تأليف
الامام محمد باقر الصدر


كلمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم

   قبل ثلاث سنوات قمنا بمحاولة متواضعة : لدراسة أعمق الأسس التي تقوم عليها الماركسية والإسلام ، وكان كتاب فلسفتنا تعبيراً عن هذه المحاولة ، ونقطة انطلاق لتفكير متسلسل يحاول أن يدرس الإسلام من القاعدة الى القمة.
  وهكذا صدر « فلسفتنا » ، وتلاه بعد سنتين تقريباً « اقتصادنا » ، ولا يزال الشقيقان الفكريان بانتظار أشقاء آخرين ، لتكتمل المجموعة الفكرية التي نأمل تقديمها الى المسلمين.
  وقد لاحظنا منذ البدء ـ بالرغم من الإقبال المنقطع النظير الذي قوبلت به هذه المجموعة ، حتى نفد كتاب فلسفتنا خلال عدة أسابيع تقريباً ـ أقول لاحظنا مدى التفاوت بين الفكر الإسلامي في مستواه العالي ، وواقع الفكر الذي نعيشه في بلادنا بوجه عام ، حتى صعب على كثير مواكبة ذلك المستوى العالي إلا بشيء كثير من الجهد، فكان لا بد من حلقات

المدرسة الاسلامية   ـ 6 ـ

   متوسطة يتدرج خلالها القارئ الى المستوى الأعلى ، ويستعين بها على تفهم ذلك المستوى.
   وهنا نشأت فكرة : « المدرسة الإسلامية » أي محاولة إعطاء الفكر الإسلامي في مستوى مدرسي ، ضمن حلقات متسلسلة تسير في اتجاه موازي للسلسلة الرئيسية : « فلسفتنا ، واقتصادنا » ، وتشترك معها في حمل الرسالة الفكرية للإسلام وتتفق وإياها في الطريقة والأهداف الرئيسية ، وإن اختلفت في الدرجة والمستوى .
   وحددنا خلال التفكير في إصدار « المدرسة الإسلامية » خصائص الفكر المدرسي ، التي يتكون منها الطابع العام والمزاج الفكري للمدرسة الإسلامية التي نحاول إصدارها.
   وتتلخص هذه الخصائص فيما يلي :
  1 ـ ان الغرض المباشر من « المدرسة الإسلامية » الاقناع أكثر من الإبداع ، ولهذا فهي قد تستمد موادها الفكرية من « فلسفتنا » و « اقتصادنا » وأشقائهما الفكريين ، وتعرضها في مستواها المدرسي الخاص ، ولا تلتزم في أفكارها أن تكون معروضة لأول مرة .
  2 ـ لا تتقيد « المدرسة الإسلامية » بالصيغة البرهانية للفكرة دائماً ، فالطابع البرهاني فيها أقل بروزاً منه في أفكار « فلسفتنا » وأشقائها ، وفقاً لدرجة السهولة والتبسيط المتوخاة في الحلقات المدرسية.

المدرسة الاسلامية   ـ 7 ـ

  3 ـ تعالج « المدرسة الإسلامية » نطاقاً فكرياً أوسع من المجال الفكري الذي تباشره « فلسفتنا » وأشقاؤها ، لأنها لا تقتصر على الجوانب الرئيسية في الهيكل الإسلامي العام ، وإنما تتناول أيضاً النواحي الجانبية من التفكير الإسلامي ، وتعالج شتى الموضوعات الفلسفية أو الاجتماعية أو التاريخية أو القرآنية التي تؤثر في تنمية الوعي الإسلامي وبناء وتكميل الشخصية الإسلامية ، من الناحية الفكرية والروحية .
   وقد قدر الله تعالى أن تلتقي فكرة « المدرسة الإسلامية » بفكرة أخرى عن تمهيد فلسفتنا ، فتمتزج الفكرتان وتخرجان الى النور في هذا الكتاب.
   وكانت الفكرة الأخرى من وحي الإلحاح المتزايد من قرائنا الأعزاء على إعادة طبع كتاب فلسفتنا ، وكنت استميحهم فرصة لإنجاز الحلقة الثالثة : « اقتصادنا » ، والقيام بمحاولة توسعة وتبسيط البحوث التي عالجناها في « فلسفتنا » قبل أن نستأنف طبعه للمرة الثانية ، الأمر الذي يتطلب فراغاً لا أملكه الآن.
   وعلى هذا الأساس أخذت رغبة القراء الأعزاء تتجه نحو تمهيد كتاب « فلسفتنا » ، بالذات ، لأن إعادة طبعه لا تكلف الجهد الذي يتطلبه استئناف طبع الكتاب كله ، وكانت الطلبات التي ترد لا تدع مجالاً للشك في ضرورة استجابة الطلب.

المدرسة الاسلامية   ـ 8 ـ

   وهنا التقت الفكرتان ، فلماذا لا يكون تمهيد كتاب فلسفتنا هو الحلقة الأولى من سلسلة المدرسة الإسلامية ؟ ، وهكذا كان .
  ولكنا لم نكتف بطبع التمهيد فحسب ، بل ادخلنا عليه بعض التعديلات الضرورية ، وأعطينا بعض مفاهيمه شرحاً أوسع ، كمفهومه عن غريزة حب الذات ، وأضفنا اليه فصلين مهمين : أحدهما : « الإنسان المعاصر وقدرته على حل المشكلة الاجتماعية » ، وهو الفصل الاول في الكتاب ، يتناول مدى امكانات الإنسانية لوضع النظام الاجتماعي الكفيل بسعادتها وكمالها. والآخر : موقف الإسلام من الحرية والضمان ، وهو الفصل الأخير من الكتاب قمنا فيه بدراسة مقارنة لموقف الإسلام والرأسمالية من الحرية ، وموقف الإسلام والماركسية من الضمان.
   وبهذا تضاعف التمهيد واكتسب إسمه الجديد ، « الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية » ، بوصفه « الحلقة الأولى » من « المدرسة الإسلامية » والله ولي التوفيق.
  محمد باقر الصدر

المدرسة الاسلامية   ـ 10 ـ

الإنسان المعَاصِر وَقُدرته عَلّى حَل المشكلة الاجتماعيّة

المدرسة الاسلامية   ـ 11 ـ

بسِم اللهِ الرحمَن الرحّيم

   مشكلة الإنسانية اليوم :
   إن مشكلة العالم التي تملأ فكر الإنسانية اليوم ، وتمس واقعها بالصميم ، هي مشكلة النظام الاجتماعي التي تتلخص في إعطاء أصدق إجابة عن السؤال الآتي :
   ما هو النظام الذي يصلح للإنسانية وتسعد به في حياتها الاجتماعية ؟ .
   ومن الطبيعي أن تحتل هذه المشكلة مقامها الخطير ، وأن تكون في تعقيدها وتنوع ألوان الاجتهاد في حلها مصدراً للخطر على الإنسانية ذاتها ، لأن النظام داخل في حساب الحياة الإنسانية ، ومؤثر في كيانها الاجتماعي بالصميم .
   وهذه المشكلة عميقة الجذور في الأغوار البعيدة من تاريخ البشرية ، وقد واجهها الإنسان منذ نشأت في واقعة الحياة

المدرسة الاسلامية   ـ 12 ـ

   الاجتماعية ، وانبثقت الإنسانية الجماعية تتمثل في عدة أفراد تجمعهم علاقات وروابط مشتركة ، فان هذه العلاقات في حاجة ـ بطبيعة الحال ـ الى توجيه وتنظيم شامل ، وعلى مدى انسجام هذا التنظيم مع الواقع الإنساني ومصالحه ، يتوقف استقرار المجتمع وسعادته .
   وقد دفعت هذه المشكلة بالإنسانية في ميادينها الفكرية والسياسية .. الى خوض جهاد طويل وكفاح حافل بمختلف ألوان الصراع ، وبشتى مذاهب العقل البشري ، التي ترمي الى إقامة الصرح الإجتماعي وهندسته ، ورسم خططه ووضع ركائزه. وكان جهاداً مرهقاً يضج بالمآسي والمظالم ، ويزخر بالضحكات والدموع ، وتقترن فيه السعادة بالشقاء .
   كل ذلك لما كان يتمثل في تلك الألوان الاجتماعية من مظاهر الشذوذ والانحراف ، عن الوضع الاجتماعي الصحيح.
   ولولا ومضات شعت في لحظات من تاريخ هذا الكوكب ، لكان المجتمع الإنساني يعيش في مأساة مستمرة ، وسبح دائم في الأمواج الزاخرة.
   ولا نريد أن نستعرض الآن أشواط الجهاد الإنساني في الميدان الاجتماعي ، لأننا لا نقصد بهذه الدراسة أن نؤرخ للإنسانية المعذبة ، وأجوائها التي تقلبت فيها منذ الآماد

المدرسة الاسلامية   ـ 13 ـ

   البعيدة ، وإنما نريد أن نواكب الإنسانية في واقعها الحاضر وفي أشواطها التي انتهت اليها ، لنعرف الغاية التي يجب أن ينتهي اليها الشوط ، والساحل الطبيعي الذي لا بد للسفينة أن تشق طريقها اليه وترسو عنده ، لتصل الى السلام والخير وتؤوب الى حياة مستقرة ، يعمرها العدل والسعادة ... بعد جهد وعناء طويلين وبعد تطواف عريض في شتى النواحي ومختلف الاتجاهات .
   والواقع إن إحساس الإنسان المعاصر بالمشكلة الاجتماعية أشد من إحساسه بها في أي وقت مضى من أدوار التاريخ القديم ، فهو الآن أكثر وعياً لموقفه من المشكلة وأقوى تحسساً بتعقيداتها ، لأن الإنسان الحديث أصبح يعي أن المشلكة من صنعه .
   وأن النظام الاجتماعي لا يفرض عليه من أعلى بالشكل الذي تفرض عليه القوانين الطبيعية ، التي تتحكم في علاقات الإنسان بالطبيعة .
   على العكس من الإنسان القديم الذي كان ينظر في كثير من الأحايين الى النظام الاجتماعي وكأنه قانون طبيعي ، لا يملك في مقابله اختياراً ولا قدرة .
   فكما لا يستطيع أن يطور من قانون جاذبية الأرض ، كذلك لا يستطيع أن يغير العلاقات الاجتماعية القائمة. ومن الطبيعي أن الإنسان حين بدأ يؤمن بأن هذه العلاقات مظهر من مظاهر السلوك ، التي يختارها الإنسان نفسه ، ولا يفقد إرادته في

المدرسة الاسلامية   ـ 14 ـ

   مجالها ... أصبحت المشكلة الاجتماعية تعكس فيه ـ في الإنسان الذي يعيشها فكرياً ـ مرارة ثورية بدلاً من مرارة الإستسلام.
   والإنسان الحديث من ناحية أخرى أخذ يعاصر تطوراً هائلاً في سيطرة الإنسانية على الطبيعة لم يسبق له نظير .
   وهذه السيطرة المتنامية بشكل مرعب وبقفزات العمالقة ، تزيد في المشكلة الاجتماعية تعقيداً وتضاعف من أخطارها ، لانها تفتح بين يدي الإنسان مجالات جديدة وهائلة للاستغلال ، وتضاعف من أهمية النظام الاجتماعي ، الذي يتوقف عليه تحديد نصيب كل فرد من تلك المكاسب الهائلة ، التي تقدمها الطبيعة اليوم بسخاء للإنسان .
   وهو بعد هذا يملك من تجارب سلفه ـ على مر الزمن ـ خبرة أوسع وأكثر شمولاً وعمقاً من الخبرات الاجتماعية ، التي كان الإنسان القديم يمتلكها ويدرس المشكلة الاجتماعية في ضوئها ، ومن الطبيعي أن يكون لهذه الخبرة الجديدة أثرها الكبير في تعقيد المشكلة ، وتنوع الآراء في حلها والجواب عليها .

المدرسة الاسلامية   ـ 15 ـ

الإنسانية ومعالجتها للمشكلة
   نريد الآن ـ وقد عرفنا المشكلة ، أو السؤال الأساسي الذي واجهته الإنسانية منذ مارست وجودها الاجتماعي الواعي ، وتفننت في المحاولات التي قدمتها للجواب عليه عبر تاريخها المديد ـ نريد وقد عرفنا ذلك .. أن نلقي نظرة عى ما تملكه الإنسانية اليوم ، وفي كل زمان ، من الامكانات والشروط الضرورية لإعطاء الجواب الصحيح على ذلك السؤال الأساسي السالف الذكر : ما هو النظام الذي يصلح للإنسانية وتسعد به في حياتها الاجتماعية.
   فهل في مقدور الإنسانية أن تقدم هذا الجواب ؟.
   وما هو القدر الذي يتوفر ـ في تركيبها الفكري والروحي ـ من الشروط اللازمة للنجاح في ذلك ؟.
   وما هي نوعية الضمانات التي تكفل للإنسانية نجاحها في الامتحان ، وتوفيقها في الجواب الذي تعطيه على السؤال ، وفي الطريقة التي تختارها لحل المشكلة الاجتماعية ، والتوصل الى النظام الأصلح الكفيل بسعادة الإنسانية وتصعيدها الى أرفع المستويات ؟.
   وبتعبير أكثر وضوحاً : كيف تستطيع الإنسانية المعاصرة

المدرسة الاسلامية   ـ 16 ـ

   أن تدرك مثلاً : ان النظام الدمقراطي الرأسمالي ، او دكتاتورية البروليتاريا الاشتراكية أو غيرهما ... هو النظام الأصلح وإذا أدركت هذا او ذاك ، فما هي الضمانات التي تضمن لها أنها على حق وصواب في إدراكها ؟
   ولو ضمنت هذا أيضاً ، فهل يكفي إدراك النظام الأصلح ومعرفة الإنسان به لتطبيقه وحل المشكلة الاجتماعية على أساسه ، أو يتوقف تطبيق النظام على عوامل اخرى قد لا تتوفر بالرغم من معرفة صلاحه وجدارته ؟ .
   وترتبط هذه النقاط التي أثرناها الآن الى حد كبير بالمفهوم العام عن المجتمع والكون ، ولذلك تختلف طريقة معالجتها من قبل الباحثين ، تبعاً لاختلاف مفاهيمهم العامة عن ذلك ولنبداً بالماركسية .

رأي الماركسية
   ترى الماركسية أن الإنسان يتكيف روحياً وفكرياً وفقاً لطريقة الانتاج ، ونوعية القوى المنتجة ، فهو بصورة مستقلة عنها لا يمكنه أن يفكر تفكيراً اجتماعياً ، أو أن يعرف ما هو النظام الأصلح ؟ ، وإنما القوى المنتجة هي التي تملي عليه هذه المعرفة ، وتتيح له الجواب على السؤال الأساسي الذي طرحناه

المدرسة الاسلامية   ـ 17 ـ

   في فاتحة الحديث ، وهو بدوره يردد صداها بدقة وأمانة ، فالطاحونة الهوائية مثلاً ، تبعث في الإنسانية الشعور بأن النظام الاقطاعي هو النظام الأصلح ، والطاحونة البخارية التي خلفتها تلقن الإنسان : أن النظام الرأسمالي هو الأجدر بالتطبيق ووسائل الانتاج الكهربائية والذرية اليوم ، تعطي المجتمع مضموناً فكرياً جديداً يؤمن بأن الأصلح هو النظام الاشتراكي.
   فقدرة الإنسانية على ادراك النظام الأصلح ، هي تماماً قدرتها على ترجمة المدلول الاجتماعي للقوى المنتجة وترديد صداها .
   واما الضمانات التي تكفل للإنسانية صوابها وصحة ادراكها ونجاحها في تصورها للنظام الأصلح ... فهي تتمثل في حركة التاريخ السائرة الى الامام دوماً ، فما دام التاريخ في رأي الماركسية يتسلق الهرم ، ويزحف بصورة تصاعدية دائماً ، فلابد أن يكون الإدراك الاجتماعي الجديد للنظام الأصلح هو الادراك الصحيح .
   واما الادراك التقليدي القديم فهو خاطئ ، ما دام قد تكوّن ادراك اجتماعي أحدث منه ، فالذي يضمن للإنسان السوفياتي اليوم صحة رأيه الاجتماعي ، هو ان هذا الرأي يمثل الجانب الجديد من الوعي الاجتماعي ، ويعبر عن مرحلة جديدة من التاريخ ، فيجب أن يكون صحيحاً دون غيره من الآراء القديمة.
   صحيح ان بعض الأفكار الاجتماعية قد تبدو جديدة

المدرسة الاسلامية   ـ 18 ـ

   ـ بالرغم من زيفها ـ كالفكر النازي في النصف الأول من هذا القرن ، حيث بدا وكأنه تعبير عن تطور تاريخي جديد ، ولكن سرعان ما تنكشف أمثال هذه الأفكار المقنعة ، ويظهر خلال التجربة انها ليست إلا رجعاً للأفكار القديمة ، وتعبيراً عن مراحل تاريخية بالية ، وليست أفكاراً جديدة بمعنى الكلمة.
   وهكذا تؤكد الماركسية : على ان جدة الفكر الاجتماعي ( بمعنى انبثاقه عن ظروف تاريخية جديدة التكون ) هي الكفيلة بصحته ما دام التاريخ في تجدد ارتقائي.
   وهناك شيء آخر وهو : ادراك الإنسانية اليوم مثلاً للنظام الاشتراكي ـ بوصفه النظام الأصلح ـ ، لا يكفي في رأي الماركسية لإمكان تطبيقه ، ما لم تخض الطبقة التي تنتفع بهذا النظام اكثر من سواها ـ وهي الطبقة العاملة في مثالنا ـ صراعاً طبقياً عنيفاً ، ضد الطبقة التي من مصلحتها الاحتفاظ بالنظام السابق ، وهذا الصراع الطبقي المسعور يتفاعل مع ادراك النظام الأصلح ، فيشتد الصراع كلما نمى هذا الإدراك وازداد وضوحاً ، وهو بدوره يعمّق الادراك وينميه كلما اشتد واستفحل .

المدرسة الاسلامية   ـ 19 ـ

   ووجهة النظر الماركسية هذه تقوم على أساس مفاهيم المادية التاريخية ، التي نقدناها في دراستنا الموسعة للماركسية الاقتصادية (1).
   وما نضيفه الآن تعلية على ذلك هو : ان التاريخ نفسه يبرهن على ان الأفكار الاجتماعية بشأن تحديد نوعية النظام الأصلح ... ليست من خلق القوى المنتجة ، بل للإنسان اصالته وابداعه في هذا المجال ، بصورة مستقلة عن وسائل الانتاج وإلا فكيف تفسر لنا الماركسية ظهور فكرة التأميم ، والاشتراكية وملكية الدولة في فترات زمنية متباعدة من التاريخ ؟!. فلو كان الايمان بفكرة التأميم ـ بوصفه النظام الأصلح كما يؤمن الإنسان السوفياتي اليوم ـ نتيجة لنوعية القوى المنتجة السائدة اليوم فما معنى ظهور الفكرة نفسها في أزمنة سحيقة لم تكن تملك من هذه القوى المنتجة شيئاً .
   أفلم يكن افلاطون يؤمن بالشيوعية ويتصور مدينته الفاضلة على أساس شيوعي ؟! ، فهل كان ادراكه هذا من معطيات الوسائل الحديثة في الانتاج التي لم يكن الاغريق يملك منها شيئاً ؟!.
   ماذا أقول ؟! ، بل ان الأفكار الاشتراكية بلغت قبل الفين

المدرسة الاسلامية   ـ 20 ـ

   من السنين ، من النضج والعمق في ذهنية بعض كبار المفكرين السياسيين : درجة أتاحت لها مجالاً للتطبيق كما يطبقها الإنسان السوفياتي اليوم ، مع بعض الفروق.
   فهذا ( وو ـ دي ) أعظم الأباطرة الذين حكموا الصين من أسرة ( هان ) ، كان يؤمن في ضوء خبرته وتجاربه بالاشتراكية ، باعتبارها النظام الأصلح ، فقام بتطبيقها عام ( 140 ـ 187 ق م ) : فجعل موارد الثروة الطبيعية ملكاً للأمة ، وأمم صناعات استخراج الملح والحديد وعصر الخمر ، وأراد أن يقضي على سلطان الوسطاء والمضاربين في جهاز التجارة : فأنشأ نظاماً خاصاً للنقل والتبادل تشرف عليه الدولة ، وسعى بذلك للسيطرة على التجارة ، حتى يستطيع منع تقلب الأسعار الفجائي ، فكان عمال الدولة هم الذين يتولون شؤون نقل البضائع وتوصيلها إلى أصحابها في جميع أنحاء البلاد ، وكانت الدولة نفسها تخزن ما زاد من السلع على حاجة الأهلين ، وتبيعها إذا أخذت أثمانها في الإرتفاع فوق ما يجب ، كما تشتريها إذا انخفضت الأسعار ، وشرع يقيم المنشآت العامة العظيمة ، ليوجد بذلك عملاً لملايين الناس الذين عجزت الصناعات الخاصة عن استيعابهم.
   وكذلك اعتلى العرش في بداية التاريخ المسيحي ( وانج مانج ) فتحمس بايمان لفكرة الغاء الرق ، والقضاء على العبودية ونظام الاقطاع ، كما آمن الأوروبيون في بداية العصر الرأسمالي ...

المدرسة الاسلامية   ـ 21 ـ

   والغى الرق ، وانتزع الأراضي من الطبقة الاقطاعية ، وأمم الأرض الزراعية ، وقسمها قسماً متساوية ووزعها على الزراع وحرم بيع الأراضي وشراءها ليمنع بذلك من عودة الأملاك الواسعة الى ما كانت عليه من قبل ، وأمم المناجم وبعض الصناعات الكبرى.
   فهل يمكن أن يكون ( وو ـ دي ) أو ( وانج مانج ) ... قد استوحيا ادراكهما الاجتماعي ونهجهما السياسي هذا من قوى البخار ، أو قوى الكهرباء أو الذرة ، التي تعتبرها الماركسية اساساً للتفكير الاشتراكي .
   وهكذا نستنتج : إنّ ادراك هذا النظام أو ذاك ـ بوصفه النظام الأصلح ـ ليس صنيعة لهذه الوسيلة من وسائل الإنتاج أو تلك .
   كما ان الحركة التقدمية للتاريخ ، التي تبرهن الماركسية عن طريقها على : ان جدة الفكر تضمن صحته ... ليست إلا اسطورة اخرى من أساطير التاريخ ، فان حركات الانتكاس وذوبان الحضارة كثيرة جداً .

المدرسة الاسلامية   ـ 22 ـ

رأي المفكرين غير الماركسيين
   أما المفكرون غير الماركسيين فهم يقررون عادة : أن قدرة الإنسان على ادراك النظام الأصلح .. تنمو عنده من خلال التجارب الإجتماعية التي يعيشها ، فحينما يطبق الإنسان الإجتماعي نظاماً معيناً ويجسده في حياته .. يستطيع أن يلاحظ من خلال تجربته لذلك النظام : الأخطاء ونقاط الضعف المستترة فيها ، والتي تتكشف له على مر الزمن ، فتمكنه من تفكير اجتماعي أكثر بصيرة وخبرة .. وهكذا يكون بامكان الإنسان أن يفكر في النظام الاصلح ، ويضع جوابه على السؤال الأساسي في ضوء تجاربه وخبرته .
   وكلما تكاملت وكثرت تجاربه أو الأنظمة التي جرّبها ، ازداد معرفة وبصيرة ، وصار اكثر قدرة على تحديد النظام الأصلح وتصور معالمه .
   فسؤالنا الأساسي : ما هو النظام الأصلح ؟ .. ليس إلا كسؤال : ما هي أصلح طريقة لتدفئة السكن ؟ .. هذا السؤال الذي واجهه الإنسان منذ أحس بالبرد ، وهو في كهفه أو مغارته ، فأخذ يفكر في الجواب عليه ، حتى اهتدى في ضوء ملاحظاته أو تجاربه العديدة الى طريقة إيجاد النار.
   وظل يثابر ويجاهد في سبيل الحصول على جواب أفضل عبر تجاربه

المدرسة الاسلامية   ـ 23 ـ

  المديدة ، حتى انتهى أخيراً الى اكتشاف الكهرباء واستخدامه في التدفئة.
   وكذلك آلاف المشاكل التي كانت تعترض حياته ، فأدرك طريقة حلها خلال التجربة ، وازداد إدراكه دقة كلما كثرت التجربة : كمشكلة الحصول على أصلح دواء للسل ، أو أسهل وسيلة لاستخراج النفط ، أو أسرع واسطة للنقل والسفر أو أفضل طريقة لحياكة الصوف ... وما الى ذلك من مشاكل وحلول .
   فكما استطاع الإنسان أن يحل هذه المشاكل ، ويضع الجواب عن تلك الأسئلة من خلال تجاربه ... كذلك يستطيع أن يجيب على سؤال : ما هو النظام الأصلح ؟! ، من خلال تجاربه الاجتماعية ، التي تكشف له عن سيئات ومحاسن النظام المجرّب ، وتبرز ردود الفعل له على الصعيد الاجتماعي.

الفرق بين التجربة الطبيعية والاجتماعية
   وهذا صحيح الى درجة ما : فان التجربة الاجتماعية تتيح للإنسان أن يقدم جوابه على سؤال : ما هو النظام الأصلح ؟ كما أتاحت له تجارب الطبيعة أن يجيب على الأسئلة الأخرى العديدة ، التي اكتنفت حياته منذ البداية.

المدرسة الاسلامية   ـ 24 ـ

   ولكننا يجب أن نفرّق ـ إذا أردنا أن ندرس المسألة على مستوى أعمق ـ : بين التجارب الاجتماعية التي يكون الإنسان خلالها إدراكه للنظام الأصلح ، وبين التجارب الطبيعية التي يكتسب الإنسان خلالها معرفته بأسرار الطبيعة وقوانينها وطريقة الاستفادة منها : كأنجح دواء ، أو أسرع واسطة للسفر ، أو أفضل طريقه للحياكة ، أو أسهل وسيلة لاستخراج النفط ، او انجع طريقة لفلق الذرة مثلاً .
   فإن التجارب الاجتماعية ـ أي تجارب الإنسان الاجتماعي للأنظمة الاجتماعية المختلفة ـ لا تصل في عطائها الفكري الى درجة التجارب الطبيعية ـ : وهي تجارب الإنسان لظواهر الطبيعة ـ ، لأنها تختلف عنها في عدة نقاط ، وهذا الاختلاف يؤدي الي تفاوت قدرة الإنسان على الاستفادة من التجارب الطبيعية والاجتماعية ، فبينما يستطيع الإنسان أن يدرك أسرار الظواهر الطبيعية ، ويرتقي في ادراكه هذا الى ذروة الكمال على مر الزمن ، بفضل التجارب الطبيعية والعلمية ... لا يسير في مجال ادراكه الاجتماعي للنظام الأصلح إلا سيراً بطيئاً ولا يتأتى له بشكل قاطع أن يبلغ الكمال في ادراكه الاجتماعي هذا ، مهما توافرت تجاربه الاجتماعية وتكاثرت .
   ويجب علينا ـ لمعرفة هذا ـ أن ندرس تلك الفروق

المدرسة الاسلامية   ـ 25 ـ

   المهمة ، بين طبيعة التجربة الاجتماعية والتجربة الطبيعية ... لنصل الى الحقيقة التي قررناها وهي : أن التجربة الطبيعية قد تكون قادرة على منح الإنسان عبر الزمن فكرة كاملة عن الطبيعة ، يستخدمها في سبيل الاستفادة من ظواهر الطبيعة وقوانينها ، وأما التجربة الاجتماعية : فهي لا تستطيع أن تضمن للإنسان ايجاد هذه الفكرة الكاملة ، عن المسألة الاجتماعية.
   وتتلخص أهم تلك الفروق فيما يلي :
   أولا : أن التجربة الطبيعية يمكن أن يباشرها ويمارسها فرد واحد ، فيستوعبها بالملاحظة والنظرة ، ويدرس بصورة مباشرة كل ما ينكشف خلالها من حقائق وأخطاء ، فينتهي من ذلك الى فكرة معينة ترتكز على تلك التجربة.
   وأما التجربة الاجتماعية فهي عبارة عن تجسيد النظام المجرب في مجتمع وتطبيقه عليه ، فتجربة النظام الاقطاعي أو الرأسمالي مثلاً تعني : ممارسة المجتمع لهذا النظام فترة من تاريخه وهي لاجل ذلك لا يمكن أن يقوم بها فرد واحد ويستوعبها وإنما يقوم بالتجربة الاجتماعية المجتمع كله ، وتستوعب مرحلة تاريخية من حياة المجتمع أوسع كثيراً من هذا الفرد أو ذاك. فالإنسان حين يريد أن يستفيد من تجربة اجتماعية ، لا يستطيع