضُهُمُ       بكربلاءَ      وبعضٌ      iiبالْغَرِيِّينِ
وأرضُ  طُوس وسامَّرا وقد iiضَمِنَتْ       بَغْدَادُ   بَدْرَينِ   حلاَّ  وَسْطَ  iiقبرينِ
يَا  سَادتي  أَلِمَنْ  أنعى  أَسَىً  وَلِمَنْ         أبكي  بجَفْنَينِ  من عَيْنَي iiقريحينِ
أبكي على الحَسَنِ المسمومِ مُضْطَهداً       أم   الحسينِ   لُقَىً  بين  iiالخميسينِ
أبكي  عليه خَضِيبَ الشيبِ من iiدَمِهِ       مُعَفَّرَ    الخَدِّ   محزوزَ   iiالوريدينِ (2)

المجلس الثامن عشر :

   ما مني به آل البيت ( عليهم السلام ) وشيعتهم من الأذى والاضطهاد :
  جاء في بعض زيارات أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) : وأنتم بين صريع في المحراب قد فلق السيف هامته  ، وشهيد فوق الجنازة قد شُكَّت بالسهام أكفانُه  ، وقتيل بالعراء

---------------------------
(1) حياة الإمام الرضا ( عليه السلام )   ، السيد جعفر مرتضى العاملي : 97 / 98 .
(2) الغدير  ، الشيخ الأميني : 4/162 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 588 _

  قد رُفع فوق القناة رأسه  ، ومكبَّل في السجن رُضَّت بالحديد أعضاؤه  ، ومسموم قد قُطِّعت بجرع السمِّ أمعاؤه (1)   ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون  ، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله العليِّ العظيم .
  روى ابن شهر آشوب عليه الرحمة في المناقب  ، عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أنه قال لأهل الكوفة : أما إنه سيظهر عليكم رجل رحب البلعوم  ، مندحق البطن  ، يأكل ما يجد  ، ويطلب ما لا يجد  ، فاقتلوه  ، ولن تقتلوه  ، ألا وإنّه سيأمركم بسبيّ والبراءة مني  ، فأمَّا السبُّ فسبّوني  ، وأمَّا البراءة منّي فلا تتبرَّؤوا منّي  ، فإنّي ولدت على الفطرة  ، وسبقت إلى الإسلام والهجرة (2) .
  وروي أن أبا جعفر محمد بن علي الباقر ( عليه السلام ) قال لبعض أصحابه : يا فلان! ما لقينا من ظلم قريش إيانا  ، وتظاهرهم علينا  ، وما لقي شيعتنا ومحبّونا من الناس  ، إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قُبض وقد أخبر أنّا أولى الناس بالناس  ، فتمالأت علينا قريش حتى أخرجت الأمر عن معدنه  ، واحتجَّت على الأنصار بحقّنا وحجّتنا  ، ثمَّ تداولتها قريش واحد بعد واحد حتى رجعت إلينا  ، فنُكثت بيعتُنا  ، ونُصبت الحرب لنا .
  ولم يزل صاحب الأمر في صعود كؤود حتى قُتل  ، فبويع الحسن ابنه وعُوهد  ، ثمَّ غُدر به  ، وأُسلم  ، ووثب عليه أهل العراق حتى طُعن بخنجر في جنبه  ، ونُهبت عسكره  ، وعُولجت خلاخيل أمهات أولاده  ، فوادع معاوية  ، وحقن دمه ودماء أهل بيته  ، وهم قليل حق قليل  ، ثمَّ بايع الحسين ( عليه السلام ) من أهل العراق عشرون ألفاً  ، ثمَّ غدروا به  ، وخرجوا عليه وبيعته في أعناقهم  ، وقتلوه .
  ثمَّ لم نزل ـ أهل البيت ـ نُستذلّ ونُستضام  ، ونُقصى ونُمتهن  ، ونُحرم ونُقتل  ، ونخاف ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا  ، ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم

---------------------------
(1) المزار  ، المشهدي : 298 .
(2) مناقب آل أبي طالب  ، ابن شهر آشوب : 2/107 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 589 _

  وجحودهم موضعاً يتقرَّبون به إلى أوليائهم  ، وقضاة السوء  ، وعمال السوء في كل بلدة  ، فحدَّثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة  ، ورووا عنَّا ما لم نقله وما لم نفعله  ، ليُبغَّضونا إلى الناس  ، وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن ( عليه السلام )   ، فقُتلت شيعتُنا بكل بلدة  ، وقُطعت الأيدي والأرجل على الظنّة  ، وكان من يُذكر بحبِّنا والانقطاع إلينا سُجن  ، أو نُهب ماله  ، أو هُدمت داره .
  ثمَّ لم يزل البلاء يشتدُّ ويزداد إلى زمان عبيدالله بن زياد قاتل الحسين ( عليه السلام )   ، ثمَّ جاء الحجاج فقتلهم كلَّ قتلة  ، وأخذهم بكل ظنّة وتهمة  ، حتى إن الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحبُّ إليه من أن يقال شيعة علي ( عليه السلام )   ، وحتى صار الرجل الذي يُذكر بالخير ـ ولعلّه يكون ورعاً صدوقاً ـ يحدِّث بأحاديث عظيمة عجيبة  ، من تفضيل بعض من قد سلف من الولاة  ، ولم يخلق الله تعالى شيئاً منها  ، ولا كانت ولا وقعت  ، وهو يحسب أنها حقٌّ لكثرة من قد رواها ممن لم يعرف بكذب  ، ولا بقلّة ورع (1) .
  وروى أبو الحسن علي بن محمد بن أبي سيف المدايني في كتاب ( الأحداث )   ، قال : كتب معاوية نسخة واحدة إلى عُمّاله بعد عام الجماعة : أن برئت الذمّة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته  ، فقامت الخطباء في كلّ كورة وعلى كل منبر  ، يلعنون علياً  ، ويبرؤون منه  ، ويقعون فيه وفي أهل بيته  ، وكان أشدّ الناس بلاءً حينئذ أهل الكوفة; لكثرة من بها من شيعة علي ( عليه السلام )   ، فاستعمل عليهم زياد ابن سمية  ، وضمَّ إليه البصرة  ، فكان يتتبَّع الشيعة وهو بهم عارف لأنه كان منهم أيام علي ( عليه السلام )   ، فقتلهم تحت كل حجر ومدر  ، وأخافهم  ، وقطع الأيدي والأرجل  ، وسمل العيون  ، وصلبهم على جذوع النخل  ، وطردهم وشرَّدهم عن العراق  ، فلم يبق بها معروف منهم .

---------------------------
(1) شرح نهج البلاغة  ، ابن أبي الحديد : 11/43  ، كتاب سليم بن قيس :  186 ـ  189 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 590 _

  وكتب معاوية إلى عمَّاله في جميع الآفاق : ألا يجيزوا لأحد من شعية علي وأهل بيته ( عليهم السلام ) شهادة  ، وكتب إليهم : أن انظروا مَنْ قبلَكم من شيعة عثمان ومحبّيه وأهل ولايته والذين يروون فضائله ومناقبه  ، فأدنوا مجالسهم  ، وقرِّبوهم  ، وأكرموهم  ، واكتبوا لي بكل ما يروي كل رجل منهم  ، واسمه واسم ابيه وعشيرته .
  ففعلوا ذلك حتى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه ، لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلاة والكساء والحباء والقطائع  ، ويفيضه في العرب منهم والموالي  ، فكثُر ذلك في كل مصر  ، وتنافسوا في المنازل والدنيا  ، فليس يجيء أحد مردود من الناس عاملا من عمَّال معاوية فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلاَّ كتب اسمه  ، وقرَّبه وشفَّعه  ، فلبثوا بذلك حيناً .
  ثمَّ كتب إلى عماله إن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر  ، وفي كل وجه وناحية  ، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين  ، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاَّ وتأتوني بمناقض له في الصحابة  ، فإن هذا أحبُّ إليَّ  ، وأقرُّ لعيني  ، وأدحض لحجّة أبي تراب وشيعته  ، وأشدُّ عليهم من مناقب عثمان وفضله .
فقرئت كتبه على الناس  ، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها  ، وجدَّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر  ، وأُلقي إلى معلِّمي الكتاتيب فعلَّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع  ، حتى رووه وتعلَّموه كما يتعلَّمون القرآن  ، وحتى علَّموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم  ، فلبثوا بذلك ما شاء الله.
  ثم كتب إلى عُمَّاله نسخة واحدة إلى جميع البلدان : انظروا من قامت عليه البيِّنة أنه يحبُّ علياً وأهل بيته ( عليهم السلام ) فامحوه من الديوان  ، وأسقطوا عطاءه ورزقه  ، وشفَّع ذلك بنسخة أخرى : من اتّهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكِّلوا به  ، واهدموا

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 591 _

  داره  ، فلم يكن البلاء أشدّ ولا أكثر منه بالعراق ولا سيِّما بالكوفة  ، حتى إن الرجل من شيعة علي ( عليه السلام ) ليأتيه من يثق به فيدخل بيته  ، فيُلقي إليه سرَّه  ، ويخاف من خادمه ومملوكه  ، ولا يحدِّثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمنَّ عليه  ، فظهر حديث كثير موضوع  ، وبهتان منتشر  ، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة  ، وكان أعظم الناس في ذلك بليَّة القرَّاء المراؤون  ، والمستضعفون الذين يُظهرون الخشوع والنسك  ، فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم  ، ويقرِّبوا مجالسهم  ، ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل  ، حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديَّانين الذين لا يستحلّون الكذب والبهتان  ، فقبلوها ورووها وهم يظنون أنَّها حقّ  ، ولو علموا أنها باطلة لما رووها ولا تدينَّوا بها .
  فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن علي ( عليه السلام )   ، فازداد البلاء والفتنة  ، فلم يبق أحد من هذا القبيل إلاَّ وهو خائف على دمه  ، أو طريد في الأرض.
  ثمَّ تفاقم الأمر بعد قتل الحسين ( عليه السلام )   ، وولي عبدالملك بن مروان  ، فاشتدَّ على الشيعة  ، وولَّى عليهم الحجاج بن يوسف  ، فتقرَّب إليه أهل النسك والصلاح والدين ببغض علي وموالاة أعدائه  ، وموالاة من يدعي قوم من الناس أنهم أيضاً أعداؤه  ، فأكثروا في الرواية في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم  ، وأكثروا من الغضّ من علي ( عليه السلام ) وعيبه والطعن فيه والشنآن له  ، حتى إن إنساناً وقف للحجاج ـ ويقال إنه جدُّ الأصمعي عبد الملك بن قريب ـ فصاح به : أيُّها الأمير! إن أهلي عقّوني فسمَّوني علياً  ، وإني فقير بائس  ، وأنا إلى صلة الأمير محتاج  ، فتضاحك له الحجاج وقال : للطف ما توسَّلت به  ، وقد ولَّيتك موضع كذا .
  وقد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه ـ وهو من أكابر المحدِّثين وأعلامهم ـ في تأريخه ما يناسب هذا الخبر  ، وقال : إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتُعلت في أيام بني أميّة  ، تقرباً إليهم بما يظنّون أنهم يُرغمون به أنوف بني

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 592 _

  هاشم (1) .
  وعن كتاب المنتظم : إن زياداً لمَّا حصبه أهل الكوفة وهو يخطب على المنبر قطع أيدي ثمانين منهم  ، وهمَّ أن يخرب دورهم  ، ويجمِّر نخلهم  ، فجمعهم حتى ملأ بهم المسجد والرحبة ليعرضهم على البراءة من علي ( عليه السلام )   ، وعلم أنهم سيمتنعون  ، فيحتجّ بذلك على استئصالهم وإخراب بلدهم .
  وفي رواية عن عبدالله بن السائب وكثير بن الصلت قالا : جمع زياد بن أبيه أشراف الكوفة في مسجد الرحبة ليحملهم على سبِّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) والبراءة منه  ، فمن أبى ذلك عرضه على السيف (2) والناس من ذلك في كرب عظيم  ، فأغفيت فإذا أنا بشخص طويل العنق  ، أهدل أهدب  ، قد سدَّ ما بين السماء والأرض  ، فقلت له : من أنت ؟
  قال : أنا النقاد ذو الرقبة  ، طاعون  ، بُعثت إلى زياد  ، فانتبهت فزعاً  ، فسمعنا الواعية عليه  ، وإذا غلام لزياد قد خرج إلى الناس فقال : انصرفوا  ، فإن الأمير عنكم مشغول  ، وسمعنا الصياح من داخل القصر  ، فما برحنا أن خرج الإذن فقال : انصرفوا فإن الأمير قد شُغل  ، وإذا الفالج قد ضربه  ، فقلت في ذلك وأنشأت :
قَدْ  جَشَّم  الناسَ أمراً ضاق iiذَرْعُهُمُ      بحَمْلِهِ   حين   ناداهُم  إلى  الرحبه
يدعو على نَاصِرِ الإسلامِ حين يرى       لَهُ  عَلَى  المشركين  الطولَ والغَلَبه
ما   كان   منتهياً   عمَّا   أَرَادَ  iiبِهِ      (3) حتَّى  تَنَاوَلَهُ  النقَّادُ  ذو iiالرَّقَبَه
فَأَسْقَطَ    الشِّقَّ   منه   iiضَرْبةٌعجباً      كَمَا  تَنَاوَلَ  ظُلْمَاً  صَاحِبَ  iiالرحبه(4)

---------------------------
(1) شرح نهج البلاغة  ، ابن أبي الحديد : 11 /44 / 46 .
(2) مروج الذهب  ، المسعودي : 2/69 .
(3) في كنز الفوائد : فأسقط الشق منه حربة ثبتت .
(4) راجع : مناقب آل أبي طالب  ، ابن شهر آشوب : 2/169  ، الأمالي  ، الشيخ الطوسي : 233 ح 5  ، المحاسن والمساوي  ، البيهقي : 1/39  ، الفائق في غريب الحديث  ، جار الله الزمخشري : 3/414  ، شرح نهج البلاغة  ، ابن أبي الحديد : 3/199  ، البداية والنهاية  ، ابن كثير : 8/68 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 593 _


المجلس التاسع عشر :

  بعض من قتل في محبة أهل البيت ( عليهم السلام ) :
  مما روي عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من كلام له ( عليه السلام ) لأصحابه ـ كما في نهج البلاغة ـ قال ( عليه السلام ) : أما إنّه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم  ، مندحق البطن  ، يأكل ما يجد  ، ويطلب ما لا يجد  ، فاقتلوه  ، ولن تقتلوه  ، ألا وإنّه سيأمركم بسبّي والبراءة منّي  ، فأمّا السبُّ فسبّوني  ، فإنه لي زكاة ولكم نجاة  ، وأمَّا البراءة فلا تتبرَّأوا منّي  ، فإنّي ولدت على الفطرة  ، وسبقت إلى الإيمان والهجرة (1) .
  فممن قُتل في محبّة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وفي سبيله ميثم التمَّار عليه الرحمة  ، روي أنَّه قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لميثم التمّار ( رضي الله عنه ) ذات يوم : إنَّك تؤخذ بعدي فتُصلب  ، وتُطعن بحربة  ، فإذا كان اليوم الثالث ابتدر منخراك وفمك دماً  ، فتُخضب لحيتُك  ، فانتظر ذلك الخضاب  ، وتُصلب على باب عمرو بن حريث عاشر عشرة  ، أنت أقصرهم خشبة  ، وأقربهم من المطهرة  ، وامضِ حتى أريك النخلة التي تُصلب على جذعها  ، فأراه إيّاها  ، وكان ميثم يأتيها فيصلّي عندها ويقول : بوركتِ من نخلة  ، لكِ خلقتُ ولي غُذِّيتِ  ، ولم يزل يتعاهدها حتى قطعت  ، وحتى عرف الموضع الذي يُصلب عليه بالكوفة .
  قال : وكان يلقى عمرو بن حريث فيقول : إني مجاورك فأحسن جواري  ، فيقول له عمرو : أتريد أن تشتري دار ابن مسعود أو دار ابن حكيم ؟ وهو لا يعلم ما يريد. وروي عن أبي الحسن الرضا ( عليه السلام )   ، عن أبيه  ، عن آبائه صلوات الله عليهم  ،

---------------------------
(1) نهج البلاغة  ، خطب الإمام علي ( عليه السلام ) : 1/105 ح 57 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 594 _

  قال : أتى ميثم التمّار دار أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقيل له : إنه نائم  ، فنادى بأعلى صوته : انتبه أيُّها النائم! فوالله لتخضبن لحيتك من رأسك  ، فانتبه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال : أدخلوا ميثماً  ، فقال له : أيُّها النائم! والله لتخضبن لحيتك من رأسك  ، فقال : صدقت  ، وأنت والله لتقطعن يداك ورجلاك ولسانك  ، ولتقطعن النخلة التي بالكناسة فتُشقّ أربع قطع  ، فتُصلب أنت على ربعها  ، وحجر بن عدي على ربعها  ، ومحمد بن أكثم على ربعها  ، وخالد بن مسعود على ربعها .
  قال ميثم : فشككت في نفسي وقلت : إن علياً ليخبرنا بالغيب  ، فقلت له : أو كائن ذاك يا أمير المؤمنين ؟ فقال : إي وربِّ الكعبة  ، كذا عهده إليَّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
  قال : فقلت : لم يُفعل ذلك بي يا أمير المؤمنين ؟ فقال : ليأخذنك العتلُّ الزنيم  ، ابن الأمة الفاجرة  ، عبيدالله بن زياد .
  قال : وكان ( عليه السلام ) يخرج إلى الجبّانة وأنا معه  ، فيمرّ بالنخلة فيقول لي : يا ميثم ! إن لك ولها شأناً من الشأن .
  قال : فلمَّا ولي عبيدالله بن زياد الكوفة ودخلها تعلَّق عَلَمُه بالنخلة التي بالكناسة فتخرَّق  ، فتطيَّر من ذلك  ، فأمر بقطعها  ، فاشتراها رجل من النَّجارين فشقَّها أربع قطع .
  قال ميثم : فقلت لصالح ابني : فخذ مسماراً من حديد فانقش عليه اسمي واسم أبي  ، ودقَّه في بعض تلك الأجذاع  ، قال : فلمَّا مضى بعد ذلك أيام أتاني قوم من أهل السوق فقالوا : يا ميثم! انهض معنا إلى الأمير نشكو إليه عامل السوق  ، ونسأله أن يعزله عنّا ويولي علينا غيره .
  قال : وكنت خطيب القوم  ، فنصت لي وأعجبه منطقي  ، فقال له عمرو بن حريث : أصلح الله الأمير! تعرف هذا المتكلِّم ؟ قال : من هو ؟ قال : ميثم التمار  ، الكذَّاب ... قال : فاستوى جالساً  ، فقال لي : ما تقول ؟ فقلت : كذب أصلح الله

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 595 _

  الأمير  ، بل أنا الصادق  ، مولى الصادق علي بن أبي طالب أمير المؤمنين حقاً  ، فقال لي : لتبرأنَّ من عليٍّ  ، ولتذكرنَّ مساويه  ، وتتولّى عثمان  ، وتذكر محاسنه  ، أو لأقطعنَّ يديك ورجليك ولأصلبنَّك  ، فبكيت  ، فقال لي : بكيت من القول دون الفعل  ، فقلت : والله ما بكيت من القول ولا من الفعل  ، ولكن بكيت من شكٍّ كان دخلني يوم خبَّرني سيدي ومولاي  ، فقال لي : وما قال لك ؟ قال : فقلت : أتيت الباب فقيل لي : إنه نائم  ، فناديت : انتبه أيها النائم  ، فوالله لتخضبن لحيتك من رأسك  ، فقال : صدقت  ، وأنت والله لتقطعن يداك ورجلاك ولسانك ولتصلبن  ، فقلت : ومن يفعل ذلك بي يا أمير المؤمنين ؟ فقال : يأخذك العتلّ الزنيم  ، ابن الأمة الفاجرة  ، عبيدالله بن زياد .
  قال : فامتلأ غيظاً  ، ثمَّ قال لي : والله لأُقطعنَّ يديك ورجليك  ، ولأدعنَّ لسانك حتى أكذبك وأكذب مولاك  ، فأمر به فقطعت يداه ورجلاه  ، ثمَّ أُخرج فأمر به أن يُصلب  ، فنادى بأعلى صوته : أيُّها الناس! من أراد أن يسمع الحديث المكنون عن علي بن أبي طالب ( عليه السلام )... قال : فاجتمع الناس وأقبل يحدِّثهم بالعجائب .
  قال : وخرج عمرو بن حريث وهو يريد منزله فقال : ما هذه الجماعة ؟ قالوا : ميثم التمّار يحدِّث الناس عن علي بن أي طالب  ، قال : فانصرف مسرعاً فقال : أصلح الله الأمير! بادر فابعث إلى هذا من يقطع لسانه  ، فإني لست آمن أن يغير قلوب أهل الكوفة فيخرجوا عليك  ، قال : فالتفت إلى حرسيٍّ فوق رأسه فقال : اذهب فاقطع لسانه  ، قال  ، فأتاه الحرسي فقال له : يا ميثم ! قال : ما تشاء ؟ قال : أخرج لسانك فقد أمرني الأمير بقطعه  ، قال ميثم : ألا زعم ابن الأمة الفاجرة أنه يكذبني ويكذب مولاي  ، هاك لساني  ، قال : فقطع لسانه  ، وتشحَّط ساعة في دمه ثمَّ مات  ، وأمر به فصُلب  ، قال صالح : فمضيت بعد ذلك بأيام  ، فإذا هو قد صُلب

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 596 _

  على الربع الذي كنت دققت فيه المسمار (1) .
  ومنهم رشيد الهجري رضوان الله تعالى عليه  ، روي بالإسناد عن فضيل بن الزبير  ، قال : خرج أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى بستان البرني ومعه أصحابه  ، فجلس تحت نخلة  ، ثمَّ أمر بنخلة فلقطت فأنزل منها رطب  ، فوضع بين أيديهم  ، قالوا : فقال رشيد الهجري : يا أمير المؤمنين  ، ما أطيب هذا الرطب! فقال : يا رشيد  ، أما إنك ستُصلب على جذعها  ، قال رشيد : فكنت اختلف إليها طرفي النهار أسقيها  ، ومضى أمير المؤمنين ( عليه السلام )   ، قال : فجئتها يوماً وقد قُطع سعفُها  ، قلت : اقترب أجلي  ، ثمَّ جئت يوماً فجاء العريف فقال : أجب الأمير  ، فأتيته  ، فلمَّا دخلت القصر إذا الخشب ملقى  ، فإذا فيه الزرنوق  ، فجئت حتى ضربت الزرنوق برجلي  ، ثمَّ قلت : لك غذِّيتُ ولي أنبتَّ  ، ثمَّ أُدخلت على عبيد الله بن زياد فقال : هات من كذب صاحبك  ، فقلت : والله ما أنا بكذَّاب ولا هو  ، ولقد أخبرني أنك تقطع يدي ورجلي ولساني ...
  وعن قنوا بنت رشيد الهجري  ، قالت : سمعت من أبي يقول : حدَّثني أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال : يا رشيد! كيف صبرك إذا أرسل إليك دعيُّ بني أمية فقطع يديك ورجليك ولسانك ؟ فقلت : يا أمير المؤمنين! آخر ذلك الجنة ؟ قال : بلى يا رشيد  ، أنت معي في الدنيا والآخرة  ، قالت : فوالله ما ذهبت الأيام حتى أرسل إليه الدعيُّ عبيدالله بن زياد  ، فدعاه إلى البراءة من أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فأبى أن يتبرَّأ منه  ، فقال له الدعيُّ : فبأيِّ ميتة قال لك تموت ؟ قال : أخبرني خليلي أنك تدعوني إلى البراءة منه فلا أتبرَّأ منه  ، فتقدِّمني فتقطع يدي ورجلي ولساني  ، فقال : والله لأُكذبن قوله فيك  ، قدِّموه فاقطعوا يديه ورجليه  ، واتركوا لسانه  ، فحملت طوائفه لمَّا قطعت يداه ورجلاه  ، فقلت له : يا أبه! كيف تجد ألماً لما أصابك ؟ فقال : لا يا بنية  ،

---------------------------
(1) اختيار معرفة الرجال  ، الشيخ الطوسي : 1/296 / 299 ح 140 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 597 _

  إلاَّ كالزحام بين الناس  ، فلمَّا حملناه وأخرجناه من القصر اجتمع الناس حوله  ، فقال : ائتوني بصحيفة ودواة أكتب لكم ما يكون إلى أن تقوم الساعة  ، فإن للقوم بقيَّة لم يأخذوها منّي بعد  ، فأتوه بصحيفة فكتب الكتاب : بسم الله الرحمن الرحيم  ، وذهب لعين فأخبره أنه يكتب للناس ما يكون إلى أن تقوم الساعة  ، فأرسل إليه الحجَّام حتى قطع لسانه  ، فمات في ليلته تلك .
  وكان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يسمّيه رشيد البلايا  ، وكان قد ألقى إليه علم البلايا والمنايا  ، فكان في حياته إذا لقي الرجل قال له : يا فلان! تموت بميتة كذا وكذا  ، وتقتل أنت ـ يا فلان ـ بقتلة كذا وكذا  ، فيكون كما يقول الرشيد  ، وكان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يقول له : أنت رشيد البلايا  ، إنك تُقتل بهذه القتلة  ، فكان كما قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه (1) .
  ومنهم عمرو بن الحمق الخزاعي رضوان الله تعالى عليه  ، جاء في البحار أن عمرو بن الحمق كان صاحب رسول الله ( صلى الله عليه وآله )   ، ثمَّ صاحب أمير المؤمنين ( عليه السلام )   ، وفي كلمات الأئمة أنه كان عبداً صالحاً  ، أبلته العبادة فأنحلت جسمه وصفَّرت لونه  ، ولمَّا قُتل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) طلبه معاوية ليقتله  ، فكان لا يأوي الكوفة  ، فبعث له معاوية الأمان والمواثيق والعهود أن لا يتعرَّض له بسوء  ، فدخلها فقبض عليه وقتله .
  وعن شمير بن سدير الأزدي قال : قال علي ( عليه السلام ) لعمرو بن الحمق الخزاعي : يا عمرو! إنك لمقتول بعدي  ، وإن رأسك لمنقول  ، وهو أول رأس يُنقل في الإسلام  ، وويل لقاتلك  ، أما إنك لا تنزل بقوم إلاَّ أسلموك برمَّتك إلاَّ هذا الحيّ من بني عمرو بن عامر من الأزد  ، فإنهم لن يسلموك  ، ولن يخذلوك  ، قال : فوالله ما مضت الأيام حتى تنقَّل عمرو بن الحمق في خلافة معاوية في الأحياء خائفاً مذعوراً  ، حتى نزل

---------------------------
(1) الاختصاص  ، الشيخ المفيد : 77 / 78 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 598 _

  في قومه من بني خزاعة فأسلموه  ، فقُتل وحُمل رأسه من العراق إلى معاوية (1) .
  وقال ابن كثير : وورد في حديث أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) دعا له أن يمتِّعه الله بشبابه  ، فبقي ثمانين سنة لا يُرى في لحيته شعرة بيضاء  ، وهو أحد الأربعة الذين دخلوا على عثمان  ، ثمَّ صار بعد ذلك من شيعة علي ( عليه السلام )   ، فشهد معه الجمل وصفين  ، وكان من جملة من أعان حجر بن عدي  ، فتطلَّبه زياد فهرب إلى الموصل (2) .
  وروى اليعقوبي في تأريخه أن الصحابي الجليل عمرو بن الحمق الخزاعي كان من أصحاب حجر بن عدي الذين لا يسكتون على سبِّ الإمام علي ( عليه السلام ) على منبر الكوفة  ، فأمر معاوية عامله زياد بن أبيه أن يقبض عليهم  ، ويشخصهم إليه في دمشق  ، فهرب عمرو بن الحمق وعدّةٌ معه إلى الموصل  ، وبلغ عبد الرحمن بن أم الحكم ـ وكان عامل معاوية على الموصل ـ مكان عمرو بن الحمق الخزاعي  ، ورفاعة بن شدّاد  ، فوجَّه في طلبهما  ، فخرجا هاربين  ، وعمرو بن الحمق شديد العلّة  ، فلمَّا كان في بعض الطريق لدغت عمراً حيَّةٌ  ، فقال : الله أكبر! قال لي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا عمرو! ليشترك في قتلك الجنّ والإنس  ، ثمَّ قال لرفاعة : امض لشأنك  ، فإني مأخوذ ومقتول  ، ولحقته رسل عبد الرحمن بن أم الحكم فأخذوه  ، وضُربت عنقه  ، ونُصب رأسه على رمح  ، وطيف به  ، فكان أول رأس طيف به الإسلام  ، وقد كان معاوية حبس امرأته بدمشق  ، فلمَّا أتى رأسه بعث به  ، فوضع في حجرها  ، فقالت للرسول : أبلغ معاوية ما أقول : طالبه الله بدمه  ، وعجَّل له الويل من نقمه  ، فقد أتى أمراً فريّاً  ، وقتل برّاً نقياً  ، وكان أول من حبس النساء بجرائر الرجال (3) .
  وقال ابن عساكر : كان تحت عمرو بن الحمق آمنة بنت الشريد  ، فحبسها

---------------------------
(1) الأنوار العلوية  ، الشيخ جعفر النقدي : 467 .
(2) البداية والنهاية  ، ابن كثير : 8/52 .
(3) تأريخ اليعقوبي : 2/230 ـ 232 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 599 _

  معاوية في سجن دمشق زماناً  ، حتى وجّه إليها برأس عمرو بن الحمق  ، فألقي في حجرها  ، فارتاعت لذلك  ، ثمَّ وضعته في حجرها ووضعت كفّها على جبينه  ، ثمَّ لثمت فاه  ، ثمّ قالت : غيَّبتموه عني طويلا  ، ثمَّ أهديتموه إليَّ قتيلا  ، فأهلا بها من هدية  ، غير قالية ومقليَّة .
  وذكر أبو الحسن علي بن محمد الكاتب المعروف بالشابشتي أن عمرو بن الحمق لمَّا قُتل حُمل رأسه إلى معاوية  ، وهو أول رأس حُمل في الإسلام من بلد إلى بلد  ، وكانت آمنة بنت الشريد زوجته بدمشق  ، فلمَّا حُمل رأس عمرو إليه أمر أن يُلقى في حجرها  ، وأن يُسمع منها ما تقول  ، فلمَّا رأته ارتاعت له  ، وأكبَّت عليه تقبِّله  ، وقالت : واضعيتاه في دار هوان  ، بَقّيتموه طويلا  ، وأهديتموه إليَّ قتيلا  ، فأهلا وسهلا  ، كنت له غير قالية  ، وأنا له غير ناسية  ، قل لمعاوية : أيتم الله ولدك  ، وأوحش منك أهلك  ، ولا غفر لك ذنبك (1) .
  وقال النسَّابة أبو جعفر محمد بن حبيب في كتاب المحبر : ونصب معاوية رأس عمرو بن الحمق الخزاعي ـ وكان شيعياً ـ ودير به في السوق (2) .
  وقال ابن كثير : فطيف به في الشام وغيرها  ، فكان أول رأس طيف به (3) ولكن ـ أيها المؤمنون ـ لا مصيبةَ كمصيبةِ ريحانةِ الرسول ( صلى الله عليه وآله ) الحسين ( عليه السلام ) الذي طيف برأسه البلدان  ، على رمح طويل  ، ينظر إليه نساؤه وبناته  ، وشيبته مخضَّبة بدمه  ، وبقي جسمه على بوغاء كربلاء بلا دفن ثلاثة أيام  ، ولله درّ ابن حماد عليه الرحمة إذ يقول :
يا غريباً لأجلِهِ صرتُ أبكي      أَسَفاً   بَعْدَه   على  iiالغُرَبَاءِ

---------------------------
(1) تاريخ مدينة دمشق  ، ابن عساكر : 69/40  ، أسد الغابة  ، ابن الأثير : 4/101 .
(2) الغدير  ، الشيخ الأميني : 11/44 .
(3) البداية والنهاية  ، ابن كثير : 8/52 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 600 _

يا خضيبَ المَشِيبِ خَضَّبتُ خَدّي      بدموع       ممزوجة      iiبدِمَاءِ
ليتني    بالطفوفِ   كنتُ   iiفِدَاءً      لَكَ   مولاي   قلَّ   منّي   iiفِدَائِي
بأبي   جِسْمَكَ  الذي  وَطَأَتْهُ  iiال      خيلُ   مِنْ   بَعْدِ   لِيْنِ   iiالوِطَاءِ
بأبي  رَأْسَك  المُسَيَّرَ  في iiالرُّمْحِ      كبدر     يَلُوحُ    في    iiالظَّلْمَاءِ
بأبي   أُخْتَكَ   التي  هُتِكَتْ  iiبَعْدَ       كَ   من   بعد   سِتْرِها  iiوَالخِبَاءِ
تَسْتُرُ  الْوَجْهَ  وهي  تَعْثُرُ  في فا       ضِلِ    أَذْيَالِهَا    لِفَرْطِ   iiالحَيَاءِ (1)
المجلس العشرون :

  بعض من قتل في محبة أهل البيت ( عليهم السلام ) أيضاً ومالقيه الشيعة من ظلم ولاة الجور:
  يا سادتي يا آل رسول الله  ، إني بكم أتقرَّب إلى الله جلَّ وعلا  ، بالخلاف على الذين غدروا بكم  ، ونكثوا بيعتَكم  ، وجحدوا ولايتَكم  ، وأنكروا منزلتَكم  ، وخلعوا ربقةَ طاعتِكم  ، وهجروا أسبابَ مودّتِكم  ، وتقرَّبوا إلى فراعنتِهم بالبراءة منكم  ، والإعراض عنكم  ، ومنعوكم من إقامةِ الحدود  ، واستئصالِ الجحود  ، وشعبِ الصدع  ، ولمِّ الشعث  ، وسدِّ الخلل  ، وتثقيفِ الأود  ، وإمضاءِ الأحكام  ، وتهذيبِ الإسلام  ، وقمع الآثام  ، وأرهجوا عليكم نقعَ الحروبِ والفتن  ، وأنحوا عليكم سيوفَ الأحقاد  ، هتكوا منكم الستورَ  ، وابتاعوا بخمسكم الخمورَ  ، وصرفوا صدقاتِ المساكين إلى المضحكين والساخرين (2) .
  وممن قُتل في محبَّة أهل البيت ( عليهم السلام ) حجر بن عدي  ، الذي هو أحد أعلام

---------------------------
(1) المنتخب الطريحي : 192 .
(2) المزار  ، محمد بن المشهدي : 295 / 296 .