أن يعاصرها بكل أحداثها ، كما كان يعاصر التجربة الطبيعية حين يقوم بها ، إنما يعاصر جانباً من أحداثها ، ويتحتم عليه أن يعتمد في الاطلاع على سائر ظواهر التجربة ومضاعفاتها ... على الحدس والاستنتاج والتاريخ .
ثانياً : ان التفكير الذي تبلوره التجربة الطبيعية ، أكثر موضوعية ونزاهة ، من التفكير الذي يستمده الإنسان من التجربة الاجتماعية.
وهذه النقطة من أهم النقاط الجوهرية ، التي تمنع التجربة الاجتماعية من الارتفاع الى مستوى التجربة الطبيعية والعلمية فلا بد من جلائها بشكل كامل .
ففي التجربة الطبيعية ، ترتبط مصلحة الإنسان ـ الذي يصنع تلك التجربة ـ باكتشاف الحقيقة ، الحقيقة كاملة صريحة دون مواربه ، وليس له ـ في الغالب ـ أدنى مصلحة بتزوير الحقيقة أو طمس معالمها ، التي تتكشف خلال التجربة. فإذا أراد ـ مثلاً ـ أن يجرب درجة تأثر جراثيم السل بمادة كيماوية معينة ، حين القائها في محيط تلك الجراثيم ، فسوف لا يهمه إلا معرفة درجة تأثرها ، مهما كانت عالية أو منخفضة ، ولن ينفعه في علاج السل ومكافحته أن يزور الحقيقة ، فيبالغ في درجة تأثرها أو يهوّن منها .
وعلى هذا الأساس يتجه تفكير المجرب ـ في العادة ـ اتجاهاً موضوعياً نزيهاً .
المدرسة الاسلامية ـ 27 ـ
وأما في التجربة الاجتماعية ، فلا تتوقف مصلحة المجرّب دائماً على تجلية الحقيقة ، واكتشاف النظام الاجتماعي الأصلح لمجموع الإنسانية ، بل قد يكون من مصلحته الخاصة : ان يستر الحقيقة عن الأنظار ، فالشخص الذي ترتكز مصالحه على نظام الرأسمالية والاحتكار ، أو على النظام الربوي للمصارف مثلاً ، سوف يكون من مصلحته جداً أن تجيء الحقيقة مؤكدة لنظام الرأسمالية والاحتكار والربا المصرفي ، بوصفه النظام الأصلح حتى تستمر منافعه التي يدرها عليه ذلك النظام. فهو إذن ليس موضوعياً بطبيعته ، ما دام الدافع الذاتي يحثه على اكتشاف الحقيقة باللون الذي يتفق مع مصالحه الخاصة.
وكذلك الشخص الآخر ، الذي تتعارض مصلحته الخاصة مع الربا او الاحتكار ، لا يهمه شيء كما يهمه ان تثبت الحقيقة بشكل يدين الأنظمة الربوية والاحتكارية .
فهو حينما يريد أن يستنتج الجواب على المسألة الاجتماعية : ( ما هو النظام الأصلح ؟ ) من خلال دراسته الاجتماعية ، يقترن دائماً بقوة داخلية تحبذ له وجهة نظر معينة ، وليس شخصاً محايداً بمعنى الكلمة.
وهكذا نعرف : ان تفكير الإنسان في المسألة الاجتماعية لا يمكن ـ عادة ـ أن تضمن له الموضوعية والتجرد عن الذاتية بالدرجة التي يمكن ضمانها في تفكير الإنسان حين يعالج تجربة طبيعية ، ومسألة من مسائل الكون.
المدرسة الاسلامية ـ 28 ـ
ثالثاً : وهب ان الإنسان استطاع أن يتحرر فكرياً من دوافعه الذاتية ، ويفكر تفكيراً موضوعياً ، ويكشف الحقيقة وهي : ان هذا النظام أو ذاك هو النظام الأصلح لمجموع الإنسانية ... ولكن من الذي يضمن اهتمامه بمصلحة مجموع الإنسانية إذا لم تلتق بمصلحته الخاصة ؟! ، ومن الذي يكفل سعيه في سبيل تطبيق ذلك النظام الأصلح للإنسانية اذا تعارض مع مصالحه الخاصة ؟! ، فهل يكفي ـ مثلاً ـ ايمان الرأسماليين بأن النظام الاشتراكي أصلح سبباً لتطبيقهم للاشتراكية ورضاهم عنها ، بالرغم من تناقضها مع مصالحهم ؟! ، أو هل يكفي ايمان الإنسان المعاصر ( انسان الحضارة الغربية ) ـ في ضوء تجاربه التي عاشها ـ بالخطر الكامن في نظام العلاقات بين الرجل والمرأة ، القائم على أساس الخلاعة والأباحية ... هل يكفي ايمانه بما تشتمل عليه هذه العلاقات من خطر الميوعة والذوبان على مستقبل الإنسان وغده ... لاندفاعه الى تطوير تلك العلاقات بالشكل الذي يضمن للإنسانية مستقبلها ويحميها من الذوبان الجنسي والشهوي ، ما دام لايشعر بخطر معاصر على واقعه الذي يعيشه ، وما دامت تلك العلاقات توفر له كثيراً من ألوان المتعة واللذة ؟؟!!
نحن اذن وفي هذا الضوء ، نشعر بحاجة لا الى اكتشاف النظام الأصلح لمجموع الإنسانية فحسب ، بل الى دافع يجعلنا
المدرسة الاسلامية ـ 29 ـ
نعنى بمصالح الإنسانية ككل ، ونسعى الى تحقيقها ، وان اختلفت مع مصالح الجزء الذي نمثله من ذلك الكل.
رابعاً : ان النظام الذي ينشئه الإنسان الاجتماعي ، ويؤمن بصلاحه وكفاءته ، لا يمكن أن يكون جديراً بتربية هذا الإنسان ، وتصعيده في المجال الإنساني الى آفاق أرحب ... لأن النظام الذي يصنعه الإنسان الاجتماعي ، يعكس دائماً واقع الإنسان الذي صنعه ، ودرجته الروحية والنفسية ، فاذا كان المجتمع يتمتع بدرجة منخفضة من قوة الارادة وصلابتها مثلاً لم يكن ميسوراً له أن يربي ارادته وينميها ، بايجاد نظام اجتماعي صارم ، يغذي الارادة ويزيد من صلابتها ... لأنه ما دام لا يملك ارادة صلبة ، فهو لا يملك القدرة على ايجاد هذا النظام ووضعه موضع التنفيذ وانما يضع النظام الذي يعكس ميوعة ارادته وذوبانها ، وإلا فهل ننتظر من مجتمع لا يملك ارادته ازاء إغواء الخمورة ـ مثلاً ـ واغراءها ، ولا يتمتع بقدرة الترفع عن شهوة رخيصة كهذه ... هل ننتظر من هذا المجتمع : ان يضع موضع التنفيذ نظاماً صارماً يحرّم أمثال تلك الشهوات الرخيصة ، ويربي في الإنسان ارادته ، ويرد اليه حريته ويحرره من عبودية الشهوة واغرائها ؟!! ، كلا طبعاً .
فنحن لا نترقب الصلابة من المجتمع الذائب ، وان أدرك اضرار هذا الذوبان ومضاعفاته ، ولا نأمل من المجتمع الذي تستعبده شهوة الخمرة
المدرسة الاسلامية ـ 30 ـ
ان يحرر نفسه بارادته ، مهما احس بشرور الخمرة وآثارها ... لأن الاحساس انما يتعمق ويتركز لدى المجتمع إذا استرسل في ذوبانه وعبوديته للشهوة واشباعها ، وهو كلما استرسل في ذلك اصبح أشد عجزاً عن معالجة الموقف ، والقفز بانسانيته الى درجات أعلى.
وهذا هو السبب الذي جعل الحضارات البشرية التي صنعها الإنسان ، تعجز عادة عن وضع نظام يقاوم في الإنسان عبوديته لشهوته ، ويرتفع به إلى مستوى انساني أعلى .
حتى لقد اخفقت الولايات المتحدة ـ وهي أعظم تعبير عن اضخم الحضارات التي صنعها الإنسان ـ في وضع قانون تحريم الخمرة موضع التنفيذ لأن من التناقض أن نترقب من المجتمع الذي استسلم لشهوة الخمرة وعبوديتها ، أن يسن القوانين التي ترتفع به من الحضيض الذي اختاره لنفسه ، بينما نجد ان النظام الاجتماعي الإسلامي الذي جاء به الوحي ، قد استطاع بطريقته الخاصة في تربية الإنسانية ورفعها الي اعلى أن يحرم الخمرة وغيرها من الشهوات الشريرة ، ويخلق في الإنسان الارادة الواعية الصلبة.
ولم يبق علينا ـ بعد أن أوضحنا جانباً من الفروق الجوهرية بين التجربة الاجتماعية التي يمارسها المجتمع بأسره والتجربة
المدرسة الاسلامية ـ 31 ـ
الطبيعية التي يمارسها المجرب نفسه ـ إلا ان نثير السؤال الأخير في مجال المسألة التي ندرسها ( مسألة مدى قدرة الإنسان في حقل التنظيم الاجتماعي ، واختيار النظام الأصلح ) ، وهذا هو السؤال : ما هي قيمة المعرفة العلمية في تنظيم حياة الجماعة وإرساء الحياة الاجتماعية ، والنظام الاجتماعي على أساس علمي من التجارب الطبيعية ، التي تملك من الدقة ما تتسم به التجارب في مجال الفيزياء والكيمياء ، ونتخلص بذلك من نقاط الضعف التي درسناها في طبيعة التجربة الاجتماعية ؟؟.
وبكلمة اخرى : هل في الامكان الاستغناء ـ لدى تنظيم الحياة الاجتماعية والتعرف على النظام الأصلح ـ عن دراسة تاريخ البشرية ، والتجارب التي مارستها المجتمعات الإنسانية عبر الزمن ، والتي لا نملك تجاهها سوى الملاحظة عن بعد ، ومن وراء ستائر الزمن التي تفصلنا عنها ... هل في الامكان الاستغناء عن ذلك كله ، باقامة حياتنا الاجتماعية في ضوء تجارب علمية نعيشها ونمارسها بأنفسنا على هذا أو ذاك من الأفراد ، حتى نصل الى معرفة النظام الأصلح ؟؟.
وقد يتجه بعض المتفائلين الى الجواب على هذا السؤال بالايجاب ، نظراً الى ما يتمتع به انسان الغرب اليوم من امكانات علمية هائلة : أوَ ليس النظام الاجتماعي هو النظام الذي يكفل اشباع حاجات الإنسانية بأفضل طريقة ممكنة ؟؟. أوليست
المدرسة الاسلامية ـ 32 ـ
حاجات الإنسان اشياء واقعية قابلة للقياس العلمي والتجربة كسائر ظواهر الكون ؟!.
أوَ ليست اساليب اشباع هذه الحاجات تعني اعمالاً محدودة ، يمكن للمنطق العلمي أن يقيسها ويخضعها للتجربة ، ويدرس مدى تأثيرها في اشباع الحاجات وما ينجم عنها من آثار ؟!.
فلماذا لا يمكن ارساء النظام الاجتماعي على أساس من هذه التجارب ؟!.
لماذا لا يمكن ان نكتشف بالتجربة على شخص أو عدة اشخاص ، مجموع العوامل الطبيعية والفسيولوجية والسيكولوجية ، التي تلعب دوراً في تنشيط المواهب الفكرية وتنمية الذكاء ، حتى إذا أردنا أن ننظم حياتنا الاجتماعية ، بشكل يكفل تنمية المواهب العقلية والفكرية للافراد ، حرصنا على أن تتوفر في النظام تلك العوامل لجميع الأفراد ؟!!
وقد يذهب بعض الناشئة في التصور الى أكثر من هذا فيخيل له : أن هذا ليس ممكناً فحسب ، بل هو ما قامت به أوروبا الحديثة في حضارتها الغربية ، منذ رفضت الدين والأخلاق وجميع المقولات الفكرية والاجتماعية ، التي مارستها الإنسانية في تجاربها الاجتماعية عبر التاريخ ... واتجهت في بناء حياتها على اساس العلم ، فقفزت في مجراها التاريخي الحديث ، وفتحت أبواب السماء ، وملكت كنوز الأرض ...
وقبل ان نجيب على السؤال الذي أثرناه : ( السؤال عن مدى
المدرسة الاسلامية ـ 33 ـ
امكان إرساء الحياة الاجتماعية على أساس التجارب العلمية ) يجب ان نناقش هذا التصور الاخير للحضارة الغربية ، وهذا الاتجاه السطحي الى الاعتقاد : بأن النظام الاجتماعي ، الذي يمثل الوجه الأساسي لهذه الحضارة ، نتيجة للعنصر العلمي فيها ، فان الحقيقة هي : ان النظام الاجتماعي الذي آمنت به اوروبا والمبادئ الاجتماعية التي نادت بها وطبقتها ، لم تكن نتيجة لدراسة علمية تجريبية ، بل كانت نظرية أكثر منها تجريبية ومبادئ فلسفية مجردة أكثر منها آراء علمية مجربة ، ونتيجة لفهم عقلي وايمان بقيم عقلية محدودة ، أكثر من كونها نتيجة لفهم استنتاجي وبحث تجريبي في حاجات الإنسان وخصائصه السيكولوجية والفسيولوجية والطبيعية ، فان من يدرس النهضة الاوروبية الحديثة ـ كما يسميها التاريخ الاوروبي ـ بفهم يستطيع ان يدرك : ان اتجاهها العام في ميادين المادة ، كان يختلف عن اتجاهها العام في الحقل الاجتماعي والمجال التنظيمي للحياة .
فهي في ميادين المادة كانت علمية ، إذ أقامت افكارها عن دنيا المادة على أساس الملاحظة والتجربة ، فأفكارها عن تركيب الماء والهواء او عن قانون الجذب او فلق الذرة افكار علمية مستمدة من الملاحظة والتجربة ، وأما في الميدان الاجتماعي : فقد تكوّن العقل الغربي الحديث على أساس المذاهب النظرية ، لا الأفكار العلمية ، فهو ينادي مثلاً : بحقوق
المدرسة الاسلامية ـ 34 ـ
الإنسان العامة ، التي اعلنها في ثورته الإجتماعية ، ومن الواضح ان فكرة الحق نفسها ليست فكرة علمية ، لأن حق الإنسان في الحرية مثلاً ليس شيئاً مادياً قابلاً للقياس والتجربة ، فهو خارج عن نطاق البحث العلمي ، وانما الحاجة هي الظاهرة المادية التي يمكن أن تدرس علمياً .
وإذا لاحظنا مبدأ المساواة بين أفراد المجتمع ، الذي يعتبر ـ من الوجهة النظرية ـ أحد المبادئ الأساسية للحياة الاجتماعية الحديثة ... فاننا نجد أن هذا المبدأ لم يستنتج بشكل علمي من التجربة والملاحظة الدقيقة ، لأن الناس في مقاييس العلم ليسوا متساوين ، إلا في صفة الإنسانية العامة ، ثمّ هم مختلفون بعد ذلك في مزاياهم الطبيعية والفسيولوجية والنفسية والعقلية ، وانما يعبر مبدأ المساواة عن قيمة خلقية هي من مدلولات العقل لا من مدلولات التجربة.
وهكذا نستطيع بوضوح : ان نميز بين طابع النظام الإجتماعي في الحضارة الغربية الحديثة ، وبين الطابع العلمي، وندرك أن الإتجاه العلمي في التفكير الذي برعت فيه أوروبا الحديثة ... لم يشمل حقل التنظيم الإجتماعي ، وليس هو الأساس الذي استنبطت منه اوروبا انظمتها ومبادئها الإجتماعية ، في مجالات السياسة والإقتصاد والإجتماع .
ونحن بهذا إنما نقرر الحقيقة ، ولسنا نريد أن نعيب على الحضارة
المدرسة الاسلامية ـ 35 ـ
الغربية اهمالها لقيمة المعرفة العلمية ، في مجال التنظيم الاجتماعي أو نؤاخذها على عدم اقامة هذا النظام على أساس التجارب العلمية الطبيعية ، فان هذه التجارب العلمية لا تصلح لأن تكون أساساً للتنظيم الإجتماعي.
صحيح أن حاجات الإنسان يمكن إخضاعها للتجربة في كثير من الأحايين ، وكذلك أساليب اشباعها ... ولكن المسألة الاساسية في النظام الاجتماعي ، ليست هي اشباع حاجات هذا الفرد او ذاك ، وانما هي ايجاد التوازن العادل بين حاجات الافراد كافة وتحديد علاقاتهم ضمن الإطار الذي يتيح لهم اشباع تلك الحاجات، ومن الواضح ان التجربة العلمية على هذا الفرد او ذاك ، لا تسمح باكتشاف ذلك الاطار ، ونوعية تلك العلاقات ، وطريقة ايجاد ذلك التوازن ... وانما يكتشف ذلك خلال ممارسة المجتمع كله لنظام اجتماعي ، اذ تتكشف خلال التجربة الاجتماعية مواطن الضعف والقوة في النظام ، وبالتالي ما يجب اتباعه لإيجاد التوازن العادل المطلوب ، الكفيل بسعادة المجموع.
اضف الى ذلك : ان بعض الحاجات أو المضاعفات لا يمكن اكتشافها في تجربة علمية واحدة ، فخذ اليك مثلاً هذا : الشخص الذي يعتاد الزنا ، فقد لا تجد في كيانه ـ بوصفه انساناً سعيداً ـ ما ينقصه أو يكدره ، ولكنك قد تجد المجتمع الذي عاش ـ كما يعيش هذا الفرد ـ مرحلة كبيرة من عمره ، وأباح لنفسه
المدرسة الاسلامية ـ 36 ـ
الانسياق مع شهوات الجنس ... قد تجده بعد فترة من تجربته الاجتماعية منهاراً ، قد تصدع كيانه الروحي ، وفقد شجاعته الادبية ، وارادته الحرة وجذوته الفكرية.
فليست كل النتائج ، التي لا بد من معرفتها لدى وضع النظام الاجتماعي الاصلح ... يمكن اكتشافها بتجربة علمية ، نمارسها في المختبرات الطبيعية والفسلجية ، او في المختبرات النفسية ... على هذا الفرد او ذاك وانما يتوقف اكتشافها على تجارب اجتماعية طويلة الأمد.
وبعد هذا استخدام التجربة العلمية الطبيعية ، في مجال التنظيم الاجتماعي ، يمنى بنفس النزعة الذاتية التي تهدد استخدامنا للتجارب الإجتماعية .
فما دام للفرد مصالحه ومنافعه الخاصة التي قد تتفق مع الحقيقة التي تقررها التجربة وقد تختلف .. يظل ممكناً دائماً أن يتجه تفكيره اتجاهاً ذاتياً ، ويفقد الموضوعية التي تتميز بها الافكار العلمية ، في سائر المجالات الاخرى.
والآن وقد عرفنا مدى قدرة الإنسان على حل المشكلة الإجتماعية والجواب على السؤال الاساسي فيها .. نستعرض أهم المذاهب الاجتماعية التي تسود الذهنية الإنسانية العامة اليوم ويقوم بينها الصراع الفكري أو السياسي ، على اختلاف مدى
المدرسة الاسلامية ـ 37 ـ
وجودها الإجتماعي في حياة الإنسان، وهي مذاهب اربعة :
1 ـ النظام الديمقراطي الرأسمالي.
2 ـ النظام الاشتراكي.
3 ـ النظام الشيوعي.
4 ـ النظام الإسلامي.
والثلاثة الاولى من هذه المذاهب تمثل ثلاث وجهات نظر بشرية ، في الجواب على السؤال الاساسي : ما هو النظام الاصلح ؟ ، فهي أجوبة وضعها الإنسان على هذا السؤال ، وفقاً لامكاناته وقدرته المحدودة التي تبينا مداها قبل لحظة .
وأما النظام الإسلامي فهو يعرض نفسه على الصعيد الاجتماعي ، بوصفه ديناً قائماً على أساس الوحي ومعطى إلهياً ، لا فكراً تجريبياً منبثقاً عن قدرة الإنسان وامكاناته .
ويتقاسم العالم اليوم اثنان من هذه الانظمة الاربعة : فالنظام الديمقراطي الرأسمالي هو أساس الحكم في بقعة كبيرة من الارض ، والنظام الاشتراكي هو السائد في بقعة كبيرة اخرى.
وكل من النظامين يملك كياناً سياسياً عظيماً ، يحميه في صراعه مع الآخر ، ويسلحه في معركته الجبارة التي يخوضها أبطالها في سبيل الحصول على قيادة العالم ، وتوحيد النظام الاجتماعي فيه .
وأما النظام الشيوعي والإسلامي ، فوجودهما بالفعل فكري
المدرسة الاسلامية ـ 38 ـ
خالص .
غير ان النظام الإسلامي ، مر بتجربة من أروع تجارب النظم الاجتماعية وانجحها ، ثمّ عصفت به العواصف بعد ان خلا الميدان من القادة المبدئيين او كاد ، وبقيت التجربة في رحمة اناس لم ينضج الإسلام في نفوسهم ، ولم يملأ أرواحهم بروحه وجوهره فعجزت عن الصمود والبقاء ، فتقوض الكيان الإسلامي ، وبقي نظام الإسلام فكرة في ذهن الأمة الإسلامية وعقيدة في قلوب المسلمين ، وأملاً يسعى الى تحقيقه ابناؤه المجاهدون.
واما النظام الشيوعي فهو فكرة غير مجربة حتى الآن تجربة كاملة ، وانما تتجه قيادة المعسكر الاشتراكي اليوم الى تهيئة جو اجتماعي له بعد ان عجزت عن تطبيقه حين ملكت زمام الحكم ، فأعلنت النظام الاشتراكي ، وطبقته كخطوة الى الشيوعية الحقيقية.
فما هو موضعنا من هذه الانظمة ؟
وما هي قضيتنا التي يجب ان ننذر حياتنا لها ، ونقود السفينة الى شاطئها ؟.
ولنبدأ بالنظام الديمقراطي الرأسمالي ، هذا النظام الذي أطاح بلون من الظلم في الحياة الاقتصادية ، وبالحكم الدكتاتوري في الحياة السياسية ، وبجمود الكنيسة وما اليها في الحياة الفكرية وهيأ مقاليد الحكم والنفوذ لفئة حاكمة جديدة حلت محل السابقين وقامت بنفس دورهم الاجتماعي في أسلوب جديد .
وقد قامت الديمقراطية الرأسمالية : على الايمان بالفرد ايماناً لا حد له ، وبأن مصالحه الخاصة بنفسها تكفل ـ بصورة طبيعية ـ مصلحة المجتمع في مختلف الميادين ... وان فكرة الدولة انما تستهدف حماية الافراد ومصالحهم الخاصة ، فلا يجوز لها أن تتعدى حدود هذا الهدف في نشاطها ومجالات عملها .
ويتلخص النظام الديمقراطي الرأسمالي : في إعلان الحريات الأربع : السياسية ، والاقتصادية ، والفكرية ، والشخصية .
فالحرية السياسية : تجعل لكل فرد كلاماً مسموعاً ورأياً محترماً في تقرير الحياة العامة للأمة ، ووضع خططها ورسم قوانينها ، وتعيين السلطات القائمة لحمايتها .
وذلك لأن النظام الإجتماعي للامة ، والجهاز الحاكم فيها ، مسألة تتصل اتصالا
المدرسة الاسلامية ـ 42 ـ
مباشراً بحياة كل فرد من أفرادها ، وتؤثر تأثيراً حاسماً ، سعادته او شقائه ، فمن الطبيعي حينئذ ان يكون لكل حق المشاركة في بناء النظام والحكم .
واذا كانت المسألة الإجتماعية ـ كما قلنا ـ مسألة حياز موت ، ومسألة سعادة او شقاء للمواطنين ، الذين تسري عم القوانين والانظمة العامة ، فمن الطبيعي ، أيضاً ان لا الاضطلاع بمسؤوليتها لفرد ، او لمجموعة من الأفراد ـ مهما كانت الظروف ـ ما دام لم يوجد الفرد الذي يرتفع في نزاهة ؟؟؟ ورجاحة عقله ، على الاهواء والاخطاء .
فلا بد إذن من اعلان المساواة التامة في الحقوق السياسية المواطنين كافة ، لأنهم يتساوون في تحمل نتائج المسألة الاجتماعية والخضوع لمقتضيات السلطات التشريعية والتنفيذية .
وعلى هذا الاساس قام حق التصويت ومبدأ الانتخاب العام ، الذي يفتن انبثاق الجهاز الحاكم ـ بكل سلطاته وشعبه ـ عن أكثرية المواطنين.
والحرية الاقتصادية ترتكز : على الإيمان بالاقتصاد الذي قامت عليه سياسة الباب المفتوح ، وتقرر فتح جميع الأبواب وتهيئة كل الميادين .
أمام المواطن في المجال الاقتصادي فيباح التملك للاستهلاك وللانتاج معاً ، وتباح هذه المللة الانتاجية التي يتكون منها رأس المال من غير حد وقد
المدرسة الاسلامية ـ 43 ـ
وللجميع على حد سواء. فلكل فرد مطلق الحرية في انتاج أي اسلوب وسلوك أي طريق ، لكسب الثروة وتضخيمها ومضاعفتها ، على ضوء مصالحه ومنافعه الشخصية.
وفي زعم بعض المدافعين عن هذه الحرية الاقتصادية : ان قوانين الاقتصاد السياسي ، التي تجري على أصول عامة بصورة طبيعية ، كفيلة بسعادة المجتمع وحفظ التوازن الاقتصادي فيه ... وان المصلحة الشخصية ، التي هي الحافز القوي والهدف الحقيقي للفرد في عمله ونشاطه ، هي خير ضمان للمصلحة الاجتماعية العامة وان التنافس الذي يقوم في السوق الحرة ، نتيجة لتساوي المنتجين والمتجرين في حقهم من الحرية الاقتصادية ، يكفي وحده لتحقيق روح العدل والانصاف ، في شتى الاتفاقات والمعاملات .
فالقوانين الطبيعية للاقتصاد ، تتدخل ـ مثلا ـ في حفظ المستوى الطبيعي للثمن ، بصورة تكاد أن تكون آلية وذلك : أن الثمن اذا ارتفع عن حدوده الطبيعية العادلة ، انخفض الطلب بحكم القانون الطبيعي الذي يحكم : ( بأن ارتفاع الثمن يؤثر في انخفاض الطلب ) ، وانخفاض الطلب بدوره يقوم بتخفيض الثمن ، تحقيقاً لقانون طبيعي آخر ، ولا يتركه حتى ينخفض به الى مستواه السابق ، ويزول الشذوذ بذلك .
والمصلحة الشخصية تفرض على الفرد دائماً التفكير في كيفية زيادة الانتاج وتحسينه ، مع تقليل مصارفه ونفقاته ، وذلك
المدرسة الاسلامية ـ 44 ـ
يحقق مصلحة المجتمع ، في نفس الوقت الذي يعتبر مسألة خاصة بالفرد أيضاً.
والتنافس يقضي ـ بصورة طبيعية ـ تحديد أثمان البضائع وأجور العمال والمستخدمين بشكل عادل ، لا ظلم فيه ولا اجحاف لان كل بائع او منتج يخشى من رفع أثمان بضائعه او تخفيض اجور عماله ، بسبب منافسة الآخرين له من البائعين والمنتجين .
والحرية الفكرية تعني أن يعيش الناس احراراً في عقائدهم وأفكارهم ، يفكرون حسب ما يتراءى لهم ويحلو لعقولهم ويعتقدون ما يصل اليه اجتهادهم أو ما توحيه اليهم مشتهياتهم وأهواؤهم بدون عائق من السلطة، فالدولة لا تسلب هذه الحرية عن فرد ، ولا تمنعه عن ممارسة حقه فيها والإعلان عن أفكاره ومعتقداته ، والدفاع عن وجهات نظره واجتهاده .
والحرية الشخصية تعبر عن : تحرر الإنسان في سلوكه الخاص من مختلف الوان الضغط والتحديد .
فهو يملك ارادته وتطويرها وفقاً لرغباته الخاصة ، مهما نجم عن استعماله لسيطرته هذه على سلوكه الخاص من مضاعفات ونتائج ، ما لم تصطدم بسيطرة الآخرين على سلوكه .
فالحد النهائي الذي تقف عنده الحرية الشخصية لكل فرد : حرية الآخرين.
فما لم يمسها الفرد بسوء فلا جناح عليه أن يكيف حياته باللون الذي يحلو
المدرسة الاسلامية ـ 45 ـ
له ويتبع مختلف العادات والتقاليد والشعائر والطقوس التي يستذوقها. لأن ذلك مسألة خاصة تتصل بكيانه وحاضره ومستقبله ، وما دام يملك هذا الكيان فهو قادر على التصرف فيه كما يشاء .
وليست الحرية الدينية ـ في رأي الرأسمالية التي تنادي بها ـ إلا تعبيراً عن الحرية الفكرية في جانبها العقائدي ، وعن الحرية الشخصية في الجانب العلمي ، الذي يتصل بالشعائر والسلوك .
ويستخلص من هذا العرض : ان الخط الفكري العريض لهذا النظام ـ كما المحنا اليه ـ هو : ان مصالح المجتمع مرتبطة بمصالح الأفراد فالفرد هو القاعدة التي يجب أن يرتكز عليها النظام الإجتماعي ، والدولة الصالحة هي الجهاز الذي يسخر لخدمة الفرد وحسابه ، والأداة القوية لحفظ مصالحه وحمايتها .
هذه هي الديمقراطية الرأسمالية في ركائزها الأساسية ، التي قامت من أجلها جملة من الثورات ، وجاهد في سبيلها كثير من الشعوب والامم ، في ظل قادة كانوا حين يعبرون عن هذا النظام الجديد ويعدونهم بمحاسنه : يصفون الجنة في نعيمها وسعادتها وما تحفل به من انطلاق وهناء وكرامة وثراء وقد اجريت عليها بعد ذلك عدة من التعديلات ، غير انها لم تمس جوهرها بالصميم بل بقيت محتفظة بأهم ركائزها واسسها .
المدرسة الاسلامية ـ 46 ـ
الاتجاه المادي في الرأسمالية
ومن الواضح : أن هذا النظام الاجتماعي نظام مادي خالص أخذ فيه الإنسان منفصلاً عن مبدئه ، وآخرته ، محدوداً بالجانب النفعي من حياته المادية ، وافترض على هذا الشكل. ولكن هذا النظام في نفس الوقت الذي كان مشبعاً بالروح المادية الطاغية ...
لم يبن على فلسفة مادية للحياة وعلى دراسة مفصلة لها ، فالحياة في الجو الاجتماعي لهذا النظام ، فصلت عن كل علاقة خارجة عن حدود المادية والمنفعة ، ولكن لم يهيأ لاقامة هذا النظام فهم فلسفي كامل لعملية الفصل هذه ، ولا أعني بذلك ان العالم لم يكن فيه مدارس للفلسفة المادية وأنصار لها ، بل كان فيه اقبال على النزعة المادية ، تأثراً بالعقلية التجريبية التي شاعت منذ بداية الانقلاب الصناعي (1) وبروح الشك والتبلبل الفكري
**************************************************************
(1) فان التجربة اكتسبت أهمية كبرى في الميدان العلمي ، ووفقت توفيقاً لم يكن في الحسبان الى الكشف عن حقائق كثيرة ، وإزاحة الستار عن أسرار مدهشة ، أتاحت للإنسانية أن تستثمر تلك الأسرار والحقائق في حياتها العملية، وهذا التوفيق الذي حصلت عليه التجربة ، أشاد لها قدسية في العقلية العامة ، وجعل الناس ينصرفون عن الأفكار العقلية ، وعن كل الحقائق التي لا تظهر في ميدان الحس والتجربة ، حتى صار الحس التجريبي في عقيدة كثير من التجريبيين ـ الأساس الوحيد لجميع المعارف والعلوم .
وقد أوضحنا في ( فلسفتنا ) : ان التجربة بنفسها تعتمد على الفكر العقلي ، وأن الأساس الأول للعلوم والمعارف هو العقل ، الذي يدرك حقائق لا يقع عليها الحس كما يدرك الحقائق المحسوسة.
المدرسة الاسلامية ـ 47 ـ
الذي أحدثه انقلاب الرأي ، في طائفة من الأفكار كانت تعد من أوضح الحقائق وأكثرها صحة (1) وبروح التمرد والسخط على الدين المزعوم ، الذي كان يجمد الأفكار والعقول ، ويتملق للظلم والجبروت ، وينتصر للفساد الاجتماعي في كل معركة يخوضها مع الضعفاء والمضطهدين (2).
فهذه العوامل الثلاثة ساعدت على بعث المادية في كثير من العقليات الغربية ...
كل هذا صحيح ، ولكن النظام الرأسمالي لم يركز على فهم فلسفي مادي للحياة ، وهذا هو التناقض والعجز ، فان المسألة الاجتماعية للحياة ، تتصل بواقع الحياة ، ولا تتبلور في شكل
**************************************************************
(1) فان جملة من العقائد العامة كانت في درجة عالية من الوضوح والبداهة في النظر العام ، مع أنها لم تكن قائمة على أساس من منطق عقلي أو دليل فلسفي ، كالإيمان بأن الارض مركز العالم، فلما انهارت هذه العقائد في ظل التجارب الصحيحة ، تزعزع الإيمان العام ، وسيطرت موجة من الشك على كثير من الأذهان ، فبعثت السلطة اليونانية من جديد متأثرة بروح الشك ، كما تأثرت في العهد اليوناني بروح الشك الذي تولد من تناقض المذاهب الفلسفية وشدة الجدل بينها .
(2) فإن الكنيسة لعبت دوراً هاماً في استغلالاً الدين استغلالً شنيعاً وجعل اسمه أداة لمآربها وأغراضها وخنق الانفاس العلمية والاجتماعية ، وأقامت محاكم التفتيش ، وأعطت لها الصلاحيات الواسعة للتصرف في المقدرات ، حتى تولد عن ذلك كله التبرم بالدين والسخط عليه ، لان الجريمة ارتكبت باسمه مع أنه في واقعه المصفى وجوهره الصحيح لا يقل عن أولئك الساخطين والمتبرمين ضيقاً بتلك الجريمة واستفظاعاً لدوافعها ونتائجها .
المدرسة الاسلامية ـ 48 ـ
صحيح إلا اذا أقيمت على قاعدة مركزية تشرح الحياة وواقعها وحدودها والنظام الرأسمالي يفقد هذه القاعدة ، فهو ينطوي على خداع وتظليل ، او على عجلة وقلة أناة ، حين تجمد المسألة الواقعية للحياة وتدرس المسألة الاجتماعية منفصلة عنها ، مع ان قوام الميزان الفكري للنظام بتحديد نظرته منذ البداية الى واقع الحياة ، التي تمون المجتمع بالمادة الاجتماعية ـ وهي العلاقات المتبادلة بين الناس ـ وطريقة فهمه لها واكتشاف أسرارها وقيمها .
فالإنسان في هذا الكوكب ان كان من صنع قوة مدبرة مهيمنة عالمة بأسراره وخفاياه ، بظواهره ودقائقه قائمة على تنظيمه وتوجيهه ...
فمن الطبيعي ان يخضع في توجيهه وتكييف حياته لتلك القوة الخالقة ، لانها أبصر بأمره واعلم بواقعه ، وانزه قصداً واشد اعتدالاً منه .
وأيضاً ، فان هذه الحياة المحدودة ان كانت بداية الشوط لحياة خالدة تنبثق عنها ، وتتلون بطابعها ، وتتوقف موازينها على مدى اعتدال الحياة الاولى ونزاهتها ...
فمن الطبيعي ان تنظيم الحياة الحاضرة بما هي بداية الشوط لحياة لا فناء فيها وتقام على أسس القيم المعنوية والمادية معاً .
واذن فمسألة الايمان بالله وانبثاق الحياة عنه ، ليست مسألة فكرية خالصة لا علاقة لها بالحياة ، لتفصل عن مجالات الحياة ويشرع لها طرائقها ودساتيرها ، مع اغفال تلك المسألة
المدرسة الاسلامية ـ 49 ـ
وفصلها ، بل هي مسألة تتصل بالعقل والقلب والحياة جميعاً .
والدليل على مدى اتصالها بالحياة من الديمقراطية الرأسمالية نفسها : أن الفكرة فيها تقوم على أساس الايمان بعدم وجود شخصية او مجموعة من الافراد ، بلغت من العصمة في قصدها وميلها وفي رأيها واجتهادها ، الى الدرجة التي تبيح ايكال المسألة الاجتماعية اليها ، والتعويل في اقامة حياة صالحة للامة عليها .
وهذا الاساس بنفسه لا موضع ولا معنى له ، إلا اذا اقيم على فلسفة مادية خالصة ، لا تعترف بامكان انبثاق النظام إلا عن عقل بشري محدود .
فالنظام الرأسمالي مادي بكل ما للفظ من معنى ، فهو اما أن يكون قد استبطن المادية ، ولم يجرؤ على الاعلان عن ربطه بها وارتكازه عليها .
واما ان يكون جاهلاً بمدى الربط الطبيعي ، بين المسألة الواقعية للحياة ومسألتها الاجتماعية.
وعلى هذا فهو يفقد الفلسفة ، التي لا بد لكل نظام اجتماعي أن يرتكز عليها ، وهو ـ بكلمة ـ : نظام مادي ، وان لم يكن مقاماً على فلسفة مادية واضحة الخطوط.
موضع الاخلاق من الرأسمالية
وكان من جراء هذه المادية التي زخر النظام بروحها : أن اقضيت الاخلاق من الحساب ، ولم يلحظ لها وجود في ذلك
المدرسة الاسلامية ـ 50 ـ
النظام او بالاحرى تبدلت مفاهيمها ومقاييسها ، واعلنت المصلحة الشخصية كهدف اعلى ، والحريات جميعاً كوسيلة لتحقيق تلك المصلحة .
فنشأ عن ذلك أكثر ما ضج به العالم الحديث من محن وكوارث ، ومآسي ومصائب .
وقد يدافع أنصار الديمقراطية الرأسمالية ، عن وجهة نظرها في الفرد ومصالحه الشخصية قائلين : أن الهدف الشخصي بنفسه يحقق المصلحة الاجتماعية ، وان النتائج التي تحققها الأخلاق بقيمها الروحية تحقق في المجتمع الديمقراطي الرأسمالي ، لكن لا عن طريق الأخلاق بل عن طريق الدوافع الخاصة وخدمتها .
فان الإنسان حين يقوم بخدمة اجتماعية يحقق بذلك مصلحة شخصية أيضاً ، باعتباره جزءاً للمجتمع الذي سعى في سبيله وحين ينقذ حياة شخص تعرضت للخطر فقد افاد نفسه أيضاً لان حياة الشخص سوف تقوم بخدمة للهيئة الاجتماعية فيعود عليه نصيب منها ، واذن فالدافع الشخصي والحس النفعي يكفيان لتأمين المصالح الإجتماعية وضمانها ، ما دامت ترجع بالتحليل الى مصالح خاصة ومنافع فردية .
وهذا الدفاع أقرب الى الخيال الواسع منه الى الاستدلال .
فتصور بنفسك ان المقياس العملي في الحياة لكل فرد في الامة اذا كان هو تحقيق منافعه ومصالحه الخاصة ، على أوسع نطاق وابعد مدى ، وكانت الدولة توفر للفرد حرياته وتقدسه بغير